Translate

الخميس، 1 يونيو 2023

ج16وج17وج18.بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع علاء الدين الكاساني

ج16. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587

العقل ( ( ( العقد ) ) ) بِلَا فَصْلٍ وَأَمَّا على التَّضْيِيقِ فَإِنْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِعَيْنٍ وَجَبَ تَسْلِيمُهُمَا مَعًا إذَا طَالَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِالتَّسْلِيمِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسَاوَاةَ في عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ مَطْلُوبَةُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَادَةً وَتَحْقِيقُ التَّسَاوِي هَهُنَا في التَّسْلِيمِ مَعًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ ليس أَحَدُهُمَا بِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى من الْآخَرِ وَكَذَلِكَ إنْ تَبَايَعَا دَيْنًا بِدَيْنٍ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ يراعي فيه التَّرْتِيبُ عِنْدَنَا فَيَجِبُ على الْمُشْتَرِي تَسْلِيمُ الثَّمَنِ أَوَّلًا إذَا طَالَبَهُ البايع ثُمَّ يَجِبُ على البايع تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إذَا طَالَبَهُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ تَحْقِيقَ التَّسَاوِي فيه على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَأَمَّا تَفْسِيرُ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ فَالتَّسْلِيمُ وَالْقَبْضُ عِنْدَنَا هو التَّخْلِيَةُ وَالتَّخَلِّي وهو أَنْ يُخَلِّيَ البايع بين الْمَبِيعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي بِرَفْعِ الْحَائِلِ بَيْنَهُمَا على وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي من التَّصَرُّفِ فيه فَيُجْعَلُ البايع مُسَلِّمًا لِلْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي قَابِضًا له
وَكَذَا تَسْلِيمُ الثَّمَنِ من الْمُشْتَرِي إلَى البايع
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَبْضُ في الدَّارِ وَالْعَقَارِ وَالشَّجَرِ بِالتَّخْلِيَةِ
وَأَمَّا في الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَتَنَاوُلُهُمَا بِالْبَرَاجِمِ وفي الثِّيَابِ بِالنَّقْلِ
وَكَذَا في الطَّعَامِ إذَا اشْتَرَاهُ مُجَازَفَةً فإذا اشْتَرَاهُ مُكَايَلَةً فَبِالْكَيْلِ وفي الْعَبْدِ وَالْبَهِيمَةِ بِالسَّيْرِ من مَكَانِهِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَصْلَ في الْقَبْضِ هو الْأَخْذُ بِالْبَرَاجِمِ لِأَنَّهُ الْقَبْضُ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْأَخْذَ بِالْبَرَاجِمِ أُقِيمَ النَّقْلُ مَقَامَهُ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُهُ أُقِيمَ التَّخْلِيَةُ مَقَامَهُ
وَلَنَا أَنَّ التَّسْلِيمَ في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن جَعْلِهِ سَالِمًا خَالِصًا يُقَالُ سَلَّمَ فُلَانٌ لِفُلَانٍ أَيْ خَلَّصَ له وقال اللَّهُ تَعَالَى { وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ } أَيْ سَالِمًا خَالِصًا لَا يُشْرِكُهُ فيه أَحَدٌ فَتَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي هو جَعْلُ الْمَبِيعِ سَالِمًا لِلْمُشْتَرِي أَيْ خَالِصًا بِحَيْثُ لَا يُنَازِعُهُ فيه غَيْرُهُ وَهَذَا يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ فَكَانَتْ التَّخْلِيَةُ تَسْلِيمًا من الْبَائِعِ وَالتَّخَلِّي قَبْضًا من الْمُشْتَرِي وَكَذَا هذا في تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَاجِبٌ وَمَنْ عليه الْوَاجِبُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ له سَبِيلُ الْخُرُوجِ عن عُهْدَةِ ما وَجَبَ عليه وَاَلَّذِي في وُسْعِهِ هو التَّخْلِيَةُ وَرَفْعُ الْمَوَانِعِ فَأَمَّا الأقباض فَلَيْسَ في وُسْعِهِ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِالْبَرَاجِمِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ لِلْقَابِضِ فَلَوْ تَعَلَّقَ وُجُوبُ التَّسْلِيمِ بِهِ لَتَعَذَّرَ عليه الْوَفَاءُ بِالْوَاجِبِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
ثُمَّ لَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا في أَنَّ أَصْلَ الْقَبْضِ يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ في سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَاخْتَلَفُوا في أنها هل هِيَ قَبْضٌ تَامٌّ فيها أَمْ لَا
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا له مِثْلٌ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا مِثْلَ له فَإِنْ كان مِمَّا لَا مِثْلَ له من الْمَذْرُوعَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ فَالتَّخْلِيَةُ فيها قَبْضٌ تَامٌّ بِلَا خِلَافٍ حتى لو اشْتَرَى مَذْرُوعًا مُذَارَعَةً أو مَعْدُودًا مُعَادَدَةً وَوُجِدَتْ التَّخْلِيَةُ يَخْرُجُ عن ضَمَانِ الْبَائِعِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ قبل الذَّرْعِ وَالْعَدِّ بِلَا خِلَافٍ
وَإِنْ كان مِمَّا له مِثْلٌ فَإِنْ بَاعَهُ مُجَازَفَةً فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَعْرِفَةُ الْقَدْرِ في بَيْعِ الْمُجَازَفَةِ
وَإِنْ بَاعَ مُكَايَلَةً أو مُوَازَنَةً في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَخَلَّى فَلَا خِلَافَ في أَنَّ الْمَبِيعَ يَخْرُجُ عن ضَمَانِ البايع وَيَدْخُلُ في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي حتى لو هَلَكَ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ قبل الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ يُمْلَكُ على الْمُشْتَرِي وَكَذَا لَا خِلَافَ في أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي بَيْعُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ قبل الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ
وَكَذَا لو اكْتَالَهُ الْمُشْتَرِي أو اتَّزَنَهُ من بَائِعِهِ ثُمَّ بَاعَهُ مُكَايَلَةً أو مُوَازَنَةً من غَيْرِهِ لم يَحِلَّ لمشتري ( ( ( للمشتري ) ) ) منه أَنْ يَبِيعَهُ أو ينتفع ( ( ( يمتنع ) ) ) بِهِ حتى يَكِيلَهُ أو يَزِنَهُ وَلَا يكتفي بِاكْتِيَالِ البايع أو اتِّزَانِهِ من بَائِعِهِ وَإِنْ كان ذلك بِحَضْرَةِ هذا الْمُشْتَرِي لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ نهى عن بَيْعِ الطَّعَامِ حتى يجري فيه صَاعَانِ صَاعُ البايع وَصَاعُ الْمُشْتَرِي وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نهى عن بَيْعِ الطَّعَامِ حتى يُكَالَ لَكِنْ اخْتَلَفُوا في أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ قبل الْكَيْلِ أو الْوَزْنِ لِانْعِدَامِ الْقَبْضِ بِانْعِدَامِ الْكَيْلِ أو الْوَزْنِ أو شَرْعًا غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى مع حُصُولِ الْقَبْضِ بِتَمَامِهِ بِالتَّخْلِيَةِ
قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنه ( ( ( إنها ) ) ) تَثْبُتُ شَرْعًا غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى
وقال بَعْضُهُمْ الْحُرْمَةُ لِمَكَانِ انْعِدَامِ الْقَبْضِ على التَّمَامِ بِالْكَيْلِ أو الْوَزْنِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ في الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ بِدُونِ قَبْضِهِ أَصْلًا لَا يَجُوزُ بِدُونِ قَبْضِهِ بِتَمَامِهِ
وَجْهُ قَوْلِ الْأَوَّلِينَ ما ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ لِأَنَّ المشتري يَصِيرُ سَالِمًا خَالِصًا لِلْمُشْتَرِي على وَجْهٍ يَتَهَيَّأُ له تَقْلِيبُهُ وَالتَّصَرُّفُ فيه على حَسَبِ مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَلِهَذَا كانت التَّخْلِيَةُ تَسْلِيمًا وَقَبْضًا فِيمَا لَا مِثْلَ له وَفِيمَا له مِثْلٌ إذَا بِيعَ مُجَازَفَةً وَلِهَذَا يَدْخُلُ الْمَبِيعُ في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِالتَّخْلِيَةِ نَفْسِهَا بِلَا خِلَافٍ دَلَّ أَنَّ التَّخْلِيَةَ قَبْضٌ إلَّا أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ مع وُجُودِ الْقَبْضِ بِتَمَامِهِ ثَبَتَ تَعَبُّدَا غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَجْهُ قَوْلِ الْآخَرِينَ تَعْلِيلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في هذه الْمَسْأَلَةِ في كِتَابِ الْبُيُوعِ فإنه قال وَلَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فيه قبل الْكَيْلِ لِأَنَّهُ بَاعَهُ قبل
____________________

(5/244)


أَنْ يَقْبِضَهُ ولم يُرِدْ بِهِ أَصْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَمَامَ الْقَبْضِ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الذي بِيعَ مُكَايَلَةً وَمُوَازَنَةً من تَمَامِ الْقَبْضِ أَنَّ الْقَدْرَ في الْمَكِيلِ الموزون ( ( ( والموزون ) ) ) مَعْقُودٌ عليه
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو كِيلَ فَازْدَادَ لَا تَطِيبُ له الزِّيَادَةُ بَلْ تُرَدُّ أو يُفْرَضُ لها ثَمَنٌ وَلَوْ نَقَصَ يُطْرَحُ بِحِصَّتِهِ شَيْءٌ من الثَّمَنِ وَلَا يُعْرَفُ الْقَدْرُ فِيهِمَا إلَّا بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ لِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَلَا يَتَحَقَّقُ قَبْضُ قَدْرِ الْمَعْقُودِ عليه إلَّا بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فَكَانَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ فيه من تَمَامِ الْقَبْضِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قبل قَبْضِهِ بِتَمَامِهِ كما لَا يَجُوزُ قبل قَبْضِهِ أَصْلًا وَرَأْسًا بِخِلَافِ الْمَذْرُوعَاتِ لِأَنَّ الْقَدْرَ فيها ليس مَعْقُودًا عليه بَلْ هو جَارٍ مَجْرَى الْوَصْفِ وَالْأَوْصَافُ لَا تَكُونُ مَعْقُودًا عليها وَلِهَذَا سَلِمَتْ الزِّيَادَةُ لِلْمُشْتَرِي بِلَا ثَمَنٍ وفي النُّقْصَانِ لَا يَسْقُطُ عنه شَيْءٌ من الثَّمَنِ فَكَانَتْ التَّخْلِيَةُ فيها قَبْضًا تَامًّا فيكتفي بها في جَوَازِ التَّصَرُّفِ قبل الذَّرْعِ بِخِلَافِ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ على ما بَيَّنَّا إلَّا أَنَّهُ يَخْرُجُ عن ضَمَانِ الْبَائِعِ بِالتَّخْلِيَةِ نَفْسِهَا لِوُجُودِ الْقَبْضِ بِأَصْلِهِ وَالْخُرُوجُ عن ضَمَانِ الْبَائِعِ يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ الْقَبْضِ لَا بِوَصْفِ الْكَمَالِ فَأَمَّا جَوَازُ التَّصَرُّفِ فيه فَيَسْتَدْعِي قَبْضًا كَامِلًا لِوُرُودِ النَّهْيِ عن بَيْعِ ما لم يُقْبَضْ وَالْقَبْضُ الْمُطْلَقُ هو الْقَبْضُ الْكَامِلُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا العدودات ( ( ( المعدودات ) ) ) الْمُتَقَارِبَةُ إذَا بِيعَتْ عَدَدًا لَا جُزَافًا فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ حتى لَا يَجُوزَ بَيْعُهَا إلَّا بَعْدَ الْعَدِّ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَذْرُوعَاتِ فَيَجُوزُ بَيْعُهَا قبل الْعَدِّ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَدَدِيَّ ليس من أَمْوَالِ الرِّبَا كَالذَّرْعِ وَلِهَذَا لم تَكُنْ الْمُسَاوَاةُ فيها شَرْطًا لِجَوَازِ الْعَقْدِ كما لَا تُشْتَرَطُ في الْمَذْرُوعَاتِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَذْرُوعِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقَدْرَ في الْمَعْدُودِ مَعْقُودٌ عليه كَالْقَدْرِ في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو عَدَّهُ فَوَجَدَهُ زَائِدًا لَا تَطِيبُ الزِّيَادَةُ له بِلَا ثَمَنٍ بَلْ يَرُدُّهَا أو يَأْخُذُهَا بِثَمَنِهَا وَلَوْ وَجَدَهُ نَاقِصًا يَرْجِعُ بِقَدْرِ النُّقْصَانِ كما في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ دَلَّ أَنَّ الْقَدْرَ فيه مَعْقُودٌ عليه وَاحْتِمَالُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ في عَدَدِ الْمَبِيعِ ثَابِتٌ فَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ قَدْرِ الْمَعْقُودِ عليه وَامْتِيَازِهِ من غَيْرِهِ وَلَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ إلَّا بِالْعَدِّ فَأَشْبَهَ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ وَلِهَذَا كان الْعَدُّ فيه بِمَنْزِلَةِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ في ضَمَانِ العدوان ( ( ( العد ) ) ) إلا أنه لم يَجُزْ فيه الرِّبَا لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ بين وَاحِدٍ وَوَاحِدٍ في الْعَدِّ ثَبَتَتْ بِاصْطِلَاحِ الناس وَإِهْدَارِهِمْ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا في الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ لَكِنْ ما ثَبَتَ بإصطلاح الناس جَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِاصْطِلَاحِهِمْ وَلَمَّا تَبَايَعَا وَاحِدًا بِاثْنَيْنِ فَقَدْ أَهْدَرَا اصْطِلَاحَ الْإِهْدَارِ وَاعْتَبَرَا الْكِبَرَ لأنها ( ( ( لأنهما ) ) ) قصد ( ( ( قصدا ) ) ) الْبَيْعَ الصَّحِيحَ وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْكِبَرِ وَسُقُوطِ الْعَدِّ فَكَانَ أَحَدُهُمَا من أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِمُقَابَلَةِ الْكَبِيرِ من الْجَانِبِ الْآخَرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا
أَمَّا هَهُنَا فَلَا بُدَّ من اعْتِبَارِ الْعَدِّ إذَا بِيعَ عَدَدًا وإذا اُعْتُبِرَ الْعَدُّ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فيه قبل الْقَبْضِ كما في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِخِلَافِ الْمَذْرُوعِ فإن الْقَدْرَ فيه ليس بِمَعْقُودٍ عليه على ما بَيَّنَّا فَكَانَتْ التَّخْلِيَةُ فيه قَبْضًا تَامًّا فَكَانَ تَصَرُّفًا في الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ كَالَهُ الْبَائِعُ أو وَزَنَهُ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي كان ذلك كَافِيًا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْكَيْلِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِكَيْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي وما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ نهى عن بَيْعِ الطَّعَامِ حتى يجر ( ( ( يجري ) ) ) فيه صَاعَانِ صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي مَحْمُولٌ على مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ وهو ما إذَا اشْتَرَى مَكِيلًا مُكَايَلَةً فَاكْتَالَهُ ثُمَّ بَاعَهُ من غَيْرِهِ مُكَايَلَةً لم يَجُزْ لِهَذَا الْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ فيه حتى يَكِيلَهُ وَإِنْ كان هو حَاضِرًا عِنْدَ اكْتِيَالِ بَائِعِهِ فَلَا يكتفي بِذَلِكَ
وَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ في حِنْطَةٍ فلما حَلَّ الْأَجَلُ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ قَدْرَ الْمُسْلَمِ فيه من رَجُلٍ مُكَايَلَةً وَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ بِاقْتِضَائِهِ فإنه لَا يَجُوزُ له التَّصَرُّفُ فيه ما لم يَكِلْهُ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَمَرَّةً لِنَفْسِهِ بِالنَّصِّ وَلَوْ كان مَكَانَ السَّلَمِ قَرْضٌ بِأَنْ اسْتَقْرَضَ الْمُسْتَقْرِضُ كُرًّا من إنْسَانٍ وَأَمَرَ الْمُقْرِضَ بِقَبْضِ الْكُرِّ فإنه يكتفي فيه بِكَيْلٍ وَاحِدٍ لِلْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَقْرِضِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ فِيمَا عُقِدَ بِشَرْطِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ شَرْطُ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِمَا لِأَنَّهُ من تَمَامِ الْقَبْضِ على ما بَيَّنَّا وَالسَّلَمُ عَقْدٌ بِشَرْطِ الْكَيْلِ وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ اشْتَرَى بِشَرْطِ الْكَيْلِ فَلَا بُدَّ من أَنْ يَكِيلَ رَبُّ السَّلَمِ أَوَّلًا لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِيَصِيرَ قَابِضًا له فجعل ( ( ( فيجعل ) ) ) كَأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ من الْبَائِعِ ثُمَّ يَكِيلُ لِنَفْسِهِ من الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَأَمَّا قَبْضُ بَدَلِ الْقَرْضِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فيه لِأَنَّ
____________________

(5/245)


الْقَبْضَ بِالْكَيْلِ في بَابِ الْبَيْعِ لِانْدِفَاعِ جَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عليه بِتَمَيُّزِ حَقِّ الْمُشْتَرِي عن حَقِّ الْبَائِعِ وَالْقَرْضُ يَقْبَلُ نَوْعَ جَهَالَةٍ فَلَا يُشْتَرَطُ له الْقَبْضُ وَلِأَنَّ الْإِقْرَاضَ إعَارَةٌ عِنْدَنَا فَالْمَقْبُولُ من بَدَلِ الْقَرْضِ كَأَنَّهُ عَيْنُ حَقِّهِ فَصَارَ كما لو أَعَارَ عَيْنًا ثُمَّ اسْتَرَدَّهَا فَيَصِحُّ قَبْضُهُ بِدُونِ الْكَيْلِ وَإِنَّمَا يَجِبُ كَيْلٌ وَاحِدٌ لِلْمُشْتَرِي لَا غير وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَصِيرُ بِهِ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لِلْمَبِيعِ من التَّصَرُّفَاتِ وما لَا يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْمَبِيعُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ في يَدِ الْبَائِعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ في يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كان في يَدِ الْبَائِعِ فَأَتْلَفَهُ الْمُشْتَرِي صَارَ قَابِضًا له لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا بِالتَّخْلِيَةِ فَبِالْإِتْلَافِ أَوْلَى لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ تَمْكِينٌ من التَّصَرُّفِ في الْمَبِيعِ وَالْإِتْلَافُ تَصَرُّفٌ فيه حَقِيقَةً وَالتَّمْكِينُ من التَّصَرُّفِ دُونَ حَقِيقَةِ التَّصَرُّفِ
وَكَذَلِكَ لو قَطَعَ يَدَهُ أو شَجَّ رَأْسَهُ وَكُلُّ تَصَرُّفٍ نَقَصَ شيئا لِأَنَّ هذه الْأَفْعَالَ في الدَّلَالَةِ على التَّمْكِينِ فَوْقَ التَّخْلِيَةِ ثُمَّ بِالتَّخْلِيَةِ صَارَ قَابِضًا فيها ( ( ( فبها ) ) ) أَوْلَى وَكَذَلِكَ لو فَعَلَ الْبَائِعُ شيئا من ذلك بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ فِعْلَهُ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ
وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إتْلَافٌ حُكْمًا فَيَلْحَقُ بِالْإِتْلَافِ حَقِيقَةً وَكَذَا لو دَبَّرَهُ أو اسْتَوْلَدَ الْجَارِيَةَ أَيْ أَقَرَّ أنها أُمُّ وَلَدٍ له لِأَنَّ التَّدْبِيرَ أو الِاسْتِيلَادَ تَنْقِيصٌ حُكْمًا فَكَانَ مُلْحَقًا بِالتَّنْقِيصِ حَقِيقَةً وَلَوْ زَوَّجَ الْمَبِيعَ بِأَنْ كان جَارِيَةً أو عَبْدًا فَالْقِيَاسُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا وهو رِوَايَةٌ عن أبي يُوسُفَ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ التَّزَوُّجَ تَعْيِيبٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ عَيْبٌ يُرَدُّ بها وإذا كانت الزَّوْجِيَّةُ عَيْبًا كان التَّزَوُّجُ تَعْيِيبًا وَالتَّعْيِيبُ قَبْضٌ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ تَعْيِيبٌ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الْمَحَلِّ وَلَا نُقْصَانَ الْمِلْكِ فيه فَلَا يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا وَكَذَا لو أَقَرَّ عليه بِالدَّيْنِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا لِأَنَّ الدَّيْنَ عَيْبٌ حتى يُرَدَّ بِهِ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّهُ تَعْيِيبٌ حُكْمِيٌّ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ النُّقْصَانَ فَلَا يَكُونُ قَبْضًا
وَلَوْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ في يَدِ الْبَائِعِ صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لِأَنَّ الْوَطْءَ إثْبَاتُ الْيَدِ على الْمَوْطُوءَةِ وَأَنَّهُ حَصَلَ من الزَّوْجِ بِتَسْلِيطِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ من حَيْثُ أنه إثْبَاتُ الْيَدِ مُضَافًا إلَى الْمُشْتَرِي فَكَانَ قَابِضًا من الْمُشْتَرِي
وَلَوْ أَعَارَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ للبايع ( ( ( للبائع ) ) ) أو أَوْدَعَهُ أو آجَرَهُ لم يَكُنْ شَيْءٌ من ذلك قَبْضًا لِأَنَّ هذه التَّصَرُّفَاتِ لم تَصِحَّ من الْمُشْتَرِي لِأَنَّ يَدَ الْحَبْسِ بِطَرِيقِ الإصالة ثَابِتَةٌ للبايع ( ( ( للبائع ) ) ) فَلَا يُتَصَوَّرُ إثْبَاتُ يَدِ النِّيَابَةِ له بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فلم تَصِحَّ وَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ وَلَوْ أَعَارَهُ أو أَوْدَعَهُ أَجْنَبِيًّا صَارَ قَابِضًا لِأَنَّ الْإِعَارَةَ وَالْإِيدَاعَ إيَّاهُ صَحِيحٌ فَقَدْ أَثْبَتَ يَدَ النِّيَابَةِ لِغَيْرِهِ فَصَارَ قَابِضًا
وَلَوْ أَرْسَلَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمَبِيعَ إلَى حَاجَةٍ صَارَ قَابِضًا لِأَنَّ إرْسَالَهُ في الْحَاجَةِ اسْتِعْمَالٌ له بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَارَ رَاضِيًا بِهِ وَاسْتِعْمَالُهُ إيَّاهُ إثْبَاتُ يَدِهِ عليه وهو مَعْنَى الْقَبْضِ
وَلَوْ جَنَى أَجْنَبِيٌّ على الْمَبِيعِ فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي اتِّبَاعَ الْجَانِي بِالضَّمَانِ كان اخْتِيَارُهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ حتى لو تَوَى الضَّمَانُ على الْجَانِي بِأَنْ مَاتَ مُفْلِسًا كان التَّوَى على الْمُشْتَرِي وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَيَتَقَرَّرُ عليه الثَّمَنُ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالتَّوَى على البايع وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عن الْمُشْتَرِي
وَكَذَا لو اسْتَبْدَلَ الْمُشْتَرِي الضَّمَانَ لِيَأْخُذَ مَكَانَهُ من الْجَانِي شيئا آخَرَ جَازَ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وعن ( ( ( وعند ) ) ) مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ هذا تَصَرُّفٌ في المعقود ( ( ( العقود ) ) ) عليه قبل الْقَبْضِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعَيْنِ الْمُسْتَهْلَكَةِ وَالتَّصَرُّفُ في الْمَعْقُودِ عليه قبل الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ لَا من البايع وَلَا من غَيْرِهِ
وَكَذَا الْمَبِيعُ إذَا كان مَصُوغًا من فِضَّةٍ اشْتَرَاهَا بِدِينَارٍ فَاسْتَهْلَكَ الْمَصُوغَ أَجْنَبِيٌّ قبل الْقَبْضِ فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَتَّبِعَ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ وَنَقَدَ الدِّينَارَ البايع فَافْتَرَقَا قبل قَبْضِ ضَمَانِ الْمُسْتَهْلَكِ لَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أبي يُوسُفَ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ تَضْمِينَ الْمُسْتَهْلِكِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَبْطُلُ الصَّرْفُ لِعَدَمِ الْقَبْضِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الضَّمَانَ حُكْمُ الْعَيْنِ لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَيْنِ قَائِمَةٌ مَقَامَهَا وَلِهَذَا بَقِيَ الْعَقْدُ على الْقِيمَةِ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ ثُمَّ الْعَيْنُ لو كانت قَائِمَةً فَهَلَكَتْ قبل الْقَبْضِ كان الْهَلَاكُ على البايع وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عن الْمُشْتَرِي فَكَذَا الْقِيمَةُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ جِنَايَةَ الْأَجْنَبِيِّ حَصَلَتْ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي وَأَمْرِهِ دَلَالَةً فَيَصِيرُ قَابِضًا كما لو فَعَلَ بِنَفْسِهِ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ اخْتِيَارَ الْمُشْتَرِي اتِّبَاعَ الْجَانِي بِالضَّمَانِ تَمْلِيكٌ من الْمَضْمُونِ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمَلَّكُ بِاخْتِيَارِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ سَبَبِ الضَّمَانِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي فَيَصِيرُ
____________________

(5/246)


قَابِضًا لِأَنَّ فِعْلَ الْأَجْنَبِيِّ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ
وَلَوْ أَمَرَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ أَنْ يَعْمَلَ في الْمَبِيعِ عَمَلًا فَإِنْ كان عَمَلًا لَا يُنْقِصُهُ كَالْقِصَارَةِ وَالْغَسْلِ بِأَجْرٍ أو بِغَيْرِ أَجْرٍ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الذي لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الْمَحَلِّ مِمَّا يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ بِالْيَدِ الثَّابِتَةِ كما إذَا نَقَلَهُ من مَكَان إلَى مَكَان فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ اسْتِيفَاءً لِمِلْكِ الْيَدِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا وَتَجِبُ الْأُجْرَةُ على الْمُشْتَرِي إنْ كان بِأَجْرٍ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ قد صَحَّتْ لِأَنَّ الْعَمَلَ على الْبَائِعِ ليس بِوَاجِبٍ فَجَازَ أَنْ تُقَابِلَهُ الْأُجْرَةُ وَإِنْ كان عَمَلًا يُنْقِصُهُ يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّ تَنْقِيصَهُ إتْلَافُ جُزْءٍ منه وقد حَصَلَ بِأَمْرِهِ فَكَانَ مُضَافًا إلَيْهِ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا أَسْلَمَ في كُرِّ حِنْطَةٍ فلما حَلَّ الْأَجَلُ أَمَرَ رَبُّ السَّلَمِ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ أَنْ يَكِيلَهُ في غَرَائِرِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ أو دَفَعَ إلَيْهِ غَرَائِرَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكِيلَهُ فيها فَفَعَلَ أَنَّهُ إنْ كان رَبُّ السَّلَمِ حَاضِرًا يَصِيرُ قَابِضًا بِالتَّخْلِيَةِ وَإِنْ كان غَائِبًا لَا يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّ الْحِنْطَةَ التي يَكِيلُهَا الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِلْكُهُ لَا مِلْكُ رَبِّ السَّلَمِ لِأَنَّ حَقَّهُ في الدَّيْنِ لَا في الْعَيْنِ فلم يَصِحَّ أَمْرُ الْمُشْتَرِي إيَّاهُ بِكَيْلِهَا فلم يَصِرْ وَكِيلًا له فَلَا تَصِيرُ يَدُهُ يَدَ رَبِّ السَّلَمِ سَوَاءٌ كانت الْغَرَائِرُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ أو لِرَبِّ السَّلَمِ لِأَنَّ يَدَ رَبِّ السَّلَمِ عن الْغَرَائِرِ قد زَالَتْ فإذا كَالَ فيها الْحِنْطَةُ لم تَصِرْ في يَدِ رَبِّ السَّلَمِ فَلَا يَصِيرُ قَابِضًا وَكَذَا لو اسْتَقْرَضَ من رَجُلٍ كُرًّا وَدَفَعَ إلَيْهِ غَرَائِرَهُ لِيَكِيلَهُ فيها فَفَعَلَ وهو غَائِبٌ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّ الْقَرْضَ لَا يُمْلَكُ قبل الْقَبْضِ فَكَانَ الْكُرُّ على مِلْكِ الْمُقْرِضِ فلم يَصِحَّ أَمْرُ الْمُسْتَقْرِضِ إيَّاهُ بِكَيْلِهِ فَلَا يَصِيرُ وَكِيلًا له فَلَا تَصِيرُ يَدُهُ يَدَ الْمُسْتَقْرِضِ كما في السَّلَمِ
وَلَوْ اشْتَرَى من إنْسَانٍ كُرًّا بِعَيْنِهِ وَدَفَعَ غَرَائِرَهُ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَكِيلَ فيها فَفَعَلَ صَارَ قَابِضًا سَوَاءٌ كان الْمُشْتَرِي حَاضِرًا أو غَائِبًا لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه مُعَيَّنٌ وقد مَلَكَهُ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَصَحَّ أَمْرُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ تَنَاوَلَ عَيْنًا هو مِلْكُهُ فَصَحَّ أَمْرُهُ وَصَارَ البايع وَكِيلًا له وَصَارَتْ يَدُهُ يَدَ الْمُشْتَرِي وَكَذَلِكَ الطَّحْنُ إذَا طَحَنَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِأَمْرِ رَبِّ السَّلَمِ لم يَصِرْ قَابِضًا
وَلَوْ طَحَنَهُ الْبَائِعُ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي صَارَ قَابِضًا لِأَنَّ الطَّحْنَ بِمَنْزِلَةِ الْكَيْلِ في الْغَرَائِرِ
وَلَوْ اسْتَعَارَ الْمُشْتَرِي من الْبَائِعِ غَرَائِرَهُ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَكِيلَهُ فيها فَفَعَلَ فَإِنْ كان الْمُشْتَرِي حَاضِرًا يَصِيرُ قَابِضًا بِالتَّخَلِّي بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان غَائِبًا لَا يَصِيرُ قَابِضًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ ما لم يُسَلِّمْ الْغَرَائِرَ إلَيْهِ سَوَاءٌ كانت الْغَرَائِرُ بِغَيْرِ عَيْنِهَا أو بِعَيْنِهَا
وقال أبو يُوسُفَ إنْ كانت بِعَيْنِهَا صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا بِنَفْسِ الْكَيْلِ فيها وَإِنْ كانت بِغَيْرِ عَيْنِهَا بِأَنْ قال أَعِرْنِي غِرَارَةً وَكِلْ فيها لَا يَصِيرُ قَابِضًا
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْغَرَائِرَ عَارِيَّةٌ في الْوَجْهَيْنِ جميعا ولم يَقْبِضْهَا وَالْعَارِيَّةُ لَا حُكْمَ لها بِدُونِ الْقَبْضِ فَبَقِيَتْ في يَدِ الْبَائِعِ فَبَقِيَ ما فيها في يَدِ البايع أَيْضًا فَلَا يَصِيرُ في يَدِ الْمُشْتَرِي قَابِضًا إلَّا بِتَسْلِيمِ الْغَرَائِرِ إلَيْهِ
وَلِأَبِي يُوسُفَ الْفَرْقُ بين حَالَةِ التَّعْيِينِ وَعَدَمِ التَّعْيِينِ وهو أَنَّ الْغَرَائِرَ إذَا كانت مُعَيَّنَةً مُشَارًا إلَيْهَا فَإِنْ لم يُمْكِنْ تَصْحِيحُ التَّعْيِينِ من حَيْثُ كَوْنِهِ اسْتِعَارَةً يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ من حَيْثُ إقَامَتِهَا مَقَامَ يَدِهِ وإذا لم تَكُنْ مُتَعَيَّنَةٌ فَلَا وَجْهَ لِلْإِعَارَةِ بِوَجْهٍ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَظْهَرُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ اشْتَرَى كُرًّا بِعَيْنِهِ وَلَهُ على البايع كُرُّ دَيْنٍ فَأَعْطَاهُ جَوْلَقًا وقال له كِلْهُمَا فيه فَفَعَلَ صَارَ قَابِضًا لَهُمَا سَوَاءٌ كان الْمَبِيعُ أَوَّلًا أو الدَّيْنُ
وَهَذَا قَوْلُ أبي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ إنْ كان الْمَبِيعُ أَوَّلًا يَصِيرُ قَابِضًا لَهُمَا كما قال أبو يُوسُفَ وَإِنْ كان الدَّيْنُ أَوَّلًا لم يَصِرْ قَابِضًا لِلدَّيْنِ وكان قَابِضًا لِلْعَيْنِ وَكَانَا شركين ( ( ( شريكين ) ) ) فيه
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إن نَفْسَ الْكَيْلِ في الدَّيْنِ ليس بِقَبْضٍ لِمَا ذَكَرْنَا فإذا بَدَأَ بِكَيْلِهِ لم يَصِرْ الْمُشْتَرِي قَابِضًا له فإذا كَالَهُ بَعْدَهُ فَقَدْ خَلَطَ مِلْكَ الْمُشْتَرِي بِمِلْكِ نَفْسِهِ فَيَشْتَرِكَانِ في الْمَخْلُوطِ وَنَفْسُ الْكَيْلِ في الْعَيْنِ قَبْضٌ فإذا بَدَأَ بِكَيْلِهِ صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا له ثُمَّ إذَا كان ( ( ( كال ) ) ) الدَّيْنَ بَعْدَهُ فَقَدْ اسْتَهْلَكَ الْعَيْنَ بِالْخَلْطِ فَقَامَ ذلك الدَّيْنُ مَقَامَ الْعَيْنِ فَصَارَ قَابِضًا له
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْبَائِعَ خَلَطَ مِلْكَ الْمُشْتَرِي بِمِلْكِ نَفْسِهِ في الْحَالِ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ مُضَافًا إلَى الْمُشْتَرِي وَالْخَلْطُ من أَسْبَابِ التَّمَلُّكِ في الْجُمْلَةِ فَيَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الدَّيْنَ بِالْخَلْطِ وقد جَعَلَهُ في غَرَائِرِهِ بِأَمْرِهِ فَصَارَ قَابِضًا له وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ بَاعَ قُطْنًا في فِرَاشٍ أو حِنْطَةً في سُنْبُلٍ وسلم كَذَلِكَ فَإِنْ أَمْكَنَ الْمُشْتَرِيَ قَبْضُ الْقُطْنِ أو الْحِنْطَةِ من غَيْرِ فَتْقِ الْفِرَاشِ أو دَقُّ السُّنْبُلِ صَارَ قَابِضًا له لِحُصُولِ مَعْنَى الْقَبْضِ وهو التَّخَلِّي وَالتَّمَكُّنُ من التَّصَرُّفِ وَإِنْ لم يُمْكِنْهُ إلَّا بِالْفَتْقِ وَالدَّقِّ لم يَصِرْ قَابِضًا له لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْفَتْقَ أو الدَّقَّ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ في مِلْكِ الْبَائِعِ وهو لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في مِلْكِهِ فلم يَحْصُلْ التَّمَكُّنُ وَالتَّخَلِّي فَلَا يَصِيرُ قَابِضًا وَلَوْ بَاعَ الثَّمَرَةَ على الشَّجَرَةِ وسلم كَذَلِكَ صَارَ قَابِضًا لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْجِذَاذُ من غَيْرِ تَصَرُّفٍ في مِلْكِ
____________________

(5/247)


الْبَائِعِ فَحَصَلَ التَّخَلِّي بِتَسْلِيمِ الشَّجَرِ فَكَانَ قَبْضًا بِخِلَافِ بَيْعِ الْقُطْنِ في الْفِرَاشِ وَالْحِنْطَةِ في السُّنْبُلِ وَلِهَذَا قالوا إنَّ أُجْرَةَ الْجِذَاذِ على الْمُشْتَرِي وَأُجْرَةَ الْفَتْقِ وَالدَّقِّ على الْبَائِعِ إذَا كان الْمُشْتَرِي لَا يُمْكِنُهُ الْقَبْضُ إلَّا بِهِ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِلثَّمَنِ بِتَسْلِيمِ الشَّجَرِ فَكَانَ الْجَاذُّ عَامِلًا لِلْمُشْتَرِي فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ عليه ولم يَحْصُلْ الْقَبْضُ بِتَسْلِيمِ الْفِرَاشِ وَالسُّنْبُلِ فَكَانَ الْفَتْقُ وَالدَّقُّ على الْبَائِعِ مِمَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ التَّسْلِيمُ فَكَانَتْ أُجْرَتُهُ عليه
هذا إذَا كان الْمَبِيعُ في يَدِ الْبَائِعِ وَقْتَ الْبَيْعِ فَأَمَّا إذَا كان في يَدِ الْمُشْتَرِي فَهَلْ يَصِيرُ قَابِضًا لِلْبَيْعِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ أَمْ يَحْتَاجُ فيه إلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ فَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الْمَوْجُودَ وَقْتَ الْعَقْدِ إنْ كان مِثْلَ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ يَنُوبُ مَنَابَهُ وَإِنْ لم يَكُنْ مثله فَإِنْ كان أَقْوَى من الْمُسْتَحَقِّ نَابَ عنه وَإِنْ كان دُونَهُ لَا يَنُوبُ لِأَنَّهُ إذَا كان مثله أَمْكَنَ تَحْقِيقُ التَّنَاوُبِ لِأَنَّ الْمُتَمَاثِلَيْنِ غَيْرَانِ يَنُوبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنَابَ صَاحِبِهِ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ وأن كان أَقْوَى منه يُوجَدُ فيه الْمُسْتَحَقُّ وَزِيَادَةٌ وَإِنْ كان دُونَهُ لَا يُوجَدُ فيه إلَّا بَعْضُ الْمُسْتَحَقِّ فَلَا يَنُوبُ عن كُلِّهِ
وَبَيَانُ ذلك في مَسَائِلَ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيها أَنَّ يَدَ الْمُشْتَرِي قبل الشِّرَاءِ إمَّا إن كانت يَدَ ضَمَانٍ وَإِمَّا إن كانت يَدَ أَمَانَةٍ فَإِنْ كانت يَدَ ضَمَانٍ فَإِمَّا إن كانت يَدَ ضَمَانٍ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا إن كانت يَدَ ضَمَانٍ بِغَيْرِهِ فَإِنْ كانت يَدَ ضَمَانٍ بِنَفْسِهِ كيدا ( ( ( كيد ) ) ) لغاصب ( ( ( الغاصب ) ) ) يَصِيرُ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لمبيع ( ( ( للمبيع ) ) ) بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ سَوَاءٌ كان الْمَبِيعُ حَاضِرًا أو غَائِبًا لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ وَالْمَبِيعُ بَعْدَ الْقَبْضِ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ فَتَجَانَسَ الْقَبْضَانُ فَنَابَ أَحَدُهُمَا عن الْآخَرِ لِأَنَّ التَّجَانُسَ يَقْتَضِي التَّشَابُهَ وَالْمُتَشَابِهَانِ يَنُوبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنَابَ صَاحِبِهِ وَيَسُدُّ مَسَدَهُ سَوَاءٌ كان الْمَبِيعُ حَاضِرًا أو غَائِبًا لِأَنَّ يَدَ الْغَاصِبِ في الْحَالَيْنِ يَدُ ضَمَانٍ وَإِنْ كان يَدُهُ يَدَ ضَمَانٍ لِغَيْرِهِ كَيَدِ الرَّهْنِ بِأَنْ بَاعَ الرَّاهِنُ الْمَرْهُونَ من الْمُرْتَهِنِ فإنه لَا يَصِيرُ قَابِضًا إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ حَاضِرًا أو يَذْهَبَ إلَى حَيْثُ الرَّهْنِ وَيَتَمَكَّنُ من قَبْضِهِ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ ليس بِمَضْمُونٍ بِنَفْسِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ وهو الدَّيْنُ وَالْمَبِيعُ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ فلم يَتَجَانَسْ الْقَبْضَانُ فلم يَتَشَابَهَا فَلَا يَنُوبُ أَحَدُهُمَا عن الْآخَرِ
وَلِأَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ في الْحَقِيقَةِ فَكَانَ قَبْضُهُ قَبْضَ أَمَانَةٍ
وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ بِهَلَاكِهِ لِمَعْنًى آخَرَ لَا لِكَوْنِهِ مَضْمُونًا على ما عُرِفَ
وإذا كان أَمَانَةً فَقَبْضُ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عن قَبْضِ الضَّمَانِ كَقَبْضِ الْعَارِيَّةِ والوديعة
وَإِنْ كانت يَدُ الْمُشْتَرِي يَدَ أَمَانَةٍ كَيَدِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا إلَّا أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِهِ أو يَذْهَبُ إلَى حَيْثُ يَتَمَكَّنُ من قَبْضِهِ بِالتَّخَلِّي
لِأَنَّ يَدَ الْأَمَانَةِ لَيْسَتْ من جِنْسِ يَدِ الضَّمَانِ فَلَا يَتَنَاوَبَانِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي في قَبْضِ الْمَبِيعِ فقال الْبَائِعُ قَبَضْتَهُ
وقال الْمُشْتَرِي لم أَقْبِضْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ البايع يَدَّعِي عليه وُجُودَ الْقَبْضِ وَتَقَرُّرَ الثَّمَنِ وهو يُنْكِرُ وَلِأَنَّ عَدَمَ الْقَبْضِ أَصْلٌ وَالْوُجُودُ عَارِضٌ فَكَانَ الْمُشْتَرِي تمسكا ( ( ( متمسكا ) ) ) بِالْأَصْلِ والبايع ( ( ( والبائع ) ) ) يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُشْتَرِي فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ
وَكَذَا إذَا قَبَضَ بَعْضَهُ وَاخْتَلَفَا في قَدْرِ الْمَقْبُوضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اخْتَلَفَا في قَبْضِ الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا في قَبْضِ الْمَبِيعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ اخْتَلَفَا فقال الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي قَطَعْتَ يَدَهُ فَصِرْتَ قَابِضًا وقال الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ أنت قَطَعْتَ يَدَهُ وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ فيه لم يُقْبَلْ قَوْلُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على صَاحِبِهِ وَيُجْعَلُ كأنه ( ( ( كأن ) ) ) يَدَهُ ذَهَبَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لِتَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ وَانْعِدَامِ دَلِيلِ التَّرْجِيحِ لِأَحَدِهِمَا فَلَا يَكُونُ قَوْلُ أَحَدِهِمَا بِالْقَبُولِ على صَاحِبِهِ أَوْلَى من قَوْلِ الْآخَرِ فَلَا يُقْبَلُ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهَا ذَهَبَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي لِتَغَيُّرِ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ على الْبَائِعِ فَإِنْ اخْتَارَ الْأَخْذَ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على دَعْوَى صَاحِبِهِ وَيَأْخُذُ
كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في شَرْحِهِ
أَمَّا تَحْلِيفُ الْبَائِعِ فَلَا إشْكَالَ فيه لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي عليه سُقُوطَ بَعْضِ الثَّمَنِ وهو يُنْكِرُ فَيَحْلِفُ لِأَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي شَيْءٌ من الثَّمَنِ فَكَانَ تَحْلِيفُهُ مُفِيدًا
وَأَمَّا تَحْلِيفُ الْمُشْتَرِي فَمُشْكِلٌ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ شيئا لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ بَعْدَ الْحَلِفِ بِكُلِّ الثَّمَنِ وَهَذَا فِيمَا إذَا اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ على الْبَائِعِ لِأَنَّهُ لَا يَحْلِفُ الْبَائِعُ بَلْ يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ لِأَنَّ تَحْلِيفَ الْبَائِعِ لَا يُفِيدُهُ شيئا حَيْثُ يَرُدُّهُ عليه
وَكَذَلِكَ لو كان الْمَبِيعُ مِمَّا يُكَالُ أو يُوزَنُ فَذَهَبَ بَعْضُهُ فَاخْتَلَفَا فقال الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي أنت أَكَلْت وقال الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ مِثْلَ ذلك إنه لَا يُقْبَلُ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على صَاحِبِهِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ ذَهَبَ بَعْضُهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لِمَا قُلْنَا وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ إنْ اخْتَارَ الْأَخْذَ أ
____________________

(5/248)


خذ الْبَاقِيَ بِمَا بَقِيَ من الثَّمَنِ لِأَنَّ الْقَدْرَ في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مَعْقُودٌ عليه فَكَانَ له حِصَّةٌ من الثَّمَنِ وَالْأَطْرَافُ من الْحَيَوَانِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَوْصَافِ فَلَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ إلَّا إذَا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالْقَبْضِ أو بِالْجِنَايَةِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَهُنَا أَيْضًا أَنَّهُ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على دَعْوَى صَاحِبِهِ وَيَأْخُذُ وَلَا إشْكَالَ هَهُنَا في تَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ التَّحْلِيفَ مُفِيدٌ في حَقِّهِ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عليه كُلَّ الثَّمَنِ وهو يُنْكِرُ فَيَنْدَفِعُ عنه لُزُومُ كل الثَّمَنِ بِالْحَلِفِ فَكَانَ مُفِيدًا
وَأَمَّا تَحْلِيفُ الْبَائِعِ فَفِيهِ إشْكَالٌ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي عليه سُقُوطَ بَعْضِ الثَّمَنِ وَذَا حَاصِلٌ له من غَيْرِ تَحْلِيفِهِ فلم يَكُنْ تَحْلِيفُهُ مُفِيدًا في حَقِّهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْلِفَ
وَإِنْ اخْتَارَ الرَّدَّ على الْبَائِعِ حَلَفَ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ دُونَ الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهَا قَامَتْ على أَمْرٍ جَائِزِ الْوُجُودِ وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ
أَلَا تَرَى أنها تُوجِبُ دُخُولَ السِّلْعَةِ في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَتُقَرِّرُ الثَّمَنَ عليه وَبَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي نَافِيَةٌ فَالْمُثْبِتَةُ أَوْلَى
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا ثُبُوتُ حَقِّ الْحَبْسِ لِلْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في قَوْلٍ يُسَلَّمَانِ مَعًا وفي قَوْلٍ يُسَلَّمُ الْمَبِيعُ أَوَّلًا ثُمَّ يُسَلَّمُ الثَّمَنُ
أَمَّا قَوْلُهُ الْأَوَّلُ فَبِنَاءً على أَصْلِهِ الذي ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وهو أَنَّ الثَّمَنَ وَالْمَبِيعَ من الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ عِنْدَهُ وَيَتَعَيَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّعْيِينِ فَكَانَ كُلُّ ثَمَنٍ مَبِيعًا وَكُلُّ مبيعا ( ( ( مبيع ) ) ) ثَمَنًا
وَأَمَّا قَوْلُهُ الثَّانِي وهو أَنَّ في تَقْدِيمِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ صِيَانَةَ الْعَقْدِ عن الِانْفِسَاخِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ وَلَيْسَ ذلك في تَقْدِيمِ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ لو هَلَكَ الْمَبِيعُ قبل الْقَبْضِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَإِنْ قَبَضَ الثَّمَنَ فَكَانَ تَقْدِيمُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ أَوْلَى صِيَانَةً لِلْعَقْدِ عن الِانْفِسَاخِ ما أَمْكَنَ
وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الدَّيْنُ مَقْضِيٌّ وَصَفَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الدَّيْنَ بِكَوْنِهِ مَقْضِيًّا عَامًّا أو مُطْلَقًا فَلَوْ تَأَخَّرَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ عن تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لم يَكُنْ هذا الدَّيْنُ مَقْضِيًّا وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ
وَرُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال ثَلَاثٌ لَا يُؤَخَّرْنَ الْجِنَازَةُ إذَا حَضَرَتْ وَالْأَيِّمُ إذَا وَجَدَتْ لها كفء وَالدَّيْنُ إذَا وَجَدْتَ ما يَقْضِيهِ وَتَقْدِيمُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ تَأْخِيرُ الدَّيْنِ وإنه مَنْفِيٌّ بِظَاهِرِ النَّصِّ وَلِأَنَّ الْمُعَاوَضَاتِ مَبْنَاهَا على الْمُسَاوَاةِ عَادَةً وَحَقِيقَةً وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ إلَّا بِتَقْدِيمِ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مُتَعَيِّنٌ قبل التَّسْلِيمِ وَالثَّمَنَ لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ على أَصْلِنَا فَلَا بُدَّ من تَسْلِيمِهِ أَوَّلًا تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ
وَقَوْلُهُ فِيمَا قُلْتَهُ صِيَانَةٌ لِلْعَقْدِ عن الِانْفِسَاخِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ
قُلْنَا هَلَاكُهُ قبل تَسْلِيمِ الثَّمَنِ نَادِرٌ وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فَيَلْزَمُ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْمُسَاوَاةِ ثُمَّ الْكَلَامُ في هذا الْحُكْمِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ شَرْطِ ثُبُوتِ هذا الْحُكْمِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَبْطُلُ بِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ
أَمَّا شَرْطُ ثُبُوتِهِ فَشَيْئَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ عَيْنًا وَالْآخَرُ دَيْنًا فَإِنْ كَانَا عَيْنَيْنِ أو دَيْنَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحَبْسِ بَلْ يُسَلَّمَانِ مَعًا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ حَالًّا فَإِنْ كان مُؤَجَّلًا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحَبْسِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْحَبْسِ تَثْبُتُ حَقًّا لِلْبَائِعِ لطلبة الْمُسَاوَاةَ عَادَةً لِمَا بَيَّنَّا وَلَمَّا بَاعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَبَطَلَتْ الْوِلَايَةُ
وَلَوْ كان الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا في الْعَقْدِ فلم يَقْبِضْ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ حتى حَلَّ الْأَجَلُ فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ بِالتَّأْجِيلِ وَالسَّاقِطُ متلاشي ( ( ( متلاش ) ) ) فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ
وَكَذَلِكَ لو طَرَأَ الْأَجَلُ على الْعَقْدِ بِأَنْ أُخِّرَ الثَّمَنُ بَعْدَ الْعَقْدِ فلم يَقْبِضْ الْبَائِعُ حتى حَلَّ الْأَجَلُ له أَنْ يَقْبِضَهُ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ وَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ حَبْسَهُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ بَاعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فلم يَقْبِضْ الْمُشْتَرِي حتى حَلَّ الْأَجَلُ هل له أَجَلٌ آخَرُ في الْمُسْتَقْبَلِ
يُنْظَرُ إنْ ذَكَرَا أَجَلًا مُطْلَقًا بِأَنْ ذَكَرَا سَنَةً مُطْلَقَةً غير مُعَيَّنَةٍ فَلَهُ أَجَلٌ آخَرُ هو سَنَةٌ أُخْرَى من حِينِ يَقْبِضُ الْمَبِيعَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الثَّمَنُ حَالٌ وَلَيْسَ له أَجَلٌ آخَرُ
وَإِنْ ذَكَرَا أَجَلًا بِعَيْنِهِ بِأَنْ بَاعَهُ إلَى رَمَضَانَ فلم يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي حتى مَضَى رَمَضَانُ صَارَ الثَّمَنُ حَالًا بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ السَّنَةَ الْمُطْلَقَةَ تَنْصَرِفُ إلَى سَنَةٍ تَعْقُبُ الْعَقْدَ بِلَا فَصْلٍ فإذا مَضَتْ انْتَهَى الْأَجَلُ كما لو عُيِّنَ الْأَجَلُ نَصًّا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأَصْلَ في الثَّمَنِ شُرِعَ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي لِيَنْتَفِعَ بِالْمَبِيعِ في الْحَالِ مع تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ وَلَنْ يَحْصُلَ هذا الْغَرَضُ له إلَّا وَأَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ الْأَجَلِ من وَقْتِ قَبْضِ الْمَبِيعِ فَكَانَ هذا تَأْجِيلًا من هذا الْوَقْتِ دَلَالَةً بِخِلَافِ ما إذَا عَيَّنَ الْأَجَلَ لِأَنَّهُ نَصَّ على تَعَيُّنِهِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْمَنْصُوصِ عليه إذْ لَا دَلَالَةَ مع النَّصِّ بِخِلَافِهَا
وَلَوْ كان في الْبَيْعِ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُمَا أو لِأَحَدِهِمَا وَالْأَجَلُ مُطْلَقٌ فَابْتِدَاءُ الْأَجَلِ من حِينِ وُجُوبِ الْعَقْدِ
____________________

(5/249)


وهو وَقْتُ سُقُوطِ الْخِيَارِ لَا من حِينِ وُجُودِهِ لِأَنَّ تَأْجِيلَ الثَّمَنِ هو تَأْخِيرُهُ عن وَقْتِ وُجُوبِهِ وَوَقْتُ وُجُوبِهِ هو وَقْتُ الْعَقْدِ وَانْبِرَامِهِ لَا قَبْلَهُ إذْ لَا وُجُوبَ لِلثَّمَنِ قَبْلَهُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْحَبْسِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وما لَا يَبْطُلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إذَا أَخَّرَ الثَّمَنَ بَعْدَ الْعَقْدِ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ أَخَّرَ حَقَّ نَفْسِهِ في قَبْضِ الثَّمَنِ فَلَا يَتَأَخَّرُ حَقُّ الْمُشْتَرِي في قَبْضِ الْمَبِيعِ
وَكَذَا الْمُشْتَرِي إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ كُلَّهُ أو أَبْرَأَهُ الْبَائِعُ عن كُلِّهِ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ وَاسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ وَلَا ثَمَنَ مُحَالٌ
وَلَوْ نَقَدَ الثَّمَنَ كُلَّهُ إلَّا دِرْهَمًا كان له حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ جَمِيعِهِ لِاسْتِيفَاءِ الْبَاقِي لِأَنَّ الْمَبِيعَ في اسْتِحْقَاقِ الْحَبْسِ بِالثَّمَنِ لَا يَتَجَزَّأُ فَكَانَ كُلُّ الْمَبِيعِ مَحْبُوسًا بِكُلِّ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الثَّمَنِ
وَكَذَلِكَ لو بَاعَ شَيْئَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا فَنَقَدَ الْمُشْتَرِي حِصَّةَ أَحَدِهِمَا كان لِلْبَائِعِ حَبْسُهُمَا حتى يَقْبِضَ حَقَّ الْآخَرِ لِمَا قُلْنَا وَلِأَنَّ قَبْضَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ في حَقِّ الْقَبْضِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ في حَقِّ الْقَبُولِ بِأَنْ يَقْبَلَ الْإِيجَابَ في أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَلَا يَمْلِكُ التَّفْرِيقَ في حَقِّ الْقَبْضِ أَيْضًا لِأَنَّ القبض ( ( ( للقبض ) ) ) شِبْهًا بِالْعَقْدِ
وَكَذَلِكَ لو أَبْرَأَهُ من حِصَّةِ أَحَدِهِمَا فَلَهُ حَبْسُ الْكُلِّ لِاسْتِيفَاءِ الْبَاقِي لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَلِكَ لو بَاعَ من اثْنَيْنِ فَنَقَدَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ كان له حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حتى يَقْبِضَ ما على الْآخَرِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ في النَّوَادِرِ أَنَّهُ إذَا نَقَدَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ الثَّمَنِ يَأْخُذُ نِصْفَ الْمَبِيعِ
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَاجِبَ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الثَّمَنِ فإذا أَدَّى النِّصْفَ فَقَدْ أَدَّى ما وَجَبَ عليه فَلَا مَعْنَى لِتَوَقُّفِ حَقِّهِ في قَبْضِ الْمَبِيعِ على أَدَاءِ صَاحِبِهِ وَلِأَنَّهُ لو تَوَقَّفَ وَصَاحِبُهُ مُخْتَارٌ في الْأَدَاءِ قد يُؤَدِّي وقد لَا يُؤَدِّي فَيَفُوتُ حَقُّهُ أَصْلًا وَرَأْسًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِهَذَا جُعِلَ التَّخْلِيَةُ وَالتَّخَلِّي تَسْلِيمًا وَقَبْضًا في الشَّرْعِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَبِيعَ في حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ لِحَبْسِ الثَّمَنِ لَا يَحْتَمِلُ التجزي ( ( ( التجزؤ ) ) ) فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ بَعْضِهِ اسْتِحْقَاقَ كُلِّهِ وما ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ فَلَا تَحْتَمِلُ التَّفْرِيقَ في الْبَعْضِ كما لَا تَحْتَمِلُهُ في الْقَبُولِ فَإِنْ غَابَ أَحَدُهُمَا لم يُجْبَرْ الْآخَرُ على تَسْلِيمِ كل الثَّمَنِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الثَّمَنِ لَا كُلُّهُ فَلَا يُؤَاخَذُ بِتَسْلِيمِ كُلِّهِ فَإِنْ اخْتَارَ الْحَاضِرُ ذلك وَنَقَدَ كُلَّ الثَّمَنِ وَقَبَضَ الْمَبِيعَ هل يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا تقدم ( ( ( نقد ) ) ) أَمْ لَا أخلف ( ( ( اختلف ) ) ) فيه قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا نَقَدَ وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ عن الشَّرِيكِ الْغَائِبِ حتى يَسْتَوْفِيَ ما نَقَدَ عنه
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هو مُتَبَرِّعٌ في حِصَّتِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا كما في سَائِرِ الدُّيُونِ وَلَهُمَا أَنَّهُ قَضَى دَيْنَ صَاحِبِهِ بِأَمْرِهِ دَلَالَةً فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا كما لو قَضَاهُ بِأَمْرِهِ نَصًّا
وَدَلَالَةُ ذلك أَنَّهُ لَمَّا غَابَ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ مع عِلْمِهِ أَنَّ صَاحِبَهُ اسْتَحَقَّ قَبْضَ نَصِيبِهِ من الْمَبِيعِ بِتَسْلِيمِ حِصَّتِهِ من الثَّمَنِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بِتَسْلِيمِ كل الثَّمَنِ كان إذْنًا له بِتَسْلِيمِ حِصَّتِهِ من الثَّمَنِ فَكَانَ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ دَلَالَةً فلم يَكُنْ مُتَطَوِّعًا وَصَارَ هذا كَمَنْ أَعَارَ مَالَهُ إنْسَانًا لِيَرْهَنَهُ بِدَيْنِهِ فَرَهَنَ ثُمَّ أفتكه الْغَيْرُ من مَالِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ تبرعا ( ( ( متبرعا ) ) ) وَيَرْجِعُ على الرَّاهِنِ لِأَنَّ الرَّاهِنَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ عَلَّقَ مَالَ الْغَيْرِ بِدَيْنِهِ وَلَا يَزُولُ الْعُلُوقُ إلَّا بِانْفِكَاكِهِ فَكَانَ ادنا ( ( ( إذنا ) ) ) له بِالْفِكَاكِ دَلَالَةً كَذَا هذا وَلَهُ حَقُّ حَبْسِ الْعَبْدِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ ما نَقَدَ عنه كما لو نَقَدَ بِأَمْرِهِ نَصًّا وَلَوْ أَدَّى جَمِيعَ الثَّمَنِ وَقَبَضَ الْعَبْدَ ثُمَّ هَلَكَ في يَدِهِ قبل الْحَبْسِ يَرْجِعُ على شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ أَدَّى عنه بِأَمْرِهِ دَلَالَةً على ما ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَالرَّهْنُ بِالثَّمَنِ وَالْكَفَالَةُ بِهِ لَا يُبْطِلَانِ حَقَّ الْحَبْسِ لِأَنَّهُمَا لَا يُسْقِطَانِ الثَّمَنَ عن ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي وَلَا حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِهِ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَعْيِينِهِ بِالْقَبْضِ قَائِمَةً فَيَبْقَى حَقُّ الْحَبْسِ لِاسْتِيفَائِهِ وَأَمَّا الْحَوَالَةُ بِالثَّمَنِ فَهَلْ تُبْطِلُ حَقَّ الْحَبْسِ قال أبو يُوسُفَ تُبْطِلُ سَوَاءٌ كانت الْحَوَالَةُ من الْمُشْتَرِي بِأَنْ أَحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ على إنْسَانٍ وَقَبِلَ الْمُحَالُ عليه الْحَوَالَةَ أو من الْبَائِعِ بِأَنْ أَحَالَ الْبَائِعُ غَرِيمًا له على الْمُشْتَرِي
وقال مُحَمَّدٌ إنْ كانت الْحَوَالَةُ من الْمُشْتَرِي لَا تَبْطُلُ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ حتى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ من الْمُحَالِ عليه وَإِنْ كانت من الْبَائِعِ فَإِنْ كانت مُطْلَقَةً لَا تَبْطُلُ أَيْضًا وَإِنْ كانت مُقَيَّدَةً بِمَا عليه تَبْطُلُ فَأَبُو يُوسُفَ أَرَادَ بَقَاءَ الْحَبْسِ على بَقَاءِ الدَّيْنِ في ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي وَذِمَّتُهُ بَرِئْت من دَيْنِ الْمُحِيلِ بِالْحَوَالَةِ فَيَبْطُلُ حَقُّ الْحَبْسِ وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ بَقَاءَ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِبَقَاءِ حَقِّ الْحَبْسِ وَحَقُّ الْمُطَالَبَةِ لم يَبْطُلْ بِحَوَالَةِ
____________________

(5/250)


الْمُشْتَرِي
أَلَا تَرَى أَنَّ له أَنْ يُطَالِبَ الْمُحَالَ عليه فلم يَبْطُلْ حَقُّ الْحَبْسِ وَبَطَلَتْ حَوَالَةُ الْبَائِعِ إذَا كانت مُقَيَّدَةً بِمَا على الْمُحَالِ عليه فَبَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ
وَالصَّحِيحُ اعْتِبَارُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ في الشَّرْعِ يَدُورُ مع حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ لَا مع قِيَامِ الثَّمَنِ في ذَاتِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الثَّمَنَ إذَا كان مُؤَجَّلًا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحَبْسِ وَالثَّمَنُ في ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي قَائِمٌ وَإِنَّمَا سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ دَلَّ أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ يَتْبَعُ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ لَا قِيَامُ الثَّمَنِ في ذَاتِهِ وَحَقَّ الْمُطَالَبَةِ في حَوَالَةِ الْمُشْتَرِي وَحَوَالَةُ الْبَائِعِ إذَا كانت مُطْلَقَةً فَكَانَ حَقُّ الْحَبْسِ ثَابِتًا وفي حَوَالَةِ الْبَائِعِ إذَا كانت مُقَيَّدَةً يَنْقَطِعُ فلم يَنْقَطِعْ حَقُّ الْحَبْسِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا أَحَالَ الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ بِدَيْنِهِ على رَجُلٍ أو أَحَالَ الْمُرْتَهِنُ غَرِيمًا له بِدَيْنِهِ على الرَّاهِنِ حَوَالَةً مُطْلَقَةً أو مُقَيَّدَةً أَنَّهُ يَبْطُلُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ في حَقِّ حَبْسِ الرَّهْنِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَبْطُلُ في حَوَالَةِ الرَّاهِنِ
وَكَذَا في حَوَالَةِ الْمُرْتَهِنِ إذَا كانت مُطْلَقَةً وَإِنْ كانت مُقَيَّدَةً تَبْطُلُ
وَلَوْ أَعَارَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي أو أَوْدَعَهُ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ حتى لَا يَمْلِكَ اسْتِرْدَادَهُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ عَقْدَ الْإِعَارَةِ وَالْإِيدَاعِ ليس بِعَقْدٍ لَازِمٍ فَكَانَ له وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ كَالْمُرْتَهِنِ إذَا أَعَارَ الرَّهْنَ من الرَّاهِنِ أو أَوْدَعَهُ إيَّاهُ له أَنْ يَسْتَرِدَّهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِعَارَةَ وَالْإِيدَاعَ أَمَانَةٌ في يَدِ الْمُشْتَرِي وهو لَا يَصْلُحُ نَائِبًا عن الْبَائِعِ في الْيَدِ لِأَنَّهُ أَصْلٌ في الْمِلْكِ فَكَانَ أَصْلًا في الْيَدِ فإذا وَقَعَتْ الْعَارِيَّةُ أو الْوَدِيعَةُ في يَدِهِ وَقَعَتْ بِجِهَةِ الْأَصَالَةِ وَهِيَ يَدُ الْمِلْكِ وَيَدُ الْمِلْكِ يَدٌ لَازِمَةٌ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهَا بِالِاسْتِرْدَادِ وَبِخِلَافِ الرَّهْنِ فإن الْمُرْتَهِنَ في الْيَدِ الثَّابِتَةِ بِعَقْدِ الرَّهْنِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ فَيُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْإِنَابَةِ وَيَدُ النِّيَابَةِ لَا تَكُونُ لَازِمَةً فَمَلَكَ الِاسْتِرْدَادَ
وَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ حتى لَا يَمْلِكَ الِاسْتِرْدَادَ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ حَقَّهُ بِالْإِذْنِ بِالْقَبْضِ وَلَوْ قَبَضَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لم يَبْطُلْ وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ لِأَنَّ حَقَّ الْإِنْسَانِ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ عليه من غَيْرِ رِضَاهُ
وَلَوْ كان الْمُشْتَرِي تَصَرَّفَ فيه نُظِرَ في ذلك إنْ كان تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ والأمهار فَسَخَهُ وَاسْتَرَدَّهُ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ وَإِنْ كان تَصَرُّفًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ لِأَنَّ الِاسْتِرْدَادَ وَالْإِعَارَةَ إلَى الْحَبْسِ إمَّا إن كان مع نَقْضِ هذه التَّصَرُّفَاتِ وَإِمَّا إن كان مع قِيَامِهَا لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ هذه التَّصَرُّفَاتِ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّهَا إذَا بَقِيَتْ كانت الْإِعَادَةُ إلَى الْحَبْسِ حَبْسَ الْجُزْءِ من كل وَجْهٍ أو من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَكُلُّ ذلك لَا يَجُوزُ فَبَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ أَصْلًا وَلَوْ نَقَدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ فَوَجَدَهُ الْبَائِعُ زُيُوفًا أو سُتُّوقًا أو مُسْتَحَقًّا أو وَجَدَ بَعْضَهُ كَذَلِكَ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ الْمَبِيعَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لم يَقْبِضْ فَإِنْ كان لم يَقْبِضْهُ كان له حَقُّ الْحَبْسِ في الْفُصُولِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ما استوفي حَقَّهُ وَإِنْ كان قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي يُنْظَرُ إنْ كان قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ في الْفُصُولِ كُلِّهَا لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ إنْ كان الْمُشْتَرِي تَصَرَّفَ في الْمَبِيعِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ تَصَرُّفَهُ وَيَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ إلَّا إذَا كان تَصَرُّفًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلَا يُفْسَخُ وَيُطَالَبُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ فَلَوْ نَقَدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ قبل أَنْ يَفْسَخَ التَّصَرُّفَ الذي يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا يُفْسَخُ لِأَنَّهُ لَمَّا نَقَدَ الثَّمَنَ فَقَدْ بَطَلَ حَقُّهُ في الْحَبْسِ فَبَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ وَالِاسْتِرْدَادِ وَإِنْ كان قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ يُنْظَرُ إنْ وَجَدَهُ زُيُوفًا فَرَدَّهَا لَا يَمْلِكُ اسْتِرْدَادَ الْمَبِيعِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ له أَنْ يَسْتَرِدَّ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْبَائِعَ ما رضي بِزَوَالِ حَقِّ الْحَبْسِ إلَّا بِوُصُولِ حَقِّهِ إلَيْهِ وَحَقُّهُ في الثَّمَنِ السَّلِيمِ لَا في الْمَعِيبِ فإذا وَجَدَهُ مَعِيبًا فلم يُسَلَّمْ له حَقُّهُ فَكَانَ له أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ حتى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَالرَّاهِنِ إذَا قضي دَيْنَ الْمُرْتَهِنِ وَقَبَضَ الرَّهْنَ ثُمَّ إنَّ الْمُرْتَهِنَ وَجَدَ الْمَقْبُوضَ زُيُوفًا كان له أَنْ يَرُدَّهُ وَيَسْتَرِدَّ الرَّهْنَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ الْبَائِعَ يُسَلِّمُ الْمَبِيعَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ جِنْسِ حَقِّهِ فَلَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ بَعْدَ ما اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَدَلَالَةُ ذلك أَنَّ الزُّيُوفَ جِنْسُ حَقِّهِ من حَيْثُ الْأَصْلُ وَإِنَّمَا الْفَائِتُ صِفَةُ الْجَوْدَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو تَجَوَّزَ بِهِ في الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ جَازَ وَلَوْ لم يَكُنْ من جِنْسِ حَقِّهِ لَمَا جَازَ لِأَنَّهُ يَكُونُ اسْتِبْدَالًا بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وإذا كان الْمَقْبُوضُ جِنْسَ حَقِّهِ فَتَسَلُّمُ الْمَبِيعِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ جِنْسِ الْحَقِّ يَمْنَعُ من الِاسْتِرْدَادِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ لِأَنَّ الِارْتِهَانَ اسْتِيفَاءٌ لِحَقِّهِ من الرَّهْنِ وَالِافْتِكَاكَ إيفَاءٌ من مَالٍ آخَرَ فإذا وُجِدَ زُيُوفًا تَبَيَّنَ أَنَّهُ ما استوفي حَقَّهُ
____________________

(5/251)


فَكَانَ له وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ
وَالدَّلِيلُ على التَّفْرِقَةِ بين الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ أَنَّهُ لو أَعَارَ الْمَبِيعَ الْمُشْتَرِي بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ حتى لَا يَمْلِكَ اسْتِرْدَادَهُ وَلَوْ أَعَارَ الْمَرْهُونَ الرَّاهِنُ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْحَبْسِ وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ فَإِنْ وَجَدَهُ سُتُّوقًا أو رَصَاصًا أو مُسْتَحَقًّا وَأَخَذَ منه له أَنْ يَرُدَّ بِخِلَافِ الزُّيُوفِ لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا أَذِنَ لِلْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ على أَنَّهُ استوفي حَقَّهُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَسْتَوْفِ أَصْلًا وَرَأْسًا لِأَنَّ السَّتُّوقَ وَالرَّصَاصَ لَيْسَا من جِنْسِ حَقِّهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو تَجَوَّزَ بها في الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كان الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ على تَقْدِيرِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ وقد تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَسْتَوْفِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَكُنْ آذِنًا له بِالْقَبْضِ وَلَا رَاضِيًا بِهِ فَكَانَ له وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ
وَلَوْ كان الْمُشْتَرِي تَصَرَّفَ فيه فَلَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ عليه سَوَاءٌ كان تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا أو لَا يَكُونُ كَالْإِعْتَاقِ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ ما إذَا قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ وَتَصَرَّفَ فيه تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ أَنَّهُ يُفْسَخُ وَيُسْتَرَدُّ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يُوجَدْ الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ فَكَانَ التَّصَرُّفُ في الْمَبِيعِ إبْطَالًا لِحَقِّهِ فَيُرَدُّ عليه إذَا كان مُحْتَمِلًا لِلرَّدِّ
وَهَهُنَا وُجِدَ الأذن بِالْقَبْضِ فَكَانَ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي حَاصِلًا عن تَسْلِيطِ الْبَائِعِ فَنَفَذَ وَبَطَلَ حَقُّهُ في الِاسْتِرْدَادِ كَالْمَقْبُوضِ على وَجْهِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا تَصَرَّفَ فيه الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَبْطُلُ حَقُّ الْبَائِعِ في الْفَسْخِ إلَّا أَنَّ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا أَجَّرَ الْمَبِيعَ تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ وَهَهُنَا لَا تُفْسَخُ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُفْسَخُ بِالْعُذْرِ وقد تَحَقَّقَ الْعُذْرُ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقُّ الْفَسْخِ حَقًّا لِلشَّرْعِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ فَجُعِلَ اسْتِحْقَاقُ الْفَسْخِ بِسَبَبِ الْفَسَادِ عُذْرًا في فَسْخِ الْإِجَارَةِ وَلَا فَسَادَ هَهُنَا فَلَا عُذْرَ في الْفَسْخِ فَلَا يُفْسَخُ
وَلَوْ كان مَكَانَ الْبَيْعِ كِتَابَةٌ فَأَدَّى الْمُكَاتَبُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَعَتَقَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَوْلَى الْمَقْبُوضَ زُيُوفًا أو مُسْتَحَقًّا فَالْعِتْقُ مَاضٍ فَإِنْ وَجَدَهُ سُتُّوقًا أو رَصَاصًا لَا يَعْتِقُ مما ذَكَرْنَا أَنَّ الزُّيُوفَ من جِنْسِ حَقِّهِ فَصَارَ بِقَبْضِهَا قَابِضًا أَصْلَ حَقِّهِ وَكَذَا قَبْضُ الدَّرَاهِمِ الْمُسْتَحَقَّةِ وَقَعَ صَحِيحًا ظَاهِرًا وَاحْتِمَالُ الْإِجَازَةِ بَعْدَ ظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ ثَابِتٌ أَيْضًا وَالْعِتْقُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ظَاهِرًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِخِلَافِ ما إذَا وَجَدَهَا سُتُّوقًا أو رَصَاصًا لِأَنَّ ذلك ليس من جِنْسِ حَقِّهِ أَصْلًا وَرَأْسًا فلم يُوجَدْ أو أَبْدَلَ الْكِتَابَةَ فَلَا يَعْتِقُ يُحَقِّقُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا إذَا حَلَفَ لَا يُفَارِقُ غريمه حتى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فَقَبَضَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَقْبُوضَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ زُيُوفًا أو مُسْتَحَقًّا فَرَدَّ الزُّيُوفَ أو أَخَذَ الْمَالِكُ الْمُسْتَحَقَّةَ بَرَّ في يَمِينِهِ وَإِنْ وَجَدَهُ سُتُّوقًا أو رَصَاصًا حَنِثَ في يَمِينِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ ثُمَّ أَفْلَسَ أو مَاتَ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ أو بَعْدَ ما نَقَدَ منه شيئا وَعَلَيْهِ دُيُونٌ لِأُنَاسٍ شَتَّى هل يَكُونُ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِهِ من سَائِرِ الْغُرَمَاءِ اُخْتُلِفَ فيه قال أَصْحَابُنَا لَا يَكُونُ له بَلْ الْغُرَمَاءُ كلهم أُسْوَةٌ فيه فَيُبَاعُ وَيُقَسَّمُ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْبَائِعُ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ قَبَضَهُ حتى أَفْلَسَ أو مَاتَ فَإِنْ كان الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا فَهُوَ على هذا الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كان حَالًّا فَالْبَائِعُ أَحَقُّ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي فَوَجَدَ الْبَائِعُ مَتَاعَهُ عِنْدَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ وَلِأَنَّ الْعَجْزَ عن تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ يُوجِبُ حَقَّ الْفَسْخِ لِلْمُشْتَرِي بِالْإِجْمَاعِ فإن من بَاعَ عَبْدًا فَأَبَقَ قبل الْقَبْضِ أو غُصِبَ أو كانت دَابَّةً فَضَلَّتْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ وَالْعَجْزُ عن تَسْلِيمِ الثَّمَنِ يُوجِبُ الْفَسْخَ لِلْبَائِعِ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَمَبْنَى الْمُعَاوَضَاتِ على الْمُسَاوَاةِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال من بَاعَ بَيْعًا فَوَجَدَهُ وقد أَفْلَسَ الرَّجُلُ فَهُوَ مَالُهُ بين غُرَمَائِهِ وَهَذَا نَصٌّ وهو عَيْنُ مَذْهَبِنَا وَلِأَنَّ الْبَائِعَ لم يَكُنْ له حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حَالَ كَوْنِ الْمُشْتَرِي حَيًّا مَلِيًّا فَلَا يَكُونُ أَحَقَّ بِثَمَنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِفْلَاسِهِ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْمَبِيعِ قَائِمٌ مَقَامَهُ وَاعْتِبَارُ الثَّمَنِ بِالْمَبِيعِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا مُفَارَقَةً في الْأَحْكَامِ
أَلَا تَرَى أَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ وَمِلْكَ الثَّمَنِ ليس بشرط ( ( ( شرطا ) ) ) فإنه لو اشْتَرَى شيئا بِدَرَاهِمَ لَا يَمْلِكُهَا جَازَ
وَلَوْ بَاعَ شيئا لَا يَمْلِكُهُ لَا يَجُوزُ وَكَذَا لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ في الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ وَالتَّصَرُّفُ في الثَّمَنِ قبل الْقَبْضِ جَائِزٌ وَغَيْرُ ذلك من الْأَحْكَامِ فَكَانَ اعْتِبَارُ الثَّمَنِ بِالْمَبِيعِ على الْإِطْلَاقِ فاسد ( ( ( فاسدا ) ) ) وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على ما إذَا قَبَضَ الْمَبِيعَ بِغَيْرِ إذْنِ البايع وَعِنْدَنَا الْبَائِعُ أَحَقُّ بِهِ في هذه الْحَالَةِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِفْلَاسَ وَإِنْ كان حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لَا يَتَقَيَّدُ بِهِ لِأَنَّ الْمَلِيءَ يَتَمَكَّنُ من دَفْعِ الِاسْتِرْدَادِ بِنَقْدِ الثَّمَنِ وَالْمُفْلِسُ لَا يَتَمَكَّنُ من ذلك فَكَانَ ذِكْرُ الْإِفْلَاسِ مفيدا ( ( ( مقيدا ) ) ) فَحَمَلْنَاهُ على ما قُلْنَا تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ

____________________

(5/252)


وَمِنْهَا وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ في شِرَاءِ الْجَارِيَةِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ نَوْعَانِ نَوْعٌ هو مَنْدُوبٌ وَنَوْعٌ هو وَاجِبٌ
أَمَّا الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ فَهُوَ اسْتِبْرَاءُ الْبَائِعِ إذَا وطىء جَارِيَةً وَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا أو يُخْرِجَهَا عن مِلْكِهِ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هو وَاجِبٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ شَغْلُ الرَّحِمِ بِمَاءِ الْبَائِعِ فَيَلْزَمُهُ التَّعَرُّفُ عن ذلك بِالِاسْتِبْرَاءِ كما في جَانِبِ الْمُشْتَرِي
وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ لم يُوجَدْ في حَقِّ الْبَائِعِ على ما نَذْكُرُ وَالِاعْتِبَارُ بِالْمُشْتَرِي غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عليه لِصِيَانَةِ مَائِهِ عن الِاخْتِلَاطِ بِمَاءِ الْبَائِعِ وَالْخَلْطُ يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَا بِفِعْلِ الْبَائِعِ فَتَجِبُ الصِّيَانَةُ عليه بِالِاسْتِبْرَاءِ لَا على الْبَائِعِ إلَّا أَنَّهُ يُنْدَبُ إلَيْهِ لِتَوَهُّمِ اشْتِغَالِ رَحِمِهَا بِمَائِهِ فَيَكُونُ الْبَيْعُ قبل الِاسْتِبْرَاءِ مُبَاشَرَةً شَرْطَ الِاخْتِلَاطِ فَكَانَ الِاسْتِبْرَاءُ مُسْتَحَبًّا
وَكَذَا إذَا وطىء أَمَتَهُ أو مُدَبَّرَتَهُ أو أُمَّ ولد ( ( ( ولده ) ) ) له ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا من غَيْرِهِ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَفْعَلَ حتى يَسْتَبْرِئَهَا لِمَا قُلْنَا وإذا زَوَّجَهَا قبل الِاسْتِبْرَاءِ أو بَعْدَهُ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا من غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَبُّ إلى أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ وَلَسْتُ أُوجِبُهُ عليه وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إذَا رَأَى امْرَأَةً تَزْنِي ثُمَّ تَزَوَّجَهَا له أَنْ يَطَأَهَا من غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ
وقال مُحَمَّدٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَطَأَهَا حتى يَسْتَبْرِئَهَا وَيَعْلَمَ فَرَاغَ رَحِمِهَا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الِاسْتِبْرَاءُ الْوَاجِبُ فَهُوَ اسْتِبْرَاءُ الْمُشْتَرِي وَكُلُّ من حَدَثَ له حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْجَارِيَةِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا وَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ وُجُوبِ هذا النَّوْعِ من الِاسْتِبْرَاءِ وفي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ ما يَقَعُ بِهِ من الِاسْتِبْرَاءُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال في سَبَايَا أَوْطَاسٍ أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حتى يَضَعْنَ وَلَا الحبالى ( ( ( الحيالى ) ) ) حتى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ وَالنَّصُّ الْوَارِدُ في السَّبْيِ يَكُونُ وَارِدًا في سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ دَلَالَةً لأن الِاسْتِبْرَاءَ طَلَبُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وإنه وَاجِبٌ على الْمُشْتَرِي لِأَنَّ بِهِ يَقَعُ الصِّيَانَةُ عن الْخَلْطِ وَالْخَلْطُ حَرَامٌ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من كان يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِيَنَّ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ وَالصِّيَانَةُ عن الْحَرَامِ تَكُونُ وَاجِبَةً وَلَا تَقَعُ الصِّيَانَةُ إلَّا بِالِاسْتِبْرَاءِ فَيَكُونُ وَاجِبًا ضَرُورَةً فَلَا يَحِلُّ له وَطْؤُهَا قبل الِاسْتِبْرَاءِ وَلَا أَنْ يَلْمِسَهَا بِشَهْوَةٍ أو يَنْظُرَ إلَى فَرْجِهَا عن شَهْوَةٍ لِأَنَّ كُلَّ ذلك دَاعٍ إلَى الْوَطْءِ وَالْوَطْءُ إذَا حَرُمَ حَرُمَ بِدَوَاعِيهِ كما في بَابِ الظِّهَارِ وَغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْحَائِضِ حَيْثُ لم تُحَرَّمْ الدَّوَاعِي منها
لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَاكَ ليس هو الْوَطْءُ بَلْ اسْتِعْمَالُ الْأَذَى وَالْوَطْءُ حَرَامٌ لِغَيْرِهِ وهو اسْتِعْمَالُ الْأَذَى وَلَا يَجُوزُ ذلك في الدَّوَاعِي فَلَا يَجُوزُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا سَبَبُ وُجُوبِهِ فَهُوَ
____________________

(5/253)


حُدُوثِ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ لهم قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَتَسَرَّى الْعَبْدُ وَلَا يُسَرِّيهِ مَوْلَاهُ وَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ وَلَا الْمُكَاتَبُ شيئا إلَّا الطَّلَاقَ
وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً من عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ يَنْظُرُ إنْ لم يَكُنْ على الْعَبْدِ دَيْنٌ أَصْلًا أو عليه دَيْنٌ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ لَا يَجِبُ عليه أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا إذَا كانت حَاضَتْ عِنْدَ الْعَبْدِ ويجتزىء ( ( ( ويجتزئ ) ) ) بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ لِأَنَّ كَسْبَ الْمَأْذُونِ الذي لَا دَيْنَ عليه أو عليه دَيْنٌ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ مِلْكَ الْمَوْلَى فَقَدْ حَاضَتْ في مِلْكِ نَفْسِهِ فيجتزي ( ( ( فيجتزئ ) ) ) بها عن الِاسْتِبْرَاءِ وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ رَقَبَتَهُ وَكَسْبَهُ يَجِبُ عليه الِاسْتِبْرَاءُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجِبُ عليه بِنَاءً على أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَمْلِكُهُ
وَلَوْ تَبَايَعَا بَيْعًا صَحِيحًا ثُمَّ تَقَايَلَا فَإِنْ كانت الْإِقَالَةُ قبل الْقَبْضِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الِاسْتِبْرَاءُ على الْبَائِعِ وهو رِوَايَةُ أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجِبُ وهو رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ في حَقِّهِ وهو حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ حَقِيقَةً وَإِنْكَارُ الْحَقَائِقِ مُكَابَرَةٌ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الأقالة قبل الْقَبْضِ فَسْخٌ وَالْفَسْخُ رَفْعٌ من الْأَصْلِ وَإِعَادَةٌ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ كَأَنَّهُ لم يَزُلْ عن مِلْكِ الْبَائِعِ فلم يُوجَدْ السَّبَبُ مع ما أَنَّ الْمِلْكَ قبل الْقَبْضِ غَيْرُ مُتَأَكَّدٍ وَالتَّأْكِيدُ إثْبَاتٌ من وَجْهٍ فلم يَتَكَامَلْ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي فلم يَحْدُثْ مِلْكُ الْيَمِينِ لِلْبَائِعِ على الْإِطْلَاقِ فلم يَتَكَامَلْ السَّبَبُ وَإِنْ كانت الْإِقَالَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ يَجِبُ
أَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فَكَانَتْ اسْتِحْدَاثًا لِلْمِلْكِ مُطْلَقًا
وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنْ كان فَسْخًا لَكِنْ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ فَأَمَّا في حَقِّ ثَالِثٍ فَبَيْعٌ جَدِيدٌ وَالِاسْتِبْرَاءُ يَجِبُ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَاعْتُبِرَ حَقُّ الشَّرْعِ ثَالِثًا في حَقِّ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ احْتِيَاطًا
وَلَوْ رَدَّ الْجَارِيَةَ بِعَيْبٍ أو خِيَارِ رُؤْيَةٍ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ على الْبَائِعِ لِوُجُودِ السَّبَبِ وهو حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَخِيَارَ الْعَيْبِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي
وَأَمَّا الرَّدُّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ فَيُنْظَرُ فيه إنْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَلَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ خِيَارَهُ لَا يَمْنَعُ زَوَالَ السِّلْعَةِ عن مِلْكِهِ فلم يُوجَدْ حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ
وَإِنْ كان الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ على الْبَائِعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ سَوَاءٌ كان الرَّدُّ قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ بِنَاءً على أَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ دُخُولَ السِّلْعَةِ في مِلْكِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وإذا لم تَدْخُلْ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَإِنْ خَرَجَتْ عن مِلْكِ الْبَائِعِ فَلِأَنَّهَا لم تَخْرُجْ وَبَقِيَتْ على مِلْكِهِ فلم يُوجَدْ سَبَبُ الْوُجُوبِ
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَإِنْ كان الرَّدُّ قبل الْقَبْضِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ لِأَنَّهَا زَالَتْ عن مِلْكِ الْبَائِعِ وَدَخَلَتْ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي فإذا رُدَّتْ عليه فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ في حَقِّ الْبَائِعِ
وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجِبُ لِأَنَّ الرَّدَّ قبل الْقَبْضِ فَسْخٌ مَحْضٌ وَرَفْعٌ لِلْعَقْدِ من الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ وَإِنْ كان بَعْدَ الْقَبْضِ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِأَنَّهَا دَخَلَتْ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي
وَإِنْ كان الْمَبِيعُ فَاسِدًا فَفُسِخَ وَرُدَّتْ الْجَارِيَةُ إلَى الْبَائِعِ فَإِنْ كان قبل الْقَبْضِ فَلَا اسْتِبْرَاءَ على الْبَائِعِ لِأَنَّهَا على مِلْكِهِ فلم يَحْدُثْ له الْحِلُّ وَإِنْ كان بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ السَّبَبِ
ولو أَسَرَ الْعَدُوُّ الْجَارِيَةَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْمَالِكِ فَإِنْ كان قبل الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَا اسْتِبْرَاءَ على الْمَالِكِ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ وهو حُدُوثُ الْحِلِّ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ وَإِنْ كان بَعْدَ الأحراز بدراهم ( ( ( بدارهم ) ) ) وَجَبَ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَلَوْ أبقيت ( ( ( أبقت ) ) ) من دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَأَخَذَهَا الْكُفَّارُ ثُمَّ عَادَتْ إلَى صَاحِبِهَا بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ فَلَا اسْتِبْرَاءَ عليه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُمْ لم يَمْلِكُوهَا فلم يُوجَدْ السَّبَبُ وَعِنْدَهُمَا عليه الِاسْتِبْرَاءُ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا لِوُجُودِ السَّبَبِ
وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً مع غَيْرِهِ فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِمَا لِانْعِدَامِ السَّبَبِ وهو حُدُوثُ الْحِلِّ إذْ لَا تَحِلُّ لِأَحَدِهِمَا ولو اشْتَرَى جَارِيَةً وَلَهَا زَوْجٌ فَقَبَضَهَا وَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ قبل الدُّخُولِ بها فَلَا اسْتِبْرَاءَ على الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ السَّبَبُ وهو حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ وَقْتَ الشِّرَاءِ لِقِيَامِ فِرَاشِ الزَّوْجِ وَبَعْدَ زَوَالِ الفراس ( ( ( الفراش ) ) ) لم يَحْدُثْ سَبَبُ حُدُوثِ الْحِلِّ وهو مِلْكُ الْيَمِينِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ على قَوْلِ أبي يُوسُفَ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ على الْمُشْتَرِي
وَمِنْ هذا اسْتَخْرَجُوا لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ حِيلَةً وَهِيَ أَنْ يُزَوِّجَ الْبَائِعُ الْجَارِيَةَ مِمَّنْ يَجُوزُ له نِكَاحُهَا ولم يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَنَحْوَ ذلك من الشَّرَائِطِ ثُمَّ يَبِيعُهَا وَيُسَلِّمُهَا إلَى
____________________

(5/254)


الْمُشْتَرِي ثُمَّ يُطَلِّقُهَا الزَّوْجُ قبل الدُّخُولِ بها فَتَحِلُّ لِلْمُشْتَرِي من غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ وَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قبل الْقَبْضِ ثُمَّ قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي لَا يَحِلُّ له وَطْؤُهَا حتى يَسْتَبْرِئَهَا
وَحِيلَةٌ أُخْرَى لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ أَنْ يُزَوِّجَهَا الْبَائِعُ من الْمُشْتَرِي قبل الشِّرَاءِ وَالْمُشْتَرِي مِمَّنْ يَجُوزُ له نِكَاحُهَا بِأَنْ لم يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَنَحْوُ ذلك ثُمَّ يَشْتَرِيهَا فَيَفْسُدُ النِّكَاحُ وَيَحِلُّ له وَطْؤُهَا من غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ
وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّهُ يُسْقِطُ عنه جَمِيعَ الْمَهْرِ
وفي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ على الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ نِصْفُ الْمَهْرِ لِلْبَائِعِ فَيَحْتَاجُ إلَى إبْرَائِهِ عنه
وَلَوْ كانت الْجَارِيَةُ في عِدَّةٍ من زَوْجِهَا عِدَّةِ طَلَاقٍ أو عِدَّةِ وَفَاةٍ فَاشْتَرَاهَا وَقَبَضَهَا ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَا اسْتِبْرَاءَ عليه لِأَنَّ قِيَامَ الْعِدَّةِ بِمَنْزِلَةِ قِيَامِ النِّكَاحِ
وَلَوْ كانت مَنْكُوحَةً فَطَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها لم يَجِبْ الِاسْتِبْرَاءُ
كَذَا هذا
وَعَلَى ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ على قَوْلِ أبي يُوسُفَ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ فَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قبل الْقَبْضِ لم يُعْتَدَّ بِذَلِكَ وَلَا تَحِلُّ له حتى يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ الْقَبْضِ بِحَيْضَةٍ أُخْرَى في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِذَلِكَ كما يُعْتَدُّ بِالْحَيْضَةِ قبل الْقَبْضِ عِنْدَهُ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ عَدَمُ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ في النِّكَاحِ حتى أن من تَزَوَّجَ جَارِيَةً فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا من غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ لِأَنَّ السَّبَبَ لم يُوجَدْ وهو حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ
وقال مُحَمَّدٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ وَلَسْتُ أُوجِبُهَا عليه
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال لَا اسْتِبْرَاءَ عليه في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
وقال أبو يُوسُفَ اسْتَبْرَأَ بها الزَّوْجُ اسْتِحْسَانًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ إن الْمَعْنَى الذي له وَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ في مِلْكِ الْيَمِينِ مَوْجُودٌ في مِلْكِ النِّكَاحِ وهو التَّعَرُّفُ عن بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَوَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ في الْمِلْكَيْنِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جَوَازَ نِكَاحِهَا دَلِيلُ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا شَرْعًا فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعَرُّفِ بِالِاسْتِبْرَاءِ
وما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ نَوْعُ احْتِيَاطٍ وهو حَسَنٌ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فلم يَقْبِضْهَا حتى حَاضَتْ في يَدِ الْبَائِعِ حَيْضَةً أَنَّهُ لَا يجتزي ( ( ( يجتزئ ) ) ) بها في الِاسْتِبْرَاءِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حتى لو قَبَضَهَا لَا تَحِلُّ له حتى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ أُخْرَى لِأَنَّهُ لم يحد ( ( ( يحدث ) ) ) له حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ قبل الْقَبْضِ وَلَا حَدَثَ له مِلْكُ الْيَمِينِ على الْإِطْلَاقِ لِانْعِدَامِ الْيَدِ
وَهَذَا لِأَنَّ الْمِلْكَ قبل الْقَبْضِ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ وَالتَّأَكُّدُ إثْبَاتٌ من وَجْهٍ فَكَانَ له حُكْمُ الْعَدَمِ من وَجْهٍ فلم يَجِبْ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يجتزيء ( ( ( يجتزئ ) ) ) بها وَلَا اسْتِبْرَاءَ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ قبل الْقَبْضِ تَصْلُحُ دَلِيلًا على فَرَاغِ رَحِمِهَا فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ من الِاسْتِبْرَاءِ فيكتفي بها
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَقَعُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تعالى التَّوْفِيقُ الْجَارِيَةُ في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو إمَّا إن كانت مِمَّنْ تَحِيضُ وَإِمَّا إن كانت مِمَّنْ لَا تَحِيضُ فَإِنْ كانت مِمَّنْ تَحِيضُ فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ اسْتِبْرَاءَهَا بِحَيْضَتَيْنِ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ أُخْتُ الْعِدَّةِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال في سَبَايَا أَوْطَاسٍ أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حتى يَضَعْنَ وَلَا الحبالى ( ( ( الحيالى ) ) ) حتى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ
وَالْفَعْلَةُ لِلْمَرَّةِ وَالتَّقْدِيرُ الشَّرْعِيُّ يَمْنَعُ من الزِّيَادَةِ عليه إلَّا بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ ما شُرِعَ له الِاسْتِبْرَاءُ وهو حُصُولُ الْعِلْمِ بِطَهَارَةِ الرَّحِمِ يَحْصُلُ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْتَرَطَ الْعَدَدُ في بَابِ الْعِدَّةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذلك نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ على مَوْرِدِ النَّصِّ
وَإِنْ كانت مِمَّنْ لَا تَحِيضُ فَلَا يَخْلُو إمَّا إن كانت لَا تَحِيضُ لِصِغَرٍ أو لِكِبَرٍ وَإِمَّا إن كانت لَا تَحِيضُ لِعِلَّةٍ وَهِيَ الْمُمْتَدُّ طُهْرُهَا
وأما إن كانت لَا تَحِيضُ لِحَبَلٍ فَإِنْ كانت لَا تَحِيضُ لِصِغَرٍ أو لِكِبَرٍ فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِشَهْرٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْأَشْهُرَ أُقِيمَتْ مَقَامَ الإقراء في حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ في الْعِدَّةِ فَكَذَا في بَابِ الِاسْتِبْرَاءِ
وَإِنْ كانت لَا تَحِيضُ لِعِلَّةٍ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فيه قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ لَا يَطَؤُهَا حتى يَعْلَمَ أنها غَيْرُ حَامِلٍ ولم يُوَقِّتْ في ذلك وَقْتًا
وقال أبو يُوسُفَ يَسْتَبْرِئُهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أو أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ قال يَسْتَبْرِئُهَا بِشَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ عِدَّةِ الْإِمَاءِ وفي رِوَايَةٍ قال يَسْتَبْرِئُهَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ مُدَّةِ عِدَّةِ الْحَرَائِرِ وقال زُفَرُ يَسْتَبْرِئُهَا بِسَنَتَيْنِ لِأَنَّ الْوَلَدَ الْمَوْجُودَ في الْبَطْنِ لَا يَبْقَى أَكْثَرَ من سَنَتَيْنِ فإذا مَضَتْ سَنَتَانِ ولم يَظْهَرْ بها حَمْلٌ عَلِمَ أنها غَيْرُ حَامِلٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هذا تَفْسِيرَ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لَا يَطَؤُهَا حتى يَعْلَمَ أنها غَيْرُ حَامِلٍ وهو اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ما قَالَهُ أبو يُوسُفَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ يَعْلَمُ فيها أنها لَيْسَتْ بِحَامِلٍ لِأَنَّ الْحَبَلَ يَظْهَرُ في مِثْلِ هذه الْمُدَّةِ لو كان لِظُهُورِ آثَارِهِ من انْتِفَاخِ الْبَطْنِ وَغَيْرِ ذلك فَيَدُلُّ عَدَمُ الظُّهُورِ على بَرَاءَةِ رَحِمِهَا
وَإِنْ كانت لَا تَحِيضُ لِحَبَلٍ بها فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ بعض الْقَبْضِ حدوث حل الاستمتاع بحدوث ملك اليمين مطلقا يعني به ملك الرقبة واليد بأي سبب حدث الملك من الشراء والسبي والصدقة والهبة والأرث ونحوها فلا يجب الاستبراء على البائع لانعدام السبب وهو حدوث الحل ويجب على المشتري لوجود سببه سواء كان بائعه ممن يطأ أو ممن لا يطأ كالمرأة والصبي الذي لا يعقل وسواء كانت الجارية بكرا أو ثيبا في ظاهر الرواية لما قلنا
وروي عن أبي يوسف أنه إذا علم المشتري أنها لم توطأ لا يجب الاستبراء لأن الاستبراء طلب براءة الرحم وفراغها عما يشغلها ورحم البكر برية فارغة عن الشغل فلا معنى لطلب البراءة والفراغ
والجواب أن الوقوف على حقيقة الشغل والفراغ متعذر فتعلق الحكم بالسبب الظاهر وهو حدوث حل الاستمتاع بحدوث ملك اليمين مطلقا وقد وجد ولا يجب على من حرم عليه فرج أمته بعارض الحيض والنفاس والردة والكتابة والتزويج إذا زالت هذه العوارض بأن طهرت وأسلمت وعجزت فطلقها الزوج قبل الدخول بها لأن حل الاستمتاع لم يحدث بل كان ثابتا لكن منع منه لغيره وقد زال بزوال العوارض وكذا لم يحدث ملك اليمين فلم يوجد السبب ولا يجب بشراء جارية لا يحل فرجها بملك اليمين بأن وطئها أبوه أو ابنه أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها لا بشهوة أو كان هو وطىء أمها أو ابنتها أو نظر إلى فرجها عن شهوة أو كانت مرتدة أو مجوسية ونحو ذلك من الفروج التي لا تحل بملك اليمين لأن فائدة الاستبراء التمكن من الاستمتاع بعد حصول انعدام مانع معين منه وهو اختلاط الماءين والاستبراء في هذه المواضع لا يفيد التمكن من الاستمتاع لوجود مانع آخر وهو أن المحل لا يحتمل الحل ولا يجب على العبد والمكاتب والمدبر لانعدام
____________________

(5/255)


لِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ في الدَّلَالَةِ على فَرَاغِ رَحِمِهَا فَوْقَ الْحَيْضَةِ فإذا وَضَعَتْ حَمْلَهَا حَلَّ له أَنْ يَسْتَمْتِعَ بها فِيمَا سِوَى الْجِمَاعِ ما دَامَتْ في نِفَاسِهَا كما في الْحَائِضِ فَإِنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا قبل الْقَبْضِ ثُمَّ قَبَضَهَا لَا يَطَؤُهَا حتى يَسْتَبْرِئَهَا وَلَا يجتزي ( ( ( يجتزئ ) ) ) بِوَضْعِ الْحَمْلِ قبل الْقَبْضِ كما يجتزي ( ( ( يجتزئ ) ) ) بِالْحَيْضَةِ قبل الْقَبْضِ وَعَلَى قِيَاسِ ما رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ يجتزي ( ( ( يجتزئ ) ) ) بِهِ كما يجتزي ( ( ( يجتزئ ) ) ) بِالْحَيْضَةِ قبل الْقَبْضِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من الْحُكْمِ الأصل ( ( ( الأصلي ) ) ) لِلْبَيْعِ وما يَجْرِي مَجْرَى التَّوَابِعِ لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ كما يَثْبُتُ في الْمَبِيعِ يَثْبُتُ في زَوَائِدِ الْمَبِيعِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ من ذلك في الزَّوَائِدِ وَالْكَلَامُ فيه مَبْنِيٌّ على أَصْلٍ وهو أَنَّ زَوَائِدَ الْمَبِيعِ مَبِيعَةٌ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كانت مُنْفَصِلَةً أو مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ أو غير مُتَوَلِّدَةٍ منه إلَّا الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ وَالْكَسْبَ وَعِنْدَهُ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ أَصْلًا وَإِنَّمَا تُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ لَا بِالْبَيْعِ السَّابِقِ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في إثْبَاتِ هذا الْأَصْلِ أَنَّ الْمَبِيعَ ما أُضِيفَ إلَيْهِ الْبَيْعُ ولم تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى الزَّوَائِدِ لِكَوْنِهَا مُنْعَدِمَةً عِنْدَ الْبَيْعِ فَلَا تكون ( ( ( يكون ) ) ) مَبِيعَةً وَلِهَذَا لم يَكُنْ الْكَسْبُ مَبِيعًا وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ ما يُقَابِلُهُ ثَمَنٌ إذْ الْبَيْعُ مقابله الْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ وَالزِّيَادَةُ لَا يُقَابِلُهَا ثَمَنٌ لِأَنَّ كُلَّ الثَّمَنِ مُقَابَلٌ بِالْأَصْلِ فلم تَكُنْ مَبِيعَةً كَالْكَسْبِ وَلِهَذَا لم تَجُزْ الزِّيَادَةُ عِنْدَهُ في الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ
وَلَنَا أَنَّ الْمَبِيعَ ما يَثْبُتُ فيه الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلْبَيْعِ وَالْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلْبَيْعِ يَثْبُتُ في الزَّوَائِدِ بِالْبَيْعِ السَّابِقِ فَكَانَتْ مَبِيعَةً
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْبَيْعِ هو الْمِلْكُ وَالزَّوَائِدُ مَمْلُوكَةٌ بِلَا خِلَافٍ
وَالدَّلِيلُ على أنها مَمْلُوكَةٌ بِالْبَيْعِ السَّابِقِ أَنَّ الْبَيْعَ السَّابِقَ أَوْجَبَ الْمِلْكَ في الْأَصْلِ وَمَتَى ثَبَتَ الْمِلْكُ في الْأَصْلِ ثَبَتَ في التَّبَعِ فَكَانَ مِلْكُ الزِّيَادَةِ بِوَاسِطَةِ مِلْكِ الْأَصْلِ مُضَافًا إلَى الْبَيْعِ السَّابِقِ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ مَبِيعَةً
وَلَكِنْ تَبَعًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ فيها تَبَعًا
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
منها أَنَّ لِلْبَائِعِ حَقَّ حَبْسِ الزَّوَائِدِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ كما له حَقُّ حَبْسِ الْأَصْلِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ ليس له أَنْ يَحْبِسَ الزَّوَائِدَ
وَمِنْهَا أَنَّ الْبَائِعَ إذَا أَتْلَفَ الزِّيَادَةَ سَقَطَتْ حِصَّتُهَا من الثَّمَنِ عن الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا كما لو أَتْلَفَ جُزْءًا من الْمَبِيعِ وَعِنْدَهُ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الثَّمَنِ وَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا كما أو أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ على ما مَرَّ
وَكَذَا إذَا أَتْلَفَ الْأَرْشَ أو الْعُقْرَ قبل الْقَبْضِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ بَدَلُ الْجُزْءِ الْفَائِتِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْجُزْءِ
وَلَوْ هَلَكَتْ الزِّيَادَةُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الثَّمَنِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كانت مَبِيعَةً عِنْدَنَا لِأَنَّهَا مَبِيعَةٌ تَبَعًا بِمَنْزِلَةِ أَطْرَافِ الْأُمِّ لَا مَقْصُودًا وَالْأَطْرَافُ كَالْأَوْصَافِ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ من الثَّمَنِ إلَّا أَنْ تَصِيرَ مَقْصُودَةً بِالْفِعْلِ من الْقَبْضِ أو الْجِنَايَةِ ولم يُوجَدْ وَلَا خِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لم تَتَفَرَّقْ عليه لِأَنَّ الْعَقْدَ ما أُضِيفَ إلَيْهَا
وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْعَقْدِ فيها تَبَعًا
فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ إلَّا في وَلَدِ الْجَارِيَةِ إذَا هَلَكَ قبل الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ
فإنه يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لَا لِهَلَاكِ الزِّيَادَةِ بَلْ لِحُدُوثِ نُقْصَانٍ في الْأُمِّ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ
وَكَذَا لَا خِيَارَ بِحُدُوثِ زِيَادَةِ ما قبل الْقَبْضِ إلَّا في وَلَدِ الْجَارِيَةِ لِأَجْلِ نُقْصَانِ الْأُمِّ بِالْوِلَادَةِ لَا لِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا قَبَضَ الزَّوَائِدَ يَصِيرُ لها حِصَّةٌ من الثَّمَنِ بِالْقَبْضِ عِنْدَنَا فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ على قِيمَةِ الْأَصْلِ يوم الْعَقْدِ وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ يوم الْقَبْضِ
حتى لو اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي على عَيْبٍ بِالْأَصْلِ فإنه يَرُدُّهُ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ لَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا حِصَّةَ لِلزِّيَادَةِ من الثَّمَنِ بِحَالٍ وَعِنْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ بِالْأَصْلِ يُرَدُّ بِكُلِّ الثَّمَنِ وَلَا يَكُونُ بِإِزَاءِ الزِّيَادَةِ شَيْءٌ
وَكَذَا إذَا وَجَدَ بِالزِّيَادَةِ عَيْبًا يَرُدُّهَا بِحِصَّتِهَا من الثَّمَنِ وَعِنْدَهُ لَا يَرُدُّهَا بِالْعَيْبِ أَصْلًا
وَكَذَا الْمُشْتَرِي إذَا أَتْلَفَ الزِّيَادَةَ قبل الْقَبْضِ يَصِيرُ لها حِصَّةٌ من الثَّمَنِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا به بِالْإِتْلَافِ وَبِالْقَبْضِ يَصِيرُ لها حِصَّةٌ من الثَّمَنِ على ما ذَكَرْنَا وَعِنْدَهُ لَا حِصَّةَ لها من الثَّمَنِ بِحَالٍ وَلَوْ هَلَكَ الْأَصْلُ وَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ يَبْقَى الْعَقْدُ في قَدْرِ الزِّيَادَةِ عِنْدَنَا وَيَصِيرُ لها حِصَّةٌ من الثَّمَنِ فَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ على الْأَصْلِ يوم الْعَقْدِ وَعَلَى الزِّيَادَةِ يوم الْهَلَاكِ فَيَبْطُلُ مِلْكُ الثَّمَنِ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْأَصْلِ ويبقي بِحِصَّةِ الزِّيَادَةِ بِخِلَافِ ما إذَا هَلَكَ قبل حُدُوثِ الزِّيَادَةِ حَيْثُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ أَصْلًا وَرَأْسًا وَيَسْقُطُ كُلُّ الثَّمَنِ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا فَائِدَةَ في بَقَاءِ الْعَقْدِ إذْ لو بَقِيَ لَطَلَبَ الْبَائِعُ من الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ فَيَطْلُبُ الْمُشْتَرِي منه تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ وَلَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ فَيَنْفَسِخُ ضَرُورَةً لِانْعِدَامِ فَائِدَةِ الْبَقَاءِ وإذا بَقِيَتْ الزِّيَادَةُ كان في بَقَاءِ الْعَقْدِ في الزِّيَادَةِ فَائِدَةٌ لِإِمْكَانِ تَسْلِيمِهَا فَبَقِيَ الْعَقْدُ فيها وَصَارَ لها حِصَّةٌ من الثَّمَنِ فَيَنْقَسِمُ على الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ على ما ذَكَرْنَا وَعِنْدَهُ إذَا هَلَكَ الْأَصْلُ انْفَسَخَ الْعَقْدُ أَصْلًا وَرَأْسًا

____________________

(5/256)


وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ وَضَمِنَهَا بِلَا خِلَافٍ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ عِنْدَنَا إنْ شَاءَ اخْتَارَ الْفَسْخَ وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ على الْجَانِي بِضَمَانِ الْجِنَايَةِ وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْمَبِيعَ وَاتَّبَعَ الْجَانِي بِالضَّمَانِ وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ كما لو أَتْلَفَ الْأَصْلَ وَعِنْدَهُ عليه الضَّمَانُ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى نَخْلًا بِكُرٍّ من تَمْرٍ فلم يَقْبِضْ النَّخْلَ حتى أَثْمَرَ النَّخْلُ كُرَّا فَقَبَضَ النَّخْلَ مع الْكُرِّ الْحَادِثِ لَا يَطِيبُ الْكُرُّ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عِنْدَنَا لِأَنَّ التَّمْرَ الْحَادِثَ عِنْدَنَا زِيَادَةٌ مُتَوَلَّدَةٌ من الْمَبِيعِ فَكَانَ مَبِيعًا وَلَهُ عِنْدَ الْقَبْضِ حِصَّةٌ من الثَّمَنِ كما لِغَيْرِهِ من الزَّوَائِدِ وَالثَّمَرُ من جِنْسِهِ زِيَادَةَ عليه فَلَوْ قُسِمَ على النَّخْلِ وَالْكُرِّ لحادث ( ( ( الحادث ) ) ) يَصِيرُ رِبًا فَيَفْسُدُ الْبَيْعَ في الْكُرِّ الْحَادِثِ وَلَا يَفْسُدُ في النَّخْلِ بِخِلَافِ ما إذَا بَاعَ نَخْلًا وَكُرًّا من تَمْرٍ بِكُرٍّ من تَمْرٍ إن الْعَقْدَ يَفْسُدُ في التَّمْرِ وَالنَّخْلِ جميعا لِأَنَّ هُنَاكَ الرِّبَا دخل في الْعَقْدِ بِاشْتِرَاطِهِمَا وَصُنْعِهِمَا لِأَنَّ بَعْضَ الْمَبِيعِ مَالُ الرِّبَا وهو التَّمْرُ وَالتَّمْرُ مَقْسُومٌ عَلَيْهِمَا فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا وَإِدْخَالُ الرِّبَا في الْعَقْدِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ كُلَّهُ وَهَهُنَا الْبَيْعُ كان صَحِيحًا في الْأَصْلِ لِأَنَّ الثَّمَنَ خِلَافُ جِنْسِ الْمَبِيعِ وهو النَّخْلُ وَحْدَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا زَادَ بَعْدَ الْعَقْدِ صَارَ مَبِيعًا في حَالِ الْبَقَاءِ لَا بِصُنْعِهِمَا فَيَفْسُدُ في الْكُرِّ الْحَادِثِ وَيَقْتَصِرُ الْفَسَادُ عليه
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَقُتِلَ قبل الْقَبْضِ فَاخْتَارَ الْبَيْعَ واتباع ( ( ( وابتاع ) ) ) الْجَانِي فَأَخَذَ قِيمَتَهُ أَلْفَيْنِ يَتَصَدَّقُ بِالْأَلْفِ الزَّائِدِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ رَبِحَ ما لم يَضْمَنْ وَعِنْدَهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا إذَا غَصَبَ كُرَّ حِنْطَةٍ فابتليت ( ( ( فابتلت ) ) ) في يَدِ الْغَاصِبِ وَانْتَفَخَتْ حتى صَارَتْ كُرًّا وَنِصْفَ كُرٍّ ضَمِنَ لِلْمَالِكِ كُرًّا مثله فإنه يَمْلِكُ ذلك الْكُرَّ وَنِصْفَ الْكُرِّ عِنْدَنَا لَكِنْ يَتَصَدَّقُ بِنِصْفِ الْكُرِّ الزَّائِدِ وَطَابَ له ما بَقِيَ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَنَا يَثْبُتُ من وَقْتِ الْغَصْبِ بِالضَّمَانِ وَالزِّيَادَةُ بِالِانْتِفَاخِ حَصَلَتْ بَعْدَ ذلك فَتُعْتَبَرُ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في هذا الْفَصْلِ يُرَدُّ الْكُلُّ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ عِنْدَهُ لَا تُمْلَكُ بِالضَّمَانِ
وَمِنْهَا أَنَّ الزَّوَائِدَ الْحَادِثَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ مَبِيعَةٌ أَيْضًا عِنْدَنَا حتى لو وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْأَصْلِ عَيْبًا فَالزِّيَادَةُ تَمْنَعُ الرَّدَّ وَالْفَسْخَ بِالْعَيْبِ وَبِسَائِرِ أَسْبَابِ الْفَسْخِ على ما نَذْكُرُهُ في خِيَارِ الْعَيْبِ في بَيَانِ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ من الرَّدِّ بِالْعَيْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَهُ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ في أَيِّ حَالٍ حَدَثَتْ وَلَا تَمْنَعُ رَدَّ الْأَصْلِ بِالْعَيْبِ بِكُلِّ الثَّمَنِ
وَلَوْ اشْتَرَى أَرْضًا فيها أَشْجَارٌ مُثْمِرَةٌ فَإِنْ كان عليها ثَمَرٌ وَسَمَّاهُ حتى دخل في الْبَيْعِ فَالثَّمَرُ له حِصَّةٌ من الثَّمَنِ بِلَا خِلَافٍ حتى لو كانت قِيمَةُ الْأَرْضِ خَمْسَمِائَةٍ وَقِيمَةُ الشَّجَرِ خَمْسُمِائَةٍ وَقِيمَةُ الثَّمَرِ كَذَلِكَ فإن الثَّمَنَ يُقْسَمُ على الْكُلِّ أَثْلَاثًا بِالْإِجْمَاعِ
لِأَنَّ الْكُلَّ مَعْقُودٌ عليه مقصودا ( ( ( مقصود ) ) ) لِوُرُودِ فِعْلِ الْعَقْدِ على الْكُلِّ فَإِنْ كان لِلثَّمَرِ حِصَّةٌ من الثَّمَنِ حتى لو هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْبَائِعِ بِأَنْ أَكَلَهُ يَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي ثُلُثُ الثَّمَنِ وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ بِثُلُثَيْ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّ الثَّمَرَ لَمَّا كان مَبِيعًا مَقْصُودًا بِهَلَاكِهِ تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ على الْمُشْتَرِي قبل التَّمَامِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ وَإِنْ لم يَكُنْ الثَّمَرُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَحَدَثَ بَعْدَهُ قبل الْقَبْضِ فَأَكَلَهُ الْبَائِعُ فَقَدْ صَارَ له حِصَّةٌ من الثَّمَنِ عِنْدَنَا لِصَيْرُورَتِهِ مَبِيعًا مَقْصُورًا بِالْإِتْلَافِ على ما بَيَّنَّا لَكِنَّ الْكَلَامَ في كَيْفِيَّةِ أَخْذِ الْحِصَّةِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيها
قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَأْخُذُ الْحِصَّةَ من الشَّجَرِ وَالْأَرْضِ جميعا فَيَقْسِمُ الثَّمَنَ على الشَّجَرِ وَالْأَرْضِ وَالثَّمَرِ أَثْلَاثًا فَيَسْقُطُ ثُلُثُ الثَّمَنِ بِإِتْلَافِ الْبَائِعِ وقال أبو يُوسُفَ يَأْخُذُ الْحِصَّةَ من الشَّجَرِ خَاصَّةً فَيَقْسِمُ الثَّمَنَ على قِيمَةِ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ ثُمَّ ما أَصَابَ الشَّجَرَ يُقَسَّمُ عليه يوم الْعَقْدِ وَعَلَى قِيمَةِ الثَّمَرِ يوم الْإِتْلَافِ فَيَسْقُطُ بَيَانُهُ إذَا كانت قِيمَةُ الْأَرْضِ أَلْفًا وَقِيمَةُ الْأَشْجَارِ أَلْفًا وَقِيمَةُ الثَّمَرِ كَذَلِكَ فَأَكَلَ الْبَائِعُ الثَّمَرَ قبل الْقَبْضِ يَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي ثُلُثُ الثَّمَنِ عِنْدَهُمَا وَيَأْخُذُ الْأَرْضَ وَالْأَشْجَارَ بِثُلُثَيْ الثَّمَنِ وَلَا خِيَارَ له عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ خَاصَّةً وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ له الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ بِثُلُثَيْ الْقِيمَةِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي رُبْعُ الثَّمَنِ فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ على الْأَشْجَارِ وَالْأَرْضِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ ما أَصَابَ الشَّجَرَ يُقَسَّمُ عليه وَعَلَى الثَّمَرِ نِصْفَيْنِ فَكَانَ حِصَّةُ الثَّمَرِ رُبْعَ الثَّمَنِ فَيَسْقُطُ ذلك كُلُّهُ وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الثَّمَرَ تَابِعٌ لِلشَّجَرِ لِأَنَّ الثَّمَرَ مُتَوَلِّدٌ منها فَيَأْخُذُ الْحِصَّةَ منها كما لو اشْتَرَى جَارِيَةً مع وَلَدِهَا فَوَلَدَتْ مع وَلَدِهَا ولد ( ( ( ولدا ) ) ) آخَرَ فَالْوَلَدُ الثَّانِي يَكُونُ له حِصَّةٌ من الْوَلَدِ الْأَوَّلِ
وَلَهُمَا أَنَّ الشَّجَرَ تَابِعٌ لِلْأَرْضِ في الْبَيْعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَدْخُلُ في الْأَرْضِ من غَيْرِ تَسْمِيَةٍ
وَلَوْ هَلَكَتْ بعدما دَخَلَتْ قبل الْقَبْضِ
____________________

(5/257)


لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الثَّمَنِ دَلَّ أنها تَابِعَةٌ وما كان تَابِعًا لِغَيْرِهِ في حُكْمٍ لَا يَسْتَتْبِعُ غَيْرَهُ من ذلك الْحُكْمِ فَكَانَ نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا ما لو اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا قبل الْقَبْضِ ثُمَّ وَلَدَ وَلَدُهَا وَلَدًا لَا يَكُونُ لِلْوَلَدِ الثَّانِي حِصَّةٌ من الْوَلَدِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ في نَفْسِهِ تَابِعٌ فَلَا يَسْتَتْبِعُ غَيْرَهُ كَذَا هَهُنَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَيَتَّصِلُ بِمَا ذَكَرْنَا الزِّيَادَةُ في الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ وَالْحَطُّ عن الثَّمَنِ وَالْكَلَامُ فِيهِمَا في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ أحدها ( ( ( أحدهما ) ) ) في أَصْلِ الْجَوَازِ أَنَّهُمَا جَائِزَانِ أَمْ لَا
وَالثَّانِي في شَرَائِطِ الْجَوَازِ
وَالثَّالِثُ في كَيْفِيَّةِ الْجَوَازِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ العامة ( ( ( العلماء ) ) ) فيه قال أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ الزِّيَادَةُ في الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ جَائِزَةٌ مَبِيعًا وَثَمَنًا كَأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ على الْمَزِيدِ عليه وَالزِّيَادَةِ جميعا من الِابْتِدَاءِ
وقال زُفَرُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ مَبِيعًا وَثَمَنًا وَلَكِنْ تَكُونُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً فَإِنْ قَبَضَهَا صَارَتْ مِلْكًا له وَإِلَّا تَبْطُلُ وَأَظْهَرُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِثْلُ قَوْلِنَا إنْ كان في مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَإِنْ كان بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَقَوْلُهُ مِثْلُ قَوْلِ زُفَرَ
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا اشْتَرَى رَجُلٌ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وقال الْمُشْتَرِي زِدْتُكَ خَمْسَمِائَةٍ أُخْرَى ثَمَنًا وَقَبِلَ الْبَائِعُ أو قال الْبَائِعُ زِدْتُكَ هذا الْعَبْدَ الْآخَرَ أو قال هذا الثَّوْبَ مَبِيعًا وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي جَازَتْ الزِّيَادَةُ كان الثَّمَنُ في الْأَصْلِ ألف ( ( ( ألفا ) ) ) وَخَمْسَمِائَةٍ وَالْمَبِيعُ في الْأَصْلِ عَبْدَانِ أو عَبْدٌ وَثَوْبٌ سَوَاءٌ كان ذلك قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ زَادَ الْمُشْتَرِي في الثَّمَنِ مِائَةَ دِرْهَمٍ جَازَتْ الزِّيَادَةُ كان الثَّمَنُ في الْأَصْلِ ألف ( ( ( ألفا ) ) ) وَمِائَةً تَنْقَسِمُ الزِّيَادَةُ على قِيمَتِهِمَا وَكَذَلِكَ لو كان لِعَبْدٍ ثَمَنٌ مُسَمًّى أو كان لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنٌ مُسَمًّى وزاد الْمُشْتَرِي في الثَّمَنِ مِائَةً مُطْلَقًا انْقَسَمَتْ الزِّيَادَةُ على قَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ في الْقِيمَتَيْنِ من الْوَارِثَيْنِ بَعْدَ مَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ لِأَنَّ الْوَارِثَ خَلَفَ الْمُوَرِّثَ في مِلْكِهِ الْقَائِمِ بَعْدَ مَوْتِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ عليه كأن الْوَارِثُ حي ( ( ( حيا ) ) ) قائم ( ( ( قائما ) ) ) فَزَادَ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ من الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِتَوْلِيَةٍ مُسْتَفَادَةٍ من قِبَلِ الْمُوَكِّلِ
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ من الْأَجْنَبِيِّ فَلَا شَكَّ أَنَّ عِنْدَهُمَا لَا تَجُوزُ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَإِنْ زَادَ بِأَمْرِ الْعَاقِدِ جَازَ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُ في الزِّيَادَةِ وَإِنْ زَادَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَقَفَتْ الزِّيَادَةُ على إجَازَتِهِ إنْ أَجَازَ جَازَتْ وَإِنْ رَدَّ بَطَلَتْ إلَّا أَنْ يَضْمَنَ الزَّائِدُ الزِّيَادَةَ فَيَجُوزُ وَلَا يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْعَاقِدِ وأن لم يَحْصُلْ لِلْأَجْنَبِيِّ بِمُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ شَيْءٌ وَعَلَى هذا قالوا فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ على أَنَّ خَمْسَمِائَةٍ سِوَى الْأَلْفِ على رَجُلٍ ضَمِنَهُ وَقَبِلَ فَالْعَبْدُ لِلْمُشْتَرِي وَالْخَمْسُمِائَةِ على الثَّالِثِ من غَيْرِ أَنْ يَسْتَحِقَّ شيئا بِالْخَمْسِمِائَةِ
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا قال الرَّجُلُ بِعْ هذه الدَّارَ من فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ على أَنِّي ضَامِنٌ لك من الثَّمَنِ خَمْسَمِائَةٍ إن الْبَيْعَ على هذا الشَّرْطِ صَحِيحٌ وَالْخَمْسُمِائَةِ على الْأَجْنَبِيِّ
وَلَوْ قال على أَنِّي ضَامِنٌ لك خَمْسَمِائَةٍ ولم يَقُلْ من الثَّمَنِ كان بَاطِلًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ في الْمَهْرِ الْمُسَمَّى في النِّكَاحِ وَأَمَّا الزِّيَادَةُ في الْمَنْكُوحَةِ بِالْمَهْرِ الْأَوَّلِ فَلَا تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ في رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ في الْمُسْلَمِ فيه فَلَا تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ في الرَّهْنِ
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ في الدَّيْنِ فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ اسْتِحْسَانًا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ جَائِزٌ قِيَاسًا وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بين الزِّيَادَةِ في الرَّهْنِ وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ في الدَّيْنِ نَذْكُرُهُ في كِتَابِ الرَّهْنِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ حَطُّ بَعْضِ الثَّمَنِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَيَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَالثَّمَنِ هذا الْقَدْرُ من الِابْتِدَاءِ حتى أن الْمَبِيعَ إذَا كان دَارًا فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ بِمَا بَقِيَ بَعْدَ الْحَطِّ وَعِنْدَهُمَا هو هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ إلَّا أَنَّ قِيَامَ الدَّيْنِ عليه أو كَوْنَهُ قَابِلًا لِاسْتِئْنَافِ الْعَقْدِ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَطِّ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وفي الزِّيَادَةِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إن الثَّمَنَ وَالْمَبِيعَ من الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ الْمُتَقَابِلَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ مَبِيعٌ بِلَا ثَمَنٍ وَلَا ثَمَنٌ بِلَا مَبِيعٍ فَالْقَوْلُ بِجَوَازِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ مَبِيعًا وَثَمَنًا قَوْلٌ بِوُجُودِ الْمَبِيعِ وَلَا ثَمَنَ وَالثَّمَنِ وَلَا مَبِيعَ لِأَنَّ الْمَبِيعَ اسْمٌ لِمَالٍ يُقَابِلُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي وهو الثَّمَنُ وَالثَّمَنُ اسْمٌ لِمَالٍ يُقَابِلُ مِلْكَ الْبَائِعِ وهو الْمَبِيعُ فَالزِّيَادَةُ من الْبَائِعِ لو صَحَّتْ مَبِيعًا لَا تُقَابِلُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي بَلْ تُقَابِلُ مِلْكَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ مَلَكَ جَمِيعَ الثَّمَنِ
وَلَوْ صَحَّتْ من الْمُشْتَرِي ثَمَنًا لَا تُقَابِلُ مِلْكَ الْبَائِعِ بَلْ تُقَابِلُ مِلْكَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ مَلَكَ جَمِيعَ الْمَبِيعِ فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ مَبِيعًا وَثَمَنًا لِانْعِدَامِ حَقِيقَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فَيُجْعَلُ منه هِبَةً مُبْتَدَأَةً وَلِأَنَّ كُلَّ الْمَبِيعِ لَمَّا صَارَ مُقَابَلًا بِكُلِّ الثَّمَنِ وَكُلُّ الثَّمَنِ مُقَابَلٌ بِكُلِّ الْمَبِيعِ فَالزِّيَادَةُ لو صَحَّتْ مَبِيعًا وَثَمَنًا لَخَلَتْ عَمَّا يُقَابِلُهُ فَكَانَتْ فَضْلَ مَالٍ خَالٍ عن الْعِوَضِ في عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَهَذَا تَفْسِيرُ الرِّبَا

____________________

(5/258)


وَلَنَا في الزِّيَادَةِ في الْمَهْرِ قَوْله تَعَالَى { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ من بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } أَيْ من بَعْدِ تِلْكَ الْفَرِيضَةِ لِأَنَّ النَّكِرَةَ إذَا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً يزاد ( ( ( يراد ) ) ) بِالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ
أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِإِيتَاءِ الْمُهُورِ الْمُسَمَّاةِ في النِّكَاحِ وَأَزَالَ الْجُنَاحَ في الزِّيَادَةِ على الْمُسَمَّى لِأَنَّ ما يَتَرَاضَاهُ الزَّوْجَانِ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ هو الزِّيَادَةُ في الْمَهْرِ فَيَدُلُّ على جَوَازِ الزِّيَادَةِ
وَرُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لِلْوَازِنِ زِنْ وَأَرْجِحْ فَإِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ هَكَذَا نَزِنُ وَهَذَا زِيَادَةٌ في الثَّمَنِ وقد نُدِبَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَيْهَا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ الْجَوَازُ وَرُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي لُزُومَ الْوَفَاءِ بِكُلِّ شَرْطٍ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ لِأَنَّهُ يقتضى أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُسْلِمٍ عِنْدَ شَرْطِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ إذَا صَحَّتْ الزِّيَادَةُ مَبِيعًا وَثَمَنًا فَأَمَّا إذَا كانت هِبَةً مُبْتَدَأَةً فَلَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ لِأَنَّ الْعَاقِدَيْنِ أَوْقَعَا الزِّيَادَةَ مَبِيعًا وَثَمَنًا كما لو تَبَايَعَا ابْتِدَاءً وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ يَقَعُ على الْوَجْهِ الذي أَوْقَعَهُ إذَا كان أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ وَالْمَحَلُّ قَابِلًا وَلَهُ وِلَايَةٌ عليه وقد وُجِدَ
وَقَوْلُهُمَا إن الثَّمَنَ اسْمٌ لِمَالٍ يُقَابِلُ مِلْكَ الْبَائِعِ وَالْمَبِيعَ اسْمٌ لِمَالٍ يُقَابِلُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي
قُلْنَا هذا مَمْنُوعٌ بَلْ الثَّمَنُ اسْمٌ لِمَا أَزَالَ الْمُشْتَرِي مِلْكَهُ وَيَدَهُ عنه بِمُقَابَلَةِ مَالٍ أَزَالَ الْبَائِعُ مِلْكَهُ وَيَدَهُ عنه فَيَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَالَ الذي كان مِلْكَ صَاحِبِهِ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ عنه شَرْعًا على ما عُرِفَ
ثُمَّ نَقُولُ ما ذَكَرَاهُ حَدُّ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَالزِّيَادَةِ في الْمَبِيعِ وَالثَّمَنُ مَبِيعٌ وَثَمَنٌ من حَيْثُ الصُّورَةُ وَالتَّسْمِيَةُ رِبْحٌ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الرِّبْحَ حَقِيقَةُ ما يُمْلَكُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا بِمُقَابَلَةِ ما هو مَالٌ حَقِيقَةً بَلْ من حَيْثُ الصُّورَةِ وَالتَّسْمِيَةُ وَالزِّيَادَةُ هَهُنَا كَذَلِكَ فَكَانَتْ رِبْحًا حَقِيقَةً فَكَانَ من شَرْطِهَا أَنْ لَا تَكُونَ مُقَابَلَةً بِمِلْكِ الْبَائِعِ إلَّا تَسْمِيَةً وَشَرْطُ الشَّيْءِ كَيْفَ يَمْنَعُ صِحَّتَهُ على أَنَّهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ وَالزِّيَادَةِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ في الْبَيْعِ هو قِيمَةُ الْمَبِيعِ وهو مَالِيَّتُهُ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةٌ بِطَرِيقِ الْمُعَادَلَةِ عُرْفًا وَحَقِيقَةً وَالْمُقَابَلَةُ عِنْدَ التَّسَاوِي في الْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا لو فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ تَجِبُ الْقِيمَةُ عِنْدَنَا وَالثَّمَنُ تَقْدِيرٌ لِمَالِيَّةِ الْمَبِيعِ بِاتِّفَاقِ الْعَاقِدَيْنِ وإذا زَادَ في الْمَبِيعِ أو الثَّمَنِ عُلِمَ أَيُّهُمَا أَخْطَأَ في التَّقْدِيرِ وَغَلِطَ فيه وما هو الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ قد ثَبَتَ بِالْبَيْعِ فإذا بَيَّنَّا التَّقْدِيرَ كان ذلك بَيَانًا لِلْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ إلَّا أَنَّهُ ابْتِدَاءُ إيجَابٍ فَكَانَ عِوَضًا عن مِلْكِ الْعَيْنِ لَا عن مِلْكِ نَفْسِهِ وَهَذَا الْكَلَامُ في الْمَهْرِ أَغْلَبُ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ فيه هو مَهْرُ الْمِثْلِ على ما عَرَفْتَ على أَنَّهُ إنْ كان لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ مع بَقَاءِ الْعَقْدِ على حَالِهِ يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ مع تَغْيِيرِ الْعَقْدِ من حَيْثُ الْوَصْفُ بِأَنْ يُجْعَلَ الْأَلْفُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ بِمُقَابَلَةِ نِصْفِ الْعَبْدِ لِيَخْلُوَ النِّصْفُ عن الثَّمَنِ فَتَجْعَلُ الْأَلْفُ الزِّيَادَةُ بِمُقَابَلَةِ النِّصْفِ الْخَالِي وَهَذَا وَإِنْ كان تَغْيِيرًا وَلَكِنَّهُمَا قَصَدَا تَصْحِيحَ التَّصَرُّفِ وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِالتَّغْيِيرِ وَلَهُمَا وِلَايَةُ التَّغْيِيرِ
أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُمَا وِلَايَةَ الْفَسْخِ وَأَنَّهُ فَوْقَ التَّغْيِيرِ لِأَنَّ الْفَسْخَ رَفَعَ الْأَصْلَ وَالْوَصْفَ وَالتَّغْيِيرَ تَبْدِيلُ الْوَصْفِ مع بَقَاءِ أَصْلِ الْعَقْدِ فلما ثَبَتَ لَهُمَا وِلَايَةُ الْفَسْخِ فَوِلَايَةُ التَّغْيِيرِ أَوْلَى وَلَهُمَا حَاجَةٌ إلَى التَّغْيِيرِ لِدَفْعِ الْغَبْنِ أو لِمَقْصُودٍ آخَرَ فَمَتَى اتَّفَقَا على الزِّيَادَةِ وَقَصَدَا الصِّحَّةَ وَلَا صِحَّةَ إلَّا بهذا الشَّرْطِ يُثْبِتُ هذا الشَّرْطُ مُقْتَضَى تَصَرُّفِهِمَا تَصْحِيحًا له كما في قَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ فَمِنْهَا الْقَبُولُ من الْآخَرِ حتى لو زَادَ أَحَدُهُمَا ولم يَقْبَلْ الْآخَرُ لم تَصِحَّ الزِّيَادَةُ
وَمِنْهَا الْمَجْلِسُ حتى لو افْتَرَقَا قبل الْقَبُولِ بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ في الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ إيجَابُ الْبَيْعِ فِيهِمَا فَلَا بُدَّ من الْقَبُولِ في الْمَجْلِسِ كما في أَصْلِ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ وَأَمَّا الْحَطُّ فَلَا يُشْتَرَطُ له الْمَجْلِسُ وَلَا الْقَبُولُ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ في الثَّمَنِ بِالْإِسْقَاطِ وَالْإِبْرَاءِ عن بَعْضِهِ فَيَصِحُّ من غَيْرِ قَبُولٍ إلَّا أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ كَالْإِبْرَاءِ عن الثَّمَنِ كُلِّهِ
وَأَمَّا كَوْنُ الزِّيَادَةِ وَالْمَزِيدِ عليه من غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا فَهَلْ هو شَرْطٌ لِصِحَّةِ الزِّيَادَةِ ثَمَنًا وَمَبِيعًا وَكَذَا كَوْنُ الْحَطِّ من غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا هل هو شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ حَطًّا وَهَلْ يُؤَثِّرَانِ في فَسَادِ الْعَقْدِ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ ليس بِشَرْطٍ وَيُؤَثِّرَانِ فيه وَعَلَى قَوْلِ أبي يُوسُفَ شَرْطٌ فَيُبْطِلَانِ وَلَا يُؤَثِّرَانِ في الْعَقْدِ
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ شَرْطٌ في الزِّيَادَةِ لَا في الْحَطِّ على ما نَذْكُرُ وَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ لِصِحَّةِ الزِّيَادَةِ فَتَصِحُّ الزِّيَادَةُ سَوَاءٌ كانت قبل قَبْضِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ أو بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ الْحَطُّ لِأَنَّ دَلِيلَ جَوَازِ الزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ
وَأَمَّا قِيَامُ الْمَبِيعِ وَقْتَ الزِّيَادَةِ فَهَلْ هو شَرْطٌ لِصِحَّةِ الزِّيَادَةِ ذَكَرَ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ
____________________

(5/259)


شَرْطٌ ولم يذكر الْخِلَافَ
وَرَوَى أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ عن أبي حَنِيفَةَ رحمهم ( ( ( رحمهما ) ) ) اللَّهُ في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ عِنْدَهُ حتى لو هَلَكَ الْمَبِيعُ في يَدِ الْمُشْتَرِي أو اسْتَهْلَكَهُ أو أَعْتَقَهُ أو دَبَّرَهُ أو اسْتَوْلَدَهَا أو كان عَصِيرًا فَتَخَمَّرَ أو أَخْرَجَهُ الْمُشْتَرِي عن مِلْكِهِ جَازَتْ الزِّيَادَةُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا تَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الزِّيَادَةَ تَصَرُّفٌ في الْعَقْدِ بِالتَّغْيِيرِ وَالْعَقْدُ مُنْعَدِمٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ يعطي له حُكْمُ الْقِيَامِ لِقِيَامِ أَثَرِهِ وهو الْمِلْكُ ولم يَبْقَ بِهَلَاكِ الْعَيْنِ حَقِيقَةً أو حُكْمًا فلم يَبْقَ الْعَقْدُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ بِالزِّيَادَةِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَثْبُتُ عِنْدَنَا بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَالْمُسْتَنِدُ يَثْبُتُ لِلْحَالِ ثُمَّ يَسْتَنِدُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَجْعَلَ شيئا من الْمَبِيعِ بِمُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ لِلْحَالِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذلك بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ فَلَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِنَادَ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لها حِصَّةٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك بَعْدَ الْهَلَاكِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ في الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ لَا تَسْتَدْعِي الْمُقَابَلَةَ لِأَنَّهَا رِبْحٌ في الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كانت مَبِيعًا وَثَمَنًا صُورَةً وَتَسْمِيَةً وَمِنْ شَأْنِ الرِّبْحِ أَنْ لَا يُقَابِلَهُ شَيْءٌ فَلَا يَكُونُ قِيَامُ الْمَبِيعِ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا
وَقَوْلُهُ الْعَقْدُ مُنْعَدِمٌ عِنْدَ الزِّيَادَةِ قُلْنَا الزِّيَادَةُ عِنْدَنَا تُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ عِنْدَ وُجُودِهِ يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ إنْ كانت الزِّيَادَةُ تغيرا ( ( ( تغييرا ) ) ) على أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قِيَامَ الْمَبِيعِ شَرْطٌ لِبَقَاءِ الْبَيْعِ فإن الْبَيْعَ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ يَحْتَمِلُ الانتقاض ( ( ( الانتفاض ) ) ) في الْجُمْلَةِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ فإن الْمُشْتَرِيَ إذَا اطَّلَعَ على عَيْبٍ كان بِهِ قبل الْهَلَاكِ يَرْجِعُ عليه بِالنُّقْصَانِ وَالرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ فَسْخٌ لِلْبَيْعِ في قَدْرِ الْفَائِتِ بِالْعَيْبِ بَعْدَ هَلَاكِهِ وَهَلَاكِ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عليه دَلَّ أَنَّ الْعَقْدَ يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ هَلَاكِ الْمَعْقُودِ عليه في الْجُمْلَةِ إذَا كان في بَقَائِهِ فَائِدَةٌ وَهَهُنَا في بَقَائِهِ فَائِدَةٌ فيبقي في حَقِّهِ كما في حَقِّ الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ في مَهْرِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ مَوْتِهَا أنها جَائِزَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا تَجُوزُ وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِجَارِيَةٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ زَادَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ جَازَتْ الزِّيَادَةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ عِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ
وَأَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُمَا تَبَايَعَا عَيْنًا بِعَيْنٍ وَالْعَقْدُ عِنْدَهُ إذَا وَقَعَ على عَيْنٍ بِعَيْنٍ فَهَلَاكُ أَحَدِ الْعَيْنَيْنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الزِّيَادَةِ وَلَوْ كان الْمَبِيعُ قَائِمًا لَكِنْ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَأَخَذَ أَرْشَهَا ثُمَّ زَادَ الْمُشْتَرِي في الثَّمَنِ شيئا جَازَتْ الزِّيَادَةُ
أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ هَلَاكَ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عليه لَا يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه قَائِمٌ فَكَانَ الْعَقْدُ قَائِمًا فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلتَّغْيِيرِ بِالزِّيَادَةِ وَلَوْ رَهَنَ الْمَبِيعَ أو آجَرَهُ ثُمَّ زَادَ الْمُشْتَرِي في الثَّمَنِ جَازَتْ الزِّيَادَةُ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا على اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ على ما ذَكَرْنَا وقال مُحَمَّدٌ لو اشْتَرَى جَارِيَةً وَقَبَضَهَا فَمَاتَتْ في يَدِهِ وزاد الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ جَارِيَةً أُخْرَى فَالزِّيَادَةُ جَائِزَةٌ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَبِيعِ تَثْبُتُ بِمُقَابَلَةِ الثَّمَنِ وَالثَّمَنُ قَائِمٌ وَلَوْ زَادَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ لم يَجُزْ لِأَنَّ زِيَادَةَ الثَّمَنِ تَثْبُتُ مُقَابَلَةً بِالْمَبِيعِ وَأَنَّهُ هَالِكٌ
وَهَذَا على قِيَاسِ قَوْلِهِمَا أن قِيَامَ الْمَبِيعِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الزِّيَادَةِ فَهَلَاكُهُ يَكُونُ مَانِعًا أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَالزِّيَادَةُ في الْحَالَيْنِ جَائِزَةٌ لِأَنَّ قِيَامَ الْمَبِيعِ عِنْدَهُ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الزِّيَادَةِ فَلَا يَكُونُ هَلَاكُهُ مَانِعًا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا قِيَامُ الْمَعْقُودِ عليه فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَطِّ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الزِّيَادَةِ فَالْحَطُّ أَوْلَى
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ ليس من شَرْطِ صِحَّةِ الْحَطِّ أَنْ يَلْتَحِقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لَا مَحَالَةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ الْحَطُّ عن جَمِيعِ الثَّمَنِ فَلَا يَلْتَحِقُ إذْ لو الْتَحَقَ لعرى الْعَقْدُ عن الثَّمَنِ فلم يَلْتَحِقْ وَاعْتُبِرَ حَطًّا لِلْحَالِ وَلِأَنَّ الْحَطَّ ليس تَصَرُّفَ مُقَابَلَةٍ لِيُشْتَرَطَ له قِيَامُ الْمَحِلِّ الْقَابِلِ بَلْ هو تَصَرُّفٌ في الثَّمَنِ بِإِسْقَاطِ شَطْرِهِ فَلَا يُرَاعَى له قِيَامُ الْمَعْقُودِ عليه بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا ثُمَّ الزِّيَادَةُ مع الْحَطِّ يَخْتَلِفَانِ في حُكْمٍ آخَرَ وهو أَنَّ الزِّيَادَةَ تَنْقَسِمُ على قَدْرِ قِيمَةِ الْمَبِيعِ وَالْحَطُّ لَا يَنْقَسِمُ كما لو اشْتَرَى عَبْدَيْنِ من رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَزَادَهُ الْمُشْتَرِي مِائَةَ دِرْهَمٍ فإن الزِّيَادَةَ تَنْقَسِمُ على قَدْرِ قِيمَتِهِمَا سَوَاءٌ اشْتَرَى ولم يُسَمِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا أو سَمَّى
وَإِنْ حَطَّ الْبَائِعُ عن الْمُشْتَرِي مِائَةَ دِرْهَمٍ كان الْحَطُّ نِصْفَيْنِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّمَنَ يُقَابِلُ الْمَبِيعَ فإذا زَادَ في ثَمَنِ الْمَبِيعَيْنِ مُطْلَقًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ تُقَابِلَهُمَا الزِّيَادَةُ كَأَصْلِ الثَّمَنِ وَالْمُقَابَلَةُ في غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا تَقْتَضِي الِانْفِسَاخَ من حَيْثُ الْقِيمَةُ حُكْمًا لِلْمُعَاوَضَةِ وَالْمُزَاحَمَةِ كَمُقَابَلَةِ أَصْلِ الثَّمَنِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
بِخِلَافِ الْحَطِّ فإنه لَا تَعَلُّقَ له بِالْمَبِيعِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ في الْمَبِيعِ خَاصَّةً بِإِسْقَاطِ بَعْضِهِ فإذا حَطَّ من ثَمَنِهِمَا مُطْلَقًا فَقَدْ سَوَّى بَيْنَهُمَا في الْحَطِّ فَكَانَ الْحَطُّ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِنْ كان
____________________

(5/260)


ثَمَنُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى زِيَادَةِ قَدْرِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْحَطَّ غَيْرُ مُقَابَلٍ بِالثَّمَنِ حتى تُعْتَبَرَ قِيمَةُ الْقَدْرِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْجَوَازِ فَالزِّيَادَةُ في الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ عِنْدَنَا تَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ كان الْعَقْدَ من الِابْتِدَاءِ وَرُدَّ على الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جميعا إذَا لم يَتَضَمَّنْ الِالْتِحَاقُ فَسَادَ أَصْلِ الْعَقْدِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا
وَكَذَلِكَ الْحَطُّ فَأَمَّا إذَا تَضَمَّنَ ذلك بِأَنْ كانت الزِّيَادَةُ في الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فَهَلْ يَلْتَحِقُ بِهِ وَيُفْسِدُهُ أَمْ لَا يَلْتَحِقُ بِهِ وَكَذَلِكَ الْحَطُّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في ذلك قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ يَلْتَحِقَانِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَيُفْسِدَانِهِ وقال أبو يُوسُفَ يُبْطِلَانِهِ وَلَا يَلْتَحِقَانِ بِأَصْلٍ وَأَصْلُ الْعَقْدِ صَحِيحٌ على حَالِهِ
وقال مُحَمَّدٌ الزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ وَالْعَقْدُ على حَالِهِ وَالْحَطُّ جَائِزٌ هِبَةً مُبْتَدَأَةً وَهَذَا بِنَاءً على أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ الْمُتَأَخِّرَ عن الْعَقْدِ الصَّحِيحِ إذَا أُلْحِقَ بِهِ هل يَلْتَحِقُ بِهِ وَيُؤَثِّرُ في فَسَادِهِ أَمْ لَا وهو على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ فَاسِدٍ مُتَأَخِّرٍ عن الْعَقْدِ الصَّحِيحِ أُلْحِقَ بِهِ فَأَبُو يُوسُفَ يقول لَا تَصِحُّ الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ في أَمْوَالِ الرِّبَا لِأَنَّ ذلك لو صَحَّ لَالْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ
وَلَوْ الْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لَأَوْجَبَ فَسَادَ أَصْلِ الْعَقْدِ لِتَحَقُّقِ الرِّبَا فلم يَصِحَّ فَبَقِيَ أَصْلُ الْعَقْدِ صَحِيحًا كما كان وَمُحَمَّدٌ يقول لَا يصلح ( ( ( تصح ) ) ) الزِّيَادَةُ لِمَا قَالَهُ أبو يُوسُفَ فلم تُؤَثِّرْ في أَصْلِ الْعَقْدِ فَبَقِيَ على حَالِهِ وَيَصِحُّ الْحَطُّ لِأَنَّ الِالْتِحَاقَ من لَوَازِمِ الزِّيَادَةِ فَأَمَّا ما ليس من لَوَازِمِ الزِّيَادَةِ فَلَا يَصِحُّ الْحَطُّ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وأبو حَنِيفَةَ يقول الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ صَحِيحَانِ زِيَادَةً وَحَطًّا لِأَنَّ الْعَاقِدَيْنِ أَوْقَعَاهُمَا زِيَادَةً وَحَطًّا وَلَهُمَا وِلَايَةُ فَيَقَعَانِ زِيَادَةً وَحَطًّا وَمِنْ شَأْنِ الزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ الِالْتِحَاقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَلْتَحِقَانِ بِهِ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ هَهُنَا إبْطَالًا لِلْعَقْدِ السَّابِقِ وَلَهُمَا وِلَايَةُ الْإِبْطَالِ بِالْفَسْخِ وَكَذَا بِالزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْبَيْعُ الذي فيه خِيَارٌ فَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ حُكْمِهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ الْخِيَارَاتِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْخِيَارَاتُ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَثْبُتُ شَرْطًا وَنَوْعٌ يَثْبُتُ شَرْعًا لَا شَرْطًا وَالشَّرْطُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَثْبُتَ نَصًّا وَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ دَلَالَةً
أَمَّا الْخِيَارُ الثَّابِتُ بِالشَّرْطِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا يُسَمَّى خِيَارُ التَّعْيِينِ
وَالثَّانِي خِيَارُ الشَّرْطِ
أَمَّا خِيَارُ التَّعْيِينِ فَالْكَلَامُ فيه في جَوَازِ الْبَيْعِ الذي فيه خِيَارُ التَّعْيِينِ قد ذَكَرْنَاهُ في مَوْضِعِهِ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى بَيَانِ حُكْمِ هذا الْبَيْعِ وَإِلَى بَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ وَإِلَى بَيَانِ ما يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَلْزَمُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَحُكْمُهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي في أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ غير عَيْنٍ وَخِيَارُ التَّعْيِينِ أليه عُرِفَ ذلك بِنَصِّ كَلَامِهِمَا حَيْثُ قال الْبَائِعُ بِعْت مِنْك أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ أو هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ أو الدَّابَّتَيْنِ أو غَيْرِهِمَا من الْأَشْيَاءِ الْمُتَفَاوِتَةِ على أَنْ تَأْخُذَ أَيَّهُمَا شِئْت وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي
وَهَذَا يُوجِبُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي في أَحَدِهِمَا وَثُبُوتَ خِيَارِ التَّعْيِينِ له وَالْآخَرُ يَكُونُ مِلْكُ الْبَائِعِ أَمَانَةً في يَدِهِ ذا قَبَضَهُ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لَا على وَجْهِ التَّمْلِيكِ وَلَا على وَجْهِ الثُّبُوتِ فَكَانَ أَمَانَةً وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهُمَا جميعا لِأَنَّ الْمَبِيعَ أَحَدُهُمَا
وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قبل الْقَبْضِ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْهَالِكُ هو الْمَبِيعُ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهَلَاكِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ فَلَا يَبْطُلُ وَالْبَيْعُ قد صَحَّ بِيَقِينٍ وَوَقَعَ الشَّكُّ في بُطْلَانِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِثَمَنِهِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّ الْمَبِيعَ قد تَغَيَّرَ قب ( ( ( قبل ) ) ) الْقَبْضِ بِالتَّعْيِينِ فَيُوجِبُ الْخِيَارَ وَكَذَلِكَ لو كان اشْتَرَى أَحَدَ الْأَثْوَابِ الثَّلَاثَةِ فَهَلَكَ وَاحِدٌ منها وَبَقِيَ اثْنَانِ لَا يَبْطُلُ لِمَا قُلْنَا وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ لِأَنَّ الْمَالِكَ إذَا لم يُعَيِّنْ الْمَبِيعَ كان أَحَدَ الْبَاقِينَ فَكَانَ له أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا كما لو اشْتَرَى أَحَدَهُمَا من الِابْتِدَاءِ
وَلَوْ هَلَكَ الْكُلُّ قبل الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْمَبِيعَ قد هَلَكَ بقين ( ( ( بيقين ) ) ) فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا صِفَةُ هذا الْحُكْمِ فَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ الثبت ( ( ( الثابت ) ) ) بهذا الْبَيْعِ قبل الِاخْتِيَارِ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُمَا جميعا لِأَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ يَمْنَعُ لُزُومَ الْعَقْدِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَيَمْنَعُ لُزُومَ الْمِلْكِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ وَهَذَا لِأَنَّ جَوَازَ هذا النَّوْعِ من الْبَيْعِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِتَعَامُلِ الناس لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذلك لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَا تَنْعَدِمُ حَاجَتُهُمْ إلَّا بَعْدَ اللُّزُومِ
لِأَنَّهُ عَسَى لَا يُوَافِقُهُ كِلَاهُمَا جميعا فَيَحْتَاجَ إلَى رَدِّهِمَا
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ ما يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ اخْتِيَارِيٌّ وَضَرُورِيٌّ وَالِاخْتِيَارِيُّ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا صَرِيحُ الِاخْتِيَارِ وما يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ وَالثَّانِي الِاخْتِيَارُ من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ
أَمَّا الصَّرِيحُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ
____________________

(5/261)


اخْتَرْت هذا الثَّوْبَ أو شِئْته أو رَضِيت بِهِ أو اخْتَرْته وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا فَقَدْ عَيَّنَ مِلْكَهُ فيه فَيَسْقُطُ خِيَارُ التَّعْيِينِ وَلَزِمَ الْبَيْعُ
وَأَمَّا الِاخْتِيَارُ من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ منه فِعْلٌ في أَحَدِهِمَا يَدُلُّ على تَعْيِينِ الْمِلْكِ فيه وهو كُلُّ تَصَرُّفٍ هو دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْمِلْكِ في الشِّرَاءِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَسَنَذْكُرُ ذلك في الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ في أَحَدِهِمَا فَتَصَرُّفُهُ مَوْقُوفٌ إنْ تَعَيَّنَ ما تَصَرَّفَ فيه لِلْبَيْعِ لم يَنْفُذْ تَصَرُّفُهُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَصَرَّفَ في مِلْكِ غَيْرِهِ وَإِنْ تَعَيَّنَ ما تَصَرَّفَ فيه لِلْأَمَانَةِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ إنه تَصَرَّفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَنْفُذُ
وَأَمَّا الضَّرُورِيُّ فَنَحْوَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَيَبْطُلَ الْخِيَارُ لِأَنَّ الْهَالِكَ مِنْهُمَا تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وَلَزِمَهُ ثَمَنُهُ وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْأَمَانَةِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مَبِيعٌ وَالْآخَرُ أَمَانَةٌ وَالْأَمَانَةُ مِنْهُمَا مُسْتَحَقُّ الرَّدِّ على الْبَائِعِ وقد خَرَجَ الْهَالِكُ عن احْتِمَالِ الرَّدِّ فيه فَتَعَيَّنَ الْبَاقِي لِلرَّدِّ فَتَعَيَّنَ الْهَالِكُ لِلْبَيْعِ ضَرُورَةً
وَلَوْ هَلَكَا جميعا قبل الْقَبْضِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إن هَلَكَا على التَّعَاقُبِ وَإِمَّا إن هَلَكَا مَعًا فَإِنْ هَلَكَا على التَّعَاقُبِ فَالْأَوَّلُ يَهْلِكُ مَبِيعًا وَالْآخَرُ أَمَانَةً لِمَا ذَكَرْنَا
وَإِنْ هَلَكَا مَعًا لَزِمَهُ ثَمَنُ نِصْفِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ ليس أَحَدُهُمَا بِالتَّعْيِينِ أَوْلَى من الْآخَرِ فَشَاعَ الْبَيْعُ فِيهِمَا جميعا
وَلَوْ هَلَكَا على التَّعَاقُبِ لَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا في تَرْتِيبِ الْهَلَاكِ فَإِنْ كان ثَمَنُهُمَا مُتَسَاوِيًا فَلَا فَائِدَةَ في هذا الِاخْتِلَافِ لِأَنَّ أَيَّهُمَا هَلَكَ أَوَّلًا فَثَمَنُ الْآخَرِ مِثْلُهُ فَلَا يُفِيدُ الِاخْتِلَافُ
وَإِنْ كان مُتَفَاوِتًا بِأَنْ كان ثَمَنُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ فَادَّعَى الْبَائِعُ هَلَاكَ أَكْثَرِهِمَا ثَمَنًا وَادَّعَى الْمُشْتَرِي هَلَاكَ أَقَلِّهِمَا ثَمَنًا
كان أبو يُوسُفَ أَوَّلًا يقول يَتَحَالَفَانِ وَأَيُّهُمَا نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ وَإِنْ حَلَفَا جميعا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا هَلَكَا مَعًا وَيَلْزَمُهُ ثَمَنُ نِصْفِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
ثُمَّ رَجَعَ وقال الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مع يَمِينِهِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا على أَصْلِ الدَّيْنِ وَاخْتَلَفَا في قَدْرِهِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ مَتَى وَقَعَ بين صَاحِبِ الدَّيْنِ وَبَيْنَ الْمَدْيُونِ في قَدْرِ الدَّيْنِ أو في جِنْسِهِ أو نَوْعِهِ أو صِفَتِهِ كان الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَدْيُونِ مع يَمِينِهِ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ يَدَّعِي عليه زِيَادَةً وهو يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَسَقَطَتْ الْيَمِينُ وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ زِيَادَةً
وَلَوْ تَعَيَّبَ أَحَدُهُمَا فَإِنْ كان قبل الْقَبْضِ لَا يَتَعَيَّنُ الْمَعِيبُ لِلْبَيْعِ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لم يُوجَدْ لَا نَصًّا وَلَا دَلَالَةً وَلَا ضَرُورَةَ إلَى التَّعْيِينِ أَيْضًا لِإِمْكَانِ الرَّدِّ وَالْمُشْتَرِي على خِيَارِهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَعِيبَ مِنْهُمَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْآخَرَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمَا كما لو لم يَتَعَيَّبْ أَصْلًا فَإِنْ أَخَذَ الْمَعِيبَ مِنْهُمَا أَخَذَهُ بِجَمِيعِ ثَمَنِهِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ هو الْمَبِيعُ من الْأَصْلِ وَكَذَلِكَ لو تَعَيَّبَا جميعا فَالْمُشْتَرِي على خِيَارِهِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كان بَعْدَ الْقَبْضِ تَعَيَّنَ الْمَعِيبُ لِلْبَيْعِ وَلَزِمَهُ ثَمَنُهُ وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْأَمَانَةِ كما إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّ تَعَيُّبَ الْمَبِيعِ هَلَاكُ بَعْضِهِ فَلِهَذَا مُنِعَ الرَّدُّ وَلَزِمَ الْبَيْعُ في الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ فَكَذَا في غَيْرِ الْمُعَيَّنِ يَمْنَعُ الرَّدَّ وَتَعَيَّنَ الْمَبِيعُ
وَلَوْ تَعَيَّبَا جميعا فَإِنْ كان على التَّعَاقُبِ تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ لِلْبَيْعِ وَلَزِمَهُ ثَمَنُهُ وَيُرَدُّ الْآخَرُ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَغْرَمُ بِحُدُوثِ الْعَيْبِ شيئا لِمَا قُلْنَا إنَّهُ أَمَانَةٌ
وَإِنْ تَعَيَّبَا مَعًا لَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا لِلْبَيْعِ لِأَنَّهُ ليس أَحَدُهُمَا بِالتَّعْيِينِ أَوْلَى من الْآخَرِ
وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِثَمَنِهِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَتَعَيَّنْ أَحَدُهُمَا لِلْبَيْعِ بَقِيَ الْمُشْتَرِي على خِيَارِهِ إلَّا أَنَّهُ ليس له أَنْ يَرُدَّهُمَا جميعا لِأَنَّ الْبَيْعَ قد لَزِمَ في أَحَدِهِمَا بِتَعْيِينِهِمَا في يَدِ الْمُشْتَرِي وَبَطَلَ خِيَارُ الشَّرْطِ
وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ من يقول من الْمَشَايِخِ إنَّ هذا الْبَيْعَ فيه خِيَارَانِ خِيَارُ التَّعْيِينِ وَخِيَارُ الشَّرْطِ وَلَا بُدَّ له من رُتْبَةٍ مَعْلُومَةٍ إذْ لو لم يَكُنْ لَمَلَكَ رَدَّهُمَا جميعا كما لو لم يَتَعَيَّبْ أَحَدُهُمَا أَصْلًا لَكِنَّهُ لم يَمْلِكْ لِأَنَّ رَدَّهُمَا جميعا قبل التَّعْيِيبِ ثَبَتَ حُكْمًا لِخِيَارِ الشَّرْطِ وقد بَطَلَ خِيَارُ الشَّرْطِ بَعْدَ تَعَيُّنِهِمَا مَعًا فلم يَمْلِكْ رَدَّهُمَا وَبَقِيَ خِيَارُ التَّعْيِينِ فَيَمْلِكُ رَدَّ أَحَدِهِمَا
وَلَوْ ازْدَادَ عَيْبُ أَحَدِهِمَا أو حَدَثَ معه غَيْرُهُ لَزِمَهُ ذلك لِأَنَّ عَدَمَ التَّعْيِينِ لِلْمُزَاحَمَةِ وقد بَطَلَتْ بِزِيَادَةِ عَيْبِ أَحَدِهِمَا أو حُدُوثِ عَيْبٍ آخَرَ معه وَلَا يَبْطُلُ هذا الْخِيَارُ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي بَلْ يُورَثُ بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ لِأَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْمُوَرِّثِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ له في أَحَدِهِمَا غير عَيْنٍ وقد قام الْوَارِثُ مَقَامَهُ في ذلك الْمِلْكِ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهُمَا شَاءَ دُونَ الْآخَرِ إلَّا أَنَّهُ ليس له أَنْ يَرُدَّهُمَا جميعا وقد كان لِلْمُوَرِّثِ ذلك
وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ أُولَئِكَ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ لَا بُدَّ من خِيَارَيْنِ في هذا الْبَيْعِ وقد بَطَلَ أَحَدُهُمَا وهو خِيَارُ الشَّرْطِ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ لَا يُورَثُ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا فَبَطَلَ الْحُكْمُ الْمُخْتَصُّ بِهِ وهو وِلَايَةُ رَدِّهِمَا جميعا
هذا إذَا اشْتَرَى أَحَدَهُمَا شِرَاءً صَحِيحًا
____________________

(5/262)


فَأَمَّا إذَا اشْتَرَى أَحَدَهُمَا شِرَاءً فَاسِدًا بِأَنْ قال الْبَائِعُ بِعْت مِنْك أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِكَذَا ولم يذكر الْخِيَارَ أَصْلًا فإن الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ وَاحِدًا مِنْهُمَا قبل الْقَبْضِ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ قبل الْقَبْضِ
فَإِنْ قَبَضَهُمَا مَلَكَ أَحَدَهُمَا مِلْكًا فَاسِدًا
وَأَيُّهُمَا هَلَكَ لَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِالْقِيمَةِ
وَلَوْ هلك ( ( ( هلكا ) ) ) أحدهما فَإِنْ كانت على التَّعَاقُبِ لَزِمَتْهُ قِيمَةُ الْهَالِكِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وإنه بَيْعٌ فَاسِدٌ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقِيمَةِ
ولو هَلَكَا مَعًا لَزِمَهُ نِصْفُ قِيمَةِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ ليس أَحَدُهُمَا بِتَعْيِينِهِ لِلْبَيْعِ أَوْلَى من الْآخَرِ فَشَاعَ الْبَيْعُ فِيهِمَا وَلَوْ تَعَيَّبَ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا جميعا
أَمَّا غَيْرُ الْمَعِيبِ فَلِأَنَّهُ أَمَانَةٌ وَأَمَّا الْمَعِيبُ فَلِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا وَاجِبُ الرَّدِّ فَيَرُدَّهُمَا وَيَرُدَّ مَعَهُمَا نِصْفَ نُقْصَانِ الْعَيْبِ لِأَنَّ الْمُتَعَيِّبَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هو الْمَبِيعُ فَيَجِبُ نُقْصَانُ الْعَيْبِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هو الْأَمَانَةُ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ وَلَا دَلَالَةَ على التَّعْيِينِ فَيَتَنَصَّفَ الْوَاجِبُ
وَلَوْ تَعَيَّبَ الْآخَرُ بَعْدَ ذلك
وَكَذَا الْجَوَابُ في نُقْصَانِ الْآخَرِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَمَانَةٌ وَالْآخَرَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ
وَلَوْ تَعَيَّبَا مَعًا فَكَذَلِكَ يَرُدُّهُمَا مع نِصْفِ نُقْصَانِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا ليس بِأَوْلَى من الْآخَرِ في التَّعْيِينِ لِلْبَيْعِ
وَلَوْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي في أَحَدِهِمَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فيه وَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ في الْآخَرِ بَعْدَ ذلك لِأَنَّ الْمُتَصَرَّفَ فيه تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ
وَلَوْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ في أَحَدِهِمَا فَتَصَرُّفُهُ مَوْقُوفٌ إنْ رُدَّ ذلك عليه نَفَذَ تَصَرُّفُهُ فيه لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَصَرَّفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ وَإِنْ لم يُرَدَّ عليه وَتَصَرَّفَ فيه الْمُشْتَرِي نَفَذَ تَصَرُّفُهُ فيه وَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ وَبَطَلَ تَصَرُّفُ الْبَائِعِ فيه وَكَذَلِكَ إذَا هَلَكَ في يَدِ الْمُشْتَرِي وَالْأَصْلُ أَنَّ في كل مَوْضِعٍ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ الثَّمَنُ في الْبَيْعِ الصَّحِيحِ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي أَمَّا إذَا كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَلَا يَزُولُ أَحَدُهُمَا عن مِلْكِهِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ وَلَهُ أَنْ يُلْزِمَ الْمُشْتَرِيَ أَيَّ ثَوْبٍ شَاءَ قَبْضَهُ لِلْخِيَارِ وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ التَّرْكِ لِأَنَّ الْبَيْعَ بَاتَ في جَانِبِهِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُلْزِمَهُمَا الْمُشْتَرِيَ لِأَنَّ الْمَبِيعَ أَحَدُهُمَا وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قبل الْقَبْضِ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَيَهْلِكُ أَمَانَةً لِمَا ذَكَرْنَا في خِيَارِ الْمُشْتَرِي وَخِيَارُ الْبَائِعِ على حَالِهِ إنْ شَاءَ أَلْزَمَ الْمُشْتَرِيَ الْبَاقِيَ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ فيه لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَيْسَ له أَنْ يُلْزِمَهُ الْهَالِكَ لِأَنَّهُ هَلَكَ أَمَانَةً
وَإِنْ هَلَكَا جميعا قبل الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ بِيَقِينٍ
وَإِنْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ كان الْهَالِكُ أَمَانَةً أَيْضًا كما لو هَلَكَ قبل الْقَبْضِ وَأَلْزَمَهُ الْبَاقِيَ مِنْهُمَا إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ فيه لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ السِّلْعَةِ عن مِلْكِهِ فَيَهْلِكُ على مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَهُ الْخِيَارُ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ هَلَكَا جميعا فَإِنْ كان هَلَاكُهُمَا على التَّعَاقُبِ فَالْأَوَّلُ يَهْلِكُ أَمَانَةً وَعَلَيْهِ قِيمَةُ آخَرِهِمَا هَلَاكًا لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وإنه مَبِيعٌ هَلَكَ في يَدِ الْمُشْتَرِي وَفِيهِ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ وَإِنْ هَلَكَا مَعًا لَزِمَهُ نِصْفُ قِيمَةِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ ليس أَحَدُهُمَا بِالتَّعْيِينِ أَوْلَى من الْآخَرِ
وَلَوْ تَعَيَّبَ أَحَدُهُمَا أو تَعَيَّبَا مَعًا قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ فَخِيَارُ الْبَائِعِ على حَالِهِ لِأَنَّ الْمَعِيبَ لم يَتَعَيَّنْ لِلْعَيْبِ لِانْعِدَامِ الْمُعَيَّنِ فَكَانَ الْبَائِعُ على خِيَارِهِ له أَنْ يُلْزِمَ الْمُشْتَرِيَ أَيَّهُمَا شَاءَ كما قبل التَّعَيُّبِ
ثُمَّ إذَا لَزِمَهُ أَحَدُهُمَا يُنْظَرُ إنْ كان ذلك غير الْمُتَعَيَّبِ مِنْهُمَا لَزِمَهُ ما لَزِمَهُ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي في تَرْكِهِ لِانْعِدَامِ التعين ( ( ( التعيين ) ) ) فيه
وَإِنْ كان ما لَزِمَهُ هو الْمُتَعَيَّبُ فَإِنْ تَعَيَّبَ قبل الْقَبْضِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ قد تَغَيَّرَ قبل الْقَبْضِ وَتَغَيُّرُ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ تَعَيَّبَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا خِيَارَ له لِأَنَّ التعين ( ( ( التعيب ) ) ) بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ إن شَاءَ الْبَائِعُ فَسَخَ الْبَيْعَ وَاسْتَرَدَّهُمَا لِأَنَّ الْبَيْعَ غَيْرُ لَازِمٍ فَلَهُ وِلَايَةُ الْفَسْخِ
ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان تَعَيُّبُهُمَا في يَدِ الْبَائِعِ فَلَا شَيْءَ له لِأَنَّهُمَا تَعَيَّبَا لَا في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كان تَعَيُّبُهُمَا في يَدِ الْمُشْتَرِي فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ من الْمُشْتَرِي نِصْفَ نُقْصَانِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مَضْمُونٌ عِنْدَهُ بِالْقِيمَةِ وَالْآخَرُ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ وَلَا يَعْلَمُ أَحَدَهُمَا من الْآخَرِ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِمَا أو في أَحَدِهِمَا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا ليس بِمَبِيعٍ بِيَقِينٍ وَالْآخَرُ مَبِيعٌ لَكِنْ لِبَائِعِهِ فيه خِيَارٌ وَخِيَارُ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عن مِلْكِهِ
وَلَوْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ في أَحَدِهِمَا جَازَ تَصَرُّفُهُ فيه وَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْبَيْعِ وَلَهُ خِيَارُ الْإِلْزَامُ فيه وَالْفَسْخُ وَلَوْ تَصَرَّفَ فِيهِمَا جميعا جَازَ تَصَرُّفُهُ فِيهِمَا وَيَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِيهِمَا دَلِيلُ إقْرَارِ الْمِلْكِ فِيهِمَا فَيَضْمَنُ فَسْخَ الْبَيْعِ كما في الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ فَالْكَلَامُ في جَوَازِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ
____________________

(5/263)


وَشِرَائِهِ قد م ( ( ( مر ) ) ) في مَوْضِعِهِ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى بَيَانِ صِفَةِ هذا الْبَيْعِ وَإِلَى بَيَانِ حُكْمِهِ وَإِلَى بَيَانِ ما يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وَإِلَى بَيَانِ ما يَنْفَسِخُ بِهِ الْبَيْعُ
أَمَّا صِفَتُهُ فَهِيَ أَنَّهُ بَيْعٌ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ لُزُومَ الصَّفْقَةِ
قال سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أو خِيَارٌ
وَلِأَنَّ الْخِيَارَ هو التَّخْيِيرُ بين الْبَيْعِ وَالْإِجَازَةِ وَهَذَا يَمْنَعُ اللُّزُومَ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ
ثُمَّ الْخِيَارُ كما يَمْنَعُ لُزُومَ الصَّفْقَةِ فَعَدَمُ الْقَبْضِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِنَفْسِ الْبَيْعِ مِلْكٌ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ وَإِنَّمَا التَّأَكُّدُ بِالْقَبْضِ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا كان الْمَبِيعُ شيئا وَاحِدًا أو أَشْيَاءَ أَنَّهُ ليس لِمَنْ له الْخِيَارُ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ من غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ سَوَاءً كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أو لِلْمُشْتَرِي وَسَوَاءً كان الْبَيْعُ مَقْبُوضًا أو غير مَقْبُوضٍ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ في اللُّزُومِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ تَفْرِيقُ أَصْلِ الصَّفْقَةِ وهو الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ إلَّا بِرِضَا الْعَاقِدَيْنِ بِأَنْ يَقْبَلَ الْبَيْعَ في بَعْضِ الْمَبِيعِ دُونَ الْبَعْضِ بَعْدَ إضَافَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ إلَى الْجُمْلَةِ وَيُوجَبُ الْبَيْعُ بَعْدَ إضَافَةِ الْقَبُولِ إلَى جُمْلَتِهِ لَا يَجُوزُ في وَصْفِهَا
وهو أَنْ يَلْزَمَ الْبَيْعُ في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ إلَّا بِرِضَاهُمَا
وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ في يَدِ الْبَائِعِ وَالْخِيَارُ له لم يَكُنْ له أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ في الْبَاقِي إلَّا بِرِضَا الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَيْعَ انْفَسَخَ في قَدْرِ الْهَالِكِ فَالْإِجَازَةُ في الْبَاقِي تَكُونُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ على الْمُشْتَرِي فَلَا يَجُوزُ من غَيْرِ رِضَاهُ
وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا في يَدِ الْمُشْتَرِي فَلِلْبَائِعِ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ في الْبَاقِي في قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ وَلَيْسَ له أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ في الْبَاقِي وَإِنْ كان الْمَبِيعُ بما ( ( ( مما ) ) ) له مِثْلٌ من الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ فَهَلَكَ بَعْضُهُ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ في الْبَاقِي بِلَا خِلَافٍ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِجَازَةَ هَهُنَا بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ التَّمْلِيكِ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عن مِلْكِهِ فَكَانَ لِلْإِجَازَةِ حُكْمُ الْإِنْشَاءِ وَالْهَالِكُ مِنْهُمَا خَرَجَ عن احْتِمَالِ الْإِنْشَاءِ وَالْإِنْشَاءُ في الْبَاقِي تَمْلِيكٌ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ فِيمَا لَا مِثْلَ له فلم يَحْتَمِلْ الْإِنْشَاءَ وَفِيمَا له مِثْلٌ مَعْلُومَةٌ فَاحْتَمَلَ الْإِنْشَاءَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن هذه الْإِجَازَةَ تُظْهِرُ أَنَّ الْعَقْدَ من حِينِ وُجُودِهِ انْعَقَدَ في حَقِّ الْحُكْمِ فلم يَكُنْ الْهَلَاكُ مَانِعًا من الْإِجَازَةِ
وَقَوْلُهُ الْإِجَازَةُ هَهُنَا إنْشَاءٌ قُلْنَا مَمْنُوعٌ فإن الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ في حَقِّ الْحُكْمِ بِدُونِ الْإِجَازَةِ من انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَبِمَوْتِ من له الْخِيَارُ
وَلَوْ كانت الْإِجَازَةُ إنْشَاءً لَتَوَقَّفَ حُكْمُ الْعَقْدِ على وُجُودِهَا وَهَذَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ إذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ قبل الْإِجَازَةِ ثُمَّ أَجَازَهُ الْمَالِكُ لم يَجُزْ وَهَهُنَا جَازَ فَهَلَاكُ الْمَبِيعِ في بَيْعِ الْفُضُولِيِّ يَمْنَعُ من الْإِجَازَةِ وَهَهُنَا لَا يَمْنَعُ
وجه ( ( ( ووجه ) ) ) الْفَرْقِ أَنَّ بِيعَ الْفُضُولِيِّ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَالْمُسْتَنَدُ ظَاهِرٌ من وَجْهٍ مُقْتَصِرٌ من وَجْهٍ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ إظْهَارًا من وَجْهٍ إنْشَاءً من وَجْهٍ فَمِنْ حَيْثُ أنها إظْهَارٌ كان لَا يَقِفُ صِحَّتُهُ على قِيَامِ الْمَحِلِّ وَمِنْ حَيْثُ أنها إنْشَاءٌ يَقِفُ عليه
فَأَمَّا الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَالْحُكْمُ يَثْبُتُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ إظهارا ( ( ( لإظهار ) ) ) أَنَّ الْعَقْدَ من وَقْتِ وُجُودِهِ انْعَقَدَ في حَقِّ الْحُكْمِ وَالْمَحِلُّ كان قَابِلًا وَقْتَ الْعَقْدِ فَهَلَاكُهُ بَعْدَ ذلك لَا يَمْنَعُ من الْإِجَازَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ في رَجُلَيْنِ اشْتَرَيَا شيئا على أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فيه ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَاخْتَارَ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْبَيْعُ حتى لَا يَمْلِكَ الْآخَرُ الْفَسْخَ احْتِرَازًا عن تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ في اللُّزُومِ وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في خِيَارِ الْعَيْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا حُكْمُ هذا الْبَيْعِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فيه قال أَصْحَابُنَا لَا حُكْمَ لِلْحَالِ وَالْخِيَارُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ في الْحُكْمِ لِلْحَالِ لِمَنْ له الْخِيَارُ بَلْ هو لِلْحَالِ مَوْقُوفٌ على مَعْنَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ حُكْمُهُ لِلْحَالِ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ يَتَّصِلُ بِهِ الْفَسْخُ أو الْإِجَازَةُ فَيُتَوَقَّفُ في الْجَوَابِ لِلْحَالِ وَهَذَا تَفْسِيرُ التَّوَقُّفِ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في قَوْلٍ مِثْلَ قَوْلِنَا وفي قَوْلٍ هو مُنْعَقِدٌ مُفِيدٌ لِلتَّمَلُّكِ لَكِنَّ مِلْكًا مُسَلَّطًا على فَسْخِهِ بِالْخِيَارِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَا يُفَارِقُ الْبَيْعَ الْبَاتَّ إلَّا في الْخِيَارِ وَالْخِيَارُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ بِالْإِجْمَاعِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ على أَصْلِكُمْ
وَلَنَا أَنَّ جَوَازَ هذا الْبَيْعِ مع أَنَّهُ مَعْدُولٌ بِهِ عن الْقِيَاسِ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ وَلَا انْدِفَاعَ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ إلَّا بِامْتِنَاعِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْحَالِ لِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ المشتري قَرِيبَ الْمُشْتَرِي فَلَوْ مَلَكَهُ لِلْحَالِ لَعَتَقَ عليه لِلْحَالِ فَلَا تَنْدَفِعُ حَاجَتُهُ ثُمَّ الْخِيَارُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كان لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي جميعا وَإِمَّا إنْ كان لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ وَإِمَّا إنْ كان لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ وَإِمَّا إنْ كان لِغَيْرِهِمَا بِأَنْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا الْخِيَارَ لِثَالِثٍ فَإِنْ كان الْخِيَارُ لَهُمَا فَلَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ في حَقِّ الْحُكْمِ في الْبَدَلَيْنِ جميعا فَلَا يَزُولُ الْمَبِيعُ عن
____________________

(5/264)


مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَا يَدْخُلُ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي
وَكَذَا لَا يَزُولُ الثَّمَنُ عن مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَلَا يَدْخُلُ في مِلْكِ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْمَانِعَ من الِانْعِقَادِ في حَقِّ الحكم ( ( ( حكم ) ) ) مَوْجُودٍ في الْجَانِبَيْنِ جميعا وهو الْخِيَارُ وَإِنْ كان البائع ( ( ( للبائع ) ) ) وَحْدَهُ فَلَا يَنْعَقِدُ في الْحُكْمِ في حَقِّهِ حتى لَا يَزُولَ الْمَبِيعُ عن مِلْكِهِ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فيه وَيَخْرُجُ الثَّمَنُ عن مِلْكِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَيْعَ بَاتٌّ في حَقِّهِ وَهَلْ يَدْخُلُ في مِلْكِ الْبَائِعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يَدْخُلُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَدْخُلُ وَإِنْ كان لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ لَا يَنْعَقِدُ في حَقِّ الْحُكْمِ في حَقِّهِ حتى لَا يَزُولَ الثَّمَنُ عن مِلْكِهِ
وَلَا يَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فيه إذَا كان عَيْنًا وَلَا يَسْتَحِقَّهُ على الْمُشْتَرِي إذَا كان دَيْنًا وَيَخْرُجَ الْمَبِيعُ عن مِلْكِ الْبَائِعِ حتى لَا يَجُوزَ له التَّصَرُّفُ فيه لِأَنَّ لاالبيع ( ( ( البيع ) ) ) بَاتٌّ في حَقِّهِ وَهَلْ يَدْخُلُ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يَدْخُلُ وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُسْتَدْعِي هو الْأَصْلُ وَالِامْتِنَاعُ بِعَارِضٍ وَالْمَانِعُ هَهُنَا هو الْخِيَارُ وَأَنَّهُ وُجِدَ في أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لَا غَيْرُ فَيَعْمَلُ في الْمَنْعِ فيه لَا في الْجَانِبِ الْآخَرِ أَلَا تَرَى كَيْفَ خَرَجَ الْمَبِيعُ عن مِلْكِ الْبَائِعِ إذَا كان الخيرا ( ( ( الخيار ) ) ) لِلْمُشْتَرِي وَالثَّمَنُ عن مِلْكِ الْمُشْتَرِي إذَا كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَدَلَّ أَنَّ الْبَيْعَ بَاتٌّ في حَقِّ من لَا خِيَارَ له فَيَعْمَلُ في بَتَاتِ هذا الْحُكْمِ الذي وُضِعَ له
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أن الْخِيَارَ إذَا كان لِلْبَائِعِ فَالْمَبِيعُ لم يَخْرُجْ عن مِلْكِهِ وإذا كان لِلْمُشْتَرِي فَالثَّمَنُ لم يَخْرُجْ عن مِلْكِهِ وَهَذَا يَمْنَعُ دُخُولَ الثَّمَنِ في مِلْكِ الْبَائِعِ في الْأَوَّلِ وَدُخُولَ الْمَبِيعِ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَمَعَ بين الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ في عَقْدِ الْمُبَادَلَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَالثَّانِي أن في هذا تَرْكَ التَّسْوِيَةِ بين الْعَاقِدَيْنِ في حُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمَا لَا يَرْضَيَانِ بِالتَّفَاوُتِ
وَقَوْلُهُمَا الْبَيْعُ بَاتٌّ في حَقِّ من لَا خِيَارَ له قُلْنَا هذا يُوجِبُ الْبَتَاتَ في حَقِّ الزَّوَالِ لَا في حَقِّ الثُّبُوتِ لِأَنَّ الْخِيَارَ من أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ له أَثَرٌ في الْمَنْعِ من الزَّوَالِ وَامْتِنَاعُ الزَّوَالِ من أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ يَمْنَعُ الثُّبُوتَ من الْجَانِبِ الْآخَرِ إنْ كان لَا يَمْنَعُ الزَّوَالَ لِمَا ذَكَرْنَا من الْوَجْهَيْنِ وَيَتَفَرَّعُ على هذا الْأَصْلِ بين أبي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ مَسَائِلُ
ومنها إذَا اشْتَرَى ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَعْتِقُ عليه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لم يَدْخُلْ في مِلْكِهِ عِنْدَهُ وَلَا عِتْقَ بِدُونِ الْمِلْكِ وهو على خِيَارِهِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ فَإِنْ فَسَخَ لَا يَعْتِقُ لِأَنَّ الْعَبْدَ عَادَ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَإِنْ أَجَازَهُ عَتَقَ لِأَنَّهُ سَقَطَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْعَقْدُ فَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ وَعِنْدَهُمَا يَعْتِقُ عليه بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ وَيَبْطُلُ خِيَارُهُ لِأَنَّهُ دخل في مِلْكِهِ وَلَوْ قال العبد ( ( ( لعبد ) ) ) الْغَيْرِ إنْ اشْتَرَيْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَتَقَ عليه بِالْإِجْمَاعِ
أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ فَوُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ فَعَتَقَ
وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَلَوْ نُجِزَ عِتْقُهُ بَعْدَ شِرَائِهِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ عَتَقَ وَسَقَطَ خِيَارُهُ لِكَوْنِ الْإِعْتَاقِ إجَازَةً وَاخْتِيَارًا لِلْمِلْكِ على ما نَذْكُرُ
كَذَا هذا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً قد وَلَدَتْ منه بِالنِّكَاحِ على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ له عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهَا لم تَدْخُلْ في مِلْكِهِ وهو على خِيَارِهِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَعَادَتْ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ له وَلَزِمَهُ الثَّمَنُ وَعِنْدَهُمَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ في مِلْكِهِ فَبَطَلَ خِيَارُهُ وَلَزِمَهُ الثَّمَنُ
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهَا لم تَدْخُلْ في مِلْكِهِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا فَسَدَ لِدُخُولِهَا في مِلْكِهِ وَمِلْكُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ رَقَبَةَ صَاحِبِهِ أو شِقْصًا منها يَرْفَعُ النِّكَاحَ فَإِنْ وَطِئَهَا في مُدَّةِ الْخِيَارِ فَإِنْ كانت بِكْرًا كان إجَازَةً بِالْإِجْمَاعِ
أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلِأَجْلِ النُّقْصَانِ بِإِزَالَةِ الْبَكَارَةِ وَهِيَ الْعُذْرَةُ لَا لِأَجْلِ الْوَطْءِ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ فَكَانَ حِلُّ الْوَطْءِ قَائِمًا فَلَا حَاجَةَ إلَى مِلْكِ الْيَمِينِ
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَجْلِ النُّقْصَانِ وَالْوَطْءِ جميعا فَإِنْ كانت ثَيِّبًا لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ بطلانه ( ( ( بطلان ) ) ) الْخِيَارِ لِضَرُورَةِ حِلِّ الْوَطْءِ وَلَا ضَرُورَةَ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ فَكَانَ حِلُّ الْوَطْءِ ثَابِتًا فَلَا ضَرُورَةَ إلَى مِلْكِ الْيَمِينِ بِحِلِّ الْوَطْءِ فلم يَبْطُلْ الْخِيَارُ وعندهما يَبْطُلُ خِيَارُهُ لِضَرُورَةِ حِلِّ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ بِخِلَافِ ما إذَا لم تَكُنْ الْجَارِيَةُ زَوْجَةً له وَوَطِئَهَا أَنَّهُ يَكُونُ إجَازَةً سَوَاءٌ كانت بِكْرًا أو ثَيِّبًا لِأَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ هُنَاكَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِانْعِدَامِ النِّكَاحِ فَكَانَ إقْدَامُهُ على الْوَطْءِ اخْتِيَارًا لِلْمِلْكِ فَيَبْطُلُ الْخِيَارُ
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَقَبَضَهَا فَحَاضَتْ عِنْدَهُ في مُدَّةِ الْخِيَارِ حَيْضَةً
____________________

(5/265)


كَامِلَةً أو بَعْضَ حَيْضَةٍ في مُدَّةِ الْخِيَارِ فَاخْتَارَ الْبَيْعَ لَا تجزي تِلْكَ الْحَيْضَةُ في الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ أُخْرَى لِأَنَّهَا لم تَدْخُلْ في مِلْكِهِ عِنْدَهُ ولم يُوجَدْ سَبَبُ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ وَعِنْدَهُمَا يَحْتَسِبُ بها لِأَنَّهَا دَخَلَتْ في مِلْكِهِ فَكَانَتْ الْحَيْضَةُ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ فَكَانَتْ مَحْسُوبَةً منه
وَلَوْ اخْتَارَ فَسْخَ الْبَيْعِ وَرَدَّ الْجَارِيَةَ فَلَا اسْتِبْرَاءَ على الْبَائِعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كان الرَّدُّ قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ وَعِنْدَهُمَا قبل الْقَبْضِ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجِبُ وَبَعْدَ الْقَبْضِ يَجِبُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا على ما ذَكَرْنَا في مَسَائِلِ الِاسْتِبْرَاءِ
وَإِنْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَفَسَخَ الْعَقْدَ لَا يَجِبُ عليه الِاسْتِبْرَاءُ لِأَنَّهَا لم تَخْرُجْ عن مِلْكِهِ وَإِنْ أَجَازَهُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ الْإِجَازَةِ وَالْقَبْضِ بِحَيْضَةٍ أُخْرَى بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بَعْدَ الْإِجَازَةِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ مِلْكًا مُطْلَقًا
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى شيئا بِعَيْنِهِ على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ ثُمَّ أَوْدَعَهُ الْبَائِعُ في مُدَّةِ الْخِيَارِ فَهَلَكَ في مُدَّةِ الْخِيَارِ أو بَعْدَهَا يَهْلِكُ على الْبَائِعِ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لم يَدْخُلْ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَلَمَّا دخل رَدُّهُ على الْبَائِعِ فَقَدْ ارْتَفَعَ قَبْضُهُ فَهَلَكَ الْمَبِيعُ قبل الْقَبْضِ وَعِنْدَهُمَا يَهْلِكُ على الْمُشْتَرِي وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ لِأَنَّهُ دخل في مِلْكِهِ أَعْنِي الْمُشْتَرِيَ فَقَدْ أَوْدَعَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَيَدُ الْمُودَعِ يَدُهُ فَهَلَاكُهُ في يَدِهِ كَهَلَاكِهِ في يَدِ نَفْسِهِ وَلَوْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ إنَّ الْمُشْتَرِي أَوْدَعَهُ الْبَائِعَ في مُدَّةِ الْخِيَارِ فَهَلَكَ في يَدِ الْبَائِعِ قبل جَوَازِ الْبَيْعِ أو بَعْدَهُ بَطَلَ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كان الْبَيْعُ بَاتًّا فَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ أو بِغَيْرِ إذْنِهِ وَالثَّمَنُ مَنْقُودٌ أو مُؤَجَّلٌ وَلَهُ خِيَارُ رُؤْيَةٍ أو عَيْبٍ فَأَوْدَعَهُ الْبَائِعَ فَهَلَكَ عِنْدَ الْبَائِعِ يَهْلِكُ على الْمُشْتَرِي وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ في حَقِّ الْحُكْمِ فَكَانَ مُودِعًا مِلْكَ نَفْسِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى ذِمِّيٌّ من ذِمِّيٍّ خَمْرًا أو خِنْزِيرًا على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَقَبَضَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ الْمُشْتَرِي بَطَلَ الْعَقْدُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لم يَدْخُلْ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَالْمُسْلِمُ مَمْنُوعٌ عن تَمَلُّكِ الْخَمْرِ بِالْبَيْعِ وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ وَلَا يَبْطُلُ لِأَنَّهُ دخل في مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ من إخْرَاجِهِ عن مِلْكِهِ
وَلَوْ أَسْلَمَ الْبَائِعُ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ بَاتٌّ في جَانِبِهِ وَالْإِسْلَامُ في الْبَيْعِ الْبَاتِّ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَهُ إذَا كان بَعْدَ الْقَبْضِ وَالْمُشْتَرِي على خِيَارِهِ فَإِنْ أَجَازَ الْبَيْعَ جَازَ وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ وَإِنْ فَسَخَهُ انْفَسَخَ وَصَارَ الْخَمْرُ لِلْبَائِعِ حُكْمًا وَالْمُسْلِمُ من أَهْلِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْخَمْرَ حُكْمًا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَمَلَّكُهَا بِالْمِيرَاثِ وَلَوْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَأَسْلَمَ الْبَائِعُ بَطَلَ الْخِيَارُ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ السِّلْعَةِ عن مِلْكِهِ وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ إخْرَاجَ الْخَمْرِ عن مِلْكِهِ بِالْعَقْدِ فَبَطَلَ الْعَقْدُ
وَلَوْ أَسْلَمَ الْمُشْتَرِي لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْبَيْعَ بَاتٌّ في جَانِبِهِ وَالْبَائِعُ على خِيَارِهِ فَإِنْ فَسَخَ الْبَيْعَ عَادَتْ الْخَمْرُ إلَيْهِ وَإِنْ أَجَازَهُ صَارَ الْخَمْرُ لِلْمُشْتَرِي حُكْمًا وَالْمُسْلِمُ من أَهْلِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا حُكْمًا كما في الْإِرْثِ وَلَوْ كان الْبَيْعُ بَاتًّا فَأَسْلَمَا أو أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مَتَى وَرَدَ وَالْحَرَامُ مَقْبُوضٌ يُلَاقِيهِ بِالْعَفْوِ لِأَنَّهُ لم يَثْبُتْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ مِلْكٌ مُبْتَدَأٌ لِثُبُوتِهَا بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ على الْكَمَالِ وَإِنَّمَا يُوجَدُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ دَوَامُ الْمِلْكِ وَالْإِسْلَامُ لَا يُنَافِيه فإن الْمُسْلِمَ إذَا تَخَمَّرَ عَصِيرُهُ فَلَا يُؤْمَرُ بِإِبْطَالِ حَقِّهِ فيها
هذا كُلُّهُ إذَا أَسْلَمَا أو أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَأَمَّا إذَا كان قبل الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ كيف ما كان سَوَاءٌ كان الْبَيْعُ بَاتًّا أو بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُمَا أو لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مَتَى وَرَدَ وَالْحَرَامُ غَيْرُ مَقْبُوضٍ يُمْنَعُ من قَبْضِهِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ لِمَا في الْقَبْضِ من مَعْنَى إنْشَاءِ الْعَقْدِ من وَجْهٍ فَيُلْحَقُ بِهِ في بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وقد تَظْهَرُ فَوَائِدُ هذا الْأَصْلِ في فُرُوعٍ أُخَرَ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَإِنْ كان الْمَبِيعُ دَارًا فَإِنْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ لَا يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ فيها حَقُّ الشُّفْعَةِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لم يَخْرُجْ عن مِلْكِ الْبَائِعِ وَإِنْ كان لِلْمُشْتَرِي يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا على أَصْلِهِمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَبِيعَ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي
وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَالْمَبِيعُ وَإِنْ لم يَدْخُلْ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي لَكِنَّهُ قد زَالَ عن مِلْكِ الْبَائِعِ بِالْإِجْمَاعِ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ يَعْتَمِدُ زَوَالَ مِلْكِ الْبَائِعِ لَا ثُبُوتَ مِلْكِ الْمُشْتَرِي
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ تَبَايَعَا عَبْدًا بِجَارِيَةٍ وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَأَعْتَقَ الْبَائِعُ الْعَبْدَ نَفَذَ إعْتَاقُهُ وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ الْعَبْدِ عن مِلْكِهِ فَقَدْ أَعْتَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَنَفَذَ وَإِنْ أَعْتَقَ الْجَارِيَةَ نَفَذَ أَيْضًا وَلَزِمَ الْبَيْعُ
أَمَّا على أَصْلِهِمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مِلْكُهَا فَأَعْتَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ لم يَمْلِكْهَا بِالْعَقْدِ لَكِنَّ الْإِقْدَامَ على الْإِعْتَاقِ دَلِيلُ عَقْدِ الْمِلْكِ إذْ لَا وُجُودَ لِلْعِتْقِ إلَّا بِالْمِلْكِ وَلَا
____________________

(5/266)


مِلْكَ بِسُقُوطِ الْخِيَارِ فَتَضَمَّنَ إقْدَامُهُ على الْإِعْتَاقِ إسْقَاطَ الْخِيَارِ وَلَوْ أَعْتَقَهُمَا مَعًا نَفَذَ إعْتَاقُهُمَا جميعا وَبَطَلَ الْبَيْعُ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ وَعِنْدَهُمَا نَفَذَ إعْتَاقُهُمَا وَلَا شَيْءَ عليه أَمَّا نُفُوذُ إعْتَاقِهِمَا
أَمَّا الْعَبْدُ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّهُ لم يَخْرُجْ عن مِلْكِ الْبَائِعِ بِلَا خِلَافٍ
وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَكَذَلِكَ على أَصْلِهِمَا لِأَنَّهَا دَخَلَتْ في مِلْكِهِ
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ لم تَدْخُلْ في مِلْكِهِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَقَدْ دَخَلَتْ بِمُقْتَضَى الْإِقْدَامِ على إعْتَاقِهِمَا على ما بَيَّنَّا فَإِعْتَاقُهُمَا صَادَفَ مَحَلًّا مَمْلُوكًا لِلْمُعْتِقِ فَنَفَذَ
وَأَمَّا لُزُومُ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ بَدَلُ الْجَارِيَةِ وقد هَلَكَ قبل التَّسْلِيمِ بِالْإِعْتَاقِ وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ قبل التَّسْلِيمِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ وإذا بَطَلَ الْبَيْعُ وَجَبَ رَدُّ الْجَارِيَةِ وقد عَجَزَ عن رَدِّهَا بِسَبَبِ الْعِتْقِ فَيَغْرَمُ قِيمَتَهَا
وَلَوْ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ أو الْجَارِيَةَ لم يَنْفُذْ إعْتَاقُهُ
أَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّهُ لم يَدْخُلْ في مِلْكِهِ وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَلِأَنَّهَا خَرَجَتْ عن مِلْكِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ أَمَّا خِيَارُ الْبَائِعِ فما يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُهُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ نَوْعَانِ من الْأَصْلِ أَحَدُهُمَا اخْتِيَارِيٌّ وَالْآخَرُ ضَرُورِيٌّ أَمَّا الِاخْتِيَارِيُّ فَالْإِجَازَةُ لِأَنَّ الْأَصْلَ هو لُزُومُ الْبَيْعِ وَالِامْتِنَاعُ بِعَارِضِ الْخِيَارِ وقد بَطَلَ بِالْإِجَازَةِ فَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وَالْإِجَازَةُ نَوْعَانِ صَرِيحٌ وما هو في مَعْنَى الصَّرِيحِ وَدَلَالَةٌ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ أَجَزْتُ الْبَيْعَ أو أَوْجَبْتُهُ أو أَسْقَطْتُ الْخِيَارَ أو أَبْطَلْتُهُ وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى سَوَاءٌ عَلِمَ الْمُشْتَرِي الْإِجَازَةَ أو لم يَعْلَمْ
وَأَمَّا الْإِجَازَةُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَهِيَ أَنْ يُوجَدَ منه تَصَرُّفٌ في الثَّمَنِ يَدُلُّ على الْإِجَازَةِ وَإِيجَابِ الْبَيْعِ فَالْإِقْدَامُ عليه يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ دَلَالَةً
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قال لِبَرِيرَةَ حين عَتَقَتْ مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي وَإِنْ وَطِئَك زَوْجُكِ فَلَا خِيَارَ لَكِ فَقَدْ جَعَلَ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَمْكِينَهَا من الْوَطْءِ دَلِيلَ بُطْلَانِ الْخِيَارِ فَصَارَ ذلك أَصْلًا لِأَنَّ الْخِيَارَ كما يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا كان الثَّمَنُ عَيْنًا فَتَصَرَّفَ الْبَائِعُ فيه تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ بِأَنْ بَاعَهُ أو سَاوَمَهُ أو أَعْتَقَهُ أو دَبَّرَهُ أو كَاتَبَهُ أو آجَرَهُ أو رَهَنَهُ وَنَحْوَ ذلك لِأَنَّ ذلك يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ
أَمَّا على أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّ الثَّمَنَ دخل في مِلْكِ الْبَائِعِ فَكَانَ التَّصَرُّفُ فيه دَلِيلَ تَقَرُّرِ مِلْكِهِ وَأَنَّهُ دَلِيلُ إجَازَةِ الْبَيْعِ
وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَالْإِقْدَامُ على التَّصَرُّفِ يَكُونُ دَلِيلَ اخْتِيَارِ الْمِلْكِ فيه وَذَا دَلِيلُ الْإِجَازَةِ وَكَذَا لو كان الثَّمَنُ دَيْنًا فَأَبْرَأَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِي من الثَّمَنِ أو اشْتَرَى بِهِ شيئا منه أو وَهَبَهُ من الْمُشْتَرِي فَهُوَ إجَازَةٌ لِلْبَيْعِ لِمَا قُلْنَا وَيَصِحُّ شِرَاؤُهُ وَهِبَتُهُ لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ وَالشِّرَاءَ بِهِ مِمَّنْ عليه الدَّيْنُ وَأَنَّهُ جَائِزٌ وَكَذَا لو سَاوَمَهُ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ الذي في ذِمَّتِهِ شيئا لِأَنَّهُ قَصَدَ تَمَلُّكَ ذلك الشَّيْءِ وَلَا يُمْكِنُهُ التَّمَلُّكَ إلَّا بِثُبُوتِ مِلْكِهِ في الثَّمَنِ أو تَقَرُّرِهِ فيه
وَلَوْ اشْتَرَى بِالثَّمَنِ شيئا من غَيْرِهِ لم يَصِحَّ الشِّرَاءُ وكان إجَازَةً أَمَّا عَدَمُ صِحَّةِ الشِّرَاءِ فَلِأَنَّهُ شِرَاءٌ بِالدَّيْنِ من غَيْرِ من عليه الدَّيْنُ
وَأَمَّا كَوْنُهُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ فَلِأَنَّ الشِّرَاءَ بِهِ من غَيْرِهِ وَإِنْ لم يَصِحَّ لَكِنَّهُ قَصَدَ التَّمَلُّكَ وَذَا دَلِيلُ الْإِجَازَةِ كما إذَا سَاوَمَهُ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِهِ في الدَّلَالَةِ على قَصْدِهِ التَّمَلُّكَ فَوْقَ الْمُسَاوَمَةِ فلما كانت الْمُسَاوَمَةُ إجَازَةً فَالشِّرَاءُ أَوْلَى بِخِلَافِ ما إذَا كان الْبَائِعُ قَبَضَ الثَّمَنَ الذي هو دَيْنٌ فَاشْتَرَى بِهِ شيئا أَنَّهُ لَا يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ لِأَنَّ عَيْنَ الْمَقْبُوضِ ليس بِمُسْتَحَقِّ الرَّدِّ عِنْدَ الْفَسْخِ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ عِنْدَنَا في الْفَسْخِ كما لَا يَتَعَيَّنَانِ في الْعَقْدِ فلم يَكُنْ الْمَقْبُوضُ فيه مُسْتَحَقَّ الرَّدِّ فَلَا يَكُونُ التَّصَرُّفُ دَلِيلَ الْإِجَازَةِ بِخِلَافِ ما إذَا اشْتَرَى بِهِ قبل الْقَبْضِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الشِّرَاءَ إلَى عَيْنِ ما هو مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ فَكَانَ دَلِيلَ الْقَصْدِ إلَى الْمِلْكِ أو تَقَرُّرِ الْمِلْكِ فيه على ما قُلْنَا
وَلَوْ كان الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَأَبْرَأَهُ الْبَائِعُ من الثَّمَنِ قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ وُجُوبَ الثَّمَنِ وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ ما ليس بِثَابِتٍ لَا يُتَصَوَّرُ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا أَجَازَ الْبَيْعَ نَفَذَ الْإِبْرَاءُ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْبَيْعِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الثَّمَنَ كان وَاجِبًا فَكَانَ إبْرَاؤُهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَيَنْفُذُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الضرورية ( ( ( الضروري ) ) ) فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ أَحَدُهُمَا مُضِيُّ مُدَّةِ الْخِيَارِ لِأَنَّ الْخِيَارَ مُؤَقَّتٌ بِهِ وَالْمُؤَقَّتُ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ لَكِنْ هل تَدْخُلُ الْغَايَةُ في شَرْطِ الْخِيَارِ بِأَنْ شَرَطَ الْخِيَارَ إلَى اللَّيْلِ أو إلَى الْغَدِ هل يَدْخُلُ اللَّيْلُ أو الْغَدُ قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ تَدْخُلُ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا تَدْخُلُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن الْغَايَةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ ما ضُرِبَتْ له الْغَايَةُ كما في قَوْله تَعَالَى عز
____________________

(5/267)


شَأْنُهُ { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } حتى لَا يَجِبَ الصَّوْمُ في اللَّيْلِ وَكَمَا في التَّأْجِيلِ إلَى غَايَةٍ أَنَّ الْغَايَةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْأَجَلِ كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أن الْغَايَاتِ مُنْقَسِمَةٌ غَايَةُ إخْرَاجٍ وَغَايَةُ إثْبَاتٍ فَغَايَةُ الْإِخْرَاجِ تَدْخُلُ تَحْتَ ما ضُرِبَتْ له الْغَايَةُ كما في قَوْله تَعَالَى { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } وَالْغَايَةُ هَهُنَا في مَعْنَى غَايَةِ الْإِخْرَاجِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو لم يذكر الْوَقْتَ أَصْلًا لَاقْتَضَى ثُبُوتَ الْخِيَارِ في الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا حتى لم يَصِحَّ لِأَنَّهُ يَكُونُ في مَعْنَى شَرْطِ خِيَارٍ مُؤَبَّدٍ بِخِلَافِ التَّأْجِيلِ إلَى غَايَةٍ فإنه لولا ذِكْرُ الْغَايَةِ لم يَثْبُتْ الْأَجَلُ أَصْلًا فَكَانَتْ الْغَايَةُ غَايَةَ إثْبَاتٍ فلم تَدْخُلْ تَحْتَ ما ضُرِبَتْ له الْغَايَةُ وَالثَّانِي مَوْتُ الْبَائِعِ في مُدَّةِ الْخِيَارِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ بِمَوْتِهِ بَلْ يَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ في الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَقَبُ هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ هل يُوَرَّثُ أَمْ لَا عِنْدَنَا يُوَرَّثُ وَعِنْدَهُ لَا يُوَرَّثُ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ خِيَارَ الْقَبُولِ لَا يُوَرَّثُ وَكَذَا خِيَارُ الْإِجَازَةِ في بَيْعِ الْفُضُولِيِّ لَا يُوَرَّثُ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا الْأَجَلُ لَا يُوَرَّثُ بِالِاتِّفَاقِ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ وَخِيَارَ التَّعْيِينِ يُوَرَّثُ
وَأَمَّا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فلم يُذْكَرْ في الْأَصْلِ وَذَكَرَ في الْحِيَلِ أَنَّهُ لَا يُوَرَّثُ وَكَذَا رَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُوَرَّثُ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِظَوَاهِرِ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ حَيْثُ أَثْبَتَ اللَّهُ عز وجل الْإِرْثَ في الْمَتْرُوكِ مُطْلَقًا وَالْخِيَارُ مَتْرُوكٌ فَيَجْرِي فيه الْإِرْثُ وَبِمَا رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال من تَرَكَ مَالًا أو حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ وَالْخِيَارُ حَقٌّ تَرَكَهُ فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ بِالْبَيْعِ فَيَجْرِي فيه الْإِرْثُ كَالْمِلْكِ الثَّابِتِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِرْثَ كما يَثْبُتُ في الإملاك يَثْبُتُ في الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ بِالْبَيْعِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ في خِيَارِ الْعَيْبِ وَخِيَارِ التَّعْيِينِ كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ الْخِيَارَ لو ثَبَتَ لِلْوَارِثِ لم يَخْلُ من أَنْ يَثْبُتَ ابْتِدَاءً أو بِطَرِيقِ الْإِرْثِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الشَّرْطَ لم يُوجَدْ من الْوَارِثِ ابْتِدَاءً وَإِثْبَاتُ الْخِيَارِ له من غَيْرِ وُجُودِ شَرْطِ الْخِيَارِ منه خِلَافُ الْحَقِيقَةِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ الْوَارِثَ يَعْتَمِدُ الْبَاقِي بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ وَخِيَارُهُ لَا يبقي بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّ خِيَارَهُ يُخَيِّرُهُ بين الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذلك منه بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا يُوَرَّثُ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ والمعيين ( ( ( والتعيين ) ) ) لِأَنَّ الْمَوْرُوثَ هُنَاكَ مُحْتَمِلٌ لِلْإِرْثِ وهو الْعَيْنُ الْمَمْلُوكَةُ وَأَمَّا الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِمَا لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إنَّ الْخِيَارَ مَتْرُوكٌ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ عَيْنٌ تَبْقَى وَالْخِيَارُ عَرَضٌ لَا يَبْقَى فلم يَكُنْ مَتْرُوكًا فَلَا يُوَرَّثُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَالثَّالِثُ إجَازَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنْ تَبَايَعَا على أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فَأَجَازَ أَحَدُهُمَا بَطَلَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ عِنْدَهُ حتى لَا يَمْلِكَ صَاحِبُهُ الْفَسْخَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْطُلُ وَخِيَارُ الْآخَرِ على حَالِهِ وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في خِيَارِ الْعَيْبِ
وَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ في مُدَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ لِلْأَبِ أو الْوَصِيِّ لِنَفْسِهِ في بَيْعِ مَالِ الصَّبِيِّ هل يَبْطُلُ الْخِيَارُ قال أبو يُوسُفَ يَبْطُلُ وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ وقال مُحَمَّدٌ تُنْقَلُ الْإِجَازَةُ إلَى الصَّبِيِّ فَلَا يَمْلِكُ الْوَلِيُّ الْإِجَازَةَ لَكِنَّهُ يَمْلِكُ الْفَسْخَ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أن الْوَلِيَّ يَتَصَرَّفُ في مَالِ الصَّغِيرِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عنه شَرْعًا لِعَجْزِهِ عن التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ وقد زَالَ الْعَجْزُ بِالْبُلُوغِ فَتَنْتَقِلُ الْإِجَازَةُ إلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ يَمْلِكُ الْفَسْخَ لِأَنَّهُ من بَابِ دَفْعِ الْحَقِّ فَيَمْلِكُهُ كَالْفُضُولِيِّ في الْبَيْعِ إنَّهُ يَمْلِكُ الْفَسْخَ قبل إجَازَةِ الْمَالِكِ وَإِنْ لم يَمْلِكْ الْإِجَازَةَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أن الْخِيَارَ يَثْبُتُ لِلْوَلِيِّ وهو وِلَايَةُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةُ وقد بَطَلَ بِالْبُلُوغِ فَلَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ إلَى الصَّبِيِّ وَلِهَذَا لم يَنْتَقِلْ إلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ من له الْخِيَارُ وَلَوْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ في مُدَّةِ خِيَارِ شَرْطِهِ لِنَفْسِهِ في الْبَيْعِ بَطَلَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهُ لَمَّا عَجَزَ وَرُدَّ إلَى الرِّقِّ لم يَبْقَ له وِلَايَةُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ ضَرُورَةً كما يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إذَا حَجَرَ عليه الْمَوْلَى في مُدَّةِ الْخِيَارِ بَطَلَ خياره عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن مُحَمَّدٍ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اشْتَرَى الْأَبُ أو الْوَصِيُّ شيئا بِدَيْنٍ في الذِّمَّةِ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهِمَا وَالصَّبِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ
أَمَّا الْجَوَازُ عَلَيْهِمَا فَلِأَنَّ وِلَايَتَهُمَا قد انْقَطَعَتْ بِالْبُلُوغِ فَلَا يَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ بِالْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ فَيَبْطُلُ خِيَارُهُمَا وَجَازَ الْعَقْدُ في حَقِّهِمَا وَأَمَّا خِيَارُ الصَّبِيِّ فَلِأَنَّ الْجَوَازَ وَاللُّزُومَ لم يثبت ( ( ( يثبتا ) ) ) في حَقِّهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ في حَقِّهِمَا فَكَانَ له خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةُ
وَأَمَّا خِيَارُ الْمُشْتَرِي فَيَسْقُطُ بِمَا يُسْقِطُ خِيَارَ الْبَائِعِ وَبِغَيْرِهِ أَيْضًا فَيَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ بموت ( ( ( وبموت ) ) ) من له الْخِيَارُ عِنْدَنَا وَإِجَازَةُ أَحَدِ الشركين ( ( ( الشريكين ) ) ) عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَالْإِجَازَةُ صَرِيحٌ وما هو في مَعْنَى
____________________

(5/268)


الصَّرِيحِ وَدَلَالَةٌ وهو أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي في الْمَبِيعِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ كَالْبَيْعِ وَالْمُسَاوَمَةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ والإجازة ( ( ( والإجارة ) ) ) وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ سُلِّمَ أو لم يُسَلَّمْ لِأَنَّ جَوَازَ هذه التَّصَرُّفَاتِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ فَالْإِقْدَامُ عليها يَكُونُ دَلِيلَ قَصْدِ التَّمَلُّكِ أو تَقَرُّرَ الْمِلْكِ على اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ وَذَا دَلِيلُ الْإِجَازَةِ
وَكَذَا الْوَطْءُ منه وَالتَّقْبِيلُ بِشَهْوَةٍ وَالْمُبَاشَرَةُ لِشَهْوَةٍ وَالنَّظَرُ إلَى فَرْجِهَا لِشَهْوَةٍ يكن ( ( ( يكون ) ) ) إجَازَةً منه لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ لَا يَحِلُّ إلَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ
وَأَمَّا الْمَسُّ عن غَيْرِ شَهْوَةٍ وَالنَّظَرُ إلَى فَرْجِهَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَلَا يَكُونُ إجَازَةً لِأَنَّ ذلك مُبَاحٌ في الْجُمْلَةِ بِدُونِ الْمِلْكِ لِلطَّبِيبِ وَالْقَابِلَةِ
وَأَمَّا الِاسْتِخْدَامُ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ إجَازَةً بِمَنْزِلَةِ الْمَسِّ عن شَهْوَةٍ وَالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ عن شَهْوَةٍ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَكُونُ إجَازَةً لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلتَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ لِيَنْظُرَ أَنَّهُ يُوَافِقُهُ أَمْ لَا على أَنَّ فيه ضَرُورَةً لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عن ذلك غَيْرُ مُمْكِنٍ بِأَنْ يَسْأَلَهُ ثَوْبَهُ عِنْدَ إرَادَةِ الرَّدِّ فَيَرُدَّهُ أو يَسْتَسْرِجَهُ دَابَّتَهُ لِيَرْكَبَهَا فَيَرُدَّهُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ
وَلَوْ قَبَّلَتْ الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرِي بِشَهْوَةٍ أو بَاشَرَتْهُ فَإِنْ كان ذلك بِتَمْكِينٍ بِأَنْ عَلِمَ ذلك منها وَتَرَكَهَا حتى فَعَلَتْ يَسْقُطُ خِيَارُهُ
وَكَذَا هذا في حَقِّ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ إذَا قَبَّلَتْهُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ وَكَذَا في خِيَارِ الْعَيْبِ إذَا وَجَدَ بها عَيْبًا ثُمَّ قَبَّلَتْهُ
وَكَذَا في الطَّلَاقِ إذَا فَعَلَتْ ذلك كان رَجْعَةً وَإِنْ اخْتَلَسَتْ اخْتِلَاسًا من غَيْرِ تَمْكِينِ الْمُشْتَرِي وَالزَّوْجِ وهو كَارِهٌ لِذَلِكَ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ذلك رَجْعَةً وَلَا إجَازَةً لِلْبَيْعِ وقال مُحَمَّدٌ لَا يَكُونُ فِعْلُهَا إجَازَةً لِلْبَيْعِ كيف ما كان وَأَجْمَعُوا على أنها لو بَاضَعَتْهُ وهو نَائِمٌ بِأَنْ أَدْخَلَتْ فَرْجَهُ فَرْجَهَا أَنَّهُ يَسْقُطُ الْخِيَارُ وَيَكُونُ رَجْعَةً
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْخِيَارَ حَقُّ شَرْطٍ له ولم يُوجَدْ منه ما يُبْطِلُهُ نَصًّا وَلَا دَلَالَةً وهو فِعْلٌ يَدُلُّ عليه فَلَا يَبْطُلُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ الِاحْتِيَاطَ يُوجِبُ سُقُوطَ الْخِيَارِ
إذْ لو لم يَسْقُطْ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يُفْسَخَ الْبَيْعُ لِتَبْيِينِ أَنَّ الْمَسَّ عن شَهْوَةٍ وَالتَّمْكِينُ من الْمَسِّ عن شَهْوَةٍ حَصَلَ في غَيْرِ مِلْكٍ وَكُلُّ ذلك حَرَامٌ فَكَانَ سُقُوطُ الْخِيَارِ وَثُبُوتُ الرَّجْعَةِ بِطَرِيقِ الصِّيَانَةِ عن ارْتِكَابِ الْحَرَامِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ وَلِأَنَّ الْمَسَّ عن شَهْوَةٍ يُفْضِي إلَى الْوَطْءِ وَالسَّبَبُ الْمُفْضِي إلَى الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ خُصُوصًا في مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ فَأُقِيمَ ذلك مَقَامَ الْوَطْءِ من الْمُشْتَرِي وَلِهَذَا يَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِالْمَسِّ عن شَهْوَةٍ من الْجَانِبَيْنِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا مُفْضِيًا إلَى الْوَطْءِ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ كَذَا هذا
وَلَوْ قَبَّلَ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ ثُمَّ قال قَبَّلْتُهَا لِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ كَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْخِيَارَ كان ثَابِتًا له فَهُوَ بِقَوْلِهِ كان لِغَيْرِ شَهْوَةٍ يُنْكِرُ سُقُوطُهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ
وَكَذَلِكَ قال أبو حَنِيفَةَ في الْجَارِيَةِ إذ قَبَّلْت الْمُشْتَرِي بِشَهْوَةٍ أنه إنَّمَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُهُ الْعَقْدُ إذَا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي إنَّهَا فَعَلَتْ بِشَهْوَةٍ
فَأَمَّا إذَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ذلك بِشَهْوَةٍ فَلَا يَسْقُطُ لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي بِسُقُوطِ حَقِّهِ فَيَتَوَقَّفُ على إقْرَارِهِ
وَلَوْ حَدَثَ في الْمَبِيعِ في يَدِ الْمُشْتَرِي ما يَمْنَعُ الرَّدَّ على الْبَائِعِ بَطَلَ خِيَارُهُ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْخِيَارِ هو التَّمَكُّنُ من الْفَسْخِ وَالرَّدِّ فإذا خَرَجَ عن احْتِمَالِ الرَّدِّ لم يَكُنْ في بَقَاءِ الْخِيَارِ فَائِدَةٌ فَلَا يَبْقَى ذلك وَذَلِكَ نحو ما إذَا هَلَكَ في يَدِهِ أو انْتَقَصَ بِأَنْ تَعَيَّبَ بِعَيْبٍ لَا يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ سَوَاءٌ كان ذلك فَاحِشًا أو يَسِيرًا وَسَوَاءٌ كان ذلك بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أو بِفِعْلِ الْبَائِعِ أو بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أو بِفِعْلٍ أَجْنَبِيٍّ
لِأَنَّ حُدُوثَ هذه الْمَعَانِي في يَدِ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ الرَّدَّ
أَمَّا الْهَلَاكُ فَظَاهِرٌ وَكَذَا النُّقْصَانُ لِفَوَاتِ شَرْطِ الرَّدِّ وهو أَنْ يَكُونَ ما قَبَضَ كما قَبَضَ لِأَنَّهُ إذَا انْتَقَصَ شَيْءٌ منه فَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْقَدْرِ الْفَائِتِ فَتَقَرَّرَ على الْمُشْتَرِي حِصَّتُهُ من الثَّمَنِ لِأَنَّ فَوَاتَهُ حَصَلَ في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَلَوْ رَدَّ الْبَاقِي كان ذلك تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ على الْبَائِعِ قبل التَّمَامِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وإذا امْتَنَعَ الرَّدُّ بَطَلَ الْخِيَارُ لِمَا قُلْنَا وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ أَيْضًا إلَّا في خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ ما إذَا انْتَقَصَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ فإن الْمُشْتَرِي فِيهِمَا على خِيَارِهِ عِنْدَهُ إنْ شَاءَ رَدَّ عليه وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ
وَأَخَذَ الْأَرْشَ من الْبَائِعِ كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ الِاخْتِلَافَ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاخْتِلَافَ بين أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَإِنْ كان الْعَيْبُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ كَالْمَرَضِ فَالْمُشْتَرِي على خِيَارِهِ إنْ شَاءَ فَسَخَ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ لِأَنَّ كُلَّ عَارِضٍ على أَصْلٍ إذ ارْتَفَعَ يَلْحَقُ بِالْعَدَمِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ
هذا هو الْأَصْلُ وَلَيْسَ له أَنْ يَفْسَخَ إلَّا أَنْ يَرْتَفِعَ الْعَيْبُ في مُدَّةِ الْخِيَارِ فَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ وَالْعَيْبُ قَائِمٌ بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ وَلَزِمَ الْبَيْعُ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا ازْدَادَ
____________________

(5/269)


الْمَبِيعُ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ كما إذَا كان ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أو سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ أو كان أَرْضًا فَبَنَى عليها أو غَرَسَ فيها أَنَّهُ يَبْطُلُ خِيَارُهُ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ مَانِعَةٌ من الرَّدِّ بِالْإِجْمَاعِ فَكَانَتْ مُسْقِطَةً لِلْخِيَارِ وَلَوْ كانت الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ كَالْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالسِّمَنِ وَالْبُرْءِ من الْمَرَضِ وَانْجِلَاءِ الْبَيَاضِ من الْعَيْنِ وَنَحْوِ ذلك فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَبْطُلُ بِنَاءً على أَنَّ هذه الزِّيَادَةَ تَمْنَعُ الرَّدَّ عِنْدَهُمَا كما في الْعَيْبِ في الْمَهْرِ في النِّكَاحِ وَعِنْدَهُ لَا تَمْنَعُ وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي في مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ وَاللَّبَنِ وَنَحْوِهَا أو كانت غير متولده من الْأَصْلِ لَكِنَّهَا بَدَلُ الْجُزْءِ الْفَائِتِ كَالْأَرْشِ أو بَدَلُ ما هو في مَعْنَى الْجُزْءِ كَالْعُقْرِ يَبْطُلُ خِيَارُهُ لِأَنَّهَا مَانِعَةٌ من الرَّدِّ عِنْدَنَا وَإِنْ كانت مُنْفَصِلَةً غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ وَلَا هِيَ بَدَلُ الْجُزْءِ الْفَائِتِ أو ما هو في مَعْنَى الْجُزْءِ كَالصَّدَقَةِ وَالْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ فَلَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ فَإِنْ اخْتَارَ الْبَيْعَ فَالزَّوَائِدُ له مع الْأَصْلِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أنها كَسْبٌ مَلَكَهُ فَكَانَتْ مِلْكَهُ
وَإِنْ اخْتَارَ الْفَسْخَ رَدَّ الْأَصْلَ مع الزَّوَائِدِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الزَّوَائِدُ تَكُونُ له بِنَاءً على أَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ كان مَوْقُوفًا فإذا فُسِخَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَدْخُلْ في مِلْكِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الزِّيَادَةَ حَصَلَتْ على مِلْكِ الْبَائِعِ فَيَرُدُّهَا إلَيْهِ مع الْأَصْلِ وَعِنْدَهُمَا الْمَبِيعُ دخل في مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَكَانَتْ الزَّوَائِدُ حَاصِلَةً على مِلْكِهِ وَالْفَسْخُ يَظْهَرُ في الْأَصْلِ لَا في الزِّيَادَةِ فَبَقِيَتْ على حُكْمِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي
وَلَوْ كان الْمَبِيعُ دَابَّةً فَرَكِبَهَا فَإِنْ رَكِبَهَا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ كان إجَازَةً وَإِنْ رَكِبَهَا لِيَسْقِيَهَا أو يَشْتَرِيَ لها عَلَفًا أو لِيَرُدَّهَا على بَائِعِهَا فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ إجَازَةً لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ ذلك قَوْدًا وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَكُونُ إجَازَةً وهو على خِيَارِهِ لِأَنَّ ذلك مِمَّا لَا بُدَّ منه خُصُوصًا إذَا كانت الدَّابَّةُ صَعْبَةً لَا تَنْقَادُ بِالْقَوْدِ فَكَانَ ذلك من ضَرُورَاتِ الرَّدِّ فَلَا يُجْعَلُ إجَازَةً
وَلَوْ رَكِبَهَا لِيَنْظُرَ إلَى سَيْرِهَا لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ له من ذلك للاختبار ( ( ( للاختيار ) ) ) بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ أَنَّهُ إذَا رَكِبَهَا بَعْدَمَا عَلِمَ بِالْعَيْبِ أَنَّهُ يَبْطُلُ خِيَارُهُ لِأَنَّ له منه بُدًّا وَلَا حَاجَةَ إلَى الرُّكُوبِ هُنَاكَ لِمَعْرِفَةِ سَيْرِهَا فَكَانَ دَلِيلَ الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَلَوْ كان الْمَبِيعُ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ لِيَنْظُرَ إلَى قِصَرِهِ من طُولِهِ وَعَرْضِهِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ لِأَنَّ ذلك مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِلتَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ أَنَّهُ يُوَافِقُهُ أَمْ لَا فلم يَكُنْ منه بُدٌّ
وَلَوْ رَكِبَ الدَّابَّةَ لِيَعْرِفَ سَيْرَهَا ثُمَّ رَكِبَهَا مَرَّةً أُخْرَى يُنْظَرُ إنْ رَكِبَهَا لِمَعْرِفَةِ سَيْرٍ آخَرَ غَيْرِ الْأَوَّلِ بِأَنْ رَكِبَهَا مَرَّةً لِيَعْرِفَ أنها هِمْلَاجٌ ثُمَّ رَكِبَهَا ثَانِيًا لِيَعْرِفَ سُرْعَةَ عَدْوِهَا فَهُوَ على خِيَارِهِ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ السَّيْرَيْنِ مَقْصُودَةٌ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَيْهَا في بَعْضِ الدَّوَابِّ
وَإِنْ رَكِبَهَا لِمَعْرِفَةِ السَّيْرِ الْأَوَّلِ قالوا يَسْقُطُ خِيَارُهُ وَكَذَا في اسْتِخْدَامِ الرَّقِيقِ إذَا اسْتَخْدَمَهُ في نَوْعٍ ثُمَّ اسْتَخْدَمَهُ في ذلك النَّوْعِ قالوا يَسْقُطُ خِيَارُهُ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قالوا لَا يَسْقُطُ لِأَنَّ الِاخْتِبَارَ لَا يَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ لِجَوَازِ أَنَّ الْأَوَّلَ وَقَعَ اتِّفَاقًا فَيُحْتَاجُ إلَى التَّكْرَارِ لِمَعْرِفَةِ الْعَادَةِ وفي الثَّوْبِ إذَا لَبِسَهُ مَرَّةً لِمَعْرِفَةِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ ثُمَّ لَبِسَهُ ثَانِيًا يَسْقُطُ خِيَارُهُ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَكْرَارِ اللُّبْسِ في الثَّوْبِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِاللُّبْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً
وَلَوْ حَمَلَ على الدَّابَّةِ عَلَفًا فَهُوَ إجَازَةٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ حَمْلُ الْعَلَفِ على غَيْرِهَا وَلَوْ قَصَّ حَوَافِرَهَا أو أَخَذَ من عُرْفِهَا شيئا فَهُوَ على خِيَارِهِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ لَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ إذْ هو من بَابِ إصْلَاحِ الدبة ( ( ( الدابة ) ) ) فَيَمْلِكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ وَيَكُونُ مَأْذُونًا فيه دَلَالَةً كما إذَا عَلَفَهَا أو سَقَاهَا
وَلَوْ وَدَجَهَا أو بَزَغَهَا فَهُوَ إجَازَةٌ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فيها بِالتَّنْقِيصِ فَإِنْ كان شَاةً فَحَلَبَهَا أو شَرِبَ لَبَنَهَا فَهُوَ إجَازَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْمِلْكِ أو الْإِذْنِ من الْمَالِكِ ولم يُوجَدْ الْإِذْنُ فَكَانَ دَلِيلًا على قَصْدِ التَّمَلُّكِ أو التَّقْرِيرِ فَيَكُونُ إجَازَةً
وَلَوْ كان الْمَبِيعُ دَارًا فَسَكَنَهَا الْمُشْتَرِي أو أَسْكَنَهَا غَيْرَهُ بِأَجْرٍ أو بِغَيْرٍ أَجْرٍ أو رَمَّ شيئا منها أو جَصَّصَهَا أو طَيَّنَهَا أو أَحْدَثَ فيها شيئا أو هَدَمَ فيها شيئا فَذَلِكَ كُلُّهُ إجَازَةٌ لِأَنَّهُ دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْمِلْكِ أو تَقْرِيرِهِ فَكَانَ إجَازَةً دَلَالَةً
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ في سُكْنَى الْمُشْتَرِي رِوَايَتَانِ وَوَفَّقَ بَيْنَهُمَا فَحَمَلَ إحْدَاهُمَا على ابْتِدَاءِ السُّكْنَى وَالْأُخْرَى على الدَّوَامِ عليه وَلَوْ كان فيها سَاكِنٌ بِأَجْرٍ فَبَاعَهَا الْبَائِعُ بِرِضَا الْمُسْتَأْجِرِ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فَتَرَكَهُ الْمُشْتَرِي فيها أو اسْتَأْوَى الْغَلَّةَ فَهُوَ إجَازَةٌ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ أَخْذُهَا دَلَالَةً قَصْدَ تَمَلُّكِ الْمَنْفَعَةِ أو تَقْرِيرَ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ وَذَلِكَ قَصَدَ تَمَلُّكَ الدَّارِ أو تَقَرَّرَ مِلْكِهِ فيها فَكَانَ إجَازَةً
وَلَوْ كان الْمَبِيعُ أَرْضًا فيها حَرْثٌ فَسَقَاهُ أو حَصَدَهُ أو قَصَلَ منه شيئا فَهُوَ إجَازَةٌ لِأَنَّ السَّقْيَ تَصَرُّفٌ في الْحَرْثِ بِالتَّزْكِيَةِ فَكَانَ دَلِيلِ اخْتِيَارِ الْبَيْعِ وَإِيجَابِهِ
____________________

(5/270)


وَكَذَلِكَ الْقَصْلُ تَصَرُّفٌ فيه بِالتَّنْقِيصِ فَكَانَ دَلِيلَ قَصْدِ التَّمَلُّكِ أو التَّقَرُّرِ وَلَوْ شَرِبَ من نَهْرِ تِلْكَ الْأَرْضِ أو سَقَى منه دَوَابَّهُ لَا يَكُونُ إجَازَةً لِأَنَّ هذا تَصَرُّفٌ لَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ وَلَوْ كان الْمَبِيعُ رَحًى فَطَحَنَ فيها فَإِنْ هو طَحَنَ لِيَعْرِفَ مِقْدَارَ طَحْنِهَا فَهُوَ على خِيَارِهِ لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ ما شُرِعَ له الْخِيَارُ وَلَوْ دَامَ على ذلك كان إجَازَةً لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الزِّيَادَةِ لِلِاخْتِيَارِ فَكَانَ دَلِيلَ الرِّضَا بِوُجُوبِ الْبَيْعِ
وَأَمَّا خِيَارُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي جميعا فَيَسْقُطُ بِمَا يَسْقُطُ بِهِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ فَأَيَّهُمَا أَجَازَ صَرِيحًا أو ما يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ أو فَعَلَ ما يَدُلُّ على الْإِجَازَةِ بَطَلَ خِيَارُهُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ من جَانِبِهِ وَالْآخَرُ على خِيَارِهِ إنْ شَاءَ أَجَازَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ وَأَيَّهُمَا فَسَخَ صَرِيحًا أو ما يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ أو فَعَلَ ما يَدُلُّ على الْفَسْخِ انْفَسَخَ أَصْلًا وَرَأْسًا وَلَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ من صَاحِبِهِ بَعْدَ ذلك وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ لِأَنَّ الْفَسْخَ تَصَرُّفٌ في الْعَقْدِ بِالْإِبْطَالِ وَالْعَقْدُ بعدما بَطَلَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ لِأَنَّ الْبَاطِلَ متلاشي ( ( ( متلاش ) ) )
وَأَمَّا الْإِجَازَةُ فَهِيَ تَصَرُّفٌ في الْعَقْدِ بِالتَّغْيِيرِ وهو الْإِلْزَامُ لَا بِالْإِعْدَامِ فَلَا يُخْرِجُهُ عن احْتِمَالِ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ وَلَوْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا وَفَسَخَ الْآخَرُ انْفَسَخَ الْعَقْدُ سَوَاءٌ كان على التَّعَاقُبِ أو على الْقِرَانِ لِأَنَّ الْفَسْخَ أَقْوَى من الْإِجَازَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْحَقُ الْإِجَازَةَ فإن الْمُجَازَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَأَمَّا الْإِجَازَةُ فَلَا تَلْحَقُ الْفَسْخَ فإن الْمَفْسُوخَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ فَكَانَ الْفَسْخُ أَقْوَى من الْإِجَازَةِ فَكَانَ أَوْلَى وَلَوْ اخْتَلَفَا في الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ فقال أَحَدُهُمَا فَسَخْنَا الْبَيْعَ وقال الْآخَرُ لَا بَلْ أَجَزْنَا الْبَيْعَ جميعا فَاخْتِلَافُهُمَا لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ في مُدَّةِ الْخِيَارِ أو بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَإِنْ كان في الْمُدَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ من يَدَّعِي الْفَسْخَ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ وَأَحَدَهُمَا لَا يَنْفَرِدُ بِالْإِجَازَةِ
وَلَوْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ من يَدَّعِي الْإِجَازَةَ لِأَنَّهُ الْمُدَّعِي وَإِنْ كان بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فقال أَحَدُهُمَا مَضَتْ الْمُدَّةُ بَعْدَ الْفَسْخِ وقال الْآخَرُ بَعْدَ الْإِجَازَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ من يَدَّعِي الْإِجَازَةَ لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ الْجَوَازِ وهو ما بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَتَرَجَّحَ جَانِبُهُ بِشَهَادَةِ الْحَالِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
وَلَوْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مُدَّعِي الْفَسْخِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَمْرًا بِخِلَافِ الظَّاهِرِ وَالْبَيِّنَاتُ شُرِعَتْ له وَإِنْ كان الْخِيَارُ لِأَحَدِهِمَا وَاخْتَلَفَا في الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ في مُدَّةِ الْخِيَارِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ من له الْخِيَارُ سَوَاءٌ ادَّعَى الْفَسْخَ أم الْإِجَازَةَ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْأَمْرَيْنِ جميعا وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْآخَرِ لِأَنَّهُ هو الْمُدَّعِي وَلَوْ كان اخْتِلَافُهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ من يَدَّعِي الْإِجَازَةَ أَيَّهُمَا كان لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ الْجَوَازِ وَهِيَ ما بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَلَوْ أُرِّخَتْ الْبَيِّنَاتُ في هذا كُلِّهِ فَأَسْبَقُهُمَا تَارِيخًا أَوْلَى سَوَاءٌ قَامَتْ على الْفَسْخِ أو على الْإِجَازَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَإِنْ كان خِيَارُ الشَّرْطِ لِغَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ بِأَنْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا الْخِيَارَ لِأَجْنَبِيٍّ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذلك جَائِزٌ وَلِلشَّارِطِ وَالْمَشْرُوطِ له خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ وَأَيُّهُمَا أَجَازَ جَازَ وَأَيُّهُمَا فَسَخَ انْفَسَخَ لِأَنَّهُ صَارَ شَارِطًا لِنَفْسِهِ مُقْتَضَى الشَّرْطِ لِغَيْرِهِ وَصَارَ الْمَشْرُوطُ له بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ لِلشَّارِطِ في الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ فَإِنْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا وَفَسَخَ الْآخَرُ فَإِنْ كَانَا على التَّعَاقُبِ فَأَوَّلُهُمَا أَوْلَى فَسْخًا كان أو إجَازَةً لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالشَّرْطِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فَأَيُّهُمَا سَبَقَ وُجُودُهُ بَطَلَ الْآخَرُ وَإِنْ كَانَا مَعًا ذُكِرَ في الْبُيُوعِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ عن وِلَايَةِ الْمِلْكِ أَوْلَى نَقْضًا كان أو أجازة وَذَكَرَ في الْمَأْذُونِ أَنَّ النَّقْضَ أَوْلَى من أَيِّهِمَا كان
وَجْهُ رِوَايَةِ الْبُيُوعِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ صَدَرَ عن وِلَايَةِ الْمِلْكِ فَلَا يُعَارِضُهُ الصَّادِرُ عن وِلَايَةِ النِّيَابَةِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْمَأْذُونِ أَنَّ النَّقْضَ أَوْلَى من الْإِجَازَةِ لِأَنَّ الْمُجَازَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ أَمَّا الْمَفْسُوخُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ فَكَانَ الرُّجْحَانُ في الْمَأْذُونِ لِلنَّقْضِ من أَيِّهِمَا كان
وَقِيلَ ما رُوِيَ في الْبُيُوعِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ يُقَدِّمُ وِلَايَةَ الْمِلْكِ على وِلَايَةِ النِّيَابَةِ وما ذُكِرَ في الْمَأْذُونِ قَوْلُ أبي يُوسُفَ لِأَنَّهُ لَا يَرَى تَقْدِيمَ وِلَايَةِ الْمِلْكِ وَأَصْلُهُ ما ذُكِرَ في النَّوَادِرِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ من إنْسَانٍ وَبَاعَ الْمَالِكُ من غَيْرِهِ وَخَرَجَ الْكَلَامَانِ مع أَنَّ بَيْعَ الْمُوَكِّلِ أَوْلَى عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُجْعَلُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَيُخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ من المشترين ( ( ( المشتريين ) ) ) وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَنْفَسِخُ بِهِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما يَنْفَسِخُ بِهِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ شَرَائِطِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ ما يَنْفَسِخُ بِهِ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ اخْتِيَارِيٌّ وَضَرُورِيٌّ وَالِاخْتِيَارِيُّ نَوْعَانِ أَيْضًا صَرِيحٌ وما هو في مَعْنَى الصَّرِيحِ وَدَلَالَةٌ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوَ أَنْ يَقُولَ من له الْخِيَارُ فَسَخْتُ الْبَيْعَ أو نَقَضْتُهُ أو أَبْطَلْتُهُ وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ سَوَاءٌ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أو
____________________

(5/271)


لِلْمُشْتَرِي أو لَهُمَا أو لِغَيْرِهِمَا وَلَا يُشْتَرَطُ له التَّرَاضِي وَلَا قَضَاءُ الْقَاضِي لِأَنَّ الْفَسْخَ حَصَلَ بِتَسْلِيطِ صَاحِبِهِ عليه
وَأَمَّا الْفَسْخُ من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَهُوَ أَنْ يَتَصَرَّفَ من له الْخِيَارُ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ إنْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وفي الثَّمَنِ إنْ كان عَيْنًا إذَا كان الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْخِيَارَ إذَا كان لِلْبَائِعِ فَتَصَرُّفُهُ في الْمَبِيعِ تَصَرُّفُ الْمُلَّاكِ دَلِيلُ اسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ فيه وإذا كان لِلْمُشْتَرِي فَتَصَرُّفُهُ في الثَّمَنِ إذَا كان عَيْنًا تَصَرُّفُ الْمُلَّاكِ دَلِيلُ اسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ فيه وَلَا يَكُونُ ذلك إلَّا بِالْفَسْخِ فَالْإِقْدَامُ عليه يَكُونُ فَسْخًا لِلْعَقْدِ دَلَالَةً
وَالْحَاصِلُ أن وُجِدَ من الْبَائِعِ في الْمَبِيعِ ما لو وُجِدَ منه في الثَّمَنِ لَكَانَ إجَازَةً لِلْبَيْعِ يَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ وقد ذَكَرْنَا ذلك كُلَّهُ وَهَذَا النَّوْعُ من الْفَسْخِ لَا يَقِفُ على عِلْمِ صَاحِبِهِ بِلَا خِلَافٍ بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الِانْفِسَاخَ هَهُنَا لَا يَثْبُتُ بِالْفَسْخِ مَقْصُودًا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ ضِمْنًا لِغَيْرِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ له ما يُشْتَرَطُ لِلْفَسْخِ مَقْصُودًا كَبَيْعِ الشِّرْبِ وَالطَّرِيقِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَقْصُودًا وَيَجُوزُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الضَّرُورِيُّ فَنَحْوَ أَنْ يَهْلِكَ الْمَبِيعُ قبل الْقَبْضِ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ سَوَاءٌ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أو لِلْمُشْتَرِي أو لَهُمَا جميعا لِأَنَّهُ لو كان بَاتًّا لَبَطَلَ فإذا كان فيه خِيَارُ الشَّرْطِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَضْعَفُ منه وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَكَذَلِكَ يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَلَكِنْ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ إنْ لم يَكُنْ له مِثْلٌ وَالْمِثْلُ إنْ كان له مِثْلٌ إمَّا بُطْلَانُ الْبَيْعِ فَلِأَنَّ الْمَبِيعَ صَارَ بِحَالٍ لَا يَحْتَمِلُ إنْشَاءَ الْعَقْدِ عليه فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ ضَرُورَةً وَأَمَّا لُزُومُ الْقِيمَةِ فَقَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال ابن أبي لَيْلَى أنه يَهْلِكُ أَمَانَةً
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْخِيَارَ مَنَعَ انْعِقَادَ الْعَقْدِ في حَقِّ الْحُكْمِ فَكَانَ الْمَبِيعُ على حُكْمِ مِلْكِ الْبَائِعِ أَمَانَةً في يَدِ الْمُشْتَرِي فَيَهْلِكُ هَلَاكَ الْأَمَانَاتِ
وَلَنَا أَنَّ الْبَيْعَ وَإِنْ لم يَنْعَقِدْ في حَقِّ الْحُكْمِ لَكِنَّ الْمَبِيعَ في قَبْضِ الْمُشْتَرِي على حُكْمِ الْبَيْعِ فَلَا يَكُونُ دُونَ الْمَقْبُوضِ على سَوْمِ الشِّرَاءِ بَلْ هو فَوْقَهُ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يُوجَدْ الْعَقْدُ لَا بِنَفْسِهِ وَلَا بِحُكْمِهِ وَهَهُنَا إنْ لم يَثْبُتْ حُكْمُ الْعَقْدِ فَقَدْ وُجِدَ بِنَفْسِهِ وَذَلِكَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ أو بِالْمِثْلِ فَهَذَا أَوْلَى
وَإِنْ كان الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَلَكِنْ يَبْطُلُ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ أما على أَصْلِهِمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ فإذا قَبَضَهُ فَقَدْ تَقَرَّرَ عليه الثَّمَنُ فإذا هَلَكَ يَهْلِكُ مَضْمُونًا بِالثَّمَنِ كما كان في الْبَيْعِ الْبَاتِّ
وأما على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَالْمُشْتَرِي وَإِنْ لم يَمْلِكْهُ فَقَدْ اعْتَرَضَ عليه في يَدِهِ قبل الْقَبْضِ ما يَمْنَعُ الرَّدَّ وهو التَّعَيُّبُ بِعَيْبٍ لم يَكُنْ عِنْدَ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْهَلَاكَ في يَدِهِ لَا يَخْلُو عن تَقَدُّمِ عَيْبٍ عَادَةً لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عن سَبَبِ مَوْتِهِ في الْهَلَاكِ عَادَةً وَأَنَّهُ يَكُونُ عَيْبًا وَتَعَيُّبُ الْمَبِيعِ في يَدِ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ الرَّدَّ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فإذا هَلَكَ يَهْلِكُ بِالثَّمَنِ
وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْمَبِيعَ أَجْنَبِيٌّ وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَالْبَائِعُ على خِيَارِهِ لِأَنَّهُ يَهْلِكُ إلَى خَلَفٍ وهو الضَّمَانُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ لِلضَّمَانِ وهو إتْلَافُ مَالٍ مقوم ( ( ( متقوم ) ) ) مَمْلُوكٍ لِغَيْرِهِ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عن مِلْكِهِ وَالْهَالِكُ إلَى خَلَفٍ قَائِمٌ مَعْنًى فَكَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْإِجَازَةِ سَوَاءٌ كان الْمَبِيعُ في يَدِ الْمُشْتَرِي أو في يَدِ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ في الْحَالَيْنِ جميعا فَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَاتَّبَعَ الْجَانِي بِالضَّمَانِ
وَكَذَلِكَ لو اسْتَهْلَكَهُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ وَجَبَ الضَّمَانُ عليه بِالِاسْتِهْلَاكِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَالضَّمَانُ بَدَلُ الْمَضْمُونِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ فَكَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا مَعْنًى فَكَانَ الْخِيَارُ على حَالِهِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَاتَّبَعَ الْمُشْتَرِي بِالضَّمَانِ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ وَاتَّبَعَهُ بِالثَّمَنِ
وَلَوْ تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ في يَدِ الْبَائِعِ فَإِنْ كان بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمَبِيعِ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وهو على خِيَارِهِ لِأَنَّ ما انْتَقَصَ منه من غَيْرِ فِعْلِهِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عليه حَيْثُ لَا يَسْقُطُ بِحِصَّتِهِ شَيْءٌ من الثَّمَنِ فَلَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ في قَدْرِ الضَّمَانِ بِإِبْقَاءِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ على الْمُشْتَرِي فَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ فَإِنْ أَجَازَهُ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِتَغَيُّرِ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ
وَإِنْ كان بِفِعْلِ الْبَائِعِ بَطَلَ الْبَيْعُ لِأَنَّ ما انْتَقَصَ بِفِعْلِهِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عليه حتى يَسْقُطَ عن الْمُشْتَرِي حِصَّةُ قَدْرِ النُّقْصَانِ من الثَّمَنِ فَالْإِجَازَةُ تَتَضَمَّنُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ على الْمُشْتَرِي قبل التَّمَامِ
وَإِنْ كان بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ لم يَبْطُلْ الْبَيْعُ وهو على خِيَارِهِ لِأَنَّ قَدْرَ النُّقْصَانِ هَلَكَ إلَى خَلَفٍ وهو الضَّمَانُ فَكَانَ قَائِمًا مَعْنًى ولم يَبْطُلْ الْبَيْعُ في قَدْرِ الْهَالِكِ فَكَانَ الْبَائِعُ على خِيَارِهِ إنْ شاه ( ( ( شاء ) ) ) فَسَخَ الْبَيْعَ وأتبع الْجَانِيَ بِالْأَرْشِ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ وأتبع الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يَتَّبِعُ الْجَانِي بِالْأَرْشِ
وَكَذَلِكَ لو تَعَيَّبَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالْبَائِعُ على
____________________

(5/272)


خِيَارِهِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ على مِلْكِ الْبَائِعِ فَكَانَ قَدْرُ النُّقْصَانِ مَضْمُونًا على الْمُشْتَرِي فَكَانَ هَلَاكًا إلَى خَلَفٍ فَكَانَ الْبَيْعُ على حَالِهِ وَالْبَائِعُ على خِيَارِهِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَاتَّبَعَ الْمُشْتَرِيَ بِالضَّمَانِ
وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ وَاتَّبَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ
وَكَذَلِكَ إذَا تَعَيَّبَ في يَدِ الْمُشْتَرِي بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أو بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أو بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَالْبَائِعُ على خِيَارِهِ فَإِنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ فَإِنْ أَجَازَ أَخَذَ من الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ سَوَاءٌ كان التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أو بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ أو بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لِأَنَّ الْبَيْعَ جَازَ في الْكُلِّ وَلَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الرَّدِّ بِحُدُوثِ التَّغَيُّرِ في الْمَبِيعِ لِأَنَّهُ حَدَثَ في يَدِهِ في ضامنه ( ( ( ضمانه ) ) ) غير أَنَّهُ إنْ كان التعييب ( ( ( التعيب ) ) ) بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فَلَا سَبِيلَ له على أَحَدٍ
وَإِنْ كان بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَّبِعَ الْجَانِي بِالْأَرْشِ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْعَبْدَ بِإِجَازَةِ الْبَائِعِ من وَقْتِ الْبَيْعِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ على مِلْكِهِ وَإِنْ فَسَخَ يُنْظَرُ إنْ كان التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فإن الْبَائِعَ يَأْخُذُ الْبَاقِي وَيَأْخُذُ أَرْشَ الْجِنَايَةِ من الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْعَبْدَ كان مَضْمُونًا على الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو هَلَكَ في يَدِهِ لزمنه ( ( ( لزمته ) ) ) قِيمَتُهُ وَبِالْفَسْخِ وَجَبَ عليه رَدُّهُ وقد عَجَزَ عن رَدِّ قَدْرِ الْفَائِتِ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ قِيمَتِهِ وَكَذَا إذَا تَعَيَّبَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كان التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْأَجْنَبِيَّ بِالْأَرْشِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ على مِلْكِهِ وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ اخْتَارَ اتِّبَاعَ الْأَجْنَبِيِّ فَالْأَجْنَبِيُّ لَا يَرْجِعُ على أَحَدٍ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ
وَإِنْ اخْتَارَ اتِّبَاعَ الْمُشْتَرِي فَالْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ من الْأَرْشِ على الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قام مَقَامَ الْبَائِعِ في حَقِّ مِلْكِ بَدَلِ الْفَائِتِ وَإِنْ لم يَقُمْ مَقَامَهُ في حَقِّ مِلْكِ نَفْسِ الْفَائِتِ كَغَاصِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا قُتِلَ الْمُدَبَّرُ في يَدِهِ وَضَمِنَهُ لِلْمَالِكِ أَنَّ له أَنْ يَرْجِعَ بِمَا ضَمِنَ على القائل ( ( ( القاتل ) ) ) وَإِنْ لم يَمْلِكْ نَفْسَ الْمُدَبَّرِ كَذَا هذا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْفَسْخِ فَمِنْهَا قِيَامُ الْخِيَارِ لِأَنَّ الْخِيَارَ إذَا بَطَلَ فَقَدْ لَزِمَ الْبَيْعُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَمِنْهَا عِلْمُ صَاحِبِهِ بِالْفَسْخِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حتى لو فُسِخَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كان فَسْخُهُ مَوْقُوفًا عِنْدَهُمَا إنْ عَلِمَ صَاحِبُهُ بِفَسْخِهِ في مُدَّةِ الْخِيَارِ نَفَذَ وَإِنْ لم يَعْلَمْ حتى مَضَتْ الْمُدَّةُ لَزِمَ الْعَقْدُ
وَكَذَا لو أَجَازَ الْفَاسِخُ الْعَقْدَ نَفَذَ فَسْخُهُ قبل عِلْمِ صَاحِبِهِ وَجَازَتْ إجَازَتُهُ وَلَزِمَ الْعُقَدُ وَبَطَلَ فَسْخُهُ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وقال عِلْمُ صَاحِبِهِ ليس بِشَرْطٍ حتى لو فُسِخَ يَصِحُّ فَسْخُهُ عَلِمَ صَاحِبُهُ بِالْفَسْخِ أو لَا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ فَصَلَ بين خِيَارِ الْبَائِعِ وَخِيَارِ الْمُشْتَرِي فلم يَشْتَرِطْ الْعِلْمَ في خِيَارِ الْبَائِعِ وَشَرَطَ في خِيَارِ الْمُشْتَرِي
وَأَمَّا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فَهُوَ على هذا الِاخْتِلَافِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَلَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا في خِيَارِ الْعَيْبِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْفَسْخِ فيه شَرْطٌ سَوَاءٌ كان بَعْدَ الْقَضَاءِ أو قَبْلَهُ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ عَزْلَ الْمُوَكِّلِ وَكِيلَهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ وَإِنْ فَسَخَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الشَّرِكَةَ أو نهى رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ عن التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ لَا يَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ بِغَيْرِ عِلْمِ صَاحِبِهِ فَيَمْلِكُ الْفَسْخَ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَصَلَ بِتَسْلِيطِ صَاحِبِهِ عليه وَرِضَاهُ فَلَا مَعْنَى لِلتَّوَقُّفِ على عِلْمِهِ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ من غَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن الْفَسْخَ لو نَفَذَ بِغَيْرِ عِلْمِ صَاحِبِهِ لَتَضَرَّرَ بِهِ صَاحِبُهُ فَلَا يَنْفُذُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عنه كَالْمُوَكِّلِ إذَا عَزَلَ وَكِيلَهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ وَبَيَانُ الضَّرَرِ أَنَّ صَاحِبَهُ إذَا لم يَعْلَمْ بِالْفَسْخِ فَتَصَرَّفَ في الْمَبِيعِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ على ظَنِّ أَنَّهُ مِلْكَهُ فَلَوْ جَازَ الْفَسْخُ من غَيْرِ عِلْمِهِ لَتَبَيَّنَ أَنَّهُ تَصَرَّفَ في مِلْكِ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَلِهَذَا لم يَجُزْ عَزْلُ الْوَكِيلِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَذَا هذا بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ أَنَّهُ يَصِحُّ من غَيْرِ عِلْمِهِ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فيه وَكَذَا لَا ضَرَرَ في بَيْعِ الْوَكِيلِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ في الْفَسْخِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ حتى لَا يَمْلِكَ الْإِجَازَةَ في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ لِأَنَّهُ تفرق ( ( ( تفريق ) ) ) الصَّفْقَةِ قبل تَمَامِهَا وَأَنَّهُ بَاطِلٌ
وَأَمَّا الْخِيَارُ الثَّابِتُ بِالشَّرْطِ دَلَالَةً فَهُوَ خِيَارُ الْعَيْبِ وَالْكَلَامُ في بَيْعِ الْمَعِيبِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ حُكْمِهِ وفي بين صفة الحكم وفي بَيَانِ تفسري ( ( ( صفة ) ) ) الْعَيْبِ الذي يُوجِبُ الْخِيَارَ وَتَفْصِيلِ الْمُفَسَّرِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ وفي طَرِيقِ إثْبَاتِ الْعَيْبِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الرَّدِّ وَالْفَسْخِ بِالْعَيْبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وفي بَيَانِ من تَلْزَمُهُ الْخُصُومَةُ في الْعَيْبِ وَمَنْ لَا تَلْزَمُهُ وفي بَيَانِ ما يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وفي بَيَانِ ما يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وفي بَيَانِ ما يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وما لَا يَمْنَعُ وفي بَيَانِ طَرِيقِ الرُّجُوعِ
أَمَّا حُكْمُهُ فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي في الْمَبِيعِ لِلْحَالِ لِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ مُطْلَقٌ عن الشَّرْطِ وَالثَّابِتُ بِدَلَالَةِ
____________________

(5/273)


النَّصِّ شَرْطُ السَّلَامَةِ لَا شَرْطُ السَّبَبِ وَلَا شَرْطُ الْحُكْمِ وَأَثَرُهُ في مَنْعِ اللُّزُومِ لَا في من ( ( ( منع ) ) ) أَصْلِ الْحُكْمِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْمَنْصُوصَ عليه هُنَاكَ دخل على السَّبَبِ فَيَمْنَعُ انْعِقَادَهُ في حَقِّ الْحُكْمِ في مُدَّةِ الْخِيَارِ
وَأَمَّا صِفَتُهُ فَهِيَ أَنَّهُ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّ السَّلَامَةَ شَرْطٌ في الْعَقْدِ دَلَالَةً فما لم يُسَلَّمْ الْمَبِيعُ لَا يَلْزَمُ الْبَيْعُ فَلَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ السَّلَامَةَ مَشْرُوطَةٌ في الْعَقْدِ دَلَالَةً أَنَّ السَّلَامَةَ في الْبَيْعِ مَطْلُوبَةُ الْمُشْتَرِي عَادَةً إلَى آخِرِهِ لِأَنَّ غَرَضَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَبِيعِ وَلَا يَتَكَامَلُ انْتِفَاعُهُ إلَّا بِقَيْدِ السَّلَامَةِ وَلِأَنَّهُ لم يَدْفَعْ جَمِيعَ الثَّمَنِ إلَّا لِيُسَلَّمَ له جَمِيعُ الْمَبِيعِ فَكَانَتْ السَّلَامَةُ مَشْرُوطَةً في الْعَقْدِ دَلَالَةً فَكَانَتْ كَالْمَشْرُوطَةِ نَصًّا فإذا فَاتَتْ الْمُسَاوَاةُ كان له الْخِيَارُ كما إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً على أنها بِكْرٌ أو على أنها طَبَّاخَةٌ فلم يَجِدْهَا كَذَلِكَ
وَكَذَا السَّلَامَةُ من مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ أَيْضًا لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَالْمُعَاوَضَاتُ مَبْنَاهَا على الْمُسَاوَاةِ عَادَةً وَحَقِيقَةً وَتَحْقِيقُ الْمُسَاوَاةِ في مُقَابَلَةِ الْبَدَلِ بِالْمُبْدَلِ وَالسَّلَامَةِ بِالسَّلَامَةِ فَكَانَ إطْلَاقُ الْعَقْدِ مُقْتَضِيًا لِلسَّلَامَةِ فإذا لم يُسَلَّمْ الْمَبِيعُ لِلْمُشْتَرِي يَثْبُتُ له الْخِيَارُ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ قَدْرِ الْفَائِتِ بِالْعَيْبِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وهو عَاجِزٌ عن تَسْلِيمِهِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ وَلِأَنَّ السَّلَامَةَ لَمَّا كانت مَرْغُوبَةَ الْمُشْتَرِي ولم يَحْصُلْ فَقَدْ اخْتَلَّ رِضَاهُ وَهَذَا يُوجِبُ الْخِيَارَ لِأَنَّ الرِّضَا شَرْطُ صِحَّةِ الْبَيْعِ قال اللَّهُ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عن تَرَاضٍ مِنْكُمْ } فَانْعِدَامُ الرِّضَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ وَاخْتِلَالُهُ يُوجِبُ الْخِيَارَ فيه إثْبَاتًا لِلْحُكْمِ على قَدْرِ الدَّلِيلِ
وَالْأَصْلُ في شَرْعِيَّةِ هذا الْخِيَارِ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً فَوَجَدَهَا مُصَرَّاةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
وفي رِوَايَةٍ فَهُوَ بِأَحَدِ النَّظَرَيْنِ إلَى ثَلَاثَةٍ أن شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا من تَمْرٍ النظران ( ( ( والنظران ) ) ) الْمَذْكُورَانِ هُمَا نَظَرُ الْإِمْسَاكِ وَالرَّدِّ وَذِكْرُ الثَّلَاثِ في الحديث ليس لِلتَّوْقِيتِ لِأَنَّ هذا النَّوْعَ من الْخِيَارِ ليس بِمُوَقَّتٍ بَلْ هو بِنَاءُ الْأَمْرِ على الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ لِأَنَّ المشتري إنْ كان بِهِ عَيْبٌ يَقِفُ عليه الْمُشْتَرِي في هذه الْمُدَّةِ عَادَةً فيرضي بِهِ فَيُمْسِكُهُ أو لَا يرضي بِهِ فَيَرُدُّهُ وَالصَّاعُ من التَّمْرِ كَأَنَّهُ قِيمَةُ اللَّبَنِ الذي حَلَبَهُ الْمُشْتَرِي عَلِمَهُ رسول اللَّهِ بِطَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْعَيْبِ الذي يُوجِبُ الْخِيَارَ وَتَفْصِيلُ الْمُفَسَّرِ فَكُلُّ ما يُوجِبُ نُقْصَانَ الثَّمَنِ في عَادَةِ التُّجَّارِ نُقْصَانًا فَاحِشًا أو يَسِيرًا فَهُوَ عَيْبٌ يُوجِبُ الْخِيَارَ وما لَا فَلَا نحو الْعَمَى وَالْعَوَرِ وَالْحَوَلِ وَالْقَبَلِ وهو نَوْعٌ من الْحَوْلِ مَصْدَرُ الْأَقْبَلِ وهو الذي كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى طَرَفِ أَنْفِهِ وَالسَّبَلِ وهو زِيَادَةٌ في الْأَجْفَانِ وَالْعَشَا مَصْدَرُ الْأَعْشَى وهو الذي لَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ وَالْخَوَصِ مَصْدَرُ الْأَخْوَصِ وهو غَائِرُ الْعَيْنِ والحوض ( ( ( والحوص ) ) ) مَصْدَرُ الْأَحْوَصِ وهو الضَّيِّقُ مُؤَخَّرِ الْعَيْنِ وَالْغَرَبِ وهو وَرَمٌ في الأماق وَهِيَ أَطْرَافُ الْعَيْنِ التي تَلِي الْأَنْفَ
وَقِيلَ هو دُرُورُ الدَّمْعِ دَائِمًا وَالظَّفَرَةُ وَهِيَ التي يُقَالُ لها بِالْفَارِسِيَّةِ ناخنه وَالشَّتَرِ وهو انْقِلَابُ جَفْنِ الْعَيْنِ وَالْبَرَصِ وَالْقَرَعِ وَالسَّلْعِ وَالشَّلَلِ وَالزَّمَانَةِ وَالْفَدَعِ وهو إعوجاج في الرُّسْغِ من الْيَدِ أو الرِّجْلِ وَالْفَجَجِ مَصْدَرُ الْأَفْجَجُ وهو الذي يَتَدَانَى عَقِبَاهُ وَيَنْكَشِفُ سَاقَاهُ في الْمَشْيِ
وَالصَّكَكِ مَصْدَرُ الْأَصَكِّ وهو الذي يصكك ( ( ( تصطك ) ) ) رُكْبَتَاهُ وَالْحَنَفُ مَصْدَرُ الْأَحْنَفِ وهو الذي أَقْبَلَتْ إحْدَى إبْهَامِ رِجْلَيْهِ على الْأُخْرَى والبزي ( ( ( والبزا ) ) ) مَصْدَرُ الْأَبْزَى وهو خُرُوجُ الصَّدْرِ
وَالْعُسْرِ مَصْدَرُ الْأَعْسَرِ وهو الذي يَعْمَلُ بِشِمَالِهِ والأصبع الزَّائِدَةِ وَالنَّاقِصَةِ وَالسِّنِّ الشَّاغِيَةِ وَالسَّوْدَاءِ وَالنَّاقِصَةِ وَالظُّفْرِ الْأَسْوَدِ وَالْبَخَرِ وهو نَتْنُ الْفَمِ في الْجَوَارِي لَا في الْعَبِيدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ عن دَاءٍ وَالزَّفَرِ وهو نَتْنُ الْإِبِطِ في الْجَارِيَةِ لَا في الْغُلَامِ إلَّا أَنْ يَفْحُشَ فَيَكُونُ عَيْبًا فِيهِمَا جميعا وَالْأَدَرِ مَصْدَرُ الإدرة وهو الذي بِهِ أُدْرَةٌ يُقَالُ لها بِالْفَارِسِيَّةِ فَتْحُ
وَالرَّتَقِ وهو انْسِدَادُ فَرْجِ الْجَارِيَةِ وَالْفَتْقِ وهو انْفِتَاحُ فَرْجِهَا وَالْقَرَنِ وهو في النِّسَاءِ كَالْأُدْرَةِ في الرِّجَالِ وَالشَّمَطِ وَالشَّيْبِ في الْجَوَارِي وَالْعَبِيدِ وَالسَّلُول وَالْقُرُوحِ وَالشِّجَاجِ وَالْأَمْرَاضِ كُلِّهَا
وَالْحَبَلِ في الْجَوَارِي لَا في الْبَهَائِمِ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ في الْبَهِيمَةِ وَحَذْفِ الْحُرُوفِ في الْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ أو في بَعْضِهِ وَالزِّنَا في الْجَارِيَةِ لَا في الْغُلَامِ لِأَنَّهُ يُفْسِدُ الْفِرَاشَ وقد يُقْصَدُ الْفِرَاشُ في الْإِمَاءِ بِخِلَافِ الْغُلَامِ إلَّا إذَا فَحُشَ وَصَارَ اتِّبَاعُ النِّسَاءِ عَادَةً له فَيَكُونُ عَيْبًا فيه أَيْضًا لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَعْطِيلَ مَنَافِعِهِ على الْمَوْلَى وَكَذَا إذَا ظَهَرَ وُجُوبُ الْحَدِّ عليه فَهُوَ عَيْبٌ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِبَلْخٍ الزِّنَا يَكُونُ عَيْبًا في الْغُلَامِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُؤْتَمَنُ على أَهْلِ ابيت ( ( ( البيت ) ) ) فَلَا يُسْتَخْدَمُ
____________________

(5/274)


وَهَذَا ليس بِسَدِيدٍ لِأَنَّ الْغُلَامَ الْكَبِيرَ لَا يُشْتَرَى لِلِاسْتِخْدَامِ في الْبَيْتِ بَلْ لِلْأَعْمَالِ الْخَارِجَةِ وَكَوْنُ المشتري وَلَدَ الزِّنَا في الْجَارِيَةِ لَا في الْعَبِيدِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قد يُقْصَدُ الْفِرَاشُ من الْجَوَارِي فإذا جَاءَتْ بِوَلَدٍ يُعَيَّرُ وَلَدُهُ بِأُمِّهِ بِخِلَافِ الْغُلَامِ لِأَنَّهُ يشتري لخدمة ( ( ( للخدمة ) ) ) عَادَةً وَالْكُفْرُ في الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ عَيْبٌ لِأَنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَنْفِرُ عن صُحْبَةِ الْكَافِرِ
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ بِعَيْبٍ بِأَنْ اشْتَرَى نَصْرَانِيٌّ عَبْدًا فَوَجَدَهُ مُسْلِمًا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ زِيَادَةٌ وَالنِّكَاحُ في الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ مَمْلُوكَةٌ لِلزَّوْجِ وَالْعَبْدُ يُبَاعُ في الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فَيُوجِبُ ذلك نُقْصَانًا في ثَمَنِهِمَا وَالْعِدَّةُ من طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لَا من طَلَاقٍ بَائِنٍ أو ثَلَاثٍ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الْبَائِنِ وَالثَّلَاثِ وَاحْتِبَاسُ الْحَيْضَةِ في الْجَارِيَةِ الْبَالِغَةِ مُدَّةً طَوِيلَةً شَهْرَانِ فَصَاعِدًا والإستحاضة لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْحَيْضِ في أَوَانِهِ لَا يَكُونُ إلَّا لِدَاءٍ عَادَةً
وَكَذَا اسْتِمْرَارُ الدَّمِ في أَيَّامِ الطُّهْرِ وَالْإِحْرَامُ في الْجَارِيَةِ ليس بِعَيْبٍ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ إزَالَتَهُ فإن له أَنْ يُحَلِّلَهَا وَالْحُرْمَةُ بِالرَّضَاعِ أو الصِّهْرِيَّةِ ليس بِعَيْبٍ فيها لِأَنَّ الْجَوَارِيَ لَا يُشْتَرَيْنَ لِلِاسْتِمْتَاعِ عَادَةً بَلْ لِلِاسْتِخْدَامِ في الْبَيْتِ وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ لَا تَقْدَحُ في ذلك بِخِلَافِ النِّكَاحِ حَيْثُ يَكُونُ عَيْبًا وَإِنْ لم يَثْبُتْ بِهِ إلَّا حُرْمَةُ الِاسْتِمْتَاعِ لِأَنَّهُ يحل ( ( ( يخل ) ) ) بِالِاسْتِخْدَامِ
وَالثِّيَابَةُ في الْجَارِيَةِ ليس بِعَيْبٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ اشْتَرَاهَا على شَرْطِ الْبَكَارَةِ فَيَرُدَّهَا بَعْدَ الشَّرْطِ وَالدَّيْنُ وَالْجِنَايَةُ لِأَنَّهُ يُدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ وَيُبَاعُ بِالدَّيْنِ وَالْجَهْلُ بِالطَّبْخِ وَالْخَبْزِ في الْجَارِيَةِ ليس بِعَيْبٍ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الثَّمَنِ في عَادَةِ التُّجَّارِ بَلْ هو حِرْفَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهَا فَانْعِدَامُهُ لَا يَكُونُ عَيْبًا إلَّا أَنْ يَكُونَ ذلك مَشْرُوطًا في الْعَقْدِ فَيَرُدَّهَا لِفَوَاتِ الشَّرْطِ لَا لِلْعَيْبِ
وَلَوْ كانت تحس ( ( ( تحسن ) ) ) الطَّبْخَ والخيز ( ( ( والخبز ) ) ) في يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ نَسِيَتْ في يَدِهِ فَاشْتَرَاهَا فَوَجَدَهَا لَا تُحْسِنُ ذلك رَدَّهَا وَإِنْ لم يَكُنْ ذلك مَشْرُوطًا في الْعَقْدِ لِأَنَّهَا إذَا كانت تُحْسِنُ ذلك في يَدِ الْبَائِعِ وَهِيَ صِفَةٌ مَرْغُوبَةٌ تشتري لها الْجَارِيَةُ عَادَةً فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَاهَا رَغْبَةً فيها فَصَارَتْ مَشْرُوطَةً دَلَالَةً فَيَرُدُّهَا لِانْعِدَامِ الْمَشْرُوطِ كما لو شَرَطَ ذلك نَصًّا وَانْعِدَامُ الْخِتَانِ في الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ إذ كَانَا مَوْلُودَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَإِنْ كانت ( ( ( كانا ) ) ) مَوْلُودَيْنِ صَغِيرَيْنِ فَلَيْسَ بِعَيْبٍ لِأَنَّ الْخِتَانَ في حَالَةِ الْكِبَرِ فيه زِيَادَةُ أَلَمٍ
وَهَذَا الذي ذُكِرَ في الْجَارِيَةِ في عُرْفِ بِلَادِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَخْتِنُونَ الْجَوَارِيَ فَأَمَّا في عُرْفِ دِيَارِنَا فَالْجَارِيَةُ لَا تُخْتَنُ فَعَدَمُ الْخِتَانِ فيها لَا يَكُونُ عَيْبًا أَصْلًا
وَإِنْ كان الْغُلَامُ كَبِيرًا حَرْبِيًّا لَا يَكُونُ عَيْبًا لأن فيه ضَرُورَةٌ لِأَنَّ أَكْثَرَ الرَّقِيقِ يُؤْتَى بِهِ من دَارِ الْحَرْبِ وَأَهْلُ الْحَرْبِ لَا خِتَانَ لهم فَلَوْ جُعِلَ ذلك عَيْبًا يُرَدُّ بِهِ لَضَاقَ الْأَمْرُ على الناس وَلِأَنَّ الْخِتَانَ إذَا لم يَكُنْ من فِعْلِ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَعَادَتِهِمْ وَمَعَ ذلك اشْتَرَاهُ كان ذلك منه دَلَالَةَ الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَالْإِبَاقُ وَالسَّرِقَةُ وَالْبَوْلُ في الْفِرَاشِ وَالْجُنُونُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منها يُوجِبُ النُّقْصَانَ في الثَّمَنِ في عَادَةِ التُّجَّارِ نُقْصَانًا فَاحِشًا فَكَانَ عَيْبًا إلَّا أَنَّهُ هل يُشْتَرَطُ في هذه الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ اتِّحَادُ الْحَالَةِ وَهَلْ يُشْتَرَطُ ثُبُوتُهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِالْحُجَّةِ لِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ فَسَنَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَالْحَنَفُ مَصْدَرُ الْأَحْنَفِ من الْخَيَلِ وهو الذي إحْدَى عَيْنَيْهِ زَرْقَاءُ وَالْأُخْرَى كَحْلَاءُ وَالصَّدَفِ مَصْدَرُ الْأَصْدَفِ وهو الدَّابَّةُ التي يَتَدَانَى فَخْذَاهَا وَيَتَبَاعَدُ حَافِرَاهَا وَيَلْتَوِي رُسْغَاهَا
وَالْعَزْلُ مَصْدَرُ الْأَعْزَلِ وهو من الدَّوَابِّ الذي يَقَعُ ذَنَبُهُ من جَانِبٍ عَادَةً لَا خِلْقَةً وَالْمَشَشُ وهو ارْتِفَاعُ الْعَظْمِ لِآفَةٍ أَصَابَتْهُ وَالْجَرَدُ مَصْدَرُ الْأَجْرَدِ وهو من الْإِبِلِ الذي أَصَابَهُ انْقِطَاعُ عَصَبٍ من يَدِهِ أو رِجْلِهِ فَهُوَ يُنْقِصُهَا إذَا سَارَ وَالْحَرَّانُ وَالْحَرُونُ مَصْدَرُ الْحَرُونِ وهو الذي يَقِفُ وَلَا يَنْقَادُ لِلسَّائِقِ وَلَا لِلْقَائِدِ
وَالْجِمَاحُ وَالْجُمُوحُ مَصْدَرُ الْجَمُوحِ وهو أَنْ يَشْتَدَّ الْفَرَسُ فَيَغْلِبُ رَاكِبَهُ وَخَلْعُ الرَّسَنِ ظَاهِرٌ وَبَلُّ الْمِخْلَاةِ كَذَلِكَ وَالْهَشْمُ في الْأَوَانِي وَالصَّدْعُ في الْحَوَائِطِ والجدوع ( ( ( والجذوع ) ) ) وَنَحْوِهَا من الْعُيُوبِ فَأَنْوَاعُ الْعُيُوبِ فيها كَثِيرَةٌ لَا وَجْهَ لِذِكْرِهَا هَهُنَا كُلِّهَا وَالتَّعْوِيلُ في الْبَابِ على عُرْفِ التُّجَّارِ فما نَقَصَ الثَّمَنَ في عُرْفِهِمْ فَهُوَ عَيْبٌ يُوجِبُ الْخِيَارَ ومالا فَلَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرَائِطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ
فَمِنْهَا ثُبُوتُ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ أو بَعْدَهُ قبل التَّسْلِيمِ حتى لو حَدَثَ بَعْدَ ذلك لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ لِفَوَاتِ صِفَةِ السَّلَامَةِ الْمَشْرُوطَةِ في الْعَقْدِ دَلَالَةً وقد حُصِّلَتْ السِّلْعَةُ سَلِيمَةً في يَدِ الْمُشْتَرِي
وَمِنْهَا ثُبُوتُهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ما قَبَضَ الْمَبِيعَ وَلَا يكتفي بِالثُّبُوتِ عِنْدَ الْبَائِعِ لِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ في جَمِيعِ الْعُيُوبِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ وقال بَعْضُهُمْ فِيمَا سِوَى الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ من الأباق وَالسَّرِقَةِ وَالْبَوْلِ في
____________________

(5/275)


الْفِرَاشِ وَالْجُنُونِ فَكَذَلِكَ فَأَمَّا في الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ فَثُبُوتُهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي ليس بِشَرْطٍ بَلْ الثُّبُوتُ عِنْدَ الْبَائِعِ كَافٍ وَبَعْضُهُمْ فَصَّلَ في الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ فقال لَا يُشْتَرَطُ في الْجُنُونِ وَيُشْتَرَطُ في غَيْرِهِ من الْعُيُوبِ الثَّلَاثَةِ
وَجْهُ قَوْلِ من فَصَّلَ هذه الْعُيُوبَ الْأَرْبَعَةَ من سَائِرِهَا في اعْتِبَارِ هذا الشَّرْطِ أَنَّ هذه الْعُيُوبَ عُيُوبٌ لَازِمَةٌ لَا زَوَالَ لها إذَا ثَبَتَتْ في شَخْصٍ إلَى أَنْ يَمُوتَ فَثُبُوتُهَا عِنْدَ الْبَائِعِ يَدُلُّ على بَقَائِهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَكَانَ له حَقُّ الرَّدِّ من غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ عِنْدَهُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُيُوبِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ
وَجْهُ قَوْلِ من فَرَّقَ بين الْجُنُونِ وَغَيْرِهِ من الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ إن الْجُنُونَ لِفَسَادٍ في مَحَلِّ الْعَقْدِ وهو الدِّمَاغُ وَهَذَا مِمَّا لَا زَوَالَ له عَادَةً إذَا ثَبَتَ وَلِهَذَا قال مُحَمَّدٌ إنَّ الْجُنُونَ عَيْبٌ لَازِمٌ بِخِلَافِ الْإِبَاقِ وَالْبَوْلِ في الْفِرَاشِ أنها لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ بَلْ تَحْتَمِلُ الزَّوَالَ لِزَوَالِ أَسْبَابِهَا
وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ نَصًّا في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فإنه ذَكَرَ فيه أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الرَّدِّ في هذه الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِهَا عِنْدَهُ فَكَانَ الْمَعْنَى فيه إن الثَّابِتَ عِنْدَ الْبَائِعِ مُحْتَمِلُ الزَّوَالِ قَابِلُ الِارْتِفَاعِ فَأَمَّا ما سِوَى الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ لَا شَكَّ فيه
وَكَذَلِكَ الْعُيُوبُ الْأَرْبَعَةُ لِأَنَّ حُدُوثَهَا في الذَّاتِ لِلْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُدُوثِ وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِلزَّوَالِ فَكَانَتْ هِيَ مُحْتَمِلَةً لِلزَّوَالِ لِاحْتِمَالِ زَوَالِ أَسْبَابِهَا فَإِنْ بَقِيَتْ يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ وَإِنْ ارْتَفَعَتْ لَا يَثْبُتُ فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ بِالِاحْتِمَالِ فَلَا بُدَّ من ثُبُوتِهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِيُعْلَمَ أنها قَائِمَةٌ
وَقَوْلُ الْقَائِلِ الْجُنُونُ إذَا ثَبَتَ لَا يَزُولُ عَادَةً مَمْنُوعٌ فإن الْمَجْنُونَ قد يُفِيقُ وَيَزُولُ جُنُونُهُ بِحَيْثُ لَا يَعُودُ إلَيْهِ فما لم يُوجَدْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَا يُعْلَمُ بَقَاؤُهُ كما في الْأَنْوَاعِ الْأُخَرِ إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بين الْجُنُونِ وَغَيْرِهِ من الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ من وَجْهٍ آخَرَ وهو أَنَّ هُنَاكَ يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الْحَالَةِ لِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ وهو أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي في حَالَةِ الصِّغَرِ أو في حَالِ الْكِبَرِ حتى لو أَبَقَ أو سَرَقَ أو بَالَ في الْفِرَاشِ عِنْدَ الْبَائِعِ وهو صَغِيرٌ عَاقِلٌ
ثُمَّ كان ذلك في يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبُلُوغِ لَا يَثْبُتُ له حَقُّ الرَّدِّ وفي الْجُنُونِ اتِّحَادُ الْحَالَةِ ليس بِشَرْطٍ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْحَالِ في الْعُيُوبِ الثَّلَاثِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ السَّبَبِ لِأَنَّ السبب ( ( ( سبب ) ) ) الْبَوْلِ على الْفِرَاشِ في حَالِ الصِّغَرِ هو ضَعْفٌ في الْمَثَانَةِ وفي الْكِبَرِ هو دَاءٌ في الْبَاطِنِ وَالسَّبَبُ في الْإِبَاقِ وَالسَّرِقَةِ في الصِّغَرِ هو الْجَهْلُ وَقِلَّةُ التَّمْيِيزِ وفي الْكِبَرِ الشَّرَارَةُ وَخُبْثُ الطَّبِيعَةِ وَاخْتِلَافُ السَّبَبِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فَكَانَ الْمَوْجُودُ في يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبُلُوغِ غير الْمَوْجُودِ في يَدِ الْبَائِعِ فَكَانَ عَيْبًا حَادِثًا وَأَنَّهُ يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ لِأَنَّ سَبَبَهُ في الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ وهو فَسَادٌ في مَحَلِّ الْعَقْلِ وهو الدِّمَاغُ فَكَانَ الْمَوْجُودُ في حَالَةِ الْكِبَرِ عَيْنَ الْمَوْجُودِ في حَالَةِ الصِّغَرِ وَهَذَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ في الْكِتَابِ الْجُنُونُ عَيْبٌ لَازِمٌ أَبَدًا لَا ما قَالَهُ أُولَئِكَ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
وَمِنْهَا عَقْلُ الصَّبِيِّ في الْإِبَاقِ وَالسَّرِقَةُ وَالْبَوْلُ على الْفِرَاشِ حتى لو أَبَقَ أو سَرَقَ أو بَالَ على الْفِرَاشِ في يَدِ الْبَائِعِ وهو صَغِيرٌ لَا يَعْقِلُ ثُمَّ كان ذلك في يَدِ الْمُشْتَرِي وهو كَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ له حَقُّ الرَّدِّ وَهَذَا إذَا فَعَلَ ذلك في يَدِ الْبَائِعِ وهو صَغِيرٌ لَا يَعْقِلُ ثُمَّ وُجِدَ ذلك في يَدِ الْمُشْتَرِي بعدما عَقَلَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ في يَدِ الْبَائِعِ ليس بِعَيْبٍ وَلَا بُدَّ من وُجُودِ الْعَيْبِ في يَدِهِ
وَمِنْهَا اتِّحَادُ الْحَالِ في الْعُيُوبِ الثَّلَاثَةِ فَإِنْ اخْتَلَفَ لم يَثْبُتْ حَقُّ الرَّدِّ بِأَنْ أَبَقَ أو سَرَقَ أو بَالَ على الْفِرَاشِ في يَدِ الْبَائِعِ وهو صَغِيرٌ عَاقِلٌ ثُمَّ كان ذلك في يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبُلُوغِ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْحَالِ دَلِيلُ اخْتِلَافِ سَبَبِ الْعَيْبِ على ما بَيَّنَّا وَاخْتِلَافُ سَبَبِ الْعَيْبِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعَيْبِ فَكَانَ الْمَوْجُودُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَيْبًا حَادِثًا عِنْدَ الرَّدِّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا جَهْلُ الْمُشْتَرِي بوجوب ( ( ( بوجود ) ) ) الْعَيْبِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ فَإِنْ كان عَالِمًا بِهِ عِنْدَ أَحَدِهِمَا فَلَا خِيَارَ له لِأَنَّ الْإِقْدَامَ على الشِّرَاءِ مع الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ رِضًا بِهِ دَلَالَةً وَكَذَا إذَا لم يَعْلَمْ عِنْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَهُ قبل الْقَبْضِ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْعِلْمُ عِنْدَ الْقَبْضِ كَالْعِلْمِ عِنْدَ الْعَقْدِ
وَمِنْهَا عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْبَرَاءَةِ عن الْعَيْبِ في الْبَيْعِ عِنْدَنَا حتى لو شَرَطَ فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ عن الْعَيْبِ في الْبَيْعِ عِنْدَنَا صَحِيحٌ فإذا أَبْرَأَهُ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَصَحَّ الاسقاط فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً ثُمَّ الْكَلَامُ في الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ في الْأَصْلِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في جَوَازِهِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَدْخُلُ تَحْتَ الْبَرَاءَةِ من الْعَيْبِ
أَمَّا الْكَلَامُ في جَوَازِهِ فَقَدْ مَرَّ في مَوْضِعِهِ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى بَيَانِ ما يَدْخُلُ تَحْتَ الْبَرَاءَةِ من الْعَيْبِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْبَرَاءَةُ لَا تَخْلُو إمَّا إن كانت عَامَّةً بِأَنْ قال بِعْت على أَنِّي بَرِيءٌ من
____________________

(5/276)


الْعُيُوبِ أو قال من كل عَيْبٍ وإما إن كانت خَاصَّةً بِأَنْ قال من عَيْبِ كَذَا وَسَمَّاهُ وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إن قَيَّدَ الْبَرَاءَةَ بِعَيْبٍ قَائِمٍ حَالَةَ الْعَقْدِ وَإِمَّا إن أَطْلَقَهَا إطْلَاقًا وَإِمَّا إن أَضَافَهَا إلَى عَيْبٍ يَحْدُثُ في الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنْ قَيَّدَهَا بِعَيْبٍ قَائِمٍ حَالَةَ الْعَقْدِ لَا يَتَنَاوَلُ الْعَيْبَ الْحَادِثَ بَعْدَ الْبَيْعِ قبل الْقَبْضِ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ كانت الْبَرَاءَةُ عَامَّةً بِأَنْ قال أَبْرَأْتُك من كل عَيْبٍ بِهِ أو خَاصَّةً بِأَنْ قال أَبْرَأْتُك مِمَّا بِهِ من عَيْبِ كَذَا لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُقَيَّدَ بِوَصْفٍ لَا يَتَنَاوَلُ غير الْمَوْصُوفِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَإِنْ أَطْلَقَهَا إطْلَاقًا دخل فيه الْقَائِمُ وَالْحَادِثُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَدْخُلُ فيه الْحَادِثُ وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِبْرَاءَ عن الْعَيْبِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْعَيْبِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عن الْمَعْدُومِ لَا يُتَصَوَّرُ وَالْحَادِثُ لم يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْبَيْعِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِبْرَاءِ فَلَوْ دخل إنَّمَا يَدْخُلُ بِالْإِضَافَةِ إلَى حَالَةِ الْحُدُوثِ وَالْإِبْرَاءُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ لِأَنَّ فيه مَعْنَى التَّمْلِيكِ حتى يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ وَلِهَذَا لم يَدْخُلْ الْحَادِثُ عِنْدَ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ نَصًّا فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ لَفْظَ الْإِبْرَاءِ يَتَنَاوَلُ الْحَادِثَ نَصًّا وَدَلَالَةً أَمَّا النَّصُّ فإنه عَمَّ الْبَرَاءَةَ عن الْعُيُوبِ كُلِّهَا أو خَصَّهَا بِجِنْسٍ من الْعُيُوبِ على الاطلاق نَصًّا فَتَخْصِيصُهُ أو تَقْيِيدُهُ بِالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنَّ غَرَضَ الْبَائِعِ من هذا الشَّرْطِ هو انْسِدَادُ طَرِيقِ الرَّدِّ وَلَا يَنْسَدُّ إلَّا بِدُخُولِ الْحَادِثِ فَكَانَ دَاخِلًا فيه دَلَالَةً
وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدٍ أن هذا إبْرَاءٌ عَمَّا ليس بِثَابِتٍ فَعِبَارَةُ الْجَوَابِ عن هذا الْحَرْفِ من وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ هذا مَمْنُوعٌ بَلْ هو إبْرَاءٌ عن الثَّابِتِ لَكِنْ تَقْدِيرًا وَبَيَانُهُ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَيْبَ الْحَادِثَ قبل الْقَبْضِ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ بِهِ كما يَثْبُتُ بِالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَبْضَ حُكْمُ الْعَقْدِ فَكَانَ هذا إبْرَاءً عن حَقٍّ ثَابِتٍ تَقْدِيرًا
وَالثَّانِي أَنَّ سَبَبَ حَقِّ الرَّدِّ مَوْجُودٌ وهو الْبَيْعُ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عليه سَلِيمًا عن الْعَيْبِ فإذا عَجَزَ عن تَسْلِيمِهِ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ يَثْبُتُ له حَقُّ الرَّدِّ لِيُسَلَّمَ له الثَّمَنُ فَكَانَ وُجُودُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ سَبَبًا لِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ وَالْبَيْعُ سَبَبٌ لِوُجُودِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فَكَانَ ثُبُوتُ حَقِّ الرَّدِّ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ حُكْمَ الْبَيْعِ السَّابِقِ وَالْبَيْعُ سَبَبٌ فَكَانَ هذا إبْرَاءً عن حَقِّ الرَّدِّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ وَسَبَبُ الشَّيْءِ إذَا وُجِدَ يُجْعَلُ هو ثُبُوتًا تَقْدِيرًا لِاسْتِحَالَةِ خُلُوِّ الْحُكْمِ عن السَّبَبِ فَكَانَ إبْرَاءً عن الثَّابِتِ تَقْدِيرًا وَلِهَذَا صَحَّ الْإِبْرَاءُ عن الْجِرَاحَةِ لِكَوْنِ الْجُرْحِ سَبَبَ السِّرَايَةِ فَكَانَ إبْرَاءً عَمَّا يَحْدُثُ من الْجُرْحِ تَقْدِيرًا
وَكَذَا الْإِبْرَاءُ عن الْأُجْرَةِ قبل اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ يَصِحُّ وَإِنْ كانت الْأُجْرَةُ لَا تُمَلَّكُ عِنْدَنَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَالثَّانِي أَنَّ هذا إبْرَاءٌ عن حَقٍّ ليس بِثَابِتٍ لَكِنْ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ وهو الْبَيْعُ وَأَنَّهُ صَحِيحٌ كَالْإِبْرَاءِ عن الْجُرْحِ وَالْإِبْرَاءِ عن الْأُجْرَةِ على ما بَيَّنَّا بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ عن كل حَقٍّ له أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَادِثَ لِأَنَّ الْحَادِثَ مَعْدُومٌ لِلْحَالِ بِنَفْسِهِ وَبِسَبَبِهِ فَلَوْ انْصَرَفَ إلَيْهِ الْإِبْرَاءُ لَكَانَ ذلك إبْرَاءً عَمَّا ليس بِثَابِتٍ أَصْلًا لَا حَقِيقَةً وَلَا تَقْدِيرًا لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْحَقِّ فلم يَنْصَرِفْ إلَيْهِ
وَقَوْلُهُ لو تَنَاوَلَ الْحَادِثَ لَكَانَ هذا تَعْلِيقَ الْبَرَاءَةِ بِشَرْطٍ أو الْإِضَافَةَ إلَى وَقْتٍ مَمْنُوعٍ بَلْ هذا إبْرَاءٌ عن حَقٍّ ثَابِتٍ وَقْتَ الْإِبْرَاءِ تَقْدِيرًا لِمَا بَيَّنَّا من الْوَجْهَيْنِ فلم يَكُنْ هذا تَعْلِيقًا وَلَا إضَافَةً فَيَصِحُّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَإِنْ أَضَافَهَا إلَى عَيْبٍ حَادِثٍ بِأَنْ قال على أَنِّي بَرِيءٌ من كل عَيْبٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَالْبَيْعُ بهذ ( ( ( بهذا ) ) ) الشَّرْطِ فَاسِدٌ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ لِأَنَّهُ وَإِنْ كان إسْقَاطًا فَفِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ الِارْتِدَادَ بِالرَّدِّ وَلَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى زَمَانٍ في الْمُسْتَقْبَلِ نَصَّا كما لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَكَانَ هذا بَيْعًا أَدْخَلَ فيه شَرْطًا فَاسِدًا فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ
وَلَوْ اخْتَلَفَا في عَيْبٍ فقال الْبَائِعُ هو كان مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَدَخَلَ تَحْتَ الْبَرَاءَةِ وقال الْمُشْتَرِي بَلْ هو حَادِثٌ لم يَدْخُلْ تَحْتَ الْبَرَاءَةِ فَإِنْ كانت الْبَرَاءَةُ مُطْلَقَةً فَهَذَا لَا يَتَفَرَّعُ على قَوْلِ أبي يُوسُفَ لِأَنَّ الْعَيْبَ الْحَادِثَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْبَرَاءَةِ الْمُطْلَقَةِ عِنْدَهُ فَأَمَّا على قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مع يَمِينِهِ وقال زُفَرُ وَالْحَسَنُ بن زِيَادٍ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ هو المبري ( ( ( المبرئ ) ) ) لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ تُسْتَفَادُ من قِبَلِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِيمَا أَبْرَأَ قَوْلُهُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَرَاءَةَ عَامَّةٌ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي حَقَّ الرَّدِّ بعد ( ( ( بعموم ) ) ) عموم الْبَرَاءَةِ عن حَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كما لو أَبْرَأْهُ عن الدعاوي كُلِّهَا ثُمَّ ادَّعَى شيئا مِمَّا في يَدِهِ وهو يُنْكِرُ كان الْقَوْلُ قَوْلَهُ دُونَ الْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلَوْ كانت مُقَيَّدَةً بِعَيْبٍ يَكُونُ
____________________

(5/277)


عِنْدَ الْعَقْدِ فَاخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ الْمُقَيَّدَةَ بِحَالِ الْعَقْدِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا الْمَوْجُودَ حَالَةَ الْعَقْدِ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي الْعَيْبَ لِأَقْرَبِ الْوَقْتَيْنِ وَالْبَائِعُ يَدَّعِيهِ لِأَبْعَدِهِمَا فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُشْتَرِي وَهَذَا لِأَنَّ عَدَمَ الْعَيْبِ أَصْلٌ وَالْوُجُودُ عَارِضٌ فَكَانَ إحَالَةُ الْمَوْجُودِ إلَى أَقْرَبِ الْوَقْتَيْنِ أَقْرَبُ إلَى الْأَصْلِ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي ذلك فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا وَقَبَضَهُ فَسَاوَمَهُ رَجُلٌ فقال الْمُشْتَرِي اشتراه ( ( ( اشتره ) ) ) فإنه لَا عَيْبَ بِهِ ثُمَّ لم يَتَّفِقْ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أَنَّ هذا الْعَيْبَ كان عِنْدَ الْبَائِعِ فقال له الْبَائِعُ إنَّك أَقْرَرْتَ أَنَّهُ لَا عَيْبَ بِهِ فَقَدْ أَكْذَبْت شُهُودَكَ لَا يَبْطُلُ بهذا الْكَلَامِ حَقُّهُ في الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ لِأَنَّ مِثْلَ هذا الْكَلَامِ في الْمُتَعَارَفِ لَا يُرَادُ بِهِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يُذْكَرُ لِتَرْوِيجِ السِّلْعَةِ وَلِأَنَّ ظَاهِرَهُ كَذِبٌ لِأَنَّهُ نفي عنه الْعُيُوبَ كُلَّهَا وَالْآدَمِيُّ لَا يَخْلُو عن عَيْبٍ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَصَارَ كَأَنَّهُ لم يَتَكَلَّمْ بِهِ
وَلَوْ عَيَّنَ نَوْعًا من الْعُيُوبِ بِأَنْ قال اشْتَرِهِ فإنه ليسي ( ( ( ليس ) ) ) بِهِ عَيْبُ كَذَا ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا وَأَرَادَ الرَّدَّ فَإِنْ كان ذلك نَوْعًا آخَرَ سِوَى النَّوْعِ الذي عَيَّنَهُ له أَنْ يَرُدَّهُ لِأَنَّهُ لَا إقْرَارَ منه بهذا النَّوْعِ وَإِنْ كان من النَّوْعِ الذي عَيَّنَ يُنْظَرُ إنْ كان مِمَّا يَحْدُثُ مِثْلُهُ في مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ ليس له حَقُّ الرَّدِّ لِأَنَّ مِثْلَ هذا الْكَلَامِ يُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقُ في الْمُتَعَارَفِ لَا تَرْوِيجُ السِّلْعَةِ فَصَارَ مُنَاقِضًا وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ يَخْلُو عن عَيْبٍ مُعِينٍ فلم يَتَعَيَّنْ بِكَذِبِهِ
وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ في مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ له حَقُّ الرَّدِّ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِكَذِبِهِ حَقِيقَةً فَالْتَحَقَ كَلَامُهُ بِالْعَدَمِ
وَلَوْ أَبْرَأَهُ عن عَيْبٍ وَاحِدٍ شَجَّةٍ أو جُرْحٍ فَوَجَدَ شجين ( ( ( شجتين ) ) ) أو جُرْحَيْنِ فَعَلَى قَوْلِ أبي يُوسُفَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ يَبْرَأُ من أَيِّهِمَا شَاءَ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي يَرُدُّ أَيَّهمَا شَاءَ
وَفَائِدَةُ هذا الِاخْتِلَافِ إنَّمَا تَظْهَرُ عِنْدَ امْتِنَاعِ الرَّدِّ بِاعْتِرَاضِ أَسْبَابِ الِامْتِنَاعِ من هَلَاكِ الْمَبِيعِ أو حُدُوثِ عَيْبٍ آخَرَ في يدي ( ( ( يد ) ) ) الْمُشْتَرِي أو غَيْرِ ذلك من الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ من الرَّدِّ وَأَرَادَ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فَأَمَّا عِنْدَ إمْكَانِ الرَّدِّ فَلَا تَظْهَرُ فَائِدَةٌ في هذا الِاخْتِلَافِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِبْرَاءَ يُسْتَفَادُ من قِبَلِ الْمُشْتَرِي وَالِاحْتِمَالُ جاء من قِبَلِهِ حَيْثُ أَطْلَقَ الْبَرَاءَةَ إلَى شَجَّةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرِ عَيْنٍ وإذا كان الْإِجْمَالُ منه كان الْبَيَانُ إلَيْهِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْإِبْرَاءَ وَإِنْ كان من الْمُشْتَرِي لَكِنَّ مَنْفَعَةَ الْإِبْرَاءِ عَائِدَةٌ إلَى الْبَائِعِ فَصَارَ كَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ فَوَّضَ التَّعْيِينَ إلَيْهِ فَكَانَ الْخِيَارُ له
وَلَوْ أَبْرَأَهُ من كل دَاءٍ رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقَعُ عن الْبَاطِنِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُسَمَّى مَرَضًا لَا دَاءً
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقَعُ عن الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ جميعا لِأَنَّ الْكُلَّ دَاءٌ وَلَوْ أَبْرَأَهُ من كل غَائِلَةٍ فَهِيَ على السَّرِقَةِ وَالْإِبَاقِ وَالْفُجُورِ وَكُلِّ ما كان من فِعْلِ الْإِنْسَانِ مِمَّا يَعُدُّهُ التُّجَّارُ عَيْبًا
كَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ لِأَنَّ الْغَائِلَةَ هِيَ الْجِنَايَةُ وَهِيَ التي تُكْتَبُ في عُهْدَةِ الْمَمَالِيكِ لَا دَاءَ وَلَا غَائِلَةَ على ما كُتِبَ لِرَسُولِ اللَّهِ حِينَمَا اشْتَرَى عَبْدًا أو أَمَةً
وَهَذَا ما اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رسول اللَّهِ من القد ( ( ( العداء ) ) ) بن خَالِدِ بن هَوْذَةَ عَبْدًا أو أَمَةً لَا دَاءَ بِهِ وَلَا غَائِلَةَ بَيْعَ الْمُسْلِمِ من الْمُسْلِمِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا طَرِيقُ أثبات الْعَيْبِ فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْعُيُوبِ لِأَنَّ طَرِيقَ إثْبَاتِ الْعَيْبِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَيْبِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْعَيْبُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا شَاهِدًا يَقِفُ عليه كُلُّ أَحَدٍ كالأصبع الزَّائِدَةِ وَالنَّاقِصَةِ وَالسِّنِّ الشَّاغِيَةِ وَالسَّاقِطَةِ وَبَيَاضِ الْعَيْنِ وَالْعَوَرِ وَالْقُرُوحِ وَالشِّجَاجِ وَنَحْوِهَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاطِنًا خَفِيًّا لَا يَقِفُ عليه إلَّا الْخَوَاصُّ من الناس وَهُمْ الْأَطِبَّاءُ وَالْبَيَاطِرَةُ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَقِفُ عليه إلَّا النِّسَاءُ بِأَنْ كان على فَرْجِ الْجَارِيَةِ أو مَوَاضِعِ الْعَوْرَةِ منها
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَقِفُ عليه النِّسَاءُ بِأَنْ كان دَاخِلَ الْفَرْجِ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَقِفُ عليه إلَّا الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرَاةُ كَارْتِفَاعِ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُوقَفُ عليه إلَّا بِالتَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ كَالْإِبَاقِ وَالسَّرِقَةِ وَالْبَوْلِ على الْفِرَاشِ وَالْجُنُونِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُرِيدَ إثْبَاتَ كَوْنِ الْعَيْبِ في يَدِهِ لِلْحَالِ وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ إثْبَاتَ كَوْنِهِ في يَدِ الْبَائِعِ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالْقَبْضِ
فَإِنْ أَرَادَ إثْبَاتَ كَوْنِهِ لِلْحَالِ فَإِنْ كان يُوقَفُ عليه بِالْحِسِّ وَالْعِيَانِ فإنه يَثْبُتُ بِنَظَرِ الْقَاضِي أو أَمِينِهِ
لِأَنَّ الْعَيَّانَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ وَإِنْ كان لَا يَقِفُ عليه إلَّا الْأَطِبَّاءُ وَالْبَيَاطِرَةُ فَيَثْبُتُ لِقَوْلِهِ عز وجل { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وَهُمْ في هذا الْبَابِ من أَهْلِ الذِّكْرِ فيسئلون ( ( ( فيسألون ) ) )
وَهَلْ يُشْتَرَطُ فيه الْعَدَدُ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَوْلِ اثْنَيْنِ منهم من أَهْلِ
____________________

(5/278)


الشَّهَادَةِ وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِسْبِيجَابِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ
وَذَكَرَ شَيْخِي الْإِمَامُ الزَّاهِدُ عَلَاءُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ بن أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ أَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ وَيَثْبُتُ بِقَوْلِ مُسْلِمٍ عَدْلٍ منهم وَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ أبو الْمَعِينِ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ من تَصَانِيفِهِ
وَجْهُ هذا الْقَوْلِ إن هذه الشَّهَادَةَ لَا يَتَّصِلُ بها الْقَضَاءُ وَإِنَّمَا تَصِحُّ بها الْخُصُومَةُ فَقَطْ فَلَا يُشْتَرَطُ فيها الْعَدَدُ وَهَذَا لِأَنَّ شَرْطَ الْعَدَدِ في الشَّهَادَةِ تثبت ( ( ( ثبت ) ) ) تَعَبُّدًا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى لِأَنَّ رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ على جَانِبِ الْكَذِبِ في خَبَرِ الْمُسْلِمِ لَا يَقِفُ على عَدَدٍ بَلْ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَدَالَةِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهِ تَعَبُّدًا فَيُرَاعَى فيه مَوْرِدُ التَّعَبُّدِ وهو شَهَادَةٌ يَتَّصِلُ بها الْقَضَاءُ وَهَذِهِ شَهَادَةٌ لَا يَتَّصِلُ بها الْقَضَاءُ فَبَقِيَتْ على أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ النُّصُوصُ الْمُقْتَضِيَةُ لِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ في عُمُومِ الشَّهَادَةِ وَالْمَعْقُولُ الذي ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَلِأَنَّ هذه الشَّهَادَةَ وَإِنْ كان لَا يَتَّصِلُ بها الْقَضَاءُ لَكِنَّهَا من ضَرُورَاتِ الْقَضَاءِ لَا وُجُودَ لِلْقَضَاءِ بِدُونِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ ما لم يَثْبُتْ الْعَيْبُ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَالْقَاضِي لَا يَقْضِي بِالرَّدِّ فَكَانَ من ضَرُورَاتِ الْقَضَاءِ فَيُشْتَرَطُ فيها الْعَدَدُ كما يُشْتَرَطُ في الشَّهَادَةِ على إثْبَاتِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ
وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عليه إلَّا النِّسَاءُ فَالْقَاضِي يُرِيهُنَّ ذلك لِقَوْلِهِ عز وجل { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وَالنِّسَاءُ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عليه الرِّجَالُ أَهْلُ الذِّكْرِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ مِنْهُنَّ بَلْ يكتفي بِقَوْلِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ عَدْلٍ وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا لَا يَطَّلِعُ عليه الرِّجَالُ حُجَّةٌ في الشَّرْعِ كَشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ في النَّسَبِ لَكِنْ لَا بُدَّ من الْعَدَالَةِ لِأَنَّ هذا يُرَجِّحُ جَانِبَ الصِّدْقِ على جَانِبِ الْكَذِبِ في الْخَبَرِ وَلَا يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كان يَطَّلِعُ عليه لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى مَوْضِعِ الْعَيْبِ له لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ في هذا الْبَابِ وَلَا تُهْمَةَ فِيهِنَّ وَرُخْصَةُ النَّظَرِ ثَابِتَةٌ لَهُنَّ حَالَةَ الضَّرُورَةِ على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ فَيُلْحَقُ هذا بِمَا لَا يَطَّلِعُ عليه النِّسَاءُ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ كان لَا يَطَّلِعُ عليه إلَّا الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرَاةُ فَلَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهَا لِكَوْنِهَا مُتَّهَمَةً وَإِنْ كان في دَاخِلِ فَرْجِهَا فَلَا طَرِيقَ لِلْوُقُوفِ عليه أَصْلًا فَكَانَ الطَّرِيقُ في هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ هو اسْتِحْلَافُ الْبَائِعِ بِاَللَّهِ عز وجل ليس بِهِ لِلْحَالِ هذا الْعَيْبُ
وَأَمَّا الْإِبَاقُ وَالسَّرِقَةُ وَالْبَوْلُ في الْفِرَاشِ وَالْجُنُونُ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أو رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ لِأَنَّ هذا مِمَّا لَا يُوقَفُ عليه إلَّا بِالْخَبَرِ وَلَا ضَرُورَةَ فيه فَلَا بُدَّ من اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فيه كما في سَائِرِ الشَّهَادَاتِ فَإِنْ لم يُقِمْ لِلْمُشْتَرِي حُجَّةً على إثْبَاتِ الْعَيْبِ لِلْحَالِ في هذه الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ هل يُسْتَحْلَفُ الْبَائِعُ لم يذكر في الْأَصْلِ
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَسَكَتَ عن قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عن الْمَشَايِخِ من قال يُسْتَحْلَفُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ وَالتَّنْصِيصُ على قَوْلِهِمَا لَا يَدُلُّ على أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مُخَالِفُهُمَا
وَمِنْهُمْ من قال الْمَسْأَلَةُ على الِاخْتِلَافِ ذُكِرَتْ في النَّوَادِرِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يُسْتَحْلَفُ وَعِنْدَهُمَا يُسْتَحْلَفُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي حَقَّ الرَّدِّ وَلَا يُمْكِنُهُ الرَّدُّ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْعَيْبِ عِنْدَ نَفْسِهِ وَطَرِيقُ الْإِثْبَاتِ الْبَيِّنَةُ أو نُكُولُ الْبَائِعِ فإذا لم تَقُمْ له بَيِّنَةٌ يُسْتَحْلَفُ لِيَنْكُلَ الْبَائِعُ فَيَثْبُتُ العييب ( ( ( العيب ) ) ) عِنْدَ نَفْسِهِ وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ على إثْبَاتِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ يَكُونُ عَقِيبَ الدَّعْوَى على الْبَائِعِ وَلَا دَعْوَى له على الْبَائِعِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَيْبِ عِنْدَ نَفْسِهِ ولم يَثْبُتْ فلم تَثْبُتْ دَعْوَاهُ على الْبَائِعِ فَلَا يُسْتَحْلَفُ
وَقَوْلُهُمَا له طَرِيقُ الْإِثْبَاتِ وهو النُّكُولَ قُلْنَا النُّكُولُ بَعْدَ الِاسْتِحْلَافِ وَانْعِدَامُ الدَّعْوَى يَمْنَعُ الِاسْتِحْلَافَ لِأَنَّ اسْتِحْلَافَ الْبَائِعِ في هذه الْعُيُوبِ على الْعِلْمِ لَا على البنات ( ( ( البتات ) ) ) بالله ( ( ( وبالله ) ) ) ما يَعْلَمُ إن هذا الْعَبْدَ أَبَقَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَلَا سَرَقَ وَلَا بَالَ على الْفِرَاشِ وَلَا جُنَّ وَلَا يَحْلِفُ على الْبَتَاتِ لِأَنَّهُ حَلَفَ على غَيْرِ فِعْلِهِ
وَمَنْ حَلَفَ على غَيْرِ فِعْلِهِ يَحْلِفُ على الْعِلْمِ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ له بِمَا ليس بِفِعْلِهِ وَمَنْ حَلَفَ على فِعْلِ نَفْسِهِ يَحْلِفُ على الْبَتَاتِ أَصْلُهُ خَبَرُ الْمَثْنَوِيِّ فَإِنْ حَلَفَ لم يَثْبُتْ الْعَيْبُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ نَكَلَ يَثْبُتُ عِنْدَهُ فَيُحْتَاجُ إلَى الْإِثْبَاتِ عِنْدَهُ
وإذا أَرَادَ إثْبَاتَ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ فَيُنْظَرُ إنْ كان الْعَيْبُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْحُدُوثَ أَصْلًا كالأصبع الزَّائِدَةِ وَنَحْوِهَا أو لَا يَحْتَمِلُ حُدُوثَ مِثْلِهِ في مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ كَالسِّنِّ الشَّاغِيَةِ وَنَحْوِهَا ثَبَتَ كَوْنُهُ عِنْدَ الْبَائِعِ بِثُبُوتِ كَوْنِهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ إذَا لم يَحْتَمِلْ الْحُدُوثَ أو لا يَحْتَمِلُ حُدُوثَ مِثْلِهِ في مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ فَقَدْ تَيَقَّنَّا بِكَوْنِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَإِنْ كان مِمَّا يُحْتَمَلُ حُدُوثُ مِثْلِهِ في مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَا يكتفي بِثُبُوتِ كَوْنِهِ عِنْدَ
____________________

(5/279)


الْمُشْتَرِي بَلْ يَحْتَاجُ الْمُشْتَرِي إلَى إثْبَاتِ كَوْنِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ إذَا اُحْتُمِلَ حُدُوثُ مثله في مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ اُحْتُمِلَ أَنَّهُ لم يَكُنْ عِنْدَ الْبَائِعِ وَحَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ بِالِاحْتِمَالِ فَلَا بُدَّ من إثْبَاتِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ بِالْبَيِّنَةِ وَهِيَ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أو رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ طَبِيبَتَيْنِ كَانَا أو غير طَبِيبَتَيْنِ وَإِنَّمَا شُرِطَ الْعَدَدُ في هذه الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ يقضي بها على الْخَصْمِ فَكَانَ الْعَدَدُ فيها شَرْطًا كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ التي يقض ( ( ( يقضى ) ) ) بها على الْخُصُومِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أن فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عليه إلَّا النِّسَاءُ يُرَدُّ بِثُبُوتِهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَلَا يُحْتَاجُ إلَى الْإِثْبَاتِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمَشْهُورُ من مَذْهَبِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يكتفي بِالثُّبُوتِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَلْ لَا بُدَّ من إثْبَاتِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ قَوْلَ النِّسَاءِ في هذا الْبَابِ حُجَّةٌ ضَرُورَةً وَالضَّرُورَةُ في الْقَبُولِ في حَقِّ ثُبُوتِهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَتَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ وَلَيْسَ من ضَرُورَةِ ثُبُوتِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ لِاحْتِمَالِ الْحُدُوثِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُمَا في حَقِّ تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ على الْبَائِعِ وإذا كان الثُّبُوتُ عِنْدَ الْبَائِعِ فِيمَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ شَرْطًا لِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ فيقول الْقَاضِي هل كان هذا الْعَيْبُ عِنْدَكَ
فَإِنْ قال نعم رُدَّ عليه إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الرِّضَا أو الْإِبْرَاءَ وَإِنْ قال لَا كان الْقَوْلُ قَوْلَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي عليه حَقَّ الرَّدِّ وهو يُنْكِرُ فَإِنْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ على ذلك رَدَّهُ على الْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْبَائِعُ الدَّفْعَ أو الْإِبْرَاءَ وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ على ذلك فَتَنْدَفِعُ دَعْوَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ لم يَكُنْ له بَيِّنَةٌ فَطَلَبَ يَمِينَ الْمُشْتَرِي حَلَّفَهُ الْقَاضِي بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما رضي بهذا الْعَيْبِ وَإِلَّا أَبْرَأَهُ عنه وَلَا عَرَضَهُ على الْبَيْعِ مُنْذُ رَآهُ وَإِنْ لم يَدَّعِ الدَّفْعَ بِالرِّضَا وَالْإِبْرَاءَ فإن الْقَاضِيَ يَقْضِي بِفَسْخِ الْعَقْدِ وَلَا يَسْتَحْلِفُ الْمُشْتَرِيَ على الرِّضَا وَالْإِبْرَاءِ وَالْعَرْضِ على الْبَيْعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَفْسَخُ ما لم يَسْتَحْلِفْهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ما رضي بهذا الْعَيْبِ وَلَا أَبْرَأَهُ عنه وَلَا عَرَضَهُ على الْبَيْعِ بعدما عَلِمَ بِهِ من الْعَيْبِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْقَاضِيَ لو قَضَى بِالْفَسْخِ قبل الِاسْتِحْلَافِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَدَّعِيَ الْبَائِعُ على الْمُشْتَرِي بِالدَّفْعِ بِدَعْوَى الرِّضَا وَالْإِبْرَاءِ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْفَسْخِ وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عليه فَيُفْسَخُ قَضَاؤُهُ فَكَانَ الِاسْتِحْلَافُ قبل الْفَسْخِ فيه صِيَانَةٌ لِلْقَضَاءِ عن النَّقْضِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْبَائِعَ إذَا لم يَطْلُبْ يَمِينَ الْمُشْتَرِي فتحلييف ( ( ( فتحليف ) ) ) الْقَاضِي من غَيْرِ طَلَبِ الْخَصْمِ إنْشَاءُ الْخُصُومَةِ وَالْقَاضِي نُصِّبَ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ لَا لِإِنْشَائِهَا
وَقَوْلُ أبي يُوسُفَ أَنَّ في هذا صِيَانَةَ قَضَاءِ الْقَاضِي عن الْفَسْخِ فَنَقُولُ الصِّيَانَةُ حَاصِلَةٌ بِدُونِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْبَائِعَ لم يَعْلَمْ بِوُجُودِ الرِّضَا من الْمُشْتَرِي إذْ لو عَلِمَ لَادَّعَى الدَّفْعَ بِدَعْوَى وَلَمَّا سَكَتَ عن دَعْوَى الدَّفْعِ عِنْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ دَلَّ أَنَّهُ لم يَظْهَرْ له الرِّضَا من الْمُشْتَرِي فَلَا يَدَّعِي الدَّفْعَ بَعْدَ ذلك
وَإِنْ لم يُقِمْ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً على إثْبَاتِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَطَلَبَ الْمُشْتَرِي يَمِينَهُ فَفِيمَا سِوَى الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ يُسْتَحْلَفُ على الْبَتَاتِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لقد بِعْتُهُ وَسَلَّمْتُهُ وما بِهِ هذا الْعَيْبُ وَإِنَّمَا يُجْمَعُ بين الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ في الِاسْتِحْلَافِ لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ على الْبَيْعِ يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الْمُشْتَرِي في بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِجَوَازِ أَنْ يَحْدُثَ الْعَيْبُ بَعْدَ الْبَيْعِ قبل التَّسْلِيمِ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ هو الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَمِنْهُمْ من قال لَا احْتِيَاطَ في هذا لِأَنَّهُ لو اُسْتُحْلِفَ على هذا الْوَجْهِ فَمِنْ الْجَائِزِ حُدُوثُ الْعَيْبِ بَعْدَ الْبَيْعِ قبل التَّسْلِيمِ فَيَكُونُ الْبَائِعُ صَادِقًا في يَمِينِهِ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ وُجُودُ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ جميعا فَلَا يَحْنَثُ بِوُجُودِهِ في أَحَدِهِمَا فَيَبْطُلُ حَقُّ الْمُشْتَرِي فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ في هذا الِاسْتِحْلَافِ على حَاصِلِ الدَّعْوَى بِاَللَّهِ عز وجل ما له حَقُّ الرَّدِّ بهذا الْعَيْبِ الذي ذَكَرَهُ
وَمِنْهُمْ من قال يُسْتَحْلَفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لقد سَلَّمْتُهُ وما بِهِ هذا الْعَيْبُ الذي يَدَّعِي وهو صَحِيحٌ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فيه الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالْحَادِثُ قبل التَّسْلِيمِ وَإِنَّمَا لم يُسْتَحْلَفْ على الْبَتَاتِ لِأَنَّهُ اُسْتُحْلِفَ على فِعْلِ نَفْسِهِ وهو الْبَيْعُ وَالتَّسْلِيمُ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ
ثُمَّ إذَا حَلَفَ فَإِنْ حَلَفَ برىء وَلَا يُرَدُّ عليه وَإِنْ نَكَلَ يُرَدُّ عليه وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ إلَّا إذَا ادَّعَى الْبَائِعُ على الْمُشْتَرِي الرِّضَا بِالْعَيْبِ أو الْإِبْرَاءَ عنه أو الْعَرْضَ على الْبَيْعِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ فَيَبْرَأُ وَلَا يُرَدُّ عليه وَإِنْ لم يَكُنْ له بَيِّنَةٌ وَطَلَبَ تَحْلِيفَ الْمُشْتَرِي يَحْلِفُ عليه وَإِنْ لم يَطْلُبْ يُفْسَخُ الْعَقْدُ وَلَا يُحَلِّفْهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ على ما تَقَدَّمَ
وَأَمَّا في الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ فَفِي الثَّلَاثَةِ منها وَهِيَ الْإِبَاقُ وَالسَّرِقَةُ وَالْبَوْلُ في الْفِرَاشِ يُسْتَحْلَفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ما أَبِقَ عِنْدَكَ مُنْذُ بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ وفي الْجُنُونِ بِاَللَّهِ عز وجل ما جُنَّ عِنْدَك قَطُّ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ هذه الْعُيُوبُ في كَيْفِيَّةِ
____________________

(5/280)


الِاسْتِحْلَافِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ اتِّحَادَ الْحَالَةِ في الْعُيُوبِ الثَّلَاثَةِ شَرْطُ ثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ في الْجُنُونِ بَلْ هو عَيْبٌ لَازِمٌ أَبَدًا
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الرَّدِّ وَالْفَسْخِ بِالْعَيْبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَالْمَبِيعُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ في يَدِ الْبَائِعِ أو في يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كان في يَدِ الْبَائِعِ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي رَدَدْتُ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا إلَى التَّرَاضِي بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان في يَدِ الْمُشْتَرِي لَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو بِالتَّرَاضِي عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْفَسِخُ بِقَوْلِهِ رَدَدْتُ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى الْقَضَاءِ وَلَا إلَى رِضَا الْبَائِعِ
وَأَجْمَعُوا على أَنَّ الرَّدَّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ يَصِحُّ من غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضَاءٍ
وَكَذَلِكَ الرَّدُّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ مُتَّصِلًا بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هذا نَوْعُ فَسْخٍ فَلَا تَفْتَقِرُ صِحَّتُهُ إلَى الْقَضَاءِ وَلَا إلَى الرِّضَا كَالْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ بِالْإِجْمَاعِ وَبِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ على أَصْلِكُمْ وَلِهَذَا لم يُفْتَقَرْ إلَيْهِ قبل الْقَبْضِ وَكَذَا بَعْدَهُ
وَلَنَا أَنَّ الصَّفْقَةَ تَمَّتْ بِالْقَبْضِ وَأَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الصَّفْقَةِ بَعْدَ تَمَامِهَا كَالْإِقَالَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْفَسْخَ يَكُونُ على حَسَبِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْعَقْدَ ثُمَّ الْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَلَا يَنْفَسِخُ بِأَحَدِهِمَا من غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ من ( ( ( ومن ) ) ) وغير قَضَاءِ الْقَاضِي بِخِلَافِ ما قبل الْقَبْضِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ قبل الْقَبْضِ لَيْسَتْ بِتَامَّةٍ بَلْ تَمَامُهَا بِالْقَبْضِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ كَأَنَّهُ لم يَسْتَرِدَّ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ في حَقِّ الْحُكْمِ مع بَقَاءِ الْخِيَارِ فَكَانَ الرَّدُّ في مَعْنَى الدَّفْعِ وَالِامْتِنَاعِ من الْقَبُولِ وَبِخِلَافِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ مَنْعُ تَمَامِ الصَّفْقَةِ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ خَلَلًا في الرِّضَا فَكَانَ الرَّدُّ كَالدَّفْعِ أَمَّا هَهُنَا إذْ الصَّفْقَةُ قد تَمَّتْ بِالْقَبْضِ فَلَا تَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ بِنَفْسِ الرَّدِّ من غَيْرِ قَرِينَةِ الْقَضَاءِ أو الرِّضَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وأما بَيَانُ من تَلْزَمُهُ الْخُصُومَةُ في الْعَيْبِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْخُصُومَةُ في الْبَيْعِ تَلْزَمُ الْبَائِعَ سَوَاءً كان حُكْمُ الْعَقْدِ له أو لِغَيْرِهِ بَعْدَ أَنْ كان من أَهْلِ أَنْ تَلْزَمَهُ الْخُصُومَةُ إلَّا الْقَاضِيَ أو أَمِينَهُ كَالْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ وَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ في الْعَيْبِ من حُقُوقِ الْعَقْدِ وَحُقُوقُ الْعَقْدِ في هذا الْبَابِ رَاجِعَةٌ إلَى الْعَاقِدِ إذَا كان أَهْلًا فَإِنْ لم يَكُنْ بِأَنْ كان صَبِيًّا أو مَحْجُورًا أو عَبْدًا مَحْجُورًا فَالْخُصُومَةُ لَا تَلْزَمُهُ وَإِنَّمَا تَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْوَكَالَةِ
وَأَمَّا الْقَاضِي أو أَمِينُهُ فَالْخُصُومَةُ لَا تَلْزَمُهُ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِلْقَاضِي إنَّمَا ثَبَتَتْ شَرْعًا نَظَرًا لِمَنْ وَقَعَ له الْعَقْدُ فَلَوْ لَزِمَهُ الْعُهْدَةُ لَامْتَنَعَ عن النَّظَرِ خَوْفًا من لُزُومِ الْعُهْدَةِ فَكَانَ الْقَاضِي في هذا الْبَابِ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ فيه وَالْوَكِيلِ في بَابِ النِّكَاحِ وما يَلْزَمُ الْوَكِيلَ من الْعُهْدَةِ يَرْجِعُ بها على الْمُوَكِّلِ وَالْمُكَاتَبُ وَالْمَأْذُونُ لَا يَرْجِعَانِ على الْمَوْلَى لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ لِلْمُوَكِّلِ نِيَابَةً عنه وَتَصَرُّفُ النَّائِبِ كَتَصَرُّفِ الْمَنُوبِ عنه
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ وَالْمَأْذُونُ فَإِنَّمَا يَتَصَرَّفَانِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لِأَنْفُسِهِمَا لَا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عن الْمَوْلَى لِمَا عُرِفَ أَنَّ الأذن فَكُّ الْحَجْرِ وَإِزَالَةُ الْمَانِعِ فإذا زَالَ الْحَجْرُ بِالْإِذْنِ فَالْعَبْدُ يَتَصَرَّفُ بِمَالِكِيَّةِ نَفْسِهِ فَكَانَ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ لَا لِمَوْلَاهُ وَاَلَّذِي يَقَعُ لِلْمَوْلَى هو حُكْمُ التَّصَرُّفِ لَا غَيْرُ وإذا كان عَاقِدًا لِنَفْسِهِ كانت الْعُهْدَةُ عليه وَلَوْ رُدَّ الْمَبِيعُ على الْوَكِيلِ هل له أَنْ يَرُدَّهُ على مُوَكِّلِهِ فَهَذَا لَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَرُدَّهُ عليه بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ على الْعَيْبِ وأما أَنْ يَرُدَّهُ عليه بِنُكُولِهِ وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ عليه بِإِقْرَارِهِ بِالْعَيْبِ
فَإِنْ رَدَّهُ علييه بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ على الْعَيْبِ يَرُدُّهُ على الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ وهو نَائِبٌ عنه فَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ وَإِنْ رَدَّهُ عليه بِنُكُولِهِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ نُكُولَهُ مُضَافٌ إلَى الْمُوَكِّلِ لِكَوْنِهِ مُضْطَرًّا مُلْجَأً إلَيْهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ في الْخُصُومَةِ وَإِنَّمَا جاء هذا الاضرار ( ( ( الاضطرار ) ) ) من نَاحِيَةِ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ هو الذي أَوْقَعَهُ فيه فَكَانَ مُضَافًا إلَيْهِ
وَإِنْ رَدَّهُ عليه بِإِقْرَارِهِ بِالْعَيْبِ يُنْظَرُ إنْ كان عَيْبًا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ يَرُدُّ على الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ عَلِمَ بِثُبُوتِهِ عِنْدَ الْبَيْعِ بِيَقِينٍ
وَأَمَّا إنْ كان عَيْبًا يَحْدُثُ مِثْلُهُ لَا يَرُدُّ على الْمُوَكِّلِ حتى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ كان رَدَّ عليه بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ لَا يَرُدُّ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ يَلْزَمُهُ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ فَكَانَ حُجَّةً في حَقِّهِ خَاصَّةً لَا في حَقِّ مُوَكِّلِهِ
وَإِنْ رَدَّ عليه بِغَيْرِ قَضَاءٍ لَزِمَ الْوَكِيلَ خَاصَّةً سَوَاءٌ كان الْعَيْبُ يَحْدُثُ مِثْلُهُ أو لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ لِأَنَّ الرَّدَّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَإِنْ كان فَسْخًا في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ فَهُوَ بَيْعٌ جَدِيدٌ في حَقِّ غَيْرِهِمَا فَلَا يَمْلِكُ الرَّدَّ على الْمُوَكِّلِ كما لو اشْتَرَاهُ
فَأَمَّا الْمُضَارِبُ وَالشَّرِيكُ فَبِقَبُولِهِمَا يَلْزَمُ رَبَّ الْمَالِ وَالشَّرِيكَ الْآخَرَ لِأَنَّ حُكْمَ شَرِكَتِهِمَا تَلْزَمُهُمَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَيَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وما لَا يَسْقُطُ وَلَا يَلْزَمُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تعالى التَّوْفِيقُ الرَّدُّ يَمْتَنِعُ بِأَسْبَابٍ منها
____________________

(5/281)


الرِّضَا بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ لِفَوَاتِ السَّلَامَةِ الْمَشْرُوطَةِ في الْعَقْدِ دَلَالَةً وَلَمَّا رضي بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ دَلَّ أَنَّهُ ما شَرَطَ السَّلَامَةَ وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي دَفْعًا لِلضَّرَرِ عنه فإذا رضي بِالْعَيْبِ فلم يَنْظُرْ لِنَفْسِهِ وَرَضِيَ بِالضَّرَرِ
ثُمَّ الرِّضَا نَوْعَانِ صَرِيحٌ وما هو في مَعْنَى الصَّرِيحِ وَدَلَالَةٌ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوُ قَوْلِهِ رَضِيت بِالْعَيْبِ أو أَجَزْت هذا الْبَيْعَ أو أَوْجَبْته وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى
وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ من الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ تَصَرُّفٌ في الْمَبِيعِ يَدُلُّ على الرِّضَا بِالْعَيْبِ
نَحْوُ ما إذَا كان ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أو قَطَعَهُ أو سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ أو أَرْضًا فَبَنَى عليها أو حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أو لَحْمًا فَشَوَاهُ وَنَحْوَ ذلك أو تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا أَخْرَجَهُ عن مِلْكِهِ وهو عَالِمٌ بِالْعَيْبِ أو ليس بِعَالِمٍ أو بَاعَهُ الْمُشْتَرِي أو وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ أو أَعْتَقَهُ أو كَاتَبَهُ أو دَبَّرَهُ أو اسْتَوْلَدَهُ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ على هذه التَّصَرُّفَاتِ مع الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ دَلِيلُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَيَكُونُ الْعِلْمُ بِالْعَيْبِ وَكُلُّ ذلك يُبْطِلُ حَقَّ الرَّدِّ
وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ رُدَّ عليه بِعَيْبٍ فَإِنْ كان قبل الْقَبْضِ له أَنْ يَرُدَّهُ على بَائِعِهِ سَوَاءً كان الرَّدُّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو بِالتَّرَاضِي بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ كان بِقَضَاءِ الْقَاضِي له أَنْ يَرُدَّهُ على بَائِعِهِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كان قَبِلَهُ الْبَائِعُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ ليس له أَنْ يَرُدَّهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ له أَنْ يَرُدَّهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْمَانِعَ من الرَّدِّ خُرُوجُ السِّلْعَةِ عن مِلْكِهِ فإذا عَادَتْ إلَيْهِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ وَصَارَ كَأَنَّهُ لم يَخْرُجْ وَلِهَذَا إذَا رُدَّ عليه بِقَضَاءٍ له أَنْ يَرُدَّهُ على بَائِعِهِ وَكَذَا إذَا رُدَّ عليه بِخِيَارِ شَرْطٍ أو بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ على أَصْلِكُمْ
وَلَنَا أَنَّ الْقَبُولَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَسْخٌ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ جَدِيدٌ في حَقِّ غَيْرِهِمَا فَصَارَ كما لو عَادَ إلَيْهِ بِشِرَاءٍ وَلَوْ اشْتَرَاهُ لم يَمْلِكْ الرَّدَّ على بَائِعِهِ
كَذَا هذا
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْقَبُولَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بَيْعٌ جَدِيدٌ في حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ مَوْجُودٌ فَكَانَ شُبْهَةُ الشِّرَاءِ قَائِمَةً
فَكَانَ الرَّدُّ عِنْدَ التَّرَاضِي بَيْعًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْعِ فيه إلَّا أَنَّهُ أعطى له حُكْمُ الْفَسْخِ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ فَبَقِيَ بَيْعًا جَدِيدًا في حَقِّ غَيْرِهِمَا بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ المبتدأ وَلِهَذَا يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ فيه مَعْنَى الْبَيْعِ أَصْلًا لِانْعِدَامِ التَّرَاضِي فَكَانَ فَسْخًا وَالْفَسْخُ رَفْعُ الْعَقْدِ من الْأَصْلِ وَجَعْلُهُ كَأَنْ لم يَكُنْ وَلِهَذَا لم يَثْبُتْ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَبِخِلَافِ ما قبل الْقَبْضِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَمَامَ لها قبل الْقَبْضِ
أَلَا تَرَى أَنَّ حُدُوثَ الْعَيْبِ قبل الْقَبْضِ كَوُجُودِهِ قبل الْبَيْعِ فَكَانَ الرَّدُّ قبل الْقَبْضِ في مَعْنَى الِامْتِنَاعِ عن الْقَبُولِ كَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ رَدَّ إيجَابَ الْبَائِعِ ولم يَقْبَلْهُ
وَلِهَذَا لم يَفْتَقِرْ الرَّدُّ قبل الْقَبْضِ إلَى الْقَاضِي وَبِخِلَافِ ما إذَا رُدَّ عليه بِخِيَارِ شَرْطٍ أو رُؤْيَةٍ أَنَّهُ يَرُدُّهُ على بَائِعِهِ لِأَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ لم يُوجَدْ في هذا الرَّدِّ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَرُدُّ على بَائِعِهِ من غَيْرِ رِضَاهُ فَكَانَ فَسْخًا وَرَفْعًا لِلْعَقْدِ من الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ وَكَذَا لو وطىء الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَاةَ أو لَمَسَهَا لِشَهْوَةٍ أو نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ مع الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كانت الْجَارِيَةُ بِكْرًا فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ وَأَمَّا إذَا كانت ثَيِّبًا فَوَطِئَهَا بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ قَبَّلَتْ الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرِيَ لِشَهْوَةٍ فَقَدْ مَرَّ تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فيه في شَرْطِ الْخِيَارِ وَلَوْ اسْتَخْدَمَ الْمُشْتَرِي بعدما عَلِمَ بِالْعَيْبِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْقُطَ خِيَارُهُ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَسْقُطُ وقد ذَكَرْنَا وَجْهَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ في خِيَارِ الشَّرْطِ وَلَوْ كان المشتري دَابَّةً فَرَكِبَهَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ فَإِنْ رَكِبَهَا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ يَسْقُطُ خِيَارُهُ
وَإِنْ رَكِبَهَا لِيَسْقِيَهَا أو لِيَرُدَّهَا على الْبَائِعِ أو لِيَشْتَرِيَ لها عَلَفًا فَفِيهِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ كما في الِاسْتِخْدَامِ وقد ذَكَرْنَا ذلك في خِيَارِ الشَّرْطِ وَلَوْ رَكِبَهَا لِيَنْظُرَ إلَى سَيْرِهَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ يَكُونُ رِضًا يُسْقِطُ خِيَارَهُ وفي شَرْطِ الْخِيَارِ لَا يُسْقِطُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قد تَقَدَّمَ في خِيَارِ الشَّرْطِ
وَكَذَا لو اشْتَرَى ثَوْبًا فَلَبِسَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ لِيَنْظُرَ إلَى طُولِهِ وَعَرْضِهِ بَطَلَ خِيَارُهُ وفي خِيَارِ الشَّرْطِ لَا يَبْطُلُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا قد ذَكَرْنَاهُ في شَرْطِ الْخِيَارِ وَإِنْ كان المشتري دَارًا فَسَكَنَهَا بعدما عَلِمَ بِالْعَيْبِ أو رَمَّ منها شيئا أو هَدَمَ يَسْقُطُ خِيَارُهُ وَذُكِرَ في بَعْضِ شُرُوحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ في السُّكْنَى رِوَايَتَانِ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ يُوجَدُ من الْمُشْتَرِي في المشتري بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ يَدُلُّ على الرِّضَا بِالْعَيْبِ يُسْقِطُ الْخِيَارَ وَيُلْزِمُ الْبَيْعَ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا إسْقَاطُ الْخِيَارِ صَرِيحًا أو ما هو في مَعْنَى الصَّرِيحِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي أَسْقَطْت الْخِيَارَ أو أَبْطَلْته أو أَلْزَمْتُ الْبَيْعَ أو أَوْجَبْتُهُ وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى لِأَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ حَقُّهُ وَالْإِنْسَانُ بِسَبِيلٍ من التَّصَرُّفِ في حَقِّهِ اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا
وَمِنْهَا إبْرَاءُ الْمُشْتَرِي عن
____________________

(5/282)


الْعَيْبِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ وَلَهُ وِلَايَةُ الْإِسْقَاطِ لِأَنَّ الْخِيَارَ حَقُّهُ وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ أَلَا تَرَى كَيْفَ احْتَمَلَ السُّقُوطَ بِالْإِسْقَاطِ صَرِيحًا فإذا أَسْقَطَهُ يَسْقُطُ
وَمِنْهَا هَلَاكُ الْمَبِيعِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الرَّدِّ وَمِنْهَا نُقْصَانُهُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ نُقْصَانَ الْمَبِيعِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قبل الْقَبْضِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أو بِفِعْلِ الْبَائِعِ أو بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أو بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ كان قبل الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمَبِيعِ فَهَذَا وما إذَا لم يَكُنْ بِهِ عَيْبٌ سَوَاءٌ وقد ذَكَرْنَا حُكْمَهُ في بَيْعِ الْبَاتِّ فِيمَا تَقَدَّمَ إن الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ
ثُمَّ إنْ كان النُّقْصَانُ نُقْصَانَ قَدْرٍ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَإِنْ كان نُقْصَانَ وَصْفٍ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِمَا ذَكَرْنَا هُنَالِكَ
وَإِنْ كان بِفِعْلِ الْبَائِعِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فيه وَفِيمَا إذَا لم يَكُنْ بِهِ عَيْبٌ سَوَاءٌ وهو أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَطُرِحَ عنه قَدْرُ النُّقْصَانِ الذي حَصَلَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ من الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ كما إذَا لم يَجِدْ بِهِ عَيْبًا وَإِنْ كان بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَا خِيَارَ له وَيَصِيرُ قَابِضًا بِالْجِنَايَةِ وَيَتَقَرَّرُ عليه جَمِيعُ الثَّمَنِ إنْ لم يَجِدْ بِهِ عَيْبًا كان عِنْدَ الْبَائِعِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ وَجَدَ عَيْبًا كان عِنْدَ الْبَائِعِ فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وَإِنْ شَاءَ رضي بِهِ
وَإِنْ قال الْبَائِعُ أنا آخُذُهُ مع النُّقْصَانِ ليس لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَحْبِسَهُ وَيَرْجِعَ عليه بِالنُّقْصَانِ بَلْ يَرُدُّهُ عليه وَيَسْقُطُ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَسَنَذْكُرُ الْأَصْلَ في جِنْسِ هذه الْمَسَائِلِ في بَيَانِ ما يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وما لَا يَمْنَعُ
هذا إذَا لم يُوجَدْ من الْبَائِعِ مَنْعُ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ بعدما صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا بِالْجِنَايَةِ فَأَمَّا إذَا وُجِدَ منه مَنْعٌ بَعْدَ ذلك ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا له أَنْ يَرُدَّهُ على الْبَائِعِ وَيَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي جَمِيعُ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ بِالْمَنْعِ صَارَ مُسْتَرِدًّا لِلْمَبِيعِ نَاقِضًا ذلك الْقَبْضَ فَانْتَقَضَ وَجُعِلَ كَأَنْ لم يَكُنْ له فَكَانَ حَقُّ الرَّدِّ على الْبَائِعِ وَيَسْقُطُ عنه جَمِيعُ الثَّمَنِ إلَّا قَدْرَ ما نَقَصَ بِفِعْلِهِ
وَإِنْ كان بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رضي بِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَاتَّبَعَ الْجَانِيَ بِالْأَرْشِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَيَسْقُطُ عنه جَمِيعُ الثَّمَنِ وَاتَّبَعَ الْبَائِعُ الْجَانِيَ بِالْأَرْشِ كما إذَا لم يَجِدْ الْمُشْتَرِي بها عَيْبًا
هذا إذَا حَدَثَ النُّقْصَانُ قبل الْقَبْضِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَأَمَّا إذَا حَدَثَ بَعْدَ الْقَبْضِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَإِنْ حَدَثَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أو بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لم يَكُنْ له أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ له أَنْ يَرُدَّهُ وَيَرُدَّ معه أَرْشَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ حَقَّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ثَبَتَ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي
فَلَوْ امْتَنَعَ إنَّمَا يَمْتَنِعُ نَظَرًا لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بِاسْتِحْقَاقِ النَّظَرِ أَوْلَى من الْبَائِعِ لِأَنَّهُ لم يُدَلِّسْ الْعَيْبَ وَالْبَائِعُ قد دَلَّسَ
وَلَنَا أَنَّ شَرْطَ الرَّدِّ أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ عِنْدَ الرَّدِّ على الصِّفَةِ التي كان عليها عِنْدَ الْقَبْضِ ولم يُوجَدْ لِأَنَّهُ خَرَجَ عن مِلْكِ الْبَائِعِ مَعِيبًا بِعَيْبٍ وَاحِدٍ وَيَعُودُ على مِلْكِهِ مَعِيبًا بِعَيْبَيْنِ فَانْعَدَمَ شَرْطُ الرَّدِّ فَلَا يُرَدُّ وَلَوْ كان الْمَبِيعُ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ اطَّلَعَ على عَيْبٍ بها فَإِنْ كانت بِكْرًا لم يَرُدَّهَا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كانت ثَيِّبًا فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُرَدُّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ ثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ مع شَرْطِهِ وما بَعْدَ السَّبَبِ وَشَرْطِهِ ألا الْحُكْمُ أَمَّا السَّبَبُ فَهُوَ الْعَيْبُ وقد وُجِدَ
وَأَمَّا الشَّرْطُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ وَقْتَ الرَّدِّ كما كان وَقْتَ الْقَبْضِ وقد وُجِدَ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الْعَيْنِ إذْ هو اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فَأَشْبَهَ الِاسْتِخْدَامَ بِخِلَافِ وَطْءِ الْبِكْرِ لِأَنَّ الْعُذْرَةَ عُضْوٌ منها وقد أَزَالَهَا بِالْوَطْءِ
وَلَنَا أَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لها حُكْمُ الْأَجْزَاءِ وَالْأَعْيَانِ بِدَلِيلِ أنها مَضْمُونَةٌ بِالْعَيْنِ وَغَيْرُ الْعَيْنِ لَا يُضْمَنُ بِالْعَيْنِ هو الْأَصْلُ وَإِذْ قام الدَّلِيلُ على أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ عِنْدَنَا أَصْلًا فَكَانَ اسْتِيفَاؤُهَا في حُكْمِ إتْلَافِ الْأَجْزَاءِ وَالْأَعْيَانِ فَانْعَدَمَ شَرْطُ الرَّدِّ فَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ كما إذَا قَطَعَ طَرَفًا منها وَكَمَا في وَطْءِ الْبِكْرِ بِخِلَافِ الِاسْتِخْدَامِ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَةٍ مَحْضَةٍ مالها حُكْمُ الْجُزْءِ وَالْعَيْنِ وَلِأَنَّهُ لو رَدَّ الْجَارِيَةَ وَفَسَخَ الْعَقْدَ رُفِعَ من الْأَصْلِ من كل وَجْهٍ أو من وَجْهٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَطْءَ صَادَفَ مِلْكَ الْبَائِعِ من كل وَجْهٍ أو من وَجْهٍ وَأَنَّهُ حَرَامٌ فَكَانَ الْمَنْعُ من الرَّدِّ طَرِيقَ الصِّيَانَةِ عن الْحَرَامِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا إذَا اشترى ( ( ( اشترط ) ) ) رَجُلَانِ شيئا ثُمَّ اطَّلَعَا على عَيْبٍ بِهِ كان عِنْدَ الْبَائِعِ أَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ دُونَ صَاحِبِهِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ وَعَلَى هذا الْخِلَافُ لو اشْتَرَيَا شيئا على أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فيه ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أو اشْتَرَيَا شيئا لم يَرَيَاهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ رَدَّ المشتري كما اشْتَرَى فَيَصِحُّ كما إذَا اشْتَرَى عَبْدًا على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ في نِصْفِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَرَدَّ النِّصْفَ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهُ اشْتَرَى النِّصْفَ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اشْتَرَيَا الْعَبْدَ جُمْلَةً
____________________

(5/283)


وَاحِدَةً كان كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرِيًا نِصْفَهُ وقد رَدَّ النِّصْفَ فَقَدْ رَدَّ ما اشْتَرَى كما اشْتَرَى
وَلِأَبِي حنيفة رحمه أنه لم يوجد شرط الرد وثبوت حق الرد عند انعدام شرطه ممتنع
ولأبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لم يُوجَدْ شَرْطُ الرَّدِّ وَثُبُوتُ حَقِّ الرَّدِّ عِنْدَ انْعِدَامِ شَرْطِهِ مُمْتَنِعٌ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ لم يُوجَدْ شَرْطُ الرَّدِّ أَنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ على الْوَصْفِ الذي كان مَقْبُوضًا ولم يُوجَدْ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ غير مَعِيبٍ بِعَيْبٍ زَائِدٍ فَلَوْ رَدَّهُ لَرَدَّهُ وهو مَعِيبٌ بِعَيْبٍ زَائِدٍ وهو عَيْبُ الشَّرِكَةِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ في الْأَعْيَانِ عَيْبٌ لِأَنَّ نِصْفَ الْعَيْنِ لَا يشتري بِالثَّمَنِ الذي يشتري بِهِ لو لم يَكُنْ مُشْتَرَكًا فلم يُوجَدْ رَدُّ ما اشْتَرَى فَلَا يَصِحُّ الرَّدُّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عن الْبَائِعِ وَلِهَذَا لو أَوْجَبَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ في عَبْدٍ لِاثْنَيْنِ فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لم يَصِحَّ لِأَنَّ الْبَائِعَ لم يَرْضَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ إلَّا عن الْجُمْلَةِ فإذا قَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَقَدْ فَرَّقَ الصَّفْقَةَ على الْبَائِعِ فلم يَصِحَّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عنه
كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ لو كان النُّقْصَانُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أو بِفِعْلِ الْبَائِعِ بِأَنْ قَطَعَ يَدَهُ وَوَجَبَ الْأَرْشُ أو كانت جَارِيَةً فَوَطِئَهَا وَوَجَبَ الْعُقْرُ لم يَكُنْ له أَنْ يَرُدَّ بِالْعَيْبِ لِمَا قُلْنَا وَلِمَعْنًى آخَرَ يَخْتَصُّ بِهِ وهو أَنَّ النُّقْصَانَ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ أو بِفِعْلِ الْبَائِعِ يُؤْخَذُ الْأَرْشُ وَالْعُقْرُ لِلْمُشْتَرِي وَأَنَّهُ زِيَادَةٌ وَلِهَذَا يُمْنَعُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ على ما نذكره ( ( ( سنذكره ) ) ) إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ اشْتَرَى مَأْكُولًا في جَوْفِهِ كَالْبِطِّيخِ وَالْجَوْزِ القثاء ( ( ( والقثاء ) ) ) وَالْخِيَارِ وَالرُّمَّانِ وَالْبَيْضِ وَنَحْوِهَا فَكَسَرَهُ فَوَجَدَهُ فَاسِدًا فَهَذَا في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو عن أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إن وَجَدَهُ كُلَّهُ فَاسِدًا وَإِمَّا إن وَجَدَ الْبَعْضَ فَاسِدًا وَالْبَعْضَ صَحِيحًا فَإِنْ وَجَدَهُ كُلَّهُ فَاسِدًا فَإِنْ كان مِمَّا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَصْلًا فَالْمُشْتَرِي يَرْجِعُ على الْبَائِعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ بَاطِلًا لِأَنَّهُ بَيْعُ ما ليس بِمَالٍ وَبَيْعُ ما ليس بِمَالٍ لَا يَنْعَقِدُ كما إذَا اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حُرٌّ
وَإِنْ كان مِمَّا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ في الْجُمْلَةِ ليس له أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ له أَنْ يَرُدَّهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ منه فَقَدْ سَلَّطَهُ على الْكَسْرِ فَكَانَ الْكَسْرُ حَاصِلًا بِتَسْلِيطِ الْبَائِعِ فَلَا يَمْنَعُ الرَّدَّ
وَلَنَا ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ شَرْطَ الرَّدِّ أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ وَقْتَ الرَّدِّ على الْوَصْفِ الذي كان عليه وَقْتَ الْقَبْضِ ولم يُوجَدْ لِأَنَّهُ تَعَيَّبَ بِعَيْبٍ زَائِدٍ بِالْكَسْرِ فَلَوْ رُدَّ عليه لَرُدَّ مَعِيبًا بِعَيْبَيْنِ فَانْعَدَمَ شَرْطُ الرَّدِّ
وَأَمَّا قَوْلُهُ الْبَائِعُ سَلَّطَهُ على الْكَسْرِ فَنَعَمْ لَكِنْ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَكَّنَهُ من الْكَسْرِ بِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ له فَيَكُونُ هو بِالْكَسْرِ مُتَصَرِّفًا في مِلْكِ نَفْسِهِ لَا في مِلْكِ الْبَائِعِ بِأَمْرِهِ لِيَكُونَ ذلك منه دَلَالَةَ الرِّضَا بِالْكَسْرِ
وَإِنْ وَجَدَ بَعْضَهُ فَاسِدًا دُونَ الْبَعْضِ يُنْظَرُ إنْ كان الْفَاسِدُ كَثِيرًا يَرْجِعُ على الْبَائِعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ في الْقَدْرِ الْفَاسِدِ بَاطِلًا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ليس بِمَالٍ وإذا بَطَلَ في ذلك الْقَدْرِ يَفْسُدُ في الْبَاقِي كما إذَا جَمَعَ بين حُرٍّ وَعَبْدٍ وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً
وَإِنْ كان قَلِيلًا فَكَذَلِكَ في الْقِيَاسِ وفي الِاسْتِحْسَانِ صَحَّ الْبَيْعُ في الْكُلِّ وَلَيْسَ له أَنْ يَرُدَّ وَلَا أَنْ يَرْجِعَ فيه بِشَيْءٍ لِأَنَّ قَلِيلَ الْفَسَادِ فيه مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه إذْ هذه الْأَشْيَاءُ في العبادات ( ( ( العادات ) ) ) لَا تَخْلُو عن قَلِيلِ فَسَادٍ فَكَانَ فيه ضَرُورَةً فَيَلْتَحِقُ ذلك الْقَدْرُ بِالْعَدَمِ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من فَصَّلَ تَفْصِيلًا آخَرَ فقال إذَا وَجَدَ كُلَّهُ فَاسِدًا فَإِنْ لم يَكُنْ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ ما ليس بِمَالٍ وَإِنْ كان لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ كَالرُّمَّانِ وَنَحْوِهِ فَالْبَيْعُ لَا يَبْطُلُ لِأَنَّهُ إذَا كان لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ كان الْقِشْرُ مَالًا وَلَكِنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رضي بِهِ نَاقِصًا وَقَبِلَ قِشْرَهُ وَرَدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ لم يَقْبَلْ لِأَنَّهُ تَعَيَّبَ بِعَيْبٍ زَائِدٍ وَرَدَّ على الْمُشْتَرِي حِصَّةَ الْمَعِيبِ جَبْرًا لِحَقِّهِ وَإِنْ وَجَدَ بَعْضَهُ فَاسِدًا فَعَلَى هذا التَّفْصِيلِ أَيْضًا لِأَنَّهُ إنْ لم يَكُنْ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ رَجَعَ على الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ وَإِنْ كان لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ رَجَعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ دُونَ الْقِشْرِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ إلَّا إذَا كان الْفَاسِدُ منه قَلِيلًا قَدْرَ ما لَا يَخْلُو مِثْلُهُ عن مِثْلِهِ فَلَا يَرُدُّ وَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ من الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في الزِّيَادَةِ أنها لَا تَخْلُو إمَّا إن حَدَثَتْ قبل الْقَبْضِ وَإِمَّا إن حَدَثَتْ بَعْدَهُ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ من الزِّيَادَتَيْنِ لَا تَخْلُو من أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً أو مُنْفَصِلَةً وَالْمُتَّصِلَةُ لَا تَخْلُو من أَنْ تَكُونَ مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ كَالْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالْكِبَرِ وَالسِّمَنِ وَالسَّمْعِ وإنجلاء بَيَاضِ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ وَنَحْوِ ذلك أو غير مُتَوَلِّدَةٍ منه كَالصَّبْغِ في الثَّوْبِ وَالسَّمْنِ أو الْعَسَلِ الْمَلْتُوتِ بِالسَّوِيقِ وَالْبِنَاءِ في الْأَرْضِ وَنَحْوِهَا وَكَذَلِكَ الْمُنْفَصِلَةُ لَا تَخْلُو من أَنْ تَكُونَ مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَنَحْوِهَا أو غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ كَالْكَسْبِ وَالصَّدَقَةِ وَالْغَلَّةِ وَالْبَيْعُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا أو فَاسِدًا
أَمَّا الزِّيَادَةُ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَحُكْمُهَا نَذْكُرُهُ في بَيَانِ حُكْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا في الْبَيْعِ الصَّحِيحِ فَإِنْ حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ قبل الْقَبْضِ فَإِنْ كانت مُتَّصِلَةً مُتَوَلَّدَةً من الْأَصْلِ
____________________

(5/284)


فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ حَقِيقَةً لِقِيَامِهَا بِالْأَصْلِ فَكَانَتْ مَبِيعَةً تَبَعًا وَالْأَصْلُ أَنَّ ما كان تَابِعًا في الْعَقْدِ يَكُونُ تَابِعًا في الْفَسْخِ لِأَنَّ الْفَسْخَ رَفَعَ الْعَقْدَ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ في الْأَصْلِ بِالْفَسْخِ فيه مَقْصُودًا وَيَنْفَسِخُ في الزِّيَادَةِ تَبَعًا لِلِانْفِسَاخِ في الْأَصْلِ
وَإِنْ كانت مُتَّصِلَةً غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ بَلْ هِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْبَيْعِ فيها أَصْلًا وَرَأْسًا فَلَوْ رَدَّ الْمَبِيعَ لَكَانَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَرُدَّهُ وَحْدَهُ بِدُونِ الزِّيَادَةِ وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ مع الزِّيَادَةِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مُتَعَذَّرٌ لِتَعَذُّرِ الْفَصْلِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ في الْعَقْدِ فَلَا تَكُونُ تَابِعَةً في الْفَسْخِ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ قَابِضًا لِلْمَبِيعِ بِإِحْدَاثِ هذه الزِّيَادَةِ فَصَارَ كَأَنَّهَا حَدَثَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ وَحُدُوثُهَا بَعْدَ الْقَبْضِ يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَإِنْ كانت متفصلة ( ( ( منفصلة ) ) ) مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ فَإِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي رَدَّهُمَا جميعا وَإِنْ شَاءَ رضي بِهِمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ بِخِلَافِ ما بَعْدَ الْقَبْضِ عِنْدَنَا إنها تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَسَنَذْكُرُ الْفَرْقَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ لم يَجِدْ بِالْأَصْلِ عَيْبًا وَلَكِنْ وَجَدَ بِالزِّيَادَةِ عَيْبًا ليس له أَنْ يَرُدَّهَا لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ قبل الْقَبْضِ مَبِيعَةٌ تَبَعًا وَالْمَبِيعُ تَبَعًا لَا يُحْتَمَلُ فَسْخُ الْعَقْدِ فيه مَقْصُودًا إلَّا إذَا كان حُدُوثُ هذه الزِّيَادَةِ قبل الْقَبْضِ مِمَّا يُوجِبُ نُقْصَانًا في الْمَبِيعِ كَوَلَدِ الْجَارِيَةِ فَلَهُ خِيَارُ الرَّدِّ لَكِنْ لَا لِلزِّيَادَةِ بَلْ لِلنُّقْصَانِ
وَلَوْ قَبَضَ الْأَصْلَ وَالزِّيَادَةَ جميعا ثُمَّ وَجَدَ بِالْأَصْلِ عَيْبًا له أَنْ يَرُدَّهُ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ بَعْدَمَا قَسَّمَ الثَّمَنَ على قَدْرِ الْأَصْلِ وَقْتَ الْبَيْعِ وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ وَقْتَ الْقَبْضِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا تَأْخُذُ قِسْطًا من الثَّمَنِ بِالْقَبْضِ كَذَلِكَ يُعْتَبَرُ قَبْضُهَا وَقْتَ الْقَبْضِ
وَلَوْ لم يَجِدْ بِالْأَصْلِ عَيْبًا وَلَكِنَّهُ وَجَدَ بِالزِّيَادَةِ عَيْبًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا خَاصَّةً بِحِصَّتِهَا من الثَّمَنِ لِأَنَّهُ صَارَ لها حِصَّةٌ من الثَّمَنِ بِالْقَبْضِ فَيَرُدُّهَا بِحِصَّتِهَا من الثَّمَنِ فَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً من الْأَصْلِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ لِانْعِدَامِ ثُبُوتِ حُكْمِ الْبَيْعِ فيها وَإِنَّمَا هِيَ مَمْلُوكَةٌ بِسَبَبٍ على حِدَةٍ أو بِمِلْكِ الْأَصْلِ فَبِالرَّدِّ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ في الْأَصْلِ وَتَبْقَى الزِّيَادَةُ مَمْلُوكَةً بِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ فيه مَقْصُودًا أو بِمِلْكِ الْأَصْلِ لَا بِالْبَيْعِ فَكَانَتْ رِبْحًا لَا رِبًا لِاخْتِصَاصِ الرِّبَا بِالْبَيْعِ لِأَنَّهُ فَضْلُ مَالٍ قُصِدَ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْبَيْعِ في عُرْفِ الشَّرْعِ ولم يُوجَدْ ثُمَّ إذَا رَدَّ الْأَصْلَ فَالزِّيَادَةُ تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ ثَمَنٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَكِنَّهَا لَا تَطِيبُ له لِأَنَّهَا حَدَثَتْ على مِلْكِهِ إلَّا أنها رِبْحٌ ما لم يَضْمَنْ فَلَا تَطِيبُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الزِّيَادَةُ تَكُونُ لِلْبَائِعِ لَكِنَّهَا لَا تَطِيبُ له وَهَذَا إذَا اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فَإِنْ رضي بِالْعَيْبِ وَاخْتَارَ الْبَيْعَ فَالزِّيَادَةُ لَا تَطِيبُ له بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهَا رِبْحٌ ما لم يَضْمَنْ وَنَهَى رسول اللَّهِ عن ذلك وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ في عَقْدِ الْبَيْعِ وَأَنَّهُ تَفْسِيرُ الرِّبَا
وَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ مع هذه الزِّيَادَةِ ثُمَّ وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا فَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ هَالِكَةً له أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيعَ خَاصَّةً بِجَمِيعِ الثَّمَنِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كانت قَائِمَةً فَكَذَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَرُدُّ معه الزِّيَادَةَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذه زِيَادَةٌ حَدَثَتْ قبل الْقَبْضِ فَيَرُدُّهَا مع الْأَصْلِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هذه الزِّيَادَةَ لَا تَتْبَعُ الْأَصْلَ في حُكْمِ الْعَقْدِ فَلَا تَتْبَعُهُ في حُكْمِ الْفَسْخِ وَلَوْ وَجَدَ بِالزِّيَادَةِ عَيْبًا ليس له أَنْ يَرُدَّهَا لِأَنَّهُ لَا حِصَّةَ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ من الثَّمَنِ فَلَا تَحْتَمِلُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّهَا لو رُدَّتْ لَرُدَّتْ بِغَيْرِ شَيْءٍ
هذا إذَا حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ قبل الْقَبْضِ فَأَمَّا إذَا حَدَثَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ كانت مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ إنْ رضي الْمُشْتَرِي بِرَدِّهَا مع الْأَصْلِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ حَقِيقَةً وَقْتَ الْفَسْخِ فَبِالرَّدِّ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ في الْأَصْلِ مَقْصُودًا وَيَنْفَسِخُ في الزِّيَادَةِ تَبَعًا
وَإِنْ أَبَى أَنْ يَرُدَّهُ وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ نُقْصَانَ الْعَيْبِ من الْبَائِعِ وَأَبَى الْبَائِعُ إلَّا الرَّدَّ مع الْعَيْبِ وَدَفَعَ جَمِيعَ الثَّمَنِ اُخْتُلِفَ فيه قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وأبو يُوسُفَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ نُقْصَانَ الْعَيْبِ من الْبَائِعِ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْبَى ذلك وبطلب ( ( ( ويطلب ) ) ) الرَّدَّ وَيَقُولَ لَا أُعْطِيك نُقْصَانَ الْعَيْبِ وَلَكِنْ رُدَّ عَلَيَّ الْمَبِيعَ مَعِيبًا لِأَدْفَعَ إلَيْك جَمِيعَ الثَّمَنِ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ على الْبَائِعِ إذَا أَبَى ذلك وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَقُولَ له رُدَّ على الْمَبِيعَ حتى أَرُدَّ إلَيْك الثَّمَنَ كُلَّهُ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ الْمُتَوَلِّدَةَ من الْأَصْلِ بَعْدَ الْقَبْضِ هل تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ إذَا لم يَرْضَ صَاحِبُ الزِّيَادَةِ وهو الْمُشْتَرِي بِرَدِّ الزِّيَادَةِ وَيُرِيدُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ عِنْدَهُمَا يَمْنَعُ وَعِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ في النِّكَاحِ إذَا ازْدَادَ الْمَهْرُ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ بَعْدَ الْقَبْضِ ثُمَّ وَرَدَ الطَّلَاقُ قبل
____________________

(5/285)


الدُّخُولِ أنها هل تَمْنَعُ التَّنْصِيفَ عِنْدَهُمَا تَمْنَعُ وَعَلَيْهَا فصف ( ( ( نصف ) ) ) الْقِيمَةِ يوم قَبَضَتْ وَعِنْدَهُ لَا تَمْنَعُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في النِّكَاحِ
وَإِنْ كانت مُتَّصِلَةً غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْإِجْمَاعِ وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لو رَدَّ الْأَصْلَ فَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ مع الزِّيَادَةِ وَالرَّدُّ وَحْدَهُ لَا يُمْكِنُ وَالزِّيَادَةُ لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ في الْعَقْدِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَهَا تَابِعَةً في الْفَسْخِ إلَّا إذَا تَرَاضَيَا على الرَّدِّ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ جَدِيدٍ وَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَمْنَعُ وَيَرُدُّ الْأَصْلَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ وَكَذَلِكَ هذه الزِّيَادَةُ تَمْنَعُ الْفَسْخَ عِنْدَنَا من الْإِقَالَةِ وَالرَّدُّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ
وَالْكَلَامُ فيه مبنى على أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وهو أَنَّ الزِّيَادَةَ عِنْدَنَا مَبِيعَةٌ تَبَعًا لِثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ فيه تَبَعًا وَبِالرَّدِّ بِدُونِ الزيدة ( ( ( الزيادة ) ) ) يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ في الْأَصْلِ مَقْصُودًا وَتَبْقَى الزِّيَادَةُ في يَدِ الْمُشْتَرِي مَبِيعًا مَقْصُودًا بِلَا ثَمَنٍ لِيَسْتَحِقَّ بِالْبَيْعِ وَهَذَا تَفْسِيرُ الرِّبَا في عُرْفِ الشَّرْعِ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ قبل الْقَبْضِ لِأَنَّهَا لَا تُرَدُّ بِدُونِ الْأَصْلِ أَيْضًا احْتِرَازًا عن الرِّبَا بَلْ تُرَدُّ مع الْأَصْلِ وَرَدُّهَا مع الْأَصْلِ لَا يَتَضَمَّنُ الرِّبَا ثُمَّ إنَّمَا لَا يُرَدُّ الْأَصْلُ مع الزِّيَادَةِ هَهُنَا وَرُدَّ هُنَاكَ إما امْتِنَاعُ رَدِّ الْأَصْلِ بِدُونِ الزِّيَادَةِ فَلِمَا قُلْنَا أنه يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا
وَأَمَّا رَدُّهُ مع الزِّيَادَةِ فَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ التَّابِعُ بَعْدَ الرَّدِّ رِبْحَ ما لم يَضْمَنْ لِأَنَّهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ في الزِّيَادَةِ وَيَعُودُ إلَى الْبَائِعِ ولم يَصِلْ إلَى الْمُشْتَرِي بمقابلته ( ( ( بمقابلة ) ) ) شَيْءٍ من الثَّمَنِ في الْفَسْخِ لِأَنَّهُ لَا حِصَّةَ له من الثَّمَنِ فَكَانَ الْوَلَدُ لِلْبَائِعِ رِبْحَ ما لم يُضْمَنْ لِأَنَّهُ حَصَلَ في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَأَمَّا الْوَلَدُ قبل الْقَبْضِ فَقَدْ حَصَلَ في ضَمَانِ الْبَائِعِ فل ( ( ( فلو ) ) ) انْفَسَخَ الْعَقْدُ فيه لَا يَكُونُ رِبْحَ ما لم يُضْمَنْ بَلْ رِبْحَ ما ضُمِنَ وَإِنْ كانت مُنْفَصِلَةً غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ لَا يَمْتَنِعُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ الْأَصْلُ على الْبَائِعِ وَالزِّيَادَةُ لِلْمُشْتَرِي طَيِّبَةٌ له لِمَا مَرَّ أَنَّ هذه الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ أَصْلًا لِانْعِدَامِ ثُبُوتِ حُكْمِ الْبَيْعِ فيها بَلْ مُلِكَتْ بِسَبَبٍ على حِدَةٍ فَأَمْكَنَ إثْبَاتُ حُكْمِ الْفَسْخِ فيه بِدُونِ الزِّيَادَةِ فَيُرَدُّ الْأَصْلُ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فيه وَتَبْقَى الزِّيَادَةُ مَمْلُوكَةً لِلْمُشْتَرِي بِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ فيها شَرْعًا فَتَطِيبُ له
هذا إذَا كانت الزِّيَادَةُ قَائِمَةً في يَدِ الْمُشْتَرِي فَأَمَّا إذَا كانت هَالِكَةً فَهَلَاكُهَا لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أن بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أو بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ كان بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ له أَنْ يَرُدَّ الْأَصْلَ بِالْعَيْبِ وَتُجْعَلُ الزِّيَادَةُ كَأَنَّهَا لم تَكُنْ وَإِنْ كان بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ وَرَدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ لم يَقْبَلْ وَيَرُدَّ نُقْصَانَ الْعَيْبِ سَوَاءٌ كان حُدُوثُ ذلك أَوْجَبَ نُقْصَانًا في الْأَصْلِ أو لم يُوجِبْ نُقْصَانًا فيه لِأَنَّ إتْلَافَ الزِّيَادَةِ بِمَنْزِلَةِ إتْلَافِ جُزْءٍ مُتَّصِلٍ بِالْأَصْلِ لِكَوْنِهَا مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ وَذَا يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ وَإِنْ كان بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ ليس له أَنْ يَرُدَّ لِأَنَّهُ يَجِبُ ضَمَانُ الزِّيَادَةِ على الْأَجْنَبِيِّ فَيَقُومُ الضَّمَانُ مَقَامَ الْعَيْنِ فكان عَيْنَهُ قَائِمَةٌ فَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يُفْسَخُ بِهِ الْعَقْدُ فَالْكَلَامُ هَهُنَا يَقَعُ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما يَنْفَسِخُ بِهِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ الْفَسْخِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَوْعَانِ اخْتِيَارِيٌّ وَضَرُورِيٌّ فَالِاخْتِيَارِيُّ نَحْوُ قَوْلِهِ فَسَخْتُهُ أو نَقَضْتُهُ أو رَدَدْته وما هو في مَعْنَاهُ وَالضَّرُورِيُّ هَلَاكُ الْمَعْقُودِ عليه قبل الْقَبْضِ وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْفَسْخِ فَمِنْهَا سُقُوطُ الْخِيَارِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَلْزَمُ بِسُقُوطِ الْخِيَارِ فَيَخْرُجُ عن احْتِمَالِ الْفَسْخِ
وَمِنْهَا عِلْمُ صَاحِبِهِ بِالْفَسْخِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا سَوَاءٌ كان بَعْدَ الْقَضَاءِ أو قَبْلَهُ بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ وَهَلْ يُشْتَرَطُ له الْقَضَاءُ أو الرِّضَا إنْ كان قبل الْقَبْضِ لَا يُشْتَرَطُ له قَضَاءُ الْقَاضِي وَلَا رِضَا الْبَائِعِ وَإِنْ كان بَعْدَ الْقَبْضِ يُشْتَرَطُ له الْقَضَاءُ أو الرِّضَا وقد ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَتَضَمَّنَ الْفَسْخُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ على الْبَائِعِ قبل التَّمَامِ فَإِنْ تَضَمَّنَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ الْبَائِعُ لِأَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ على الْبَائِعِ قبل التَّمَامِ إضْرَارٌ بِهِ على ما نَذْكُرُ وَالضَّرَرُ وَاجِبُ الدَّفْعِ ما أَمْكَنَ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ الْبَائِعُ لِأَنَّ الضَّرَرَ الْمَرْضِيَّ بِهِ من جِهَةِ الْمُتَضَرِّرِ لا يَجِبُ دَفْعُهُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ مَعِيبًا فَأَرَادَ رَدَّ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ قبل الْقَبْضِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ شيئا وَاحِدًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا كَالْعَبْدِ وَالثَّوْبِ وَالدَّارِ وَالْكَرْمِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ الْمُتَقَارِبِ في وِعَاءٍ وَاحِدٍ أو صُبْرَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةً كَالْعَبْدَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ وَالدَّابَّتَيْنِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ في وِعَاءَيْنِ أو صُبْرَتَيْنِ وَكُلِّ شَيْئَيْنِ يُنْتَفَعُ بِأَحَدِهِمَا فِيمَا وُضِعَ له بِدُونِ الْآخَرِ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئَيْنِ حَقِيقَةً وَشَيْئًا وَاحِدًا تَقْدِيرًا كَالْخُفَّيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ وَالْمُكَعَّبَيْنِ
____________________

(5/286)


وَمِصْرَاعَيْ الْبَابِ وَكُلُّ شَيْءٍ لَا يُنْتَفَعُ بِأَحَدِهِمَا فِيمَا وُضِعَ له بِدُونِ الْآخَرِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ كُلَّ الْمَبِيعِ وَإِمَّا إن لم يَقْبِضْ شيئا منه وَإِمَّا إن قَبَضَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ
وَالْحَادِثُ في الْمَبِيعِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْبًا أو اسْتِحْقَاقًا
أَمَّا الْعَيْبُ فَإِنْ وَجَدَهُ بِبَعْضِ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ لِشَيْءٍ منه فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رضي بِالْكُلِّ وَلَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْكُلَّ وَلَيْسَ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ سَوَاءٌ كان الْمَبِيعُ شيئا وَاحِدًا أو أَشْيَاءَ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَمَامَ لها قبل الْقَبْضِ وَتَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قبل تَمَامِهَا بَاطِلٌ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَتِمُّ قبل الْقَبْضِ أَنَّ الْمَوْجُودَ قبل الْقَبْضِ أَصْلُ الْعَقْدِ وَالْمِلْكِ لَا صِفَةَ التَّأْكِيدِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ الِانْفِسَاخُ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عليه وهو أَنَّهُ عَدَمُ التَّأْكِيدِ وإذا قَبَضَ وَقَعَ الْأَمْرُ عن الِانْفِسَاخِ بِالْهَلَاكِ فَكَانَ حُصُولُ التَّأْكِيدِ بِالْقَبْضِ وَالتَّأْكِيدُ إثْبَاتٌ من وَجْهٍ أو له شُبْهَةُ الْإِثْبَاتِ وَكَذَا مِلْكُ التَّصَرُّفِ يَقِفُ على الْقَبْضِ فَيَدُلُّ على نُقْصَانِ الْمِلْكِ قبل الْقَبْضِ وَنُقْصَانُ الْمِلْكِ دَلِيلُ نُقْصَانِ الْعَقْدِ
وَكَذَا المشتري إذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِنَفْسِ الرَّدِّ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا إلَى التَّرَاضِي
وَلَوْ كانت الصَّفْقَةُ تَامَّةً قبل الْقَبْضِ لَمَا احْتَمَلَ الِانْفِسَاخَ بِنَفْسِ الرَّدِّ كما بَعْدَ الْقَبْضِ فَيَثْبُتُ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ الصَّفْقَةَ لَيْسَتْ بِتَامَّةٍ قبل الْقَبْضِ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ على الْبَائِعِ قبل تَمَامِهَا أَنَّ التَّفْرِيقَ إضْرَارٌ بِالْبَائِعِ وَالضَّرَرُ وَاجِبُ الدَّفْعِ ما أَمْكَنَ وَبَيَانُ الضَّرَرِ أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ شيئا وَاحِدًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَشْيَاءَ حَقِيقَةً شيئا وَاحِدًا تَقْدِيرًا وَالتَّفْرِيقُ تَضَمَّنَ الشَّرِكَةَ وَالشَّرِكَةُ في الْأَعْيَانِ عَيْبٌ فَكَانَ التَّفْرِيقُ عَيْبًا وَأَنَّهُ عَيْبٌ زَائِدٌ لم يَكُنْ عِنْدَ الْبَائِعِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْبَائِعُ وَإِنْ كان الْمَبِيعُ أَشْيَاءَ فَالتَّفْرِيقُ يَتَضَمَّنُ ضَرَرًا آخَرَ وهو لُزُومُ الْبَيْعِ في الْجَيِّدِ بِثَمَنِ الرَّدِيءِ لِأَنَّ ضَمَّ الرَّدِيءِ إلَى الْجَيِّدِ وَالْجَمْعَ بَيْنَهُمَا في الصَّفْقَةِ من عَادَةِ التجارة ( ( ( التجار ) ) ) تَرْوِيجًا لِلرَّدِيءِ بِوَاسِطَةِ الْجَيِّدِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَرَى الْمُشْتَرِي الْعَيْبَ بِالرَّدِيءِ فَيَرُدَّهُ فَيَلْزَمَ الْبَيْعُ في الْجَيِّدِ بِثَمَنِ الرَّدِيءِ فيضرر ( ( ( فيتضرر ) ) ) بِهِ الْبَائِعُ فَدَلَّ أَنَّ في التَّفْرِيقِ ضَرَرًا فَيَجِبُ دَ