أولا : ج7. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587
وَأَمَّا
بَيَانُ ما يُفْسِدُهَا وَبَيَانُ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ فَاَلَّذِي يُفْسِدُهَا
الْجِمَاعُ لَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ كَوْنِهِ مُفْسِدًا وَذَلِكَ شَيْئَانِ
أَحَدُهُمَا الْجِمَاعُ في الْفَرْجِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْحَجِّ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ قبل الطَّوَافِ كُلِّهِ أو أَكْثَرِهِ وهو أَرْبَعَةُ
أَشْوَاطٍ لِأَنَّ رُكْنَهَا الطَّوَافُ فَالْجِمَاعُ حَصَلَ قبل أَدَاءِ
الرُّكْنِ فَيُفْسِدُهَا كما لو حَصَلَ قبل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ في الْحَجِّ
وإذا فَسَدَتْ يَمْضِي فيها وَيَقْضِيهَا وَعَلَيْهِ شَاةٌ لِأَجْلِ الْفَسَادِ
عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ بَدَنَةٌ كما في الْحَجِّ فَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ ما
طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ أو بَعْدَ ما طَافَ الطَّوَافَ كُلَّهُ قبل السَّعْيِ
أو بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ قبل الْحَلْقِ لَا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ لِأَنَّ
الْجِمَاعَ حَصَلَ بَعْدَ أَدَاءِ الرُّكْنِ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِحُصُولِ الْجِمَاعِ
في الْإِحْرَامِ وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْحَلْقِ لَا شَيْءَ عليه لِخُرُوجِهِ عن
الْإِحْرَامِ بِالْحَلْقِ فَإِنْ جَامَعَ ثُمَّ جَامَعَ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ
وَالِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في الْحَجِّ وَاَللَّهُ
الْمُوَفِّقُ
كِتَابُ النِّكَاحِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في الْأَصْلِ في أَرْبَعَةِ
مَوَاضِعَ في بَيَانِ صِفَةِ النِّكَاحِ الْمَشْرُوعِ وفي بَيَانِ رُكْنِ
النِّكَاحِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ النِّكَاحِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ أَنَّ النِّكَاحَ فَرْضٌ حَالَةَ
التَّوَقَانِ حتى أَنَّ من تَاقَتْ نَفْسُهُ إلَى النِّسَاءِ بِحَيْثُ لَا
يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهُنَّ وهو قَادِرٌ على الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ولم
يَتَزَوَّجْ يَأْثَمُ وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا لم تَتُقْ نَفْسُهُ إلَى النِّسَاءِ
على التَّفْسِيرِ الذي ذَكَرْنَا قال نُفَاةُ الْقِيَاسِ مِثْلُ دَاوُد بن عَلِيٍّ
الْأَصْفَهَانِيِّ وَغَيْرِهِ من أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ
بِمَنْزِلَةِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا من فُرُوضِ الْأَعْيَانِ حتى
أَنَّ من تَرَكَهُ مع الْقُدْرَةِ على الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْوَطْءِ
يَأْثَمُ
وقال الشَّافِعِيُّ إنَّهُ مُبَاحٌ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه قال بَعْضُهُمْ إنَّهُ مَنْدُوبٌ وَمُسْتَحَبٌّ
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ من أَصْحَابِنَا الْكَرْخِيِّ
وقال بَعْضُهُمْ إنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قام بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عن
الْبَاقِينَ بِمَنْزِلَةِ الْجِهَادِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ
وقال بَعْضُهُمْ إنَّهُ وَاجِبٌ ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ اخْتَلَفُوا في
كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ
قال بَعْضُهُمْ إنَّهُ وَاجِبٌ على سَبِيلِ الْكِفَايَةِ كَرَدِّ السَّلَامِ
وقال بَعْضُهُمْ إنَّهُ وَاجِبٌ عَيْنًا لَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا على
طَرِيقِ التَّعْيِينِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَالْوِتْرِ
احْتَجَّ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ من نَحْوِ قَوْلِهِ عز
وجل { فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ من النِّسَاءِ }
وَقَوْلِهِ عز وجل { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ من
عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ }
وَقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا فإن
الطَّلَاقَ يَهْتَزُّ له عَرْشُ الرحمن
وَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا فَإِنِّي أُبَاهِي
بِكُمْ الْأُمَمَ يوم الْقِيَامَةِ أَمَرَ اللَّهُ عز وجل بِالنِّكَاحِ مُطْلَقًا
وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِلْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ قَطْعًا إلَّا أَنْ يَقُومَ
الدَّلِيلُ بِخِلَافِهِ وَلِأَنَّ الِامْتِنَاعَ من الزِّنَا وَاجِبٌ وَلَا
يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالنِّكَاحِ وما لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْوَاجِبِ
إلَّا بِهِ يَكُونُ وَاجِبًا
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ
ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } أَخْبَرَ عن إحْلَالِ النِّكَاحِ
وَالْمُحَلَّلُ وَالْمُبَاحُ من الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ وَلِأَنَّهُ قال {
وَأُحِلَّ لَكُمْ } وَلَفْظُ لَكُمْ يُسْتَعْمَلُ في الْمُبَاحَاتِ وَلِأَنَّ
النِّكَاحَ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ فَيَكُونُ مُبَاحًا
كَشِرَاءِ الْجَارِيَةِ لِلتَّسَرِّي بها وَهَذَا لِأَنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ
إيصَالُ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ يَجِبُ على الْإِنْسَانِ إيصَالُ
النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ بَلْ هو مُبَاحٌ في الْأَصْلِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ
وإذا كان مُبَاحًا لَا يَكُونُ وَاجِبًا لِمَا بَيْنَهُمَا من التَّنَافِي
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ النِّكَاحَ ليس بِوَاجِبٍ قَوْله تَعَالَى { وَسَيِّدًا
وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحِينَ } وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ
ليحيي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِكَوْنِهِ حَصُورًا وَالْحَصُورُ الذي لَا
يَأْتِي النِّسَاءَ مع الْقُدْرَةِ وَلَوْ كان وَاجِبًا لَمَا اسْتَحَقَّ
الْمَدْحَ بِتَرْكِهِ لِأَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ لَأَنْ يُذَمَّ عليه أَوْلَى من
أَنْ يُمْدَحَ
وَاحْتَجَّ من قال من أَصْحَابِنَا أنه مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمُسْتَحَبٌّ بِمَا
رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ
الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لم يَسْتَطِعْ فَلْيَصُمْ فإن الصَّوْمَ له
وِجَاءٌ أَقَامَ الصَّوْمَ مَقَامَ النِّكَاحِ وَالصَّوْمُ ليس بِوَاجِبٍ فَدَلَّ
أَنَّ النِّكَاحَ ليس بِوَاجِبٍ أَيْضًا لِأَنَّ غير الْوَاجِبِ لَا يَقُومُ
مَقَامَ الْوَاجِبِ وَلِأَنَّ في الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ من لم تَكُنْ
له زَوْجَةٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عَلِمَ منه بِذَلِكَ ولم
يُنْكِرْ عليه فَدَلَّ أَنَّهُ ليس بِوَاجِبٍ
وَمَنْ قال منهم إنَّهُ
____________________
(2/228)
فَرْضٌ
أو وَاجِبٌ على سَبِيلِ الْكِفَايَةِ احْتَجَّ بِالْأَوَامِرِ الْوَارِدَةِ في
بَابِ النِّكَاحِ وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِلْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ قَطْعًا
وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ ذلك على طَرِيقِ التَّعْيِينِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ
من آحَادِ الناس لو تَرَكَهُ لَا يَأْثَمُ فَيُحْمَلُ على الْفَرْضِيَّةِ
وَالْوُجُوبِ على طَرِيقِ الْكِفَايَةِ فَأَشْبَهَ الْجِهَادَ وَصَلَاةَ
الْجِنَازَةِ وَرَدَّ السَّلَامِ
وَمَنْ قال منهم أنه وَاجِبٌ عَيْنًا لَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا على طَرِيقِ
التَّعْيِينِ يقول صِيغَةُ الْأَمْرِ الْمُطْلَقَةُ عن الْقَرِينَةِ تَحْتَمِلُ
الْفَرْضِيَّةَ وَتَحْتَمِلُ النَّدْبَ لِأَنَّ الْأَمْرَ دُعَاءٌ وَطَلَبٌ
وَمَعْنَى الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ مَوْجُودٌ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيُؤْتَى
بِالْفِعْلِ لَا مَحَالَةَ وهو تَفْسِيرُ وُجُوبِ الْعَمَلِ وَيُعْتَقَدُ على
الْإِبْهَامِ على أَنَّ ما أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصِّيغَةِ من الْوُجُوبِ
الْقَطْعِيِّ أو النَّدْبِ فَهُوَ حَقٌّ لِأَنَّهُ إنْ كان وَاجِبًا عِنْدَ
اللَّهِ فَخَرَجَ عن الْعُهْدَةِ بِالْفِعْلِ فَيَأْمَنُ الضَّرَرَ وَإِنْ كان
مَنْدُوبًا يَحْصُلُ له الثَّوَابُ فَكَانَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ على هذا
الْوَجْهِ أَخْذًا بِالثِّقَةِ وَالِاحْتِيَاطِ وَاحْتِرَازًا عن الضَّرَرِ
بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ شَرْعًا وَعَقْلًا
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ بَنَى أَصْحَابُنَا من قال منهم إنَّ النِّكَاحَ فَرْضٌ أو
وَاجِبٌ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهِ مع أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ أَوْلَى
من التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ مع تَرْكِ النِّكَاحِ وهو قَوْلُ
أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ كَيْفَ ما
كان أَوْلَى من الِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ
وَمَنْ قال منهم أنه مَنْدُوبٌ وَمُسْتَحَبٌّ فإنه يُرَجِّحُهُ على النَّوَافِلِ
من وُجُوهٍ أُخَرَ أَحَدُهَا أَنَّهُ سُنَّةٌ قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
النِّكَاحُ سُنَّتِي وَالسُّنَنُ مُقَدَّمَةٌ على النَّوَافِلِ بِالْإِجْمَاعِ
وَلِأَنَّهُ أَوْعَدَ على تَرْكِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ فَمَنْ رَغِبَ عن سُنَّتِي
فَلَيْسَ مِنِّي وَلَا وَعِيدَ على تَرْكِ النَّوَافِلِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ فَعَلَهُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَوَاظَبَ عليه
أَيْ دَاوَمَ وَثَبَتَ عليه بِحَيْثُ لم يَخْلُ عنه بَلْ كان يَزِيدُ عليه حتى
تَزَوَّجَ عَدَدًا مِمَّا أُبِيحَ له من النِّسَاءِ وَلَوْ كان التَّخَلِّي
لِلنَّوَافِلِ أَفْضَلَ لَمَا فَعَلَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ
عليهم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَتْرُكُونَ الْأَفْضَلَ فِيمَا له حَدٌّ
مَعْلُومٌ لِأَنَّ تَرْكَ الْأَفْضَلِ فِيمَا له حَدٌّ مَعْلُومٌ عُدَّ زَلَّةً
منهم وإذا ثَبَتَ أَفْضَلِيَّةُ النِّكَاحِ في حَقِّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
ثَبَتَ في حَقِّ الْأُمَّةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الشَّرَائِعِ هو الْعُمُومُ
وَالْخُصُوصُ بِدَلِيلٍ
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَقْصُودٍ هو مُفَضَّلٌ على
النَّوَافِلِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ عن الْفَاحِشَةِ وَسَبَبٌ
لِصِيَانَةِ نَفْسِهَا عن الْهَلَاكِ بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَاللِّبَاسِ
لِعَجْزِهَا عن الْكَسْبِ وَسَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ الْمُوَحِّدِ وَكُلُّ
وَاحِدٍ من هذه الْمَقَاصِدِ مُفَضَّلٌ على النَّوَافِلِ فَكَذَا السَّبَبُ
الْمُوَصِّلُ إلَيْهِ كَالْجِهَادِ وَالْقَضَاءِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
التَّخَلِّي أَوْلَى وَتَخْرِيجُ الْمَسْأَلَةِ على أَصْلِهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ
النَّوَافِلَ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا فَكَانَتْ مُقَدَّمَةً على الْمُبَاحِ وما
ذَكَرَهُ من دَلَائِلِ الْإِبَاحَةِ وَالْحِلِّ فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهَا أن
النِّكَاحَ مُبَاحٌ وَحَلَالٌ في نَفْسِهِ لَكِنَّهُ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ أو
مَنْدُوبٌ وَمُسْتَحَبٌّ لِغَيْرِهِ من حَيْثُ أنه صِيَانَةٌ لِلنَّفْسِ من
الزِّنَا وَنَحْوِ ذلك على ما بَيَّنَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ
الْوَاحِدُ حَلَالًا بِجِهَةٍ وَاجِبًا أو مَنْدُوبًا إلَيْهِ بِجِهَةٍ إذْ لَا
تَنَافِيَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَتَيْنِ وَأَمَّا قَوْلُهُ عز وجل { وَسَيِّدًا
وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحِينَ } فَاحْتَمَلَ أَنَّ التَّخَلِّيَ
لِلنَّوَافِلِ كان أَفْضَلَ من النِّكَاحِ في شَرِيعَتِهِ ثُمَّ نُسِخَ ذلك في
شَرِيعَتِنَا بِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا رُكْنُ النِّكَاحِ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَذَلِكَ
بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ أو ما يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ في
هذا الْفَصْلِ في أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في بَيَانِ اللَّفْظِ الذي
يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِهِ بِحُرُوفِهِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ صِيغَةِ ذلك اللَّفْظِ
وَالثَّالِثُ في بَيَانِ أَنَّ النِّكَاحَ هل يَنْعَقِدُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ أو لَا
يَنْعَقِدُ إلَّا بِعَاقِدَيْنِ
وَالرَّابِعُ في بَيَانِ صِفَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ
أَمَّا بَيَانُ اللَّفْظِ الذي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ بِحُرُوفِهِ فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ لَا خِلَافَ أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ
الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَهَلْ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ
وَالصَّدَقَةِ وَالتَّمْلِيكِ قال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَنْعَقِدُ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال اتَّقُوا
اللَّهَ في النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ اتَّخَذْتُمُوهُنَّ
بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ
وَكَلِمَتُهُ التي أَحَلَّ بها الْفُرُوجَ في كِتَابِهِ الْكَرِيمِ لَفْظُ
الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ فَقَطْ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا
الْأَيَامَى مِنْكُمْ } وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { زوجناكها }
____________________
(2/229)
زَوَّجْنَاكَهَا
وَلِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلنِّكَاحِ هو الِازْدِوَاجُ وَالْمِلْكُ
يَثْبُتُ وَسِيلَةً إلَيْهِ فَوَجَبَ اخْتِصَاصُهُ بِلَفْظٍ يَدُلُّ على
الِازْدِوَاجِ وهو لَفْظُ التَّزْوِيجِ وَالْإِنْكَاحِ لَا غَيْرُ
وَلَنَا أَنَّهُ انْعَقَدَ نِكَاحُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِلَفْظِ
الْهِبَةِ فَيَنْعَقِدُ بِهِ نِكَاحُ أُمَّتِهِ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ قَوْله
تَعَالَى { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ
أَرَادَ النبي أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لك } مَعْطُوفًا على قَوْلِهِ { يا
أَيُّهَا النبي إنَّا أَحْلَلْنَا لك أَزْوَاجَك } أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى
أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُؤْمِنَةَ التي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ
عليه وسلم عِنْدَ اسْتِنْكَاحِهِ إيَّاهَا حَلَالٌ له وما كان مَشْرُوعًا في حَقِّ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يَكُونُ مَشْرُوعًا في حَقِّ أُمَّتِهِ هو الْأَصْلُ
حتى يَقُومَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ
فَإِنْ قِيلَ قد قام دَلِيلُ الْخُصُوصِ هَهُنَا وهو قَوْله تَعَالَى { خَالِصَةً
لك من دُونِ الْمُؤْمِنِينَ }
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ منه { خَالِصَةً لك من دُونِ الْمُؤْمِنِينَ }
بِغَيْرِ أَجْرٍ فَالْخُلُوصُ يَرْجِعُ إلَى الْأَجْرِ لَا إلَى لَفْظِ الْهِبَةِ
لِوُجُوهٍ
أَحَدُهَا ذَكَرَهُ عَقِيبَهُ وهو قَوْلُهُ عز وجل { قد عَلِمْنَا ما فَرَضْنَا
عليهم في أَزْوَاجِهِمْ } فَدَلَّ أَنَّ خُلُوصَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ له كان
بِالنِّكَاحِ بِلَا فَرْضٍ منه
وَالثَّانِي أَنَّهُ قال تَعَالَى { لكيلا ( ( ( لكي ) ) ) يَكُونَ عَلَيْكَ
حَرَجٌ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا حَرَجَ كان يَلْحَقُهُ في نَفْسِ الْعِبَارَةِ
وَإِنَّمَا الْحَرَجُ في إعْطَاءِ الْبَدَلِ
وَالثَّالِثُ أَنَّ هذا خَرَجَ مَخْرَجَ الِامْتِنَانِ عليه وَعَلَى أُمَّتِهِ في
لَفْظِ الْهِبَةِ لَيْسَتْ تِلْكَ في لَفْظَةِ التَّزْوِيجِ فَدَلَّ أَنَّ
الْمِنَّةَ فِيمَا صَارَتْ له بِلَا مَهْرٍ فَانْصَرَفَ الْخُلُوصُ إلَيْهِ وَلِأَنَّ
الِانْعِقَادَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ لِكَوْنِهِ لَفْظًا مَوْضُوعًا
لِحُكْمِ أَصْلِ النِّكَاحِ شَرْعًا وهو الِازْدِوَاجُ وَأَنَّهُ لم يُشْرَعْ
بِدُونِ الْمِلْكِ فإذا أتى بِهِ يَثْبُتُ الِازْدِوَاجُ بِاللَّفْظِ وَيَثْبُتُ
الْمِلْكُ الذي يُلَازِمُهُ شَرْعًا وَلَفْظُ التَّمْلِيكِ مَوْضُوعٌ لِحُكْمٍ
آخَرَ أَصْلِيٍّ لِلنِّكَاحِ وهو الْمِلْكُ وأنه غَيْرُ مَشْرُوعٍ في النِّكَاحِ
بِدُونِ الِازْدِوَاجِ فإذا أتى بِهِ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ الْمِلْكُ
وَيَثْبُتَ الِازْدِوَاجُ الذي يُلَازِمُهُ شَرْعًا اسْتِدْلَالًا لِأَحَدِ
اللَّفْظَيْنِ بِالْآخَرِ وَهَذَا لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ مُتَلَازِمَانِ شَرْعًا
ولم يُشْرَعْ أَحَدُهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ فإذا ثَبَتَ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ
الْآخَرُ ضَرُورَةً وَيَكُونُ الرِّضَا بِأَحَدِهِمَا رِضًا بِالْآخِرِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ
لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ أن اسْتِحْلَالَ الْفُرُوجِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ
اسْتِحْلَالٌ بِغَيْرِ كَلِمَةِ اللَّه
فَيَرْجِعُ الْكَلَامُ إلَى تَفْسِيرِ الْكَلِمَةِ الْمَذْكُورَةِ فَنَقُولُ
كَلِمَةُ اللَّهِ تَعَالَى تَحْتَمِلُ حُكْمَ اللَّهِ عز وجل كَقَوْلِهِ تَعَالَى
{ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ من رَبِّكَ } فَلِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّ جَوَازَ
النِّكَاحِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ ليس حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّلِيلُ على
أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى ما ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ مع ما أَنَّ كُلَّ
لَفْظٍ جُعِلَ عَلَمًا على حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى
وَإِضَافَةُ الْكَلِمَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ أَنَّ الشَّارِعَ هو
اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ الْجَاعِلُ اللَّفْظَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ
شَرْعًا فَكَانَ كَلِمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَمِنْ هذا الْوَجْهِ على
الِاسْتِحْلَالِ بِكَلِمَةِ اللَّهِ لَا ينفي الِاسْتِحْلَال لَا بِكَلِمَةِ
اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ مَسْكُوتًا عنه فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ
وَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا
وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظٍ مَوْضُوعٍ
لَتَمْلِيكِ الْعَيْنِ هَكَذَا روي ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال كُلُّ
لَفْظٍ يَكُونُ في اللُّغَةِ تَمْلِيكًا لِلرَّقَبَةِ فَهُوَ في الْحُرَّةِ
نِكَاحٌ
وَحُكِيَ عن الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } سمى اللَّهُ تَعَالَى الْمَهْرَ أَجْرًا
وَلَا أَجْرَ إلَّا بِالْإِجَارَةِ فَلَوْ لم تَكُنْ الْإِجَارَةُ نِكَاحًا لم
يَكُنْ الْمَهْرُ أَجْرًا
وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ موقت بِدَلِيلِ أَنَّ
التَّأْبِيدَ يُبْطِلُهَا وَالنِّكَاحُ عَقْدٌ مُؤَبَّدٍ بِدَلِيلِ أَنَّ
التَّوْقِيتَ يُبْطِلُهُ وَانْعِقَادُ الْعَقْدِ بِلَفْظٍ يَتَضَمَّنُ الْمَنْعَ
من الِانْعِقَادِ مُمْتَنِعٌ وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ
وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ في حُكْمِ الْأَجْزَاءِ وَالْأَعْيَانِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ
مِلْكُ الْعَيْنِ بِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ
الْإِعَارَةِ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ إنْ كانت إبَاحَةَ الْمَنْفَعَةِ فَالنِّكَاحُ
لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ أَصْلًا
وَإِنْ كانت تَمْلِيكَ الْمُتْعَةِ فَالنِّكَاحُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظٍ
مَوْضُوعٍ لَتَمْلِيكِ الرَّقَبَةِ ولم يُوجَدْ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في لَفْظِ الْقَرْضِ قال بَعْضُهُمْ لَا يَنْعَقِدُ
لِأَنَّهُ في مَعْنَى الْإِعَارَةِ
وقال بَعْضُهُمْ يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ في الْعَيْنِ
لِأَنَّ الْمُسْتَقْرَضَ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْمُسْتَقْرِضِ
وَكَذَا اخْتَلَفُوا في لَفْظِ السَّلَمِ
قال بَعْضُهُمْ لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ السَّلَمَ في الْحَيَوَانِ لَا يَصِحُّ
وقال بَعْضُهُمْ يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ
وَالسَّلَمُ في الْحَيَوَانِ يَنْعَقِدُ عِنْدَنَا حتى لو اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ
يُعَدُّ الْمِلْكُ مِلْكًا فَاسِدًا لَكِنْ ليس كُلُّ ما يُفْسِدُ الْبَيْعَ
يُفْسِدُ النِّكَاحَ
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا في لَفْظِ الصَّرْفِ
قال بَعْضُهُمْ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ في
____________________
(2/230)
الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ التي لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَالْمَعْقُودُ عليه هَهُنَا
يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وقال بَعْضُهُمْ يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ
مِلْكُ الْعَيْنِ في الْجُمْلَةِ
وَأَمَّا لَفْظُ الْوَصِيَّةِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا
لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ وَالنِّكَاحُ
الْمُضَافُ إلَى زَمَانٍ في الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَصِحُّ
وَحُكِيَ عن الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مِلْكُ
الرَّقَبَةِ في الْجُمْلَةِ وَحَكَى أبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ عن الْكَرْخِيِّ
أن قَيَّدَ الْوَصِيَّةَ بِالْحَالِّ بِأَنْ قال أَوْصَيْتُ لك بِابْنَتِي هذه
الْآنَ يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ إذَا قَيَّدَهُ بِالْحَالِّ صَارَ مَجَازًا عن
التَّمْلِيكِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِحْلَالِ وَالْإِبَاحَةِ لِأَنَّهُ
لَا يَدُلُّ على الْمِلْكِ أَصْلًا
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُبَاحَ له الطَّعَامُ يَتَنَاوَلُهُ على حُكْمِ مِلْكِ
الْمُبِيحِ حتى كان له حَقُّ الْحَجْرِ وَالْمَنْعِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ
الْمُتْعَةِ لِأَنَّهُ لم يُوضَعْ لِلتَّمْلِيكِ وَلِأَنَّ الْمُتْعَةَ عَقْدٌ
مَفْسُوخٌ لِمَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ في مَوْضِعِهِ وَلَوْ أَضَافَ
الْهِبَةَ إلَى الْأَمَةِ بِأَنْ قال رَجُلٌ وَهَبْتُ أَمَتِي هذه مِنْكَ فَإِنْ
كان الْحَالُ يَدُلُّ على النِّكَاحِ من إحْضَارِ الشُّهُودِ وَتَسْمِيَةِ
الْمَهْرِ مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا وَنَحْوِ ذلك يُنْصَرَفُ إلَى النِّكَاحِ
وَإِنْ لم يَكُنْ الْحَالُ دَلِيلًا على النِّكَاحِ فَإِنْ نَوَى النِّكَاحَ
فَصَدَقَهُ الْمَوْهُوبُ له فَكَذَلِكَ وَيُنْصَرَفُ إلَى النِّكَاحِ بِقَرِينَةِ
النِّيَّةِ وَإِنْ لم يَنْوِ يُنْصَرَفُ إلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَاَللَّهُ عز
وجل أَعْلَمُ
ثُمَّ النِّكَاحُ كما يَنْعَقِدُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ
يَنْعَقِدُ بها بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ بِالْوَكَالَةِ وَالرِّسَالَةِ لِأَنَّ
تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ كَتَصَرُّفِ الْمُوَكِّلِ وَكَلَامَ الرَّسُولِ كَلَامُ الْمُرْسِلِ
وَالْأَصْلُ في جَوَازِ الْوَكَالَةِ في بَابِ النِّكَاحِ ما رُوِيَ أَنَّ
النَّجَّاشِيَّ زَوَّجَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أُمَّ حَبِيبَةَ
رضي اللَّهُ عنها فَلَا يَخْلُو ذلك إمَّا أَنْ فَعَلَهُ بِأَمْرِ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم أو لَا بِأَمْرِهِ فَإِنْ فَعَلَهُ بِأَمْرِهِ فَهُوَ وَكِيلُهُ
وَإِنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَقَدْ أَجَازَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
عَقْدَهُ وَالْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ وَكَمَا
يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْعِبَارَةِ يَنْعَقِدُ بِالْإِشَارَةِ من الْأَخْرَسِ
إذَا كانت إشَارَتُهُ مَعْلُومَةً وَيَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْكِتَابَ
من الْغَائِبِ خِطَابُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ صِيغَةِ اللَّفْظِ الذي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ فَنَقُولُ
لَا خِلَافَ في أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عن
الْمَاضِي كَقَوْلِهِ زَوَّجْتُ وَتَزَوَّجْتُ وما يَجْرِي مَجْرَاهُ وإما
بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عن الْمَاضِي وَبِالْآخَرِ عن
الْمُسْتَقْبَلِ كما إذَا قال رَجُلٌ لِرَجُلٍ زَوِّجْنِي بِنْتَك أو قال جِئْتُكَ
خَاطِبًا ابْنَتَك أو قال جِئْتُك لِتُزَوِّجَنِي بِنْتَك فقال الْأَبُ قد
زَوَّجْتُك أو قال لِامْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُك على أَلْفِ دِرْهَمٍ فقالت قد
تَزَوَّجْتُك على ذلك أو قال لها زَوِّجِينِي أو انْكِحِينِي نَفْسَك فقالت
زَوَّجْتُك أو أَنْكَحْت يَنْعَقِدُ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ لِأَنَّ لَفْظَ الِاسْتِقْبَالِ عُدَّةٌ
وَالْأَمْرُ من فُرُوعِ الِاسْتِقْبَالِ فلم يُوجَدْ الِاسْتِقْبَالُ فلم يُوجَدُ
الْإِيجَابُ إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا رضي
اللَّهُ عنه خَطَبَ إلَى قَوْمٍ من الْأَنْصَارِ فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ فقال
لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمَرَنِي أَنْ أَخْطُبَ
إلَيْكُمْ لَمَا خَطَبْتُ فَقَالُوا له مَلَكْت ولم يُنْقَلْ أَنَّ بِلَالًا
أَعَادَ الْقَوْلَ وَلَوْ فَعَلَ لِنَقُلْ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ أَرَادَ
الْإِيجَابَ لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ لَا تَتَحَقَّقُ في النِّكَاحِ عَادَةً
فَكَانَ مَحْمُولًا على الْإِيجَابِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فإن السَّوْمَ مُعْتَادٌ
فيه فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عليه فَلَا بُدَّ من لَفْظٍ آخَرَ يَتَأَدَّى بِهِ
الْإِيجَابُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ النِّكَاحَ هل يَنْعَقِدُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ أو لَا
يَنْعَقِدُ إلَّا بِعَاقِدَيْنِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ في هذا الْفَصْلِ قال
أَصْحَابُنَا يَنْعَقِدُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ إذَا كانت له وِلَايَةٌ من
الْجَانِبَيْنِ سَوَاءً كانت وِلَايَتُهُ أَصْلِيَّةً كَالْوِلَايَةِ الثَّابِتَةِ
بِالْمِلْكِ وَالْقَرَابَةِ أو دَخِيلَةً كَالْوِلَايَةِ الثَّابِتَةِ
بِالْوَكَالَةِ بِأَنْ كان الْعَاقِدُ مَالِكًا من الْجَانِبَيْنِ كَالْمَوْلَى
إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ من عَبْدِهِ أو كان وَلِيًّا من الْجَانِبَيْنِ كَالْجَدِّ
إذَا زَوَّجَ ابْنَ ابْنِهِ الصَّغِيرَ من بِنْتِ ابْنِهِ الصَّغِيرَةِ وَالْأَخَ
إذَا زَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ الصَّغِيرَةِ من ابْنِ أَخِيهِ الصَّغِيرِ أو كان
أَصِيلًا وَوَلِيًّا كَابْنِ الْعَمِّ إذَا زَوَّجَ بِنْتَ عَمِّهِ من نَفْسِهِ أو
كان وَكِيلًا من الْجَانِبَيْنِ أو رَسُولًا من الْجَانِبَيْنِ أو كان وَلِيًّا من
جَانِبٍ وَوَكِيلًا من جَانِبٍ آخَرَ أو وَكَّلَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا
لِيَتَزَوَّجَهَا من نَفْسِهِ أو وَكَّلَ رَجُلٌ امْرَأَةً لِتُزَوِّجَ نَفْسَهَا
منها وَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ أَصْلًا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا إذَا كان وَلِيًّا من الْجَانِبَيْنِ
وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَاحِدَ هل يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ بِالنِّكَاحِ من
الْجَانِبَيْنِ أَمْ لَا وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ رُكْنَ
النِّكَاحِ اسْمٌ لِشَطْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وهو الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلَا
يَقُومَانِ إلَّا بِعَاقِدَيْنِ كَشَطْرَيْ الْبَيْعِ إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ
يقول في
____________________
(2/231)
الْوَلِيِّ
ضَرُورَةٌ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ بِلَا وَلِيٍّ فإذا كان الْوَلِيُّ
مُتَعَيَّنًا فَلَوْ لم يُجِزْ نِكَاحَ الْمُوَلِّيَةِ لَامْتَنَعَ نِكَاحُهَا
أَصْلًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ في الْوَكِيلِ
وَنَحْوِهِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَيَسْتَفْتُونَك في النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ
يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وما يُتْلَى عَلَيْكُمْ في الْكِتَابِ في يَتَامَى
النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتَوْنَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ } قِيلَ نَزَلَتْ هذه الْآيَةُ في يَتِيمَةٍ في حِجْرِ وَلِيِّهَا
وَهِيَ ذَاتُ مَالٍ
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { لَا
تُؤْتَوْنَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } خَرَجَ
مَخْرَجَ الْعِتَابِ فَيَدُلُّ على أَنَّ الْوَلِيَّ يَقُومُ بِنِكَاحِ
وَلِيَّتِهِ وَحْدَهُ إذا لو لم يَقُمْ وَحْدَهُ بِهِ لم يَكُنْ لِلْعِتَابِ
مَعْنًى لِمَا فيه من إلْحَاقِ الْعِتَابِ بِأَمْرٍ لَا يَتَحَقَّقُ وقَوْله
تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
بِالْإِنْكَاحِ مُطْلَقًا من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْإِنْكَاحِ من غَيْرِهِ أو من
نَفْسِهِ وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ في بَابِ النِّكَاحِ ليس بِعَاقِدٍ بَلْ هو سَفِيرٌ
عن الْعَاقِدِ وَمُعَبِّرٌ عنه بِدَلِيلِ أَنَّ حُقُوقَ النِّكَاحِ وَالْعَقْدِ
لَا تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ وإذا كان مُعَبِّرًا عنه وَلَهُ وِلَايَةٌ على
الزَّوْجَيْنِ فَكَانَتْ عِبَارَتُهُ كَعِبَارَةِ الْمُوَكِّلِ فَصَارَ كَلَامُهُ
كَكَلَامِ شَخْصَيْنِ فَيُعْتَبَرُ إيجَابُهُ كَلَامًا لِلْمَرْأَةِ كَأَنَّهَا
قالت زَوَّجْت نَفْسِي من فُلَانٍ وَقَبُولُهُ كَلَامًا لِلزَّوْجِ كَأَنَّهُ قال
قَبِلْت فَيَقُومُ الْعَقْدُ بِاثْنَيْنِ حُكْمًا وَالثَّابِتُ بِالْحُكْمِ
مُلْحَقٌ بِالثَّابِتِ حَقِيقَةً
وَأَمَّا الْبَيْعُ فَالْوَاحِدُ فيه إذَا كان وَلِيًّا يَقُومُ بِطَرَفَيْ الْعَقْدِ
كَالْأَبِ يَشْتَرِي مَالَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ أو يَبِيعُ مَالَ نَفْسِهِ من
الصَّغِيرِ أو يَبِيعُ مَالَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ من ابْنِهِ الصَّغِيرِ أو
يَشْتَرِي إلَّا أَنَّهُ إذَا كان وَكِيلًا لَا يَقُومُ بِهِمَا لِأَنَّ حُقُوقَ
الْعَقْدِ مُقْتَصِرَةٌ على الْعَاقِدِ فَلَا يَصِيرُ كَلَامُ الْعَاقِدِ كَلَامَ
الشَّخْصَيْنِ وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْبَيْعِ إذَا كانت مُقْتَصِرَةً على الْعَاقِدِ
وَلِلْبَيْعِ أَحْكَامٌ مُتَضَادَّةٌ من التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ
وَالْمُطَالَبَةِ فَلَوْ تَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ لَصَارَ الشَّخْصُ
الْوَاحِدُ مُطَالِبًا وَمَطْلُوبًا وَمُسَلِّمًا وَمُتَسَلِّمًا وَهَذَا
مُمْتَنِعٌ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا صِفَةُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَهِيَ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا
لَازِمًا قبل وُجُودِ الْآخَرِ حتى لو وُجِدَ الْإِيجَابُ من أَحَدِ
الْمُتَعَاقِدَيْنِ كان له أَنْ يَرْجِعَ قبل قَبُولِ الْآخَرِ كما في الْبَيْعِ
لِأَنَّهُمَا جميعا رُكْنٌ وَاحِدٌ فَكَانَ أَحَدُهُمَا بَعْضَ الرُّكْنِ
وَالْمُرَكَّبُ من شَيْئَيْنِ لَا وُجُودَ له بِأَحَدِهِمَا
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ
وَبَعْضُهَا شَرْطُ الْجَوَازِ وَالنَّفَاذِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ اللُّزُومِ
أَمَّا شَرْطُ الِانْعِقَادِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ
وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ بِالْفِعْلِ فَلَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ
الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ الْعَقْلَ من شَرَائِطِ
أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ
فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَشَرْطُ النَّفَاذِ عِنْدَنَا لَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ على
ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا تَعَذُّرُ الْعَاقِدِ فَلَيْسَ
بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ النِّكَاحِ خِلَافًا لِزُفَرَ على ما مَرَّ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ فَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ إذَا
كان الْعَاقِدَانِ حَاضِرَيْنِ وهو أَنْ يَكُونَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ في
مَجْلِسٍ وَاحِدٍ حتى لو اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِأَنْ
كَانَا حَاضِرَيْنِ فَأَوْجَبَ أَحَدُهُمَا فَقَامَ الْآخَرُ عن الْمَجْلِسِ قبل
الْقَبُولِ أو اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ لَا يَنْعَقِدُ
لِأَنَّ انْعِقَادَهُ عِبَارَةٌ عن ارْتِبَاطِ أَحَدِ الشَّطْرَيْنِ بِالْآخَرِ
فَكَانَ الْقِيَاسُ وُجُودَهُمَا في مَكَان وَاحِدٍ إلَّا أَنَّ اعْتِبَارَ ذلك
يُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الْعُقُودِ فَجُعِلَ الْمَجْلِسُ جَامِعًا
لِلشَّطْرَيْنِ حُكْمًا مع تَفَرُّقِهِمَا حَقِيقَةً لِلضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ
تَنْدَفِعُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ فإذا اخْتَلَفَ تَفَرُّقُ الشطران ( ( (
الشطرين ) ) ) حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا يَنْتَظِمُ الرُّكْنُ
وَأَمَّا الْفَوْرُ فَلَيْسَ من شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هو شَرْطٌ وَالْمَسْأَلَةُ سَتَأْتِي في كِتَابِ
الْبُيُوعِ وَنَذْكُرُ الْفَرْقَ هُنَاكَ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا تَنَاكَحَا
وَهُمَا يَمْشِيَانِ أو يَسِيرَانِ على الدَّابَّةِ وهو على التَّفْصِيلِ الذي
نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في كِتَابِ الْبُيُوعِ
وَنَذْكُرُ الْفَرْقَ هُنَاكَ بين الْمَشْيِ وَالسَّيْرِ على الدَّابَّةِ وَبَيْنَ
جَرَيَانِ السَّفِينَةِ هذا إذَا كان الْعَاقِدَانِ حَاضِرَيْنِ فَأَمَّا إذَا كان
أَحَدُهُمَا غَائِبًا لم يَنْعَقِدْ حتى لو قالت امْرَأَةٌ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ
زَوَّجْت نَفْسِي من فُلَانٍ وهو غَائِبٌ فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فقال قَبِلْت أو
قال رَجُلٌ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ وَهِيَ غَائِبَةٌ
فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ
فقالت زَوَّجْت نَفْسِي منه لم يَجُزْ وَإِنْ كان الْقَبُولُ بِحَضْرَةِ ذَيْنك
الشَّاهِدَيْنِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وقال أبو يُوسُفَ يَنْعَقِدُ وَيَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْغَائِبِ وَجْهُ قَوْلِ
أبي يُوسُفَ
____________________
(2/232)
أَنَّ
كَلَامَ الْوَاحِدِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عَقْدًا في بَابِ النِّكَاحِ لِأَنَّ
الْوَاحِدَ في هذا الْبَابِ يَقُومُ بِالْعَقْدِ من الْجَانِبَيْنِ وَكَمَا لو كان
مَالِكًا من الْجَانِبَيْنِ أو وَلِيًّا أو وَكِيلًا فَكَانَ كَلَامُهُ عَقْدًا
لَا شَطْرًا فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلتَّوَقُّفِ كما في الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ
والاعتاق على مَالٍ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذا شَطْرُ الْعَقْدِ حَقِيقَةً لَا كُلُّهُ لِأَنَّهُ
لَا يُمْلَكُ كُلُّهُ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ وَشَطْرُ الْعَقْدِ لَا يَقِفُ
على غَائِبٍ عن الْمَجْلِسِ كَالْبَيْعِ وَهَذَا لِأَنَّ الشَّطْرَ لَا يَحْتَمِلُ
التَّوَقُّفَ حَقِيقَةً لِأَنَّ التَّوَقُّفَ في الْأَصْلِ على خِلَافِ
الْحَقِيقَةِ لِصُدُورِهِ عن الْوَلَاءِ على الْجَانِبَيْنِ فَيَصِيرُ كَلَامُهُ
بِمَنْزِلَةِ كَلَامَيْنِ وَشَخْصُهُ كَشَخْصَيْنِ حُكْمًا فإذا انْعَدَمَتْ
الْوِلَايَةُ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى تَعْيِينِ الْحَقِيقَةِ فَلَا يَقِفُ بِخِلَافِ
الْخُلْعِ لِأَنَّهُ من جَانِبِ الزَّوْجِ يَمِينٌ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ
بِقَبُولِ الْمَرْأَةِ وَأَنَّهُ يَمِينٌ فَكَانَ عَقْدًا تَامًّا وَمِنْ جَانِبِ
الْمَرْأَةِ مُعَاوَضَةً فَلَا يَحْتَمِلُ التَّوَقُّفَ كَالْبَيْعِ
وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْإِعْتَاقُ على مَالٍ وَلَوْ أَرْسَلَ إلَيْهَا
رَسُولًا وَكَتَبَ إلَيْهَا بِذَلِكَ كِتَابًا فَقَبِلَتْ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ
سَمِعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ جَازَ ذلك لِاتِّحَادِ
الْمَجْلِسِ من حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ كَلَامَ الرَّسُولِ كَلَامُ الْمُرْسِلِ
لِأَنَّهُ يَنْقُلُ عِبَارَةَ الْمُرْسِلِ وَكَذَا الْكِتَابُ بِمَنْزِلَةِ
الْخِطَابِ من الْكَاتِبِ فَكَانَ سَمَاعُ قَوْلِ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةُ
الْكِتَابِ سَمَاعَ قَوْلِ الْمُرْسِلِ وَكَلَامَ الْكَاتِبِ مَعْنًى وَإِنْ لم
يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ إذَا قالت زَوَّجْتُ نَفْسِي يَجُوزُ وَإِنْ لم يَسْمَعَا
كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ بِنَاءً على أَنَّ قَوْلَهَا زَوَّجْت
نَفْسِي شَطْرُ الْعَقْدِ عِنْدَهُمَا وَالشَّهَادَةُ في شَطْرَيْ الْعَقْدِ
شَرْطٌ لِأَنَّهُ يَصِيرُ عَقْدًا بِالشَّطْرَيْنِ فإذا لم يَسْمَعَا كَلَامَ
الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ فلم تُوجَدْ الشَّهَادَةُ على الْعَقْدِ
وَقَوْلُ الزَّوْجِ بِانْفِرَادِهِ عَقْدٌ عِنْدَهُ وقد حَضَرَ الشَّاهِدَانِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الْفُضُولِيُّ الْوَاحِدُ من الْجَانِبَيْنِ بِأَنْ قال
الرَّجُلُ زَوَّجْت فُلَانَةَ من فُلَانٍ وَهُمَا غَائِبَانِ لم يَنْعَقِدْ
عِنْدَهُمَا حتى لو بَلَغَهُمَا الْخَبَرُ فَأَجَازَا لم يَجُزْ وَعِنْدَهُ
يَنْعَقِدُ وَيَجُوزُ بِالْإِجَازَةِ وَلَوْ قال فُضُولِيٌّ زَوَّجْت فُلَانَةَ من
فُلَانٍ وَهُمَا غَائِبَانِ فَقَبِلَ فُضُولِيٌّ آخَرُ عن الزَّوْجِ يَنْعَقِدُ
بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا حتى إذَا بَلَغَهُمَا الْخَبَرُ وَأَجَازَا جَازَ
وَلَوْ فَسَخَ الْفُضُولِيُّ الْعَقْدَ قبل إجَازَةِ من وَقَفَ الْعَقْدُ على
إجَازَتِهِ صَحَّ الْفَسْخُ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ بِالْفَسْخِ مُتَصَرِّفٌ في حَقِّ غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ
وَدَلَالَةُ ذلك أَنَّ الْعَقْدَ قد انْعَقَدَ في حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ
وَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ من تَوَقَّفَ على إجَازَتِهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ
الْإِجَازَةِ ثَبَتَ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ فَكَانَ هو بِالْفَسْخِ مُتَصَرِّفًا
في مَحِلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ فَلَا يَصِحُّ فَسْخُهُ بِخِلَافِ
الْفُضُولِيِّ إذَا بَاعَ ثُمَّ فَسَخَ قبل اتِّصَالِ الْإِجَازَةِ بِهِ أَنَّهُ
يَجُوزُ لِأَنَّ الْفَسْخَ هُنَاكَ تَصَرُّفٌ دَفَعَ الْحُقُوقَ عن نَفْسِهِ
لِأَنَّهُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ تَتَعَلَّقُ حُقُوقُ الْعَقْدِ بِالْوَكِيلِ
فَكَانَ هو بِالْفَسْخِ دَافِعًا الْحُقُوقَ عن نَفْسِهِ فَيَصِحُّ كَالْمَالِكِ
إذَا أَوْجَبَ النِّكَاحَ أو الْبَيْعَ أَنَّهُ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ قبل قَبُولِ
الْآخَرِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْعَقْدَ قبل الْإِجَازَةِ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ في
حَقِّ الْحُكْمِ وَإِنَّمَا انْعَقَدَ في حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَقَطْ فَكَانَ
الْفَسْخُ منه قبل الْإِجَازَةِ تَصَرُّفًا في كَلَامِ نَفْسِهِ بِالنَّقْضِ
فَجَازَ كما في الْبَيْعِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ شَرَائِطِ الْجَوَازِ وَالنَّفَاذِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ
يَكُونَ الْعَاقِدُ بَالِغًا فإن نِكَاحَ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَإِنْ كان
مُنْعَقِدًا على أَصْلِ أَصْحَابِنَا فَهُوَ غَيْرُ نَافِذٍ بَلْ نَفَاذُهُ
يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ وَلِيِّهِ لِأَنَّ نَفَاذَ التَّصَرُّفِ لِاشْتِمَالِهِ
على وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ وَالصَّبِيُّ لِقِلَّةِ تَأَمُّلِهِ لِاشْتِغَالِهِ
بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ لَا يَقِفُ على ذلك فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بَلْ
يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ وَلِيِّهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ على بُلُوغِهِ حتى لو
بَلَغَ قبل أَنْ يُجِيزَهُ الْوَلِيُّ لَا يَنْفُذُ بِالْبُلُوغِ لِأَنَّ
الْعَقْدَ انْعَقَدَ مَوْقُوفًا على إجَازَةِ الْوَلِيِّ وَرِضَاهُ لِسُقُوطِ
اعْتِبَارِ رِضَا الصَّبِيِّ شَرْعًا وَبِالْبُلُوغِ زَالَتْ وِلَايَةُ الْوَلِيِّ
فَلَا يَنْفُذُ ما لم يُجِزْهُ بِنَفْسِهِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَنْعَقِدُ تَصَرُّفَاتُ الصَّبِيِّ أَصْلًا بَلْ هِيَ
بَاطِلَةٌ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ الْمَأْذُونِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ حُرًّا فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ مَمْلُوكٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ
إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ
وَالْكَلَامُ في هذا الشَّرْطِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنَّ إذْنَ
الْمَوْلَى شَرْطُ جَوَازِ نِكَاحِ الْمَمْلُوكِ لَا يَجُوزُ من غَيْرِ إذْنِهِ أو
إجَازَتِهِ وفي بَيَانِ ما يَكُونُ إجَازَةً له وفي بَيَانِ ما يَمْلِكُهُ من
النِّكَاحِ بَعْدَ الْإِذْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْمَهْرِ في نِكَاحِ
الْمَمْلُوكِ
____________________
(2/233)
أَمَّا
الْأَوَّلُ فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ مَمْلُوكٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَإِنْ كان
عَاقِلًا بَالِغًا سَوَاءً كان قِنًّا أو مُدَبَّرًا أو مُدَبَّرَةٍ أو أُمَّ
وَلَدٍ أو مُكَاتَبَةً أو مُكَاتَبًا
أَمَّا الْقِنُّ فَإِنْ كان أَمَةً فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا بِغَيْرِ إذْنِ
سَيِّدِهَا بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ مَمْلُوكَةٌ لِسَيِّدِهَا
وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ في مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرَةُ
وَأُمُّ الْوَلَدِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ لِأَنَّهَا مِلْكُ
الْمَوْلَى رَقَبَةً وَمِلْكُ الْمُتْعَةِ يَتْبَعُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ إلَّا أن
مُنِعَ من الِاسْتِمْتَاعِ بها لِزَوَالِ مِلْكِ الْيَدِ وفي الِاسْتِمْتَاعِ
إثْبَاتُ مِلْكِ الْيَدِ وَلِأَنَّ من الْجَائِزِ أنها تَعْجِزُ فَتُرَدُّ إلَى
الرِّقِّ فَتَعُودُ قِنَّةً كما كانت فَتَبَيَّنَ أَنَّ نِكَاحَهَا صَادَفَ
الْمَوْلَى فَلَا يَصِحُّ وَإِنْ كان عَبْدًا فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ أَيْضًا
عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ يَجُوزُ وَجْهُ قَوْلِهِ إن مَنَافِعَ بُضْعِ الْعَبْدِ لَا تَدْخُلُ
تَحْتَ مِلْكِ الْمَوْلَى فَكَانَ الْمَوْلَى فيها على أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ
وَالْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ عنها فَيَمْلِكُ النِّكَاحَ كَالْحُرِّ بِخِلَافِ
الْأَمَةِ لِأَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِهَا مِلْكُ الْمَوْلَى فَمُنِعَتْ من
التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ إذْنِهِ
وَلَنَا أَنَّ الْعَبْدَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا من أَنْفُسِكُمْ هل لَكُمْ من ( ( ( مما ) ) )
ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ من شُرَكَاءَ في ( ( ( فيما ) ) ) ما رَزَقْنَاكُمْ
فَأَنْتُمْ فيه سَوَاءٌ } أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْعَبِيدَ
لَيْسُوا شُرَكَاءَ فِيمَا رُزِقَ السَّادَاتُ وَلَا هُمْ بِسَوَاءٍ في ذلك
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ ما أَرَادَ بِهِ نَفْيَ الشَّرِكَةِ في الْمَنَافِعِ لِاشْتِرَاكِهِمْ
فيها دَلَّ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ على شَيْءٍ } وَالْعَبْدُ
اسْمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَلِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ أُضِيفَ إلَى كُلِّهِ
فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ في كُلِّهِ إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ من الِانْتِفَاعِ به
بِبَعْضِ أَجْزَائِهِ بِنَفْسِهِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ له
كالآمة الْمَجُوسِيَّةِ وَغَيْرِ ذلك
وَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ في التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ وَلِأَنَّهُ
كان مَحْجُورًا قبل الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ وَالنِّكَاحُ ليس من التِّجَارَةِ
لِأَنَّ التِّجَارَةَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةُ
الْبُضْعِ بِالْمَالِ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا على عَبْدٍ تَنْوِي
أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ لِلتِّجَارَةِ لم يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ وَلَوْ كان
النِّكَاحُ من التِّجَارَةِ لَكَانَ بَدَلُ الْبُضْعِ لِلتِّجَارَةِ كَالْبَيْعِ
فَكَانَ هو بِالنِّكَاحِ مُتَصَرِّفًا في مِلْكِ مَوْلَاهُ فَلَا يَجُوزُ كما لَا
يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ وَالدَّلِيلُ عليه قَوْله تَعَالَى { لَا يَقْدِرُ على
شَيْءٍ } وَصَفَ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ على شَيْءٍ
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْقُدْرَةَ الْحَقِيقِيَّةَ لِأَنَّهَا
ثَابِتَةٌ له فَتَعَيَّنَ الْقُدْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَهِيَ إذْنُ الشَّرْعِ
وَإِطْلَاقِهِ فَكَانَ نَفْيُ الْقُدْرَةِ الشَّرْعِيَّةِ نَفْيًا لِلْإِذْنِ
وَالْإِطْلَاقِ وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ بِغَيْرِ إذْنِ
الشَّرْعِ
وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ
لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ على لِسَانِ رسول اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلِأَنَّهُ كان مَحْجُورًا عن التَّزَوُّجِ قبل
الْكِتَابَةِ وَعِنْدَ الْكِتَابَةِ ما أَفَادَ له إلَّا الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ
وَالنِّكَاحُ ليس من التِّجَارَةِ لِأَنَّ التِّجَارَةَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ
بِالْمَالِ وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَالِ وَالدَّلِيلُ عليه
أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا على عَبْدٍ تَنْوِي أَنَّ الْعَبْدَ
يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ لم يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ وَلَوْ كان النِّكَاحُ من
التِّجَارَةِ لَكَانَ بَدَلُ الْبُضْعِ لِلتِّجَارَةِ كَالْبَيْعِ
وَأَمَّا مُعْتَقُ الْبَعْضِ فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
يَجُوزُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ حُرٍّ عليه دَيْنٌ عِنْدَهُمَا وَلَوْ تَزَوَّجَ
بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى وَاحِدٌ مِمَّنْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
تَزْوِيجُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى ثُمَّ إنْ أَجَازَ الْمَوْلَى النِّكَاحَ
جَازَ لِأَنَّ الْعَقْدَ صَدَرَ من الْأَهْلِ في الْمَحِلِّ إلَّا أَنَّهُ
امْتَنَعَ النَّفَاذُ لِحَقِّ الْمَوْلَى فإذا أَجَازَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ
وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَسَرَّى وَإِنْ أَذِنَ له مَوْلَاهُ لِأَنَّ
حِلَّ الْوَطْءِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَحَدِ الْمِلْكَيْنِ
قال اللَّه تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا على
أَزْوَاجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } ولم
يُوجَد أَحَدُهُمَا
وروى عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يَتَسَرَّى الْعَبْدُ وَلَا
يُسَرِّيه مَوْلَاهُ وَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ وَلَا الْمُكَاتَبُ شيئا إلَّا
الطَّلَاقَ وَهَذَا نَصٌّ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَكُونُ إجَازَةً فَالْإِجَازَةُ قد ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ وقد
ثَبَتَتْ بِالدَّلَالَةِ وقد ثَبَتَتْ بِالضَّرُورَةِ
أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ الصَّرِيحُ بِالْإِجَازَةِ وما يَجْرِي مَجْرَاهَا نحو
أَنْ يُقَوَّلَ أَجَزْت أو رَضِيت أو أَذِنْت وَنَحْوَ ذلك
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ قَوْلٌ أو فِعْلٌ يَدُلُّ على الْإِجَازَةِ مِثْلَ
أَنْ يَقُولَ الْمَوْلَى إذَا أُخْبِرَ بِالنِّكَاحِ حَسَنٌ أو صَوَابٌ أو لَا
بَأْسَ بِهِ وَنَحْوَ ذلك أو يَسُوقُ إلَى الْمَرْأَةِ الْمَهْرَ أو شيئا منه في
نِكَاحِ الْعَبْدِ وَنَحْوَ ذلك مِمَّا يَدُلُّ على الرِّضَا
وَلَوْ قال له الْمَوْلَى طَلِّقْهَا أو فَارِقْهَا لم يَكُنْ إجَازَةً لِأَنَّ
قَوْلَهُ طَلِّقْهَا أو فَارِقْهَا يَحْتَمِلُ حَقِيقَةَ الطَّلَاقِ
وَالْمُفَارَقَةِ وَيَحْتَمِلُ الْمُتَارَكَةَ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ
وَالنِّكَاحَ الْمَوْقُوفَ يُسَمَّى طَلَاقًا وَمُفَارَقَةً
____________________
(2/234)
فَوَقَعَ
الشَّكُّ وَالِاحْتِمَالُ في ثُبُوتِ الْإِجَازَةِ فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ
وَلَوْ قال له طَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً تَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فَهُوَ إجَازَةٌ
لِارْتِفَاعِ التَّرْدَادِ إذْ لَا رَجْعَةَ في الْمُتَارَكَةِ لِلنِّكَاحِ
الْمَوْقُوفِ وَفَسْخِهِ
وَأَمَّا الضَّرُورَةُ فَنَحْوُ أَنْ يُعْتِقَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ أو الْأَمَةَ
فَيَكُونُ الْإِعْتَاقُ إجَازَةً وَلَوْ أَذِنَ بِالنِّكَاحِ لم يَكُنْ الْإِذْنُ
بِالنِّكَاحِ إجَازَةً
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لو لم يُجْعَلْ
الْإِعْتَاقُ إجَازَةً لَكَانَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَبْطُلَ بِالنِّكَاحِ
الْمَوْقُوفِ وَإِمَّا أَنْ يَبْقَى مَوْقُوفًا على الْإِجَازَةِ وَلَا سَبِيلَ
إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ النِّكَاحَ صَدَرَ من الْأَهْلِ في الْمَحِلِّ فَلَا
يَبْطُلُ إلَّا بِإِبْطَالِ من له وِلَايَةُ الْإِبْطَالِ وَلَا سَبِيلَ إلَى
الثَّانِي لِأَنَّهُ لو بَقِيَ مَوْقُوفًا على الْإِجَازَةِ فَأَمَّا إنْ بَقِيَ
مَوْقُوفًا على إجَازَةِ الْمَوْلَى أو على إجَازَةِ الْعَبْدِ لَا وَجْهَ
لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِجَازَةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْمِلْكِ وقد
زَالَ بالاعتقاق ( ( ( بالإعتاق ) ) ) وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِيَّ لِأَنَّ
الْعَقْدَ وُجِدَ من الْعَبْدِ فَكَيْف يَقِفُ عَقْدُ الْإِنْسَانِ على إجَازَتِهِ
وإذا بَطَلَتْ هذه الاقسام وَلَيْسَ هَهُنَا قِسْمٌ آخَرُ لَزِمَ أَنْ يُجْعَلَ
الْإِعْتَاقُ إجَازَةً ضَرُورَةً وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لم تُوجَدْ في الأذن بِالنِّكَاحِ
وَلِلثَّانِي أَنَّ امْتِنَاعَ النَّفَاذِ مع صُدُورِ التَّصَرُّفِ من الْأَهْلِ
في الْمَحِلِّ لِقِيَامِ حَقِّ الْمَوْلَى وهو الْمِلْكُ نَظَرًا له دَفْعًا
لِلضَّرَرِ عنه وقد زَالَ مِلْكُهُ بِالْإِعْتَاقِ فَزَالَ الْمَانِعُ من
النُّفُوذِ وَالْإِذْنُ بِالتَّزَوُّجِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمَانِعِ وهو
الْمِلْكُ لَكِنَّهُ بِالْإِذْنِ أقامة مَقَامَ نَفْسِهِ في النِّكَاحِ كَأَنَّهُ
هو ثُمَّ ثُبُوتُ وِلَايَةِ الْإِجَازَةِ له لم تَكُنْ إجَازَةً ما لم يُجِزْ
فَكَذَا الْعَبْدُ ثُمَّ إذَا لم يَكُنْ نَفْسُ الْإِذْنِ من الْمَوْلَى
بِالنِّكَاحِ إجَازَةً لِذَلِكَ الْعَقْدِ فَإِنْ أَجَازَهُ الْعَبْدُ جَازَ
اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَإِنْ أَجَازَهُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مَأْذُونٌ بِالْعَقْدِ وَالْإِجَازَةُ مع الْعَقْدِ
مُتَغَايِرَانِ اسْمًا وَصُورَةً وَشَرْطًا أَمَّا الِاسْمُ وَالصُّورَةُ فَلَا
شَكَّ في تَغَايُرِهِمَا وَأَمَّا الشَّرْطُ فإن مَحِلَّ الْعَقْدِ عليه وَمَحِلُّ
الْإِجَازَةِ نَفْسُ الْعَقْدِ وَكَذَا الشَّهَادَةُ شَرْطُ الْعَقْدِ لَا شَرْطُ
الْإِجَازَةِ وَالْإِذْنُ بِأَحَدِ الْمُتَغَايِرَيْنِ لَا يَكُونُ إذْنًا
بِالْآخَرِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعَبْدَ أتى بِبَعْضِ ما هو مَأْذُونٌ فيه فَكَانَ
مُتَصَرِّفًا عن إذْنٍ فَيَجُوزُ تَصَرُّفُهُ وَدَلَالَةُ ذلك أَنَّ الْمَوْلَى
أَذِنَ له بِعَقْدٍ نَافِذٍ فَكَانَ مَأْذُونًا بِتَحْصِيلِ أَصْلِ الْعَقْدِ
وَوَصْفِهِ وهو النَّفَاذُ وقد حَصَلَ النَّفَاذُ فَيَحْصُلُ وَلِهَذَا لو زَوَّجَ
فُضُولِيٌّ هذا الْعَبْدَ امْرَأَةً بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَأَجَازَ
الْعَبْدُ نَفَذَ الْعَقْدُ دَلَّ أَنَّ تَنْفِيذَ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ
مَأْذُونٌ فيه من قِبَلِ الْمَوْلَى فَيَنْفُذُ بِإِجَازَتِهِ ثُمَّ إذَا نَفَذَ
النِّكَاحُ بِالْإِعْتَاقِ وَهِيَ أَمَةٌ فَلَا خِيَارَ لها لِأَنَّ النِّكَاحَ
نَفَذَ بَعْدَ الْعِتْقِ فالاعتاق لم يُصَادِفْهَا وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ وَالْمَهْرُ
لها إنْ لم يَكُنْ الزَّوْجُ دخل بها قبل الْإِعْتَاقِ وَإِنْ كان قد دخل بها قبل
الْإِعْتَاقِ فَالْمَهْرُ لِلْمَوْلَى هذا إذَا أَعْتَقَهَا وَهِيَ كَبِيرَةٌ
فَأَمَّا إذَا كانت صَغِيرَةً فَأَعْتَقَهَا فإن الْإِعْتَاقَ لَا يَكُونُ
إجَازَةً وَيَبْطُلُ الْعَقْدُ عِنْدَ زُفَرَ وَعِنْدَنَا يَبْقَى مَوْقُوفًا على
إجَازَةِ الْمَوْلَى إذَا لم يَكُنْ لها عَصَبَةٌ فَإِنْ كان لها عَصَبَةٌ
يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْعَصَبَةِ وَيَجُوزُ بِإِجَازَةِ الْعَصَبَةِ ثُمَّ
إنْ كان الْمُجِيزُ غير الْأَبِ أو الْجَدِّ فَلَهَا خِيَارُ الْإِدْرَاكِ لِأَنَّ
الْعَقْدَ نَفَذَ عليها في حَالَةِ الصِّغَرِ وَهِيَ حُرَّةٌ وَإِنْ كان
الْمُجِيزُ أَبُوهَا أو جَدُّهَا فَلَا خِيَارَ لها وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى قبل
الْإِجَازَةِ فَإِنْ وَرِثَهَا من يَحِلُّ له وَطْؤُهَا بَطَلَ النِّكَاحُ
الْمَوْقُوفُ لِأَنَّ الْحِلَّ النَّافِذَ قد طَرَأَ على الْمَوْقُوفِ لِوُجُودِ
سَبَبِ الْحِلِّ وهو الْمِلْكُ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا على أَزْوَاجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْحِلِّ له ارْتِفَاعُ
الْمَوْقُوفِ وَإِنْ وَرِثَهَا من لَا يَحِلُّ له وَطْؤُهَا بِأَنْ كان الْوَارِثُ
ابن الْمَيِّتِ وقد وَطِئَهَا أَبُوهُ أو كانت الْأَمَةُ أُخْتُهُ من الرَّضَاعِ
أو وَرِثَهَا جَمَاعَةٌ فَلِلْوَارِثِ الْإِجَازَةُ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ طَرَيَان
الْحِلِّ فَبَقِيَ الْمَوْقُوفُ على حَالِهِ وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهَا الْمَوْلَى
قبل الْإِجَازَةِ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا في الْوَارِثِ
وَعَلَى هذا قالوا فِيمَنْ تَزَوَّجَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذن ( ( ( إذنه
) ) ) وَوَطِئَهَا ثُمَّ بَاعَهَا الْمَوْلَى من رَجُلٍ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي
الْإِجَازَةَ لِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ يَمْنَعُ حِلَّ الْوَطْءِ لِلْمُشْتَرِي
وَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَمَاتَ الْوَلِيُّ
أو بَاعَهُ قبل الْإِجَازَةِ فَلِلْوَارِثِ وَالْمُشْتَرِي الْإِجَازَةُ لِأَنَّهُ
لَا يُتَصَوَّرُ حِلُّ الْوَطْءِ هَهُنَا فلم يُوجَدْ طَرَيَان حِلِّ الْوَطْءِ
فَبَقِيَ الْمَوْقُوفُ بِحَالِهِ وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ لَا يَجُوزُ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ وَالْمُشْتَرِي بَلْ
يَبْطُلُ وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ على إجَازَةِ إنْسَانٍ
يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ من قِبَلِ غَيْرِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَحْتَمِلُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَلْحَقُ الْمَوْقُوفَ لِأَنَّهَا
تَنْفِيذُ الْمَوْقُوفِ فَإِنَّمَا تَلْحَقُهُ على الْوَجْهِ الذي وَقَفَ
وَإِنَّمَا وَقَفَ على الْأَوَّلِ لَا على الثَّانِي فَلَا يَمْلِكُ الثَّانِي
تَنْفِيذَهُ
____________________
(2/235)
وَلَنَا
أَنَّهُ إنَّمَا وَقَفَ على إجَازَةِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمِلْكَ له وقد صَارَ
الْمِلْكُ لِلثَّانِي فَتَنْتَقِلُ الْإِجَازَةُ إلَى الثَّانِي وَهَذَا لِأَنَّ
الْمَالِكَ يَمْلِكُ إنْشَاءَ النِّكَاحِ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ وهو النَّفَاذُ
فَلَأَنْ يَمْلِكَ تَنْفِيذَ النِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ وَأَنَّهُ إثْبَاتُ
الْوَصْفِ دُونَ الْأَصْلِ أَوْلَى وَلَوْ زَوَّجَتْ الْمُكَاتَبَةُ نَفْسَهَا
بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى حتى وَقَفَ على إجَازَتِهِ فَأَعْتَقَهَا نَفَذَ
الْعَقْدُ والإخبار فيه كما ذَكَرْنَا في الْأَمَةِ الْقِنَّةِ وَكَذَلِكَ إذَا
أَدَّتْ فَعَتَقَتْ وَإِنْ عَجَزَتْ فَإِنْ كان بُضْعُهَا يَحِلُّ لِلْمَوْلَى
يَبْطُلُ الْعَقْدُ وَإِنْ كان لَا يَحِلُّ بِأَنْ كانت أُخْتُهُ من الرَّضَاعِ أو
كانت مَجُوسِيَّةً تَوَقَّفَ على إجَازَتِهِ وَلَوْ كان الْمَوْلَى هو الذي عَقَدَ
عليها بِغَيْرِ رِضَاهَا حتى وَقَفَ على إجَازَتِهَا فَأَجَازَتْ جَازَ الْعَقْدُ
وَإِنْ أَدَّتْ فَعَتَقَتْ أو أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى تَوَقَّفَ الْعَقْدُ على
إجَازَتِهَا إنْ كانت كَبِيرَةً وَإِنْ كانت صَغِيرَةً فَهُوَ على ما ذَكَرْنَا من
الِاخْتِلَافِ في الْأَمَةِ وَتَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْمَوْلَى عِنْدَنَا إذَا
لم يَكُنْ لها عَصَبَةٌ غير الْمَوْلَى فَإِنْ كان فَأَجَازُوا جَازَ وإذا
أَدْرَكَتْ فَلَهَا خِيَارُ الْإِدْرَاكِ إذَا كان الْمُجْبِرُ غير الْأَبِ
وَالْجَدِّ على ما ذَكَرْنَا وَإِنْ لم يُعْتِقْهَا حتى عَجَزَتْ بَطَلَ الْعَقْدُ
وَإِنْ كان بُضْعُهَا يَحِلُّ لِلْمَوْلَى وَإِنْ كان لَا يَحِلُّ له فَلَا
يَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَتِهِ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَمْلِكُهُ من النِّكَاحِ بَعْدَ الْإِذْنِ فَنَقُولُ إذَا
أَذِنَ الْمَوْلَى لِلْعَبْدِ بِالتَّزْوِيجِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أن خَصَّ
الْإِذْنَ بِالتَّزَوُّجِ أو عَمَّهُ فَإِنْ خَصَّ بِأَنْ قال له تَزَوَّجْ لم
يَجُزْ له أَنْ يَتَزَوَّجَ إلَّا امْرَأَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ الْأَمْرَ
الْمُطْلَقَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَكَذَا إذَا قال له
تَزَوَّجْ امْرَأَةً لِأَنَّ قَوْلَهُ امْرَأَةً اسْمٌ لِوَاحِدَةٍ من هذا
الْجِنْسِ وَإِنْ عَمَّ بِأَنْ قال تَزَوَّجْ ما شِئْتَ من النِّسَاءِ جَازَ له
أَنْ يَتَزَوَّجَ ثِنْتَيْنِ وَلَا يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ من ذلك
لِأَنَّهُ إذن له بِنِكَاحِ ما شَاءَ من النِّسَاءِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ
فَيَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ ما يَمْلِكُهُ الْعَبِيدُ من النِّسَاءِ وهو التَّزَوُّجُ
بِاثْنَتَيْنِ
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ أَكْثَرَ من
اثْنَتَيْنِ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرُوِيَ عن الْحَكَمِ أَنَّهُ قال اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم على أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجْمَعُ من النِّسَاءِ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ
وَلِأَنَّ مَالِكِيَّةَ النِّكَاحِ تُشْعِرُ بِكَمَالِ الْحَالِ لِأَنَّهَا من
بَابِ الْوِلَايَةِ وَالْعَبْدُ أَنْقَصُ حَالًا من الْحُرِّ فَيَظْهَرُ أَثَرُ
النُّقْصَانِ في عَدَدِ الْمَمْلُوكِ له في النِّكَاحِ كما ظَهَرَ أَثَرُهُ في
الْقَسَمِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْحُدُودِ وَغَيْرِ ذلك وَهَلْ يَدْخُلُ
تَحْتَ الْإِذْنِ بِالتَّزَوُّجِ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ قال أبو حَنِيفَةَ
يَدْخُلُ حتى لو تَزَوَّجَ الْعَبْدُ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا وَدَخَلَ بها
لَزِمَهُ الْمَهْرُ في الْحَالِ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَدْخُلُ
وَيُتْبَعُ بِالْمَهْرِ بَعْدَ الْعِتْقِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ غَرَضَ الْمَوْلَى من الْإِذْنِ بِالنِّكَاحِ وهو حِلُّ
الِاسْتِمْتَاعِ لِيَحْصُلَ بِهِ عِفَّةُ الْعَبْدِ عن الزِّنَا وَهَذَا لَا
يَحْصُلُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ فَلَا يَكُونُ
مُرَادًا من الْإِذْنِ بِالتَّزَوُّجِ وَلِهَذَا لو حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ
يَنْصَرِفُ إلَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ حتى لو نَكَحَ نِكَاحًا فَاسِدًا لَا
يَحْنَثُ
كَذَا هذا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِذْنَ بِالتَّزَوُّجِ مُطْلَقٌ
فَيَنْصَرِفُ إلَى الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ كَالْإِذْنِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا وفي
مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ إنَّمَا لم يَنْصَرِفْ لَفْظُ النِّكَاحِ إلَى الْفَاسِدِ
لِقَرِينَةٍ عُرْفِيَّةٍ إلَّا أَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ على الْعُرْفِ
وَالْعَادَةِ وَالْمُتَعَارَفِ وَالْمُعْتَادِ مِمَّا يُقْصَدُ بِالْيَمِينِ
الِامْتِنَاعُ عن الصَّحِيحِ لَا الْفَاسِدِ لِأَنَّ فَسَادَ الْمَحْلُوفِ عليه
يَكْفِي مَانِعًا من الْإِقْدَامِ عليه فَلَا حَاجَةَ إلَى الِامْتِنَاعِ
بِالْيَمِينِ وَالدَّلِيلُ على صِحَّةِ هذا التَّخْرِيجِ أَنَّ يَمِينَ الْحَالِفِ
لو كانت على الْفِعْلِ الْمَاضِي يَنْصَرِفُ إلَى الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ جميعا
وَيَتَفَرَّعُ على هذا أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا ثُمَّ
أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْرَى نِكَاحًا صَحِيحًا ليس له ذلك عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْإِذْنَ انْتَهَى بِالنِّكَاحِ وَعِنْدَهُمَا له ذلك لِأَنَّ
الْإِذْنَ قد بَقِيَ وَلَوْ أَذِنَ له بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ نَصًّا وَدَخَلَ بها
يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ في الْحَالِ في قَوْلِهِمْ جميعا
أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّ
الصَّرْفَ إلَى الصَّحِيحِ لِضَرْبِ دَلَالَةٍ أَوْجَبَتْ إلَيْهِ فإذا جاء
النَّصُّ بِخِلَافِهِ بَطَلَتْ الدَّلَالَةُ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمَهْرِ في نِكَاحِ الْمَمْلُوكِ فَنَقُولُ إذَا كانت
الْإِجَازَةُ قبل الدُّخُولِ بِالْأَمَةِ لم يَكُنْ على الزَّوْجِ إلَّا مَهْرٌ
وَاحِدٌ وَإِنْ كان بَعْدَ الدُّخُولِ بها فَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ مَهْرَانِ
مَهْرٌ بِالدُّخُولِ قبل الْإِجَازَةِ وَمَهْرٌ بِالْإِجَازَةِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ مَهْرَيْنِ أَحَدُهُمَا
الدُّخُولُ لِأَنَّ الدُّخُولَ في النِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ دُخُولٌ في نِكَاحٍ
فَاسِدٍ وهو بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ في نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَذَا يُوجِبُ الْمَهْرَ
كَذَا هذا
وَالثَّانِي النِّكَاحُ الصَّحِيحُ لِأَنَّ النِّكَاحَ قد صَحَّ بِالْإِجَازَةِ
وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ
____________________
(2/236)
أَحَدُهُمَا
أَنَّ النِّكَاحَ كان مَوْقُوفًا على إذْنِ الْمَالِكِ كَنِكَاحِ الْفُضُولِيِّ
وَالْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ إذَا اتَّصَلَتْ بِهِ الْإِجَازَةُ تَسْتَنِدُ
الْإِجَازَةُ إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ وإذا اسْتَنَدَتْ الْإِجَازَةُ إلَيْهِ صَارَ
كَأَنَّهُ عَقَدَهُ بِإِذْنِهِ إذْ الْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ كَالْإِذْنِ
السَّابِقِ فَلَا يَجِبُ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ
وَالثَّانِي أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لو وَجَبَ لَكَانَ لِوُجُودِهِ تَعَلُّقًا
بِالْعَقْدِ لِأَنَّهُ لَوْلَاهُ لَكَانَ الْفِعْلُ زِنًا وَلَكَانَ الْوَاجِبُ هو
الْحَدُّ لَا الْمَهْرُ وقد وَجَبَ الْمُسَمَّى بِالْعَقْدِ فَلَوْ وَجَبَ بِهِ
مَهْرُ الْمِثْلِ أَيْضًا لَوَجَبَ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ مَهْرَانِ وَأَنَّهُ
مُمْتَنِعٌ
ثُمَّ كُلُّ ما وَجَبَ من مَهْرِ الْأَمَةِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى سَوَاءً وَجَبَ
بِالْعَقْدِ أو بِالدُّخُولِ وَسَوَاءً كان الْمَهْرُ مُسَمًّى أو مَهْرَ
الْمِثْلِ وَسَوَاءً كانت الْأَمَةُ قِنَّةً
أو مُدَبَّرَةً أو أُمَّ وَلَدٍ إلَّا الْمُكَاتَبَةَ وَالْمُعْتَقَ بَعْضُهَا فإن
الْمَهْرَ لَهُمَا لِأَنَّ الْمَهْرَ وَجَبَ عِوَضًا عن الْمُتْعَةِ وَهِيَ
مَنَافِعُ الْبُضْعِ ثُمَّ إنْ كانت مَنَافِعُ الْبُضْعِ مُلْحَقَةً
بِالْأَجْزَاءِ وَالْأَعْيَانِ فَعِوَضُهَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى كَالْأَرْشِ
وَإِنْ كانت مُبْقَاةً على حَقِيقَةِ الْمَنْفَعَةِ فَبَدَلُهَا يَكُونُ
لِلْمَوْلَى أَيْضًا كَالْأُجْرَةِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ
الْأَرْشُ وَالْأُجْرَةُ لها فَكَانَ الْمَهْرُ لها أَيْضًا وَكُلُّ مَهْرٍ لَزِمَ
الْعَبْدَ فَإِنْ كان قِنًّا وَالنِّكَاحُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى يَتَعَلَّقُ
بِكَسْبِهِ وَرَقَبَتُهُ تُبَاعُ فيه إنْ لم يَكُنْ له كَسْبٌ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ
دَيْنٌ ثَابِتٌ في حَقِّ الْعَبْدِ ظَاهِرٌ في حَقِّ الْمَوْلَى وَمِثْلُ هذا
الدَّيْنِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا
وَالْمَسْأَلَةُ سَتَأْتِي في كِتَابِ الْمَأْذُونِ
وَإِنْ كان مُدَبَّرًا أو مُكَاتَبًا فَإِنَّهُمَا يَسْعَيَانِ في الْمَهْرِ
فيستوفي من كَسْبِهِمَا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ من رَقَبَتِهِمَا
بِخُرُوجِهِمَا عن احْتِمَالِ الْبَيْعِ بِالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وما لَزِمَ
الْعَبِيدَ من ذلك بِغَيْرِ إذْنِ الملوى ( ( ( المولى ) ) ) اُتُّبِعُوا بِهِ
بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّهُ دَيْنٌ تَعَلَّقَ بِسَبَبٍ لم يَظْهَرْ في حَقِّ
الْمَوْلَى فَأَشْبَهَ الدَّيْنَ الثَّابِتَ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ
أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لِلْحَالِ وَيُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ لِمَا
قُلْنَا كَذَا هذا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْوِلَايَةُ في النِّكَاحِ فَلَا يَنْعَقِدُ إنْكَاحُ من لَا وِلَايَةَ
له وَالْكَلَامُ في هذا الشَّرْطِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنْوَاعِ
الْوِلَايَةِ وفي بَيَانِهِ سَبَبَ ثُبُوتِ كل نَوْعٍ
وفي بَيَانِ شَرْطِ ثُبُوتِ كل نَوْعٍ وما يَتَّصِلُ بِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْوِلَايَةُ في بَابِ النِّكَاحِ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ
وِلَايَةُ الْمِلْكِ وَوِلَايَةُ الْقَرَابَةِ وَوِلَايَةُ الْوَلَاءِ وَوِلَايَةُ
الامامة أَمَّا وِلَايَةٌ الْمِلْكِ فَسَبَبُ ثُبُوتِهَا الْمِلْكُ لِأَنَّ
وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ وِلَايَةُ نَظَرٍ وَالْمِلْكُ داعي ( ( ( داع ) ) ) إلَى
الشَّفَقَةِ وَالنَّظَرِ في حَقِّ الْمَمْلُوكِ فَكَانَ سَبَبًا لِثُبُوتِ
الْوِلَايَةِ وَلَا وِلَايَةَ لِلْمَمْلُوكِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ له إذْ هو
مَمْلُوكٌ في نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ مَالِكًا
وَأَمَّا شَرَائِطُ ثُبُوتِ هذه الْوِلَايَةِ فَمِنْهَا عَقْلُ الْمَالِكِ
وَمِنْهَا بُلُوغُهُ فَلَا يَجُوزُ الْإِنْكَاحُ من الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ
الذي لَا يَعْقِلُ وَلَا من الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا من
أَهْلِ الْوِلَايَةِ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْوِلَايَةِ بِالْقُدْرَةِ على
تَحْصِيلِ النَّظَرِ في حَقِّ الْمُوَلَّى عليه وَذَلِكَ بِكَمَالِ الرَّأْيِ
وَالْعَقْلِ ولم يُوجَدْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لهم على أَنْفُسِهِمْ
فَكَيْفَ يَكُونُ على غَيْرِهِمْ
وَمِنْهَا الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ وهو أَنْ يَكُونَ الْمُوَلَّى عليه مَمْلُوكًا
لِلْمَالِكِ رَقَبَةً وَيَدًا وَعَلَى هذا يَخْرُجُ إنْكَاحُ الرَّجُلِ أَمَتَهُ
أو مُدَبَّرَتَهُ أو أُمَّ وَلَدِهِ أو عَبْدَهُ أو مُدَبَّرَهُ أَنَّهُ جَائِزٌ
سَوَاءً رضي بِهِ الْمَمْلُوكُ أو لَا وَلَا يَجُوزُ إنْكَاحُ الْمُكَاتَبِ
وَالْمُكَاتَبَةِ إلَّا بِرِضَاهُمَا أَمَّا إنْكَاحُ الْأَمَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ
وَأُمِّ الْوَلَدِ فَلَا خِلَافَ في جَوَازِهِ صَغِيرَةً كانت أو كَبِيرَةً
وَأَمَّا إنْكَاحُ الْعَبْدِ فَإِنْ كان صَغِيرًا يَجُوزُ وَإِنْ كان كَبِيرًا
فَقَدْ ذُكِرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ من غَيْرِ رِضَاهُ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِرِضَاهُ وَبِهِ أخد ( ( (
أخذ ) ) ) الشَّافِعِيُّ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِ الْعَبْدِ لم تَدْخُلْ تَحْتَ
مِلْكِ الْمَوْلَى بَلْ هو أَجْنَبِيٌّ عنها وَالْإِنْسَانُ لَا يَمْلِكُ
التَّصَرُّفَ في مِلْكِ غَيْرِهِ من غَيْرِ رِضَاهُ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ
إنْكَاحَ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ بِخِلَافِ الْأَمَةِ لِأَنَّ مَنَافِعَ
بُضْعِهَا مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى وَلِأَنَّ نِكَاحَ الْمُكْرَهِ لَا يَنْفُذُ ما
وُضِعَ له من الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ منه لِأَنَّ حُصُولَهَا بِالدَّوَامِ
على النِّكَاحِ وَالْقَرَارِ عليه وَنِكَاحُ الْمُكْرَهِ لَا يَدُومُ بَلْ
يُزِيلُهُ الْعَبْدُ بِالطَّلَاقِ فَلَا يُفِيدُ فَائِدَةً
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ من عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى الْمَوَالِيَ بِإِنْكَاحِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ مُطْلَقًا عن شَرْطِ
الرِّضَا فَمَنْ شَرَطَهُ يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ وَلِأَنَّ إنْكَاحَ
الْمَمْلُوكِ من الْمَوْلَى تَصَرُّفٌ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ
تَرْجِعُ إلَيْهِ فإن الْوَلَدَ في إنْكَاحِ الْأَمَةِ له وَكَذَا في إنْكَاحِ
أَمَتِهِ من عَبْدِهِ وَمَنْفَعَةَ الْعَقْدِ عن الزِّنَا الذي يُوجِبُ نُقْصَانَ
مَالِيَّةِ مَمْلُوكِهِ حَصَلَ له أَيْضًا فَكَانَ هذا الْإِنْكَاحُ تَصَرُّفًا
لِنَفْسِهِ وَمَنْ تَصَرَّفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ يَنْفُذُ
____________________
(2/237)
وَلَا
يُشْتَرَطُ فيه رِضَا الْمُتَصَرَّفِ فيه كما في الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ
وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مِلْكُهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ
مُطْلَقًا لِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلِكُلِّ مَالِكٍ
وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ في مِلْكِهِ إذَا كان التَّصَرُّفُ مَصْلَحَةً وَإِنْكَاحُ
الْعَبْدِ مَصْلَحَةٌ في حَقِّهِ لِمَا فيه من صِيَانَةِ مِلْكِهِ عن النُّقْصَانِ
بِوَاسِطَةِ الصِّيَانَةِ عن الزِّنَا
وَقَوْلُهُ مَنَافِعُ الْبُضْعِ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِسَيِّدِهِ مَمْنُوعٌ بَلْ
هِيَ مَمْلُوكَةٌ إلَّا أَنَّ مَوْلَاهَا إذَا كانت أَمَةً مُنِعَتْ من
اسْتِيفَائِهَا لِمَا فيه من الْفَسَادِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ
كَالْجَارِيَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْأُخْتِ من الرَّضَاعَةِ أَنَّهُ يُمْنَعُ
الْمَوْلَى من الِاسْتِمْتَاعِ بِهِمَا مع قِيَامِ الْمِلْكِ كَذَا هذا
وَالْمِلْكُ الْمُطْلَقُ لم يُوجَدْ في الْمُكَاتَبِ لِزَوَالِ مِلْكِ الْيَدِ
بِالْكِتَابَةِ حتى كان أَحَقَّ بِالْكِتَابَةِ وَلِهَذَا لم يَدْخُلْ تَحْتَ
مُطْلَقِ اسْمِ الْمَمْلُوكِ في قَوْلِهِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لي فَهُوَ حُرٌّ إلَّا
بِالنِّيَّةِ فَقِيَامُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ إنْ اقْتَضَى ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ
فَانْعِدَامُ مِلْكِ الْيَدِ يَمْنَعُ من الثُّبُوتِ فَلَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ
بِالشَّكِّ وَلِأَنَّ في التَّزْوِيجِ من غَيْرِ رِضَا الْمُكَاتَبِ ضَرَرًا
لِأَنَّ الْمَوْلَى بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ جَعَلَهُ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ
لِيَتَوَصَّلَ بها إلَى شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ فَالتَّزْوِيجُ من غَيْرِ رِضَاهُ
يُوجِبُ تَعَلَّقَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ بِكَسْبِهِ فَلَا يَصِلُ إلَى الْحُرِّيَّةِ
فَيَتَضَرَّرُ بِهِ بِشَرْطِ رِضَاهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عنه
وَقَوْلُهُ لَا فَائِدَةَ في هذا النِّكَاحِ مَمْنُوعٌ فإن في طَبْعِ كل فَحْلٍ
التَّوَقَانُ إلَى النِّسَاءِ فَالظَّاهِرُ هو قَضَاءُ الشَّهْوَةِ خُصُوصًا
عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ وهو الْحُرْمَةُ وَكَذَا الظَّاهِرُ من حَالِ الْعَبْدِ
الِامْتِنَاعُ من بَعْضِ تَصَرُّفِ الْمَوْلَى احْتِرَامًا له فَيَبْقَى
النِّكَاحُ فَيُفِيدُ فَائِدَةً تَامَّةً وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْقَرَابَةِ فَسَبَبُ ثُبُوتِهَا هو أَصْلُ الْقَرَابَةِ وَذَاتُهَا
لَا كَمَالُ الْقُرْبَةِ وَإِنَّمَا الْكَمَالُ شَرْطُ التَّقَدُّمِ على ما
نَذْكُرُ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ السَّبَبُ هو الْقَرَابَةُ الْقَرِيبَةُ وَهِيَ قَرَابَةُ
الْوِلَادِ وَعَلَى هذا يبني أَنَّ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ كَالْأَخِ
وَالْعَمِّ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ عِنْدَنَا خِلَافًا له
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا
تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حتى تُسْتَأْمَرَ
وَحَقِيقَةُ اسْمِ الْيَتِيمَةِ لِلصَّغِيرَةِ لُغَةً قال النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم لَا يُتْمَ بَعْدَ الْحُلُمِ نهى صلى اللَّهُ عليه وسلم عن إنْكَاحِ
الْيَتِيمَةِ وَمَدَّهُ إلَى غَايَةِ الِاسْتِئْمَارِ وَلَا تَصِيرُ أَهْلًا
لِلِاسْتِئْمَارِ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيَتَضَمَّنُ الْبُلُوغَ كَأَنَّهُ قال
صلى اللَّهُ عليه وسلم حتى تَبْلُغَ وَتُسْتَأْمَرَ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ
إضرارا ( ( ( إضرار ) ) ) في جَانِبِ النِّسَاءِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى في مِثْلِهِ إنْكَاحَ الْبِنْتِ الْبَالِغَةِ وَمِثْلُ هذا التَّصَرُّفِ
لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْمَوْلَى كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْهِبَةِ
وَغَيْرِهِمَا إلَّا أَنَّهُ تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ
بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لِكَمَالِ شَفَقَتِهِمَا وَشَفَقَةُ غَيْرِ الْأَبِ
وَالْجَدِّ قَاصِرَةٌ وقد ظَهَرَ أَثَرُ الْقُصُورِ في سَلْبِ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ
في الْحَالِ بِالْإِجْمَاعِ وَسَلْبِ وِلَايَةِ اللُّزُومِ عِنْدَكُمْ فَتَعَذَّرَ
الالحاق
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } هذا خِطَابٌ
لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ بنى على قَوْله تَعَالَى { وَتُوبُوا إلَى
اللَّهِ جميعا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ثُمَّ خُصَّ منه
الْأَجَانِبُ فَبَقِيَتْ الْأَقَارِبُ تَحْتَهُ إلَّا من خُصَّ بِدَلِيلٍ
وَلِأَنَّ سَبَبَ وِلَايَةِ التَّنْفِيذِ في الْأَبِ وَالْجَدِّ هو مُطْلَقُ
الْقَرَابَةِ لَا الْقَرَابَةُ الْقَرِيبَةُ وَإِنَّمَا قُرْبُ الْقَرَابَةِ
سَبَبُ زِيَادَةِ الْوِلَايَةِ وَهِيَ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ لِأَنَّ مُطْلَقَ
الْقَرَابَةِ حَاصِلٌ على أَصْلِ الشَّفَقَةِ أَعْنِي بِهِ شَفَقَةً زَائِدَةً على
شَفَقَةِ الْجِنْسِ وَشَفَقَةِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ دَاعِيَةٌ إلَى تَحْصِيلِ
النَّظَرِ في حَقِّ الْمُوَلَّى عليه وَشَرْطُهَا عَجْزُ الملوى ( ( ( المولى ) )
) عليه عن تَحْصِيلِ النَّظَرِ بِنَفْسِهِ مع حَاجَتِهِ إلَى التَّحْصِيلِ لِأَنَّ
مَصَالِحَ النِّكَاحِ مُضَمَّنَةٌ تَحْتَ الْكَفَاءَةِ وَالْكُفْءُ عَزِيزُ الْوُجُودِ
فَيُحْتَاجُ إلَى إحْرَازِهِ لِلْحَالِ لِاسْتِيفَاءِ مَصَالِحِ النِّكَاحِ بَعْدَ
الْبُلُوغِ وَفَائِدَتُهَا وُقُوعُهَا وَسِيلَةً إلَى ما وُضِعَ النِّكَاحُ له
وَكُلُّ ذلك مَوْجُودٌ في إنْكَاحِ الْأَخِ وَالْعَمِّ فَيَنْفُذُ إلَّا أَنَّهُ
لم يَلْزَمْ تَصَرُّفه لِانْعِدَامِ شَرْطِ اللُّزُومِ وهو قُرْبُ الْقَرَابَةِ
ولم تَثْبُتْ له وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ في الْمَالِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ
لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْقَوْلِ بِاللُّزُومِ لِأَنَّ قَرَابَةَ غَيْرِ
الْأَبِ وَالْجَدِّ لَيْسَتْ بِمُلْزِمَةٍ وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّوَلِّي
بِالنَّفَاذِ بِدُونِ اللُّزُومِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إذْ الْمَقْصُودُ من
التَّصَرُّفِ في الْمَالِ وهو الرِّبْحُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِتَكْرَارِ
التِّجَارَةِ وَلَا يَحْصُلُ ذلك مع عَدَمِ اللُّزُومِ لِأَنَّهُ إذَا اشْتَرَى
شيئا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُمْسِكَهُ إلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ فَلَا يَحْصُلُ
الْمَقْصُودُ فَسَقَطَتْ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ في الْمَالِ بِطَرِيقِ
الضَّرُورَةِ وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ في وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ
فَثَبَتَتْ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ منه الْيَتِيمَةُ الْبَالِغَةُ بِدَلَالَةِ
الِاسْتِئْمَارِ وَهَذَا وَإِنْ كان مَجَازًا لَكِنْ فِيمَا ذَكَرَهُ
____________________
(2/238)
أَيْضًا
إضْمَارٌ فَوَقَعَتْ الْمُعَارَضَةُ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ أو نَحْمِلُهُ
على ما قُلْنَا تَوْفِيقًا بين الدَّلِيلَيْنِ صِيَانَةً لَهُمَا عن التَّنَاقُضِ
ثُمَّ إذَا زُوِّجَ الصَّغِيرُ أو الصَّغِيرَةُ فَلَهُمَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَا
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا خِيَارَ لَهُمَا
وَنَذْكُرُ المسئلة ( ( ( المسألة ) ) ) إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في شَرَائِطِ
اللُّزُومِ
وَأَمَّا شَرَائِطُ ثُبُوتِ هذه الْوِلَايَةِ فَنَوْعَانِ في الْأَصْلِ نَوْعٌ هو
شَرْطُ ثُبُوتِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ وَنَوْعٌ هو شَرْطُ التَّقَدُّمِ أَمَّا
شَرْطُ ثُبُوتِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
الْوَلِيِّ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوَلَّى عليه وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
نَفْسِ التَّصَرُّفِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْوَلِيِّ فَأَنْوَاعٌ منها عَقْلُ الْوَلِيِّ
وَمِنْهَا بُلُوغُهُ فَلَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِلْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ
لِأَنَّهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ الْوِلَايَةِ لِمَا ذَكَرْنَا في وِلَايَةِ
الْمِلْكِ وَلِهَذَا لم تَثْبُتْ لَهُمَا الْوِلَايَةُ على أَنْفُسِهِمَا مع
أَنَّهُمَا أَقْرَبُ إلَيْهِمَا فَلَأَنْ تَثْبُتَ على غَيْرِهِمَا أَوْلَى
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَرِثُ الْخُرُوجَ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ
الْوِلَايَةِ وَالْوِرَاثَةِ وَاحِدٌ وهو الْقَرَابَةُ وَكُلُّ من يَرِثُهُ يَلِي
عليه وَمَنْ لَا يَرِثُهُ لَا يَلِي عليه وَهَذَا يَطَّرِدُ على أَصْلِ أبي
حَنِيفَةَ خَاصَّةً وَيَنْعَكِسُ عِنْدَ الْكُلِّ فَيَخْرُجُ عليه مَسَائِلُ
فَنَقُولُ لَا وِلَايَةَ لِلْمَمْلُوكِ على أَحَدٍ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ أَحَدًا
وَلِأَنَّ الْمَمْلُوكَ ليس من أَهْلِ الْوِلَايَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ له على نَفْسِهِ وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ تنبىء
عن الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ كَيْفَ يَكُونُ مَالِكًا وَمَمْلُوكًا
في زَمَانٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ هذه وِلَايَةُ نَظَرٍ وَمَصْلَحَةٍ وَمَصَالِحُ
النِّكَاحِ لَا يُتَوَقَّفُ عليها إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ
وَالْمَمْلُوكُ لِاشْتِغَالِهِ بِخِدْمَةِ مَوْلَاهُ لَا يَتَفَرَّغُ
لِلتَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ فَلَا يَعْرِفُ كَوْنَ إنْكَاحِهِ مَصْلَحَةً
وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
وَلَا وِلَايَةَ لِلْمُرْتَدِّ على أَحَدٍ لَا على مُسْلِمٍ وَلَا على كَافِرٍ
وَلَا على مُرْتَدٍّ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ أَحَدًا وَلِأَنَّهُ لَا
وِلَايَةَ له على نَفْسِهِ حتى لَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ أَحَدًا لَا مُسْلِمًا وَلَا
كَافِرًا وَلَا مُرْتَدًّا مثله فَلَا يَكُونُ له وِلَايَةٌ على غَيْرِهِ وَلَا
وِلَايَةَ لِلْكَافِرِ على الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ لَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا قال
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شيئا وَلِأَنَّ
الْكَافِرَ ليس من أَهْلِ الْوِلَايَةِ على الْمُسْلِمِ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَطَعَ
وِلَايَةَ الْكَافِرِ على الْمُسْلِمِينَ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَلَنْ يَجْعَلَ
اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ على الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم
الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى وَلِأَنَّ اثبات الْوِلَايَةِ لِلْكَافِرِ على
الْمُسْلِمِ تُشْعِرُ بِإِذْلَالِ الْمُسْلِمِ من جِهَةِ الْكَافِرِ وَهَذَا لَا
يَجُوزُ وَلِهَذَا صِينَتْ الْمُسْلِمَةُ عن نِكَاحِ الْكَافِرِ
وَكَذَلِكَ ان كان الْوَلِيُّ مُسْلِمًا وَالْمُوَلَّى عليه كَافِرًا فَلَا
وِلَايَةَ له عليه لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ كما أَنَّ
الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ
الْمُؤْمِنَ إلَّا أَنَّ وَلَدَ الْمُرْتَدِّ إذَا كان مُؤْمِنًا صَارَ مَخْصُوصًا
عن النَّصِّ
وَأَمَّا اسلام الولى فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ في الْجُمْلَةِ
فَيَلِي الْكَافِرُ على الْكَافِرِ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يَقْدَحُ في الشَّفَقَةِ
الْبَاعِثَةِ عن تَحْصِيلِ النَّظَرِ في حَقِّ الْمُوَلَّى عليه وَلَا في
الْوِرَاثَةِ فإن الْكَافِرَ يَرِثُ الْكَافِرَ وَلِهَذَا كان من أَهْلِ
الْوِلَايَةِ على نَفْسِهِ فَكَذَا على غَيْرِهِ
وقال الله عز وجل { والذين ( ( ( الذين ) ) ) كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ } وَكَذَا الْعَدَالَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عِنْدَ
أَصْحَابَنَا وَلِلْفَاسِقِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ وَابْنَتَهُ الصَّغِيرَيْنِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ وَلَيْسَ لِلْفَاسِقِ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا
نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَالْمُرْشِدُ بِمَعْنَى الرَّشِيدِ
كَالْمُصْلِحِ بِمَعْنَى الصَّالِحِ وَالْفَاسِقُ ليس بِرَشِيدٍ وَلِأَنَّ
الْوِلَايَةَ من بَابِ الْكَرَامَةِ وَالْفِسْقُ سَبَبُ الْإِهَانَةِ وَلِهَذَا لم
أَقْبَلْ شَهَادَتَهُ
وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ }
وَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم زَوِّجُوا بَنَاتِكُمْ الْأَكْفَاءَ من غَيْرِ
فَصْلٍ
وَلَنَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَيْضًا فإن الناس عن آخِرِهِمْ عَامَّهُمْ
وَخَاصَّهُمْ من لَدُنْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا
يُزَوِّجُونَ بَنَاتَهمْ من غَيْرِ نَكِيرٍ من أَحَدٍ خُصُوصًا الْأَعْرَابُ
وَالْأَكْرَادُ وَالْأَتْرَاكُ
وَلِأَنَّ هذه وِلَايَةُ نَظَرٍ وَالْفِسْقُ لَا يَقْدَحُ في الْقُدْرَةِ على
تَحْصِيلِ النَّظَرِ وَلَا في الدَّاعِي إلَيْهِ وهو الشَّفَقَةُ وَكَذَا لَا
يَقْدَحُ في الْوِرَاثَةِ فَلَا يَقْدَحُ في الْوِلَايَةِ كَالْعَدْلِ وَلِأَنَّ
الْفَاسِقَ من أَهْلِ الْوِلَايَةِ على نَفْسِهِ فَيَكُونُ من أَهْلِ الْوِلَايَةِ
على غَيْرِهِ كَالْعَدْلِ وَلِهَذَا قَبِلْنَا شَهَادَتَهُ وَلِأَنَّهُ من أَهْلِ
أَحَدِ نَوْعِيِّ الْوِلَايَةِ وهو وِلَايَةُ الْمِلْكِ حتى يُزَوِّجَ أَمَتَهُ
فَيَكُونُ من أَهْلِ النَّوْعِ الْآخَرِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ إنه لم
يَثْبُتْ بِدُونِ هذه الزِّيَادَةِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ مع الزِّيَادَةِ وَلَوْ
ثَبَتَ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ وَالْفَاسِقُ مُرْشِدٌ لِأَنَّهُ يُرْشِدُ غَيْرَهُ
لِوُجُودِ آلَةِ الْإِرْشَادِ وهو الْعَقْلُ فَكَانَ هذا نَفْيُ
____________________
(2/239)
الْوِلَايَةِ
لِلْمَجْنُونِ وَبِهِ نَقُولُ إنَّ الْمَجْنُونَ لَا يَصْلُحُ وَلِيًّا
وَالْمَحْدُودُ في الْقَذْفِ إذَا تَابَ فَلَهُ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ بِلَا
خِلَافٍ لِأَنَّهُ إذَا تَابَ فَقَدْ صَارَ عَدْلًا وَإِنْ لم يَثْبُتْ فَهُوَ على
الِاخْتِلَافِ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا كَوْنُ الْمَوْلَى من الْعَصَبَاتِ فَهَلْ هو شَرْطُ ثُبُوتِ
الْوِلَايَةِ أَمْ لَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ جُمْلَةُ الْكَلَامِ
فيه أَنَّهُ لَا خِلَافَ في أَنَّ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ
إلَّا شَيْءٌ يُحْكَى عن عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَابْنِ شُبْرُمَةَ أَنَّهُمَا
قَالَا ليس لَهُمَا وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن حُكْمَ النِّكَاحِ إذَا ثَبَتَ لَا يَقْتَصِرُ على حَالِ
الصِّغَرِ بَلْ يَدُومُ وَيَبْقَى إلَى ما بَعْدَ الْبُلُوغِ إلَى أَنْ يُوجَدَ ما
يُبْطِلُهُ وفي هذا ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ على الْبَالِغَةِ وَلِأَنَّهُ اسْتَبَدَّ
أو كَأَنَّهُ أَنْشَأَ الْإِنْكَاحَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } والايم اسْمٌ
لِأُنْثَى من بَنَاتِ آدَمَ عليه الصلام وَالسَّلَامُ كَبِيرَةً كانت أو صَغِيرَةً
لَا زَوْجَ لها وَكَلِمَةُ ( من ) إنْ كانت لِلتَّبْعِيضِ يَكُونُ هذا خِطَابًا
لِلْآبَاءِ وَإِنْ كانت لِلتَّجْنِيسِ يَكُونُ خِطَابًا لِجِنْسِ الْمُؤْمِنِينَ
وَعُمُومُ الْخِطَابِ يَتَنَاوَلُ الْأَبَ وَالْجَدَّ وَأَنْكَحَ الصِّدِّيقُ رضي
اللَّهُ عنه عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ من رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَتَزَوَّجَهَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَزَوَّجَ عَلِيٌّ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومَ وَهِيَ صَغِيرَةٌ من عُمَرَ بن الْخَطَّاب
رضي اللَّهُ عنه وَزَوَّجَ عبد اللَّهِ بن عُمَرَ ابْنَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ
عُرْوَةَ بن الزُّبَيْرِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُمَا
خَرَجَ مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وكان مَرْدُودًا
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا أن حُكْمَ النِّكَاحِ بَقِيَ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَنَعَمْ
وَلَكِنْ بِالْإِنْكَاحِ السَّابِقِ لَا بِإِنْكَاحٍ مُبْتَدَأٍ بَعْدَ الْبُلُوغِ
وَهَذَا جَائِزٌ كما في الْبَيْعِ فإن لَهُمَا وِلَايَةَ بَيْعِ مَالِ الصَّغِيرِ
وَإِنْ كان حُكْمُ الْبَيْعِ وهو الْمِلْكُ يَبْقَى بَعْدَ الْبُلُوغِ لِمَا
قُلْنَا كَذَا هذا وَلِلْأَبِ قَبْضُ صَدَاقِ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ صَغِيرَةً كانت
أو بالغه وَيَبْرَأُ الزَّوْجُ بِقَبْضِهِ
أَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّ له وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ في
مَالِهَا
وَأَمَّا الْبَالِغَةُ فَلِأَنَّهَا تَسْتَحِي من الْمُطَالَبَةِ بِهِ بِنَفْسِهَا
كما تَسْتَحِي عن التَّكَلُّمِ بِالنِّكَاحِ فَجُعِلَ سُكُوتُهَا رِضًا بِقَبْضِ
الْأَبِ كما جُعِلَ رِضًا بِالنِّكَاحِ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أنها تَرْضَى
بِقَبْضِ الْأَبِ لِأَنَّهُ يَقْبِضُ مَهْرَهَا فَيَضُمُّ إلَيْهِ أَمْثَالَهُ
فَيُجَهِّزُهَا بِهِ هذا هو الظَّاهِرُ فَكَانَ مَأْذُونًا بِالْقَبْضِ من
جِهَتهَا دَلَالَةً حتى لو نَهَتْهُ عن الْقَبْضِ لَا يَتَمَلَّكُ الْقَبْضَ وَلَا
يَبْرَأُ الزَّوْجُ وَكَذَا الْجَدُّ يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ
وَإِنْ كانت ابْنَتُهُ عَاقِلَةً وَهِيَ ثَيِّبٌ فَالْقَبْضُ إلَيْهَا لَا إلَى
الْأَبِ وَيَبْرَأُ الزَّوْجُ بِدَفْعِهِ إلَيْهَا وَلَا يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ
إلَى الْأَبِ وما سِوَى الْأَبِ وَالْجَدِّ من الْأَوْلِيَاءِ ليس لهم وِلَايَةُ
الْقَبْضِ سَوَاءً كانت صَغِيرَةً أو كَبِيرَةً إلَّا إذَا كان الْوَلِيَّ وهو
الْوَصِيَّ فَلَهُ حَقُّ الْقَبْضِ إذَا كانت صَغِيرَةً كما يَقْبِضُ سَائِرَ
دُيُونِهَا وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ حَقُّ الْقَبْضِ إلَّا إذَا كانت صَغِيرَةً
وإذا ضَمِنَ الْوَلِيُّ الْمَهْرَ صَحَّ ضَمَانُهُ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَا
تَتَعَلَّقُ بِهِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا
ضَمِنَ عن الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ وَلِلْمَرْأَةِ الْخِيَارُ في مُطَالَبَةِ
زَوْجِهَا أو وَلِيِّهَا لِوُجُودِ ثُبُوتِ سَبَبِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ من كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا وهو الْعَقْدُ من الزَّوْجِ وَالضَّمَانُ من الْوَلِيِّ وَلَا
خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا في أَنَّ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ من الْعَصَبَاتِ
وِلَايَةُ الانكاح وَالْأَقْرَبُ فالأفرب ( ( ( فالأقرب ) ) ) على تَرْتِيبِ
الْعَصَبَاتِ في الْمِيرَاثِ وَاخْتَلَفُوا في غَيْرِ الْعَصَبَاتِ
قال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَجُوزُ إنْكَاحُهُ حتى لو لم يَتَوَارَثَا
بِذَلِكَ النِّكَاحِ وَيَقِفُ على إجَازَةِ الْعَصَبَةِ
وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ فيه رِوَايَتَانِ وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى ما ذَكَرْنَا أَنَّ
عُصُوبَةَ الْوَلِيِّ هل هِيَ شَرْطٌ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ مع اتِّفَاقِهِمْ على
أنها شَرْطُ التَّقْدِيمِ فَعِنْدَهُمَا هِيَ شَرْطُ ثُبُوتِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ
وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عن أبي حَنِيفَةُ فإنه روي عنه أَنَّهُ قال لَا
يُزَوِّجُ الصَّغِيرَةَ إلَّا الْعَصَبَةُ
وَرَوَى أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ عن أبي حَنِيفَةَ أنها لَيْسَتْ بِشَرْطٍ
لِثُبُوتِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطُ التَّقَدُّمِ على قَرَابَةِ
الرَّحِمِ حتى أَنَّهُ إذَا كان هُنَاكَ عَصَبَةٌ لَا تَثْبُتُ لِغَيْرِ
الْعَصَبَةِ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ وَإِنْ لم يَكُنْ ثَمَّةَ عَصَبَةٍ فَلِغَيْرِ
الْعَصَبَةِ من الْقَرَابَاتِ من الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ نحو الْأُمِّ
وَالْأُخْتِ وَالْخَالَةِ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ إذَا
كان الْمُزَوِّجُ مِمَّنْ يَرِثُ الْمُزَوَّجَ وهو الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عن
أبي حَنِيفَةَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال النِّكَاحُ
إلَى الْعَصَبَاتِ فَوَّضَ كُلَّ نِكَاحٍ إلَى كُلّ عَصَبَةٍ لِأَنَّهُ قَابَلَ
الْجِنْسَ بِالْجِنْسِ أو بِالْجَمْعِ فَيَقْتَضِي مُقَابَلَةَ الْفَرْدِ بِالْفَرْدِ
وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في الْوِلَايَةِ هُمْ الْعَصَبَاتُ فَإِنْ كان الرَّأْيُ
وَتَدْبِيرُ الْقَبِيلَةِ وَصِيَانَتُهَا عَمَّا يُوجِبُ الْعَارَ وَالشَّيْنَ
إلَيْهِمْ فَكَانُوا هُمْ الَّذِينَ يَحْرُزُونَ عن ذلك بِالنَّظَرِ
وَالتَّأَمُّلِ في أَمْرِ النِّكَاحِ فَكَانُوا هُمْ الْمُحِقِّينَ بِالْوِلَايَةِ
وَلِهَذَا كانت قَرَابَةُ التَّعْصِيبِ مُقَدَّمَةً على قَرَابَةِ الرَّحِمِ
بِالْإِجْمَاعِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ }
____________________
(2/240)
من
غَيْرِ فَصْلٍ بين الْعَصَبَاتِ وَغَيْرِهِمْ فَتَثْبُتُ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ
على الْعُمُومِ إلَّا من خُصَّ بِدَلِيلٍ لأن سَبَبَ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ هو
مُطْلَقُ الْقَرَابَةِ وَذَاتُهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَرَابَةَ حَامِلَةٌ
على الشَّفَقَةِ في حَقِّ الْقَرِيبِ دَاعِيَةٌ إلَيْهَا وقد وُجِدَ هَهُنَا
فَوُجِدَ السَّبَبُ وَوُجِدَ شَرْطُ الثُّبُوتِ أَيْضًا وهو عَجْزُ الْمُوَلَّى
عليه عن الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا الْعُصُوبَةُ وَقُرْبُ الْقَرَابَةِ
شَرْطُ التَّقَدُّمِ لَا شَرْطُ ثُبُوتِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ فَلَا جَرَمَ
الْعُصْبَةُ تَتَقَدَّمُ على ذِي الرَّحِمِ وَالْأَقْرَبُ من غَيْرِ الْعَصَبَةِ
يَتَقَدَّمُ على الْأَبْعَدِ وَلِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ مُرَتَّبَةٌ على
اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ لِاتِّحَادِ سَبَبِ ثُبُوتِهَا وهو الْقَرَابَةُ فَكُلُّ
من اسْتَحَقَّ من الْمِيرَاثِ اسْتَحَقَّ الْوِلَايَةَ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ إذَا كان عَبْدًا لَا وِلَايَةَ له لِأَنَّ الْعَبْدَ
لَا يَرِثُ أَحَدًا وَكَذَا إذَا كان كَافِرًا وَالْمُوَلَّى عليه مُسْلِمٌ لَا
وِلَايَةَ له لِأَنَّهُ لَا يَرِثُهُ وَكَذَا إذَا كان مُسْلِمًا وَالْمُوَلَّى
عليه كَافِرٌ لَا وِلَايَةَ له لِأَنَّهُ لَا مِيرَاثَ له منه
فَثَبَتَ أَنَّ الْوِلَايَةَ تَدُورُ مع اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ فَثَبَتَ
لِكُلِّ قَرِيبٍ يَرِثُ يُزَوِّجُ وَلَا يَلْزَمُ على هذه الْقَاعِدَةِ الْمَوْلَى
أَنَّهُ يُزَوِّجُ وَلَا يَرِثُ
وَكَذَا الْإِمَامُ يُزَوِّجُ وَلَا يَرِثُ لِأَنَّ هذا عَكْسُ الْعِلَّةِ لِأَنَّ
طَرْدَ ما قُلْنَا أن كُلَّ من يَرِثُ يُزَوِّجُ
وَهَذَا مُطَّرِدٌ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ عكسه ( ( ( وعكسه ) ) ) أَنَّ كُلَّ
من لَا يَرِثُ لَا يُزَوِّجُ
وَالشَّرْطُ في الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ الإطراد دُونَ الِانْعِكَاسِ لِجَوَازِ
إثْبَاتِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِعِلَلٍ ثُمَّ نَقُولُ ما قُلْنَاهُ مُنْعَكِسٌ
أَيْضًا أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمَوْلَى الْوَلَاءُ في مَمْلُوكِهِ وهو نَوْعُ
إرْثٍ
وَأَمَّا الْإِمَامُ فَهُوَ نَائِبٌ عن جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ يَرِثُونَ
من لَا وَلِيَّ له من جِهَةِ الْمِلْكِ وَالْقَرَابَةِ وَالْوَلَاءِ أَلَا تَرَى
أَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَبَيْتُ الْمَالِ ما لهم فَكَانَتْ
الْوِلَايَةُ في الْحَقِيقَةِ لهم وَإِنَّمَا الْإِمَامُ نَائِبٌ عَنْهُمْ
فَيَتَزَوَّجُونَ وَيَرِثُونَ أَيْضًا فَاطَّرَدَ هذا الْأَصْلُ وَانْعَكَسَ
بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى
وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه النِّكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ
فَالْمُرَادُ منه حَالَ وُجُودِ الْعَصَبَةِ لِاسْتِحَالَةِ تَفْوِيضِ النِّكَاحِ
إلَى الْعَصَبَةِ وَلَا عَصَبَةَ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ إنَّ النِّكَاحَ إلَى
الْعَصَبَاتِ حَالَ وُجُودِ الْعَصَبَةِ وَلَا كَلَامَ فيه وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُوَلَّى عليه فَنَقُولُ الْوِلَايَةُ
بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُوَلَّى عليه نَوْعَانِ وِلَايَةُ حَتْمٍ وَإِيجَابٍ
وَوِلَايَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ وَهَذَا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَأَمَّا على أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَهِيَ نَوْعَانِ أَيْضًا
وِلَايَةُ اسْتِبْدَادٍ وَوِلَايَةُ شَرِكَةٍ وَهِيَ قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْآخَرُ
وَكَذَا نُقُولُ الشَّافِعِيِّ إلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ في كَيْفِيَّةِ
الشَّرِكَةِ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحَتْمِ وَالْإِيجَابِ وَالِاسْتِبْدَادِ فَشَرْطُ ثُبُوتِهَا
على أَصْلِ أَصْحَابِنَا كَوْنُ الْمُوَلَّى عليه صَغِيرًا أو صَغِيرَةً أو
مَجْنُونًا كَبِيرًا أو مَجْنُونَةً كَبِيرَةً سَوَاءً كانت الصَّغِيرَةُ بِكْرًا
أو ثَيِّبًا فَلَا تَثْبُتُ هذه الْوِلَايَةُ على الْبَالِغِ الْعَاقِلِ وَلَا على
الْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ وَعَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ شَرْطُ ثُبُوتِ وِلَايَةِ
الِاسْتِبْدَادِ في الْغُلَامِ هو الصِّغَرُ وفي الْجَارِيَةِ الْبَكَارَةُ
سَوَاءً كانت صَغِيرَةً أو بَالِغَةً فَلَا تَثْبُتُ هذه الْوِلَايَةُ عِنْدَهُ
على الثَّيِّبِ سَوَاءً كانت بَالِغَةً أو صَغِيرَةً وَالْأَصْلُ أَنَّ هذه
الْوِلَايَةَ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا تَدُورُ مع الصِّغَرِ وُجُودًا وَعَدَمًا في
الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ وَعِنْدَهُ في الصَّغِيرِ كَذَلِكَ أَمَّا في
الصَّغِيرَةِ فَإِنَّهَا تَدُورُ مع الْبَكَارَةِ وُجُودًا وَعَدَمًا وفي الْكَبِيرِ
وَالْكَبِيرَةِ تَدُورُ مع الْجُنُونِ وُجُودًا وَعَدَمًا سَوَاءً كان الْجُنُونُ
أَصْلِيًّا بِأَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا أو عَارِضًا بِأَنْ طَرَأَ بَعْدَ الْبُلُوغِ
عِنْدَنَا
وقال زُفَرُ إذَا طَرَأَ الْجُنُونُ لم يَجُزْ للمولي التَّزْوِيجُ وَعَلَى هذا يبتني
أَنَّ الْأَبَ وَالْجَدَّ لَا يَمْلِكَانِ إنْكَاحَ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ
بِغَيْرِ رِضَاهَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ يَمْلِكَانِهِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ
إنْكَاحَ الثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْبِكْرَ وَإِنْ كان عَاقِلَةً بَالِغَةً فَلَا تَعْلَمُ
بِمَصَالِحِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بها يَقِفُ على التَّجْرِبَةِ
____________________
(2/241)
وَالْمُمَارَسَةِ
وَذَلِكَ بِالثِّيَابَةِ ولم تُوجَدْ فَالْتَحَقَتْ بِالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ
فَبَقِيَتْ وِلَايَةُ الِاسْتِبْدَادِ عليها وَلِهَذَا مَلَكَ الْأَبُ قَبْضَ
صَدَاقِهَا من غَيْرِ رِضَاهَا بِخِلَافِ الثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ لِأَنَّهَا
عَلِمَتْ بِمَصَالِحِ النِّكَاحِ وَبِالْمُمَارَسَةِ وَمُصَاحَبَةِ الرِّجَالِ
فَانْقَطَعَتْ وِلَايَةُ الِاسْتِبْدَادِ عنها
وَلَنَا أَنَّ الثَّيِّبَ الْبَالِغَةَ لَا تُزَوَّجُ إلَّا بِرِضَاهَا فَكَذَا
الْبِكْرُ الْبَالِغَةُ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا طَرِيقُ
أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ
وَالثَّانِي طَرِيقُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ
أَمَّا طَرِيقُ أبي حَنِيفَةَ فَهُوَ أَنَّ وِلَايَةَ الْحَتْمِ وَالْإِيجَابِ في
حَالَةِ الصِّغَرِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عن الصَّغِيرَةِ
لِعَجْزِهَا عن التَّصَرُّفِ على وَجْهِ النَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ بِنَفْسِهَا
وَبِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ زَالَ الْعَجْزُ وَثَبَتَتْ الْقُدْرَةُ حَقِيقَةً
وَلِهَذَا صَارَتْ من أَهْلِ الْخِطَابِ في أَحْكَامِ الشَّرْعِ إلَّا أنها مع
قُدْرَتِهَا حَقِيقَةً عَاجِزَةٌ عن مُبَاشَرَةِ النِّكَاحِ عَجْزَ نَدْبٍ
وَاسْتِحْبَابٍ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ إلَى مَحَافِلِ الرِّجَالِ
وَالْمَرْأَةُ مُخَدَّرَةٌ مَسْتُورَةٌ وَالْخُرُوجُ إلَى مَحْفِلِ الرِّجَالِ من
النِّسَاءِ عَيْبٌ في الْعَادَةِ فَكَانَ عَجْزُهَا عَجْزَ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ
لَا حَقِيقَةٍ فَثَبَتَتْ الْوِلَايَةُ عليها على حَسَبِ الْعَجْزِ وَهِيَ
وِلَايَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ لَا وِلَايَةَ حَتْمٍ وَإِيجَابٍ إثْبَاتًا
لِلْحُكْمِ على قَدْرِ الْعِلَّةِ
وَأَمَّا طَرِيقُ مُحَمَّدٍ فَهُوَ أَنَّ الثَّابِتَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وِلَايَةُ
الشَّرِكَةِ لَا وِلَايَةُ الِاسْتِبْدَادِ فَلَا بُدَّ من الرِّضَا كما في
الثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ على ما نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في
مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَإِنَّمَا مَلَكَ الْأَبُ قَبْضَ
صَدَاقِهَا لِوُجُودِ الرِّضَا بِذَلِكَ منها دَلَالَةً لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ
الْأَبَ يَضُمُّ إلَى الصَّدَاقِ من خَالِصِ مَالِهِ وَيُجَهَّزُ بِنْتَه
الْبِكْرَ حتى لو نَهَتْهُ عن الْقَبْضِ لَا يَمْلِكُ بِخِلَافِ الثَّيِّبِ فإن
الْعَادَةَ ما جَرَتْ بِتَكْرَارِ الْجِهَازِ وإذا كان الرِّضَا في نِكَاحِ
الْبَالِغَةِ شَرْطَ الْجَوَازِ فإذا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهَا تَوَقَّفَ
التَّزْوِيجُ على رِضَاهَا فَإِنْ رَضِيَتْ جَازَ وَإِنْ رَدَّتْ بَطَلَ ثُمَّ إنْ
كانت ثَيِّبًا فَرِضَاهَا يُعْرَفُ بِالْقَوْلِ تَارَةً وَبِالْفِعْلِ أُخْرَى
أَمَّا الْقَوْلُ فَهُوَ التَّنْصِيصُ على الرِّضَا وما يَجْرِي مَجْرَاهُ نحو
أَنْ تَقُولَ رَضِيت أو أَجَزْت وَنَحْوَ ذلك
وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم الثَّيِّبُ تُشَاوَرُ وَقَوْلُهُ
صلى اللَّهُ عليه وسلم الثَّيِّبُ يُعْرِبُ عنها لِسَانُهَا وَقَوْلُهُ صلى
اللَّهُ عليه وسلم تُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ في أَبْضَاعِهِنَّ
وَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حتى تُسْتَأْمَرَ
وَالْمُرَادُ منه الْبَالِغَةُ
وَأَمَّا الْفِعْلُ فَنَحْوُ التَّمْكِينِ من نَفْسِهَا وَالْمُطَالَبَةِ
بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ ذلك دَلِيلُ الرِّضَا وَالرِّضَا
يَثْبُتُ بِالنَّصِّ مَرَّةً وَبِالدَّلِيلِ أُخْرَى
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
لِبَرِيرَةَ إنْ وَطِئَك زَوْجُك فَلَا خِيَارَ لَك وَإِنْ كانت بِكْرًا فإن
رِضَاهَا يُعْرَفُ بِهَذَيْنِ الطَّرِيقِينَ وَبِثَالِثٍ وهو السُّكُوتُ وَهَذَا
اسْتِحْسَانٌ
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ سُكُوتُهَا رِضًا وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ
السُّكُوتَ يَحْتَمِلُ الرِّضَا وَيَحْتَمِلُ السَّخَطَ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلُ
الرِّضَا مع الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ وَلِهَذَا لم يُجْعَلْ دَلِيلًا إذَا كان
الْمُزَوِّجُ أَجْنَبِيًّا أو وَلِيًّا غَيْرَهُ أَوْلَى منه
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
تُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ في أَبْضَاعِهِنَّ فقالت عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها أن
الْبِكْرَ تَسْتَحِي يا رَسُولَ اللَّهِ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم إذْنُهَا
صُمَاتُهَا وروى سُكُوتُهَا رِضَاهَا وروى سُكُوتُهَا إقْرَارُهَا وَكُلُّ ذلك
نَصٌّ في الْبَابِ وَرُوِيَ الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ في نَفْسِهَا فَإِنْ سَكَتَتْ
فَقَدْ رَضِيَتْ وَهَذَا أَيْضًا نَصٌّ وَلِأَنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي عن
النُّطْقِ بِالْإِذْنِ في النِّكَاحِ لِمَا فيه من إظْهَارِ رَغْبَتِهَا في
الرِّجَالِ فَتُنْسَبُ إلَى الْوَقَاحَةِ فَلَوْ لم يُجْعَلْ سُكُوتُهَا إذْنًا
وَرِضًا بِالنِّكَاحِ دَلَالَةً وَشُرِطَ اسْتِنْطَاقُهَا وإنها لَا تَنْطِقُ
عَادَةً لَفَاتَتْ عليها مَصَالِحُ النِّكَاحِ مع حَاجَتِهَا إلَى ذلك وهذ لَا
يَجُوزُ وَقَوْلُهُ السُّكُوتُ يَحْتَمِلُ
مُسَلِّمٌ لَكِنْ تَرَجَّحَ جَانِبُ الرِّضَا على جَانِبِ السَّخَطِ لِأَنَّهَا لو
لم تَكُنْ رَاضِيَةً لَرَدَّتْ لِأَنَّهَا إنْ كانت تَسْتَحِي عن الأذن فَلَا
تَسْتَحِي عن الرَّدِّ فلما سَكَتَتْ ولم تَرُدَّ دَلَّ أنها رَاضِيَةٌ بِخِلَافِ
ما إذَا زَوَّجَهَا أَجْنَبِيٌّ أو وَلِيٌّ غَيْرُهُ أَوْلَى منه لِأَنَّ هُنَاكَ
ازْدَادَ احْتِمَالُ السَّخَطِ لِأَنَّهَا يُحْتَمَلُ أنها سَكَتَتْ عن جَوَابِهِ
مع أنها قَادِرَةٌ على الرَّدِّ تَحْقِيرًا له وَعَدَمَ الْمُبَالَاةِ بِكَلَامِهِ
وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ فَبَطَلَ رُجْحَانُ دَلِيلِ الرِّضَا
وَلِأَنَّهَا إنَّمَا تَسْتَحِي من الْأَوْلِيَاءِ لَا من الْأَجَانِبِ
وَالْأَبْعَدُ عِنْدَ قِيَامِ الْأَقْرَبِ وَحُضُورِهِ أَجْنَبِيٌّ فَكَانَتْ في حَقِّ
الْأَجَانِبِ كَالثَّيِّبِ فَلَا بُدَّ من فِعْلٍ أو قَوْلٍ يَدُلُّ عليه
وَلِأَنَّ الْمُزَوِّجَ إذَا كان أَجْنَبِيًّا وإذا كان
____________________
(2/242)
الْوَلِيُّ
الْأَبْعَدَ كان جَوَازُ النِّكَاحِ من طَرِيقِ الْوَكَالَةِ لَا من طَرِيقِ
الْوِلَايَةِ لِانْعِدَامِهَا وَالْوَكَالَةُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْقَوْلِ وإذا
كان وَلِيًّا فَالْجَوَازُ بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ فَلَا يُفْتَقَرُ إلَى
الْقَوْلِ وَلَوْ بَلَغَهَا النِّكَاحُ فَضَحِكَتْ كان إجَازَةً لِأَنَّ
الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَضْحَكُ مِمَّا يَسُرُّهُ فَكَانَ دَلِيلَ الرِّضَا وَلَوْ
بَكَتْ روى عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَكُونُ إجَازَةً وَرُوِيَ عنه رِوَايَةٌ
أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ إجَازَةً بَلْ يَكُونُ زدا ( ( ( ردا ) ) ) وهو
قَوْلُ مُحَمَّدٍ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْبُكَاءَ قد يَكُونُ لِلْحُزْنِ وقد
يَكُونُ لِشِدَّةِ الْفَرَحِ فَلَا يُجْعَلُ رَدًّا وَلَا إجَازَةً لِلتَّعَارُضِ
فَصَارَ كَأَنَّهَا سَكَتَتْ فَكَانَ رِضًا
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبُكَاءَ لَا
يَكُونُ إلَّا من حُزْنٍ عَادَةً فَكَانَ دَلِيلَ السَّخَطِ وَالْكَرَاهَةِ لَا
دَلِيلَ الْإِذْنِ وَالْإِجَازَةِ وَلَوْ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ كُلٌّ مِنْهُمَا
رَجُلًا فَبَلَغَهَا ذلك فَإِنْ أَجَازَتْ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ جَازَ الذي
أَجَازَتْهُ وَبَطَلَ الْآخَرُ وَإِنْ أَجَازَتْهُمَا بَطَلَا لِأَنَّ الْإِجَازَةَ
منها بِمَنْزِلَةِ الْإِنْشَاءِ كَأَنَّهَا تَزَوَّجَتْ بِزَوْجَيْنِ وَذَلِكَ
بَاطِلٌ كَذَا هذا
وَإِنْ سَكَتَتْ روى عن مُحَمَّدٍ أَنَّ ذلك لَا يَكُونُ رَدًّا وَلَا إجَازَةً
حتى تُجِيزَ أَحَدَهُمَا بِالْقَوْلِ أو بِفِعْلٍ يَدُلُّ على الْإِجَازَةِ وَرُوِيَ
عنه رِوَايَةٌ أُخْرَى أنها إذَا سَكَتَتْ بَطَلَ الْعَقْدَانِ جميعا
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ السُّكُوتَ من الْبِكْرِ كَالْإِجَازَةِ
فَكَأَنَّهَا أَجَازَتْ الْعَقْدَيْنِ جميعا وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ
هذا السُّكُوتَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ إجَازَةً لِأَنَّهُ لو جُعِلَ إجَازَةً
فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ إجَازَةً لِلْعَقْدَيْنِ جميعا وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ
إجَازَةً لِأَحَدِهِمَا لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ إنْشَاءَ
الْعَقْدَيْنِ جميعا مُمْتَنِعٌ فَامْتَنَعَتْ إجَازَتُهُمَا وَلَا سَبِيلَ إلَى
الثَّانِي لِأَنَّهُ ليس أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ بِأَوْلَى بِالْإِجَازَةِ من
الْآخَرِ فَالْتَحَقَ السُّكُوتُ بِالْعَدَمِ وَوَقَفَ الْأَمْرُ على الْإِجَازَةِ
بِقَوْلٍ أو بِفِعْلٍ يَدُلُّ على الْإِجَازَةِ لِأَحَدِهِمَا وَكَذَلِكَ إذَا
اُسْتُؤْمِرَتْ الْبِكْرُ فَسَكَتَتْ في الإبتداء فَهُوَ إذْنٌ إذَا كان
الْمُسْتَأْذِنُ وَلِيًّا لِمَا ذَكَرْنَا وَلِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ كان إذَا خُطِبَ إحْدَى بَنَاتِهِ دَنَا من خِدْرِهَا
وقال إنَّ فُلَانًا يَذْكُرُ فُلَانَةَ
ثُمَّ يُزَوِّجُهَا
فَدَلَّ أَنَّ السُّكُوتَ عِنْدَ اسْتِئْمَارِ الْوَلِيِّ إذْنٌ دَلَالَةً
وَقَالُوا في الْوَلِيِّ إذَا قال لِلْبِكْرِ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَك
فُلَانًا فقالت غَيْرَهُ أَوْلَى منه لم يَكُنْ ذلك إذْنًا وَلَوْ زَوَّجَهَا
ثُمَّ أَخْبَرَهَا فقالت قد كان غَيْرُهُ أَوْلَى منه كان إجَازَةً لِأَنَّ
قَوْلَهَا في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إظْهَارُ عَدَمِ الرِّضَا بِالتَّزْوِيجِ من
فُلَانٍ وَقَوْلَهَا في الْفَصْلِ الثَّانِي قَبُولٌ أو سُكُوتٌ عن الرَّدِّ
وَسُكُوتُ الْبِكْرِ عن الرَّدِّ يَكُونُ رِضًا
وَلَوْ قال الْوَلِيُّ أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَكِ من رَجُلٍ ولم يُسَمِّهِ
فَسَكَتَتْ لم يَكُنْ رِضًا كَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الرِّضَا
بِالشَّيْءِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ لَا يَتَحَقَّقُ
وَلَوْ قال أُزَوِّجُكِ فُلَانًا أو فُلَانًا حتى عَدَّ جَمَاعَةً فَسَكَتَتْ
فَمِنْ أَيِّهِمْ زَوَّجَهَا جَازَ وَلَوْ سَمَّى لها الْجَمَاعَةَ مُجَمِّلًا
بِأَنْ قال أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَك من جِيرَانِي أو من بَنِي عَمِّي فَسَكَتَتْ
فَإِنْ كَانُوا يُحْصَوْنَ فَهُوَ رِضًا وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ لم يَكُنْ
رِضًا لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ يُعْلَمُونَ فَيَتَعَلَّقُ الرِّضَا
بِهِمْ وإذا لم يُحْصَوْا لم يُعْلَمُوا فَلَا يُتَصَوَّرُ الرِّضَا لِأَنَّ
الرِّضَا بِغَيْرِ الْمَعْلُومِ مُحَالٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
وَذُكِرَ في الْفَتَاوَى أَنَّ الْوَلِيَّ إذَا سَمَّى الزَّوْجَ ولم يُسَمِّ
الْمَهْرَ أَنَّهُ كَمْ هو فَسَكَتَتْ فَسُكُوتُهَا لَا يَكُونُ رِضًا لِأَنَّ
تَمَامَ الرِّضَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِذِكْرِ الزَّوْجِ وَالْمَهْرِ ثُمَّ
الْإِجَازَةُ من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالنِّكَاحِ
لِأَنَّ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ قبل الْعِلْمِ بِهِ لَا يُتَصَوَّرُ
وإذا زَوَّجَ الثَّيِّبَ الْبَالِغَةَ وَلِيٌّ فقالت لم أَرْضَ ولم آذَنْ وقال
الزَّوْجُ قد أَذِنَتْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي
عليها حُدُوثَ أَمْرٍ لم يَكُنْ وهو الْإِذْنُ وَالرِّضَا وَهِيَ تُنْكِرُ فَكَانَ
الْقَوْلُ قَوْلُهَا
وَأَمَّا الْبِكْرُ إذَا تَزَوَّجَتْ فقال الزَّوْجُ بَلَغَك الْعَقْدُ فسكتت ( (
( فسكت ) ) ) فقالت رَدَدْت فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْمَرْأَةَ تدعى أَمْرًا حَادِثًا وهو الرَّدُّ وَالزَّوْجُ
يُنْكِرُ الْقَوْلَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ
وَلَنَا أَنَّ الْمَرْأَةَ وَإِنْ كانت مُدَّعِيَةً ظَاهِرًا فَهِيَ مُنْكِرَةٌ في
الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي عليها جَوَازَ الْعَقْدِ بِالسُّكُوتِ
وَهِيَ تُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا كَالْمُودَعِ إذَا قال رَدَدْت
الْوَدِيعَةَ كان الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ كان مُدَّعِيًا لِرَدٍّ ظَاهِرٍ
لِكَوْنِهِ مُنْكِرًا لِلضَّمَانِ حَقِيقَةً كَذَا هذا
ثُمَّ في هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ لَا يَمِينَ عليها في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وفي
قَوْلِهِمَا عليها الْيَمِينُ وهو الْخِلَافُ الْمَعْرُوفُ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ
الْمَعْرُوفَ لَا يَجْرِي في الْأَشْيَاءِ
____________________
(2/243)
السِّتَّةِ
عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَجْرِي
وَالْمَسْأَلَةُ تُذْكَرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في كِتَابِ الدَّعْوَى
ثُمَّ إذَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ في الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ وَالثَّيِّبِ
الْبَالِغَةِ في الْجُمْلَةِ حتى جُعِلَ السُّكُوتُ رِضًا من الْبِكْرِ دُونَ
الثَّيِّبِ وَلِلْأَبِ وِلَايَةُ قَبْضِ صَدَاقِ الْبِكْرِ بِغَيْرِ إذْنِهَا
إلَّا إذَا نَهَتْهُ نَصًّا وَلَيْسَ له وِلَايَةُ قَبْضِ مَهْرِ الثَّيِّبِ إلَّا
بِإِذْنِهَا فَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ الْبَكَارَةِ وَالثِّيَابَةِ في الْحُكْمِ
لَا في الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَكَارَةِ بَقَاءُ الْعُذْرَةِ
وَحَقِيقَةَ الثِّيَابَةِ زَوَالُ الْعُذْرَةِ
وَأَمَّا الْحُكْمُ غَيْرُ مَبْنِيٍّ على ذلك بِالْإِجْمَاعِ فَنَقُولُ لَا
خِلَافَ في أَنَّ كُلَّ من زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِوَثْبَةٍ أو طَفْرَةٍ أو
حَيْضَةٍ أو طُولِ التَّعْنِيسِ أنها في حُكْمِ الْأَبْكَارِ تُزَوَّجُ كما
تُزَوَّجُ الْأَبْكَارُ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّ من زَالَتْ عُذْرَتُهَا
بِوَطْءٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ وهو الْوَطْءُ بِعَقْدٍ جَائِزٍ أو
فَاسِدٍ أو شُبْهَةِ عَقْدٍ وَجَبَ لها مَهْرٌ بِذَلِكَ الْوَطْءِ أنها تُزَوَّجُ
كما تُزَوَّجُ الثَّيِّبِ
وَأَمَّا إذَا زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِالزِّنَا فَإِنَّهَا تُزَوَّجُ كما تُزَوَّجُ
الْأَبْكَارِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
وَالشَّافِعِيِّ تُزَوَّجُ كما تُزَوَّجُ الثَّيِّبِ
واحتجوا ( ( ( احتجوا ) ) ) بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ في نَفْسِهَا وَالثَّيِّبُ تُشَاوَرُ
وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالثَّيِّبُ يُعْرِبُ عنها لِسَانُهَا وَهَذِهِ
ثَيِّبٌ حَقِيقَةً لِأَنَّ الثَّيِّبَ حَقِيقَةً من زَالَتْ عُذْرَتُهَا وَهَذِهِ
كَذَلِكَ فَيَجْرِي عليها أَحْكَامُ الثَّيِّبِ وَمِنْ أَحْكَامِهَا أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ نِكَاحُهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا نَصًّا فَلَا يكتفي بِسُكُوتِهَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عِلَّةَ وَضْعِ النُّطْقِ شَرْعًا وَإِقَامَةَ السُّكُوتِ
مَقَامَهُ في الْبِكْرِ هو الْحَيَاءُ وقد وُجِدَ وَدَلَالَةُ أَنَّ الْعِلَّةَ ما
قُلْنَا إشَارَةُ النَّصِّ وَالْمَعْقُولُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا روى عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
تُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ في أَبْضَاعِهِنَّ
فقالت عَائِشَةُ لأن ( ( ( رضي ) ) ) الْبِكْرَ تَسْتَحِي يا رَسُولَ اللَّهِ فقال
صلى اللَّهُ عليه وسلم إذْنُهَا صُمَاتُهَا فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَنَّ قَوْلَهُ
صلى اللَّهُ عليه وسلم إذْنُهَا صُمَاتُهَا خَرَجَ جَوَابًا لِقَوْلِ عَائِشَةَ
رضي اللَّهُ عنها أن الْبِكْرَ تَسْتَحِي أَيْ عن الْإِذْنِ بِالنِّكَاحِ نُطْقًا
وَالْجَوَابُ بِمُقْتَضَى إعَادَةِ السُّؤَالِ لِأَنَّ الْجَوَابَ لَا يَتِمُّ
بِدُونِ السُّؤَالِ كَأَنَّهُ قال صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا كانت الْبِكْرُ
تَسْتَحِي عن الْإِذْنِ بِالنِّكَاحِ نُطْقًا فَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا فَهَذَا
إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْحَيَاءَ عِلَّةُ وَضْعِ النُّطْقِ وَقِيَامُ الصُّمَاتِ
مَقَامَ الْإِذْنِ عِلَّةٌ مَنْصُوصَةٌ وَعِلَّةُ النَّصِّ لَا تَتَقَيَّدُ
بِمَحِلِّ النَّصِّ كَالطَّوَافِ في الْهِرَّةِ وَنَحْوِ ذلك
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْحَيَاءَ في الْبِكْرِ مَانِعٌ من النُّطْقِ
بِصَرِيحِ الْإِذْنِ بِالنِّكَاحِ لِمَا فيه من إظْهَارِ رَغْبَتِهَا في
الرِّجَالِ لِأَنَّ النِّكَاحَ سَبَبُ الْوَطْءِ وَالنَّاسُ يَسْتَقْبِحُونَ ذلك
منها وَيَذِمُّونَهَا وَيَنْسُبُونَهَا إلَى الْوَقَاحَةِ وَذَلِكَ مَانِعٌ لها من
النُّطْقِ بِالْإِذْنِ الصَّرِيحِ وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَى النِّكَاحِ فَلَوْ
شُرِطَ اسْتِنْطَاقُهَا وَهِيَ لَا تَنْطِقُ عَادَةً لَفَاتَ عليها النِّكَاحُ مع
حَاجَتِهَا إلَيْهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَالْحَيَاءُ مَوْجُودٌ في حَقِّ هذه
وَإِنْ كانت ثَيِّبًا حَقِيقَةً لِأَنَّ زَوَالَ بَكَارَتِهَا لم تَظْهَرْ
لِلنَّاسِ فَيَسْتَقْبِحُونَ منها الْإِذْنَ بِالنِّكَاحِ صَرِيحًا وَيَعُدُّونَهُ
من بَابِ الْوَقَاحَةِ وَلَا يَزُولُ ذلك ما لم يُوجَدْ النِّكَاحُ وَيَشْتَهِرُ
الزِّنَا فَحِينَئِذٍ لَا يُسْتَقْبَحُ الْإِظْهَارُ بِالْإِذْنِ وَلَا يُعَدُّ
عَيْبًا بَلْ الِامْتِنَاعُ عن الْإِذْنِ عِنْدَ اسْتِئْمَارِ الْوَلِيِّ يَعُدُّ
رُعُونَةً منها لِحُصُولِ الْعِلْمِ لِلنَّاسِ بِظُهُورِ رَغْبَتِهَا في
الرِّجَالِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ منه الثَّيِّبُ التي تَعَارَفَهَا الناس
ثَيِّبًا لِأَنَّ مُطْلَقَ الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ بين الناس
وَلِهَذَا لم تَدْخُلْ الْبِكْرُ التي زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِالطَّفْرَةِ
وَالْوَثْبَةِ وَالْحَيْضَةِ وَنَحْوِ ذلك في هذا الحديث وَإِنْ كانت ثَيِّبًا
حَقِيقَةً وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ إنْكَاحُ الْأَبِ وَالْجَدِّ الثيب ( ( ( والثيب ) ) )
الصَّغِيرَةِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ
لَا يَجُوزُ إنْكَاحُهَا لِلْحَالِ وَيَتَأَخَّرُ إلَى ما بَعْدَ الْبُلُوغِ
فَيُزَوِّجُهَا الْوَلِيُّ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِإِذْنِهَا صَرِيحًا لَا
بِالسُّكُوتِ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا
تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حتى تُسْتَأْمَرَ وَالْيَتِيمَةُ اسْمٌ لِلصَّغِيرَةِ في
اللُّغَةِ وَلِأَنَّ الثِّيَابَةَ دَلِيلُ الْعِلْمِ بِمَصَالِحِ النِّكَاحِ
وَلِأَنَّ حُدُوثَهَا يَكُونُ بَعْدَ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ عَادَةً وقد حَصَلَ
لها بِالتَّجْرِبَةِ وَالْمُمَارَسَةِ وَهَذَا إنْ لم يَصْلُحْ لِإِثْبَاتِ
الْوِلَايَةِ لها يَصْلُحْ دَافِعًا وِلَايَةَ الْوَلِيِّ عنها لِلْحَالِ
وَالتَّأْخِيرِ إلَى ما بَعْدَ الْبُلُوغِ بِخِلَافِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ
لِأَنَّ الْبَكَارَةَ دَلِيلُ الْجَهْلِ بِمَنَافِعِ النِّكَاحِ وَمَضَارِّهِ
فَالْتَحَقَ عَقْلُهَا بِالْعَدَمِ على ما مَرَّ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ في جَانِبِ
النِّسَاءِ ضَرَرٌ قَطْعًا لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا
مَصْلَحَةَ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لِأَنَّ مَصَالِحَ
النِّكَاحِ
____________________
(2/244)
يَقِفُ
عليه ولم يُوجَدْ في الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ وَالْجَوَازُ في الْبِكْرِ ثَبَتَ
بِفِعْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } وَالْأَيِّمُ
اسْمٌ لِأُنْثَى لَا زَوْجَ لها كَبِيرَةً أو صَغِيرَةً فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ
الْوِلَايَةِ عَامًّا إلَّا من خُصَّ بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ كانت
ثَابِتَةً قبل زَوَالِ الْبَكَارَةِ لِوُجُودِ سَبَبِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ وهو
الْقَرَابَةُ الْكَامِلَةُ وَالشَّفَقَةُ الْوَافِرَةُ وَوُجُودِ شَرْطِ
الثُّبُوتِ وَهِيَ حَاجَةُ الصَّغِيرَةِ إلَى النِّكَاحِ لِاسْتِيفَاءِ
الْمَصَالِحِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَعَجْزِهَا عن ذلك بِنَفْسِهَا وَقُدْرَة
الْوَلِيِّ عليه وَالْعَارِضُ ليس إلَّا الثِّيَابَةُ وَأَثَرَهَا في زِيَادَةِ
الْحَاجَةِ إلَى الْإِنْكَاحِ لِأَنَّهَا مَارَسَتْ الرِّجَالِ وَصَحِبَتْهُمْ
وَلِلصُّحْبَةِ أَثَرٌ في الْمَيْلِ إلَى من تُعَاشِرُهُ مُعَاشَرَةً جَمِيلَةً
فلما ثَبَتَتْ الْوِلَايَةُ على الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ فَلَأَنْ تَبْقَى على
الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ أَوْلَى وَالْمُرَادُ من الحديث الْبَالِغَةُ لِمَا مَرَّ
وَالْمَجْنُونُ الْكَبِيرُ وَالْمَجْنُونَةُ الْكَبِيرَةُ تُزَوَّجُ كما يُزَوَّجُ
الصَّغِيرُ وَالصَّغِيرَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ أَصْلِيًّا كان
الْجُنُونُ أو طَارِئًا بَعْدَ الْبُلُوغِ
وقال زُفَرُ ليس لِلْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَ الْمَجْنُونَ جُنُونًا طَارِئًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ وِلَايَةَ الْوَلِيِّ قد زَالَتْ بِالْبُلُوغِ عن عَقْلٍ
فَلَا تَعُودُ بَعْدَ ذلك بِطَرَيَانِ الْجُنُونِ كما لو بَلَغَ مُغْمًى عليه
ثُمَّ زَالَ الْإِغْمَاءُ
وَلَنَا أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ وهو الْقَرَابَةُ وَشَرْطُهُ
وهو عَجْزُ الْمُوَلَّى عليه وهو حَاجَتُهُ وفي ثُبُوتِ الْوَلَاءِ فَائِدَةٌ
فتثبت ( ( ( فثبتت ) ) ) وَلِهَذَا تثبت ( ( ( ثبتت ) ) ) في الْجُنُونِ
الْأَصْلِيِّ كَذَا في الطارىء وَتَثْبُتُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ في مَالِهِ كَذَا
في نَفْسِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ التَّصَرُّفِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ
التَّصَرُّفُ نَافِعًا في حَقِّ الْمُوَلَّى عليه لَا ضَارًّا في حَقِّهِ فَلَيْسَ
لِلْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالْجَدِّ أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَ الصَّغِيرِ
وَالصَّغِيرَةِ حُرَّةً وَلَا أَمَةً لِغَيْرِهِمَا لِأَنَّ هذا التَّصَرُّفَ
ضَارٌّ في حَقِّ الْمُوَلَّى عليه لِأَنَّ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ يَتَعَلَّقَانِ
بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ من غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ لِلصَّغِيرِ مَالٌ في مُقَابَلَتِهِ
وَالْإِضْرَارُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ كَالطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ وَالتَّبَرُّعَاتِ وَكَذَا كُلُّ من يَتَصَرَّفُ على غَيْرِهِ
بِالْإِذْنِ لَا يَمْلِكُ إنْكَاحَ الْعَبْدِ كَالْمُكَاتَبِ وَالشَّرِيكِ
وَالْمُضَارِبِ وَالْمَأْذُونِ لِأَنَّ إطْلَاقَ التَّصَرُّفِ لِهَؤُلَاءِ
مُقَيَّدٌ بِالنَّظَرِ
وَأَمَّا تَزْوِيجُ الْأَمَةِ حُرًّا أو عَبْدًا لغيرها ( ( ( لغيرهما ) ) )
فَيَمْلِكُهُ الْأَبُ وَالْجَدُّ وَالْوَصِيُّ وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُفَاوَضُ
وَالْقَاضِي وَأَمِينُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ لِكَوْنِهِ تَحْصِيلَ
مَالٍ من غَيْرِ أَنْ يُقَابِلَهُ مَالٌ فَيَمْلِكُهُ هَؤُلَاءِ أَلَا تَرَى
أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ الْبَيْعَ مع أَنَّهُ مُقَابَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ
فَهَذَا أَوْلَى فَأَمَّا شَرِيكُ الْعِنَانِ وَالْمُضَارِبُ وَالْمَأْذُونُ فَلَا
يَمْلِكُونَ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ
أبي يُوسُفَ يَمْلِكُونَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ هذا تَصَرُّفٌ نَافِعٌ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ مَالٍ
لَا يُقَابِلُهُ مَالٌ فَيَمْلِكُونَهُ كَشَرِيكِ الْمُفَاوَضَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ تَصَرُّفَ هَؤُلَاءِ يَخْتَصُّ بِالتِّجَارَةِ
وَالنِّكَاحُ ليس من التِّجَارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَأْذُونَةَ لَا تُزَوِّجُ
نَفْسَهَا وَلَوْ كان النِّكَاحُ تِجَارَةً لَمَلَكَتْ لِأَنَّ التِّجَارَةَ
مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَالِ
فلم يَكُنْ تِجَارَةً فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَتِهِمْ بِخِلَافِ الْمُفَاوَضِ
لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مُخْتَصٌّ بِالنَّفْعِ لَا بِالتِّجَارَةِ وَهَذَا نَافِعٌ
وَلَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ من عبد ابْنِهِ قال أبو يُوسُفَ يَجُوزُ وقال زُفَرُ لَا
يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ تَزْوِيجَ عَبْدِهِ الصَّغِيرِ لم يَدْخُلْ تَحْتَ
وِلَايَةِ الْأَبِ فَكَانَ الْأَبُ فيه كَالْأَجْنَبِيِّ وَاحْتِمَالُ الضَّرَرِ
ثَابِتٌ لِجَوَازِ أَنْ يَبِيعَ الْأَمَةَ فَيَتَعَلَّقُ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ
بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الصَّغِيرُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ
زَوَّجَهُ أَمَةَ الْغَيْرِ
وَلَنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ مَوْجُودٌ فَلَا يَمْتَنِعُ الثُّبُوتُ إلَّا
لِمَكَانِ الضَّرَرِ وَهَذَا نَفْعٌ لَا مَضَرَّةَ فيه لِأَنَّ الْأَوْلَادَ له
وَلَا يَتَعَلَّقُ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ فَكَانَ نَفْعًا
مَحْضًا فَيَمْلِكُهُ
قَوْلُهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَبِيعَهُ
قُلْنَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَبِيعَهُ فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْوِلَايَةِ
المخففة ( ( ( المحققة ) ) ) لِلْحَالِ لِأَمْرٍ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ
وَالْعَدَمَ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا زَوَّجَ الْأَبُ أو الْجَدُّ الصَّغِيرَةَ من كُفْءٍ
بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ أو زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ امْرَأَةً بِأَكْثَرَ من
مَهْرِ مِثْلِهَا أَنَّهُ إنْ كان ذلك مِمَّا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ لَا
يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ
يَجُوزُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ
وَذَكَرَ هِشَامٌ عنهما أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ وَلَوْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ
الصَّغِيرَةَ بِمَهْرِ مِثْلِهَا من غَيْرِ كُفْءٍ فَهُوَ على هذا الْخِلَافِ
وَلَوْ فَعَلَ غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ شيئا مِمَّا ذَكَرْنَا لَا يَجُوزُ في
قولهم ( ( ( قوليهما ) ) ) جميعا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ تَثْبُتُ نَظَرًا في حَقِّ
الْمُوَلَّى عليه
____________________
(2/245)
وَلَا
نَظَرَ في الْحَطِّ على مَهْرِ الْمِثْلِ في إنْكَاحِ الصَّغِيرَةِ وَلَا في
الزِّيَادَةِ على مَهْرِ الْمِثْلِ في إنْكَاحِ الصَّغِيرِ بَلْ فيه ضَرَرٌ
بِهِمَا وَالْإِضْرَارُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ وَلِهَذَا لَا
يَمْلِكُ غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي اللَّهُ عنه
زَوَّجَ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها وَهِيَ صَغِيرَةٌ من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم على خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَتَزَوَّجَهَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم على ذلك وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَهْرَ مِثْلِهَا كان أَضْعَافَ ذلك
وَلِأَنَّ الْأَبَ وَافِرُ الشَّفَقَةِ على وَلَدِهِ يَنْظُرُ له ما لَا يَنْظُرُ
لِنَفْسِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذلك إلَّا لِتَوْفِيرِ مَقْصُودٍ من
مَقَاصِدِ النِّكَاحِ هو أَنْفَعُ وَأَجْدَى من كَثِيرٍ من الْمَالِ من
مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ وَحُسْنِ الصُّحْبَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ
وَنَحْوِ ذلك من الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةِ بِالنِّكَاحِ فَكَانَ تَصَرُّفُهُ
وَالْحَالَةُ هذه نَظَرًا لِلصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ لَا ضَرَرًا بِهِمَا
بِخِلَافِ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لِأَنَّ وَجْهَ الضَّرَرِ في تَصَرُّفِهِمَا
ظَاهِرٌ وَلَيْسَ ثَمَّةَ دَلِيلٍ يَدُلُّ على اشْتِمَالِهِ على الْمَصْلَحَةِ
الْبَاطِنَةِ الْخَفِيَّةِ التي تَزِيدُ على الضَّرَرِ الظَّاهِرِ لِأَنَّ ذلك
إنَّمَا يُعْرَفُ بِوُفُورِ الشَّفَقَةِ ولم يُوجَدْ بِخِلَافِ ما إذَا بَاعَ
الْأَبُ أَمَةً لَهُمَا بِأَقَلَّ من قِيمَتِهَا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ الناس فيه
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ
وَالْمَقْصُودُ من الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ هو الْوُصُولُ إلَى الْعِوَضِ
الْمَالِيِّ ولم يُوجَدْ وَبِخِلَافِ ما إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُمَا بِأَقَلَّ من
مَهْرِ مِثْلِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لَهُمَا فِيمَا يَحْصُلُ
لِلْأَمَةِ من حَظِّ الزَّوْجِ وَإِنَّمَا مَنْفَعَتُهُمَا في حُصُولِ عِوَضِ
بُضْعِ الْأَمَةِ لَهُمَا وهو مَهْرُ الْمِثْلِ ولم يَحْصُلْ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ التَّوْكِيلُ بِأَنْ وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا بِأَنْ
يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ امْرَأَةً بِأَكْثَرَ من مَهْرِ مِثْلِهَا
مِقْدَارُ ما لَا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ أو وَكَّلَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا
بِأَنْ يُزَوِّجَهَا من رَجُلٍ فَزَوَّجَهَا من رَجُلٍ بِدُونِ صَدَاقِ مِثْلِهَا
أو من غَيْرِ كُفْءٍ فَهُوَ على اخْتِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ
وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في كِتَابِ الْوَكَالَةِ
وَعَلَى هذا الْوَكِيلُ بِالتَّزْوِيجِ من جَانِبِ الرَّجُلِ أو الْمَرْأَةِ إذَا
زَوَّجَ الْمُوَكِّلَ من لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَكِيلِ له فَهُوَ على
الِاخْتِلَافِ في الْبَيْعِ وَنَذْكُرُ ذلك كُلَّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في
كِتَابِ الْوَكَالَةِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الْوَكِيلُ من جَانِبِ الرَّجُلِ بِالتَّزْوِيجِ إذَا
زَوَّجَهُ أَمَةً لِغَيْرِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِإِطْلَاقِ
اللَّفْظِ وَلِسُقُوطِ اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ من جَانِبِ النِّسَاءِ
وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ
وَتُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ من جَانِبَيْنِ عِنْدَهُمَا في مِثْلِ هذا الْمَوْضِعِ
لِمَكَانِ الْعُرْفِ اسْتِحْسَانًا على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في
مَوْضِعِهِ وَلَوْ أَقَرَّ الْأَبُ على ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ بِالنِّكَاحِ أو
على ابْنِهِ الصَّغِيرِ لَا يُصَدَّقُ في إقْرَارِهِ حتى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ على
نَفْسِ النِّكَاحِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
يُصَدَّقُ من غَيْرِ شُهُودٍ
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَدَّعِيَ امْرَأَةٌ
نِكَاحَ الصَّغِيرِ أو يدعى رَجُلٌ نِكَاحَ الصَّغِيرَةِ وَالْأَبُ يُنْكِرُ ذلك
فَيُقِيمُ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً على إقْرَارِ الْأَبِ بِالنِّكَاحِ فَعِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ لَا تُقْبَلُ هذه الشَّهَادَةُ حتى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ على نَفْسِ
الْعَقْدِ وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ وَيَظْهَرُ النِّكَاحُ
وَالثَّانِي أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ نِكَاحَ الصَّغِيرَةِ أو امْرَأَةٌ نِكَاحَ
الصَّغِيرِ بَعْدَ بُلُوغِهِمَا وَهُمَا مُنْكِرَانِ ذلك فَأَقَامَ الْمُدَّعِي
الْبَيِّنَةَ على إقْرَارِ الْأَبِ بِالنِّكَاحِ في حَالِ الصِّغَرِ وَعَلَى هذا
الْخِلَافِ الْوَكِيلُ بِالنِّكَاحِ إذَا أَقَرَّ على مُوَكِّلِهِ أو على
مُوَكِّلَتِهِ بِالنِّكَاحِ وَالْمَوْلَى إذَا أَقَرَّ على عَبْدِهِ بِالنِّكَاحِ
أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ وَأَجْمَعُوا
على أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَقَرَّ على أَمَتِهِ بِالنِّكَاحِ أَنَّهُ يُصَدَّقُ
من غَيْرِ شَهَادَةٍ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ إنْ أَقَرَّ بِعَقْدٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَيُصَدَّقُ
فيه من غَيْرِ شُهُودٍ كما لو أَقَرَّ بِتَزْوِيجِ أَمَتِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ
أَقَرَّ بِعَقْدٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَ النِّكَاحِ على
الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ وَالْعَبْدِ وَنَحْوِ ذلك وإذا مَلَكَ إنْشَاءَهُ لم
يَكُنْ مُتَّهَمًا في الْإِقْرَارِ فَيُصَدَّقُ كَالْمَوْلَى إذَا أَقَرَّ
بِالْفَيْءِ في مُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَزَوْجِ الْمُعْتَدَّةِ إذَا قال في
الْعِدَّةِ رَاجَعْتُك لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا نِكَاحَ إلَّا
بِشُهُودٍ نَفَى النِّكَاحَ بِغَيْرِ شُهُودٍ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الِانْعِقَادِ
وَالظُّهُورِ بَلْ الْحَمْلُ على الظُّهُورِ أَوْلَى لِأَنَّ فيه عَمَلًا
بِحَقِيقَةِ اسْمِ الشَّاهِدِ إذْ هو اسْمٌ لِفَاعِلِ الشَّهَادَةِ وهو
الْمُؤَدِّي لها وَالْحَاجَةُ إلَى الْأَدَاءِ عِنْدَ الظُّهُورِ لَا عِنْدَ
الِانْعِقَادِ وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ على الْغَيْرِ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ بِعَقْدٍ
لَا يَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ وَإِنَّمَا يَتِمُّ بِهِ وَبِشَهَادَةِ الْآخَرِينَ
فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِمُسَاعِدَةِ آخَرِينَ قِيَاسًا على الْوُكَلَاءِ
الثَّلَاثَةِ في النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ
____________________
(2/246)
وَدَلَالَةُ
الْوَصْفِ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالنِّكَاحِ وَالْإِقْرَارُ بِالنِّكَاحِ إقْرَارٌ
بِمَنَافِعِ الْبُضْعِ وَإِنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ أَلَا تَرَى أنها لو
وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كان الْمَهْرُ لها لَا لِلْأَبِ بِخِلَافِ الْأَمَةِ فإن
مَنَافِعَ بُضْعِهَا مَمْلُوكَةٌ فَكَانَ ذلك إقْرَارًا بِمَا مَلَكَ فَأَبُو
حَنِيفَةَ اعْتَبَرَ وِلَايَةَ الْعَقْدِ وَمِلْكَ الْمَعْقُودِ عليه وَهُمَا
اعْتَبَرَا وِلَايَةَ الْعَقْدِ فَقَطْ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا وِلَايَةُ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ فَهِيَ الْوِلَايَةُ على
الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ بِكْرًا كانت أو ثَيِّبًا في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَقَوْلِ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وفي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي
يُوسُفَ الْآخَرِ الْوِلَايَةُ عليها وِلَايَةٌ مُشْتَرَكَةٌ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هِيَ وِلَايَةٌ مُشْتَرَكَةٌ أَيْضًا لَا في العبادة ( ( (
العبارة ) ) ) فَإِنَّهَا لِلْمَوْلَى خَاصَّةً وَشَرْطُ ثُبُوتِ هذه الْوِلَايَةِ
على أَصْلِ أَصْحَابِنَا هو رِضَا الْمُوَلَّى عليه لَا غَيْرُ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هذا وَعِبَارَةُ الْوَلِيِّ أَيْضًا وَعَلَى هذا يبني
الْحُرَّةُ الْبَالِغَةُ الْعَاقِلَةُ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من رَجُلٍ أو
وَكَّلَتْ رَجُلًا بِالتَّزْوِيجِ فَتَزَوَّجَهَا أو زَوَّجَهَا فُضُولِيٌّ
فَأَجَازَتْ جَازَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ
سَوَاءً زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من كُفْءٍ أو غَيْرِ كُفْءٍ بِمَهْرٍ وَافِرٍ أو
قَاصِرٍ غير أنها إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من غَيْرِ كُفْءٍ فَلِلْأَوْلِيَاءِ
حَقُّ الِاعْتِرَاضِ وَكَذَا إذَا زَوَّجَتْ بِمَهْرٍ قَاصِرٍ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ في
مَوْضِعِهَا
وفي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ حتى يُجِيزَهُ الْوَلِيُّ وَالْحَاكِمُ فَلَا
يَحِلُّ لِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا قبل الْإِجَازَةِ وَلَوْ وَطِئَهَا يَكُونُ وطأ
حَرَامًا وَلَا يَقَعُ عليها طَلَاقُهُ وَظِهَارُهُ وَإِيلَاؤُهُ وَلَوْ مَاتَ
أَحَدُهُمَا لم يَرِثْهُ الْآخَرُ سَوَاءً زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من كُفْءٍ أو
غَيْرِ كُفْءٍ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْآخَرُ رَوَى الْحَسَنُ بن زِيَادٍ عنه
وروى عن أبي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أنها إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من كُفْءٍ
يَنْفُذُ وَتَثْبُتُ سَائِرُ الْأَحْكَامِ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا كان
لِلْمَرْأَةِ وَلِيٌّ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا إلَّا بِإِذْنِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ
لها وَلِيٌّ جَازَ انكاحها على نَفْسِهَا
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَقَوْلُ
الشَّافِعِيِّ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ نِكَاحُهَا بِدُونِ الْوَلِيِّ إلَّا أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فقال
مُحَمَّدٌ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِعِبَارَتِهَا وَيَنْفُذُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ
وَإِجَازَتِهِ وَيَنْعَقِدُ بِعِبَارَةِ الْوَلِيِّ وَيَنْفُذُ بإذنه ( ( ( بإذنها
) ) ) وَإِجَازَتِهَا فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا عِبَارَةَ لِلنِّسَاءِ في بَابِ
النِّكَاحِ أَصْلًا حتى لو تَوَكَّلَتْ امْرَأَةٌ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ من
وَلِيِّهَا فَتَزَوَّجَتْ لم يَجُزْ عِنْدَهُ وَكَذَا إذَا زَوَّجَتْ بِنْتَهَا
بِإِذْنِ الْقَاضِي لم يَجُزْ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ
} هذا خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالْأَيِّمُ اسْمٌ لِامْرَأَةٍ لَا زَوْجَ لها
بِكْرًا كانت أو ثَيِّبًا وَمَتَى ثَبَتَتْ الْوِلَايَةُ عليها كانت هِيَ
مُوَلَّيًا عليها ضَرُورَةً فَلَا تَكُونُ وَالِيَةً
وَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ
وَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ لِأَنَّ النِّكَاحَ
من جَانِبِ النِّسَاءِ عَقْدُ إضْرَارٍ بِنَفْسِهِ وَحُكْمِهِ وَثَمَرَتِهِ
أَمَّا نَفْسُهُ فإنه رِقٌّ وَأَسْرٌ قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم النِّكَاحُ
رِقٌّ فَلْيَنْظُرْ أحدكم أَيْنَ يَضَعُ كَرِيمَتَهُ
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اتَّقُوا اللَّهَ في النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ
عِنْدَكُمْ عَوَانٌ أي أَسِيرَاتٌ وَالْإِرْقَاقُ إضْرَارٌ
وَأَمَّا حُكْمُهُ فإنه مِلْكٌ فَالزَّوْجُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في مَنَافِعِ
بُضْعِهَا اسْتِيفَاءً بِالْوَطْءِ وَإِسْقَاطًا بِالطَّلَاقِ وَيَمْلِكُ
حَجْرَهَا عن الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ عن ( ( ( وعن ) ) ) التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ
وَأَمَّا ثَمَرَتُهُ فَالِاسْتِفْرَاشُ كُرْهًا وَجَبْرًا وَلَا شَكَّ إن هذا
إضْرَارٌ إلَّا أَنَّهُ قد يَنْقَلِبُ مَصْلَحَةً وَيَنْجَبِرُ ما فيه من
الضَّرَرِ إذَا وَقَعَ وَسِيلَةً إلَى الْمَصَالِحِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ
وَلَا يُسْتَدْرَكُ ذلك إلَّا بِالرَّأْيِ الْكَامِلِ وَرَأْيُهَا نَاقِصٌ
لِنُقْصَانِ عَقْلِهَا فَبَقِيَ النِّكَاحُ مَضَرَّةً فَلَا تَمْلِكُهُ
وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَا روى عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها
عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال أَيُّمَا امْرَأَةٍ
تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ وَالْبَاطِلُ من
التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ما لَا حُكْمَ له شَرْعًا كَالْبَيْعِ الْبَاطِلِ
وَنَحْوِهِ وَلِأَنَّ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقًّا في النِّكَاحِ بِدَلِيلِ أَنَّ لهم
حَقَّ الِاعْتِرَاضِ وَالْفَسْخِ وَمَنْ لَا حَقَّ له في عَقْدٍ كَيْفَ يَمْلِكُ
فَسْخَهُ وَالتَّصَرُّفُ في حَقِّ الْإِنْسَانِ يَقِفُ جَوَازُهُ على جَوَازِ
صَاحِبِ الْحَقِّ كَالْأَمَةِ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا
وَجْهُ ما رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أنها إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من كُفْءٍ
يَنْفُذُ
لِأَنَّ حَقَّ الْأَوْلِيَاءِ في النِّكَاحِ من حَيْثُ صِيَانَتُهُمْ عَمَّا
يُوجِبُ لُحُوقَ الْعَارِ وَالشَّيْنِ بِهِمْ بِنِسْبَةِ من لَا يُكَافِئُهُمْ
بِالصِّهْرِيَّةِ إلَيْهِمْ وقد بَطَلَ هذا الْمَعْنَى بِالتَّزْوِيجِ من كُفْءٍ
يُحَقِّقُهُ أنها لو وَجَدَتْ كفأ وَطَلَبَتْ من الْمَوْلَى الْإِنْكَاحَ منه لَا
يَحِلُّ له الِامْتِنَاعُ وَلَوْ امْتَنَعَ يَصِيرُ عَاضِلًا
____________________
(2/247)
فَصَارَ
عَقْدُهَا وَالْحَالَةُ هذه بِمَنْزِلَةِ عَقْدِهِ بِنَفْسِهِ
وَجْهُ ما رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ من الْفَرْقِ بين ما إذَا كان لها وَلِيٌّ وَبَيْنَ
ما إذَا لم يَكُنْ لها وَلِيٌّ أَنَّ وُقُوفَ الْعَقْدِ على إذْنِ الْوَلِيِّ كان
لِحَقِّ الْوَلِيِّ لَا لِحَقِّهَا فإذا لم يَكُنْ لها وَلِيٌّ فَلَا حَقَّ
لِلْوَلِيِّ فَكَانَ الْحَقُّ لها خَاصَّةً فإذا عَقَدَتْ فَقَدْ تَصَرَّفَتْ في
خَالِصِ حَقِّهَا فَنَفَذَ
وَأَمَّا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من كُفْءٍ وَبَلَغَ الْوَلِيَّ فَامْتَنَعَ من
الْإِجَازَةِ فَرَفَعَتْ أَمْرَهَا إلَى الْحَاكِمِ فإنه يُجِيزُهُ في قَوْلِ أبي
يُوسُفَ وقال مُحَمَّدٌ يُسْتَأْنَفُ الْعَقْدُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْعَقْدَ كان مَوْقُوفًا على إجَازَةِ الْوَلِيِّ فإذا
امْتَنَعَ من الْإِجَازَةِ فَقَدْ رَدَّهُ فَيَرْتَدُّ وَيَبْطُلُ من الْأَصْلِ
فَلَا بُدَّ من الِاسْتِئْنَافِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ صَارَ عَاضِلًا إذْ لَا
يَحِلُّ له الِامْتِنَاعُ من الْإِجَازَةِ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من كُفْءٍ
فإذا امْتَنَعَ فَقَدْ عَضَلَهَا فَخَرَجَ من أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا وَانْقَلَبَتْ
الْوِلَايَةُ إلَى الْحَاكِمِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَالسَّنَةُ وَالِاسْتِدْلَالُ أَمَّا
الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا
لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النبي أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا } فَالْآيَةُ الشَّرِيفَةُ
نَصٌّ على انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِعِبَارَتِهَا وَانْعِقَادِهَا بِلَفْظِ
الْهِبَةِ فَكَانَتْ حُجَّةً على الْمُخَالِفِ في الْمَسْأَلَتَيْنِ وقَوْله
تَعَالَى { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ له من بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ } وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَضَافَ
النِّكَاحَ إلَيْهَا فَيَقْتَضِي تَصَوُّرَ النِّكَاحِ منها
وَالثَّانِي أَنَّهُ جَعَلَ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ غَايَةَ الْحُرْمَةِ فَيَقْتَضِي
انْتِهَاءَ الْحُرْمَةِ عِنْدَ نِكَاحِهَا نَفْسِهَا وَعِنْدَهُ لَا تَنْتَهِي
وَقَوْلُهُ عز وجل { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا } أَيْ
يَتَنَاكَحَا أَضَافَ النِّكَاحَ إلَيْهِمَا من غَيْرِ ذِكْرِ الْوَلِيِّ
وَقَوْلُهُ عز وجل { وإذا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا
تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } الْآيَةُ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ
من وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَضَافَ النِّكَاحَ إلَيْهِنَّ فَيَدُلُّ على جَوَازِ
النِّكَاحِ بِعِبَارَتِهِنَّ من غَيْرِ شَرْطِ الْوَلِيِّ
وَالثَّانِي أَنَّهُ نهى الْأَوْلِيَاءَ عن الْمَنْعِ عن نِكَاحِهِنَّ
أَنْفُسَهُنَّ من أَزْوَاجِهِنَّ إذَا تَرَاضَى الزَّوْجَانِ وَالنَّهْيُ
يَقْتَضِي تَصْوِيرَ الْمَنْهِيَّ عنه
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما عن رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ليس لِلْوَلِيِّ مع الثَّيِّبِ أَمْرٌ
وَهَذَا قَطْعُ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ عنها
وَرُوِيَ عنه أَيْضًا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا من وَلِيِّهَا وَالْأَيِّمُ اسْمٌ لِامْرَأَةٍ لَا
زَوْجَ لها
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال فَهُوَ أنها لَمَّا بَلَغَتْ عن عَقْلٍ وَحُرِّيَّةٍ
فَقَدْ صَارَتْ وَلِيَّةَ نَفْسِهَا في النِّكَاحِ فَلَا تَبْقَى مُولَيًا عليها
كَالصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إذَا بَلَغَ وَالْجَامِعُ أَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ
إنَّمَا ثَبَتَتْ لِلْأَبِ على الصَّغِيرَةِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عنها شَرْعًا لِكَوْنِ
النِّكَاحِ تَصَرُّفًا نَافِعًا مُتَضَمِّنًا مَصْلَحَةَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا
وَحَاجَتَهَا إلَيْهِ حَالًا وَمَآلًا وَكَوْنِهَا عَاجِزَةً عن إحْرَازِ ذلك
بِنَفْسِهَا وَكَوْنِ الْأَبِ قَادِرًا عليه بالبلوغ ( ( ( وبالبلوغ ) ) ) عن
عَقْلٍ زَالَ الْعَجْزُ حَقِيقَةً وَقَدَرَتْ على التَّصَرُّفِ في نَفْسِهَا
حَقِيقَةً فَتَزُولُ وِلَايَةُ الْغَيْرِ عنها وَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لها
لِأَنَّ النِّيَابَةَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ
نَظَرًا فَتَزُولُ بِزَوَالِ الضَّرُورَةِ مع أَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُنَافِيَةٌ
لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ لِلْحُرِّ على الْحُرِّ وَثُبُوتُ الشَّيْءِ مع
الْمُنَافِي لَا يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى
زَالَتْ الْوِلَايَةُ عن إنْكَاحِ الصَّغِيرِ الْعَاقِلِ إذَا بَلَغَ وَتَثْبُتُ
الْوِلَايَةُ له وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ في الْفَرْعِ وَلِهَذَا زَالَتْ
وِلَايَةُ الْأَبِ عن التَّصَرُّفِ في مَالِهَا وَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لها كَذَا
هذا
وإذا صَارَتْ وَلِيَّ نَفْسِهَا في النِّكَاحِ لَا تَبْقَى مُولَيًا عليها
بِالضَّرُورَةِ لِمَا فيه من الِاسْتِحَالَةِ وَأَمَّا الْآيَةُ فَالْخِطَابُ
لِلْأَوْلِيَاءِ بِالْإِنْكَاحِ ليس يَدُلُّ على أَنَّ الْوَلِيَّ شَرْطُ جَوَازِ
الْإِنْكَاحِ بَلْ على وِفَاقِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ بين الناس فإن النِّسَاءَ
لَا يَتَوَلَّيْنَ النِّكَاحَ بِأَنْفُسِهِنَّ عَادَةً لِمَا فيه من الْحَاجَةِ
إلَى الْخُرُوجِ إلَى مَحَافِلِ الرِّجَالِ وَفِيهِ نِسْبَتُهُنَّ إلَى
الْوَقَاحَةِ بَلْ الْأَوْلِيَاءُ هُمْ الَّذِينَ يَتَوَلُّونَ ذلك عَلَيْهِنَّ
بِرِضَاهُنَّ فَخَرَجَ الْخِطَابُ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْكَاحِ مَخْرَجَ الْعُرْفِ
وَالْعَادَةِ على النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْحَتْمِ وَالْإِيجَابِ
وَالدَّلِيلُ عليه ما ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَقِيبَهُ وهو قَوْله
تَعَالَى { وَالصَّالِحِينَ من عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } ثُمَّ لم يَكُنْ
الصَّلَاحُ شَرْطَ الْجَوَازِ وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى { فَكَاتِبُوهُمْ إنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } أو تُحْمَلُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ على إنْكَاحِ
الصِّغَارِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا
وَعَلَى هذا يُحْمَلُ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ
إلَّا الْأَوْلِيَاءُ إن ذلك على النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَكَذَا قَوْلُهُ
صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مع ما حُكِيَ عن
____________________
(2/248)
بَعْضِ
النَّقَلَةِ أَنَّ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ لم تَصِحَّ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم وَعُدَّ من جُمْلَتِهَا هذا وَلِهَذَا لم يُخَرَّجْ في الصَّحِيحَيْنِ
على أَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِ الْأَحَادِيثِ لَكِنْ لَمَّا قُلْتُمْ إن هذا
إنْكَاحٌ بِغَيْرِ وَلِيٍّ بَلْ الْمَرْأَةُ وَلِيَّةُ نَفْسِهَا لِمَا ذَكَرْنَا
من الدَّلَائِلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم النِّكَاحُ عَقْدُ ضَرَرٍ فَمَمْنُوعٌ
بَلْ هو عَقْدُ مَنْفَعَةٍ لِاشْتِمَالِهِ على مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا من
السَّكَنِ والألف وَالْمَوَدَّةِ وَالتَّنَاسُلِ وَالْعِفَّةِ عن الزِّنَا
وَاسْتِيفَاءِ الْمَرْأَةِ بِالنَّفَقَةِ إلَّا أَنَّ هذه الْمَصَالِحَ لَا
تَحْصُلُ إلَّا بِضَرْبِ مِلْكٍ عليها إذْ لو لم تَكُنْ لَا تَصِيرُ مَمْنُوعَةً
عن الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ والتزوج ( ( ( والتزويج ) ) ) بِزَوْجٍ آخَرَ وفي
الْخُرُوجِ وَالْبُرُوز فَسَادُ السَّكَنِ لِأَنَّ قَلْبَ الرَّجُلِ لَا يَطْمَئِنُّ
إلَيْهَا وفي التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ فَسَادُ الْفِرَاشِ لِأَنَّهَا إذَا
جَاءَتْ بِوَلَدٍ يَشْتَبِهُ النَّسَبُ وَيَضِيعُ الْوَلَدُ فَالشَّرْعُ ضَرَبَ
عليها نَوْعَ مِلْكٍ ضَرُورَةَ حُصُولِ الْمَصَالِحِ فَكَانَ الْمِلْكُ وَسِيلَةً
إلَى الْمَصَالِحِ وَالْوَسِيلَةُ إلَى الْمَصْلَحَةِ مَصْلَحَةٌ وَتَسْمِيَةُ
النِّكَاحِ رِقًّا بِطَرِيقِ التَّمْثِيلِ لَا بِطَرِيقِ التَّحْقِيقِ
لِانْعِدَامِ حَقِيقَةِ الرِّقِّ
وَقَوْلُهُ عَقْلُهَا نَاقِصٌ قُلْنَا هذا النَّوْعُ من النُّقْصَانِ لَا يَمْنَعُ
الْعِلْمَ بِمَصَالِحِ النِّكَاحِ فَلَا يَسْلُبُ أَهْلِيَّةَ النِّكَاحِ
وَلِهَذَا لَا يَسْلُبُ أَهْلِيَّةَ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ من الْمُعَامَلَاتِ
وَالدِّيَانَاتِ حتى يَصِحَّ منها التَّصَرُّفُ في الْمَالِ على طَرِيقِ
الِاسْتِبْدَادِ وَإِنْ كانت تَجْرِي في التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ خِيَانَاتٌ
خَفِيَّةٌ لَا تُدْرَكُ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَيَصِحُّ منها الْإِقْرَارُ
بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَيُؤْخَذُ عليها الْخِطَابُ بالإيمان وَسَائِرِ
الشَّرَائِعِ فَدَلَّ أَنَّ مالها من الْعَقْلِ كَافٍ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ
اُعْتُبِرَ عَقْلُهَا في اخْتِيَارِ الْأَزْوَاجِ حتى لو طَلَبَتْ من الْوَلِيِّ
أَنْ يُزَوِّجَهَا من كُفْءٍ يُفْتَرَضُ عليه التَّزْوِيجُ حتى لو امْتَنَعَ
يَصِيرُ عَاضِلًا وَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ في التَّزْوِيجِ
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها فَقَدْ قِيلَ إنَّ مَدَارَهُ على
الزُّهْرِيِّ فَعُرِضَ عليه فَأَنْكَرَهُ وَهَذَا يُوجِبُ ضَعْفًا في الثُّبُوتِ
يُحَقِّقُ الضَّعْفَ أَنَّ رَاوِيَ الحديث عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها وَمِنْ
مَذْهَبِهَا جَوَازُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ
وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ أنها زَوَّجَتْ بِنْتَ أَخِيهَا عبد الرحمن من
الْمُنْذِرِ بن الزُّبَيْرِ وإذا كان مَذْهَبُهَا في هذا الْبَابِ هذا فَكَيْفَ
تَرْوِي حَدِيثًا لَا تَعْمَلُ بِهِ وَلَئِنْ ثَبَتَ فَنَحْمِلُهُ على الْأَمَةِ
لِأَنَّهُ رُوِيَ في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ
إذْنِ مَوَالِيهَا دَلَّ ذِكْرُ الْمَوَالِي على أَنَّ الْمُرَادَ من الْمَرْأَةِ
الْأَمَةُ فَيَكُونُ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ أَجْمَعَ
وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدٍ أن لِلْوَلِيِّ حَقًّا في النِّكَاحِ فَنَقُولُ
الْحَقُّ في النِّكَاحِ لها على الْوَلِيِّ لَا لِلْوَلِيِّ عليها بِدَلِيلِ أنها
تُزَوَّجُ على الْوَلِيِّ إذَا غَابَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً وإذا كان حَاضِرًا
يُجْبَرُ على التَّزْوِيجِ إذَا أَبَى وَعَضَلَ تُزَوَّجُ عليه وَالْمَرْأَةُ لَا
تُجْبَرُ على النِّكَاحِ إذَا أَبَتْ وَأَرَادَ الْوَلِيُّ فَدَلَّ أَنَّ الْحَقَّ
لها عليه وَمَنْ تَرَكَ حَقَّ نَفْسِهِ في عَقْدٍ له قِبَلَ غَيْرِهِ لم يُوجِبْ
ذلك فَسَادَهُ على أَنَّهُ إنْ كان لِلْوَلِيِّ فيه ضَرْبُ حَقٍّ لَكِنَّ أَثَرَهُ
في الْمَنْعِ من اللُّزُومِ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من غَيْرِ كُفْءٍ لَا في
الْمَنْعِ من النَّفَاذِ وَالْجَوَازِ لِأَنَّ في حَقِّ الْأَوْلِيَاءِ في
النِّكَاحِ من حَيْثُ صِيَانَتُهُمْ عَمَّا يَلْحَقُهُمْ من الشَّيْنِ وَالْعَارِ
بِنِسْبَةِ عَدَا الْكُفْءِ إلَيْهِمْ بِالصِّهْرِيَّةِ فَإِنْ زَوَّجَتْ
نَفْسَهَا من كُفْءٍ فَقَدْ حَصَلَتْ الصِّيَانَةُ فَزَالَ الْمَانِعُ من
اللُّزُومِ فَيَلْزَمُ وَإِنْ تَزَوَّجَتْ من غَيْرِ كُفْءٍ فَفِي النَّفَاذِ إنْ
كان ضَرَرٌ بِالْأَوْلِيَاءِ وفي عَدَمِ النَّفَاذِ ضَرَرٌ بها بِإِبْطَالِ
أَهْلِيَّتِهَا وَالْأَصْلُ في الضَّرَرَيْنِ إذَا اجْتَمَعَا أَنْ يَدْفَعَا ما
أَمْكَنَ وَهَهُنَا أَمْكَنَ دَفْعُهُمَا بِأَنْ نَقُولَ بِنَفَاذِ النِّكَاحِ
دَفْعًا لِلضَّرَرِ عنها وبعد ( ( ( وبعدم ) ) ) اللُّزُومِ وَثُبُوتِ وِلَايَةِ
الِاعْتِرَاضِ لِلْأَوْلِيَاءِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ وَلِهَذَا نَظِيرٌ في
الشَّرِيعَةِ فإن الْعَبْدَ الْمُشْتَرَكَ بين اثْنَيْنِ إذَا كَاتَبَ أَحَدَهُمَا
نَصِيبَهُ فَقَدْ دَفَعَ الضَّرَرَ عنه حتى لو أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ
يُعْتَقُ وَلَكِنَّهُ لم يَلْزَمْهُ حتى كان لِلشَّرِيكِ الْآخِرِ حَقُّ فَسْخِ
الْكِتَابَةِ قبل أَدَاءِ الْبَدَلِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ
وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ أو بِعُمْرَةٍ صَحَّ إحْرَامُهُ حتى لو
أُعْتِقَ يَمْضِي في إحْرَامِهِ لَكِنَّهُ لم يَلْزَمْهُ حتى أن لِلْمَوْلَى أَنْ
يُحَلِّلَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عنه وَكَذَا لِلشَّفِيعِ حَقُّ تَمَلُّكِ الدَّارِ
بِالشُّفْعَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عن نَفْسِهِ ثُمَّ لو وَهَبَ الْمُشْتَرِي
الدَّارَ نَفَذَتْ هِبَتُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عنه لَكِنَّهَا لَا تَلْزَمُ حتى
لِلشَّفِيعِ حَقُّ قَبْضِ الْهِبَةِ وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ
عن نَفْسِهِ كَذَا هذا
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرْطُ التَّقَدُّمِ فَشَيْئَانِ أَحَدُهُمَا الْعُصُوبَةُ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ فَتُقَدَّمُ الْعَصَبَةُ على ذَوِي الرَّحِمِ
____________________
(2/249)
سَوَاءً
كانت الْعَصَبَةُ أَقْرَبُ أو أَبْعَدُ وَعِنْدَهُمَا هِيَ شَرْطُ ثُبُوتِ أَصْلِ
الْوِلَايَةِ على ما مَرَّ
وَالثَّانِي قُرْبُ الْقَرَابَةِ يَتَقَدَّمُ الْأَقْرَبُ على الْأَبْعَدِ سَوَاءً
كان في الْعَصَبَاتِ أو في غَيْرِهَا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعَلَى
أَصْلِهِمَا هذا شَرْطُ التَّقَدُّمِ لَكِنْ في الْعَصَبَاتِ خَاصَّةً بِنَاءً على
أَنَّ الْعَصَبَاتِ شَرْطُ ثُبُوتِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ
هِيَ شَرْطُ التَّقَدُّمِ على غَيْرِهِمْ من الْقَرَابَاتِ فما دَامَ ثَمَّةَ
عَصَبَةٍ فَالْوِلَايَةُ لهم يَتَقَدَّمُ الْأَقْرَبُ منهم على الْأَبْعَدِ
وَعِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَاتِ تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِذَوِي الرَّحِمِ
الْأَقْرَبُ منهم يَتَقَدَّمُ على الْأَبْعَدِ وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ الْأَقْرَبُ
فَالْأَقْرَبُ في الْوِلَايَةِ لِأَنَّ هذه وِلَايَةُ نَظَرٍ وَتَصَرُّفُ
الْأَقْرَبِ انظر في حَقِّ الْمُوَلَّى عليه لِأَنَّهُ أَشْفَقُ فَكَانَ هو
أَوْلَى من الْأَبْعَدِ وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ إنْ كانت اسْتِحْقَاقُهَا
بِالتَّعْصِيبِ كما قَالَا فَالْأَبْعَدُ لَا يَكُونُ عَصَبَةً مع الْأَقْرَبِ
فَلَا يَلِي معه وَلَئِنْ كان اسْتِحْقَاقُهَا بِالْوِرَاثَةِ كما قال أبو
حَنِيفَةَ فَالْأَبْعَدُ لَا يَرِثُ مع الْأَقْرَبِ فَلَا يَكُونُ وَلِيًّا معه
وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ إذَا اجْتَمَعَ الْأَبُ وَالْجَدُّ في الصَّغِيرِ
وَالصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونِ الْكَبِيرِ وَالْمَجْنُونَةِ الْكَبِيرَةِ
فَالْأَبُ أَوْلَى من الْجَدِّ أَبُ الْأَبِ لِوُجُودِ الْعُصُوبَةِ وَالْقُرْبِ
وَالْجَدُّ أَبَ الْأَبِ وَإِنْ عَلَا أَوْلَى من الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ
وَالْأَخُ أَوْلَى من الْعَمِّ هَكَذَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْجَدُّ
وَالْأَخُ سَوَاءٌ كما في الْمِيرَاثِ فإن الْأَخَ لَا يَرِثُ مع الْجَدِّ
عِنْدَهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَعِنْدَهُمَا يَشْتَرِكَانِ في
الْمِيرَاثِ فَكَانَا كالآخوين وَإِنْ اجْتَمَعَ الْأَبُ وَالِابْنُ في
الْمَجْنُونَةِ فَالِابْنُ أَوْلَى عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ قَوْلَ أبي حَنِيفَةَ مع
قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَرَوَى الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال أَيُّهُمَا
زَوَّجَ جَازَ وَإِنْ اجْتَمَعَا قلت لِلْأَبِ زَوِّجْ
وقال مُحَمَّدٌ الْأَبُ أَوْلَى بِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن هذه الْوِلَايَةَ تَثْبُتُ نَظَرًا لِلْمُوَلَّى عليه وَتَصَرُّفُ
الْأَبِ انظر لها لِأَنَّهُ أَشْفَقُ عليها من الِابْنِ وَلِهَذَا كان هو أَوْلَى
بِالتَّصَرُّفِ في مَالِهَا وَلِأَنَّ الْأَبَ من قَوْمِهَا وَالِابْنُ ليس منهم
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُنْسَبُ إلَى أبيه فَكَانَ إثْبَاتُ الْوِلَايَةِ عليها
لِقَرَابَتِهَا أَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ مَبْنِيَّةٌ على
الْعُصُوبَةِ وَالْأَبُ مع الِابْنِ إذَا اجْتَمَعَا فَالِابْنُ هو الْعَصَبَةُ
وَالْأَبُ صَاحِبُ فَرْضٍ فَكَانَ كَالْأَخِ لِأُمٍّ مع الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْمُعَلَّى أَنَّهُ وُجِدَ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ما هو
سَبَبُ التَّقَدُّمِ أَمَّا الْأَبُ فَلِأَنَّهُ من قَوْمِهَا وهو أَشْفَقُ عليها
وَأَمَّا الِابْنُ فَلِأَنَّهُ يَرِثُهَا بِالتَّعْصِيبِ وَكُلُّ وَاحِدٍ من
هَذَيْنِ سَبَبُ التَّقَدُّمِ فَأَيُّهُمَا زَوَّجَ جَازَ وَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ
يُقَدَّمُ الْأَبُ تَعْظِيمًا وَاحْتِرَامًا له وَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَ الْأَبُ
وابن الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ فَهُوَ على هذا الْخِلَافِ وَالْأَفْضَلُ في
الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنْ يُفَوِّضَ الِابْنُ الْإِنْكَاحَ إلَى الْأَبِ احْتِرَامًا
لِلْأَبِ وَاحْتِرَازًا عن مَوْضِعِ الْخِلَافِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا اجْتَمَعَ الْجَدُّ وَالِابْنُ
قال أبو يُوسُفَ الِابْنُ أَوْلَى وقال مُحَمَّدٌ الْجَدُّ أَوْلَى وَالْوَجْهُ من
الْجَانِبَيْنِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا فَأَمَّا الْأَخُ وَالْجَدُّ فَهُوَ على
الْخِلَافِ الذي ذَكَرْنَا بين أبي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ
وَأَمَّا من غَيْرِ الْعَصَبَاتِ فَكُلُّ من يَرِثُ يُزَوِّجُ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَمَنْ لَا فَلَا وَبَيَانُ من يَرِثُ منهم وَمَنْ لَا يَرِثُ يُعْرَفُ
في كِتَابِ الْفَرَائِضِ ثُمَّ إنَّمَا يَتَقَدَّمُ الْأَقْرَبُ على الْأَبْعَدِ
إذَا كان الْأَقْرَبُ حَاضِرًا أو غَائِبًا غَيْبَةً غير مُنْقَطِعَةٍ فَأَمَّا
إذَا كان غَائِبًا غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فَلِلْأَبْعَدِ أَنْ يُزَوِّجَ في قَوْلِ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا وِلَايَةَ لِلْأَبْعَدِ مع قِيَامِ
الْأَقْرَبِ بِحَالٍ
وقال الشَّافِعِيُّ يُزَوِّجُهَا السُّلْطَانُ
وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا في وِلَايَةِ الْأَقْرَبِ أنها تَزُولُ بِالْغَيْبَةِ أو
تَبْقَى
قال بَعْضُهُمْ أنها بَاقِيَةٌ إلَّا أن حَدَثَتْ لِلْأَبْعَدِ وِلَايَةٌ لِغَيْبَةِ
الْأَقْرَبِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ لها وَلِيَّيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ في الدَّرَجَةِ
كَالْأَخَوَيْنِ وَالْعَمَّيْنِ
وقال بَعْضُهُمْ تَزُولُ وِلَايَتُهُ وَتَنْتَقِلُ إلَى الْأَبْعَدِ وهو
الْأَصَحُّ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ وِلَايَةَ الْأَقْرَبِ قَائِمَةٌ لِقِيَامِ سَبَبِ
ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ وهو الْقَرَابَةُ الْقَرِيبَةُ وَلِهَذَا لو زَوَّجَهَا
حَيْثُ هو يَجُوزُ فَقِيَامُ وِلَايَتِهِ تَمْنَعُ الِانْتِقَالَ إلَى غَيْرِهِ
وَالشَّافِعِيُّ يقول إنَّ وِلَايَةَ الْأَقْرَبِ بَاقِيَةٌ كما قال زُفَرُ إلَّا
أَنَّهُ اُمْتُنِعَ دَفْعُ حَاجَتِهَا من قِبَلِ الْأَقْرَبِ مع قِيَامِ
وِلَايَتِهِ عليها بِسَبَبِ الْغَيْبَةِ فَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِلسُّلْطَانِ
كما إذَا خَطَبَهَا كُفْءٌ وَامْتَنَعَ الْوَلِيُّ من تَزْوِيجِهَا منه إن
لِلْقَاضِي أَنْ يُزَوِّجَهَا وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا دَفْعُ الضَّرَرِ عن
الصَّغِيرَةِ
وَلَنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ لِلْأَبْعَدِ زِيَادَةُ نَظَرٍ في حَقِّ
الْعَاجِزِ فَتَثْبُتُ له الْوِلَايَةُ كما في الْأَبِ مع الْجَدِّ إذَا كَانَا
حَاضِرَيْنِ وَدَلَالَةُ ما قُلْنَا إن الْأَبْعَدَ أَقْدَرُ على تَحْصِيلِ
النَّظَرِ لِلْعَاجِزِ
____________________
(2/250)
لِأَنَّ
مَصَالِحَ النِّكَاحِ مُضَمَّنَةٌ تَحْتَ الْكَفَاءَةِ وَالْمَهْرِ وَلَا شَكَّ
أَنَّ الْأَبْعَدَ مُتَمَكِّنٌ من إحْرَازِ الْكُفْءِ الْحَاضِرِ بِحَيْثُ لَا
يَفُوتُهُ غَالِبًا وَالْأَقْرَبُ الْغَائِبُ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لَا يَقْدِرُ
على إحْرَازِهِ غَالِبًا
لِأَنَّ الْكُفْءَ الْحَاضِرَ لَا يَنْتَظِرُ حُضُورَهُ وَاسْتِطْلَاعَ رَأْيِهِ
غَالِبًا
وَكَذَا الْكُفْءُ الْمُطْلَقُ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تُخْطَبُ حَيْثُ هِيَ عَادَةً
فَكَانَ الْأَبْعَدُ أَقْدَرَ على إحْرَازِ الْكُفْءِ من الْأَقْرَبِ فَكَانَ
أَقْدَرَ على إحْرَازِ النَّظَرِ فَكَانَ أَوْلَى بِثُبُوتِ الْوَلَايَةِ له إذْ
الْمَرْجُوحُ في مُقَابَلَةِ الرَّاجِحِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ في الْأَحْكَامِ كما
في الْأَبِ مع الْجَدِّ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ وَلَايَةَ الْأَقْرَبِ قَائِمَةٌ فَمَمْنُوعٌ وَلَا
نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجُوزُ انكاحه بَلْ لَا يَجُوزُ فَوَلَايَتُهُ مُنْقَطِعَةٌ
بِوَاحِدَةٍ
وقد رُوِيَ عن أَصْحَابِنَا ما يَدُلُّ على هذا فَإِنَّهُمْ قالوا إنَّ
الْأَقْرَبَ إذَا كَتَبَ كِتَابًا إلَى الْأَبْعَدِ لِيُقَدِّمَ رَجُلًا في
الصَّلَاةِ على جِنَازَةِ الصَّغِيرِ فإن لِلْأَبْعَدِ أَنْ يَمْتَنِعَ عن ذلك
وَلَوْ كانت وَلَايَةُ الْأَقْرَبِ قَائِمَةٌ لَمَا كان له الِامْتِنَاعُ كما إذَا
كان الْأَقْرَبُ حَاضِرًا فَقَدَّمَ رَجُلًا ليس لِلْأَبْعَدِ وَلَايَةُ الْمَنْعِ
وَالْمَعْقُولُ يَدُلُّ عليه وهو أَنَّ ثُبُوتَ الْوَلَايَةِ لِحَاجَةِ
الْمُوَلَّى عليه وَلَا مَدْفَعَ لِحَاجَتِهِ بِرَأْيِ الْأَقْرَبِ لِخُرُوجِهِ من
أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ بِالْغَيْبَةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ
فَصَارَ كَأَنَّهُ جُنَّ أو مَاتَ إذْ الْمَوْجُودُ الذي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ
وَالْعَدَمُ الْأَصْلِيِّ سَوَاءٌ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِثُبُوتِ الْوَلَايَةِ
لِلْأَبْعَدِ مع وِلَايَةِ الْأَقْرَبِ يُؤَدِّي إلَى الْفَسَادِ لِأَنَّ
الْأَقْرَبَ رُبَّمَا يُزَوِّجُهَا من إنْسَانٍ حَيْثُ هو وَلَا يَعْلَمُ
الْأَبْعَدُ بِذَلِكَ فَيُزَوِّجُهَا من غَيْرِهِ فَيَطَؤُهَا الزَّوْجُ الثَّانِي
وَيَجِيءُ بِالْأَوْلَادِ ثُمَّ يَظْهَرُ أنها زَوْجَةُ الْأَوَّلِ وَفِيهِ من
الْفَسَادِ ما لَا يَخْفَى
ثُمَّ إنْ سَلَّمْنَا على قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ فَلَا تَنَافِيَ بين
الْوَلَايَتَيْنِ فَأَيُّهُمَا زَوَّجَ جَازَ كما إذَا كان لها أَخَوَانِ أو
عَمَّانِ في دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ وَفِيهِ كَمَالُ النَّظَرِ في حَقِّ الْعَاجِزِ
لِأَنَّ الْكُفْءَ إنْ اتَّفَقَ حَيْثُ الْأَبْعَدُ زَوَّجَهَا منه وَإِنْ
اتَّفَقَ حَيْثُ الْأَقْرَبُ زَوَّجَهَا منه فَيَكْمُلُ النَّظَرُ إلَّا أَنَّ في
حَالِ الْحَضْرَةِ يُرَجَّحُ الْأَقْرَبُ بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ الشَّفَقَةِ
لِزِيَادَةِ الْقَرَابَةِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنْ نَقْلَ الْوَلَايَةِ إلَى
السُّلْطَانِ بَاطِلٌ لِأَنَّ السُّلْطَانَ وَلِيُّ من لَا وَلِيَّ له وَهَهُنَا
لها وَلِيٌّ أو وَلِيَّانِ فَلَا تَثْبُتُ الْوَلَايَةُ لِلسُّلْطَانِ إلَّا
عِنْدَ الْعَضْلِ من الْوَلِيِّ ولم يُوجَدْ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَاخْتَلَفَتْ الْأَقَاوِيلُ في تَحْدِيدِ الْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ قال ما بين بَغْدَادَ وَالرَّيِّ
وفي رِوَايَةٍ مَسِيرَةُ شَهْرٍ فَصَاعِدًا وما دُونَهُ ليس بِغَيْبَةٍ
مُنْقَطِعَةٍ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ أَيْضًا رُوِيَ عنه ما بين الْكُوفَةِ إلَى
الرَّيِّ وَرُوِيَ عنه من الرَّقَّةِ إلَى الْبَصْرَةِ وَذَكَرَ ابن شُجَاعٍ إذَا
كان غَائِبًا في مَوْضِعٍ لَا تَصِلُ إلَيْهِ الْقَوَافِلُ وَالرُّسُلُ في
السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَهُوَ غَيْبَةٌ مُنْقَطِعَةٌ وإذا كانت
الْقَوَافِلُ تَصِلُ إلَيْهِ في السَّنَةِ غير مَرَّةٍ فَلَيْسَتْ بِمُنْقَطِعَةٍ
وَعَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أبي بِكْرٍ مُحَمَّدِ بن الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ
أَنَّهُ قال إنْ كان الْأَقْرَبُ في مَوْضِعٍ يُفَوِّتُ الْكُفْءَ الْخَاطِبَ
بِاسْتِطْلَاعِ رَأْيِهِ فَهُوَ غَيْبَةٌ مُنْقَطِعَةٌ وَإِنْ كان لَا يُفَوِّتُ
فَلَيْسَتْ بِمُنْقَطِعَةٍ وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ لِأَنَّ التَّعْوِيلَ
في الْوَلَايَةِ على تَحْصِيلِ النَّظَرِ لِلْمُوَلَّى عليه وَدَفْعِ الضَّرَرِ
عنه وَذَلِكَ فِيمَا قَالَهُ هذا إذَا اجْتَمَعَ في الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ
وَالْمَجْنُونِ الْكَبِيرِ وَالْمَجْنُونَةِ الْكَبِيرَةِ وَلِيَّانِ أَحَدُهُمَا
أَقْرَبُ وَالْآخَرُ أَبْعَدُ فَأَمَّا إذَا كَانَا في الدَّرَجَةِ سَوَاءً
كَالْأَخَوَيْنِ وَالْعَمَّيْنِ وَنَحْوِ ذلك فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على
حِيَالِهِ أَنْ يُزَوِّجَ رضي الْآخَرُ أو سَخِطَ بَعْدَ أَنْ كان التَّزْوِيجُ من
كُفْءٍ بِمَهْرٍ وَافِرٍ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ ليس لِأَحَدِ الْأَوْلِيَاءِ وَلَايَةُ الانكاح ما لم يَجْتَمِعُوا
بِنَاءً على أَنَّ هذه الْوَلَايَةَ وَلَايَةُ شَرِكَةٍ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا
وَعِنْدَ الْعَامَّةِ وِلَايَةُ اسْتِبْدَادٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ هذه الْوَلَايَةِ هو الْقَرَابَةُ وإنها
مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمْ فَكَانَتْ الْوِلَايَةُ مُشْتَرَكَةً لِأَنَّ الْحُكْمَ
يَثْبُتُ على وَفْقِ الْعِلَّةِ وَصَارَ كَوَلَايَةِ الْمِلْكِ فإن الْجَارِيَةَ
بين إثنين إذَا زَوَّجَهَا أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ من غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ
لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ الْوَلَايَةَ لَا تَتَجَزَّأُ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ بِسَبَبٍ لَا
يَتَجَزَّأُ وهو الْقَرَابَةُ وما لَا يَتَجَزَّأُ إذَا ثَبَتَ بِجَمَاعَةٍ سَبَبٌ
لَا يَتَجَزَّأُ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم على الْكَمَالِ كَأَنَّهُ ليس معه
غَيْرُهُ كَوَلَايَةِ الْأَمَانِ بِخِلَافِ وَلَايَةِ الْمِلْكِ لِأَنَّ سَبَبَهَا
الْمِلْكُ وَأَنَّهُ متجزىء فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ فَإِنْ زَوَّجَهَا
كُلُّ وَاحِدٍ من الْوَلِيَّيْنِ رَجُلًا على حِدَةٍ فَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدَانِ
مَعًا بَطَلَا جميعا لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ
أَحَدُهُمَا أَوْلَى من الْآخَرِ وَإِنْ وَقَعَا مُرَتَّبًا فَإِنْ كان لَا يدري
السَّابِقُ فَكَذَلِكَ لِمَا قُلْنَا وَلِأَنَّهُ لو جَازَ لَجَازَ بالتجزيء ( ( (
بالتجزي ) ) ) وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالتَّجْزِيءِ في الْفُرُوجِ
____________________
(2/251)
وَإِنْ
عُلِمَ السَّابِقُ مِنْهُمَا من اللَّاحِقِ جَازَ الْأَوَّلُ ولم يَجُزْ الْآخَرُ
وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا نَكَحَ
الْوَلِيَّانِ فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ
وَأَمَّا إذَا زَوَّجَ أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ الْحُرَّةَ الْبَالِغَةَ
الْعَاقِلَةَ بِرِضَاهَا من غَيْرِ كُفْءٍ بِغَيْرِ رِضَا الْبَاقِينَ فَحُكْمُهُ
يُذْكَرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في شَرَائِطِ اللُّزُومِ
فَصْلٌ وَأَمَّا وَلَايَةُ الْوَلَاءِ فَسَبَبُ ثُبُوتِهَا الْوَلَاءُ قال النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ ثُمَّ النَّسَبُ
سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْوَلَايَةِ كَذَا الْوَلَاءُ وَالْوَلَاءُ نَوْعَانِ وَلَاءُ
عَتَاقَةٍ وَوَلَاءُ مُوَالَاةٍ
أَمَّا وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ فَوَلَايَةُ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ نَوْعَانِ
وَلَايَةُ حَتْمٍ وَإِيجَابٍ وَوَلَايَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَلَايَةُ اسْتِبْدَادٍ وَوَلَايَةُ شَرِكَةٍ على ما
بَيَّنَّا في وَلَايَةِ الْقَرَابَةِ وَشَرْطُ ثُبُوتِ هذه الْوَلَايَةِ ما هو
شَرْطُ ثُبُوتِ تِلْكَ الْوَلَايَةِ إلَّا أَنَّ هذه الْوَلَايَةَ اخْتَصَّتْ
بِشَرْطٍ وهو أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُعْتَقِ عَصَبَةٌ من جِهَةِ الْقَرَابَةِ
فَإِنْ كان فَلَا وَلَايَةَ لِلْمُعْتِقِ لِأَنَّهُ لَا وَلَاءَ له لِأَنَّ مولى
الْعَتَاقَةِ آخِرُ الْعَصَبَاتِ وَإِنْ لم يَكُنْ ثَمَّةَ عَصَبَةٌ من جِهَةِ
القرابة ( ( ( القربة ) ) ) فَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ سَوَاءً كان الْمُعْتَقُ
ذَكَرًا أو أُنْثَى وَأَمَّا مولى الْمُوَالَاةِ فَلَهُ وَلَايَةُ التَّزْوِيجِ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ وَانْعِدَامِ
سَائِرِ الْوَرَثَةِ لِأَنَّهُ آخِرُ الْوَرَثَةِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ليس له وَلَايَةُ التَّزْوِيجِ أَصْلًا
وَرَأْسًا لِأَنَّ الْعُصُوبَة شَرْطٌ عِنْدَهُمَا ولم تُوجَدْ
فَصْلٌ وَأَمَّا وَلَايَةُ الْإِمَامَةِ فَسَبَبُهَا الْإِمَامَةُ وَوَلَايَةُ
الْإِمَامَةِ نَوْعَانِ أَيْضًا كَوَلَايَةِ الْقَرَابَةِ وَشَرْطُهَا ما هو
شَرْطُ تِلْكَ الْوَلَايَةِ في النَّوْعَيْنِ جميعا وَلَهَا شَرْطَانِ آخَرَانِ
أَحَدُهُمَا يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ جميعا وهو أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ وَلِيٌّ
أَصْلًا لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم السُّلْطَانُ وَلِيُّ من لَا وَلِيَّ له
وَالثَّانِي يَخُصُّ أَحَدَهُمَا وهو وَلَايَةُ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ أو
وَلَايَةُ الشَّرِكَةِ على اخْتِلَافِ الْأَصْلِ وهو لِعَضْلٍ من الْوَلِيِّ
لِأَنَّ الْحُرَّةَ الْبَالِغَةَ الْعَاقِلَةَ إذَا طَلَبَتْ الْإِنْكَاحَ من
كُفْءٍ وَجَبَ عليه التَّزْوِيجُ منه لِأَنَّهُ منهى عن الْعَضْلِ وَالنَّهْيُ عن
الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ فإذا امْتَنَعَ فَقَدْ أَضَرَّ بها وَالْإِمَامُ
نُصِّبَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَتَنْتَقِلُ الْوَلَايَةُ إلَيْهِ وَلَيْسَ
لِلْوَصِيِّ وَلَايَةُ الْإِنْكَاحِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِالْأَمْرِ فَلَا
يَعْدُو مَوْضِعَ الْأَمْرِ كَالْوَكِيلِ وَإِنْ كان الْمَيِّتُ أَوْصَى إلَيْهِ
لَا يَمْلِكُ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْوِصَايَةِ إلَيْهِ نَقْلَ وَلَايَةِ
الْإِنْكَاحِ وَأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ النَّقْلَ حَالَ الْحَيَاةِ كَذَا بَعْدَ
الْمَوْتِ وَكَذَا الْفُضُولِيُّ لِانْعِدَامِ سَبَبِ ثُبُوتِ الْوَلَايَةِ في
حَقِّهِ أَصْلًا وَلَوْ أَنْكَحَ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا على الْإِجَازَةِ
عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا وَالْمَسْأَلَةُ سَتَأْتِي في
كِتَابِ الْبُيُوعِ
فَصْلٌ وَمِنْهَا الشَّهَادَةُ وَهِيَ حُضُورُ الشُّهُودِ وَالْكَلَامُ في هذا
الشَّرْطِ في ثَلَاثِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في بَيَانِ أَنَّ أَصْلَ الشَّهَادَةِ
شَرْطُ جَوَازِ النِّكَاحِ أَمْ لَا
وَالثَّانِي في بَيَانِ صِفَاتِ الشَّاهِدِ الذي يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ
بِحُضُورِهِ
وَالثَّالِثُ في بَيَانِ وَقْتِ الشَّهَادَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فيه
قال عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطُ جَوَازِ النِّكَاحِ
وقال مَالِكٌ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ هو الْإِعْلَانُ حتى لو
عَقَدَ النِّكَاحَ وَشَرَطَ الْإِعْلَانَ جَازَ وَإِنْ لم يَحْضُرْهُ شُهُودٌ
وَلَوْ حَضَرَتْهُ شُهُودٌ وَشَرَطَ عليهم الْكِتْمَانَ لم يَجُزْ وَلَا خِلَافَ
في أَنَّ الْإِشْهَادَ في سَائِرِ الْعُقُودِ ليس بِشَرْطٍ وَلَكِنَّهُ مَنْدُوبٌ
إلَيْهِ وَمُسْتَحَبٌّ قال اللَّهُ تَعَالَى في بَابِ الْمُدَايَنَةِ { يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
فَاكْتُبُوهُ } وَالْكِتَابَةُ لَا تَكُونُ لِنَفْسِهَا بَلْ للاشهاد وَنَصَّ عليه
في قَوْلِهِ { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِجَالِكُمْ } وقال عز وجل في بَاب
الرَّجْعَةِ { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ }
وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ النِّكَاحَ إنَّمَا يَمْتَازُ عن السِّفَاحِ
بِالْإِعْلَانِ فإن الزِّنَا يَكُونُ سِرًّا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ
عَلَانِيَةً
وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن نِكَاحِ
السِّرِّ وَالنَّهْيُ عن السِّرِّ يَكُونُ أَمْرًا بالاعلان لِأَنَّ النَّهْيَ عن
الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ وَرُوِيَ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَلَوْ بِالدُّفِّ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا نِكَاحَ
إلَّا بِشُهُودٍ وَرُوِيَ لَا نِكَاحَ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ
وَعَنْ عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَنَّهُ قال الزَّانِيَةُ التي تُنْكِحُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ
وَلَوْ لم تَكُنْ الشَّهَادَةُ شَرْطًا لم
____________________
(2/252)
تَكُنْ
زَانِيَةً بِدُونِهَا وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَسَّتْ إلَى دَفْعِ تُهْمَةِ الزِّنَا
عنها وَلَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِالشُّهُودِ لِأَنَّهَا لَا تَنْدَفِعُ إلَّا
بِظُهُورِ النِّكَاحِ وَاشْتِهَارِهِ وَلَا يَشْتَهِرُ إلَّا بِقَوْلِ الشُّهُودِ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّهَادَةَ في النِّكَاحِ ما شُرِطَتْ إلَّا في
النِّكَاحِ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ لِأَنَّ ذلك
يَنْدَفِعُ بِالظُّهُورِ وَالِاشْتِهَارِ لِكَثْرَةِ الشُّهُودِ على النِّكَاحِ
بِالسَّمَاعِ من الْعَاقِدَيْنِ وَبِالتَّسَامُعِ وَبِهَذَا فَارَقَ سَائِرَ
الْعُقُودِ فإن الْحَاجَةَ إلَى الشَّهَادَةِ هُنَاكَ لِدَفْعِ احْتِمَالِ
الشُّهُودِ النِّسْيَانَ أو الْجُحُودَ وَالْإِنْكَارَ في الثَّانِي إذْ ليس
بَعْدَهَا ما يُشْهِرُهَا لِيَنْدَفِعَ بِهِ الْجُحُودُ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى
الدَّفْعِ بِالشَّهَادَةِ فَنُدِبَ إلَيْهَا وما رُوِيَ أَنَّهُ نهى عن نِكَاحِ
السِّرِّ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ لَكِنَّ نِكَاحَ السِّرِّ ما لم يَحْضُرْهُ
شَاهِدَانِ فَأَمَّا ما حَضَرَهُ شَاهِدَانِ فَهُوَ نِكَاحُ عَلَانِيَةٍ لَا
نِكَاحَ سِرٍّ إذْ السِّرُّ إذَا جَاوَزَ اثْنَيْنِ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ سِرًّا
قال الشَّاعِرُ وَسِرُّكَ ما كان عِنْدَ امرىء وَسِرُّ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ
الْخَفِي وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَعْلِنُوا النِّكَاحَ
لِأَنَّهُمَا إذَا أَحْضَرَاهُ شَاهِدَيْنِ فَقَدْ أَعْلَنَاهُ وَقَوْلُهُ صلى
اللَّهُ عليه وسلم وَلَوْ بِالدُّفِّ نَدْبٌ إلَى زِيَادَةِ إعلانه ( ( ( علانة )
) ) وهو مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَاتُ الشَّاهِدِ الذي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ وَهِيَ
شَرَائِطُ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ لِلنِّكَاحِ فَمِنْهَا الْعَقْلُ وَمِنْهَا
الْبُلُوغُ وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحَضْرَةِ
الْمَجَانِينَ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَمَالِيكِ قِنًّا كان الْمَمْلُوكُ أو
مُدَبَّرًا أو مُكَاتَبًا
من مَشَايِخِنَا من أَصَّلَ في هذا أَصْلًا فقال كُلُّ من صَلُحَ أَنْ يَكُونَ
وَلِيًّا في النِّكَاحِ بِوَلَايَةِ نَفْسِهِ يَصْلُحُ شَاهِدًا فيه وَإِلَّا
فَلَا وَهَذَا الِاعْتِبَارُ صَحِيحٌ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ من بَابِ الْوَلَايَةِ
لِأَنَّهَا تَنْفِيذُ الْقَوْلِ على الْغَيْرِ وَالْوَلَايَةُ هِيَ نَفَاذُ
الْمَشِيئَةِ وَهَؤُلَاءِ ليس لهم وَلَايَةُ الانكاح لِأَنَّهُ لَا وَلَايَةَ لهم
على أَنْفُسِهِمْ فَكَيْفَ يَكُونُ لهم وَلَايَةٌ على غَيْرِهِمْ إلَّا
الْمُكَاتَبَ فإنه يُزَوِّجُ أَمَتَهُ لَكِنْ لَا بِوَلَايَةِ نَفْسِهِ بَلْ
بِوَلَايَةِ مَوْلَاهُ بِتَسْلِيطِهِ على ذلك بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وكان
التَّزْوِيجَ من الْمَوْلَى من حَيْثُ الْمَعْنَى فَلَا يَصْلُحُ شَاهِدًا
وَمِنْهُمْ من قال كُلُّ من يَمْلِكُ قَبُولَ عَقْدٍ بِنَفْسِهِ يَنْعَقِدُ ذلك
الْعَقْدُ بِحُضُورِهِ وَمَنْ لَا فَلَا وَهَذَا الِاعْتِبَارُ صَحِيحٌ أَيْضًا
لِأَنَّ الشَّهَادَةَ من شَرَائِطِ رُكْنِ الْعَقْدِ وَرُكْنُهُ وهو الْإِيجَابُ
وَالْقَبُولُ وَلَا وُجُودَ لِلرُّكْنِ بِدُونِ الْقَبُولِ فَكَمَا لَا وُجُودَ
لِلرُّكْنِ بِدُونِ الْقَبُولِ حَقِيقَةً لَا وُجُودَ له شَرْعًا بِدُونِ
الشَّهَادَةِ وَهَؤُلَاءِ لَا يَمْلِكُونَ قَبُولَ الْعَقْدِ بِأَنْفُسِهِمْ فَلَا
يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِمْ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُمْ لَيْسُوا من أَهْلِ الشَّهَادَةِ أَنَّ قَاضِيًا لو
قَضَى بِشَهَادَتِهِمْ يَنْفَسِخُ قَضَاؤُهُ عليه
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَصَّلَ فيه أَصْلًا وقال كُلُّ من
جَازَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ في قَوْلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ يَنْعَقِدُ
النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ عِنْدَ أَحَدٍ
لَا يَجُوزُ بِحُضُورِهِ وَهَذَا الِاعْتِبَارُ صَحِيحٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْحُضُورَ
لِفَائِدَةِ الْحُكْمِ بها عِنْدَ الْأَدَاءِ فإذا جَازَ الْحُكْمُ بها في
الْجُمْلَةِ كان الْحُضُورُ مُفِيدًا وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ
هَؤُلَاءِ عِنْدَ الْبَعْضِ من الْفُقَهَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَاضِيًا لو قَضَى
بِشَهَادَتِهِمْ يَنْفَسِخُ عليه قَضَاؤُهُ
فَصْلٌ وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ في نِكَاحِ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَةَ فَلَا
يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَةَ بِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ لِأَنَّ
الْكَافِرَ ليس من أَهْلِ الْوَلَايَةِ على الْمُسْلِمِ قال اللَّهُ تَعَالَى {
وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ على الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } وَكَذَا
لَا يَمْلِكُ الْكَافِرُ قَبُولَ نِكَاحِ الْمُسْلِمِ وَلَوْ قَضَى قَاضٍ
بِشَهَادَتِهِ على الْمُسْلِمِ يُنْقَضُ قَضَاؤُهُ
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ إذَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ فإنه
يَجُوزُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ سَوَاءٌ كَانَا مُوَافِقَيْنِ
لها في الْمِلَّةِ أو مُخَالِفَيْنِ وقال مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ لَا
يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّةَ بِشَهَادَةِ الذِّمِّيَّيْنِ
أَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ فَهُوَ مَبْنِيٌّ على أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ
الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ مَقْبُولَةٌ على أَصْلِنَا وَعَلَى أَصْلِهِ
غَيْرُ مَقْبُولَةٍ
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فانهما احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عن رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ
وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ وَالْمُرَادُ منه عَدَالَةُ الدِّينِ لَا عَدَالَةُ
التَّعَاطِي لِإِجْمَاعِنَا على أَنَّ فِسْقَ التَّعَاطِي لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ
النِّكَاحِ وَلِأَنَّ الْإِشْهَادَ شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ
يَتَعَلَّقُ وُجُودُهُ بِالطَّرَفَيْنِ طَرَفُ الزَّوْجِ وَطَرَفُ الْمَرْأَةِ ولم
يُوجَدْ الْإِشْهَادُ على الطَّرَفَيْنِ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ حُجَّةٌ في
حَقِّ الْكَافِرِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ في حَقِّ الْمُسْلِمِ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُ
في حَقِّهِ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ فلم يُوجَدْ الْإِشْهَادُ في جَانِبِ الزَّوْجِ
فَصَارَ كَأَنَّهُمَا سَمِعَا كَلَامَ الْمَرْأَةِ دُونَ كَلَامِ الرَّجُلِ وَلَوْ
كان كَذَلِكَ لم يَكُنْ النِّكَاحُ كَذَا هدا
وَلَهُمَا عُمُومَاتُ النِّكَاحِ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نحو قَوْله تَعَالَى
{ فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ من النِّسَاءِ }
____________________
(2/253)
وَقَوْلِهِ { وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا
بِأَمْوَالِكُمْ }
وَقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا وَقَوْلِهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم تَنَاكَحُوا وَغَيْرِ ذلك مُطْلَقًا عن غَيْرِ شَرْطٍ إلَّا
أَنَّ أَهْلَ الشَّهَادَةِ وَإِسْلَامَ الشَّاهِدِ صَارَ شَرْطًا في نِكَاحِ
الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ فَمَنْ ادَّعَى كَوْنَهُ شَرْطًا في
نِكَاحِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّةَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ
وَرُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا نِكَاحَ إلَّا
بِشُهُودٍ وَرُوِيَ لَا نِكَاحَ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ وَالِاسْتِثْنَاءُ من
النَّفْيِ إثْبَاتٌ ظَاهِرٌ وَهَذَا نِكَاحٌ بِشُهُودٍ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ في
اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن الْإِعْلَامِ وَالْبَيَانِ وَالْكَافِرُ من أَهْلِ
الْإِعْلَامِ وَالْبَيَانِ لِأَنَّ ذلك يَقِفُ على الْعَقْلِ وَاللِّسَانِ
وَالْعِلْمِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ وقد وُجِدَ إلَّا أَنَّ شَهَادَتَهُ على
الْمُسْلِمِ خُصَّتْ من عُمُومِ الحديث فَبَقِيَتْ شَهَادَتُهُ لِلْمُسْلِمِ
دَاخِلَةً تَحْتَهُ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ من بَابِ الْوَلَايَةِ لِمَا بَيَّنَّا
وَالْكَافِرُ الشَّاهِدُ يَصْلُحُ وَلِيًّا في هذا الْعَقْدِ بِوَلَايَةِ نَفْسِهِ
وَيَصْلُحُ قَابِلًا لِهَذَا الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ فيه صَلُحَ شَاهِدًا وَكَذَا
يَجُوزُ لِلْقَاضِي الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ هذه لِلْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ
الِاجْتِهَادِ على ما نَذْكُرُ وَلَوْ قَضَى لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فَيَنْفُذُ
النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ أنه ضَعِيفٌ وَلَئِنْ ثَبَتَ فَنَحْمِلُهُ على
نَفْيِ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ الْعَقْدُ خَلَا عن الْإِشْهَادِ في جَانِبِ الزَّوْجِ لِأَنَّ
شَهَادَةَ الْكَافِرِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ في حَقِّ الْمُسْلِمِ فَنَقُولُ
شَهَادَةُ الْكَافِرِ إنْ لم تَصْلُحْ حُجَّةً لِلْكَافِرِ على الْمُسْلِمِ
فَتَصْلُحُ حُجَّةً لِلْمُسْلِمِ على الْكَافِرِ لِأَنَّهَا إنَّمَا لَا تَصْلُحُ
حُجَّةً على الْمُسْلِمِ لِأَنَّهَا من بَابِ الْوَلَايَةِ وفي جَعْلِهَا حُجَّةً
على الْمُسْلِمِ إثْبَاتُ الْوَلَايَةِ لِلْكَافِرِ على الْمُسْلِمِ وَهَذَا لَا
يَجُوزُ وَهَذَا الْمَعْنَى لم يُوجَدْ هَهُنَا لِأَنَّا إذَا جَعَلْنَاهَا
حُجَّةً لِلْمُسْلِمِ ما كان فيه إثْبَاتُ الْوَلَايَةِ لِلْكَافِرِ وَهَذَا
جَائِزٌ على أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا قَوْلَهُ ليس بِحُجَّةٍ في حَقِّ الْمُسْلِمِ
لَكِنَّ حُضُورَهُ على أَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةً ليس بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ
النِّكَاحِ فإنه يَنْعَقِدُ بِحُضُورِ من لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عليه على ما
نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهَلْ يَظْهَرُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِ
الذِّمِّيَّةَ بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ عِنْدَ الدَّعْوَى يُنْظَرُ في ذلك إنْ
كانت الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُدَّعِيَةُ لِلنِّكَاحِ على الْمُسْلِمِ وَالْمُسْلِمُ
مُنْكِرٌ لَا يَظْهَرُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ هذه شَهَادَةُ الْكَافِرِ على
الْمُسْلِمِ وَإِنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَإِنْ كان الزَّوْجُ هو الْمُدَّعِي
وَالْمَرْأَةُ مُنْكِرَةً فَعَلَى أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَظْهَرُ
سَوَاءً قال الشَّاهِدَانِ كان مَعَنَا عِنْدَ الْعَقْدِ رَجُلَانِ مُسْلِمَانِ أو
لم يَقُولَا ذلك
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ على أَصْلِ مُحَمَّدٍ
قال بَعْضُهُمْ يَظْهَرُ كما قَالَا
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَظْهَرُ سَوَاءً قَالَا كان مَعَنَا رَجُلَانِ مُسْلِمَانِ
أو لم يَقُولَا ذلك وهو الصَّحِيحُ من مَذْهَبِهِ
وَوَجْهُهُ أَنَّ هذه شَهَادَةٌ قَامَتْ على نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَعَلَى إثْبَاتِ
فِعْلِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُمَا إنْ شَهِدَا على نِكَاحٍ حَضَرَاهُ فَقَطْ لَا
تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّ هذه شَهَادَةٌ على نِكَاحٍ فَاسِدٍ عِنْدَهُ
وَإِنْ شَهِدَا على أَنَّهُمَا حَضَرَاهُ وَمَعَهُمَا رَجُلَانِ مُسْلِمَانِ لَا
تُقْبَلُ أَيْضًا لِأَنَّ هذه إنْ كانت شَهَادَةَ الْكَافِرِ على الْكَافِرِ
لَكِنْ فيها إثْبَاتُ فِعْلِ الْمُسْلِمِ فَيَكُونُ شَهَادَةً على مُسْلِمٍ فَلَا
تُقْبَلُ كَمُسْلِمٍ ادَّعَى عَبْدًا في يَدِ ذِمِّيٍّ فَجَحَدَ الذِّمِّيُّ
دَعْوَى الْمُسْلِمِ وَزَعَمَ أَنَّ الْعَبْدَ عَبْدُهُ فَأَقَامَ الْمُسْلِمُ
شاهدين ( ( ( بشاهدين ) ) ) ذِمِّيَّيْنِ على أَنَّ الْعَبْدَ عَبْدُهُ وَقَضَى له
بِهِ على هذا الذِّمِّيِّ قَاضٍ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا وَإِنْ كان هذا
شَهَادَةَ الْكَافِرِ على الْكَافِرِ لَكِنْ لَمَّا كان فيها إثْبَاتُ فِعْلِ
الْمُسْلِمِ بِشَهَادَةِ الْكَافِرِ وهو قَضَاءُ الْقَاضِي لم تُقْبَلْ كَذَا هذا
وَجْهُ الْكَلَامِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في
جَانِبِ الِاعْتِقَادِ أَنَّ الشَّهَادَةَ من بَابِ الْوَلَايَةِ وَلِلْكَافِرِ
وَلَايَةٌ على الْكَافِرِ وَلَوْ كان الشَّاهِدَانِ وَقْتَ التَّحَمُّلِ
كَافِرَيْنِ وَوَقْتَ الْأَدَاءِ مُسْلِمَيْنِ فَشَهِدَا لِلزَّوْجِ فَعَلَى
أَصْلِهِمَا لَا يُشْكِلُ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا لو كَانَا
في الْوَقْتَيْنِ جميعا كَافِرَيْنِ تُقْبَلُ فَهَهُنَا أَوْلَى
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ على أَصْلِ مُحَمَّدٍ
قال بَعْضُهُمْ تُقْبَلُ
وقال بَعْضُهُمْ لَا تُقْبَلُ
فَمَنْ قال تُقْبَلُ نَظَرَ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ وَمَنْ قال لَا تُقْبَلُ
نَظَرَ إلَى وَقْتِ التَّحَمُّلِ
____________________
(2/254)
فَصْلٌ
وَمِنْهَا سَمَاعُ الشَّاهِدَيْنِ كَلَامَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ جميعا حتى لو
سَمِعَا كَلَامَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ أو سمع أَحَدُهُمَا كَلَامَ
أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ كَلَامَ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ لِأَنَّ
الشَّهَادَةَ أَعْنِي حُضُورَ الشُّهُودِ شَرْطُ رُكْنِ الْعَقْدِ وَرُكْنُ الْعَقْدِ
هو الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فِيمَا لم يَسْمَعَا كَلَامَهُمَا لَا تَتَحَقَّقُ
الشَّهَادَةُ عند الرُّكْنِ فَلَا يُوجَدُ شَرْطُ الرُّكْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَمِنْهَا الْعَدَدُ فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ
لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ
وَقَوْلِهِ لَا نِكَاحَ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ
وَأَمَّا عَدَالَةُ الشَّاهِدِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ النِّكَاحِ
عِنْدَنَا فَيَنْعَقِدُ بِحُضُورِ الْفَاسِقَيْنِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ
وَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِحُضُورِ من ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ
وَاحْتَجَّ بِمَا روى عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا
نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ خَبَرٌ
يُرَجَّحُ فيه جَانِبُ الصِّدْقِ على جَانِبِ الْكَذِبِ وَالرُّجْحَانُ إنَّمَا
يَثْبُتُ بِالْعَدَالَةِ
وَلَنَا أَنَّ عُمُومَاتِ النِّكَاحِ مُطْلَقَةٌ عن شَرْطٍ ثُمَّ اشْتِرَاطُ
أَصْلِ الشَّهَادَةِ بِصِفَاتِهَا الْمُجْمَعِ عليها ثَبَتَتْ بِالدَّلِيلِ فَمَنْ
ادَّعَى شَرْطَ الْعَدَالَةِ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ وَلِأَنَّ الْفِسْقَ لَا
يَقْدَحُ في وَلَايَةِ الْإِنْكَاحِ بِنَفْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا في شَرَائِطِ
الْوَلَايَةِ وَكَذَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ في الْجُمْلَةِ
وَلَوْ حَكَمَ لَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فَكَانَ من
أَهْلِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَالْفِسْقُ لَا يَقْدَحُ في أَهْلِيَّةِ
التَّحَمُّلِ وَإِنَّمَا يَقْدَحُ في الْأَدَاءِ فَيَظْهَرُ أَثَرُهُ في
الْأَدَاءِ لَا في الِانْعِقَادِ وقد ظَهَرَ حتى لَا يَجِبُ على الْقَاضِي
الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا إلَّا إذَا تَحَرَّى الْقَاضِي
الصِّدْقَ في شَهَادَتِهِ وَكَذَا كَوْنُ الشَّاهِدِ غير مَحْدُودٍ في الْقَذْفِ
ليس بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ النِّكَاحِ فَيَنْعَقِدُ بِحُضُورِ الْمَحْدُودِ في
الْقَذْفِ غير أَنَّهُ إنْ كان قد تَابَ بعدما حُدَّ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ
بِالْإِجْمَاعِ
وَإِنْ كان لم يَتُبْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَنَا على التَّأْبِيدِ
خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ لِأَنَّ كَوْنَهُ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ على
التَّأْبِيدِ يَقْدَحُ في الْأَدَاءِ لَا في التَّحَمُّلِ وَلِأَنَّهُ يَصْلُحُ
وَلِيًّا في النِّكَاحِ بِوَلَايَةِ نَفْسِهِ وَيَصِحُّ الْقَبُولُ منه بِنَفْسِهِ
وَيَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ في الْجُمْلَةِ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ
بِحُضُورِهِ وَإِنْ حُدَّ ولم يَتُبْ أو لم يَتُبْ ولم يُحَدَّ يَنْعَقِدُ
عِنْدَنَا خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ وَهِيَ مَسْأَلَةُ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ
وَكَذَا بَصَرُ الشَّاهِدِ ليس بِشَرْطٍ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِ
الْأَعْمَى لِمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّ الْعَمَى لَا يَقْدَحُ إلَّا في الْأَدَاءِ
لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ بين الْمَشْهُودِ عليه وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ له أَلَا
تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ في وَلَايَةِ الْإِنْكَاحِ وَلَا في قَبُولِ
النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ وَلَا في الْمَنْعِ من جَوَازِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ في
الْجُمْلَةِ فَكَانَ من أَهْلِ أَنْ يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ وَكَذَا
ذُكُورَةُ الشَّاهِدَيْنِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ
بِحُضُورِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ وَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِحُضُورِ رَجُلَيْنِ
وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ الشَّهَادَاتِ
وَكَذَا إسْلَامُ الشَّاهِدَيْنِ ليس بِشَرْطٍ في نِكَاحِ الْكَافِرَيْنِ
فَيَنْعَقِدُ نِكَاحُ الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرَيْنِ بِشَهَادَةِ كَافِرَيْنِ
وَكَذَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ سَوَاءً
اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ أو اخْتَلَفَتْ وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إسْلَامُ الشَّاهِدِ شَرْطٌ لِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ نِكَاحُ
الْكَافِرِ بِشَهَادَةِ الْكَافِرِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ أَيْضًا
وَالْكَلَامُ في الْقَبُولِ نَذْكُرهُ في كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَنَتَكَلَّمُ
هَهُنَا في انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِشَهَادَتِهِ
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِالْمَرْوِيِّ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
قال لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ وَلَا عَدَالَةَ مع الْكُفْرِ
لِأَنَّ الْكُفْرَ أَعْظَمُ الظُّلْمِ وَأَفْحَشُهُ فَلَا يَكُونُ الْكَافِرُ
عَدْلًا فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ
وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ
وَقَوْلُهُ لَا نِكَاحَ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ وَالِاسْتِثْنَاءُ من النَّفْيِ
إثْبَاتٌ من حَيْثُ الظَّاهِرِ وَالْكُفْرُ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ شَاهِدًا لِمَا
ذَكَرْنَا وَكَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا في النِّكَاحِ بِوَلَايَةِ
نَفْسِهِ وَلَا قَابِلًا لِلْعَقْدِ بِنَفْسِهِ وَلَا جَوَازَ لِلْقَضَاءِ
بِشَهَادَتِهِ في الْجُمْلَةِ وَكَذَا كَوْنُ شَاهِدِ النِّكَاحِ مَقْبُولَ
الشَّهَادَةِ عليه ليس بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ النِّكَاحِ بِحُضُورِهِ وَيَنْعَقِدُ
النِّكَاحُ بِحُضُورِ من لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عليه أَصْلًا كما إذَا
تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَهَادَةِ ابْنَيْهِ منها وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَنْعَقِدُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الشَّهَادَةَ في بَابِ النِّكَاحِ لِلْحَاجَةِ إلَى
صِيَانَتِهِ عن الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ وَالصِّيَانَةُ لَا تَحْصُلُ إلَّا
بِالْقَبُولِ فإذا لم يَكُنْ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ لَا تَحْصُلُ الصِّيَانَةُ
وَلَنَا أَنَّ
____________________
(2/255)
الِاشْتِهَارَ
في النِّكَاحِ لِدَفْعِ تُهْمَةِ الزِّنَا لَا لِصِيَانَةِ الْعَقْدِ عن
الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ وَالتُّهْمَةُ تَنْدَفِعُ بِالْحُضُورِ من غَيْرِ
قَبُولٍ على أَنَّ مَعْنَى الصِّيَانَةِ يَحْصُلُ بِسَبَبِ حُضُورِهِمَا وَإِنْ
كان لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّ النِّكَاحَ يَظْهَرُ وَيَشْتَهِرُ
بِحُضُورِهِمَا فإذا ظهور ( ( ( ظهر ) ) ) وَاشْتَهَرَ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فيه
بِالتَّسَامُعِ فَتَحْصُلُ الصِّيَانَةُ
وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَهَادَةِ ابْنَيْهِ لَا منها أو ابْنَيْهَا
لَا منه يَجُوزُ لِمَا قُلْنَا ثُمَّ عِنْدَ وُقُوعِ الْحَجْرِ وَالْإِنْكَارِ
يُنْظَرُ إنْ وَقَعَتْ شَهَادَتُهُمَا لِوَاحِدٍ من الْأَبَوَيْنِ لَا تُقْبَلُ
وَإِنْ وَقَعَتْ عليه تُقْبَلُ لِأَنَّ شَهَادَةَ الِابْنِ لِأَبَوَيْهِ غَيْرُ
مَقْبُولَةٍ وَشَهَادَتَهُمَا عليه مَقْبُولَةٌ وَلَوْ زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَتَهُ
من رَجُلٍ بِشَهَادَةِ ابْنَيْهِ وَهُمَا أَخَوَا الْمَرْأَةِ فَلَا يُشَكُّ
أَنَّهُ يَجُوزُ النِّكَاحُ وإذا وَقَعَ الْجُحُودُ بين الزَّوْجَيْنِ فَإِنْ كان
الْأَبُ مع الْجَاحِدِ مِنْهُمَا أَيُّهُمَا كان تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّ
هذه شَهَادَةٌ على الْأَبِ فَتُقْبَلُ وَإِنْ كان الْأَبُ مع الْمُدَّعِي
مِنْهُمَا أَيُّهُمَا كان لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُقْبَلُ
فَأَبُو يُوسُفَ نَظَرَ إلَى الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ فقال إذَا كان الْأَبُ مع
الْمُنْكِرِ فَشَهَادَتُهُمَا تَقَعُ على الْأَبِ فَتُقْبَلُ وإذا كان مع
الْمُدَّعِي فَشَهَادَتُهُمَا تَقَعُ لِلْأَبِ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ كان من
الْأَبِ فَلَا تُقْبَلُ وَمُحَمَّدٌ نَظَرَ إلَى الْمَنْفَعَةِ وَعَدَمِ
الْمَنْفَعَةِ فقال إنْ كان لِلْأَبِ مَنْفَعَةٌ لَا تُقْبَلُ سَوَاءً كان
مُدَّعِيًا أو مُنْكِرًا وَإِنْ لم يَكُنْ له مَنْفَعَةٌ تُقْبَلُ وَهَهُنَا لَا
مَنْفَعَةَ لِلْأَبِ فَتُقْبَلُ وَالصَّحِيحُ نَظَرُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْمَانِعَ
من الْقَبُولِ هو التُّهْمَةُ وَإِنَّهَا تَنْشَأُ عن النَّفْعِ
وَكَذَلِكَ هذا الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا قال رَجُلٌ لِعَبْدِهِ إنْ كَلَّمَك
زَيْدٌ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ قال الْعَبْدُ كَلَّمَنِي زَيْدٌ وَأَنْكَرَ
الْمَوْلَى فَشَهِدَ لِلْعَبْدِ ابْنَا زَيْدٍ أَنَّ أَبَاهُمَا قد كَلَّمَهُ
وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا في قَوْلِ مُحَمَّدٍ سَوَاءً كان
زَيْدٌ يَدَّعِي الْكَلَامَ أو لَا يَدَّعِي لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِزَيْدٍ في
الْكَلَامِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ إنْ كان زَيْدٌ يَدَّعِي الْكَلَامَ لَا تُقْبَلُ وَإِنْ كان
لَا يَدَّعِي تُقْبَلُ وَكَذَلِكَ هذا الِاخْتِلَافُ فِيمَنْ تَوَكَّلَ عن
غَيْرِهِ في عَقْدٍ ثُمَّ شَهِدَ ابْنَا الْوَكِيلِ على الْعَقْدِ فَإِنْ كان
حُقُوقُ الْعَقْدِ لَا تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عِنْدَ
مُحَمَّدٍ سَوَاءً ادَّعَى الْوَكِيلُ أو لم يَدَّعِ لِأَنَّهُ ليس فيه مَنْفَعَةٌ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ إنْ كان يَدَّعِي لَا تُقْبَلُ وَإِنْ كان مُنْكِرًا
تُقْبَلُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ هذه الشَّهَادَةِ وَهِيَ حُضُورُ الشُّهُودِ
فَوَقْتُهَا وَقْتُ وُجُودِ رُكْنِ الْعَقْدِ وهو الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَا
وَقْتُ وُجُودِ الْإِجَازَةِ حتى لو كان الْعَقْدُ مَوْقُوفًا على الْإِجَازَةِ
فَحَضَرُوا عَقْدَ الْإِجَازَةِ ولم يَحْضُرُوا عِنْدَ الْعَقْدِ لم تَجُزْ
لِأَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطُ رُكْنِ الْعَقْدِ فَيُشْتَرَطُ وُجُودُهَا عِنْدَ
الرُّكْنِ وَالْإِجَازَةُ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ بَلْ هِيَ شَرْطُ النَّفَاذِ في
الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ وَعِنْدَ وُجُودِ الْإِجَازَةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ
بِالْعَقْدِ من حِينِ وُجُودِهِ فَتُعْتَبَرُ الشَّهَادَةُ في ذلك الْوَقْتِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُحَلَّلَةً وَهِيَ أَنْ لَا تَكُونَ
مُحَرَّمَةً على التَّأْبِيدِ فَإِنْ كانت مُحَرَّمَةً على التَّأْبِيدِ فَلَا
يَجُوزُ نِكَاحُهَا لِأَنَّ الْإِنْكَاحَ إحْلَالٌ وَإِحْلَالُ الْمُحَرَّمِ على
التَّأْبِيدِ مُحَالٌ وَالْمُحَرَّمَاتُ على التَّأْبِيدِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ
مُحَرَّمَاتٌ بِالْقَرَابَةِ وَمُحَرَّمَاتٌ بِالْمُصَاهَرَةِ وَمُحَرَّمَاتٌ
بِالرَّضَاعِ
أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَالْمُحَرَّمَاتُ بِالْقَرَابَةِ سَبْعُ فِرَقٍ
الْأُمَّهَاتُ وَالْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ وَبَنَاتُ
الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ قال اللَّهُ تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ
وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ
} الْآيَةَ
أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عن تَحْرِيمِ هذه الْمَذْكُورَاتِ فَإِمَّا أَنْ
يُعْمَلَ بِحَقِيقَةِ هذا الْكَلَامِ حَقِيقَةً وَيُقَالُ بِحُرْمَةِ الْأَعْيَانِ
كما هو مَذْهَبُ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهِيَ مَنْعُ اللَّهِ تَعَالَى
الْأَعْيَانَ عن تَصَرُّفِنَا فيها بِإِخْرَاجِهَا من أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا
لِذَلِكَ شَرْعًا وهو التَّصَرُّفُ الذي يُعْتَادُ إيقَاعُهُ في جِنْسِهَا وهو
الِاسْتِمْتَاعُ وَالنِّكَاحُ
وأما أَنْ يُضْمَرَ فيه الْفِعْلُ وهو الِاسْتِمْتَاعُ وَالنِّكَاحُ في تَحْرِيمِ
كل مِنْهُمَا تَحْرِيمَ الْآخَرِ لِأَنَّهُ إذَا حُرِّمَ الِاسْتِمْتَاعُ وهو
الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ لم يَكُنْ النِّكَاحُ مُفِيدًا لِخُلُوِّهِ عن
الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ فَكَانَ تَحْرِيمُ الِاسْتِمْتَاعِ تَحْرِيمًا
لِلنِّكَاحِ وإذا حُرِّمَ النِّكَاحُ وَأَنَّهُ شُرِعَ وَسِيلَةً إلَى
الِاسْتِمْتَاعِ وَالِاسْتِمْتَاعُ هو الْمَقْصُودُ فَكَانَ تَحْرِيمُ
الْوَسِيلَةِ تَحْرِيمًا لِلْمَقْصُودِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى
وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ يُحَرَّمُ على الرَّجُلِ أُمُّهُ بِنَصِّ الْكِتَابِ
وهو قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } وَتُحَرَّمُ عليه
جَدَّاتُهُ من قِبَلِ أبيه وَأُمِّهِ وَإِنْ عَلَوْنَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ
____________________
(2/256)
لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَهُنَّ أَوْلَادُ
الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ فَكَانَتْ الْجَدَّاتُ أَقْرَبَ مِنْهُنَّ فَكَانَ
تَحْرِيمُهُنَّ تَحْرِيمًا لِلْجَدَّاتِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى كَتَحْرِيمِ
للتأفيف ( ( ( التأفيف ) ) ) نَصًّا يَكُونُ تَحْرِيمًا لِلشَّتْمِ وَالضَّرْبِ
دَلَالَةً وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَيْضًا وَتُحَرَّمُ عليه بَنَاتُهُ
بِالنَّصِّ وهو قَوْله تَعَالَى { وَبَنَاتُكُمْ } سَوَاءً كانت بِنْتَهُ من
النِّكَاحِ أو من السِّفَاحِ لِعُمُومِ النَّصِّ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا تُحَرَّمُ عليه الْبِنْتُ من السِّفَاحِ لِأَنَّ نَسَبَهَا
لم يَثْبُتْ منه فَلَا تَكُونُ مُضَافَةً إلَيْهِ شَرْعًا فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ
نَصِّ الْإِرْثِ وَالنَّفَقَةِ في قَوْله تَعَالَى { يُوصِيكُمْ اللَّهُ في
أَوْلَادِكُمْ }
وفي قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ له رِزْقُهُنَّ } كَذَا هَهُنَا
وَلِأَنَّا نَقُولُ بِنْتُ الْإِنْسَانِ اسْمٌ لِأُنْثَى مَخْلُوقَةٍ من مَائِهِ
حَقِيقَةً وَالْكَلَامُ فيه فَكَانَتْ بِنْتَهُ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ لَا
تَجُوزُ الْإِضَافَةُ شَرْعًا إلَيْهِ لِمَا فيه من إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ وَهَذَا
لَا يَنْفِي النِّسْبَةَ الْحَقِيقِيَّةَ لِأَنَّ الْحَقَائِقَ لَا مَرَدَّ لها
وَهَكَذَا نَقُولُ في الأرث وَالنَّفَقَةِ أن النِّسْبَةَ الْحَقِيقِيَّةَ
ثَابِتَةٌ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ هُنَاكَ ثُبُوتَ النَّسَبِ شَرْعًا
لِجَرَيَانِ الْإِرْثِ وَالنَّفَقَةِ لِمَعْنًى
وَمَنْ ادَّعَى ذلك هَهُنَا فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ وَتُحَرَّمُ بَنَاتُ بَنَاتِهِ
وَبَنَاتُ أَبْنَائِهِ وَإِنْ سَفَلْنَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لِأَنَّهُنَّ
أَقْرَبُ من بَنَاتِ الْأَخِ وَبَنَاتِ الْأُخْتِ وَمِنْ الْأَخَوَاتِ أَيْضًا
لِأَنَّ الْأَخَوَاتِ أَوْلَادُ أبيه وَهُنَّ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِ فَكَانَ
ذِكْرُ الْحُرْمَةِ هُنَاكَ ذِكْرًا لِلْحُرْمَةِ هَهُنَا دَلَالَةً وَعَلَيْهِ
إجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَيْضًا وَتُحَرَّمُ عليه أَخَوَاتُهُ وَعَمَّاتُهُ
وَخَالَاتُهُ بِالنَّصِّ وهو قَوْلُهُ عز وجل { وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ
وَخَالَاتُكُمْ } سَوَاءٌ كُنَّ لِأَبٍ وَأُمٍّ أو لِأَبٍ أو لِأُمٍّ لِإِطْلَاقِ
اسْمِ الْأُخْتِ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَيُحَرَّمُ عليه عَمَّةُ أبيه
وَخَالَتُهُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أو لِأَبٍ أو لِأُمٍّ وَعَمَّةُ أُمِّهِ وَخَالَتُهُ
لِأَبٍ وَأُمٍّ أو لِأَبٍ أو لِأُمٍّ بِالْإِجْمَاعِ
وَكَذَا عَمَّةُ جَدِّهِ وَخَالَتُهُ وَعَمَّةُ خَالَتِهِ وَخَالَتُهَا لِأَبٍ
وَأُمٍّ أو لِأَبٍ أو لِأُمٍّ تُحَرَّمُ بِالْإِجْمَاعِ وَتُحَرَّمُ عليه بَنَاتُ
الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ بِالنَّصِّ وهو قَوْله تَعَالَى { وَبَنَاتُ الْأَخِ
وَبَنَاتُ الْأُخْتِ } وَإِنْ سَفَلْنَ بِالْإِجْمَاعِ
وَمِنْهُمْ من قال إنَّ حُرْمَةَ الْجَدَّاتِ وَبَنَاتِ الْبَنَاتِ وَنَحْوِهِنَّ
مِمَّنْ ذَكَرْنَا يَثْبُتُ بِالنَّصِّ أَيْضًا لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِنَّ
فإن جَدَّةَ الْإِنْسَانِ تُسَمَّى أُمًّا له وَبِنْتَ بِنْتِهِ تُسَمَّى بِنْتًا
له فَكَانَتْ حُرْمَتُهُنَّ ثَابِتَةً بِعَيْنِ النَّصِّ لَكِنْ هذا لَا يَصِحُّ
إلَّا على قَوْلِ من يقول يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ من
لَفْظٍ وَاحِدٍ إذَا لم يَكُنْ بين حُكْمَيْهِمَا مُنَافَاةٌ لِأَنَّ إطْلَاقَ
اسْمِ الْأُمِّ على الْجَدَّةِ وَإِطْلَاقَ اسْمِ الْبِنْتِ على بِنْتِ الْبِنْتِ
بِطَرِيقِ الْمَجَازِ
أَلَا تَرَى أَنَّ من نَفَى اسْمَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ عنهما كان صَادِقًا في
النَّفْيِ وَهَذَا من الْعَلَامَاتِ التي يُفَرَّقُ بها بين الْحَقِيقَةِ
وَالْمَجَازِ وقد ظَهَرَ أَمْرُ هذه التَّفْرِقَةِ في الشَّرْعِ أَيْضًا حتى أن من
قال لِرَجُلٍ لَسْتَ أنت بِابْنِ فُلَانٍ لجدة لَا يَصِيرُ قَاذِفًا له حتى لَا
يُؤْخَذَ بِالْحَدِّ وَلِأَنَّ نكح ( ( ( نكاح ) ) ) هَؤُلَاءِ يُفْضِي إلَى
قَطْعِ الرَّحِمِ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَخْلُو عن مُبَاسَطَاتٍ تَجْرِي بين
الزَّوْجَيْنِ عَادَةً وَبِسَبَبِهَا تَجْرِي الْخُشُونَةُ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ
يُفْضِي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ فَكَانَ النِّكَاحُ سَبَبًا لِقَطْعِ الرَّحِمِ
مُفْضِيًا إلَيْهِ وَقَطْعُ الرَّحِمِ حَرَامٌ وَالْمُفْضِي إلَى الْحَرَامِ
حَرَامٌ وَهَذَا الْمَعْنَى يَعُمُّ الْفِرَقَ السَّبْعِ لِأَنَّ قَرَابَتَهُنَّ
مُحَرَّمَةُ الْقَطْعِ وَاجِبَةُ الْوَصْلِ وَيَخْتَصُّ الْأُمَّهَاتُ بِمَعْنًى
آخَرَ وهو أَنَّ احْتِرَامَ الْأُمِّ وَتَعْظِيمَهَا وَاجِبٌ وَلِهَذَا أُمِرَ
الْوَلَدُ بِمُصَاحَبَةِ الْوَالِدَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ وَخَفْضِ الْجَنَاحِ
لَهُمَا وَالْقَوْلِ الْكَرِيمِ ونهى عن التَّأْفِيفِ لَهُمَا فَلَوْ جَازَ
النِّكَاحُ وَالْمَرْأَةُ تَكُونُ تَحْتَ أَمْرِ الزَّوْجِ وَطَاعَتُهُ
وَخِدْمَتُهُ مُسْتَحَقَّةٌ عليها لَلَزِمَهَا ذلك وَأَنَّهُ يَنْفِي
الِاحْتِرَامَ فَيُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ وَتَحِلُّ له بِنْتُ الْعَمَّةِ
وَالْخَالَةِ وَبِنْتُ الْعَمِّ وَالْخَالِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ
الْمُحَرَّمَاتِ في آيَةِ التَّحْرِيمِ
ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ أَحَلَّ ما وَرَاءَ ذلك بِقَوْلِهِ
{ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } وَبَنَاتُ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ
وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ لم يُذْكَرْنَ في الْمُحَرَّمَاتِ فَكُنَّ مِمَّا
وَرَاءَ ذلك فَكُنَّ مُحَلَّلَاتٍ
وَكَذَا عُمُومَاتُ النِّكَاحِ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ ثُمَّ خُصَّ عنها
الْمُحَرَّمَاتُ الْمَذْكُورَاتُ في آيَةِ التَّحْرِيمِ فَبَقِيَ غَيْرُهُنَّ
تَحْتَ الْعُمُومِ وقد وَرَدَ نَصٌّ خَاصٌّ في الْبَابِ وهو قَوْله تَعَالَى { يا
أَيُّهَا النبي إنَّا أَحْلَلْنَا لك أَزْوَاجَكَ } إلَى قَوْلِهِ عز وجل {
وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ
اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } الْآيَةَ
وَالْأَصْلُ فِيمَا يَثْبُتُ لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ يَثْبُتَ
لِأُمَّتِهِ وَالْخُصُوصُ بِدَلِيلٍ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَالْمُحَرَّمَاتُ بِالْمُصَاهَرَةِ أَرْبَعُ
فِرَقٍ الْفِرْقَةُ الْأُولَى أُمُّ الزَّوْجَةِ وَجَدَّاتُهَا من قِبَلِ أَبِيهَا
وَأُمِّهَا وَإِنْ عَلَوْنَ فَيُحَرَّمُ على الرَّجُلِ أُمُّ زَوْجَتِهِ بِنَصِّ
الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وهو قَوْلُهُ عز وجل { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ }
مَعْطُوفًا
____________________
(2/257)
على
قَوْلِهِ عز وجل { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } سَوَاءً
كان دخل بِزَوْجَتِهِ أو كان لم يَدْخُلْ بها عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ وَدَاوُد الْأَصْفَهَانِيُّ وَمُحَمَّدُ بن شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ
وَبِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ أن أُمَّ الزَّوْجَةِ لَا تُحَرَّمُ على الزَّوْجِ
بِنَفْسِ الْعَقْدِ ما لم يَدْخُلْ بِبِنْتِهَا حتى أن من تَزَوَّجَ امْرَأَةً
ثُمَّ طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها أو مَاتَتْ لَا يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَ
أُمَّهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَهُمْ يَجُوزُ
وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
رُوِيَ عن عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ وَعِمْرَانَ بن
حُصَيْنٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ قَوْلِ الْعَامَّةِ
وروى عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ رضي اللَّهُ عنهما مِثْلُ قَوْلِهِمْ
وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن عَلِيٍّ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ
وَعَنْ زَيْدِ بن ثَابِتٍ أَنَّهُ فَصَلَ بين الطَّلَاقِ وَالْمَوْتِ قال في
الطَّلَاقِ مِثْلُ قَوْلِهِمَا وفي الْمَوْتِ مِثْلُ قَوْلِ الْعَامَّةِ وَجَعَلَ
الْمَوْتَ كَالدُّخُولِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ في حَقِّ الْمَهْرِ
وَكَذَا في حَقِّ التَّحْرِيمِ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُ
نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي في حُجُورِكُمْ من نِسَائِكُمْ اللَّاتِي
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } ذَكَرَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَعَطَفَ رَبَائِبَ النِّسَاءِ
عَلَيْهِنَّ في التَّحْرِيمِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ ثُمَّ عَقَّبَ الْجُمْلَتَيْنِ
بِشَرْطِ الدُّخُولِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ وَالِاسْتِثْنَاءَ
بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَقِيبَ جُمَلٍ مَعْطُوفٌ بَعْضُهَا على بَعْضٍ
بِحَرْفِ الْعَطْفِ كُلُّ جُمْلَةٍ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ يَنْصَرِفُ إلَى
الْكُلِّ لَا إلَى ما يَلِيهِ خَاصَّةً كَمَنْ قال عَبْدُهُ حُرٌّ وَامْرَأَتُهُ
طَالِقٌ وَعَلَيْهِ حَجُّ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ فَعَلَ كَذَا أو قال إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى فَهَذَا كَذَلِكَ فَيَنْصَرِفُ شَرْطُ الدُّخُولِ إلَى
الْجُمْلَتَيْنِ جميعا فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِدُونِهِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } كَلَامٌ تَامٌّ بِنَفْسِهِ
مُنْفَصِلٌ عن الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ إذْ هو
مَعْطُوفٌ على ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ من قَوْلِهِ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ }
إلَى قَوْلِهِ عز وجل { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } وَالْمَعْطُوفُ يُشَارِكُ
الْمَعْطُوفَ عليه في خَبَرِهِ وَيَكُونُ خَبَرُ الْأَوَّلِ خَبَرًا لِلثَّانِي
كَقَوْلِهِ جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو مَعْنَاهُ جَاءَنِي عَمْرٌو فَكَانَ مَعْنَى
قَوْله تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } أَيْ وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَأَنَّهُ مُطْلَقٌ عن شَرْطِ الدُّخُولِ فَمَنْ ادَّعَى
أَنَّ الدُّخُولَ الْمَذْكُورَ في آخِرِ الْكَلِمَاتِ مُنْصَرِفٌ إلَى الْكُلِّ
فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ
وروى عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا نَكَحَ الرَّجُلُ امْرَأَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا قبل أَنْ
يَدْخُلَ بها فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَتَهَا وَلَيْسَ له أَنْ يَتَزَوَّجَ
الْأُمَّ وَهَذَا نَصٌّ في الْمَسْأَلَتَيْنِ
وَعَنْ عَمْرِو بن شُعَيْبٍ عن أبيه عن جَدِّهِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ قال قال رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَطَلَّقَهَا
قبل أَنْ يَدْخُلَ بها أو مَاتَتْ عِنْدَهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَ
بِنْتَهَا وَأَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ فَطَلَّقَهَا قبل أَنْ يَدْخُلَ
بها أو مَاتَتْ عِنْدَهُ فَلَا يَحِلُّ له أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا وَهَذَا نَصٌّ
في الْمَسْأَلَتَيْنِ وَعَنْ عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ
قال في هذه الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَبْهَمُوا ما أَبْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَيْ
أَطْلَقُوا ما أَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا روى عن عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ
أَنَّهُ قال الْآيَةُ مُبْهَمَةٌ أَيْ مُطْلَقَةٌ لَا يُفْصَلُ بين الدُّخُولِ
وَعَدَمِهِ وما رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه فَقَدْ رُوِيَ
الرُّجُوعُ عنه فإنه روى أَنَّهُ أَفْتَى بِذَلِكَ في الْكُوفَةِ فلما أتى
الْمَدِينَةَ وَلَقِيَ أَصْحَابَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
فَذَاكَرَهُمْ رَجَعَ إلَى الْقَوْلِ بِالْحُرْمَةِ حتى رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أتى
الْكُوفَةَ نهى من كان أَفْتَاهُ بِذَلِكَ فَقِيلَ إنَّهَا وَلَدَتْ أَوْلَادًا
فقال إنَّهَا وَإِنْ وَلَدَتْ وَلِأَنَّ هذا النِّكَاحَ يُفْضِي إلَى قَطْعِ
الرَّحِمِ لِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَ بِنْتَهَا وَتَزَوَّجَ بِأُمِّهَا حَمَلَهَا ذلك
على الضَّغِينَةِ التي هِيَ سَبَبُ الْقَطِيعَةِ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَقَطْعُ
الرَّحِمِ حَرَامٌ فما أَفْضَى إلَيْهِ أن يَكُونُ حَرَامًا لِهَذَا الْمَعْنَى
حُرِّمَ الْجَمْعُ بين الْمَرْأَةِ وَبِنْتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأُمِّهَا
وَبَيْنَ عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
بِخِلَافِ جَانِبِ الْأُمِّ حَيْثُ لَا تُحَرَّمُ بِنْتُهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ
على الْأُمِّ لِأَنَّ إبَاحَةَ النِّكَاحِ هُنَاكَ لَا تُؤَدِّي إلَى الْقَطْعِ
لِأَنَّ الْأُمَّ في ظَاهِرِ الْعَادَاتِ تُؤْثِرُ بِنْتَهَا على نَفْسِهَا في
الْحُظُوظِ وَالْحُقُوقِ وَالْبِنْتُ لَا تُؤْثِرُ أُمَّهَا على نَفْسِهَا
مَعْلُومٌ ذلك بِالْعَادَةِ وإذا جاء الدُّخُولُ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ لِأَنَّهُ
تَأَكَّدَتْ مَوَدَّتُهَا لِاسْتِيفَائِهَا حَظَّهَا فَتَلْحَقُهَا الْغَضَاضَةُ
فَيُؤَدِّي إلَى الْقَطْعِ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ
____________________
(2/258)
تَثْبُتُ
بِالدُّخُولِ بِالْإِجْمَاعِ وَالْعَقْدُ على الْبِنْتِ سَبَبُ الدُّخُولُ بها
وَالسَّبَبُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ في مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ وَلِهَذَا
تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ في مَنْكُوحَةِ الْأَبِ وَحَلِيلَةِ
الِابْنِ كان يَنْبَغِي أَنْ تُحَرَّمَ الرَّبِيبَةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ على
الْأُمِّ إلَّا أَنَّ شَرْطَ الدُّخُولِ هُنَاكَ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ فَبَقِيَ
الْحُكْمُ في الْآيَةِ على أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ في آخِرِ كَلِمَاتٍ مَعْطُوفٌ
بَعْضُهَا على بَعْضٍ وَالِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّه تَعَالَى مُلْحَقٌ
بِالْكُلِّ فَنَقُولُ هذا الْأَصْلُ مُسَلَّمٌ في الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ
اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّرْطِ الْمُصَرَّحِ بِهِ فإما في الصِّفَةِ الدَّاخِلَةِ
على الْمَذْكُورِ في آخِرِ الْكَلَامِ فَمَمْنُوعٌ بَلْ يُقْتَصَرُ على ما يَلِيهِ
فَإِنَّكَ تَقُولُ جَاءَنِي زَيْدٌ وَمُحَمَّدٌ الْعَالِمُ فَتَقْتَصِرُ صِفَةِ
الْعِلْمِ على الذي يَلِيهِ دُونَ زَيْدٍ وَقَوْلُهُ عز وجل { اللَّاتِي
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } وَصَفَ إيَّاهُنَّ بِالدُّخُولِ بِهِنَّ لَا شَرَطَ من
ادَّعَى إلْحَاقَ الْوَصْفِ بِالشَّرْطِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ على أَنَّهُ
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ فَيَلْحَقُ الْكُلَّ وَيُحْتَمَلُ
أَنْ لَا يَكُونَ فَيَقْتَصِرُ على ما يَلِيه فَلَا يُلْحَقُ بِالشَّكِّ
وَالِاحْتِمَالِ
وإذا وَقَعَ الشَّكُّ وَالشُّبْهَةُ فيه فَالْقَوْلُ لِمَا فيه الْحُرْمَةُ
أَوْلَى احْتِيَاطًا على أَنَّ هذه الصِّفَةَ إنْ كانت في مَعْنَى الشَّرْطِ
لَكِنَّ اللَّفْظَ مَتَى قُرِنَ بِهِ شَرْطٌ أو صِفَةٌ لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ
يَقْتَضِي وُجُودَهُ عِنْدَ وُجُودِهِ إمَّا لَا يَقْتَضِي عَدَمَهُ عِنْدَ
عَدَمِهِ بَلْ عَدَمُهُ وَوُجُودُهُ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ وَالصِّفَةِ يَكُونُ
مَوْقُوفًا على قِيَامِ الدَّلِيلِ وفي نَفْسِ هذه الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ما
يَدُلُّ عليه فإنه قال عز وجل { وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي في حُجُورِكُمْ من
نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لم تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ }
وَلَوْ كان التَّقْيِيدُ بِالْوَصْفِ نَافِيًا الْحُكْمَ في غَيْرِ الْمَوْصُوفِ
لَكَانَ ذلك الْقَدْرُ كَافِيًا وَنَحْنُ نَقُولُ بِحُرْمَةِ الْأُمِّ عِنْدَ
الدُّخُولِ بِالرَّبِيبَةِ وَبِحُرْمَةِ الرَّبِيبَةِ عِنْدَ الدُّخُولِ
بِالْأُمِّ بِظَاهِرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَلَيْسَ فيها نَفْيُ الْحُرْمَةِ
عِنْدَ عَدَمِ الدُّخُولِ وَلَا إثْبَاتُهَا فَيَقِفُ على قِيَامِ الدَّلِيلِ وقد
قام الدَّلِيلُ على حُرْمَةِ الْأُمِّ بِدُونِ الدُّخُولِ بِبِنْتِهَا وهو ما
ذَكَرْنَا فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ ولم يَقُمْ الدَّلِيلُ على حُرْمَةِ الريبية ( (
( الربيبة ) ) ) قبل الدُّخُولِ بِالْأُمِّ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ وَاَللَّهُ
عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا جَدَّاتُ الزَّوْجَةِ من قِبَلِ أَبِيهَا وَأُمِّهَا فَإِنَّهَا عُرِفَتْ
حُرْمَتُهُنَّ بِالْإِجْمَاعِ وَلِمَا ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى في الْأُمَّهَاتِ
لَا بِعَيْنِ النَّصِّ إلَّا على قَوْلِ من يُجِيزُ اشْتِمَالَ اللَّفْظِ
الْوَاحِدِ على الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ عِنْدَ عَدَمِ التَّنَافِي بين
حُكْمَيْهِمَا على ما ذَكَرْنَا ثُمَّ إن ( ( ( إنما ) ) ) تُحَرَّمُ الزَّوْجَةُ
وَجَدَّاتُهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ إذَا كان صَحِيحًا فَأَمَّا إذَا كان فَاسِدًا
فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِالْعَقْدِ بَلْ بِالْوَطْءِ أو ما يَقُومُ مَقَامَهُ
من الْمَسِّ عن شَهْوَةٍ وَالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ عن شَهْوَةٍ على ما نَذْكُرُ
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ على الزَّوْجِ أُمَّ زَوْجَتِهِ مُضَافًا
إلَيْهِ وَالْإِضَافَةُ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ فَلَا
تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ إلَّا بِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ فَبِنْتُ الزَّوْجَةِ وَبَنَاتُهَا
وَبَنَاتُ بَنَاتِهَا وَبَنِيهَا وَإِنْ سَفَلْنَ أَمَّا بِنْتُ زَوْجَتِهِ
فَتُحَرَّمُ عليه بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ إذَا كان دخل بِزَوْجَتِهِ فَإِنْ
لم يَكُنْ دخل بها فَلَا تُحَرَّمُ لِقَوْلِهِ { وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي في
حُجُورِكُمْ من نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لم تَكُونُوا
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } وَسَوَاءٌ كانت بِنْتُ زَوْجَتِهِ
في حِجْرِهِ أو لَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال بَعْضُ الناس لَا تُحَرَّمُ عليه إلَّا أَنْ تَكُونَ في حِجْرِهِ وَيُرْوَى
ذلك عن عَلِيِّ بن أبي طَالِبٍ رضي اللَّهُ عنه نَصًّا لِظَاهِرِ الْآيَةِ قَوْله
تَعَالَى { وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي في حُجُورِكُمْ } حَرَّمَ اللَّهُ عز وجل
بِنْتَ الزَّوْجَةِ وَبِوَصْفِ كَوْنِهَا في حِجْرِ زَوْجٍ فَيَتَقَيَّدُ
التَّحْرِيمُ بهذا الْوَصْفِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهَا إلَى
الزَّوْجَةِ يُقَيِّدُ التَّحْرِيمَ بِهِ حتى لَا يُحَرَّمُ على رَبِيبَتِهِ
غَيْرُ الزَّوْجَةِ كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ التَّنْصِيصَ على حُكْمِ الْمَوْصُوفِ لَا يَدُلُّ على أَنَّ
الْحُكْمَ في غَيْرِ الْمَوْصُوفِ بِخِلَافِهِ إذْ التَّنْصِيصُ لَا يَدُلُّ على
التَّخْصِيصِ فَتَثْبُتُ حُرْمَةُ بِنْتِ زَوْجَةِ الرَّجُلِ التي دخل بِأُمِّهَا
وَهِيَ في حِجْرِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وإذا لم تَكُنْ في حِجْرِهِ تَثْبُتُ
حُرْمَتُهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ وهو كَوْنُ نِكَاحِهَا مُفْضِيًا إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ
سَوَاءٌ كانت في حِجْرِهِ أو لم تَكُنْ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ إلَّا
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْحِجْرَ بِنَاءً على أَنَّ عُرْفَ الناس
وَعَادَتَهُمْ أَنَّ الرَّبِيبَةَ تَكُونُ في حِجْرِ زَوْجِ أُمِّهَا عَادَةً
فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْعَادَةِ كما في قَوْلِهِ عز وجل { وَلَا
تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } وَقَوْلِهِ عز وجل { فَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } وَنَحْوِ ذلك
وَأَمَّا بَنَاتُ بَنَاتِ الرَّبِيبَةِ وَبَنَاتُ أَبْنَائِهَا وَإِنْ سَفَلْنَ فَتَثْبُتُ
حُرْمَتُهُنَّ بِالْإِجْمَاعِ وَبِمَا ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ لَا
بِعَيْنِ النَّصِّ إلَّا على قَوْلِ من يَرَى الْجَمْعَ بين الْحَقِيقَةِ
وَالْمَجَازِ في لَفْظٍ وَاحِدٍ عِنْدَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِمَا
4 فَصْلٌ وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ فَحَلِيلَةُ الِابْنِ من الصُّلْبِ
وَابْنِ الِابْنِ وَابْنِ الْبِنْتِ وَإِنْ سَفَلَ فَتُحَرَّمُ على الرَّجُلِ
حَلِيلَةُ ابْنِهِ من صُلْبِهِ بِالنَّصِّ وهو قَوْلُهُ عز وجل { وَحَلَائِلُ
أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ من أَصْلَابِكُمْ } وَذِكْرُ الصُّلْبِ جَازَ أَنْ
يَكُونَ
____________________
(2/259)
لِبَيَانِ
الْخَاصِّيَّةِ وَإِنْ لم يَكُنْ الِابْنُ إلَّا من الصُّلْبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } وَإِنْ كان الطَّائِرُ لَا يَطِيرُ إلَّا
بِجَنَاحَيْهِ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِبَيَانِ الْقِسْمَةِ وَالتَّنْوِيعِ لِأَنَّ
الِابْنَ قد يَكُونُ من الصُّلْبِ وقد يَكُونُ من الرَّضَاعِ وقد يَكُونُ
بِالتَّبَنِّي أَيْضًا على ما ذُكِرَ في سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ لِأَنَّ النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا تَزَوَّجَ امْرَأَةَ زَيْدِ بن حَارِثَةَ بعدما
طَلَّقَهَا زَيْدٌ وكان ابْنًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
بِالتَّبَنِّي فَعَابَهُ الْمُنَافِقُونَ على ذلك وَقَالُوا أنه تَزَوَّجَ
بِحَلِيلَةِ ابْنِهِ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى { وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ
الَّذِينَ من أَصْلَابِكُمْ }
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { فلما قَضَى زَيْدٌ منها وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا
لِكَيْ لَا يَكُونَ على الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا
قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } وَلِأَنَّ حَلِيلَةَ الِابْنِ لو لم تُحَرَّمْ على
الْأَبِ فإذا طَلَّقَهَا الِابْنُ رُبَّمَا يَنْدَمُ على ذلك وَيُرِيدُ الْعَوْدَ
إلَيْهَا فإذا تَزَوَّجَهَا أَبُوهُ أَوْرَثَ ذلك الضَّغِينَةَ بَيْنَهُمَا
وَالضَّغِينَةُ تُوَرِّثُ الْقَطِيعَةَ وَقَطْعُ الرَّحِمِ حَرَامٌ فَيَجِبُ أَنْ
يُحَرَّمَ حتى لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْحَرَامِ وَلِهَذَا حُرِّمَتْ مَنْكُوحَةُ
الْأَبِ على الِابْنِ كَذَا هذا سَوَاءٌ كان دخل بها الِابْنُ أو لم يَدْخُلْ بها
لِأَنَّ النَّصَّ مُطْلَقٌ عن شَرْطِ الدُّخُولِ وَالْمَعْنَى لَا يُوجِبُ
الْفَصْلَ أَيْضًا على ما ذَكَرْنَا وَلِأَنَّ الْعَقْدَ سَبَبٌ إلَى الدُّخُولِ
وَالسَّبَبُ يُقَامُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ في مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ على ما مَرَّ
وَحَلِيلَةُ ابْنِ الِابْنِ وَابْنِ الْبِنْتِ
وَإِنْ سَفَلَ تُحَرَّمُ بِالْإِجْمَاعِ أو بِمَا ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى لَا
بِعَيْنِ النَّصِّ لِأَنَّ ابْنَ الِابْنِ يُسَمَّى ابْنًا مَجَازًا لَا حَقِيقَةً
فإذا صَارَتْ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً لم يَبْقَ الْمَجَازُ مُرَادًا لنا إلَّا على
قَوْلِ من يقول إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَا من لَفْظٍ وَاحِدٍ وَاَللَّهُ
الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الرَّابِعَةُ فَمَنْكُوحَةُ الْأَبِ وَأَجْدَادِهِ من
قِبَلِ أبيه وَإِنْ عَلَوْا أَمَّا مَنْكُوحَةُ الْأَبِ فَتُحَرَّمُ بِالنَّصِّ
وهو قَوْلُهُ { وَلَا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبَاؤُكُمْ من النِّسَاءِ }
وَالنِّكَاحُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْعَقْدُ وَسَوَاءٌ كان الْأَبُ دخل بها أو
لَا لِأَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ يَقَعُ على الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ فَتُحَرَّمُ
بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على ما نَذْكُرُ وَلِأَنَّ نِكَاحَ مَنْكُوحَةِ الْأَبِ
يُفْضِي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ لِأَنَّهُ إذَا فَارَقَهَا أَبُوهُ لَعَلَّهُ
يَنْدَمُ فَيُرِيدُ أَنْ يُعِيدَهَا فإذا نَكَحَهَا الِابْنُ أَوْحَشَهُ ذلك
وَأَوْرَثَ الضَّغِينَةَ وَذَلِكَ سَبَبُ التَّبَاعُدِ بَيْنَهُمَا وهو تَفْسِيرُ
قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَقَطْعُ الرَّحِمِ حَرَامٌ فَكَانَ النِّكَاحُ سِرَّ سَبَبِ
الْحَرَامِ وَأَنَّهُ تَنَاقُضٌ فَيُحَرَّمُ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ الذي هو أَثَرُ
السَّفَهِ وَالْجَهْلِ جَلَّ اللَّهُ تَعَالَى عنهما
وَأَمَّا مَنْكُوحَةُ أَجْدَادِهِ فَتُحَرَّمُ بِالْإِجْمَاعِ وَبِمَا ذَكَرْنَا
من الْمَعْنَى لَا بِعَيْنِ النَّصِّ إلَّا على قَوْلِ من يَرَى الْجَمْعَ بَيْن
الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ في لَفْظٍ وَاحِدٍ عِنْدَ عَدَمِ النَّافِي ثُمَّ
حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَتَثْبُتُ بِالْوَطْءِ
الْحَلَالِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ حتى أن من وطىء جَارِيَتَهُ تُحَرَّمُ عليها
أُمُّهَا وَابْنَتُهَا وَجَدَّاتُهَا وَإِنْ عَلَوْنَ وَبَنَاتُ بَنَاتِهَا وَإِنْ
سَفَلْنَ وَتُحَرَّمُ هِيَ على أَبُ الواطىء وَابْنِهِ وَعَلَى أَجْدَادِ
أَجْدَادِ الواطىء وَإِنْ عَلَوْا وَعَلَى أَبْنَاءِ أَبْنَائِهِ وَإِنْ سَفَلُوا
وَكَذَا تَثْبُتُ بِالْوَطْءِ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَكَذَا بِالْوَطْءِ عن
شُبْهَةٍ بِالْإِجْمَاعِ وَتَثْبُتُ بِاللَّمْسِ فِيهِمَا عن شَهْوَةٍ
وَبِالنَّظَرِ إلَى فَرْجِهَا عن شَهْوَةٍ عِنْدَنَا وَلَا تَثْبُتُ بِالنَّظَرِ
إلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ بِشَهْوَةٍ وَلَا بِمَسِّ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ إلَّا
عن شَهْوَةٍ بِلَا خِلَافٍ وَتَفْسِيرُ الشَّهْوَةِ هِيَ أَنْ يَشْتَهِيَ
بِقَلْبِهِ وَيُعْرَفُ ذلك بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّهُ بَاطِنٌ لَا وُقُوفَ عليه
لِغَيْرِهِ وَتَحَرُّكُ الْآلَةِ وَانْتِشَارُهَا هل هو شَرْطُ تَحْقِيقِ
الشَّهْوَةِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ شَرْطٌ
وقال بَعْضُهُمْ ليس بِشَرْطٍ هو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْمَسَّ وَالنَّظَرَ عن
شَهْوَةٍ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ ذلك كَالْعِنِّينِ وَالْمَجْبُوبِ وَنَحْوِ ذلك
وقال الشَّافِعِيُّ لَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِالنَّظَرِ وَلَهُ في
الْمَسِّ قَوْلَانِ وَتَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا وَالْمَسِّ
وَالنَّظَرِ بِدُونِ النِّكَاحِ وَالْمِلْكِ شبهته ( ( ( وشبهته ) ) ) وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِالزِّنَا فَأَوْلَى أَنْ لَا تَثْبُتَ
بِالْمَسِّ وَالنَّظَرِ بِدُونِ الْمِلْكِ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي في
حُجُورِكُمْ من نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } حَرَّمَ الرَّبَائِبَ
الْمُضَافَةَ
____________________
(2/260)
إلَى
نِسَائِنَا الْمَدْخُولَاتِ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ مُضَافَةً إلَيْنَا بِالنِّكَاحِ
فَكَانَ الدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ شَرْطَ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ وَهَذَا دُخُولٌ
بِلَا نِكَاحٍ فَلَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ وَلَا تَثْبُتُ بِالنَّظَرِ
أَيْضًا لِأَنَّهُ ليس بِمَعْنَى الدُّخُولِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ
بِهِ الصَّوْمُ وَلَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ في الْإِحْرَامِ وَكَذَلِكَ اللَّمْسُ في
قَوْلٍ وفي قَوْلٍ يَثْبُتُ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ بها من وَجْهٍ فَكَانَ
بِمَعْنَى الْوَطْءِ وَلِهَذَا حُرِّمَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ كما حُرِّمَ
الْوَطْءُ
وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم سُئِلَ عن الرَّجُلِ يَتْبَعُ الْمَرْأَةَ حَرَامًا أَيَنْكِحُ ابْنَتَهَا أو
يَتْبَعُ الْبِنْتَ حَرَامًا أَيَنْكِحُ أُمَّهَا فقال لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ
الْحَلَالَ إنَّمَا يُحَرِّمُ ما كان نِكَاحًا حَلَالًا وَالتَّحْرِيمُ بِالزِّنَا
تَحْرِيمُ الْحَرَامِ الْحَلَالَ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبَاؤُكُمْ من النِّسَاءِ }
وَالنِّكَاحُ يُسْتَعْمَلُ في الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ
يَكُونَ حَقِيقَةً لَهُمَا على الِاشْتِرَاكِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً
لِأَحَدِهِمَا مَجَازًا لِلْآخَرِ وَكَيْفَ ما كان يَجِبُ الْقَوْلُ
بِتَحْرِيمِهِمَا جميعا إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا كَأَنَّهُ قال عز وجل {
وَلَا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبَاؤُكُمْ من النِّسَاءِ } عَقْدًا ووطأ ( ( ( ووطئا
) ) )
وَرُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من نَظَرَ إلَى
فَرْجِ امْرَأَةٍ لم تَحِلَّ له أُمُّهَا وَلَا ابْنَتُهَا
وَرُوِيَ حُرِّمَتْ عليه أُمُّهَا وَابْنَتُهَا وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
لِأَنَّهُ ليس فيه ذِكْرُ النِّكَاحِ
وَرُوِيَ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال مَلْعُونٌ من نَظَرَ إلَى فَرْجِ
امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا وَلَوْ لم يَكُنْ النَّظَرُ الْأَوَّلُ مُحَرِّمًا
لِلثَّانِي وهو النَّظَرُ إلَى فَرْجِ ابْنَتِهَا لم يَلْحَقْهُ اللَّعْنُ لِأَنَّ
النَّظَرَ إلَى فَرْجِ الْمَرْأَةِ الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا صَحِيحًا مُبَاحٌ
فَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ فإذا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ بِالنَّظَرِ
فَبِالدُّخُولِ أَوْلَى وَكَذَا بِاللَّمْسِ لِأَنَّ النَّظَرَ دُونَ اللَّمْسِ في
تَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهِمَا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِالْإِنْزَالِ عن الْمَسِّ وَلَا
يَفْسُدُ بِالْإِنْزَالِ عن النَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ وفي الْحَجِّ يَلْزَمُهُ
بِالْمَسِّ عن شَهْوَةٍ الدَّمُ أَنْزَلَ أو لم يُنْزِلْ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ
بِالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ عن شَهْوَةٍ أَنْزَلَ أو لم يُنْزِلْ فلما ثَبَتَتْ
الْحُرْمَةُ بِالنَّظَرِ فَبِالْمَسِّ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ إنَّمَا
تَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا دَاعِيًا إلَى الْجِمَاعِ إقَامَةً
لِلسَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ في مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ كما أُقِيمَ النَّوْمُ
الْمُفْضِي إلَى الْحَدَثِ مَقَامَ الْحَدَثِ في إنقاض ( ( ( انتقاض ) ) )
الطَّهَارَةِ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الصَّلَاةِ وَالْقُبْلَةُ وَالْمُبَاشَرَةُ في
التَّسَبُّبِ وَالدَّعْوَةُ أَبْلَغُ من النِّكَاحِ فَكَانَ أَوْلَى بِإِثْبَاتِ
الْحُرْمَةِ وَلِأَنَّ الْوَطْءَ الْحَلَالَ إنَّمَا كان مُحَرِّمًا لِلْبِنْتِ
بِمَعْنَى هو مَوْجُودٌ هُنَا وهو أَنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بين الْمَرْأَةِ
وَبِنْتِهَا في الْوَطْءِ من حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ وَطْءَ إحْدَاهُمَا
يُذَكِّرُهُ وَطْءَ الْأُخْرَى فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَاضٍ وَطَرَهُ مِنْهُمَا جميعا
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هذا مَعْنَى قَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَلْعُونٌ
من نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ في
الْوَطْءِ الْحَرَامِ
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَلَا حُجَّةَ له فيها بَلْ هِيَ حُجَّةٌ عليه
لِأَنَّهَا تَقْتَضِي حُرْمَةَ رَبِيبَتِهِ التي هِيَ بِنْتُ امْرَأَتِهِ التي دخل
بها مُطْلَقًا سَوَاءً دخل بها بَعْدَ النِّكَاحِ أو قَبْلَهُ بِالزِّنَا وَاسْمُ
الدُّخُولِ يَقَعُ على الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أو يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
الْمُرَادُ الدُّخُولَ بَعْدَ النِّكَاحِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ
فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ هو الْقَوْلُ بِالْحُرْمَةِ وإذا اُحْتُمِلَ هذا
وَاحْتُمِلَ هذا فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مع الِاحْتِمَالِ على أَنَّ في
هذه الْآيَةِ إثْبَاتُ الْحُرْمَةِ بِالدُّخُولِ في النِّكَاحِ وَهَذَا يَنْفِي
الْحُرْمَةَ بِالدُّخُولِ بِلَا نِكَاحٍ فَكَانَ هذا احْتِجَاجًا بِالْمَسْكُوتِ
عنه وأنه لَا يَصِحُّ على أَنَّ في هذه الْآيَةِ حُجَّتَنَا على إثْبَاتِ
الْحُرْمَةِ بِالْمَسِّ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الدُّخُولَ بِهِنَّ وَحَقِيقَةُ
الدُّخُولِ بِالشَّيْءِ عِبَارَةٌ عن إدْخَالِهِ في الْعَوْرَةِ إلَى الْحِصْنِ
فَكَانَ الدُّخُولُ بها هو إدْخَالُهَا في الْحِصْنِ وَذَلِكَ بِأَخْذِ يَدِهَا أو
شَيْءٍ منها لِيَكُونَ هو الدَّاخِلُ بها فَأَمَّا بِدُونِ ذلك فَالْمَرْأَةُ هِيَ
الدَّاخِلَةُ بِنَفْسِهَا فَدَلَّ أَنَّ الْمَسَّ مُوجِبٌ لِلْحُرْمَةِ أو
يُحْتَمَلُ الْوَطْءُ وَيُحْتَمَلُ الْمَسُّ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِالْحُرْمَةِ
احْتِيَاطًا
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ ضَعِيفٌ ثُمَّ هو خَبَرٌ وَاحِدٌ
مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَلَئِنْ ثَبَتَ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ لِأَنَّ
الْمَذْكُورَ فيه هو الِاتِّبَاعُ لَا الْوَطْءُ وَاتِّبَاعُهَا أَنْ يُرَاوِدَهَا
عن نَفْسِهَا وَذَا لَا يُحَرِّمُ عِنْدَنَا إذْ الْمُحَرِّمُ هو الْوَطْءُ وَلَا
ذِكْرَ له في الحديث وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ وهو الْمُحَرَّمَاتُ بِالرَّضَاعَةِ فَمَوْضِعُ
بَيَانِهَا كِتَابُ الرَّضَاعِ فَكُلُّ من حَرُمَ لِقَرَابَةٍ من الْفِرَقِ
السَّبْعِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَحْرُمُ بِالرَّضَاعَةِ إلَّا
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالْقَرَابَةِ بَيَانَ إبْلَاغٍ
وَبَيَّنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالرَّضَاعَةِ بَيَانَ كِفَايَةٍ حَيْثُ لم يذكر على
التَّصْرِيحِ وَالتَّنْصِيصِ إلَّا الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ من
الرَّضَاعَةِ } لِيُعْلَمَ حُكْمُ غَيْرِ الْمَذْكُورِ
____________________
(2/261)
بِطَرِيقِ
الِاجْتِهَادِ بِالِاسْتِدْلَالِ
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ نَذْكُرُهُ في كِتَابِ الرَّضَاعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَحْرُمُ من الرَّضَاعِ ما
يَحْرُمُ من النَّسَبِ وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ أَيْضًا وَكَذَا كُلُّ من يَحْرُمُ
مِمَّنْ ذَكَرْنَا من الْفِرَقِ الْأَرْبَعِ بِالْمُصَاهَرَةِ يَحْرُمُ
بِالرَّضَاعِ فَيَحْرُمُ على الرَّجُلِ أُمُّ زَوْجَتِهِ وَبِنْتُهَا من
الرَّضَاعِ إلَّا أَنَّ الْأُمَّ تَحْرُمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ إذَا كان صَحِيحًا
وَالْبِنْتُ لَا تَحْرُمُ إلَّا بِالدُّخُولِ بِالْإِحْرَامِ
وَكَذَا جَدَّاتُ الزَّوْجَةِ لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا وَإِنْ عَلَوْنَ وَبَنَاتُ
بَنَاتِهَا وَبَنَاتُ أَبْنَائِهَا وَإِنْ سَفَلْنَ من الرَّضَاعِ وَكَذَا
يَحْرُمُ حَلِيلَةُ ابْنِ الرَّضَاعِ وَابْنِ ابْنِ الرَّضَاعِ وَإِنْ سَفَلَ على
أبي الرَّضَاعِ وَأَبِي أبيه وَتَحْرُمُ مَنْكُوحَةُ أبي الرَّضَاعِ وَأَبِي أبيه
وَإِنْ عَلَا على ابْنِ الرَّضَاعِ وَابْنِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلَ وَكَذَا
يَحْرُمُ بِالْوَطْءِ أُمُّ الْمَوْطُوءَةِ وَبِنْتُهَا من الرَّضَاعِ على الواطىء
وَكَذَا جَدَّاتُهَا وَبَنَاتُ بَنَاتِهَا وَتَحْرُمُ الْمَوْطُوءَةُ على أبي
الواطىء وَابْنِهِ من الرَّضَاعِ وَكَذَا على أَجْدَادِهِ وَإِنْ عَلَوْا وَعَلَى
أَبْنَاءِ أَبْنَائِهِ وَإِنْ سَفَلُوا سَوَاءٌ كان الْوَطْءُ حَلَالًا بِأَنْ كان
بملك ( ( ( يملك ) ) ) الْيَمِينَ أو كان الْوَطْءُ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أو شُبْهَةِ
نِكَاحٍ أو كان زِنًا
وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يَحْرُمُ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ ما يَحْرُمُ بِسَبَبِ النَّسَبِ
وَسَبَبِ الْمُصَاهَرَةِ إلَّا في مَسْأَلَتَيْنِ يَخْتَلِفُ فِيهِمَا حُكْمُ
الْمُصَاهَرَةِ وَالرَّضَاعِ نَذْكُرُهُمَا في كِتَابِ الرَّضَاعِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَقَعَ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ التي يَتَزَوَّجُهَا
جَمْعًا بين ذَوَاتِ الْأَرْحَامِ وَلَا بين أَكْثَرَ من أَرْبَعِ نِسْوَةٍ في
الْأَجْنَبِيَّاتِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في الْجَمْعِ أَنَّ الْجَمْعَ في
الْأَصْلِ نَوْعَانِ جَمْعٌ بين ذَوَاتِ الْأَرْحَامِ وَجَمْعٌ بين
الْأَجْنَبِيَّاتِ أَمَّا الْجَمْعُ بين ذَوَاتِ الْأَرْحَامِ فَنَوْعَانِ أَيْضًا
جَمْعٌ في النِّكَاحِ وَجَمْعٌ في الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ
أَمَّا الْجَمْعُ بين ذَوَاتِ الْأَرْحَامِ في النِّكَاحِ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ
في أَنَّ الْجَمْعَ بين الْأُخْتَيْنِ في النِّكَاحِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{ وَأَنْ تَجْمَعُوا بين الْأُخْتَيْنِ } مَعْطُوفًا على قَوْلِهِ عز وجل {
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يُفْضِي
إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ بين الضَّرَّتَيْنِ ظَاهِرَةٌ
وَأَنَّهَا تُفْضِي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ حَرَامٌ
فَكَذَا الْمُفْضِي وَكَذَا الْجَمْعُ بين الْمَرْأَةِ وَبِنْتِهَا لِمَا قُلْنَا
بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ قَرَابَةَ الولادة ( ( ( الولاد ) ) ) مُفْتَرَضَةُ
الْوَصْلِ بِلَا خِلَافٍ
وَاخْتُلِفَ في الْجَمْعِ بين ذَوَاتَيْ رَحِمٍ مَحْرَمٍ سِوَى هَذَيْنِ الْجَمْعَيْنِ
بين امْرَأَتَيْنِ لو كانت إحْدَاهُمَا رَجُلًا لَا يَجُوزُ له نِكَاحُ الْأُخْرَى
من الْجَانِبَيْنِ جميعا أَيَّتُهُمَا كانت غير عَيْنٍ كَالْجَمْعِ بين امْرَأَةٍ
وَعَمَّتِهَا وَالْجَمْعِ بين امْرَأَةٍ وَخَالَتِهَا وَنَحْوِ ذلك
قال عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ لَا يَجُوزُ
وقال عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ الْجَمْعُ فِيمَا سِوَى الْأُخْتَيْنِ وَسِوَى
الْمَرْأَةِ وَبِنْتِهَا ليس بِحَرَامٍ
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } ذَكَرَ
الْمُحَرَّمَاتِ وَذَكَرَ فِيمَا حَرَّمَ الْجَمْعَ بين الْأُخْتَيْنِ وَأَحَلَّ
ما وَرَاءَ ذلك وَالْجَمْعُ فِيمَا سِوَى الْأُخْتَيْنِ لم يَدْخُلْ في
التَّحْرِيمِ فَكَانَ دَاخِلًا في الْإِحْلَالِ إلَّا أَنَّ الْجَمْعَ بين
الْمَرْأَةِ وَبِنْتِهَا حُرِّمَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لِأَنَّ قَرَابَةَ
الْوِلَادِ أَقْوَى فَالنَّصُّ الْوَارِدُ ثَمَّةَ يَكُونُ وَارِدًا هَهُنَا من
طَرِيقِ الْأَوْلَى
وَلَنَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وهو ما رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه
عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ على
عَمَّتِهَا وَلَا على خَالَتِهَا وَلَا على ابْنَةِ أَخِيهَا وَلَا على ابْنَةِ
أُخْتِهَا وزاد في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَا الصُّغْرَى على الْكُبْرَى وَلَا
الْكُبْرَى على الصُّغْرَى الحديث
أَخْبَرَ أَنَّ من تَزَوَّجَ عَمَّةً ثُمَّ بِنْتَ أَخِيهَا أو خَالَةً ثُمَّ
بِنْتَ أُخْتِهَا لَا يَجُوزُ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ بِنْتَ
الْأَخِ أَوَّلًا ثُمَّ الْعَمَّةَ أو بِنْتَ الْأُخْتِ أَوَّلًا ثُمَّ الْخَالَةَ
لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِئَلَّا يُشْكِلَ أَنَّ حُرْمَةَ الْجَمْعِ يَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ كَنِكَاحِ الْأَمَةِ
على الْحُرَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ على الْأَمَةِ وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بين ذَوَاتَيْ
مَحْرَمٍ في النِّكَاحِ سَبَبٌ لِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ لِأَنَّ الضَّرَّتَيْنِ
يَتَنَازَعَانِ وَيَخْتَلِفَانِ وَلَا يَأْتَلِفَانِ هذا أَمْرٌ مَعْلُومٌ
بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وَذَلِكَ يُفْضِي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ وَأَنَّهُ
حَرَامٌ وَالنِّكَاحُ سَبَبٌ فَيَحْرُمُ حتى لَا يُؤَدِّيَ إلَيْهِ وَإِلَى هذا
الْمَعْنَى أَشَارَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في آخِرِ الحديث فِيمَا روى
أَنَّهُ قال إنَّكُمْ لو فَعَلْتُمْ ذلك لَقَطَعْتُمْ أَرْحَامَهُنَّ
وَرُوِيَ في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ
____________________
(2/262)
فَإِنَّهُنَّ
يَتَقَاطَعْنَ وفي بَعْضِهَا أَنَّهُ يُوجِبُ الْقَطِيعَةَ وَرُوِيَ عن أَنَسٍ رضي
اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كان أَصْحَابُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
يَكْرَهُونَ الْجَمْعَ بين الْقَرَابَةِ في النِّكَاحِ وَقَالُوا إنَّهُ يُوَرِّثُ
الضَّغَائِنَ
وَرُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كَرِهَ الْجَمْعَ
بين بِنْتَيْ عَمَّيْنِ وقال لَا أُحَرِّمُ ذلك لَكِنْ أَكْرَهُهُ أَمَّا
الْكَرَاهَةُ فَلِمَكَانِ الْقَطِيعَةِ وَأَمَّا عَدَمُ الْحُرْمَةِ فَلِأَنَّ
الْقَرَابَةَ بَيْنَهُمَا لَيْسَتْ بِمُفْتَرَضَةِ الْوَصْلِ
أَمَّا الْآيَةُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { وَأُحِلَّ
لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } أَيْ ما وَرَاءَ ما حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
وَالْجَمْعُ بين الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبِنْتِهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا مِمَّا
قد حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى على لِسَانِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
الذي هو وَحْيٌ غَيْرُ مَتْلُوٍّ على أَنَّ حُرْمَةَ الْجَمْعِ بين الْأُخْتَيْنِ
مَعْلُولَةٌ بِقَطْعِ الرَّحِمِ وَالْجَمْعُ هَهُنَا يُفْضِي إلَى قَطْعِ
الرَّحِمِ فَكَانَتْ حُرْمَةً ثَابِتَةً بِدَلَالَةِ النَّصِّ فلم يَكُنْ ما
وَرَاءَ ما حُرِّمَ في آيَةِ التَّحْرِيمِ وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بين امْرَأَةٍ
وَبِنْتِ زَوْجٍ كان لها من قَبْلُ أو بين امْرَأَةٍ وَزَوْجَةٍ كانت لِأَبِيهَا
وَهُمَا وَاحِدٌ لِأَنَّهُ لَا رَحِمَ بَيْنَهُمَا فلم يُوجَدْ الْجَمْعُ بين
ذَوَاتَيْ رَحِمٍ
وقال زُفَرُ وابن أبي لَيْلَى لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْبِنْتَ لو كانت رَجُلًا
لَكَانَ لَا يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأُخْرَى لِأَنَّهَا مَنْكُوحَةُ أبيه
فَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كما لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بين الْأُخْتَيْنِ
وأنا نَقُولُ الشَّرْطُ أَنْ تَكُونَ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً من الْجَانِبَيْنِ
جميعا وهو أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَيَّتُهُمَا كانت بِحَيْثُ لو
قُدِّرَتْ رَجُلًا لَكَانَ لَا يَجُوزُ له نِكَاحُ الْأُخْرَى ولم يُوجَدْ هذا
الشَّرْطُ لِأَنَّ الزَّوْجَةَ مِنْهُمَا لو كانت رَجُلًا لَكَانَ يَجُوزُ له أَنْ
يَتَزَوَّجَ الْأُخْرَى لِأَنَّ الْأُخْرَى لَا تَكُونُ بِنْتَ الزَّوْجِ فلم
تَكُنْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً من الْجَانِبَيْنِ فَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا
كَالْجَمْعِ بين الْأُخْتَيْنِ وَلَوْ تَزَوَّجَ الْأُخْتَيْنِ مَعًا فَسَدَ
نِكَاحُهُمَا لِأَنَّ نِكَاحَهُمَا حَصَلَ جَمْعًا بَيْنَهُمَا في النِّكَاحِ
وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِفَسَادِ النِّكَاحِ بِأَوْلَى من الْأُخْرَى فَيُفَرَّقُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا ثُمَّ إنْ كان قبل الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ لَهُمَا وَلَا
عِدَّةَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا حُكْمَ له قبل الدُّخُولِ وَإِنْ
كان قد دخل بِهِمَا فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْعُقْرُ وَعَلَيْهِمَا
الْعِدَّةُ لِأَنَّ هذا حُكْمُ الدُّخُولِ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ على ما
نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في مَوْضِعِهِ
وَإِنْ تَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى جَازَ نِكَاحُ الْأُولَى وَفَسَدَ
نِكَاحُ الثَّانِيَةِ وَلَا يَفْسُدُ نِكَاحُ الْأُولَى لِفَسَادِ نِكَاحِ
الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْجَمْعَ حَصَلَ بِنِكَاحِ الثَّانِيَةِ فَاقْتَصَرَ
الْفَسَادُ عليه وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِيَةِ فَإِنْ كان لم يَدْخُلْ
بها فَلَا مَهْرَ وَلَا عِدَّةَ وَإِنْ كان دخل بها فَلَهَا الْمَهْرُ وَعَلَيْهَا
الْعِدَّةُ لِمَا بَيَّنَّا وَلَا يَجُوزُ له أَنْ يَطَأَ الْأُولَى ما لم
تَنْقَضِ عِدَّةُ الثَّانِيَةِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ في عُقْدَتَيْنِ لَا يَدْرِي أَيَّتُهُمَا أُولَى لَا
يَجُوزُ له التَّحَرِّي بَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا لِأَنَّ نِكَاحَ
إحْدَاهُمَا فَاسِدٌ بِيَقِينٍ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ وَلَا يُتَصَوَّرُ حُصُولُ
مَقَاصِدِ النِّكَاحِ من الْمَجْهُولَةِ فَلَا بُدَّ من التَّفْرِيقِ ثُمَّ إنْ
ادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أنها هِيَ الْأُولَى وَلَا بَيِّنَةَ لها يقضي
لها بِنِصْفِ الْمَهْرِ لِأَنَّ النِّكَاحَ الصَّحِيحَ أَحَدُهُمَا وقد حَصَلَتْ
الْفُرْقَةُ قبل الدُّخُولِ لَا بِصُنْعِ الْمَرْأَةِ فَكَانَ الْوَاجِبُ نِصْفَ
الْمَهْرِ وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ التَّرْجِيحِ إذْ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا
بِأَوْلَى من الْأُخْرَى
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ شَيْءٌ وَرُوِيَ عن
مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجِبُ عليه الْمَهْرُ كَامِلًا وَإِنْ قَالَتَا لَا نَدْرِي
أَيَّتُنَا الْأُولَى لَا يقضي لَهُمَا بِشَيْءٍ لِكَوْنِ الْمُدَّعِيَةِ
مِنْهُمَا مَجْهُولَةً إلَّا إذَا اصْطَلَحَتْ على شَيْءٍ فَحِينَئِذٍ يقضي لها
وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ وَعَمَّتُهَا وَخَالَتُهَا في جَمِيعِ ما وَصَفْنَا
وَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً في نِكَاحِ أُخْتِهَا
لَا يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَهَا في عِدَّةِ أُخْتِهَا وَكَذَلِكَ التَّزَوُّجُ
بِامْرَأَةٍ هِيَ ذَاتُ رَحِمٍ مَحْرَمٍ من امْرَأَةٍ بِعَقْدٍ منه
وَالْأَصْلُ أَنَّ ما يَمْنَعُ صُلْبَ النِّكَاحِ من الْجَمْعِ بين ذَوَاتَيْ
الْمَحَارِمِ فَالْعِدَّةُ تَمْنَعُ منه وَكَذَا لَا يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَ
أَرْبَعًا من الْأَجْنَبِيَّاتِ وَالْخَامِسَةُ تَعْتَدُّ منه سَوَاءٌ كانت
الْعِدَّةُ من طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ أو بَائِنٍ أو ثَلَاثٍ أو بِالْمَحْرَمِيَّةِ
الطَّارِئَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ أو بِالدُّخُولِ في نِكَاحٍ فَاسِدٍ أو
بِالْوَطْءِ في شُبْهَةٍ وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ إلَّا في عِدَّةٍ من طَلَاقٍ
رَجْعِيٍّ وَرُوِيَ عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ
قَوْلِنَا نحو
____________________
(2/263)
عَلِيٍّ
وَعَبْدِ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْمُحَرَّمَ هو الْجَمْعُ بين الْأُخْتَيْنِ في النِّكَاحِ
وَالنِّكَاحُ قد زَالَ من كل وَجْهٍ لِوُجُودِ الْمُزِيلِ له وهو الطَّلَاقُ
الثَّلَاثُ أو الْبَائِنُ وَلِهَذَا لو وَطِئَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مع
الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ لَزِمَهُ الْحَدُّ فلم يَتَحَقَّقْ الْجَمْعُ في
النِّكَاحِ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ
وَلَنَا أَنَّ مِلْكَ الْحَبْسِ والعبد ( ( ( بالعقد ) ) ) قَائِمٌ فإن الزَّوْجَ
يَمْلِكُ مَنْعَهَا من الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ وَحُرْمَةُ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ
آخَرَ ثَابِتَةٌ وَالْفِرَاشُ قَائِمٌ حتى لو جَاءَتْ بِوَلَدٍ إلَى سَنَتَيْنِ من
وَقْتِ الطَّلَاقِ وقد كان قد دخل بها يَثْبُتُ النَّسَبُ فَلَوْ جَازَ النِّكَاحُ
لَكَانَ النِّكَاحُ جَمْعًا بين الْأُخْتَيْنِ في هذه الْأَحْكَامِ فَيَدْخُلُ
تَحْتَ النَّصِّ وَلِأَنَّ هذه أَحْكَامُ النِّكَاحِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ
وَسِيلَةً إلَى أَحْكَامِ النِّكَاحِ فَكَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا من وَجْهٍ
بِبَقَاءِ بَعْضِ أَحْكَامِهِ وَالثَّابِتُ من وَجْهٍ مُلْحَقٌ بِالثَّابِتِ من
وَجْهٍ في بَابِ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ أُلْحِقَتْ الْأُمُّ وَالْبِنْتُ من وَجْهٍ بِالرَّضَاعَةِ
بِالْأُمِّ وَالْبِنْتِ من كل وَجْهٍ بِالْقَرَابَةِ وَأُلْحِقَتْ الْمَنْكُوحَةُ
من وَجْهٍ وَهِيَ الْمُعْتَدَّةُ بِالْمَنْكُوحَةِ من كل وَجْهٍ في حُرْمَةِ
النِّكَاحِ كَذَا هذا
وَلِأَنَّ الْجَمْعَ قبل الطَّلَاقِ إنَّمَا حُرِّمَ لِكَوْنِهِ مُفْضِيًا إلَى
قَطِيعَةِ الرَّحِمِ لِأَنَّهُ يُوَرِّثُ الضَّغِينَةَ وَإِنَّهَا تُفْضِي إلَى
الْقَطِيعَةِ وَالضَّغِينَةُ هَهُنَا أَشَدُّ لِأَنَّ مُعْظَمَ النِّعْمَةِ وهو
مِلْكُ الْحِلِّ الذي هو سَبَبُ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ قد زَالَ في حَقِّ
الْمُعْتَدَّةِ وَبِنِكَاحِ الثَّانِيَةِ يَصِيرُ جَمِيعُ ذلك لها وَتَقُومُ
ومقامها ( ( ( مقامها ) ) ) وَتَبْقَى هِيَ مَحْرُومَةُ الْحَظِّ لِلْحَالِّ من
الْأَزْوَاجِ فَكَانَتْ الضَّغِينَةُ أَشَدَّ فَكَانَتْ أَدْعَى إلَى الْقَطِيعَةِ
بِخِلَافِ ما بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يَبْقَ شَيْءٌ من
عَلَائِقِ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَكَانَ لها سَبِيلُ الْوُصُولِ إلَى زَوْجٍ آخَرَ
فَتَسْتَوْفِي حَظَّهَا من الثَّانِي فتسلي بِهِ فَلَا تَلْحَقُهَا الضَّغِينَةُ
أو كانت أَقَلَّ منه في حَالِ قِيَامِ الْعِدَّةِ فَلَا يَسْتَقِيمُ
الِاسْتِدْلَال وَلَوْ خَلَا بِامْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا لم يَتَزَوَّجْ
أُخْتَهَا حتى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا لِأَنَّهُ وَجَبَتْ عليها الْعِدَّةُ
بِالْخَلْوَةِ فَيُمْنَعُ نِكَاحُ الْأُخْتِ كما لو وَجَبَتْ بِالدُّخُولِ
حَقِيقَةً
فَصْلٌ وَأَمَّا الْجَمْعُ في الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ
عَامَّةِ الصَّحَابَةِ مِثْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ
وَعَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَرُوِيَ عن عُثْمَانَ رضي
اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كُلُّ شَيْءٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى من الْحَرَائِرِ
حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى من الْإِمَاءِ إلَّا الْجَمْعَ أَيْ الْجَمْعَ في الْوَطْءِ
بِمِلْكِ الْيَمِينِ
وروى أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه عن ذلك فقال ما أُحِبُّ أَنْ
أُحِلَّهُ وَلَكِنْ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ وَأَمَّا أنا
فَلَا أَفْعَلُهُ فَخَرَجَ الرَّجُلُ من عِنْدِهِ فَلَقِيَ عَلِيًّا فذكر له ذلك
فقال لو أَنَّ لي من الْأَمْرِ شيء لَجَعَلْت من فَعَلَ ذلك نَكَالًا وَقَوْلُ
عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ عني
بِآيَةِ التَّحْلِيلِ قَوْلَهُ عز وجل { إلَّا على أَزْوَاجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } وَبِآيَةِ التَّحْرِيمِ قَوْلَهُ
عز وجل { وَأَنْ تَجْمَعُوا بين الْأُخْتَيْنِ إلَّا ما قد سَلَفَ } وَذَلِكَ منه
إشَارَةٌ إلَى تَعَارُضِ دَلِيلَيْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فَلَا تَثْبُتُ
الْحُرْمَةُ مع التَّعَارُضِ وَلِعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَالسُّنَّةُ
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ عز وجل { وَأَنْ تَجْمَعُوا بين الْأُخْتَيْنِ }
وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا في الْوَطْءِ جَمْعٌ فَيَكُونُ حَرَامًا
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما روى عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
من كان يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْمَعَنَّ مَاءَهُ في
رَحِمِ أُخْتَيْنِ
وَأَمَّا قَوْلُ عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا
آيَةٌ فَالْأَخْذُ بِالْمُحَرَّمِ أَوْلَى عِنْدَ التَّعَارُضِ احْتِيَاطًا
لِلْحُرْمَةِ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْمَأْثَمُ بِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَلَا
مَأْثَمَ في تَرْكِ الْمُبَاحِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في الإبضاع هو الْحُرْمَةُ
وَالْإِبَاحَةُ بِدَلِيلٍ فإذا تَعَارَضَ دَلِيلُ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ
تَدَافَعَا فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ
بَيْنَهُمَا في الْوَطْءِ لَا يَجُوزُ في الدَّوَاعِي من اللَّمْسِ وَالتَّقْبِيلِ
وَالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ عن شَهْوَةٍ لِأَنَّ الدَّوَاعِيَ إلَى الْحَرَامِ
حَرَامٌ إذَا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ إذَا مَلَكَ أُخْتَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَطَأَ
إحْدَاهُمَا لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا تَصِيرُ فِرَاشًا بِالْمِلْكِ وإذا وطىء
إحْدَاهُمَا ليس له أَنْ يَطَأَ الْأُخْرَى بَعْدَ ذلك لِأَنَّهُ لو وطىء لَصَارَ
جَامِعًا بَيْنَهُمَا في الْوَطْءِ حَقِيقَةً وَكَذَا إذَا مَلَكَ جَارِيَةً
فَوَطِئَهَا ثُمَّ مَلَكَ أُخْتَهَا كان له أَنْ يَطَأَ الْأُولَى لِمَا قُلْنَا
وَلَيْسَ له أَنْ يَطَأَ الْأُخْرَى بَعْدَ ذلك لم ما يُحَرِّمْ فَرْجَ الْأُولَى
على نَفْسِهِ أما بِالتَّزْوِيجِ أو بِالْإِخْرَاجِ عن مِلْكِهِ بِالْإِعْتَاقِ أو
بِالْبَيْعِ أو بِالْهِبَةِ أو بِالصَّدَقَةِ لِأَنَّهُ لو وطىء الْأُخْرَى
لَصَارَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا
____________________
(2/264)
في
الْوَطْءِ حَقِيقَةً وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَوْ كَاتَبَهَا يَحِلُّ له وطىء ( ( (
وطء ) ) ) الْأُخْرَى في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال لَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ بِالْكِتَابَةِ لم
يَمْلِكْ وَطْأَهَا غَيْرُهُ وقال في هذه الرِّوَايَةِ أَيْضًا أنه لو مَلَكَ
فَرْجَ الْأُولَى غَيْرُهُ لم يَكُنْ له أَنْ يَطَأَ الْأُخْرَى حتى تَحِيضَ
الْأُولَى حَيْضَةً بَعْدَ وَطْئِهَا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَيَكُونُ
جَامِعًا مَاءَهُ في رَحِمِ أُخْتَيْنِ فَيَسْتَبْرِئُهَا بِحَيْضَةٍ حتى يَعْلَمَ
أنها لَيْسَتْ بِحَامِلٍ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ حَرَّمَ فَرْجَهَا على الْمَوْلَى
بِالْكِتَابَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو وَطِئَهَا لَزِمَهُ الْعُقْرُ وَلَوْ
وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ أو نِكَاحٍ كان الْمَهْرُ لها لَا لِلْمَوْلَى فَلَا يَصِيرُ
بِوَطْءِ الْأُخْرَى جَامِعًا بَيْنَهُمَا في الْوَطْءِ وَلَوْ تَزَوَّجَ
جَارِيَةً ولم يَطَأْهَا حتى مَلَكَ أُخْتَهَا فَلَيْسَ له أَنْ يَطَأَ الْمُشْتَرَاةَ
لأنه الْفِرَاشَ يَثْبُتُ بِنَفْسِ النِّكَاحِ وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ
يُقْصَدُ بِهِ الْوَطْءُ وَالْوَلَدُ فَصَارَتْ الْمَنْكُوحَةُ مَوْطُوءَةً
حُكْمًا فَلَوْ وطىء الْمُشْتَرَاةَ لَصَارَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا في الْوَطْءِ
وَلَوْ كانت في مكله ( ( ( ملكه ) ) ) جَارِيَةٌ قد وَطِئَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ
أُخْتَهَا وَتَزَوَّجَ أُخْتَ أُمِّ وَلَدِهِ جَازَ النِّكَاحُ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ وَلَكِنْ لَا يَطَأُ الزَّوْجَةَ ما لم يُحَرِّمْ فَرْجَ الْأَمَةِ
التي في مِلْكِهِ أو أُمَّ وَلَدِهِ وقال مَالِكٌ لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن النِّكَاحَ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ بِهِ
النَّسَبُ كَالْوَطْءِ وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ له أَنْ يَطَأَ
الْمَمْلُوكَةَ هَهُنَا بَعْدَ نِكَاحِ أُخْتِهَا فَلَوْ لم يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ
الْوَطْءِ لَجَازَ وإذا كان النِّكَاحُ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ يَصِيرُ
بِالنِّكَاحِ جَامِعًا لَمَا بَيَّنَّا في الْوَطْءِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ
وَلَنَا أَنَّ النِّكَاحَ ليس بِوَطْءٍ حَقِيقَةً وَلَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ
أَيْضًا لِأَنَّ النِّكَاحَ يُلَاقِي الْأَجْنَبِيَّةَ وَلَا يَجُوزُ وَطْءُ
الْأَجْنَبِيَّةِ فَلَا يَكُونُ نِكَاحُهَا جَامِعًا بَيْنَهُمَا في الْوَطْءِ
إلَّا أَنَّ النِّكَاحَ إذَا انْعَقَدَ يَجْعَلُ الْوَطْءَ مَوْجُودًا حُكْمًا
بَعْدَ الِانْعِقَادِ لِمَا أَنَّ الْحُكْمَ الْمُخْتَصَّ بِالنِّكَاحِ هو الْوَطْءُ
وَثَمَرَتُهُ الْمَطْلُوبَةُ منه الْوَلَدُ وَلَا حُصُولَ له عَادَةً بِدُونِ
الْوَطْءِ فَجَعَلَهُ الشَّارِعُ حُكْمًا وَاطِئًا بَعْدَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ
وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْفِرَاشِ فَلَوْ وطىء الْمَمْلُوكَةَ لَصَارَ جَامِعًا
بَيْنَهُمَا وطأ وَلِأَنَّ الْأَمَةَ لَا تَصِيرُ فِرَاشًا بِنَفْسِ الْوَطْءِ
عِنْدَنَا حتى لَا يَثْبُتَ النَّسَبُ بِدُونِ الدَّعْوَةِ فَلَا يَكُونُ نِكَاحُ
أُخْتِهَا جَمْعًا بَيْنَهُمَا في الْفِرَاشِ فَلَا يُمْنَعُ منه وَأُمُّ
الْوَلَدِ فِرَاشُهَا ضَعِيفٌ حتى يَنْتَفِيَ نَسَبُ وَلَدِهِ بِمُجَرَّدِ
قَوْلِهِ وهو مُجَرَّدُ النَّفْيِ من غَيْرِ لِعَانٍ
وَكَذَا يُحْتَمَلُ النَّقْلُ إلَى غَيْرِهِ فَلَا يتحقر ( ( ( يتحقق ) ) )
النِّكَاحُ جَمْعًا بَيْنَهُمَا في الْفِرَاشِ مُطْلَقًا فَلَا يُمْنَعُ نَسَبُ
وَلَدِهِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ وهو مُجَرَّدُ النَّفْيِ من غَيْرِ لِعَانٍ
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ أُمِّ وَلَدِهِ التي تَعْتَدُّ منه
بِأَنَّهُ أَعْتَقَهَا وَوَجَبَتْ عليها الْعِدَّةُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَجُوزُ أَنْ تَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا في عِدَّتِهَا وقال أبو
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجُوزُ كِلَاهُمَا وقال زُفَرُ لَا يَجُوزُ كِلَاهُمَا
وَجْهُ قَوْلِهِ أن هذه مُعْتَدَّةٌ فَلَا يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِأُخْتِهَا
وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا كَالْحُرَّةِ الْمُعْتَدَّةِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن الْحُرْمَةَ في الْحُرَّةِ لِمَكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا
في النِّكَاحِ من وَجْهٍ ولم يُوجَدْ في أُمِّ الْوَلَدِ لِانْعِدَامِ النِّكَاحِ
أَصْلًا وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ في أُمِّ الْوَلَدِ أَثَرُ فِرَاشِ الْمِلْكِ
وَحَقِيقَةُ الْفِرَاشِ فيها لَا يَمْنَعُ النِّكَاحَ حتى لو تَزَوَّجَ أُخْتَ
أُمِّ وَلَدِهِ وَأَرْبَعَ نِسْوَةٍ قبل أَنْ يُعْتِقَهَا جَازَ فإذا لم يَكُنْ
فِرَاشُ الْمِلْكِ حَقِيقَةً مَانِعًا فَأَثَرُهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنَّمَا جَازَ نِكَاحُ أُخْتِ أُمِّ الْوَلَدِ قبل
الْإِعْتَاقِ لِضَعْفِ فِرَاشِهَا على ما بَيَّنَّا فإذا أَعْتَقَهَا قوى
فِرَاشُهَا فَكَانَ نِكَاحُ أُخْتِهَا جَمْعًا بَيْنَهُمَا في الْفِرَاشِ وهو
اسْتِلْحَاقُ نَسَبِ وَلَدَيْهَا وَلَا يَجُوزُ اسْتِلْحَاقُ نَسَبِ وَلَدِ
أُخْتَيْنِ في زَمَانٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا لو تَزَوَّجَ أُخْتَ أُمِّ وَلَدِهِ لَا
يَحِلُّ له وَطْءُ الْمَنْكُوحَةِ حتى يُزِيلَ فِرَاشَ أُمِّ الْوَلَدِ وَنِكَاحَ
الْأَرْبَعِ وَإِنْ كان جَمْعًا بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَهَا في الْفِرَاشِ لَكِنْ
الْجَمْعَ هَهُنَا في الْفِرَاشِ جَائِزٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَازَ قبل الْإِعْتَاقِ فإنه إذَا تَزَوَّجَ أَرْبَعًا قبل
الْإِعْتَاقِ يَحِلُّ له وَطْؤُهُنَّ وَوَطْءُ أُمِّ الْوَلَدِ فَكَذَا بَعْدَ
الْإِعْتَاقِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْجَمْعُ بين الْأَجْنَبِيَّاتِ فَنَوْعَانِ أَيْضًا جَمْعٌ في
النِّكَاحِ وَجَمْعٌ في الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَمَّا
الْجَمْعُ في النِّكَاحِ فَنَقُولُ لَا يَجُوزُ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ
أَكْثَرَ من أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ من الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ وقال بَعْضُهُمْ يُبَاحُ له الْجَمْعُ بين التِّسْعِ وقال بَعْضُهُمْ
يُبَاحُ له الْجَمْعُ بين ثَمَانِيَةَ عَشَرَ
وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ من
النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } فَالْأَوَّلُونَ قالوا إنَّ اللَّهَ
تَعَالَى ذَكَرَ هذه الْأَعْدَادَ بِحَرْفِ الْوَاوِ وَأَنَّهُ لِلْجَمْعِ
وَجُمْلَتُهَا تِسْعَةٌ فَيَقْتَضِي إبَاحَةَ نِكَاحِ تِسْعٍ
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِفِعْلِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
تَزَوَّجَ
____________________
(2/265)
تِسْعَ
نِسْوَةٍ وهو قُدْوَةُ الْأُمَّةِ وَالْآخَرُونَ قالوا الْمَثْنَى ضِعْفُ الإثنين
وَالثُّلَاثُ ضِعْفُ الثَّلَاثَةِ وَالرُّبَاعُ ضِعْفُ الْأَرْبَعَةِ
فَجُمْلَتُهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ
وَلَنَا ما روى أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ ثَمَانِ نِسْوَةٍ فَأَسْلَمْنَ
فقال له رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم اخْتَرْ مِنْهُنَّ أربعا ( ( ( أربعة
) ) ) وَفَارِقْ الْبَوَاقِيَ أَمَرَهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِمُفَارَقَةِ
الْبَوَاقِي وَلَوْ كانت الزِّيَادَةُ على الْأَرْبَعِ حلال ( ( ( حلالا ) ) )
لَمَا أَمَرَهُ فَدَلَّ أَنَّهُ مُنْتَهَى الْعَدَدِ الْمَشْرُوعِ وهو الْأَرْبَعُ
وَلِأَنَّ في الزِّيَادَةِ على الْأَرْبَعِ خَوْفَ الْجَوْرِ عَلَيْهِنَّ
بِالْعَجْزِ عن الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِنَّ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا
يَقْدِرُ على الْوَفَاءِ بِحُقُوقِهِنَّ وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ
عز وجل { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } أَيْ لَا تَعْدِلُوا في
الْقَسْمِ وَالْجِمَاعِ وَالنَّفَقَةِ في نكح ( ( ( نكاح ) ) ) الْمَثْنَى
وَالثُّلَاثِ وَالرُّبَاعِ فَوَاحِدَةً بِخِلَافِ نِكَاحِ رسول اللَّه صلى اللَّهُ
عليه وسلم لِأَنَّ خَوْفَ الْجَوْرِ منه غَيْرُ مَوْهُومٍ لِكَوْنِهِ مُؤَيَّدًا
على الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِنَّ بالتأييد ( ( ( بالتأبيد ) ) ) الْإِلَهِيِّ
فَكَانَ ذلك من الْآيَاتِ الدَّالَّةِ على نُبُوَّتِهِ لِأَنَّهُ آثَرَ الْفَقْرَ
على الْغِنَى وَالضِّيقَ على السَّعَةِ وَتَحَمُّلَ الشَّدَائِدِ وَالْمَشَاقِّ
على الْهُوَيْنَا من الْعِبَادَاتِ وَالْأُمُورِ الثَّقِيلَةِ وَهَذِهِ
الْأَشْيَاءُ أَسْبَابُ قَطْعِ الشَّهَوَاتِ وَالْحَاجَةِ إلَى النِّسَاءِ وَمَعَ
ذلك كان يَقُومُ بِحُقُوقِهِنَّ دَلَّ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّمَا
قَدَرَ على ذلك بِاَللَّهِ تَعَالَى
وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهَا لِأَنَّ الْمَثْنَى ليس
عِبَارَةً عن الإثنين وَلَا الثُّلَاثَ عن الثُّلَاثِ وَالرُّبَاعَ عن الْأَرْبَعِ
بَلْ أَدْنَى ما يُرَادُ بِالْمَثْنَى مَرَّتَانِ من هذا الْعَدَدِ وَأَدْنَى ما
يُرَادُ بِالثُّلَاثِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ من الْعَدَدِ وَكَذَا الرُّبَاعُ وَذَلِكَ
يَزِيدُ على التِّسْعَةِ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَلَا قَائِلَ بِهِ دَلَّ أَنَّ
الْعَمَلَ بِظَاهِرِ الأية مُتَعَذِّرٌ فَلَا بُدَّ لها من تَأْوِيلٍ وَلَهَا تَأْوِيلَانِ
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ على التَّخْيِيرِ بين نِكَاحِ الإثنين وَالثَّلَاثِ
وَالْأَرْبَعِ كَأَنَّهُ قال عز وجل { مَثْنَى وثلاث ورباع ( ( ( ثلاث ) ) ) فإن }
وَاسْتِعْمَالُ الْوَاوِ مَكَانَ أو جَائِزٌ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ هذه الْأَعْدَادِ على التَّدَاخُلِ وهو أَنَّ
قَوْلَهُ وَثُلَاثَ تَدْخُلُ فيه الْمَثْنَى وَقَوْلَهُ عز وجل { وَرُبَاعَ }
يَدْخُلُ فيه الثُّلَاثُ كما في قَوْلِهِ { أئنكم ( ( ( أإنكم ) ) ) لَتَكْفُرُونَ
بِاَلَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ في يَوْمَيْنِ } ثُمَّ قال عز وجل { وَجَعَلَ فيها
رَوَاسِيَ من فَوْقِهَا وَبَارَكَ فيها وَقَدَّرَ فيها أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ } وَالْيَوْمَانِ الْأَوَّلَانِ دَاخِلَانِ في الْأَرْبَعِ لِأَنَّهُ لو
لم يَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَ خَلْقُ هذه الْجُمْلَةِ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
أَخْبَرَ عز وجل أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ في يَوْمَيْنِ بِقَوْلِهِ عز وجل {
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماوات ( ( ( سموات ) ) ) في يَوْمَيْنِ } فَيَكُونُ خَلْقُ
الْجَمِيعِ في ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ وقد أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ {
خَلَقَ السماوات ( ( ( السموات ) ) ) وَالْأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ }
فَيُؤَدِّي إلَى الْخُلْفِ في خَبَرِ من يَسْتَحِيلُ عليه الْخُلْفُ فَكَانَ على
التَّدَاخُلِ فَكَذَا هَهُنَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ الْأَوَّلُ دَاخِلًا
في الثَّانِي وَالثَّانِي في الثَّالِثِ فَكَانَ في الْآيَةِ إبَاحَةُ نِكَاحِ
الْأَرْبَعِ وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ من اثْنَيْنِ
لِمَا رَوَيْنَا من الحديث وَذَكَرْنَا من الْمَعْنَى فِيمَا تَقَدَّمَ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْجَمْعُ في الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ
فَجَائِزٌ وَإِنْ كَثُرَتْ الْجَوَارِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أَيْ إنْ خِفْتُمْ
أَنْ لَا تَعْدِلُوا في نِكَاحِ الْمَثْنَى وَالثُّلَاثِ وَالرُّبَاعِ بِإِيفَاءِ
حُقُوقِهِنَّ فإنكحوا وَاحِدَةً وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا في وَاحِدَةٍ
فَمِمَّا مملكت ( ( ( ملكت ) ) ) أَيْمَانُكُمْ كَأَنَّهُ قال سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى هذا أو هذا أَيْ الزِّيَادَةُ على الْوَاحِدَةِ إلَى الْأَرْبَعِ
عِنْدَ الْقُدْرَةِ على الْمُعَادَلَةِ وَعِنْدَ خَوْفِ الْجَوْرِ في ذلك
الْوَاحِدَةُ من الْحَرَائِرِ وَعِنْدَ خَوْفِ الْجَوْرِ في نِكَاحِ الْوَاحِدَةِ
هو شِرَاءُ الْجَوَارِي وَالتَّسَرِّي بِهِنَّ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل { أو ما
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ذَكَرَهُ مُطْلَقًا عن شَرْطِ الْعَدَدِ وقال تَعَالَى {
إلَّا على أَزْوَاجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ } من غَيْرِ شَرْطِ الْعَدَدِ وقال عز وجل { وَالْمُحْصَنَاتُ من
النِّسَاءِ إلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } مُطْلَقًا وَلِأَنَّ حُرْمَةَ
الزِّيَادَةِ على الْأَرْبَعِ في الزَّوْجَاتِ لِخَوْفِ الْجَوْرِ عَلَيْهِنَّ في
الْقَسْمِ وَالْجِمَاعِ ولم يُوجَدْ هذا الْمَعْنَى في الْإِمَاءِ لِأَنَّهُ لَا
حَقَّ لَهُنَّ قِبَلَ الْمَوْلَى في الْقَسْمِ وَالْجِمَاعِ
فَصْلٌ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ هو شَرْطُ جَوَازِ نِكَاحِ
الْأَمَةِ فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ على الْحُرَّةِ وَالْأَصْلُ فيه ما روى
عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ على الْحُرَّةِ وقال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه وَتُنْكَحُ
الْحُرَّةُ على الْأَمَةِ وَلِلْحُرَّةِ الثُّلُثَانِ من الْقَسْمِ وَلِلْأَمَةِ
الثُّلُثُ وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ
____________________
(2/266)
تنبىء
عن الشَّرَفِ وَالْعِزَّةِ وَكَمَالِ الْحَالِ فَنِكَاحُ الْأَمَةِ على الْحُرَّةِ
إدْخَالٌ على الْحُرَّةِ من لَا يُسَاوِيهَا في الْقَسْمِ وَذَلِكَ يُشْعِرُ
بِالِاسْتِهَانَةِ وَإِلْحَاقِ الشَّيْنِ وَنُقْصَانِ الْحَالِ وَهَذَا لَا
يَجُوزُ وَسَوَاءٌ كان الْمُتَزَوِّجُ حُرًّا أو عَبْدًا عِنْدَنَا لِأَنَّ ما
رَوَيْنَا من الحديث وَذَكَرْنَا من الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً على حُرَّةٍ
بِنَاءً على أَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ لِلْحُرِّ عِنْدَهُ لِعَدَمِ شَرْطِ
الْجَوَازِ وهو عَدَمُ طَوْلِ الْحُرَّةِ وَهَذَا شَرْطُ جَوَازِ نِكَاحِ
الْأَمَةِ عِنْدَهُ في حَقِّ الْحُرِّ لَا في حَقِّ الْعَبْدِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى
وَكَذَا خُلُوُّ الْحُرَّةِ عن الْعِدَّةِ شَرْطُ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ
أَمَةً على حُرَّةٍ تَعْتَدُّ من طَلَاقٍ بَائِنٍ أو ثَلَاثٍ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُحَرَّمَ ليس هو الْجَمْعُ بين الْحُرَّةِ
وَالْأَمَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ تَزَوَّجَ حُرَّةً جَازَ
وقد حَصَلَ الْجَمْعُ وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ هو نِكَاحُ الْأَمَةِ على
الْحُرَّةِ وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ على الْحُرَّةِ
وَلَا يَتَحَقَّقُ النِّكَاحُ عليها بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو
حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ على امْرَأَتِهِ فَتَزَوَّجَ بعد ما أَبَانَهَا في
عِدَّتِهَا لَا يَحْنَثُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ في عِدَّةِ الْحُرَّةِ نِكَاحٌ عليها
من وَجْهٍ لِأَنَّ بَعْضَ آثَارِ النِّكَاحِ قَائِمٌ فَكَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا
من وَجْهٍ فَكَانَ نِكَاحُهَا عليها من وَجْهٍ وَالثَّابِتُ من وَجْهٍ مُلْحَقٌ
بِالثَّابِتِ من كل وَجْهٍ في بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا فَيُحَرَّمُ
كَنِكَاحِ الْأُخْتِ في عِدَّةِ الْأُخْتِ وَنَحْوِ ذلك مِمَّا بَيَّنَّا فِيمَا
تَقَدَّمَ
وَأَمَّا عَدَمُ طَوْلِ الْحُرَّةِ وهو الْقُدْرَةُ على مَهْرِ الْحُرَّةِ
وَخَشْيَةُ الْعَنَتِ فَلَيْسَ من شَرْطِ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ من شَرَائِطِ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ أَنْ لَا يَكُونَ في نِكَاحِ الْمُتَزَوِّجِ حُرَّةٌ وَلَا في
عِدَّةِ حُرَّةٍ وَعِنْدَهُمَا خُلُوُّ الْحُرَّةِ عن عِدَّةِ الْبَيْنُونَةِ ليس
بِشَرْطٍ لِجَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ من شَرَائِطِ
جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ أَنْ لَا يَكُونَ في نِكَاحِهِ حُرَّةٌ وَأَنْ لَا
يَكُونَ قَادِرًا على مَهْرِ الْحُرَّة وَأَنْ يَخْشَى الْعَنَتَ حتى إذَا كان في
مِلْكِهِ أَمَةٌ يَطَؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ جَازَ له أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً
عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ خَشْيَةِ الْعَنَتِ وَكَذَلِكَ
الْحُرُّ يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ من أَمَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا
وَعِنْدَهُ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً وَاحِدَةً لَا يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَ
أَمَةً أُخْرَى لِزَوَالِ خَشْيَةِ الْعَنَتِ بِالْوَاحِدَةِ وَلَا خِلَافَ في
أَنَّ طَوْلَ الْحُرَّةِ لَا يَمْنَعُ الْعَبْدَ من نِكَاحِ الْأَمَةِ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ لم يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ
طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فمن ( ( ( فمما ) ) ) ما مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ من فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ } وَمَنْ كَلِمَةُ شَرْطٍ فَقَدْ
جَعَلَ اللَّهُ عز وجل الْعَجْزَ عن طَوْلِ الْحُرَّةِ شَرْطًا لِجَوَازِ نِكَاحِ
الْأَمَةِ فَيَتَعَلَّقُ الْجَوَازُ بِهِ كما في قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ لم
يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } وَنَحْوِ ذلك وقال تَعَالَى ذلك {
لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } وهو الزِّنَا شَرَطَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
خَشْيَةَ الْعَنَتِ لِجَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ فَيَتَقَيَّدُ الْجَوَازُ بهذا
الشَّرْطِ أَيْضًا وَلِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْإِمَاءِ في الْأَصْلِ ثَبَتَ
بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ لِمَا يَتَضَمَّنُ نِكَاحَهُنَّ من إرْقَاقِ الْحُرِّ
لِأَنَّ مَاءَ الْحُرِّ حُرٌّ تَبَعًا له وكان في نِكَاحِ الْحُرِّ الْأَمَةَ
إرْقَاقُ حُرٍّ جزأ وَإِلَى هذا أَشَارَ عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه فِيمَا روى عنه
أَنَّهُ قال أَيُّمَا حُرٍّ تَزَوَّجَ أَمَةً فَقَدْ أَرَّقَ نِصْفَهُ وَأَيُّمَا
عَبْدٍ تَزَوَّجَ حُرَّةً فَقَدْ أَعْتَقَ نِصْفَهُ وَلَا يَجُوزُ إرْقَاقُ
الْجُزْءِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلِهَذَا إذَا كان تَحْتَهُ حُرَّةٌ لَا يَجُوزُ
نِكَاحُ الْأَمَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِرْقَاقَ إهْلَاكٌ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ
من أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِعًا بِهِ في حَقِّ نَفْسِهِ وَيَصِيرُ مُلْحَقًا
بِالْبَهَائِمِ وَهَلَاكُ الْجُزْءِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ لَا يَجُوزُ كَقَطْعِ
الْيَدِ وَنَحْوِ ذلك وَلَا ضَرُورَةَ حَالَةَ الْقُدْرَةِ على طَوْلِ الْحُرَّةِ
فَبَقِيَ الْحُكْمُ فيها على هذا الْأَصْلِ وَلِهَذَا لم يَجُزْ إذَا كانت حُرَّةً
لِارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ بِالْحُرَّةِ بِخِلَافِ ما إذَا كان الْمُتَزَوِّجُ
عَبْدًا لِأَنَّ نِكَاحَهُ ليس إرْقَاقَ الْحُرِّ لِأَنَّ مَاءَهُ رَقِيقٌ تَبَعًا
له وَإِرْقَاقُ الرَّقِيقِ لَا يُتَصَوَّرُ
وَلَنَا عُمُومَاتُ النِّكَاحِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى
مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ من عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ }
وَقَوْلِهِ عز وجل { فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } وَقَوْلِهِ عز وجل {
وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ } من غَيْرِ فَصْلٍ بين حَالِ الْقُدْرَةِ
على مَهْرِ الْحُرَّةِ وَعَدَمِهَا وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مَصْلَحَةٍ في
الْأَصْلِ لِاشْتِمَالِهِ على الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ
فَكَانَ الْأَصْلُ فيه هو الْجَوَازَ إذَا صَدَرَ من الْأَهْلِ في الْمَحَلِّ وقد
وَجَدُوا الْآيَةَ فَفِيهَا إبَاحَةُ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَ عَدَمِ طَوْلِ
الْحُرَّةِ وَهَذَا لَا يَنْفِي الْإِبَاحَةَ عِنْدَ وُجُودِ الطَّوْلِ
فَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَنَا يَقْتَضِي الْوُجُودَ عِنْدَ وُجُودِ
الشَّرْطِ
وإما ( ( ( إما ) ) ) لَا يَقْتَضِي الْعَدَمَ عِنْدَ عَدَمِهِ قال اللَّهُ
تَعَالَى { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا }
____________________
(2/267)
ثُمَّ إذَا تَزَوَّجَ وَاحِدَةً جَازَ وَإِنْ كان لَا يَخَافُ الْجَوْرِ في
نِكَاحِ الْمَثْنَى وَالثُّلَاثِ وَالرُّبَاعِ وقال تَعَالَى في الْإِمَاءِ { فإذا
أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما على
الْمُحْصَنَاتِ من الْعَذَابِ } وَهَذَا لَا يَدُلُّ على نَفْيِ الْحَدِّ
عَنْهُنَّ عِنْدَ عَدَمِ الْإِحْصَانِ وهو التَّزَوُّجُ وهو الْجَوَابُ عن
قَوْلِهِ عز وجل { ذلك لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } على أَنَّ الْعَنَتَ
يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الضِّيقُ كَقَوْلِهِ عز وجل { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَأَعْنَتَكُمْ } أَيْ لَضَيَّقَ عَلَيْكُمْ أَيْ من يُضَيَّقُ عليه النَّفَقَةُ
وَالْإِسْكَانُ لِتَرْكِ الْحُرَّةِ بِالطَّلَاقِ وَتَزَوُّجِ الْأَمَةِ
فَالطَّوْلُ الْمَذْكُورُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُدْرَةُ على الْمَهْرِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُدْرَةُ على الْوَطْءِ لِأَنَّ النِّكَاحَ
يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ بَلْ حَقِيقَةُ الْوَطْءِ على ما عُرِفَ
فَكَانَ مَعْنَاهُ فَمَنْ لم يَقْدِرْ مِنْكُمْ على وَطْءِ الْمُحْصَنَاتِ وَهِيَ
الْحَرَائِرُ وَالْقُدْرَةُ على وَطْءِ الْحُرَّةِ إنَّمَا يَكُونُ في النِّكَاحِ
وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ أن من لم يَقْدِرْ على وَطْءِ الْحُرَّةِ بِأَنْ لم يَكُنْ
في نِكَاحِهِ حُرَّةٌ يَجُوزُ له نِكَاحُ الْأَمَةِ وَمَنْ قَدَرَ على ذلك بِأَنْ
كان في نِكَاحِهِ حُرَّةٌ لَا يَجُوزُ له نِكَاحُ الْأَمَةِ وَنُقِلَ هذا
التَّأْوِيلُ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ
على أَنَّ فيها إبَاحَةَ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَ عَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ
وَهَذَا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ في الْجَوَابِ عن التَّعْلِيقِ بِالْآيَةِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ يَتَضَمَّنُ إرْقَاقَ الْحُرِّ لِأَنَّ مَاءَ
الْحُرِّ حُرٌّ فَنَقُولُ إنْ عني بِهِ إثْبَاتَ حَقِيقَةِ الرِّقِّ فَهَذَا لَا
يُتَصَوَّرُ لِأَنَّ الْمَاءَ جَمَادٌ لَا يُوصَفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ
وَإِنْ عني بِهِ التسبب ( ( ( النسب ) ) ) إلَى حُدُوثِ رِقِّ الْوَلَدِ فَهَذَا
مُسَلَّمٌ لَكِنَّ أَثَرَ هذا في الْكَرَاهَةِ لَا في الْحُرِّيَّةِ فإن نِكَاحَ
الْأَمَةِ في حَالِ طَوْلِ الْحُرَّةِ في حَقِّ الْعَبْدِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ
وَإِنْ كان نِكَاحُهَا مُبَاشَرَةَ سَبَبِ حُدُوثِ الرِّقِّ عِنْدَنَا فَكُرِهَ
نِكَاحُ الْأَمَةِ مع طَوْلِ الْحُرَّةِ
وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً وَحُرَّةً في عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ نِكَاحُ
الْحُرَّةِ وَبَطَلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا على
صَاحِبَتِهَا مَدْخُولَةٌ عليها فَيُعْتَبَرُ حَالَةُ الِاجْتِمَاعِ بِحَالِ
الِانْفِرَادِ فَيَجُوزُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ لِأَنَّ نِكَاحَهَا على الْأَمَةِ
حَالَةَ الِانْفِرَادِ جَائِزٌ فَكَذَا حَالَةُ الِاجْتِمَاعِ وَيَبْطُلُ نِكَاحُ
الْأَمَةِ لِأَنَّ نِكَاحَهَا على الْحُرَّةِ وَإِدْخَالَهَا عليها لَا يَجُوزُ
حَالَةَ الِانْفِرَادِ فَكَذَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ بِخِلَافِ ما إذَا تَزَوَّجَ
أُخْتَيْنِ في عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَاكَ هو الْجَمْعُ بين
الْأُخْتَيْنِ وَالْجَمْعُ حَصَلَ بِهِمَا فَبَطَلَ نِكَاحُهُمَا وههنا ( ( (
وهاهنا ) ) ) الْمُحَرَّمُ هو إدْخَالُ الْأَمَةِ على الْحُرَّةِ لَا الْجَمْعُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو كان نِكَاحُ الْأَمَةِ مُتَقَدِّمًا على نِكَاحِ
الْحُرَّةِ جَازَ نِكَاحُ الْحُرَّةِ وَإِنْ وُجِدَ الْجَمْعُ فَكَذَلِكَ إذَا
اقْتَرَنَ الْأَمْرَانِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَم
وَكَذَلِكَ إذَا جَمَعَ بين أَجْنَبِيَّةٍ وَذَاتِ مَحَارِمِهِ جَازَ نِكَاحُ
الْأَجْنَبِيَّةِ وَبَطَلَ نِكَاحُ الْمَحْرَمِ وَيُعْتَبَرُ حَالَةُ
الِاجْتِمَاعِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ وَهَلْ يَنْقَسِمُ الْمَهْرُ عَلَيْهِمَا
في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لَا يَنْقَسِمُ وَيَكُونُ كُلُّهُ لِلْأَجْنَبِيَّةِ
وَعِنْدَهُمَا يَنْقَسِمُ الْمُسَمَّى على قَدْرِ مَهْرِ مِثْلِهَا
فَصْلٌ وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
وَالْمُحْصَنَاتُ من النِّسَاءِ } مَعْطُوفًا على قَوْلِهِ عز وجل { حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } إلَى قَوْلِهِ { وَالْمُحْصَنَاتُ من النِّسَاءِ }
وَهُنَّ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ وَسَوَاءٌ كان زَوْجُهَا مُسْلِمًا أو كَافِرًا
إلَّا الْمَسْبِيَّةَ التي هِيَ ذَاتُ زَوْجٍ سُبِيَتْ وَحْدَهَا لِأَنَّ قَوْلَهُ
عز وجل { وَالْمُحْصَنَاتُ من النِّسَاءِ } عَامٌّ في جَمِيعِ ذَوَاتِ
الْأَزْوَاجِ ثُمَّ اسْتَثْنَى تَعَالَى منها الْمَمْلُوكَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى
{ إلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَالْمُرَادُ منها الْمَسْبِيَّاتُ اللَّاتِي
سُبِينَ وَهُنَّ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ لِيَكُونَ الْمُسْتَثْنَى من جِنْسِ
الْمُسْتَثْنَى منه فَيَقْتَضِي حُرْمَةَ نِكَاحِ كل ذَاتِ زَوْجٍ إلَّا التي
سُبِيَتْ كَذَا روى عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال في هذه
الْآيَةِ كُلُّ ذَاتِ زَوْجٍ إتْيَانُهَا زِنًا إلَّا ما سُبِيَتْ
وَالْمُرَادُ منه التي سُبِيَتْ وَحْدَهَا وَأُخْرِجَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ
لِأَنَّ الْفُرْقَةَ ثَبَتَتْ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ عِنْدَنَا لَا بِنَفْسِ
السَّبْيِ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَصَارَتْ هِيَ في حُكْمِ
الذِّمِّيَّةِ وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَ رَجُلَيْنِ على امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ يُفْسِدُ
الْفِرَاشَ لِأَنَّهُ يُوجِبُ اشْتِبَاهَ النَّسَبِ وَتَضْيِيعَ الْوَلَدِ
وَفَوَاتَ السَّكَنِ والإلفة وَالْمَوَدَّةِ فَيَفُوتُ ما وُضِعَ النِّكَاحُ له
فَصْلٌ وَمِنْهَا بأن لَا تَكُونَ مُعْتَدَّةَ الْغَيْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حتى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } أَيْ ما
كُتِبَ عليها من التَّرَبُّصِ وَلِأَنَّ بَعْضَ أَحْكَامِ النِّكَاحِ حَالَةَ
الْعَدَمِ قَائِمٌ فَكَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا من وَجْهٍ وَالثَّابِتُ
____________________
(2/268)
من
وَجْهٍ كَالثَّابِتِ من كل وَجْهٍ في بَابِ الْحُرُمَاتِ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ
التَّصْرِيحُ بِالْخِطْبَةِ في حَالِ قِيَامِ الْعِدَّةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ
خِطْبَتَهَا بِالنِّكَاحِ دُونَ حَقِيقَةِ النِّكَاحِ فما لم تَجُزْ الْخِطْبَةُ
فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ الْعَقْدُ أَوْلَى وَسَوَاءٌ كانت الْعِدَّةُ عن طَلَاقٍ أو
عن وَفَاةٍ أو دُخُولٍ في نِكَاحٍ فَاسِدٍ أو شُبْهَةِ نِكَاحٍ لِمَا ذَكَرْنَا من
الدَّلَائِلِ
وَيَجُوزُ لِصَاحِبِ الْعِدَّةِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إذَا لم يَكُنْ هُنَاكَ
مَانِعٌ آخَرُ غَيْرُ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقُّهُ قال اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ من عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا }
أَضَافَ الْعِدَّةَ إلَى الْأَزْوَاجِ فَدَلَّ أنها حَقُّ الزَّوْجِ وَحَقُّ
الْإِنْسَانِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَهُ من التَّصَرُّفِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ
أَثَرُهُ في حَقِّ الْغَيْرِ وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْمَسْبِيَّةِ بِغَيْرِ السَّابِي
إذَا سُبِيَتْ وَحْدَهَا دُونَ زَوْجِهَا وَأُخْرِجَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ
بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا وَلَا عِدَّةَ عليها
لِقَوْلِهِ عز وجل { وَالْمُحْصَنَاتُ من النِّسَاءِ إلَّا ما مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ } وَالْمُرَادُ منه الْمَسْبِيَّاتُ اللَّاتِي هُنَّ ذَوَاتُ
الْأَزْوَاجِ فَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمَسْبِيَّةَ لِلْمَوْلَى
السَّابِي إذْ الِاسْتِثْنَاءُ من التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ من حَيْثُ الظَّاهِرِ وقد
أَحَلَّهَا عز وجل مُطْلَقًا من غَيْرِ شَرْطِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَدَلَّ
أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عليها وَكَذَلِكَ الْمُهَاجِرَةُ وَهِيَ الْمَرْأَةُ خَرَجَتْ
إلَيْنَا من دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمَةً مُرَاغِمَةً لِزَوْجِهَا يَجُوزُ
نِكَاحُهَا وَلَا عِدَّةَ عليها في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ عليها الْعِدَّةُ وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِتَبَايُنِ الدَّارِ فَتَقَعُ بَعْدَ
دُخُولِهَا دَارَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ بَعْدَ الدُّخُولِ مُسْلِمَةٌ وفي دَارِ
الْإِسْلَامِ فَتَجِبُ عليها الْعِدَّةُ كَسَائِرِ الْمُسْلِمَاتِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا
جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } إلَى قَوْلِهِ عز وجل { وَلَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أَبَاحَ
تَعَالَى نِكَاحَ الْمُهَاجِرَةِ مُطْلَقًا من غَيْرِ ذِكْرِ الْعِدَّةِ وقَوْله
تَعَالَى { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } نهى اللَّهُ تَعَالَى
الْمُسْلِمِينَ عن الْإِمْسَاكِ وَالِامْتِنَاعِ عن نِكَاحِ الْمُهَاجِرَةِ
لِأَجْلِ عِصْمَةِ الزَّوْجِ الْكَافِرِ وَحُرْمَتِهِ فَالِامْتِنَاعُ عن
نِكَاحِهَا لِلْعِدَّةِ وَالْعِدَّةُ في حَقِّ الزَّوْجِ يَكُونُ إمْسَاكًا
وَتَمَسُّكًا بِعِصْمَةِ زَوْجِهَا الْكَافِرِ وَهَذَا مَنْهِيٌّ عنه وَلِأَنَّ
الْعِدَّةَ حَقٌّ من حُقُوقِ الزَّوْجِ
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى لِلْحَرْبِيِّ على الْمُسْلِمَةِ الْخَارِجَةِ إلَى
دَارِ الْإِسْلَامِ حَقٌّ وَالدَّلِيلُ عليه أَنْ لَا عِدَّةَ على الْمَسْبِيَّةِ
وَإِنْ كانت كَافِرَةً على الْحَقِيقَةِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ في حُكْمِ
الذِّمِّيَّةِ تَجْرِي عليها أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ وَمَعَ ذلك يَنْقَطِعُ عنها
حَقُّ الزَّوْجِ الْكَافِرِ فَالْمُهَاجِرَةُ الْمُسْلِمَةُ حَقِيقَةٌ لَأَنْ
يَنْقَطِعَ عنها حَقُّ الزَّوْجِ الْكَافِرِ أَوْلَى هذا إذَا هَاجَرَتْ إلَيْنَا
وَهِيَ حَائِلٌ فَأَمَّا إذَا كانت حَامِلًا فَفِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ عن
أبي حَنِيفَةَ وَسَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ بها حَمْلٌ ثَابِتُ النَّسَبِ من الْغَيْرِ
فَإِنْ كان لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا وَإِنْ لم تَكُنْ مُعْتَدَّةً كَمَنْ تَزَوَّجَ
أُمَّ وَلَدِ إنْسَانٍ وَهِيَ حَامِلٌ من مَوْلَاهَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ لم تَكُنْ
مُعْتَدَّةً لِوُجُودِ حَمْلٍ ثَابِتِ النَّسَبِ ( في المولى ) وَهَذَا لِأَنَّ
الْحَمْلَ إذَا كان ثَابِتَ النَّسَبِ من الْغَيْرِ وَمَاؤُهُ مُحَرَّمٌ لَزِمَ
حِفْظُ حُرْمَةِ مَائِهِ بِالْمَنْعِ من النِّكَاحِ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا
تَزَوَّجَ امْرَأَةً حَامِلًا من الزِّنَا أَنَّهُ يَجُوزُ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَكِنْ لَا يَطَؤُهَا حتى تَضَعَ وقال أبو يُوسُفَ لَا
يَجُوزُ وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ هذا الْحَمْلَ يَمْنَعُ الْوَطْءَ فَيَمْنَعُ
الْعَقْدَ أَيْضًا كَالْحَمْلِ الثَّابِتِ النَّسَبِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ
من النِّكَاحِ هو حِلُّ الْوَطْءِ فإذا لم يَحِلَّ له وَطْؤُهَا لم يَكُنْ
النِّكَاحُ مُفِيدًا فَلَا يَجُوزُ وَلِهَذَا لم يَجُزْ إذَا كان الْحَمْلُ
ثَابِتَ النَّسَبِ كَذَا هذا
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَنْعَ من نِكَاحِ الْحَامِلِ حَمْلًا ثَابِتَ النَّسَبِ
لِحُرْمَةِ مَاءِ الْوَطْءِ وَلَا حُرْمَةَ لِمَاءِ الزِّنَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ
لَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ
فإذا لم يَكُنْ له حُرْمَةٌ لَا يُمْنَعُ جَوَازُ النِّكَاحِ إلَّا أنها لَا
تُوطَأُ حتى تَضَعَ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
قال من كان يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِيَنَّ مَاءَهُ
زَرْعَ غَيْرِهِ
وَرُوِيَ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يَحِلُّ لِرَجُلَيْنِ
يُؤْمِنَا بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَجْتَمِعَا على امْرَأَةٍ في
طُهْرٍ وَاحِدٍ وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ بِعَارِضٍ طارىء ( ( ( طارئ ) ) ) على
الْمَحَلِّ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ لَا بَقَاءً وَلَا ابْتِدَاءً كَالْحَيْضِ
وَالنِّفَاسِ
وَأَمَّا الْمُهَاجِرَةُ إذَا كانت حَامِلًا فَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ
رَوَى مُحَمَّدٌ عنه أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا وهو إحْدَى رِوَايَتَيْ أبي
يُوسُفَ عنه وَعَنْ أبي يُوسُفَ
____________________
(2/269)
رِوَايَةٌ
أُخْرَى عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهَا وَلَكِنَّهَا لَا تُوطَأُ
حتى تَضَعَ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ مَاءَ الْحَرْبِيِّ لَا حُرْمَةَ له فَكَانَ
بِمَنْزِلَةِ مَاءِ الزَّانِي وَذَا لَا يُمْنَعُ جَوَازُ النِّكَاحِ كَذَا هذا
إلَّا أنها لَا تُوطَأُ حتى تَضَعَ لِمَا رَوَيْنَا
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ هذا حَمْلٌ ثَابِتُ النَّسَبِ لِأَنَّ
أَنْسَابَ أَهْلِ الْحَرْبِ ثَابِتَةٌ فَيُمْنَعُ جَوَازُ النِّكَاحِ كَسَائِرِ
الْأَحْمَالِ الثَّابِتَةِ النَّسَبِ وَالطَّحَاوِيُّ اعْتَمَدَ رِوَايَةَ أبي
يُوسُفَ وَالْكَرْخِيِّ رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ وَهِيَ الْمُعْتَمَدُ عليها لِأَنَّ
حُرْمَةَ نِكَاحِ الْحَامِلِ لَيْسَتْ لِمَكَانِ الْعِدَّةِ لَا مَحَالَةَ
فَإِنَّهَا قد تَثْبُتُ عِنْدَ عَدَمِ الْعِدَّةِ كَأُمِّ الْوَلَدِ إذَا كانت
حَامِلًا من مَوْلَاهَا بَلْ لِثُبُوتِ نَسَبِ الْحَمْلِ كما في أُمِّ الْوَلَدِ
وَالْحَمْلُ هَهُنَا ثَابِتُ النَّسَبِ فَيُمْنَعُ النِّكَاحُ
وَعَلَى هذا نِكَاحُ الْمَسْبِيَّةِ دُونَ الزَّوْجِ إذَا كانت حَامِلًا
وَأُخْرِجَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ على اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ
وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا قبل الْوَضْعِ وَلَا قبل
الِاسْتِبْرَاءِ بِحَيْضَةٍ إذَا كانت حَامِلًا وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال في سَبَايَا أَوْطَاسٍ أَلَا لَا
تُوطَأُ الْحَبَالَى حتى يَضَعْنَ وَلَا الحبالى ( ( ( الحيالى ) ) ) حتى يستبرأن
( ( ( يستبرئن ) ) ) بِحَيْضَةٍ
فَصْلٌ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجَيْنِ مِلَّةٌ يَقِرَّانِ عليها فَإِنْ لم
يَكُنْ بِأَنْ كان أَحَدُهُمَا مُرْتَدًّا لَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ أَصْلًا لَا
بِمُسْلِمٍ وَلَا بِكَافِرٍ غَيْرِ مُرْتَدٍّ وَالْمُرْتَدُّ مِثْلُهُ لِأَنَّهُ
تَرَكَ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ وَلَا يَقِرُّ على الرِّدَّةِ بَلْ يُجْبَرُ على
الْإِسْلَامِ إمَّا بِالْقَتْلِ إنْ كان رَجُلًا بِالْإِجْمَاعِ وَإِمَّا
بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ إنْ كانت امْرَأَةً عِنْدَنَا إلَى أَنْ تَمُوتَ أو
تُسْلِمَ فَكَانَتْ الرِّدَّةُ في مَعْنَى الْمَوْتِ لِكَوْنِهَا سَبَبًا
مُفْضِيًا إلَيْهِ وَالْمَيِّتُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلنِّكَاحِ وَلِأَنَّ
مِلْكَ النِّكَاحِ مِلْكٌ مَعْصُومٌ وَلَا عِصْمَةَ مع الْمُرْتَدَّةِ وَلِأَنَّ نِكَاحَ
الْمُرْتَدِّ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ منه
لِأَنَّهُ يُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ على ما بَيَّنَّا فَلَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ
فَلَا يَجُوزُ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الرِّدَّةَ لو اعْتَرَضَتْ على النِّكَاحِ
رَفَعَتْهُ فإذا قَارَنَتْهُ تَمْنَعُهُ من الْوُجُودِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى
كَالرَّضَاعِ لِأَنَّ الْمَنْعَ أَسْهَلُ من الرَّفْعِ
فَصْلٌ وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُشْرِكَةً إذَا كان الرَّجُلُ
مُسْلِمًا فَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَنْكِحَ الْمُشْرِكَةَ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حتى يُؤْمِنَّ } وَيَجُوزُ أَنْ
يَنْكِحَ الْكِتَابِيَّةَ لِقَوْلِهِ عز وجل { وَالْمُحْصَنَاتُ من الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ من قَبْلِكُمْ } وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَجُوزَ
لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَنْكِحَ الْكَافِرَةَ لِأَنَّ ازْدِوَاجَ الْكَافِرَةِ
وَالْمُخَالَطَةِ مَعَهَا مع قِيَامِ الْعَدَاوَةِ الدِّينِيَّةِ لَا يَحْصُلُ
السَّكَنُ وَالْمَوَدَّةُ الذي هو قِوَامُ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ إلَّا أَنَّهُ
جَوَّزَ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّةِ لِرَجَاءِ إسْلَامِهَا لِأَنَّهَا آمَنَتْ
بِكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ في الْجُمْلَةِ وَإِنَّمَا نُقِضَتْ
الْجُمْلَةُ بِالتَّفْصِيلِ بِنَاءً على أنها أُخْبِرَتْ عن الْأَمْرِ على خِلَافِ
حَقِيقَتِهِ فَالظَّاهِرُ أنها مَتَى نُبِّهَتْ على حَقِيقَةِ الْأَمْرِ
تَنَبَّهَتْ وَتَأْتِي بِالْإِيمَانِ على التَّفْصِيلِ على حَسَبِ ما كانت أَتَتْ
بِهِ على الْجُمْلَةِ
هذا هو الظَّاهِرُ من حَالِ التي بنى أَمْرُهَا على الدَّلِيلِ دُونَ الْهَوَى
وَالطَّبْعِ وَالزَّوْجُ يَدْعُوهَا إلَى الْإِسْلَامِ وَيُنَبِّهُهَا على
حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فَكَانَ في نِكَاحِ الْمُسْلِمِ إيَّاهَا رَجَاءُ إسْلَامِهَا
فَجَوَّزَ نِكَاحَهَا لِهَذِهِ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ بِخِلَافِ الْمُشْرِكَةِ
فَإِنَّهَا في اخْتِيَارِهَا الشِّرْكَ ما ثَبَتَ أَمْرُهَا على الْحُجَّةِ بَلْ
على التَّقْلِيدِ بِوُجُودِ الآباء عن ذلك من غَيْرِ أَنْ يَنْتَهِيَ ذلك
الْخَبَرُ مِمَّنْ يَجِبُ قَبُولُ قَوْلِهِ وَاتِّبَاعُهُ وهو الرَّسُولُ
فَالظَّاهِرُ أنها لَا تَنْظُرُ في الْحُجَّةِ وَلَا تَلْتَفِتُ إلَيْهَا عِنْدَ
الدَّعْوَةِ فَيَبْقَى ازْدِوَاجِ الْكَافِرِ مع قِيَامِ الْعَدَاوَةِ الدِّينِيَّةِ
الْمَانِعَةِ عن السَّكَنِ وَالِازْدِوَاجِ وَالْمَوَدَّةِ خَالِيًا عن
الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ فلم يَجُزْ إنْكَاحُهَا وَسَوَاءٌ كانت الْكِتَابِيَّةُ
حُرَّةً أو أَمَةً عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ وَيَحِلُّ
وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ
واحتجوا ( ( ( واحتج ) ) ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ
حتى يُؤْمِنَّ } وَالْكِتَابِيَّةُ مُشْرِكَةٌ على الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ
الْمُشْرِكَ من يُشْرِكُ بِاَللَّهِ تَعَالَى في الْأُلُوهِيَّةِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ
كَذَلِكَ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابن اللَّهِ
وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابن اللَّهِ } قالت ( ( ( وقالت ) ) )
النَّصَارَى { إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ } { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يَقُولُونَ } فَعُمُومُ النَّصِّ يَقْتَضِي حُرْمَةَ نِكَاحِ جَمِيعِ
الْمُشْرِكَاتِ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ منه الْحَرَائِرَ من الْكِتَابِيَّاتِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْمُحْصَنَاتُ من الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ من
قَبْلِكُمْ } وَهُنَّ الْحَرَائِرُ فَبَقِيَتْ الْإِمَاءُ مِنْهُنَّ على ظَاهِرِ
الْعُمُومِ وَلِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْإِمَاءِ في الْأَصْلِ ثَبَتَ بِطَرِيقِ
الضَّرُورَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ
بِنِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ
وَلَنَا عُمُومَاتُ النِّكَاحِ نَحْوُ قَوْلِهِ عز وجل { وَأُحِلَّ لَكُمْ ما
وَرَاءَ ذَلِكُمْ } وَقَوْلِهِ
____________________
(2/270)
عز
وجل { فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } وَقَوْلِهِ عز وجل { فَانْكِحُوا ما
طَابَ لَكُمْ من النِّسَاءِ } وَغَيْرِ ذلك من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْأَمَةِ
الْمُؤْمِنَةِ وَالْأَمَةِ الْكَافِرَةِ الْكِتَابِيَّةِ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ في غَيْرِ الْكِتَابِيَّاتِ من الْمُشْرِكَاتِ لِأَنَّ
أَهْلَ الْكِتَابِ وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ على الْحَقِيقَةِ لَكِنْ هذا
الِاسْمُ في مُتَعَارَفِ الناس يُطْلَقُ على الْمُشْرِكِينَ من غَيْرِ أَهْلِ
الْكِتَابِ
قال اللَّهُ تَعَالَى { ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا من أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا
الْمُشْرِكِينَ }
وقال تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ
في نَارِ جَهَنَّمَ } فَصَلَ بين الْفَرِيقَيْنِ في الِاسْمِ على أَنَّ
الْكِتَابِيَّاتِ وَإِنْ دَخَلْنَ تَحْتَ عُمُومِ اسْمِ الْمُشْرِكَاتِ بِحُكْمِ
ظَاهِرِ اللَّفْظِ لَكِنَّهُنَّ خُصِّصْنَ عن الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {
وَالْمُحْصَنَاتُ من الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ من قَبْلِكُمْ }
وَأَمَّا الْكِتَابِيَّاتُ إذَا كُنَّ عَفَائِفَ يستحقن ( ( ( يستحققن ) ) ) هذا
الِاسْمَ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ في كَلَامِ الْعَرَبِ عِبَارَةٌ عن الْمَنْعِ
وَمَعْنَى الْمَنْعِ يَحْصُلُ بِالْعِفَّةِ وَالصَّلَاحِ كما يَحْصُلُ
بِالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَالنِّكَاحِ لِأَنَّ ذلك مَانِعُ الْمَرْأَةِ عن
ارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ فَيَتَنَاوَلُهُنَّ عُمُومُ اسْمِ الْمُحْصَنَاتِ
وَقَوْلُهُ الْأَصْلُ في نِكَاحِ الْإِمَاءِ الْفَسَادُ مَمْنُوعٌ بَلْ الْأَصْلُ
في النِّكَاحِ هو الْجَوَازُ حُرَّةً كانت الْمَنْكُوحَةُ أو أَمَةً مُسْلِمَةً أو
كِتَابِيَّةً لِمَا مَرَّ أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مَصْلَحَةٍ وَالْأَصْلُ في
الْمَصَالِحِ إطْلَاقُ الِاسْتِيفَاءِ وَالْمَنْعُ عنه لِمَعْنًى في غَيْرِهِ على
ما عُرِفَ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُ الْمَجُوسِيَّةِ لِأَنَّ الْمَجُوسَ
لَيْسُوا من أَهْلِ الْكِتَابِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ }
إلَى قَوْلِهِ { أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ على طَائِفَتَيْنِ من
قَبْلِنَا } مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكُمْ لِئَلَّا تَقُولُوا
إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ على طَائِفَتَيْنِ من قَبْلِنَا
وَلَوْ كان الْمَجُوسُ من أَهْلِ الْكِتَابِ لَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ ثَلَاثَ
طَوَائِفَ فَيُؤَدِّي إلَى الْخُلْفِ في خَبَرِهِ عز وجل وَذَلِكَ مُحَالٌ على
أَنَّ هذا لو كان حِكَايَةً عن قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ لَكَانَ دَلِيلًا على ما
قُلْنَا لِأَنَّهُ حَكَى عَنْهُمْ الْقَوْلَ ولم يَعْقُبْهُ بِالْإِنْكَارِ عليهم
وَالتَّكْذِيبِ إيَّاهُمْ وَالْحَكِيمُ إذَا حَكَى عن مُنْكَرٍ غَيَّرَهُ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غير أَنَّكُمْ لَيْسُوا نَاكِحِي
نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ
وَدَلَّ قَوْلُهُ سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ على أَنَّهُمْ
لَيْسُوا من أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ
أَيْضًا
وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَحِلَّ وَطْءُ كَافِرَةٍ بِنِكَاحٍ وَلَا بِمِلْكِ يَمِينٍ
إلَّا الكتابيات ( ( ( الكتابية ) ) ) خَاصَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا
تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حتى يُؤْمِنَّ }
وَاسْمُ النِّكَاحِ يَقَعُ على الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ جميعا فَيُحَرَّمَانِ جميعا
وَمَنْ كان أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا كان حُكْمُهُ
حُكْمَ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ لو كان أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا يُعْطَى
له حُكْمُ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى فَكَذَا إذَا
كان كِتَابِيًّا يُعْطَى له حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلِأَنَّ الْكِتَابِيَّ له
بَعْضُ أَحْكَامِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وهو الْمُنَاكَحَةُ وَجَوَازُ الذَّبِيحَةِ
وَالْإِسْلَامُ يَعْلُو بِنَفْسِهِ وَبِأَحْكَامِهِ وَلِأَنَّ رَجَاءَهُ
الْإِسْلَامَ من الْكِتَابِيِّ أَكْثَرُ فَكَانَ أَوْلَى بِالِاسْتِتْبَاعِ
وَأَمَّا الصَّابِئَاتُ فَقَدْ قال أبو حَنِيفَةَ أنه يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ
نِكَاحُهُنَّ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَجُوزُ
وَقِيلَ ليس هذا بِاخْتِلَافٍ في الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ
لِاشْتِبَاهِ مَذْهَبِهِمْ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ هُمْ قَوْمٌ يُؤْمِنُونَ
بِكِتَابٍ فَإِنَّهُمْ يقرؤون ( ( ( يقرءون ) ) ) الزَّبُورَ وَلَا يَعْبُدُونَ
الْكَوَاكِبَ وَلَكِنْ يُعَظِّمُونَهَا كَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ الْكَعْبَةَ في
الِاسْتِقْبَالِ إلَيْهَا إلَّا أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ غَيْرَهُمْ من أَهْلِ
الْكِتَابِ في بَعْضِ دِيَانَاتِهِمْ وَذَا لَا يَمْنَعُ الْمُنَاكَحَةَ
كَالْيَهُودِ مع النَّصَارَى
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ
وَعَابِدُ الْكَوَاكِبِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ فَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ
مُنَاكَحَاتُهُمْ
فَصْلٌ وَمِنْهَا إسْلَامُ الرَّجُلِ إذَا كانت الْمَرْأَةُ مُسْلِمَةً فَلَا
يَجُوزُ إنْكَاحُ الْمُؤْمِنَةِ الْكَافِرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا
تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حتى يُؤْمِنُوا } وَلِأَنَّ في إنْكَاحِ الْمُؤْمِنَةِ
الْكَافِرَ خَوْفَ وُقُوعِ الْمُؤْمِنَةِ في الْكُفْرِ لِأَنَّ الزَّوْجَ
يَدْعُوهَا إلَى دِينِهِ وَالنِّسَاءُ في الْعَادَاتِ يَتْبَعْنَ الرِّجَالَ
فِيمَا يؤثروا ( ( ( يؤثرون ) ) ) من الْأَفْعَالِ وَيُقَلِّدُونَهُمْ في الدِّينِ
إلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ في آخِرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ عز وجل { أُولَئِكَ
يَدْعُونَ إلَى النَّارِ } لِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ الْمُؤْمِنَاتِ إلَى الْكُفْرِ
وَالدُّعَاءُ إلَى الْكُفْرِ دُعَاءٌ إلَى النَّارِ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُوجِبُ النَّارَ
فَكَانَ نِكَاحُ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ سَبَبًا دَاعِيًا إلَى الْحَرَامِ
فَكَانَ حَرَامًا وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ في الْمُشْرِكِينَ لَكِنَّ الْعِلَّةَ
وَهِيَ الدُّعَاءُ إلَى النَّارِ يَعُمُّ الْكَفَرَةَ أَجْمَعَ فَيَتَعَمَّمُ
الْحُكْمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ فَلَا يَجُوزُ إنْكَاحُ الْمُسْلِمَةِ
الْكِتَابِيَّ كما لَا يَجُوزُ إنْكَاحُهَا الْوَثَنِيَّ وَالْمَجُوسِيَّ لِأَنَّ
الشَّرْعَ قَطَعَ وَلَايَةَ الْكَافِرِينَ عن الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى
{ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ على الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } فَلَوْ
جَازَ
____________________
(2/271)
إنْكَاحُ
الْكَافِرِ الْمُؤْمِنَةَ لَثَبَتَ له عليها سَبِيلٌ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَأَمَّا أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ غَيْرِ الْمُرْتَدِّينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
فَجَائِزٌ في الْجُمْلَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ
أَنْكِحَتُهُمْ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ لِلنِّكَاحِ في الْإِسْلَامِ شَرَائِطَ لَا
يُرَاعُونَهَا فَلَا يُحْكَمُ بِصِحَّةِ أَنْكِحَتِهِمْ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ
لِقَوْلِهِ عز وجل { وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى
امْرَأَتَهُ وَلَوْ كانت أَنْكِحَتُهُمْ فَاسِدَةً لم تَكُنْ امْرَأَتَهُ
حَقِيقَةً وَلِأَنَّ النِّكَاحَ سُنَّةُ آدَمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
فَهُمْ على شَرِيعَتِهِ في ذلك
وقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وُلِدْت من نِكَاحٍ ولم أُولَدْ من سِفَاحٍ
وَإِنْ كان أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِفَسَادِ أَنْكِحَتِهِمْ
يُؤَدِّي إلَى أَمْرٍ قَبِيحٍ وهو الطَّعْنُ في نَسَبِ كَثِيرٍ من الْأَنْبِيَاءِ
عليهم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّ كَثِيرًا منهم وُلِدُوا من أَبَوَيْنِ
كَافِرَيْنِ وَالْمَذَاهِبُ تُمْتَحَنُ بِعُبَّادِهَا فلما أَفْضَى إلَى قَبِيحٍ
عُرِفَ فَسَادُهَا وَيَجُوزُ نِكَاحُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ
وَإِنْ اخْتَلَفَتْ شَرَائِعُهُمْ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ ملة ( ( ( كملة ) ) )
وَاحِدَةٍ إذْ هو تَكْذِيبُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ
عُلُوًّا كَبِيرًا فِيمَا أَنْزَلَ على رُسُلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ
عليهم وقال اللَّهُ عز وجل { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } وَاخْتِلَافُهُمْ في
شَرَائِعِهِمْ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ كل فَرِيقٍ منهم فِيمَا بَيْنَهُمْ في
بَعْضِ شَرَائِعِهِمْ وَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ نِكَاحِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ
كَذَا هذا
فَصْلٌ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِلْكَ صَاحِبِهِ وَلَا
يَنْتَقِصَ منه مِلْكَهُ فَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِجَارِيَتِهِ
وَلَا بِجَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ
وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ عَبْدَهَا وَلَا الْعَبْدِ
الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ
هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا على أَزْوَاجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ } الْآيَةَ ثُمَّ أَبَاحَ اللَّهُ عز وجل الْوَطْءَ إلا بِأَحَدِ
أَمْرَيْنِ لِأَنَّ كلمة ( ( ( الكلمة ) ) ) تَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ
فَلَا تَجُوزُ الِاسْتِبَاحَةُ بِهِمَا جميعا وَلِأَنَّ لِلنِّكَاحِ حُقُوقًا
تَثْبُتُ على الشَّرِكَةِ بين الزَّوْجَيْنِ منها مُطَالَبَةُ الْمَرْأَةِ
الزَّوْجَ بِالْوَطْءِ وَمُطَالَبَةُ الزَّوْجِ الزَّوْجَةَ بِالتَّمْكِينِ
وَقِيَامُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ يَمْنَعُ من الشَّرِكَةِ وإذا لم تَثْبُتْ
الشَّرِكَةُ في ثَمَرَاتِ النِّكَاحِ لَا يُفِيدُ النِّكَاحُ فَلَا يَجُوزُ
وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ الثَّابِتَةَ بِالنِّكَاحِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ على
الْمَوْلَى لِأَمَتِهِ وَلَا على الْحُرَّةِ لِعَبْدِهَا لِأَنَّ مِلْكَ
الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْوَلَايَةُ لِلْمَالِكِ وَكَوْنُ الْمَمْلُوكِ
يُوَلَّى عليه وَمِلْكُ النِّكَاحِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْوَلَايَةِ للمملوك ( ( (
للملوك ) ) ) على الْمَالِكِ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ
في زَمَانٍ وَاحِدٍ وَالِيًا وَمُولَيًا عليه في شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهَذَا مُحَالٌ
وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجُوزُ من غَيْرِ مَهْرٍ عِنْدَنَا وَلَا يَجِبُ
لِلْمَوْلَى على عَبْدِهِ دَيْنٌ وَلَا لِلْعَبْدِ على مَوْلَاهُ
وَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُدَبَّرَتَهُ وَمُكَاتَبَتَهُ لِأَنَّ
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَلَكَهُ فَكَذَا إذَا اعْتَرَضَ مِلْكُ الْيَمِينِ على
نِكَاحٍ يَبْطُلُ النِّكَاحُ بِأَنْ مَلَكَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ أو
شِقْصًا منه لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في مَوْضِعِهِ
فَصْلٌ وَمِنْهَا التَّأْبِيدُ فَلَا يَجُوزُ النِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ وهو نِكَاحُ
الْمُتْعَةِ وَأَنَّهُ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ التَّمَتُّعِ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وما يَقُومُ
مَقَامَهُمَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ أُعْطِيكِ كَذَا على أَنْ أَتَمَتَّعَ
مِنْكِ يَوْمًا أو شَهْرًا أو سَنَةً وَنَحْوَ ذلك وَأَنَّهُ بَاطِلٌ عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال بَعْضُ الناس هو جَائِزٌ وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { فما
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً }
وَالِاسْتِدْلَالُ بها من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ ذَكَرَ
الِاسْتِمْتَاعَ ولم يذكر النِّكَاحَ وَالِاسْتِمْتَاعُ وَالتَّمَتُّعُ وَاحِدٌ
وَالثَّانِي أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ وَحَقِيقَةُ
الْإِجَارَةِ وَالْمُتْعَةِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ على مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بَعْدَ
الِاسْتِمْتَاعِ وَذَلِكَ يَكُونُ في عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَالْمُتْعَةِ فَأَمَّا
الْمَهْرُ فَإِنَّمَا يَجِبُ في النِّكَاحِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَيُؤْخَذُ
الزَّوْجُ بِالْمَهْرِ أَوَّلًا ثُمَّ يُمَكَّنُ من الِاسْتِمْتَاعِ فَدَلَّتْ
الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ على جَوَازِ عَقْدِ الْمُتْعَةِ
وَلَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ
الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ عز وجل { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا
على أَزْوَاجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } حَرَّمَ تَعَالَى الْجِمَاعَ
إلَّا بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ وَالْمُتْعَةُ لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ وَلَا بِمِلْكِ
يَمِينٍ فَيَبْقَى التَّحْرِيمُ
وَالدَّلِيلُ على أنها لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ إنها تَرْتَفِعُ من غَيْرِ طَلَاقٍ
وَلَا فُرْقَةٍ وَلَا يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا فَدَلَّ أنها لَيْسَتْ
بِنِكَاحٍ فلم تَكُنْ هِيَ زَوْجَةً له وقَوْله تَعَالَى في آخِرِ الْآيَةِ {
فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلك فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ } سُمِّيَ
____________________
(2/272)
مبتغى
ما وَرَاءَ ذلك عَادِيًا فَدَلَّ على حُرْمَةِ الْوَطْءِ بِدُونِ هَذَيْنِ
الشَّيْئَيْنِ وَقَوْلُهُ عز وجل { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ على الْبِغَاءِ
} وكان ذلك منهم إجارة ( ( ( إجازة ) ) ) الْإِمَاءِ نهى اللَّهُ عز وجل عن ذلك
وَسَمَّاهُ بِغَاءً فَدَلَّ على الْحُرْمَةِ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن مُتْعَةِ النِّسَاءِ يوم خَيْبَرَ وَعَنْ أَكْلِ
لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ
وَعَنْ سبرة ( ( ( سمرة ) ) ) الْجُهَنِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن مُتْعَةِ النِّسَاءِ يوم فَتْحِ مَكَّةَ
وَعَنْ عبد اللَّهِ بن عُمَرَ أَنَّهُ قال نهى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
يوم خَيْبَرَ عن مُتْعَةِ النِّسَاءِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان قَائِمًا بين الرُّكْنِ
وَالْمَقَامِ وهو يقول إنِّي كنت أَذِنْتُ لَكُمْ في الْمُتْعَةِ فَمَنْ كان
عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيُفَارِقْهُ وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شيئا
فإن اللَّهَ قد حَرَّمَهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فإن الْأُمَّةَ بِأَسْرِهِمْ امْتَنَعُوا عن الْعَمَلِ
بِالْمُتْعَةِ مع ظُهُورِ الْحَاجَةِ لهم إلَى ذلك
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ ما شُرِعَ لِاقْتِضَاءِ
الشَّهْوَةِ بَلْ لِأَغْرَاضٍ وَمَقَاصِدَ يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَيْهَا وَاقْتِضَاءُ
الشَّهْوَةِ بِالْمُتْعَةِ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْمَقَاصِدِ فَلَا يُشْرَعُ
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَمَعْنَى قَوْلِهِ { فما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ
مِنْهُنَّ } أَيْ في النِّكَاحِ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ في أَوَّلِ الْآيَةِ
وَآخِرِهَا هو النِّكَاحُ فإن اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ أَجْنَاسًا من
الْمُحَرَّمَاتِ في أَوَّلِ الْآيَةِ في النِّكَاحِ وَأَبَاحَ ما وَرَاءَهَا
بِالنِّكَاحِ بِقَوْلِهِ عز وجل { وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ
تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } أَيْ بِالنِّكَاحِ
وقَوْله تَعَالَى { مُحْصِنِينَ غير مُسَافِحِينَ } أَيْ غير مُتَنَاكِحِينَ غير
زَانِينَ وقال تَعَالَى في سِيَاقِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ { وَمَنْ لم يَسْتَطِعْ
مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ } ذَكَرَ النِّكَاحَ لَا
الْإِجَارَةَ وَالْمُتْعَةَ فَيُصْرَفُ قَوْله تَعَالَى فما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ
إلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّكَاحِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ سَمَّى الْوَاجِبَ أَجْرًا فَنَعَمْ الْمَهْرُ في النِّكَاحِ
يُسَمَّى أَجْرًا قال اللَّهُ عز وجل { فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ
وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أَيْ مُهُورَهُنَّ وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { يا
أَيُّهَا النبي إنَّا أَحْلَلْنَا لك أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ
} وَقَوْلُهُ أَمَرَ تَعَالَى بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بَعْدَ الِاسْتِمْتَاعِ
بِهِنَّ وَالْمَهْرُ يَجِبُ بِنَفْسِ النِّكَاحِ وَيُؤْخَذُ قبل الِاسْتِمْتَاعِ
قُلْنَا قد قِيلَ في الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ كَأَنَّهُ
تَعَالَى قال { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فريضة } أَيْ إذَا أَرَدْتُمْ
الِاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { يا أَيُّهَا النبي إذَا
طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أَيْ إذَا أَرَدْتُمْ
تَطْلِيقَ النِّسَاءِ على أَنَّهُ إنْ كان الْمُرَادُ من الْآيَةِ الْإِجَارَةَ
وَالْمُتْعَةَ فَقَدْ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِمَا تَلَوْنَا من الْآيَاتِ
وَرَوَيْنَا من الْأَحَادِيثِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ
قَوْلَهُ { فما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } نَسَخَهُ قَوْلُهُ عز وجل { يا
أَيُّهَا النبي إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ }
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال الْمُتْعَةُ بِالنِّسَاءِ
مَنْسُوخَةٌ نَسَخَتْهَا آيَةُ الطَّلَاقِ وَالصَّدَاقُ وَالْعِدَّةُ
وَالْمَوَارِيثُ وَالْحُقُوقُ التي يَجِبُ فيها النِّكَاحُ أَيْ النِّكَاحُ هو
الذي تَثْبُتُ بِهِ هذه الْأَشْيَاءُ وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ منها بِالْمُتْعَةِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَتَزَوَّجُكِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَنَحْوَ
ذلك وَأَنَّهُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ النِّكَاحُ
جَائِزٌ وهو مُؤَبَّدٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ
وروي الْحَسَنُ بن زِيَادٍ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال إذَا ذَكَرَا من
الْمُدَّةِ ما يَعِيشَانِ إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ وَإِنْ
ذَكَرَا من الْمُدَّةِ مِقْدَارَ ما لَا يَعِيشَانِ إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ في
الْغَالِبِ يَجُوزُ النِّكَاحُ كَأَنَّهُمَا ذَكَرَا الْأَبَدَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ ذَكَرَ النِّكَاحَ وَشَرَطَ فيه شَرْطًا فَاسِدًا
وَالنِّكَاحُ لَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فَبَطَلَ الشَّرْطُ وَبَقِيَ
النِّكَاحُ صَحِيحًا كما إذَا قال تَزَوَّجْتُك إلَى أَنْ أُطَلِّقَك إلَى
عَشَرَةِ أَيَّامٍ
وَلَنَا أَنَّهُ لو جَازَ هذا الْعَقْدُ لَكَانَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَجُوزَ
مُؤَقَّتًا بِالْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِمَّا أَنْ يَجُوزَ مُؤَبَّدًا لَا
سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ هذا مَعْنَى الْمُتْعَةِ إلَّا أَنَّهُ عَبَّرَ
عنها بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزَوُّجِ وَالْمُعْتَبَرُ في الْعُقُودِ
مَعَانِيهَا لَا الْأَلْفَاظُ كَالْكَفَالَةِ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ أنها
حَوَالَةٌ مَعْنًى لِوُجُودِ الْحَوَالَةِ وأن لم يُوجَدْ لَفْظُهَا وَالْمُتْعَةُ
مَنْسُوخَةٌ وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي لِأَنَّ فيه اسْتِحْقَاقَ الْبُضْعِ عليها من
غَيْرِ رِضَاهَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أتى بِالنِّكَاحِ ثُمَّ أَدْخَلَ عليه شَرْطًا فَاسِدًا
____________________
(2/273)
فَمَمْنُوعٌ
بَلْ أتى بِنِكَاحٍ مُؤَقَّتٍ وَالنِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ نِكَاحُ مُتْعَةٍ
وَالْمُتْعَةُ مَنْسُوخَةٌ وَصَارَ هذا كَالنِّكَاحِ الْمُضَافِ أَنَّهُ لَا
يَصِحُّ وَلَا يُقَالُ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَتَبْطُلُ الْإِضَافَةُ لِأَنَّ
الْمَأْتِيَّ بِهِ نِكَاحٌ مُضَافٌ وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ كَذَا هذا بِخِلَافِ ما
إذَا قال تَزَوَّجْتُك على أنه أُطَلِّقَك إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّ هنك ( (
( هناك ) ) ) أَبَّدَ النِّكَاحَ ثُمَّ شَرَطَ قَطْعَ التَّأْبِيدِ بِذِكْرِ
الطَّلَاقِ في النِّكَاحِ الْمُؤَبَّدِ لِأَنَّهُ على أَنَّ ( أَنْ ) كَلِمَةُ
شَرْطٍ وَالنِّكَاحُ الْمُؤَبَّدُ لَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ وَاَللَّهُ عز وجل
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَمِنْهَا الْمَهْرُ فَلَا جَوَازَ لِلنِّكَاحِ بِدُونِ الْمَهْرِ
عِنْدَنَا وَالْكَلَامُ في هذا الشَّرْطِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنَّ الْمَهْرَ
هل هو شَرْطُ جَوَازِ النِّكَاحِ أَمْ لَا وفي بَيَانِ أَدْنَى الْمِقْدَارِ الذي
يَصْلُحُ مَهْرًا وفي بَيَانِ ما يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا وما لَا يَصِحُّ
وَبَيَانِ حُكْمِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ وَفَسَادِهَا وفي بَيَانِ ما يَجِبُ بِهِ
الْمَهْرُ وَبَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِهِ وَكَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ وما يَتَعَلَّقُ
بِذَلِكَ من الْأَحْكَامِ وفي بَيَانِ ما يَتَأَكَّدُ بِهِ كُلُّ الْمَهْرِ وفي
بَيَانِ ما يَسْقُطُ بِهِ الْكُلُّ وفي بَيَانِ ما يَسْقُطُ بِهِ النِّصْفُ وفي
بَيَانِ حُكْمِ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ في الْمَهْرِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال أَصْحَابُنَا إنَّ الْمَهْرَ شَرْطُ
جَوَازِ نِكَاحِ الْمُسْلِمِ وقال الشَّافِعِيُّ ليس بِشَرْطٍ وَيَجُوزُ
النِّكَاحُ بِدُونِ الْمَهْرِ حتى أن من تَزَوَّجَ امْرَأَةً ولم يُسَمِّ لها
مَهْرًا بِأَنْ سَكَتَ عن ذِكْرِ الْمَهْرِ أو تَزَوَّجَهَا على أَنْ لَا مَهْرَ
لها وَرَضِيَتْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ
عِنْدَنَا حتى يَثْبُتَ لها وَلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّسْلِيمِ وَلَوْ
مَاتَتْ الْمَرْأَةُ قبل الدُّخُولِ يُؤْخَذُ مَهْرُ الْمِثْلِ من الزَّوْجِ
وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ قبل الدُّخُولِ تَسْتَحِقُّ مَهْرَ الْمِثْلِ من
تَرِكَتِهِ وَعِنْدَهُ لَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا
يَجِبُ بِالْفَرْضِ على الزَّوْجِ أو بِالدُّخُولِ حتى لو دخل بها قبل الْفَرْضِ
يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَلَوْ طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها وَقَبْلَ الْفَرْضِ
لَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنَّمَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ
وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجَانِ لَا يقضي بِشَيْءٍ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وفي قَوْلِ
أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يقضي لِوَرَثَتِهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا ويستوفي من
تَرِكَةِ الزَّوْجِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ من غَيْرِ ذِكْرِ
الْمَهْرِ وَمَعَ نَفْيِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ
طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ ما لم تَمَسُّوهُنَّ أو تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً }
رَفَعَ سُبْحَانَهُ الْجُنَاحَ عَمَّنْ طَلَّقَ في نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فيه
وَالطَّلَاقُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ النِّكَاحِ فَدَلَّ على جَوَازِ النِّكَاحِ
بِلَا تَسْمِيَةٍ وقَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا
نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ من قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ
} وَالْمُرَادُ منه الطَّلَاقُ في نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فيه بِدَلِيلِ أَنَّهُ
أَوْجَبَ الْمُتْعَةَ بِقَوْلِهِ { فَمَتِّعُوهُنَّ } وَالْمُتْعَةُ إنَّمَا
تَجِبُ في نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فيه فَدَلَّ على جَوَازِ النِّكَاحِ من غَيْرِ
تَسْمِيَةٍ وَلِأَنَّهُ مَتَى قام الدَّلِيلُ على أَنَّهُ لَا جَوَازَ لِلنِّكَاحِ
بِدُونِ الْمَهْرِ كان ذِكْرُهُ ذِكْرًا لِلْمَهْرِ ضَرُورَةً
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ
نِحْلَةً } سَمَّى الصَّدَاقَ نِحْلَةً وَالنِّحْلَةُ هِيَ الْعَطِيَّةُ
وَالْعَطِيَّةُ هِيَ الصِّلَةُ فَدَلَّ أَنَّ الْمَهْرَ صِلَةٌ زَائِدَةٌ في بَابِ
النِّكَاحِ فَلَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ
ازْدِوَاجٍ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا ينبى إلَّا عنه فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ
الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا وَحِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
بِصَاحِبِهِ تَحْقِيقًا لِمَقَاصِدِ النِّكَاحِ إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ عليها نَوْعُ
مالك ( ( ( ملك ) ) ) في مَنَافِعِ الْبُضْعِ ضَرُورَةً تُحَقِّقُ الْمَقَاصِدَ
وَلَا ضَرُورَةَ في إثْبَاتِ مِلْكِ الْمَهْرِ لها عليه فَكَانَ الْمَهْرُ
عُهْدَةً زَائِدَةً في حَقِّ الزَّوْجِ صِلَةً لها فَلَا يَصِيرُ عِوَضًا إلَّا
بِالتَّسْمِيَةِ
وَالدَّلِيلُ على جَوَازِ النِّكَاحِ من غَيْرِ مَهْرٍ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا
زَوَّجَ أَمَتَهُ من عَبْدِهِ يَصِحُّ النِّكَاحُ و¡