Translate

الخميس، 1 يونيو 2023

ج16وج17وج18.بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع علاء الدين الكاساني

ج16. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587

العقل ( ( ( العقد ) ) ) بِلَا فَصْلٍ وَأَمَّا على التَّضْيِيقِ فَإِنْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِعَيْنٍ وَجَبَ تَسْلِيمُهُمَا مَعًا إذَا طَالَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِالتَّسْلِيمِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسَاوَاةَ في عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ مَطْلُوبَةُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَادَةً وَتَحْقِيقُ التَّسَاوِي هَهُنَا في التَّسْلِيمِ مَعًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ ليس أَحَدُهُمَا بِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى من الْآخَرِ وَكَذَلِكَ إنْ تَبَايَعَا دَيْنًا بِدَيْنٍ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ يراعي فيه التَّرْتِيبُ عِنْدَنَا فَيَجِبُ على الْمُشْتَرِي تَسْلِيمُ الثَّمَنِ أَوَّلًا إذَا طَالَبَهُ البايع ثُمَّ يَجِبُ على البايع تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إذَا طَالَبَهُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ تَحْقِيقَ التَّسَاوِي فيه على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَأَمَّا تَفْسِيرُ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ فَالتَّسْلِيمُ وَالْقَبْضُ عِنْدَنَا هو التَّخْلِيَةُ وَالتَّخَلِّي وهو أَنْ يُخَلِّيَ البايع بين الْمَبِيعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي بِرَفْعِ الْحَائِلِ بَيْنَهُمَا على وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي من التَّصَرُّفِ فيه فَيُجْعَلُ البايع مُسَلِّمًا لِلْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي قَابِضًا له
وَكَذَا تَسْلِيمُ الثَّمَنِ من الْمُشْتَرِي إلَى البايع
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَبْضُ في الدَّارِ وَالْعَقَارِ وَالشَّجَرِ بِالتَّخْلِيَةِ
وَأَمَّا في الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَتَنَاوُلُهُمَا بِالْبَرَاجِمِ وفي الثِّيَابِ بِالنَّقْلِ
وَكَذَا في الطَّعَامِ إذَا اشْتَرَاهُ مُجَازَفَةً فإذا اشْتَرَاهُ مُكَايَلَةً فَبِالْكَيْلِ وفي الْعَبْدِ وَالْبَهِيمَةِ بِالسَّيْرِ من مَكَانِهِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَصْلَ في الْقَبْضِ هو الْأَخْذُ بِالْبَرَاجِمِ لِأَنَّهُ الْقَبْضُ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْأَخْذَ بِالْبَرَاجِمِ أُقِيمَ النَّقْلُ مَقَامَهُ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُهُ أُقِيمَ التَّخْلِيَةُ مَقَامَهُ
وَلَنَا أَنَّ التَّسْلِيمَ في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن جَعْلِهِ سَالِمًا خَالِصًا يُقَالُ سَلَّمَ فُلَانٌ لِفُلَانٍ أَيْ خَلَّصَ له وقال اللَّهُ تَعَالَى { وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ } أَيْ سَالِمًا خَالِصًا لَا يُشْرِكُهُ فيه أَحَدٌ فَتَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي هو جَعْلُ الْمَبِيعِ سَالِمًا لِلْمُشْتَرِي أَيْ خَالِصًا بِحَيْثُ لَا يُنَازِعُهُ فيه غَيْرُهُ وَهَذَا يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ فَكَانَتْ التَّخْلِيَةُ تَسْلِيمًا من الْبَائِعِ وَالتَّخَلِّي قَبْضًا من الْمُشْتَرِي وَكَذَا هذا في تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَاجِبٌ وَمَنْ عليه الْوَاجِبُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ له سَبِيلُ الْخُرُوجِ عن عُهْدَةِ ما وَجَبَ عليه وَاَلَّذِي في وُسْعِهِ هو التَّخْلِيَةُ وَرَفْعُ الْمَوَانِعِ فَأَمَّا الأقباض فَلَيْسَ في وُسْعِهِ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِالْبَرَاجِمِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ لِلْقَابِضِ فَلَوْ تَعَلَّقَ وُجُوبُ التَّسْلِيمِ بِهِ لَتَعَذَّرَ عليه الْوَفَاءُ بِالْوَاجِبِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
ثُمَّ لَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا في أَنَّ أَصْلَ الْقَبْضِ يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ في سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَاخْتَلَفُوا في أنها هل هِيَ قَبْضٌ تَامٌّ فيها أَمْ لَا
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا له مِثْلٌ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا مِثْلَ له فَإِنْ كان مِمَّا لَا مِثْلَ له من الْمَذْرُوعَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ فَالتَّخْلِيَةُ فيها قَبْضٌ تَامٌّ بِلَا خِلَافٍ حتى لو اشْتَرَى مَذْرُوعًا مُذَارَعَةً أو مَعْدُودًا مُعَادَدَةً وَوُجِدَتْ التَّخْلِيَةُ يَخْرُجُ عن ضَمَانِ الْبَائِعِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ قبل الذَّرْعِ وَالْعَدِّ بِلَا خِلَافٍ
وَإِنْ كان مِمَّا له مِثْلٌ فَإِنْ بَاعَهُ مُجَازَفَةً فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَعْرِفَةُ الْقَدْرِ في بَيْعِ الْمُجَازَفَةِ
وَإِنْ بَاعَ مُكَايَلَةً أو مُوَازَنَةً في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَخَلَّى فَلَا خِلَافَ في أَنَّ الْمَبِيعَ يَخْرُجُ عن ضَمَانِ البايع وَيَدْخُلُ في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي حتى لو هَلَكَ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ قبل الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ يُمْلَكُ على الْمُشْتَرِي وَكَذَا لَا خِلَافَ في أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي بَيْعُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ قبل الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ
وَكَذَا لو اكْتَالَهُ الْمُشْتَرِي أو اتَّزَنَهُ من بَائِعِهِ ثُمَّ بَاعَهُ مُكَايَلَةً أو مُوَازَنَةً من غَيْرِهِ لم يَحِلَّ لمشتري ( ( ( للمشتري ) ) ) منه أَنْ يَبِيعَهُ أو ينتفع ( ( ( يمتنع ) ) ) بِهِ حتى يَكِيلَهُ أو يَزِنَهُ وَلَا يكتفي بِاكْتِيَالِ البايع أو اتِّزَانِهِ من بَائِعِهِ وَإِنْ كان ذلك بِحَضْرَةِ هذا الْمُشْتَرِي لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ نهى عن بَيْعِ الطَّعَامِ حتى يجري فيه صَاعَانِ صَاعُ البايع وَصَاعُ الْمُشْتَرِي وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نهى عن بَيْعِ الطَّعَامِ حتى يُكَالَ لَكِنْ اخْتَلَفُوا في أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ قبل الْكَيْلِ أو الْوَزْنِ لِانْعِدَامِ الْقَبْضِ بِانْعِدَامِ الْكَيْلِ أو الْوَزْنِ أو شَرْعًا غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى مع حُصُولِ الْقَبْضِ بِتَمَامِهِ بِالتَّخْلِيَةِ
قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنه ( ( ( إنها ) ) ) تَثْبُتُ شَرْعًا غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى
وقال بَعْضُهُمْ الْحُرْمَةُ لِمَكَانِ انْعِدَامِ الْقَبْضِ على التَّمَامِ بِالْكَيْلِ أو الْوَزْنِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ في الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ بِدُونِ قَبْضِهِ أَصْلًا لَا يَجُوزُ بِدُونِ قَبْضِهِ بِتَمَامِهِ
وَجْهُ قَوْلِ الْأَوَّلِينَ ما ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ لِأَنَّ المشتري يَصِيرُ سَالِمًا خَالِصًا لِلْمُشْتَرِي على وَجْهٍ يَتَهَيَّأُ له تَقْلِيبُهُ وَالتَّصَرُّفُ فيه على حَسَبِ مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَلِهَذَا كانت التَّخْلِيَةُ تَسْلِيمًا وَقَبْضًا فِيمَا لَا مِثْلَ له وَفِيمَا له مِثْلٌ إذَا بِيعَ مُجَازَفَةً وَلِهَذَا يَدْخُلُ الْمَبِيعُ في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِالتَّخْلِيَةِ نَفْسِهَا بِلَا خِلَافٍ دَلَّ أَنَّ التَّخْلِيَةَ قَبْضٌ إلَّا أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ مع وُجُودِ الْقَبْضِ بِتَمَامِهِ ثَبَتَ تَعَبُّدَا غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَجْهُ قَوْلِ الْآخَرِينَ تَعْلِيلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في هذه الْمَسْأَلَةِ في كِتَابِ الْبُيُوعِ فإنه قال وَلَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فيه قبل الْكَيْلِ لِأَنَّهُ بَاعَهُ قبل
____________________

(5/244)


أَنْ يَقْبِضَهُ ولم يُرِدْ بِهِ أَصْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَمَامَ الْقَبْضِ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الذي بِيعَ مُكَايَلَةً وَمُوَازَنَةً من تَمَامِ الْقَبْضِ أَنَّ الْقَدْرَ في الْمَكِيلِ الموزون ( ( ( والموزون ) ) ) مَعْقُودٌ عليه
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو كِيلَ فَازْدَادَ لَا تَطِيبُ له الزِّيَادَةُ بَلْ تُرَدُّ أو يُفْرَضُ لها ثَمَنٌ وَلَوْ نَقَصَ يُطْرَحُ بِحِصَّتِهِ شَيْءٌ من الثَّمَنِ وَلَا يُعْرَفُ الْقَدْرُ فِيهِمَا إلَّا بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ لِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَلَا يَتَحَقَّقُ قَبْضُ قَدْرِ الْمَعْقُودِ عليه إلَّا بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فَكَانَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ فيه من تَمَامِ الْقَبْضِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قبل قَبْضِهِ بِتَمَامِهِ كما لَا يَجُوزُ قبل قَبْضِهِ أَصْلًا وَرَأْسًا بِخِلَافِ الْمَذْرُوعَاتِ لِأَنَّ الْقَدْرَ فيها ليس مَعْقُودًا عليه بَلْ هو جَارٍ مَجْرَى الْوَصْفِ وَالْأَوْصَافُ لَا تَكُونُ مَعْقُودًا عليها وَلِهَذَا سَلِمَتْ الزِّيَادَةُ لِلْمُشْتَرِي بِلَا ثَمَنٍ وفي النُّقْصَانِ لَا يَسْقُطُ عنه شَيْءٌ من الثَّمَنِ فَكَانَتْ التَّخْلِيَةُ فيها قَبْضًا تَامًّا فيكتفي بها في جَوَازِ التَّصَرُّفِ قبل الذَّرْعِ بِخِلَافِ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ على ما بَيَّنَّا إلَّا أَنَّهُ يَخْرُجُ عن ضَمَانِ الْبَائِعِ بِالتَّخْلِيَةِ نَفْسِهَا لِوُجُودِ الْقَبْضِ بِأَصْلِهِ وَالْخُرُوجُ عن ضَمَانِ الْبَائِعِ يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ الْقَبْضِ لَا بِوَصْفِ الْكَمَالِ فَأَمَّا جَوَازُ التَّصَرُّفِ فيه فَيَسْتَدْعِي قَبْضًا كَامِلًا لِوُرُودِ النَّهْيِ عن بَيْعِ ما لم يُقْبَضْ وَالْقَبْضُ الْمُطْلَقُ هو الْقَبْضُ الْكَامِلُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا العدودات ( ( ( المعدودات ) ) ) الْمُتَقَارِبَةُ إذَا بِيعَتْ عَدَدًا لَا جُزَافًا فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ حتى لَا يَجُوزَ بَيْعُهَا إلَّا بَعْدَ الْعَدِّ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَذْرُوعَاتِ فَيَجُوزُ بَيْعُهَا قبل الْعَدِّ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَدَدِيَّ ليس من أَمْوَالِ الرِّبَا كَالذَّرْعِ وَلِهَذَا لم تَكُنْ الْمُسَاوَاةُ فيها شَرْطًا لِجَوَازِ الْعَقْدِ كما لَا تُشْتَرَطُ في الْمَذْرُوعَاتِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَذْرُوعِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقَدْرَ في الْمَعْدُودِ مَعْقُودٌ عليه كَالْقَدْرِ في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو عَدَّهُ فَوَجَدَهُ زَائِدًا لَا تَطِيبُ الزِّيَادَةُ له بِلَا ثَمَنٍ بَلْ يَرُدُّهَا أو يَأْخُذُهَا بِثَمَنِهَا وَلَوْ وَجَدَهُ نَاقِصًا يَرْجِعُ بِقَدْرِ النُّقْصَانِ كما في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ دَلَّ أَنَّ الْقَدْرَ فيه مَعْقُودٌ عليه وَاحْتِمَالُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ في عَدَدِ الْمَبِيعِ ثَابِتٌ فَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ قَدْرِ الْمَعْقُودِ عليه وَامْتِيَازِهِ من غَيْرِهِ وَلَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ إلَّا بِالْعَدِّ فَأَشْبَهَ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ وَلِهَذَا كان الْعَدُّ فيه بِمَنْزِلَةِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ في ضَمَانِ العدوان ( ( ( العد ) ) ) إلا أنه لم يَجُزْ فيه الرِّبَا لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ بين وَاحِدٍ وَوَاحِدٍ في الْعَدِّ ثَبَتَتْ بِاصْطِلَاحِ الناس وَإِهْدَارِهِمْ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا في الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ لَكِنْ ما ثَبَتَ بإصطلاح الناس جَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِاصْطِلَاحِهِمْ وَلَمَّا تَبَايَعَا وَاحِدًا بِاثْنَيْنِ فَقَدْ أَهْدَرَا اصْطِلَاحَ الْإِهْدَارِ وَاعْتَبَرَا الْكِبَرَ لأنها ( ( ( لأنهما ) ) ) قصد ( ( ( قصدا ) ) ) الْبَيْعَ الصَّحِيحَ وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْكِبَرِ وَسُقُوطِ الْعَدِّ فَكَانَ أَحَدُهُمَا من أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِمُقَابَلَةِ الْكَبِيرِ من الْجَانِبِ الْآخَرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا
أَمَّا هَهُنَا فَلَا بُدَّ من اعْتِبَارِ الْعَدِّ إذَا بِيعَ عَدَدًا وإذا اُعْتُبِرَ الْعَدُّ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فيه قبل الْقَبْضِ كما في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِخِلَافِ الْمَذْرُوعِ فإن الْقَدْرَ فيه ليس بِمَعْقُودٍ عليه على ما بَيَّنَّا فَكَانَتْ التَّخْلِيَةُ فيه قَبْضًا تَامًّا فَكَانَ تَصَرُّفًا في الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ كَالَهُ الْبَائِعُ أو وَزَنَهُ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي كان ذلك كَافِيًا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْكَيْلِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِكَيْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي وما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ نهى عن بَيْعِ الطَّعَامِ حتى يجر ( ( ( يجري ) ) ) فيه صَاعَانِ صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي مَحْمُولٌ على مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ وهو ما إذَا اشْتَرَى مَكِيلًا مُكَايَلَةً فَاكْتَالَهُ ثُمَّ بَاعَهُ من غَيْرِهِ مُكَايَلَةً لم يَجُزْ لِهَذَا الْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ فيه حتى يَكِيلَهُ وَإِنْ كان هو حَاضِرًا عِنْدَ اكْتِيَالِ بَائِعِهِ فَلَا يكتفي بِذَلِكَ
وَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ في حِنْطَةٍ فلما حَلَّ الْأَجَلُ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ قَدْرَ الْمُسْلَمِ فيه من رَجُلٍ مُكَايَلَةً وَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ بِاقْتِضَائِهِ فإنه لَا يَجُوزُ له التَّصَرُّفُ فيه ما لم يَكِلْهُ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَمَرَّةً لِنَفْسِهِ بِالنَّصِّ وَلَوْ كان مَكَانَ السَّلَمِ قَرْضٌ بِأَنْ اسْتَقْرَضَ الْمُسْتَقْرِضُ كُرًّا من إنْسَانٍ وَأَمَرَ الْمُقْرِضَ بِقَبْضِ الْكُرِّ فإنه يكتفي فيه بِكَيْلٍ وَاحِدٍ لِلْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَقْرِضِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ فِيمَا عُقِدَ بِشَرْطِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ شَرْطُ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِمَا لِأَنَّهُ من تَمَامِ الْقَبْضِ على ما بَيَّنَّا وَالسَّلَمُ عَقْدٌ بِشَرْطِ الْكَيْلِ وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ اشْتَرَى بِشَرْطِ الْكَيْلِ فَلَا بُدَّ من أَنْ يَكِيلَ رَبُّ السَّلَمِ أَوَّلًا لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِيَصِيرَ قَابِضًا له فجعل ( ( ( فيجعل ) ) ) كَأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ من الْبَائِعِ ثُمَّ يَكِيلُ لِنَفْسِهِ من الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَأَمَّا قَبْضُ بَدَلِ الْقَرْضِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فيه لِأَنَّ
____________________

(5/245)


الْقَبْضَ بِالْكَيْلِ في بَابِ الْبَيْعِ لِانْدِفَاعِ جَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عليه بِتَمَيُّزِ حَقِّ الْمُشْتَرِي عن حَقِّ الْبَائِعِ وَالْقَرْضُ يَقْبَلُ نَوْعَ جَهَالَةٍ فَلَا يُشْتَرَطُ له الْقَبْضُ وَلِأَنَّ الْإِقْرَاضَ إعَارَةٌ عِنْدَنَا فَالْمَقْبُولُ من بَدَلِ الْقَرْضِ كَأَنَّهُ عَيْنُ حَقِّهِ فَصَارَ كما لو أَعَارَ عَيْنًا ثُمَّ اسْتَرَدَّهَا فَيَصِحُّ قَبْضُهُ بِدُونِ الْكَيْلِ وَإِنَّمَا يَجِبُ كَيْلٌ وَاحِدٌ لِلْمُشْتَرِي لَا غير وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَصِيرُ بِهِ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لِلْمَبِيعِ من التَّصَرُّفَاتِ وما لَا يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْمَبِيعُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ في يَدِ الْبَائِعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ في يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كان في يَدِ الْبَائِعِ فَأَتْلَفَهُ الْمُشْتَرِي صَارَ قَابِضًا له لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا بِالتَّخْلِيَةِ فَبِالْإِتْلَافِ أَوْلَى لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ تَمْكِينٌ من التَّصَرُّفِ في الْمَبِيعِ وَالْإِتْلَافُ تَصَرُّفٌ فيه حَقِيقَةً وَالتَّمْكِينُ من التَّصَرُّفِ دُونَ حَقِيقَةِ التَّصَرُّفِ
وَكَذَلِكَ لو قَطَعَ يَدَهُ أو شَجَّ رَأْسَهُ وَكُلُّ تَصَرُّفٍ نَقَصَ شيئا لِأَنَّ هذه الْأَفْعَالَ في الدَّلَالَةِ على التَّمْكِينِ فَوْقَ التَّخْلِيَةِ ثُمَّ بِالتَّخْلِيَةِ صَارَ قَابِضًا فيها ( ( ( فبها ) ) ) أَوْلَى وَكَذَلِكَ لو فَعَلَ الْبَائِعُ شيئا من ذلك بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ فِعْلَهُ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ
وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إتْلَافٌ حُكْمًا فَيَلْحَقُ بِالْإِتْلَافِ حَقِيقَةً وَكَذَا لو دَبَّرَهُ أو اسْتَوْلَدَ الْجَارِيَةَ أَيْ أَقَرَّ أنها أُمُّ وَلَدٍ له لِأَنَّ التَّدْبِيرَ أو الِاسْتِيلَادَ تَنْقِيصٌ حُكْمًا فَكَانَ مُلْحَقًا بِالتَّنْقِيصِ حَقِيقَةً وَلَوْ زَوَّجَ الْمَبِيعَ بِأَنْ كان جَارِيَةً أو عَبْدًا فَالْقِيَاسُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا وهو رِوَايَةٌ عن أبي يُوسُفَ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ التَّزَوُّجَ تَعْيِيبٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ عَيْبٌ يُرَدُّ بها وإذا كانت الزَّوْجِيَّةُ عَيْبًا كان التَّزَوُّجُ تَعْيِيبًا وَالتَّعْيِيبُ قَبْضٌ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ تَعْيِيبٌ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الْمَحَلِّ وَلَا نُقْصَانَ الْمِلْكِ فيه فَلَا يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا وَكَذَا لو أَقَرَّ عليه بِالدَّيْنِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا لِأَنَّ الدَّيْنَ عَيْبٌ حتى يُرَدَّ بِهِ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّهُ تَعْيِيبٌ حُكْمِيٌّ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ النُّقْصَانَ فَلَا يَكُونُ قَبْضًا
وَلَوْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ في يَدِ الْبَائِعِ صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لِأَنَّ الْوَطْءَ إثْبَاتُ الْيَدِ على الْمَوْطُوءَةِ وَأَنَّهُ حَصَلَ من الزَّوْجِ بِتَسْلِيطِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ من حَيْثُ أنه إثْبَاتُ الْيَدِ مُضَافًا إلَى الْمُشْتَرِي فَكَانَ قَابِضًا من الْمُشْتَرِي
وَلَوْ أَعَارَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ للبايع ( ( ( للبائع ) ) ) أو أَوْدَعَهُ أو آجَرَهُ لم يَكُنْ شَيْءٌ من ذلك قَبْضًا لِأَنَّ هذه التَّصَرُّفَاتِ لم تَصِحَّ من الْمُشْتَرِي لِأَنَّ يَدَ الْحَبْسِ بِطَرِيقِ الإصالة ثَابِتَةٌ للبايع ( ( ( للبائع ) ) ) فَلَا يُتَصَوَّرُ إثْبَاتُ يَدِ النِّيَابَةِ له بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فلم تَصِحَّ وَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ وَلَوْ أَعَارَهُ أو أَوْدَعَهُ أَجْنَبِيًّا صَارَ قَابِضًا لِأَنَّ الْإِعَارَةَ وَالْإِيدَاعَ إيَّاهُ صَحِيحٌ فَقَدْ أَثْبَتَ يَدَ النِّيَابَةِ لِغَيْرِهِ فَصَارَ قَابِضًا
وَلَوْ أَرْسَلَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمَبِيعَ إلَى حَاجَةٍ صَارَ قَابِضًا لِأَنَّ إرْسَالَهُ في الْحَاجَةِ اسْتِعْمَالٌ له بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَارَ رَاضِيًا بِهِ وَاسْتِعْمَالُهُ إيَّاهُ إثْبَاتُ يَدِهِ عليه وهو مَعْنَى الْقَبْضِ
وَلَوْ جَنَى أَجْنَبِيٌّ على الْمَبِيعِ فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي اتِّبَاعَ الْجَانِي بِالضَّمَانِ كان اخْتِيَارُهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ حتى لو تَوَى الضَّمَانُ على الْجَانِي بِأَنْ مَاتَ مُفْلِسًا كان التَّوَى على الْمُشْتَرِي وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَيَتَقَرَّرُ عليه الثَّمَنُ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالتَّوَى على البايع وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عن الْمُشْتَرِي
وَكَذَا لو اسْتَبْدَلَ الْمُشْتَرِي الضَّمَانَ لِيَأْخُذَ مَكَانَهُ من الْجَانِي شيئا آخَرَ جَازَ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وعن ( ( ( وعند ) ) ) مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ هذا تَصَرُّفٌ في المعقود ( ( ( العقود ) ) ) عليه قبل الْقَبْضِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعَيْنِ الْمُسْتَهْلَكَةِ وَالتَّصَرُّفُ في الْمَعْقُودِ عليه قبل الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ لَا من البايع وَلَا من غَيْرِهِ
وَكَذَا الْمَبِيعُ إذَا كان مَصُوغًا من فِضَّةٍ اشْتَرَاهَا بِدِينَارٍ فَاسْتَهْلَكَ الْمَصُوغَ أَجْنَبِيٌّ قبل الْقَبْضِ فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَتَّبِعَ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ وَنَقَدَ الدِّينَارَ البايع فَافْتَرَقَا قبل قَبْضِ ضَمَانِ الْمُسْتَهْلَكِ لَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أبي يُوسُفَ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ تَضْمِينَ الْمُسْتَهْلِكِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَبْطُلُ الصَّرْفُ لِعَدَمِ الْقَبْضِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الضَّمَانَ حُكْمُ الْعَيْنِ لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَيْنِ قَائِمَةٌ مَقَامَهَا وَلِهَذَا بَقِيَ الْعَقْدُ على الْقِيمَةِ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ ثُمَّ الْعَيْنُ لو كانت قَائِمَةً فَهَلَكَتْ قبل الْقَبْضِ كان الْهَلَاكُ على البايع وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عن الْمُشْتَرِي فَكَذَا الْقِيمَةُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ جِنَايَةَ الْأَجْنَبِيِّ حَصَلَتْ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي وَأَمْرِهِ دَلَالَةً فَيَصِيرُ قَابِضًا كما لو فَعَلَ بِنَفْسِهِ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ اخْتِيَارَ الْمُشْتَرِي اتِّبَاعَ الْجَانِي بِالضَّمَانِ تَمْلِيكٌ من الْمَضْمُونِ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمَلَّكُ بِاخْتِيَارِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ سَبَبِ الضَّمَانِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي فَيَصِيرُ
____________________

(5/246)


قَابِضًا لِأَنَّ فِعْلَ الْأَجْنَبِيِّ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ
وَلَوْ أَمَرَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ أَنْ يَعْمَلَ في الْمَبِيعِ عَمَلًا فَإِنْ كان عَمَلًا لَا يُنْقِصُهُ كَالْقِصَارَةِ وَالْغَسْلِ بِأَجْرٍ أو بِغَيْرِ أَجْرٍ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الذي لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الْمَحَلِّ مِمَّا يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ بِالْيَدِ الثَّابِتَةِ كما إذَا نَقَلَهُ من مَكَان إلَى مَكَان فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ اسْتِيفَاءً لِمِلْكِ الْيَدِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا وَتَجِبُ الْأُجْرَةُ على الْمُشْتَرِي إنْ كان بِأَجْرٍ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ قد صَحَّتْ لِأَنَّ الْعَمَلَ على الْبَائِعِ ليس بِوَاجِبٍ فَجَازَ أَنْ تُقَابِلَهُ الْأُجْرَةُ وَإِنْ كان عَمَلًا يُنْقِصُهُ يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّ تَنْقِيصَهُ إتْلَافُ جُزْءٍ منه وقد حَصَلَ بِأَمْرِهِ فَكَانَ مُضَافًا إلَيْهِ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا أَسْلَمَ في كُرِّ حِنْطَةٍ فلما حَلَّ الْأَجَلُ أَمَرَ رَبُّ السَّلَمِ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ أَنْ يَكِيلَهُ في غَرَائِرِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ أو دَفَعَ إلَيْهِ غَرَائِرَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكِيلَهُ فيها فَفَعَلَ أَنَّهُ إنْ كان رَبُّ السَّلَمِ حَاضِرًا يَصِيرُ قَابِضًا بِالتَّخْلِيَةِ وَإِنْ كان غَائِبًا لَا يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّ الْحِنْطَةَ التي يَكِيلُهَا الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِلْكُهُ لَا مِلْكُ رَبِّ السَّلَمِ لِأَنَّ حَقَّهُ في الدَّيْنِ لَا في الْعَيْنِ فلم يَصِحَّ أَمْرُ الْمُشْتَرِي إيَّاهُ بِكَيْلِهَا فلم يَصِرْ وَكِيلًا له فَلَا تَصِيرُ يَدُهُ يَدَ رَبِّ السَّلَمِ سَوَاءٌ كانت الْغَرَائِرُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ أو لِرَبِّ السَّلَمِ لِأَنَّ يَدَ رَبِّ السَّلَمِ عن الْغَرَائِرِ قد زَالَتْ فإذا كَالَ فيها الْحِنْطَةُ لم تَصِرْ في يَدِ رَبِّ السَّلَمِ فَلَا يَصِيرُ قَابِضًا وَكَذَا لو اسْتَقْرَضَ من رَجُلٍ كُرًّا وَدَفَعَ إلَيْهِ غَرَائِرَهُ لِيَكِيلَهُ فيها فَفَعَلَ وهو غَائِبٌ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّ الْقَرْضَ لَا يُمْلَكُ قبل الْقَبْضِ فَكَانَ الْكُرُّ على مِلْكِ الْمُقْرِضِ فلم يَصِحَّ أَمْرُ الْمُسْتَقْرِضِ إيَّاهُ بِكَيْلِهِ فَلَا يَصِيرُ وَكِيلًا له فَلَا تَصِيرُ يَدُهُ يَدَ الْمُسْتَقْرِضِ كما في السَّلَمِ
وَلَوْ اشْتَرَى من إنْسَانٍ كُرًّا بِعَيْنِهِ وَدَفَعَ غَرَائِرَهُ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَكِيلَ فيها فَفَعَلَ صَارَ قَابِضًا سَوَاءٌ كان الْمُشْتَرِي حَاضِرًا أو غَائِبًا لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه مُعَيَّنٌ وقد مَلَكَهُ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَصَحَّ أَمْرُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ تَنَاوَلَ عَيْنًا هو مِلْكُهُ فَصَحَّ أَمْرُهُ وَصَارَ البايع وَكِيلًا له وَصَارَتْ يَدُهُ يَدَ الْمُشْتَرِي وَكَذَلِكَ الطَّحْنُ إذَا طَحَنَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِأَمْرِ رَبِّ السَّلَمِ لم يَصِرْ قَابِضًا
وَلَوْ طَحَنَهُ الْبَائِعُ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي صَارَ قَابِضًا لِأَنَّ الطَّحْنَ بِمَنْزِلَةِ الْكَيْلِ في الْغَرَائِرِ
وَلَوْ اسْتَعَارَ الْمُشْتَرِي من الْبَائِعِ غَرَائِرَهُ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَكِيلَهُ فيها فَفَعَلَ فَإِنْ كان الْمُشْتَرِي حَاضِرًا يَصِيرُ قَابِضًا بِالتَّخَلِّي بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان غَائِبًا لَا يَصِيرُ قَابِضًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ ما لم يُسَلِّمْ الْغَرَائِرَ إلَيْهِ سَوَاءٌ كانت الْغَرَائِرُ بِغَيْرِ عَيْنِهَا أو بِعَيْنِهَا
وقال أبو يُوسُفَ إنْ كانت بِعَيْنِهَا صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا بِنَفْسِ الْكَيْلِ فيها وَإِنْ كانت بِغَيْرِ عَيْنِهَا بِأَنْ قال أَعِرْنِي غِرَارَةً وَكِلْ فيها لَا يَصِيرُ قَابِضًا
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْغَرَائِرَ عَارِيَّةٌ في الْوَجْهَيْنِ جميعا ولم يَقْبِضْهَا وَالْعَارِيَّةُ لَا حُكْمَ لها بِدُونِ الْقَبْضِ فَبَقِيَتْ في يَدِ الْبَائِعِ فَبَقِيَ ما فيها في يَدِ البايع أَيْضًا فَلَا يَصِيرُ في يَدِ الْمُشْتَرِي قَابِضًا إلَّا بِتَسْلِيمِ الْغَرَائِرِ إلَيْهِ
وَلِأَبِي يُوسُفَ الْفَرْقُ بين حَالَةِ التَّعْيِينِ وَعَدَمِ التَّعْيِينِ وهو أَنَّ الْغَرَائِرَ إذَا كانت مُعَيَّنَةً مُشَارًا إلَيْهَا فَإِنْ لم يُمْكِنْ تَصْحِيحُ التَّعْيِينِ من حَيْثُ كَوْنِهِ اسْتِعَارَةً يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ من حَيْثُ إقَامَتِهَا مَقَامَ يَدِهِ وإذا لم تَكُنْ مُتَعَيَّنَةٌ فَلَا وَجْهَ لِلْإِعَارَةِ بِوَجْهٍ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَظْهَرُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ اشْتَرَى كُرًّا بِعَيْنِهِ وَلَهُ على البايع كُرُّ دَيْنٍ فَأَعْطَاهُ جَوْلَقًا وقال له كِلْهُمَا فيه فَفَعَلَ صَارَ قَابِضًا لَهُمَا سَوَاءٌ كان الْمَبِيعُ أَوَّلًا أو الدَّيْنُ
وَهَذَا قَوْلُ أبي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ إنْ كان الْمَبِيعُ أَوَّلًا يَصِيرُ قَابِضًا لَهُمَا كما قال أبو يُوسُفَ وَإِنْ كان الدَّيْنُ أَوَّلًا لم يَصِرْ قَابِضًا لِلدَّيْنِ وكان قَابِضًا لِلْعَيْنِ وَكَانَا شركين ( ( ( شريكين ) ) ) فيه
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إن نَفْسَ الْكَيْلِ في الدَّيْنِ ليس بِقَبْضٍ لِمَا ذَكَرْنَا فإذا بَدَأَ بِكَيْلِهِ لم يَصِرْ الْمُشْتَرِي قَابِضًا له فإذا كَالَهُ بَعْدَهُ فَقَدْ خَلَطَ مِلْكَ الْمُشْتَرِي بِمِلْكِ نَفْسِهِ فَيَشْتَرِكَانِ في الْمَخْلُوطِ وَنَفْسُ الْكَيْلِ في الْعَيْنِ قَبْضٌ فإذا بَدَأَ بِكَيْلِهِ صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا له ثُمَّ إذَا كان ( ( ( كال ) ) ) الدَّيْنَ بَعْدَهُ فَقَدْ اسْتَهْلَكَ الْعَيْنَ بِالْخَلْطِ فَقَامَ ذلك الدَّيْنُ مَقَامَ الْعَيْنِ فَصَارَ قَابِضًا له
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْبَائِعَ خَلَطَ مِلْكَ الْمُشْتَرِي بِمِلْكِ نَفْسِهِ في الْحَالِ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ مُضَافًا إلَى الْمُشْتَرِي وَالْخَلْطُ من أَسْبَابِ التَّمَلُّكِ في الْجُمْلَةِ فَيَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الدَّيْنَ بِالْخَلْطِ وقد جَعَلَهُ في غَرَائِرِهِ بِأَمْرِهِ فَصَارَ قَابِضًا له وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ بَاعَ قُطْنًا في فِرَاشٍ أو حِنْطَةً في سُنْبُلٍ وسلم كَذَلِكَ فَإِنْ أَمْكَنَ الْمُشْتَرِيَ قَبْضُ الْقُطْنِ أو الْحِنْطَةِ من غَيْرِ فَتْقِ الْفِرَاشِ أو دَقُّ السُّنْبُلِ صَارَ قَابِضًا له لِحُصُولِ مَعْنَى الْقَبْضِ وهو التَّخَلِّي وَالتَّمَكُّنُ من التَّصَرُّفِ وَإِنْ لم يُمْكِنْهُ إلَّا بِالْفَتْقِ وَالدَّقِّ لم يَصِرْ قَابِضًا له لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْفَتْقَ أو الدَّقَّ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ في مِلْكِ الْبَائِعِ وهو لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في مِلْكِهِ فلم يَحْصُلْ التَّمَكُّنُ وَالتَّخَلِّي فَلَا يَصِيرُ قَابِضًا وَلَوْ بَاعَ الثَّمَرَةَ على الشَّجَرَةِ وسلم كَذَلِكَ صَارَ قَابِضًا لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْجِذَاذُ من غَيْرِ تَصَرُّفٍ في مِلْكِ
____________________

(5/247)


الْبَائِعِ فَحَصَلَ التَّخَلِّي بِتَسْلِيمِ الشَّجَرِ فَكَانَ قَبْضًا بِخِلَافِ بَيْعِ الْقُطْنِ في الْفِرَاشِ وَالْحِنْطَةِ في السُّنْبُلِ وَلِهَذَا قالوا إنَّ أُجْرَةَ الْجِذَاذِ على الْمُشْتَرِي وَأُجْرَةَ الْفَتْقِ وَالدَّقِّ على الْبَائِعِ إذَا كان الْمُشْتَرِي لَا يُمْكِنُهُ الْقَبْضُ إلَّا بِهِ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِلثَّمَنِ بِتَسْلِيمِ الشَّجَرِ فَكَانَ الْجَاذُّ عَامِلًا لِلْمُشْتَرِي فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ عليه ولم يَحْصُلْ الْقَبْضُ بِتَسْلِيمِ الْفِرَاشِ وَالسُّنْبُلِ فَكَانَ الْفَتْقُ وَالدَّقُّ على الْبَائِعِ مِمَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ التَّسْلِيمُ فَكَانَتْ أُجْرَتُهُ عليه
هذا إذَا كان الْمَبِيعُ في يَدِ الْبَائِعِ وَقْتَ الْبَيْعِ فَأَمَّا إذَا كان في يَدِ الْمُشْتَرِي فَهَلْ يَصِيرُ قَابِضًا لِلْبَيْعِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ أَمْ يَحْتَاجُ فيه إلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ فَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الْمَوْجُودَ وَقْتَ الْعَقْدِ إنْ كان مِثْلَ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ يَنُوبُ مَنَابَهُ وَإِنْ لم يَكُنْ مثله فَإِنْ كان أَقْوَى من الْمُسْتَحَقِّ نَابَ عنه وَإِنْ كان دُونَهُ لَا يَنُوبُ لِأَنَّهُ إذَا كان مثله أَمْكَنَ تَحْقِيقُ التَّنَاوُبِ لِأَنَّ الْمُتَمَاثِلَيْنِ غَيْرَانِ يَنُوبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنَابَ صَاحِبِهِ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ وأن كان أَقْوَى منه يُوجَدُ فيه الْمُسْتَحَقُّ وَزِيَادَةٌ وَإِنْ كان دُونَهُ لَا يُوجَدُ فيه إلَّا بَعْضُ الْمُسْتَحَقِّ فَلَا يَنُوبُ عن كُلِّهِ
وَبَيَانُ ذلك في مَسَائِلَ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيها أَنَّ يَدَ الْمُشْتَرِي قبل الشِّرَاءِ إمَّا إن كانت يَدَ ضَمَانٍ وَإِمَّا إن كانت يَدَ أَمَانَةٍ فَإِنْ كانت يَدَ ضَمَانٍ فَإِمَّا إن كانت يَدَ ضَمَانٍ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا إن كانت يَدَ ضَمَانٍ بِغَيْرِهِ فَإِنْ كانت يَدَ ضَمَانٍ بِنَفْسِهِ كيدا ( ( ( كيد ) ) ) لغاصب ( ( ( الغاصب ) ) ) يَصِيرُ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لمبيع ( ( ( للمبيع ) ) ) بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ سَوَاءٌ كان الْمَبِيعُ حَاضِرًا أو غَائِبًا لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ وَالْمَبِيعُ بَعْدَ الْقَبْضِ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ فَتَجَانَسَ الْقَبْضَانُ فَنَابَ أَحَدُهُمَا عن الْآخَرِ لِأَنَّ التَّجَانُسَ يَقْتَضِي التَّشَابُهَ وَالْمُتَشَابِهَانِ يَنُوبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنَابَ صَاحِبِهِ وَيَسُدُّ مَسَدَهُ سَوَاءٌ كان الْمَبِيعُ حَاضِرًا أو غَائِبًا لِأَنَّ يَدَ الْغَاصِبِ في الْحَالَيْنِ يَدُ ضَمَانٍ وَإِنْ كان يَدُهُ يَدَ ضَمَانٍ لِغَيْرِهِ كَيَدِ الرَّهْنِ بِأَنْ بَاعَ الرَّاهِنُ الْمَرْهُونَ من الْمُرْتَهِنِ فإنه لَا يَصِيرُ قَابِضًا إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ حَاضِرًا أو يَذْهَبَ إلَى حَيْثُ الرَّهْنِ وَيَتَمَكَّنُ من قَبْضِهِ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ ليس بِمَضْمُونٍ بِنَفْسِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ وهو الدَّيْنُ وَالْمَبِيعُ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ فلم يَتَجَانَسْ الْقَبْضَانُ فلم يَتَشَابَهَا فَلَا يَنُوبُ أَحَدُهُمَا عن الْآخَرِ
وَلِأَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ في الْحَقِيقَةِ فَكَانَ قَبْضُهُ قَبْضَ أَمَانَةٍ
وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ بِهَلَاكِهِ لِمَعْنًى آخَرَ لَا لِكَوْنِهِ مَضْمُونًا على ما عُرِفَ
وإذا كان أَمَانَةً فَقَبْضُ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عن قَبْضِ الضَّمَانِ كَقَبْضِ الْعَارِيَّةِ والوديعة
وَإِنْ كانت يَدُ الْمُشْتَرِي يَدَ أَمَانَةٍ كَيَدِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا إلَّا أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِهِ أو يَذْهَبُ إلَى حَيْثُ يَتَمَكَّنُ من قَبْضِهِ بِالتَّخَلِّي
لِأَنَّ يَدَ الْأَمَانَةِ لَيْسَتْ من جِنْسِ يَدِ الضَّمَانِ فَلَا يَتَنَاوَبَانِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي في قَبْضِ الْمَبِيعِ فقال الْبَائِعُ قَبَضْتَهُ
وقال الْمُشْتَرِي لم أَقْبِضْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ البايع يَدَّعِي عليه وُجُودَ الْقَبْضِ وَتَقَرُّرَ الثَّمَنِ وهو يُنْكِرُ وَلِأَنَّ عَدَمَ الْقَبْضِ أَصْلٌ وَالْوُجُودُ عَارِضٌ فَكَانَ الْمُشْتَرِي تمسكا ( ( ( متمسكا ) ) ) بِالْأَصْلِ والبايع ( ( ( والبائع ) ) ) يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُشْتَرِي فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ
وَكَذَا إذَا قَبَضَ بَعْضَهُ وَاخْتَلَفَا في قَدْرِ الْمَقْبُوضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اخْتَلَفَا في قَبْضِ الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا في قَبْضِ الْمَبِيعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ اخْتَلَفَا فقال الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي قَطَعْتَ يَدَهُ فَصِرْتَ قَابِضًا وقال الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ أنت قَطَعْتَ يَدَهُ وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ فيه لم يُقْبَلْ قَوْلُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على صَاحِبِهِ وَيُجْعَلُ كأنه ( ( ( كأن ) ) ) يَدَهُ ذَهَبَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لِتَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ وَانْعِدَامِ دَلِيلِ التَّرْجِيحِ لِأَحَدِهِمَا فَلَا يَكُونُ قَوْلُ أَحَدِهِمَا بِالْقَبُولِ على صَاحِبِهِ أَوْلَى من قَوْلِ الْآخَرِ فَلَا يُقْبَلُ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهَا ذَهَبَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي لِتَغَيُّرِ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ على الْبَائِعِ فَإِنْ اخْتَارَ الْأَخْذَ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على دَعْوَى صَاحِبِهِ وَيَأْخُذُ
كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في شَرْحِهِ
أَمَّا تَحْلِيفُ الْبَائِعِ فَلَا إشْكَالَ فيه لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي عليه سُقُوطَ بَعْضِ الثَّمَنِ وهو يُنْكِرُ فَيَحْلِفُ لِأَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي شَيْءٌ من الثَّمَنِ فَكَانَ تَحْلِيفُهُ مُفِيدًا
وَأَمَّا تَحْلِيفُ الْمُشْتَرِي فَمُشْكِلٌ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ شيئا لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ بَعْدَ الْحَلِفِ بِكُلِّ الثَّمَنِ وَهَذَا فِيمَا إذَا اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ على الْبَائِعِ لِأَنَّهُ لَا يَحْلِفُ الْبَائِعُ بَلْ يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ لِأَنَّ تَحْلِيفَ الْبَائِعِ لَا يُفِيدُهُ شيئا حَيْثُ يَرُدُّهُ عليه
وَكَذَلِكَ لو كان الْمَبِيعُ مِمَّا يُكَالُ أو يُوزَنُ فَذَهَبَ بَعْضُهُ فَاخْتَلَفَا فقال الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي أنت أَكَلْت وقال الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ مِثْلَ ذلك إنه لَا يُقْبَلُ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على صَاحِبِهِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ ذَهَبَ بَعْضُهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لِمَا قُلْنَا وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ إنْ اخْتَارَ الْأَخْذَ أ
____________________

(5/248)


خذ الْبَاقِيَ بِمَا بَقِيَ من الثَّمَنِ لِأَنَّ الْقَدْرَ في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مَعْقُودٌ عليه فَكَانَ له حِصَّةٌ من الثَّمَنِ وَالْأَطْرَافُ من الْحَيَوَانِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَوْصَافِ فَلَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ إلَّا إذَا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالْقَبْضِ أو بِالْجِنَايَةِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَهُنَا أَيْضًا أَنَّهُ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على دَعْوَى صَاحِبِهِ وَيَأْخُذُ وَلَا إشْكَالَ هَهُنَا في تَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ التَّحْلِيفَ مُفِيدٌ في حَقِّهِ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عليه كُلَّ الثَّمَنِ وهو يُنْكِرُ فَيَنْدَفِعُ عنه لُزُومُ كل الثَّمَنِ بِالْحَلِفِ فَكَانَ مُفِيدًا
وَأَمَّا تَحْلِيفُ الْبَائِعِ فَفِيهِ إشْكَالٌ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي عليه سُقُوطَ بَعْضِ الثَّمَنِ وَذَا حَاصِلٌ له من غَيْرِ تَحْلِيفِهِ فلم يَكُنْ تَحْلِيفُهُ مُفِيدًا في حَقِّهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْلِفَ
وَإِنْ اخْتَارَ الرَّدَّ على الْبَائِعِ حَلَفَ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ دُونَ الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهَا قَامَتْ على أَمْرٍ جَائِزِ الْوُجُودِ وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ
أَلَا تَرَى أنها تُوجِبُ دُخُولَ السِّلْعَةِ في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَتُقَرِّرُ الثَّمَنَ عليه وَبَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي نَافِيَةٌ فَالْمُثْبِتَةُ أَوْلَى
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا ثُبُوتُ حَقِّ الْحَبْسِ لِلْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في قَوْلٍ يُسَلَّمَانِ مَعًا وفي قَوْلٍ يُسَلَّمُ الْمَبِيعُ أَوَّلًا ثُمَّ يُسَلَّمُ الثَّمَنُ
أَمَّا قَوْلُهُ الْأَوَّلُ فَبِنَاءً على أَصْلِهِ الذي ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وهو أَنَّ الثَّمَنَ وَالْمَبِيعَ من الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ عِنْدَهُ وَيَتَعَيَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّعْيِينِ فَكَانَ كُلُّ ثَمَنٍ مَبِيعًا وَكُلُّ مبيعا ( ( ( مبيع ) ) ) ثَمَنًا
وَأَمَّا قَوْلُهُ الثَّانِي وهو أَنَّ في تَقْدِيمِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ صِيَانَةَ الْعَقْدِ عن الِانْفِسَاخِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ وَلَيْسَ ذلك في تَقْدِيمِ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ لو هَلَكَ الْمَبِيعُ قبل الْقَبْضِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَإِنْ قَبَضَ الثَّمَنَ فَكَانَ تَقْدِيمُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ أَوْلَى صِيَانَةً لِلْعَقْدِ عن الِانْفِسَاخِ ما أَمْكَنَ
وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الدَّيْنُ مَقْضِيٌّ وَصَفَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الدَّيْنَ بِكَوْنِهِ مَقْضِيًّا عَامًّا أو مُطْلَقًا فَلَوْ تَأَخَّرَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ عن تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لم يَكُنْ هذا الدَّيْنُ مَقْضِيًّا وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ
وَرُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال ثَلَاثٌ لَا يُؤَخَّرْنَ الْجِنَازَةُ إذَا حَضَرَتْ وَالْأَيِّمُ إذَا وَجَدَتْ لها كفء وَالدَّيْنُ إذَا وَجَدْتَ ما يَقْضِيهِ وَتَقْدِيمُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ تَأْخِيرُ الدَّيْنِ وإنه مَنْفِيٌّ بِظَاهِرِ النَّصِّ وَلِأَنَّ الْمُعَاوَضَاتِ مَبْنَاهَا على الْمُسَاوَاةِ عَادَةً وَحَقِيقَةً وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ إلَّا بِتَقْدِيمِ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مُتَعَيِّنٌ قبل التَّسْلِيمِ وَالثَّمَنَ لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ على أَصْلِنَا فَلَا بُدَّ من تَسْلِيمِهِ أَوَّلًا تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ
وَقَوْلُهُ فِيمَا قُلْتَهُ صِيَانَةٌ لِلْعَقْدِ عن الِانْفِسَاخِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ
قُلْنَا هَلَاكُهُ قبل تَسْلِيمِ الثَّمَنِ نَادِرٌ وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فَيَلْزَمُ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْمُسَاوَاةِ ثُمَّ الْكَلَامُ في هذا الْحُكْمِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ شَرْطِ ثُبُوتِ هذا الْحُكْمِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَبْطُلُ بِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ
أَمَّا شَرْطُ ثُبُوتِهِ فَشَيْئَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ عَيْنًا وَالْآخَرُ دَيْنًا فَإِنْ كَانَا عَيْنَيْنِ أو دَيْنَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحَبْسِ بَلْ يُسَلَّمَانِ مَعًا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ حَالًّا فَإِنْ كان مُؤَجَّلًا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحَبْسِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْحَبْسِ تَثْبُتُ حَقًّا لِلْبَائِعِ لطلبة الْمُسَاوَاةَ عَادَةً لِمَا بَيَّنَّا وَلَمَّا بَاعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَبَطَلَتْ الْوِلَايَةُ
وَلَوْ كان الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا في الْعَقْدِ فلم يَقْبِضْ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ حتى حَلَّ الْأَجَلُ فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ بِالتَّأْجِيلِ وَالسَّاقِطُ متلاشي ( ( ( متلاش ) ) ) فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ
وَكَذَلِكَ لو طَرَأَ الْأَجَلُ على الْعَقْدِ بِأَنْ أُخِّرَ الثَّمَنُ بَعْدَ الْعَقْدِ فلم يَقْبِضْ الْبَائِعُ حتى حَلَّ الْأَجَلُ له أَنْ يَقْبِضَهُ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ وَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ حَبْسَهُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ بَاعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فلم يَقْبِضْ الْمُشْتَرِي حتى حَلَّ الْأَجَلُ هل له أَجَلٌ آخَرُ في الْمُسْتَقْبَلِ
يُنْظَرُ إنْ ذَكَرَا أَجَلًا مُطْلَقًا بِأَنْ ذَكَرَا سَنَةً مُطْلَقَةً غير مُعَيَّنَةٍ فَلَهُ أَجَلٌ آخَرُ هو سَنَةٌ أُخْرَى من حِينِ يَقْبِضُ الْمَبِيعَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الثَّمَنُ حَالٌ وَلَيْسَ له أَجَلٌ آخَرُ
وَإِنْ ذَكَرَا أَجَلًا بِعَيْنِهِ بِأَنْ بَاعَهُ إلَى رَمَضَانَ فلم يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي حتى مَضَى رَمَضَانُ صَارَ الثَّمَنُ حَالًا بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ السَّنَةَ الْمُطْلَقَةَ تَنْصَرِفُ إلَى سَنَةٍ تَعْقُبُ الْعَقْدَ بِلَا فَصْلٍ فإذا مَضَتْ انْتَهَى الْأَجَلُ كما لو عُيِّنَ الْأَجَلُ نَصًّا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأَصْلَ في الثَّمَنِ شُرِعَ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي لِيَنْتَفِعَ بِالْمَبِيعِ في الْحَالِ مع تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ وَلَنْ يَحْصُلَ هذا الْغَرَضُ له إلَّا وَأَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ الْأَجَلِ من وَقْتِ قَبْضِ الْمَبِيعِ فَكَانَ هذا تَأْجِيلًا من هذا الْوَقْتِ دَلَالَةً بِخِلَافِ ما إذَا عَيَّنَ الْأَجَلَ لِأَنَّهُ نَصَّ على تَعَيُّنِهِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْمَنْصُوصِ عليه إذْ لَا دَلَالَةَ مع النَّصِّ بِخِلَافِهَا
وَلَوْ كان في الْبَيْعِ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُمَا أو لِأَحَدِهِمَا وَالْأَجَلُ مُطْلَقٌ فَابْتِدَاءُ الْأَجَلِ من حِينِ وُجُوبِ الْعَقْدِ
____________________

(5/249)


وهو وَقْتُ سُقُوطِ الْخِيَارِ لَا من حِينِ وُجُودِهِ لِأَنَّ تَأْجِيلَ الثَّمَنِ هو تَأْخِيرُهُ عن وَقْتِ وُجُوبِهِ وَوَقْتُ وُجُوبِهِ هو وَقْتُ الْعَقْدِ وَانْبِرَامِهِ لَا قَبْلَهُ إذْ لَا وُجُوبَ لِلثَّمَنِ قَبْلَهُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْحَبْسِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وما لَا يَبْطُلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إذَا أَخَّرَ الثَّمَنَ بَعْدَ الْعَقْدِ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ أَخَّرَ حَقَّ نَفْسِهِ في قَبْضِ الثَّمَنِ فَلَا يَتَأَخَّرُ حَقُّ الْمُشْتَرِي في قَبْضِ الْمَبِيعِ
وَكَذَا الْمُشْتَرِي إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ كُلَّهُ أو أَبْرَأَهُ الْبَائِعُ عن كُلِّهِ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ وَاسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ وَلَا ثَمَنَ مُحَالٌ
وَلَوْ نَقَدَ الثَّمَنَ كُلَّهُ إلَّا دِرْهَمًا كان له حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ جَمِيعِهِ لِاسْتِيفَاءِ الْبَاقِي لِأَنَّ الْمَبِيعَ في اسْتِحْقَاقِ الْحَبْسِ بِالثَّمَنِ لَا يَتَجَزَّأُ فَكَانَ كُلُّ الْمَبِيعِ مَحْبُوسًا بِكُلِّ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الثَّمَنِ
وَكَذَلِكَ لو بَاعَ شَيْئَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا فَنَقَدَ الْمُشْتَرِي حِصَّةَ أَحَدِهِمَا كان لِلْبَائِعِ حَبْسُهُمَا حتى يَقْبِضَ حَقَّ الْآخَرِ لِمَا قُلْنَا وَلِأَنَّ قَبْضَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ في حَقِّ الْقَبْضِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ في حَقِّ الْقَبُولِ بِأَنْ يَقْبَلَ الْإِيجَابَ في أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَلَا يَمْلِكُ التَّفْرِيقَ في حَقِّ الْقَبْضِ أَيْضًا لِأَنَّ القبض ( ( ( للقبض ) ) ) شِبْهًا بِالْعَقْدِ
وَكَذَلِكَ لو أَبْرَأَهُ من حِصَّةِ أَحَدِهِمَا فَلَهُ حَبْسُ الْكُلِّ لِاسْتِيفَاءِ الْبَاقِي لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَلِكَ لو بَاعَ من اثْنَيْنِ فَنَقَدَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ كان له حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حتى يَقْبِضَ ما على الْآخَرِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ في النَّوَادِرِ أَنَّهُ إذَا نَقَدَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ الثَّمَنِ يَأْخُذُ نِصْفَ الْمَبِيعِ
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَاجِبَ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الثَّمَنِ فإذا أَدَّى النِّصْفَ فَقَدْ أَدَّى ما وَجَبَ عليه فَلَا مَعْنَى لِتَوَقُّفِ حَقِّهِ في قَبْضِ الْمَبِيعِ على أَدَاءِ صَاحِبِهِ وَلِأَنَّهُ لو تَوَقَّفَ وَصَاحِبُهُ مُخْتَارٌ في الْأَدَاءِ قد يُؤَدِّي وقد لَا يُؤَدِّي فَيَفُوتُ حَقُّهُ أَصْلًا وَرَأْسًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِهَذَا جُعِلَ التَّخْلِيَةُ وَالتَّخَلِّي تَسْلِيمًا وَقَبْضًا في الشَّرْعِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَبِيعَ في حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ لِحَبْسِ الثَّمَنِ لَا يَحْتَمِلُ التجزي ( ( ( التجزؤ ) ) ) فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ بَعْضِهِ اسْتِحْقَاقَ كُلِّهِ وما ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ فَلَا تَحْتَمِلُ التَّفْرِيقَ في الْبَعْضِ كما لَا تَحْتَمِلُهُ في الْقَبُولِ فَإِنْ غَابَ أَحَدُهُمَا لم يُجْبَرْ الْآخَرُ على تَسْلِيمِ كل الثَّمَنِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الثَّمَنِ لَا كُلُّهُ فَلَا يُؤَاخَذُ بِتَسْلِيمِ كُلِّهِ فَإِنْ اخْتَارَ الْحَاضِرُ ذلك وَنَقَدَ كُلَّ الثَّمَنِ وَقَبَضَ الْمَبِيعَ هل يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا تقدم ( ( ( نقد ) ) ) أَمْ لَا أخلف ( ( ( اختلف ) ) ) فيه قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا نَقَدَ وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ عن الشَّرِيكِ الْغَائِبِ حتى يَسْتَوْفِيَ ما نَقَدَ عنه
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هو مُتَبَرِّعٌ في حِصَّتِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا كما في سَائِرِ الدُّيُونِ وَلَهُمَا أَنَّهُ قَضَى دَيْنَ صَاحِبِهِ بِأَمْرِهِ دَلَالَةً فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا كما لو قَضَاهُ بِأَمْرِهِ نَصًّا
وَدَلَالَةُ ذلك أَنَّهُ لَمَّا غَابَ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ مع عِلْمِهِ أَنَّ صَاحِبَهُ اسْتَحَقَّ قَبْضَ نَصِيبِهِ من الْمَبِيعِ بِتَسْلِيمِ حِصَّتِهِ من الثَّمَنِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بِتَسْلِيمِ كل الثَّمَنِ كان إذْنًا له بِتَسْلِيمِ حِصَّتِهِ من الثَّمَنِ فَكَانَ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ دَلَالَةً فلم يَكُنْ مُتَطَوِّعًا وَصَارَ هذا كَمَنْ أَعَارَ مَالَهُ إنْسَانًا لِيَرْهَنَهُ بِدَيْنِهِ فَرَهَنَ ثُمَّ أفتكه الْغَيْرُ من مَالِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ تبرعا ( ( ( متبرعا ) ) ) وَيَرْجِعُ على الرَّاهِنِ لِأَنَّ الرَّاهِنَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ عَلَّقَ مَالَ الْغَيْرِ بِدَيْنِهِ وَلَا يَزُولُ الْعُلُوقُ إلَّا بِانْفِكَاكِهِ فَكَانَ ادنا ( ( ( إذنا ) ) ) له بِالْفِكَاكِ دَلَالَةً كَذَا هذا وَلَهُ حَقُّ حَبْسِ الْعَبْدِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ ما نَقَدَ عنه كما لو نَقَدَ بِأَمْرِهِ نَصًّا وَلَوْ أَدَّى جَمِيعَ الثَّمَنِ وَقَبَضَ الْعَبْدَ ثُمَّ هَلَكَ في يَدِهِ قبل الْحَبْسِ يَرْجِعُ على شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ أَدَّى عنه بِأَمْرِهِ دَلَالَةً على ما ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَالرَّهْنُ بِالثَّمَنِ وَالْكَفَالَةُ بِهِ لَا يُبْطِلَانِ حَقَّ الْحَبْسِ لِأَنَّهُمَا لَا يُسْقِطَانِ الثَّمَنَ عن ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي وَلَا حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِهِ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَعْيِينِهِ بِالْقَبْضِ قَائِمَةً فَيَبْقَى حَقُّ الْحَبْسِ لِاسْتِيفَائِهِ وَأَمَّا الْحَوَالَةُ بِالثَّمَنِ فَهَلْ تُبْطِلُ حَقَّ الْحَبْسِ قال أبو يُوسُفَ تُبْطِلُ سَوَاءٌ كانت الْحَوَالَةُ من الْمُشْتَرِي بِأَنْ أَحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ على إنْسَانٍ وَقَبِلَ الْمُحَالُ عليه الْحَوَالَةَ أو من الْبَائِعِ بِأَنْ أَحَالَ الْبَائِعُ غَرِيمًا له على الْمُشْتَرِي
وقال مُحَمَّدٌ إنْ كانت الْحَوَالَةُ من الْمُشْتَرِي لَا تَبْطُلُ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ حتى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ من الْمُحَالِ عليه وَإِنْ كانت من الْبَائِعِ فَإِنْ كانت مُطْلَقَةً لَا تَبْطُلُ أَيْضًا وَإِنْ كانت مُقَيَّدَةً بِمَا عليه تَبْطُلُ فَأَبُو يُوسُفَ أَرَادَ بَقَاءَ الْحَبْسِ على بَقَاءِ الدَّيْنِ في ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي وَذِمَّتُهُ بَرِئْت من دَيْنِ الْمُحِيلِ بِالْحَوَالَةِ فَيَبْطُلُ حَقُّ الْحَبْسِ وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ بَقَاءَ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِبَقَاءِ حَقِّ الْحَبْسِ وَحَقُّ الْمُطَالَبَةِ لم يَبْطُلْ بِحَوَالَةِ
____________________

(5/250)


الْمُشْتَرِي
أَلَا تَرَى أَنَّ له أَنْ يُطَالِبَ الْمُحَالَ عليه فلم يَبْطُلْ حَقُّ الْحَبْسِ وَبَطَلَتْ حَوَالَةُ الْبَائِعِ إذَا كانت مُقَيَّدَةً بِمَا على الْمُحَالِ عليه فَبَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ
وَالصَّحِيحُ اعْتِبَارُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ في الشَّرْعِ يَدُورُ مع حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ لَا مع قِيَامِ الثَّمَنِ في ذَاتِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الثَّمَنَ إذَا كان مُؤَجَّلًا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحَبْسِ وَالثَّمَنُ في ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي قَائِمٌ وَإِنَّمَا سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ دَلَّ أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ يَتْبَعُ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ لَا قِيَامُ الثَّمَنِ في ذَاتِهِ وَحَقَّ الْمُطَالَبَةِ في حَوَالَةِ الْمُشْتَرِي وَحَوَالَةُ الْبَائِعِ إذَا كانت مُطْلَقَةً فَكَانَ حَقُّ الْحَبْسِ ثَابِتًا وفي حَوَالَةِ الْبَائِعِ إذَا كانت مُقَيَّدَةً يَنْقَطِعُ فلم يَنْقَطِعْ حَقُّ الْحَبْسِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا أَحَالَ الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ بِدَيْنِهِ على رَجُلٍ أو أَحَالَ الْمُرْتَهِنُ غَرِيمًا له بِدَيْنِهِ على الرَّاهِنِ حَوَالَةً مُطْلَقَةً أو مُقَيَّدَةً أَنَّهُ يَبْطُلُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ في حَقِّ حَبْسِ الرَّهْنِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَبْطُلُ في حَوَالَةِ الرَّاهِنِ
وَكَذَا في حَوَالَةِ الْمُرْتَهِنِ إذَا كانت مُطْلَقَةً وَإِنْ كانت مُقَيَّدَةً تَبْطُلُ
وَلَوْ أَعَارَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي أو أَوْدَعَهُ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ حتى لَا يَمْلِكَ اسْتِرْدَادَهُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ عَقْدَ الْإِعَارَةِ وَالْإِيدَاعِ ليس بِعَقْدٍ لَازِمٍ فَكَانَ له وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ كَالْمُرْتَهِنِ إذَا أَعَارَ الرَّهْنَ من الرَّاهِنِ أو أَوْدَعَهُ إيَّاهُ له أَنْ يَسْتَرِدَّهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِعَارَةَ وَالْإِيدَاعَ أَمَانَةٌ في يَدِ الْمُشْتَرِي وهو لَا يَصْلُحُ نَائِبًا عن الْبَائِعِ في الْيَدِ لِأَنَّهُ أَصْلٌ في الْمِلْكِ فَكَانَ أَصْلًا في الْيَدِ فإذا وَقَعَتْ الْعَارِيَّةُ أو الْوَدِيعَةُ في يَدِهِ وَقَعَتْ بِجِهَةِ الْأَصَالَةِ وَهِيَ يَدُ الْمِلْكِ وَيَدُ الْمِلْكِ يَدٌ لَازِمَةٌ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهَا بِالِاسْتِرْدَادِ وَبِخِلَافِ الرَّهْنِ فإن الْمُرْتَهِنَ في الْيَدِ الثَّابِتَةِ بِعَقْدِ الرَّهْنِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ فَيُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْإِنَابَةِ وَيَدُ النِّيَابَةِ لَا تَكُونُ لَازِمَةً فَمَلَكَ الِاسْتِرْدَادَ
وَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ حتى لَا يَمْلِكَ الِاسْتِرْدَادَ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ حَقَّهُ بِالْإِذْنِ بِالْقَبْضِ وَلَوْ قَبَضَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لم يَبْطُلْ وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ لِأَنَّ حَقَّ الْإِنْسَانِ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ عليه من غَيْرِ رِضَاهُ
وَلَوْ كان الْمُشْتَرِي تَصَرَّفَ فيه نُظِرَ في ذلك إنْ كان تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ والأمهار فَسَخَهُ وَاسْتَرَدَّهُ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ وَإِنْ كان تَصَرُّفًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ لِأَنَّ الِاسْتِرْدَادَ وَالْإِعَارَةَ إلَى الْحَبْسِ إمَّا إن كان مع نَقْضِ هذه التَّصَرُّفَاتِ وَإِمَّا إن كان مع قِيَامِهَا لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ هذه التَّصَرُّفَاتِ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّهَا إذَا بَقِيَتْ كانت الْإِعَادَةُ إلَى الْحَبْسِ حَبْسَ الْجُزْءِ من كل وَجْهٍ أو من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَكُلُّ ذلك لَا يَجُوزُ فَبَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ أَصْلًا وَلَوْ نَقَدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ فَوَجَدَهُ الْبَائِعُ زُيُوفًا أو سُتُّوقًا أو مُسْتَحَقًّا أو وَجَدَ بَعْضَهُ كَذَلِكَ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ الْمَبِيعَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لم يَقْبِضْ فَإِنْ كان لم يَقْبِضْهُ كان له حَقُّ الْحَبْسِ في الْفُصُولِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ما استوفي حَقَّهُ وَإِنْ كان قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي يُنْظَرُ إنْ كان قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ في الْفُصُولِ كُلِّهَا لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ إنْ كان الْمُشْتَرِي تَصَرَّفَ في الْمَبِيعِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ تَصَرُّفَهُ وَيَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ إلَّا إذَا كان تَصَرُّفًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلَا يُفْسَخُ وَيُطَالَبُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ فَلَوْ نَقَدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ قبل أَنْ يَفْسَخَ التَّصَرُّفَ الذي يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا يُفْسَخُ لِأَنَّهُ لَمَّا نَقَدَ الثَّمَنَ فَقَدْ بَطَلَ حَقُّهُ في الْحَبْسِ فَبَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ وَالِاسْتِرْدَادِ وَإِنْ كان قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ يُنْظَرُ إنْ وَجَدَهُ زُيُوفًا فَرَدَّهَا لَا يَمْلِكُ اسْتِرْدَادَ الْمَبِيعِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ له أَنْ يَسْتَرِدَّ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْبَائِعَ ما رضي بِزَوَالِ حَقِّ الْحَبْسِ إلَّا بِوُصُولِ حَقِّهِ إلَيْهِ وَحَقُّهُ في الثَّمَنِ السَّلِيمِ لَا في الْمَعِيبِ فإذا وَجَدَهُ مَعِيبًا فلم يُسَلَّمْ له حَقُّهُ فَكَانَ له أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ حتى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَالرَّاهِنِ إذَا قضي دَيْنَ الْمُرْتَهِنِ وَقَبَضَ الرَّهْنَ ثُمَّ إنَّ الْمُرْتَهِنَ وَجَدَ الْمَقْبُوضَ زُيُوفًا كان له أَنْ يَرُدَّهُ وَيَسْتَرِدَّ الرَّهْنَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ الْبَائِعَ يُسَلِّمُ الْمَبِيعَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ جِنْسِ حَقِّهِ فَلَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ بَعْدَ ما اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَدَلَالَةُ ذلك أَنَّ الزُّيُوفَ جِنْسُ حَقِّهِ من حَيْثُ الْأَصْلُ وَإِنَّمَا الْفَائِتُ صِفَةُ الْجَوْدَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو تَجَوَّزَ بِهِ في الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ جَازَ وَلَوْ لم يَكُنْ من جِنْسِ حَقِّهِ لَمَا جَازَ لِأَنَّهُ يَكُونُ اسْتِبْدَالًا بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وإذا كان الْمَقْبُوضُ جِنْسَ حَقِّهِ فَتَسَلُّمُ الْمَبِيعِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ جِنْسِ الْحَقِّ يَمْنَعُ من الِاسْتِرْدَادِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ لِأَنَّ الِارْتِهَانَ اسْتِيفَاءٌ لِحَقِّهِ من الرَّهْنِ وَالِافْتِكَاكَ إيفَاءٌ من مَالٍ آخَرَ فإذا وُجِدَ زُيُوفًا تَبَيَّنَ أَنَّهُ ما استوفي حَقَّهُ
____________________

(5/251)


فَكَانَ له وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ
وَالدَّلِيلُ على التَّفْرِقَةِ بين الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ أَنَّهُ لو أَعَارَ الْمَبِيعَ الْمُشْتَرِي بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ حتى لَا يَمْلِكَ اسْتِرْدَادَهُ وَلَوْ أَعَارَ الْمَرْهُونَ الرَّاهِنُ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْحَبْسِ وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ فَإِنْ وَجَدَهُ سُتُّوقًا أو رَصَاصًا أو مُسْتَحَقًّا وَأَخَذَ منه له أَنْ يَرُدَّ بِخِلَافِ الزُّيُوفِ لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا أَذِنَ لِلْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ على أَنَّهُ استوفي حَقَّهُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَسْتَوْفِ أَصْلًا وَرَأْسًا لِأَنَّ السَّتُّوقَ وَالرَّصَاصَ لَيْسَا من جِنْسِ حَقِّهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو تَجَوَّزَ بها في الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كان الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ على تَقْدِيرِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ وقد تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَسْتَوْفِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَكُنْ آذِنًا له بِالْقَبْضِ وَلَا رَاضِيًا بِهِ فَكَانَ له وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ
وَلَوْ كان الْمُشْتَرِي تَصَرَّفَ فيه فَلَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ عليه سَوَاءٌ كان تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا أو لَا يَكُونُ كَالْإِعْتَاقِ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ ما إذَا قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ وَتَصَرَّفَ فيه تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ أَنَّهُ يُفْسَخُ وَيُسْتَرَدُّ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يُوجَدْ الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ فَكَانَ التَّصَرُّفُ في الْمَبِيعِ إبْطَالًا لِحَقِّهِ فَيُرَدُّ عليه إذَا كان مُحْتَمِلًا لِلرَّدِّ
وَهَهُنَا وُجِدَ الأذن بِالْقَبْضِ فَكَانَ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي حَاصِلًا عن تَسْلِيطِ الْبَائِعِ فَنَفَذَ وَبَطَلَ حَقُّهُ في الِاسْتِرْدَادِ كَالْمَقْبُوضِ على وَجْهِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا تَصَرَّفَ فيه الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَبْطُلُ حَقُّ الْبَائِعِ في الْفَسْخِ إلَّا أَنَّ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا أَجَّرَ الْمَبِيعَ تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ وَهَهُنَا لَا تُفْسَخُ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُفْسَخُ بِالْعُذْرِ وقد تَحَقَّقَ الْعُذْرُ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقُّ الْفَسْخِ حَقًّا لِلشَّرْعِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ فَجُعِلَ اسْتِحْقَاقُ الْفَسْخِ بِسَبَبِ الْفَسَادِ عُذْرًا في فَسْخِ الْإِجَارَةِ وَلَا فَسَادَ هَهُنَا فَلَا عُذْرَ في الْفَسْخِ فَلَا يُفْسَخُ
وَلَوْ كان مَكَانَ الْبَيْعِ كِتَابَةٌ فَأَدَّى الْمُكَاتَبُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَعَتَقَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَوْلَى الْمَقْبُوضَ زُيُوفًا أو مُسْتَحَقًّا فَالْعِتْقُ مَاضٍ فَإِنْ وَجَدَهُ سُتُّوقًا أو رَصَاصًا لَا يَعْتِقُ مما ذَكَرْنَا أَنَّ الزُّيُوفَ من جِنْسِ حَقِّهِ فَصَارَ بِقَبْضِهَا قَابِضًا أَصْلَ حَقِّهِ وَكَذَا قَبْضُ الدَّرَاهِمِ الْمُسْتَحَقَّةِ وَقَعَ صَحِيحًا ظَاهِرًا وَاحْتِمَالُ الْإِجَازَةِ بَعْدَ ظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ ثَابِتٌ أَيْضًا وَالْعِتْقُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ظَاهِرًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِخِلَافِ ما إذَا وَجَدَهَا سُتُّوقًا أو رَصَاصًا لِأَنَّ ذلك ليس من جِنْسِ حَقِّهِ أَصْلًا وَرَأْسًا فلم يُوجَدْ أو أَبْدَلَ الْكِتَابَةَ فَلَا يَعْتِقُ يُحَقِّقُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا إذَا حَلَفَ لَا يُفَارِقُ غريمه حتى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فَقَبَضَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَقْبُوضَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ زُيُوفًا أو مُسْتَحَقًّا فَرَدَّ الزُّيُوفَ أو أَخَذَ الْمَالِكُ الْمُسْتَحَقَّةَ بَرَّ في يَمِينِهِ وَإِنْ وَجَدَهُ سُتُّوقًا أو رَصَاصًا حَنِثَ في يَمِينِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ ثُمَّ أَفْلَسَ أو مَاتَ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ أو بَعْدَ ما نَقَدَ منه شيئا وَعَلَيْهِ دُيُونٌ لِأُنَاسٍ شَتَّى هل يَكُونُ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِهِ من سَائِرِ الْغُرَمَاءِ اُخْتُلِفَ فيه قال أَصْحَابُنَا لَا يَكُونُ له بَلْ الْغُرَمَاءُ كلهم أُسْوَةٌ فيه فَيُبَاعُ وَيُقَسَّمُ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْبَائِعُ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ قَبَضَهُ حتى أَفْلَسَ أو مَاتَ فَإِنْ كان الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا فَهُوَ على هذا الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كان حَالًّا فَالْبَائِعُ أَحَقُّ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي فَوَجَدَ الْبَائِعُ مَتَاعَهُ عِنْدَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ وَلِأَنَّ الْعَجْزَ عن تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ يُوجِبُ حَقَّ الْفَسْخِ لِلْمُشْتَرِي بِالْإِجْمَاعِ فإن من بَاعَ عَبْدًا فَأَبَقَ قبل الْقَبْضِ أو غُصِبَ أو كانت دَابَّةً فَضَلَّتْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ وَالْعَجْزُ عن تَسْلِيمِ الثَّمَنِ يُوجِبُ الْفَسْخَ لِلْبَائِعِ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَمَبْنَى الْمُعَاوَضَاتِ على الْمُسَاوَاةِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال من بَاعَ بَيْعًا فَوَجَدَهُ وقد أَفْلَسَ الرَّجُلُ فَهُوَ مَالُهُ بين غُرَمَائِهِ وَهَذَا نَصٌّ وهو عَيْنُ مَذْهَبِنَا وَلِأَنَّ الْبَائِعَ لم يَكُنْ له حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حَالَ كَوْنِ الْمُشْتَرِي حَيًّا مَلِيًّا فَلَا يَكُونُ أَحَقَّ بِثَمَنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِفْلَاسِهِ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْمَبِيعِ قَائِمٌ مَقَامَهُ وَاعْتِبَارُ الثَّمَنِ بِالْمَبِيعِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا مُفَارَقَةً في الْأَحْكَامِ
أَلَا تَرَى أَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ وَمِلْكَ الثَّمَنِ ليس بشرط ( ( ( شرطا ) ) ) فإنه لو اشْتَرَى شيئا بِدَرَاهِمَ لَا يَمْلِكُهَا جَازَ
وَلَوْ بَاعَ شيئا لَا يَمْلِكُهُ لَا يَجُوزُ وَكَذَا لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ في الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ وَالتَّصَرُّفُ في الثَّمَنِ قبل الْقَبْضِ جَائِزٌ وَغَيْرُ ذلك من الْأَحْكَامِ فَكَانَ اعْتِبَارُ الثَّمَنِ بِالْمَبِيعِ على الْإِطْلَاقِ فاسد ( ( ( فاسدا ) ) ) وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على ما إذَا قَبَضَ الْمَبِيعَ بِغَيْرِ إذْنِ البايع وَعِنْدَنَا الْبَائِعُ أَحَقُّ بِهِ في هذه الْحَالَةِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِفْلَاسَ وَإِنْ كان حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لَا يَتَقَيَّدُ بِهِ لِأَنَّ الْمَلِيءَ يَتَمَكَّنُ من دَفْعِ الِاسْتِرْدَادِ بِنَقْدِ الثَّمَنِ وَالْمُفْلِسُ لَا يَتَمَكَّنُ من ذلك فَكَانَ ذِكْرُ الْإِفْلَاسِ مفيدا ( ( ( مقيدا ) ) ) فَحَمَلْنَاهُ على ما قُلْنَا تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ

____________________

(5/252)


وَمِنْهَا وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ في شِرَاءِ الْجَارِيَةِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ نَوْعَانِ نَوْعٌ هو مَنْدُوبٌ وَنَوْعٌ هو وَاجِبٌ
أَمَّا الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ فَهُوَ اسْتِبْرَاءُ الْبَائِعِ إذَا وطىء جَارِيَةً وَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا أو يُخْرِجَهَا عن مِلْكِهِ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هو وَاجِبٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ شَغْلُ الرَّحِمِ بِمَاءِ الْبَائِعِ فَيَلْزَمُهُ التَّعَرُّفُ عن ذلك بِالِاسْتِبْرَاءِ كما في جَانِبِ الْمُشْتَرِي
وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ لم يُوجَدْ في حَقِّ الْبَائِعِ على ما نَذْكُرُ وَالِاعْتِبَارُ بِالْمُشْتَرِي غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عليه لِصِيَانَةِ مَائِهِ عن الِاخْتِلَاطِ بِمَاءِ الْبَائِعِ وَالْخَلْطُ يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَا بِفِعْلِ الْبَائِعِ فَتَجِبُ الصِّيَانَةُ عليه بِالِاسْتِبْرَاءِ لَا على الْبَائِعِ إلَّا أَنَّهُ يُنْدَبُ إلَيْهِ لِتَوَهُّمِ اشْتِغَالِ رَحِمِهَا بِمَائِهِ فَيَكُونُ الْبَيْعُ قبل الِاسْتِبْرَاءِ مُبَاشَرَةً شَرْطَ الِاخْتِلَاطِ فَكَانَ الِاسْتِبْرَاءُ مُسْتَحَبًّا
وَكَذَا إذَا وطىء أَمَتَهُ أو مُدَبَّرَتَهُ أو أُمَّ ولد ( ( ( ولده ) ) ) له ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا من غَيْرِهِ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَفْعَلَ حتى يَسْتَبْرِئَهَا لِمَا قُلْنَا وإذا زَوَّجَهَا قبل الِاسْتِبْرَاءِ أو بَعْدَهُ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا من غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَبُّ إلى أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ وَلَسْتُ أُوجِبُهُ عليه وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إذَا رَأَى امْرَأَةً تَزْنِي ثُمَّ تَزَوَّجَهَا له أَنْ يَطَأَهَا من غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ
وقال مُحَمَّدٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَطَأَهَا حتى يَسْتَبْرِئَهَا وَيَعْلَمَ فَرَاغَ رَحِمِهَا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الِاسْتِبْرَاءُ الْوَاجِبُ فَهُوَ اسْتِبْرَاءُ الْمُشْتَرِي وَكُلُّ من حَدَثَ له حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْجَارِيَةِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا وَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ وُجُوبِ هذا النَّوْعِ من الِاسْتِبْرَاءِ وفي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ ما يَقَعُ بِهِ من الِاسْتِبْرَاءُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال في سَبَايَا أَوْطَاسٍ أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حتى يَضَعْنَ وَلَا الحبالى ( ( ( الحيالى ) ) ) حتى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ وَالنَّصُّ الْوَارِدُ في السَّبْيِ يَكُونُ وَارِدًا في سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ دَلَالَةً لأن الِاسْتِبْرَاءَ طَلَبُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وإنه وَاجِبٌ على الْمُشْتَرِي لِأَنَّ بِهِ يَقَعُ الصِّيَانَةُ عن الْخَلْطِ وَالْخَلْطُ حَرَامٌ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من كان يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِيَنَّ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ وَالصِّيَانَةُ عن الْحَرَامِ تَكُونُ وَاجِبَةً وَلَا تَقَعُ الصِّيَانَةُ إلَّا بِالِاسْتِبْرَاءِ فَيَكُونُ وَاجِبًا ضَرُورَةً فَلَا يَحِلُّ له وَطْؤُهَا قبل الِاسْتِبْرَاءِ وَلَا أَنْ يَلْمِسَهَا بِشَهْوَةٍ أو يَنْظُرَ إلَى فَرْجِهَا عن شَهْوَةٍ لِأَنَّ كُلَّ ذلك دَاعٍ إلَى الْوَطْءِ وَالْوَطْءُ إذَا حَرُمَ حَرُمَ بِدَوَاعِيهِ كما في بَابِ الظِّهَارِ وَغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْحَائِضِ حَيْثُ لم تُحَرَّمْ الدَّوَاعِي منها
لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَاكَ ليس هو الْوَطْءُ بَلْ اسْتِعْمَالُ الْأَذَى وَالْوَطْءُ حَرَامٌ لِغَيْرِهِ وهو اسْتِعْمَالُ الْأَذَى وَلَا يَجُوزُ ذلك في الدَّوَاعِي فَلَا يَجُوزُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا سَبَبُ وُجُوبِهِ فَهُوَ
____________________

(5/253)


حُدُوثِ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ لهم قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَتَسَرَّى الْعَبْدُ وَلَا يُسَرِّيهِ مَوْلَاهُ وَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ وَلَا الْمُكَاتَبُ شيئا إلَّا الطَّلَاقَ
وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً من عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ يَنْظُرُ إنْ لم يَكُنْ على الْعَبْدِ دَيْنٌ أَصْلًا أو عليه دَيْنٌ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ لَا يَجِبُ عليه أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا إذَا كانت حَاضَتْ عِنْدَ الْعَبْدِ ويجتزىء ( ( ( ويجتزئ ) ) ) بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ لِأَنَّ كَسْبَ الْمَأْذُونِ الذي لَا دَيْنَ عليه أو عليه دَيْنٌ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ مِلْكَ الْمَوْلَى فَقَدْ حَاضَتْ في مِلْكِ نَفْسِهِ فيجتزي ( ( ( فيجتزئ ) ) ) بها عن الِاسْتِبْرَاءِ وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ رَقَبَتَهُ وَكَسْبَهُ يَجِبُ عليه الِاسْتِبْرَاءُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجِبُ عليه بِنَاءً على أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَمْلِكُهُ
وَلَوْ تَبَايَعَا بَيْعًا صَحِيحًا ثُمَّ تَقَايَلَا فَإِنْ كانت الْإِقَالَةُ قبل الْقَبْضِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الِاسْتِبْرَاءُ على الْبَائِعِ وهو رِوَايَةُ أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجِبُ وهو رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ في حَقِّهِ وهو حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ حَقِيقَةً وَإِنْكَارُ الْحَقَائِقِ مُكَابَرَةٌ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الأقالة قبل الْقَبْضِ فَسْخٌ وَالْفَسْخُ رَفْعٌ من الْأَصْلِ وَإِعَادَةٌ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ كَأَنَّهُ لم يَزُلْ عن مِلْكِ الْبَائِعِ فلم يُوجَدْ السَّبَبُ مع ما أَنَّ الْمِلْكَ قبل الْقَبْضِ غَيْرُ مُتَأَكَّدٍ وَالتَّأْكِيدُ إثْبَاتٌ من وَجْهٍ فلم يَتَكَامَلْ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي فلم يَحْدُثْ مِلْكُ الْيَمِينِ لِلْبَائِعِ على الْإِطْلَاقِ فلم يَتَكَامَلْ السَّبَبُ وَإِنْ كانت الْإِقَالَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ يَجِبُ
أَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فَكَانَتْ اسْتِحْدَاثًا لِلْمِلْكِ مُطْلَقًا
وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنْ كان فَسْخًا لَكِنْ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ فَأَمَّا في حَقِّ ثَالِثٍ فَبَيْعٌ جَدِيدٌ وَالِاسْتِبْرَاءُ يَجِبُ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَاعْتُبِرَ حَقُّ الشَّرْعِ ثَالِثًا في حَقِّ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ احْتِيَاطًا
وَلَوْ رَدَّ الْجَارِيَةَ بِعَيْبٍ أو خِيَارِ رُؤْيَةٍ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ على الْبَائِعِ لِوُجُودِ السَّبَبِ وهو حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَخِيَارَ الْعَيْبِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي
وَأَمَّا الرَّدُّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ فَيُنْظَرُ فيه إنْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَلَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ خِيَارَهُ لَا يَمْنَعُ زَوَالَ السِّلْعَةِ عن مِلْكِهِ فلم يُوجَدْ حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ
وَإِنْ كان الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ على الْبَائِعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ سَوَاءٌ كان الرَّدُّ قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ بِنَاءً على أَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ دُخُولَ السِّلْعَةِ في مِلْكِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وإذا لم تَدْخُلْ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَإِنْ خَرَجَتْ عن مِلْكِ الْبَائِعِ فَلِأَنَّهَا لم تَخْرُجْ وَبَقِيَتْ على مِلْكِهِ فلم يُوجَدْ سَبَبُ الْوُجُوبِ
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَإِنْ كان الرَّدُّ قبل الْقَبْضِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ لِأَنَّهَا زَالَتْ عن مِلْكِ الْبَائِعِ وَدَخَلَتْ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي فإذا رُدَّتْ عليه فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ في حَقِّ الْبَائِعِ
وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجِبُ لِأَنَّ الرَّدَّ قبل الْقَبْضِ فَسْخٌ مَحْضٌ وَرَفْعٌ لِلْعَقْدِ من الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ وَإِنْ كان بَعْدَ الْقَبْضِ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِأَنَّهَا دَخَلَتْ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي
وَإِنْ كان الْمَبِيعُ فَاسِدًا فَفُسِخَ وَرُدَّتْ الْجَارِيَةُ إلَى الْبَائِعِ فَإِنْ كان قبل الْقَبْضِ فَلَا اسْتِبْرَاءَ على الْبَائِعِ لِأَنَّهَا على مِلْكِهِ فلم يَحْدُثْ له الْحِلُّ وَإِنْ كان بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ السَّبَبِ
ولو أَسَرَ الْعَدُوُّ الْجَارِيَةَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْمَالِكِ فَإِنْ كان قبل الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَا اسْتِبْرَاءَ على الْمَالِكِ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ وهو حُدُوثُ الْحِلِّ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ وَإِنْ كان بَعْدَ الأحراز بدراهم ( ( ( بدارهم ) ) ) وَجَبَ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَلَوْ أبقيت ( ( ( أبقت ) ) ) من دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَأَخَذَهَا الْكُفَّارُ ثُمَّ عَادَتْ إلَى صَاحِبِهَا بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ فَلَا اسْتِبْرَاءَ عليه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُمْ لم يَمْلِكُوهَا فلم يُوجَدْ السَّبَبُ وَعِنْدَهُمَا عليه الِاسْتِبْرَاءُ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا لِوُجُودِ السَّبَبِ
وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً مع غَيْرِهِ فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِمَا لِانْعِدَامِ السَّبَبِ وهو حُدُوثُ الْحِلِّ إذْ لَا تَحِلُّ لِأَحَدِهِمَا ولو اشْتَرَى جَارِيَةً وَلَهَا زَوْجٌ فَقَبَضَهَا وَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ قبل الدُّخُولِ بها فَلَا اسْتِبْرَاءَ على الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ السَّبَبُ وهو حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ وَقْتَ الشِّرَاءِ لِقِيَامِ فِرَاشِ الزَّوْجِ وَبَعْدَ زَوَالِ الفراس ( ( ( الفراش ) ) ) لم يَحْدُثْ سَبَبُ حُدُوثِ الْحِلِّ وهو مِلْكُ الْيَمِينِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ على قَوْلِ أبي يُوسُفَ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ على الْمُشْتَرِي
وَمِنْ هذا اسْتَخْرَجُوا لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ حِيلَةً وَهِيَ أَنْ يُزَوِّجَ الْبَائِعُ الْجَارِيَةَ مِمَّنْ يَجُوزُ له نِكَاحُهَا ولم يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَنَحْوَ ذلك من الشَّرَائِطِ ثُمَّ يَبِيعُهَا وَيُسَلِّمُهَا إلَى
____________________

(5/254)


الْمُشْتَرِي ثُمَّ يُطَلِّقُهَا الزَّوْجُ قبل الدُّخُولِ بها فَتَحِلُّ لِلْمُشْتَرِي من غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ وَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قبل الْقَبْضِ ثُمَّ قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي لَا يَحِلُّ له وَطْؤُهَا حتى يَسْتَبْرِئَهَا
وَحِيلَةٌ أُخْرَى لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ أَنْ يُزَوِّجَهَا الْبَائِعُ من الْمُشْتَرِي قبل الشِّرَاءِ وَالْمُشْتَرِي مِمَّنْ يَجُوزُ له نِكَاحُهَا بِأَنْ لم يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَنَحْوُ ذلك ثُمَّ يَشْتَرِيهَا فَيَفْسُدُ النِّكَاحُ وَيَحِلُّ له وَطْؤُهَا من غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ
وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّهُ يُسْقِطُ عنه جَمِيعَ الْمَهْرِ
وفي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ على الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ نِصْفُ الْمَهْرِ لِلْبَائِعِ فَيَحْتَاجُ إلَى إبْرَائِهِ عنه
وَلَوْ كانت الْجَارِيَةُ في عِدَّةٍ من زَوْجِهَا عِدَّةِ طَلَاقٍ أو عِدَّةِ وَفَاةٍ فَاشْتَرَاهَا وَقَبَضَهَا ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَا اسْتِبْرَاءَ عليه لِأَنَّ قِيَامَ الْعِدَّةِ بِمَنْزِلَةِ قِيَامِ النِّكَاحِ
وَلَوْ كانت مَنْكُوحَةً فَطَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها لم يَجِبْ الِاسْتِبْرَاءُ
كَذَا هذا
وَعَلَى ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ على قَوْلِ أبي يُوسُفَ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ فَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قبل الْقَبْضِ لم يُعْتَدَّ بِذَلِكَ وَلَا تَحِلُّ له حتى يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ الْقَبْضِ بِحَيْضَةٍ أُخْرَى في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِذَلِكَ كما يُعْتَدُّ بِالْحَيْضَةِ قبل الْقَبْضِ عِنْدَهُ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ عَدَمُ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ في النِّكَاحِ حتى أن من تَزَوَّجَ جَارِيَةً فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا من غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ لِأَنَّ السَّبَبَ لم يُوجَدْ وهو حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ
وقال مُحَمَّدٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ وَلَسْتُ أُوجِبُهَا عليه
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال لَا اسْتِبْرَاءَ عليه في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
وقال أبو يُوسُفَ اسْتَبْرَأَ بها الزَّوْجُ اسْتِحْسَانًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ إن الْمَعْنَى الذي له وَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ في مِلْكِ الْيَمِينِ مَوْجُودٌ في مِلْكِ النِّكَاحِ وهو التَّعَرُّفُ عن بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَوَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ في الْمِلْكَيْنِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جَوَازَ نِكَاحِهَا دَلِيلُ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا شَرْعًا فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعَرُّفِ بِالِاسْتِبْرَاءِ
وما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ نَوْعُ احْتِيَاطٍ وهو حَسَنٌ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فلم يَقْبِضْهَا حتى حَاضَتْ في يَدِ الْبَائِعِ حَيْضَةً أَنَّهُ لَا يجتزي ( ( ( يجتزئ ) ) ) بها في الِاسْتِبْرَاءِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حتى لو قَبَضَهَا لَا تَحِلُّ له حتى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ أُخْرَى لِأَنَّهُ لم يحد ( ( ( يحدث ) ) ) له حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ قبل الْقَبْضِ وَلَا حَدَثَ له مِلْكُ الْيَمِينِ على الْإِطْلَاقِ لِانْعِدَامِ الْيَدِ
وَهَذَا لِأَنَّ الْمِلْكَ قبل الْقَبْضِ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ وَالتَّأَكُّدُ إثْبَاتٌ من وَجْهٍ فَكَانَ له حُكْمُ الْعَدَمِ من وَجْهٍ فلم يَجِبْ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يجتزيء ( ( ( يجتزئ ) ) ) بها وَلَا اسْتِبْرَاءَ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ قبل الْقَبْضِ تَصْلُحُ دَلِيلًا على فَرَاغِ رَحِمِهَا فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ من الِاسْتِبْرَاءِ فيكتفي بها
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَقَعُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تعالى التَّوْفِيقُ الْجَارِيَةُ في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو إمَّا إن كانت مِمَّنْ تَحِيضُ وَإِمَّا إن كانت مِمَّنْ لَا تَحِيضُ فَإِنْ كانت مِمَّنْ تَحِيضُ فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ اسْتِبْرَاءَهَا بِحَيْضَتَيْنِ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ أُخْتُ الْعِدَّةِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال في سَبَايَا أَوْطَاسٍ أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حتى يَضَعْنَ وَلَا الحبالى ( ( ( الحيالى ) ) ) حتى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ
وَالْفَعْلَةُ لِلْمَرَّةِ وَالتَّقْدِيرُ الشَّرْعِيُّ يَمْنَعُ من الزِّيَادَةِ عليه إلَّا بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ ما شُرِعَ له الِاسْتِبْرَاءُ وهو حُصُولُ الْعِلْمِ بِطَهَارَةِ الرَّحِمِ يَحْصُلُ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْتَرَطَ الْعَدَدُ في بَابِ الْعِدَّةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذلك نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ على مَوْرِدِ النَّصِّ
وَإِنْ كانت مِمَّنْ لَا تَحِيضُ فَلَا يَخْلُو إمَّا إن كانت لَا تَحِيضُ لِصِغَرٍ أو لِكِبَرٍ وَإِمَّا إن كانت لَا تَحِيضُ لِعِلَّةٍ وَهِيَ الْمُمْتَدُّ طُهْرُهَا
وأما إن كانت لَا تَحِيضُ لِحَبَلٍ فَإِنْ كانت لَا تَحِيضُ لِصِغَرٍ أو لِكِبَرٍ فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِشَهْرٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْأَشْهُرَ أُقِيمَتْ مَقَامَ الإقراء في حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ في الْعِدَّةِ فَكَذَا في بَابِ الِاسْتِبْرَاءِ
وَإِنْ كانت لَا تَحِيضُ لِعِلَّةٍ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فيه قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ لَا يَطَؤُهَا حتى يَعْلَمَ أنها غَيْرُ حَامِلٍ ولم يُوَقِّتْ في ذلك وَقْتًا
وقال أبو يُوسُفَ يَسْتَبْرِئُهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أو أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ قال يَسْتَبْرِئُهَا بِشَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ عِدَّةِ الْإِمَاءِ وفي رِوَايَةٍ قال يَسْتَبْرِئُهَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ مُدَّةِ عِدَّةِ الْحَرَائِرِ وقال زُفَرُ يَسْتَبْرِئُهَا بِسَنَتَيْنِ لِأَنَّ الْوَلَدَ الْمَوْجُودَ في الْبَطْنِ لَا يَبْقَى أَكْثَرَ من سَنَتَيْنِ فإذا مَضَتْ سَنَتَانِ ولم يَظْهَرْ بها حَمْلٌ عَلِمَ أنها غَيْرُ حَامِلٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هذا تَفْسِيرَ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لَا يَطَؤُهَا حتى يَعْلَمَ أنها غَيْرُ حَامِلٍ وهو اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ما قَالَهُ أبو يُوسُفَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ يَعْلَمُ فيها أنها لَيْسَتْ بِحَامِلٍ لِأَنَّ الْحَبَلَ يَظْهَرُ في مِثْلِ هذه الْمُدَّةِ لو كان لِظُهُورِ آثَارِهِ من انْتِفَاخِ الْبَطْنِ وَغَيْرِ ذلك فَيَدُلُّ عَدَمُ الظُّهُورِ على بَرَاءَةِ رَحِمِهَا
وَإِنْ كانت لَا تَحِيضُ لِحَبَلٍ بها فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ بعض الْقَبْضِ حدوث حل الاستمتاع بحدوث ملك اليمين مطلقا يعني به ملك الرقبة واليد بأي سبب حدث الملك من الشراء والسبي والصدقة والهبة والأرث ونحوها فلا يجب الاستبراء على البائع لانعدام السبب وهو حدوث الحل ويجب على المشتري لوجود سببه سواء كان بائعه ممن يطأ أو ممن لا يطأ كالمرأة والصبي الذي لا يعقل وسواء كانت الجارية بكرا أو ثيبا في ظاهر الرواية لما قلنا
وروي عن أبي يوسف أنه إذا علم المشتري أنها لم توطأ لا يجب الاستبراء لأن الاستبراء طلب براءة الرحم وفراغها عما يشغلها ورحم البكر برية فارغة عن الشغل فلا معنى لطلب البراءة والفراغ
والجواب أن الوقوف على حقيقة الشغل والفراغ متعذر فتعلق الحكم بالسبب الظاهر وهو حدوث حل الاستمتاع بحدوث ملك اليمين مطلقا وقد وجد ولا يجب على من حرم عليه فرج أمته بعارض الحيض والنفاس والردة والكتابة والتزويج إذا زالت هذه العوارض بأن طهرت وأسلمت وعجزت فطلقها الزوج قبل الدخول بها لأن حل الاستمتاع لم يحدث بل كان ثابتا لكن منع منه لغيره وقد زال بزوال العوارض وكذا لم يحدث ملك اليمين فلم يوجد السبب ولا يجب بشراء جارية لا يحل فرجها بملك اليمين بأن وطئها أبوه أو ابنه أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها لا بشهوة أو كان هو وطىء أمها أو ابنتها أو نظر إلى فرجها عن شهوة أو كانت مرتدة أو مجوسية ونحو ذلك من الفروج التي لا تحل بملك اليمين لأن فائدة الاستبراء التمكن من الاستمتاع بعد حصول انعدام مانع معين منه وهو اختلاط الماءين والاستبراء في هذه المواضع لا يفيد التمكن من الاستمتاع لوجود مانع آخر وهو أن المحل لا يحتمل الحل ولا يجب على العبد والمكاتب والمدبر لانعدام
____________________

(5/255)


لِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ في الدَّلَالَةِ على فَرَاغِ رَحِمِهَا فَوْقَ الْحَيْضَةِ فإذا وَضَعَتْ حَمْلَهَا حَلَّ له أَنْ يَسْتَمْتِعَ بها فِيمَا سِوَى الْجِمَاعِ ما دَامَتْ في نِفَاسِهَا كما في الْحَائِضِ فَإِنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا قبل الْقَبْضِ ثُمَّ قَبَضَهَا لَا يَطَؤُهَا حتى يَسْتَبْرِئَهَا وَلَا يجتزي ( ( ( يجتزئ ) ) ) بِوَضْعِ الْحَمْلِ قبل الْقَبْضِ كما يجتزي ( ( ( يجتزئ ) ) ) بِالْحَيْضَةِ قبل الْقَبْضِ وَعَلَى قِيَاسِ ما رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ يجتزي ( ( ( يجتزئ ) ) ) بِهِ كما يجتزي ( ( ( يجتزئ ) ) ) بِالْحَيْضَةِ قبل الْقَبْضِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من الْحُكْمِ الأصل ( ( ( الأصلي ) ) ) لِلْبَيْعِ وما يَجْرِي مَجْرَى التَّوَابِعِ لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ كما يَثْبُتُ في الْمَبِيعِ يَثْبُتُ في زَوَائِدِ الْمَبِيعِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ من ذلك في الزَّوَائِدِ وَالْكَلَامُ فيه مَبْنِيٌّ على أَصْلٍ وهو أَنَّ زَوَائِدَ الْمَبِيعِ مَبِيعَةٌ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كانت مُنْفَصِلَةً أو مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ أو غير مُتَوَلِّدَةٍ منه إلَّا الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ وَالْكَسْبَ وَعِنْدَهُ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ أَصْلًا وَإِنَّمَا تُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ لَا بِالْبَيْعِ السَّابِقِ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في إثْبَاتِ هذا الْأَصْلِ أَنَّ الْمَبِيعَ ما أُضِيفَ إلَيْهِ الْبَيْعُ ولم تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى الزَّوَائِدِ لِكَوْنِهَا مُنْعَدِمَةً عِنْدَ الْبَيْعِ فَلَا تكون ( ( ( يكون ) ) ) مَبِيعَةً وَلِهَذَا لم يَكُنْ الْكَسْبُ مَبِيعًا وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ ما يُقَابِلُهُ ثَمَنٌ إذْ الْبَيْعُ مقابله الْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ وَالزِّيَادَةُ لَا يُقَابِلُهَا ثَمَنٌ لِأَنَّ كُلَّ الثَّمَنِ مُقَابَلٌ بِالْأَصْلِ فلم تَكُنْ مَبِيعَةً كَالْكَسْبِ وَلِهَذَا لم تَجُزْ الزِّيَادَةُ عِنْدَهُ في الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ
وَلَنَا أَنَّ الْمَبِيعَ ما يَثْبُتُ فيه الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلْبَيْعِ وَالْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلْبَيْعِ يَثْبُتُ في الزَّوَائِدِ بِالْبَيْعِ السَّابِقِ فَكَانَتْ مَبِيعَةً
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْبَيْعِ هو الْمِلْكُ وَالزَّوَائِدُ مَمْلُوكَةٌ بِلَا خِلَافٍ
وَالدَّلِيلُ على أنها مَمْلُوكَةٌ بِالْبَيْعِ السَّابِقِ أَنَّ الْبَيْعَ السَّابِقَ أَوْجَبَ الْمِلْكَ في الْأَصْلِ وَمَتَى ثَبَتَ الْمِلْكُ في الْأَصْلِ ثَبَتَ في التَّبَعِ فَكَانَ مِلْكُ الزِّيَادَةِ بِوَاسِطَةِ مِلْكِ الْأَصْلِ مُضَافًا إلَى الْبَيْعِ السَّابِقِ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ مَبِيعَةً
وَلَكِنْ تَبَعًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ فيها تَبَعًا
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
منها أَنَّ لِلْبَائِعِ حَقَّ حَبْسِ الزَّوَائِدِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ كما له حَقُّ حَبْسِ الْأَصْلِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ ليس له أَنْ يَحْبِسَ الزَّوَائِدَ
وَمِنْهَا أَنَّ الْبَائِعَ إذَا أَتْلَفَ الزِّيَادَةَ سَقَطَتْ حِصَّتُهَا من الثَّمَنِ عن الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا كما لو أَتْلَفَ جُزْءًا من الْمَبِيعِ وَعِنْدَهُ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الثَّمَنِ وَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا كما أو أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ على ما مَرَّ
وَكَذَا إذَا أَتْلَفَ الْأَرْشَ أو الْعُقْرَ قبل الْقَبْضِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ بَدَلُ الْجُزْءِ الْفَائِتِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْجُزْءِ
وَلَوْ هَلَكَتْ الزِّيَادَةُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الثَّمَنِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كانت مَبِيعَةً عِنْدَنَا لِأَنَّهَا مَبِيعَةٌ تَبَعًا بِمَنْزِلَةِ أَطْرَافِ الْأُمِّ لَا مَقْصُودًا وَالْأَطْرَافُ كَالْأَوْصَافِ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ من الثَّمَنِ إلَّا أَنْ تَصِيرَ مَقْصُودَةً بِالْفِعْلِ من الْقَبْضِ أو الْجِنَايَةِ ولم يُوجَدْ وَلَا خِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لم تَتَفَرَّقْ عليه لِأَنَّ الْعَقْدَ ما أُضِيفَ إلَيْهَا
وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْعَقْدِ فيها تَبَعًا
فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ إلَّا في وَلَدِ الْجَارِيَةِ إذَا هَلَكَ قبل الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ
فإنه يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لَا لِهَلَاكِ الزِّيَادَةِ بَلْ لِحُدُوثِ نُقْصَانٍ في الْأُمِّ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ
وَكَذَا لَا خِيَارَ بِحُدُوثِ زِيَادَةِ ما قبل الْقَبْضِ إلَّا في وَلَدِ الْجَارِيَةِ لِأَجْلِ نُقْصَانِ الْأُمِّ بِالْوِلَادَةِ لَا لِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا قَبَضَ الزَّوَائِدَ يَصِيرُ لها حِصَّةٌ من الثَّمَنِ بِالْقَبْضِ عِنْدَنَا فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ على قِيمَةِ الْأَصْلِ يوم الْعَقْدِ وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ يوم الْقَبْضِ
حتى لو اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي على عَيْبٍ بِالْأَصْلِ فإنه يَرُدُّهُ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ لَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا حِصَّةَ لِلزِّيَادَةِ من الثَّمَنِ بِحَالٍ وَعِنْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ بِالْأَصْلِ يُرَدُّ بِكُلِّ الثَّمَنِ وَلَا يَكُونُ بِإِزَاءِ الزِّيَادَةِ شَيْءٌ
وَكَذَا إذَا وَجَدَ بِالزِّيَادَةِ عَيْبًا يَرُدُّهَا بِحِصَّتِهَا من الثَّمَنِ وَعِنْدَهُ لَا يَرُدُّهَا بِالْعَيْبِ أَصْلًا
وَكَذَا الْمُشْتَرِي إذَا أَتْلَفَ الزِّيَادَةَ قبل الْقَبْضِ يَصِيرُ لها حِصَّةٌ من الثَّمَنِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا به بِالْإِتْلَافِ وَبِالْقَبْضِ يَصِيرُ لها حِصَّةٌ من الثَّمَنِ على ما ذَكَرْنَا وَعِنْدَهُ لَا حِصَّةَ لها من الثَّمَنِ بِحَالٍ وَلَوْ هَلَكَ الْأَصْلُ وَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ يَبْقَى الْعَقْدُ في قَدْرِ الزِّيَادَةِ عِنْدَنَا وَيَصِيرُ لها حِصَّةٌ من الثَّمَنِ فَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ على الْأَصْلِ يوم الْعَقْدِ وَعَلَى الزِّيَادَةِ يوم الْهَلَاكِ فَيَبْطُلُ مِلْكُ الثَّمَنِ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْأَصْلِ ويبقي بِحِصَّةِ الزِّيَادَةِ بِخِلَافِ ما إذَا هَلَكَ قبل حُدُوثِ الزِّيَادَةِ حَيْثُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ أَصْلًا وَرَأْسًا وَيَسْقُطُ كُلُّ الثَّمَنِ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا فَائِدَةَ في بَقَاءِ الْعَقْدِ إذْ لو بَقِيَ لَطَلَبَ الْبَائِعُ من الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ فَيَطْلُبُ الْمُشْتَرِي منه تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ وَلَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ فَيَنْفَسِخُ ضَرُورَةً لِانْعِدَامِ فَائِدَةِ الْبَقَاءِ وإذا بَقِيَتْ الزِّيَادَةُ كان في بَقَاءِ الْعَقْدِ في الزِّيَادَةِ فَائِدَةٌ لِإِمْكَانِ تَسْلِيمِهَا فَبَقِيَ الْعَقْدُ فيها وَصَارَ لها حِصَّةٌ من الثَّمَنِ فَيَنْقَسِمُ على الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ على ما ذَكَرْنَا وَعِنْدَهُ إذَا هَلَكَ الْأَصْلُ انْفَسَخَ الْعَقْدُ أَصْلًا وَرَأْسًا

____________________

(5/256)


وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ وَضَمِنَهَا بِلَا خِلَافٍ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ عِنْدَنَا إنْ شَاءَ اخْتَارَ الْفَسْخَ وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ على الْجَانِي بِضَمَانِ الْجِنَايَةِ وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْمَبِيعَ وَاتَّبَعَ الْجَانِي بِالضَّمَانِ وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ كما لو أَتْلَفَ الْأَصْلَ وَعِنْدَهُ عليه الضَّمَانُ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى نَخْلًا بِكُرٍّ من تَمْرٍ فلم يَقْبِضْ النَّخْلَ حتى أَثْمَرَ النَّخْلُ كُرَّا فَقَبَضَ النَّخْلَ مع الْكُرِّ الْحَادِثِ لَا يَطِيبُ الْكُرُّ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عِنْدَنَا لِأَنَّ التَّمْرَ الْحَادِثَ عِنْدَنَا زِيَادَةٌ مُتَوَلَّدَةٌ من الْمَبِيعِ فَكَانَ مَبِيعًا وَلَهُ عِنْدَ الْقَبْضِ حِصَّةٌ من الثَّمَنِ كما لِغَيْرِهِ من الزَّوَائِدِ وَالثَّمَرُ من جِنْسِهِ زِيَادَةَ عليه فَلَوْ قُسِمَ على النَّخْلِ وَالْكُرِّ لحادث ( ( ( الحادث ) ) ) يَصِيرُ رِبًا فَيَفْسُدُ الْبَيْعَ في الْكُرِّ الْحَادِثِ وَلَا يَفْسُدُ في النَّخْلِ بِخِلَافِ ما إذَا بَاعَ نَخْلًا وَكُرًّا من تَمْرٍ بِكُرٍّ من تَمْرٍ إن الْعَقْدَ يَفْسُدُ في التَّمْرِ وَالنَّخْلِ جميعا لِأَنَّ هُنَاكَ الرِّبَا دخل في الْعَقْدِ بِاشْتِرَاطِهِمَا وَصُنْعِهِمَا لِأَنَّ بَعْضَ الْمَبِيعِ مَالُ الرِّبَا وهو التَّمْرُ وَالتَّمْرُ مَقْسُومٌ عَلَيْهِمَا فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا وَإِدْخَالُ الرِّبَا في الْعَقْدِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ كُلَّهُ وَهَهُنَا الْبَيْعُ كان صَحِيحًا في الْأَصْلِ لِأَنَّ الثَّمَنَ خِلَافُ جِنْسِ الْمَبِيعِ وهو النَّخْلُ وَحْدَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا زَادَ بَعْدَ الْعَقْدِ صَارَ مَبِيعًا في حَالِ الْبَقَاءِ لَا بِصُنْعِهِمَا فَيَفْسُدُ في الْكُرِّ الْحَادِثِ وَيَقْتَصِرُ الْفَسَادُ عليه
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَقُتِلَ قبل الْقَبْضِ فَاخْتَارَ الْبَيْعَ واتباع ( ( ( وابتاع ) ) ) الْجَانِي فَأَخَذَ قِيمَتَهُ أَلْفَيْنِ يَتَصَدَّقُ بِالْأَلْفِ الزَّائِدِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ رَبِحَ ما لم يَضْمَنْ وَعِنْدَهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا إذَا غَصَبَ كُرَّ حِنْطَةٍ فابتليت ( ( ( فابتلت ) ) ) في يَدِ الْغَاصِبِ وَانْتَفَخَتْ حتى صَارَتْ كُرًّا وَنِصْفَ كُرٍّ ضَمِنَ لِلْمَالِكِ كُرًّا مثله فإنه يَمْلِكُ ذلك الْكُرَّ وَنِصْفَ الْكُرِّ عِنْدَنَا لَكِنْ يَتَصَدَّقُ بِنِصْفِ الْكُرِّ الزَّائِدِ وَطَابَ له ما بَقِيَ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَنَا يَثْبُتُ من وَقْتِ الْغَصْبِ بِالضَّمَانِ وَالزِّيَادَةُ بِالِانْتِفَاخِ حَصَلَتْ بَعْدَ ذلك فَتُعْتَبَرُ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في هذا الْفَصْلِ يُرَدُّ الْكُلُّ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ عِنْدَهُ لَا تُمْلَكُ بِالضَّمَانِ
وَمِنْهَا أَنَّ الزَّوَائِدَ الْحَادِثَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ مَبِيعَةٌ أَيْضًا عِنْدَنَا حتى لو وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْأَصْلِ عَيْبًا فَالزِّيَادَةُ تَمْنَعُ الرَّدَّ وَالْفَسْخَ بِالْعَيْبِ وَبِسَائِرِ أَسْبَابِ الْفَسْخِ على ما نَذْكُرُهُ في خِيَارِ الْعَيْبِ في بَيَانِ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ من الرَّدِّ بِالْعَيْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَهُ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ في أَيِّ حَالٍ حَدَثَتْ وَلَا تَمْنَعُ رَدَّ الْأَصْلِ بِالْعَيْبِ بِكُلِّ الثَّمَنِ
وَلَوْ اشْتَرَى أَرْضًا فيها أَشْجَارٌ مُثْمِرَةٌ فَإِنْ كان عليها ثَمَرٌ وَسَمَّاهُ حتى دخل في الْبَيْعِ فَالثَّمَرُ له حِصَّةٌ من الثَّمَنِ بِلَا خِلَافٍ حتى لو كانت قِيمَةُ الْأَرْضِ خَمْسَمِائَةٍ وَقِيمَةُ الشَّجَرِ خَمْسُمِائَةٍ وَقِيمَةُ الثَّمَرِ كَذَلِكَ فإن الثَّمَنَ يُقْسَمُ على الْكُلِّ أَثْلَاثًا بِالْإِجْمَاعِ
لِأَنَّ الْكُلَّ مَعْقُودٌ عليه مقصودا ( ( ( مقصود ) ) ) لِوُرُودِ فِعْلِ الْعَقْدِ على الْكُلِّ فَإِنْ كان لِلثَّمَرِ حِصَّةٌ من الثَّمَنِ حتى لو هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْبَائِعِ بِأَنْ أَكَلَهُ يَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي ثُلُثُ الثَّمَنِ وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ بِثُلُثَيْ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّ الثَّمَرَ لَمَّا كان مَبِيعًا مَقْصُودًا بِهَلَاكِهِ تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ على الْمُشْتَرِي قبل التَّمَامِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ وَإِنْ لم يَكُنْ الثَّمَرُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَحَدَثَ بَعْدَهُ قبل الْقَبْضِ فَأَكَلَهُ الْبَائِعُ فَقَدْ صَارَ له حِصَّةٌ من الثَّمَنِ عِنْدَنَا لِصَيْرُورَتِهِ مَبِيعًا مَقْصُورًا بِالْإِتْلَافِ على ما بَيَّنَّا لَكِنَّ الْكَلَامَ في كَيْفِيَّةِ أَخْذِ الْحِصَّةِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيها
قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَأْخُذُ الْحِصَّةَ من الشَّجَرِ وَالْأَرْضِ جميعا فَيَقْسِمُ الثَّمَنَ على الشَّجَرِ وَالْأَرْضِ وَالثَّمَرِ أَثْلَاثًا فَيَسْقُطُ ثُلُثُ الثَّمَنِ بِإِتْلَافِ الْبَائِعِ وقال أبو يُوسُفَ يَأْخُذُ الْحِصَّةَ من الشَّجَرِ خَاصَّةً فَيَقْسِمُ الثَّمَنَ على قِيمَةِ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ ثُمَّ ما أَصَابَ الشَّجَرَ يُقَسَّمُ عليه يوم الْعَقْدِ وَعَلَى قِيمَةِ الثَّمَرِ يوم الْإِتْلَافِ فَيَسْقُطُ بَيَانُهُ إذَا كانت قِيمَةُ الْأَرْضِ أَلْفًا وَقِيمَةُ الْأَشْجَارِ أَلْفًا وَقِيمَةُ الثَّمَرِ كَذَلِكَ فَأَكَلَ الْبَائِعُ الثَّمَرَ قبل الْقَبْضِ يَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي ثُلُثُ الثَّمَنِ عِنْدَهُمَا وَيَأْخُذُ الْأَرْضَ وَالْأَشْجَارَ بِثُلُثَيْ الثَّمَنِ وَلَا خِيَارَ له عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ خَاصَّةً وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ له الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ بِثُلُثَيْ الْقِيمَةِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي رُبْعُ الثَّمَنِ فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ على الْأَشْجَارِ وَالْأَرْضِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ ما أَصَابَ الشَّجَرَ يُقَسَّمُ عليه وَعَلَى الثَّمَرِ نِصْفَيْنِ فَكَانَ حِصَّةُ الثَّمَرِ رُبْعَ الثَّمَنِ فَيَسْقُطُ ذلك كُلُّهُ وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الثَّمَرَ تَابِعٌ لِلشَّجَرِ لِأَنَّ الثَّمَرَ مُتَوَلِّدٌ منها فَيَأْخُذُ الْحِصَّةَ منها كما لو اشْتَرَى جَارِيَةً مع وَلَدِهَا فَوَلَدَتْ مع وَلَدِهَا ولد ( ( ( ولدا ) ) ) آخَرَ فَالْوَلَدُ الثَّانِي يَكُونُ له حِصَّةٌ من الْوَلَدِ الْأَوَّلِ
وَلَهُمَا أَنَّ الشَّجَرَ تَابِعٌ لِلْأَرْضِ في الْبَيْعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَدْخُلُ في الْأَرْضِ من غَيْرِ تَسْمِيَةٍ
وَلَوْ هَلَكَتْ بعدما دَخَلَتْ قبل الْقَبْضِ
____________________

(5/257)


لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الثَّمَنِ دَلَّ أنها تَابِعَةٌ وما كان تَابِعًا لِغَيْرِهِ في حُكْمٍ لَا يَسْتَتْبِعُ غَيْرَهُ من ذلك الْحُكْمِ فَكَانَ نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا ما لو اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا قبل الْقَبْضِ ثُمَّ وَلَدَ وَلَدُهَا وَلَدًا لَا يَكُونُ لِلْوَلَدِ الثَّانِي حِصَّةٌ من الْوَلَدِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ في نَفْسِهِ تَابِعٌ فَلَا يَسْتَتْبِعُ غَيْرَهُ كَذَا هَهُنَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَيَتَّصِلُ بِمَا ذَكَرْنَا الزِّيَادَةُ في الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ وَالْحَطُّ عن الثَّمَنِ وَالْكَلَامُ فِيهِمَا في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ أحدها ( ( ( أحدهما ) ) ) في أَصْلِ الْجَوَازِ أَنَّهُمَا جَائِزَانِ أَمْ لَا
وَالثَّانِي في شَرَائِطِ الْجَوَازِ
وَالثَّالِثُ في كَيْفِيَّةِ الْجَوَازِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ العامة ( ( ( العلماء ) ) ) فيه قال أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ الزِّيَادَةُ في الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ جَائِزَةٌ مَبِيعًا وَثَمَنًا كَأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ على الْمَزِيدِ عليه وَالزِّيَادَةِ جميعا من الِابْتِدَاءِ
وقال زُفَرُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ مَبِيعًا وَثَمَنًا وَلَكِنْ تَكُونُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً فَإِنْ قَبَضَهَا صَارَتْ مِلْكًا له وَإِلَّا تَبْطُلُ وَأَظْهَرُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِثْلُ قَوْلِنَا إنْ كان في مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَإِنْ كان بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَقَوْلُهُ مِثْلُ قَوْلِ زُفَرَ
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا اشْتَرَى رَجُلٌ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وقال الْمُشْتَرِي زِدْتُكَ خَمْسَمِائَةٍ أُخْرَى ثَمَنًا وَقَبِلَ الْبَائِعُ أو قال الْبَائِعُ زِدْتُكَ هذا الْعَبْدَ الْآخَرَ أو قال هذا الثَّوْبَ مَبِيعًا وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي جَازَتْ الزِّيَادَةُ كان الثَّمَنُ في الْأَصْلِ ألف ( ( ( ألفا ) ) ) وَخَمْسَمِائَةٍ وَالْمَبِيعُ في الْأَصْلِ عَبْدَانِ أو عَبْدٌ وَثَوْبٌ سَوَاءٌ كان ذلك قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ زَادَ الْمُشْتَرِي في الثَّمَنِ مِائَةَ دِرْهَمٍ جَازَتْ الزِّيَادَةُ كان الثَّمَنُ في الْأَصْلِ ألف ( ( ( ألفا ) ) ) وَمِائَةً تَنْقَسِمُ الزِّيَادَةُ على قِيمَتِهِمَا وَكَذَلِكَ لو كان لِعَبْدٍ ثَمَنٌ مُسَمًّى أو كان لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنٌ مُسَمًّى وزاد الْمُشْتَرِي في الثَّمَنِ مِائَةً مُطْلَقًا انْقَسَمَتْ الزِّيَادَةُ على قَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ في الْقِيمَتَيْنِ من الْوَارِثَيْنِ بَعْدَ مَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ لِأَنَّ الْوَارِثَ خَلَفَ الْمُوَرِّثَ في مِلْكِهِ الْقَائِمِ بَعْدَ مَوْتِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ عليه كأن الْوَارِثُ حي ( ( ( حيا ) ) ) قائم ( ( ( قائما ) ) ) فَزَادَ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ من الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِتَوْلِيَةٍ مُسْتَفَادَةٍ من قِبَلِ الْمُوَكِّلِ
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ من الْأَجْنَبِيِّ فَلَا شَكَّ أَنَّ عِنْدَهُمَا لَا تَجُوزُ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَإِنْ زَادَ بِأَمْرِ الْعَاقِدِ جَازَ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُ في الزِّيَادَةِ وَإِنْ زَادَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَقَفَتْ الزِّيَادَةُ على إجَازَتِهِ إنْ أَجَازَ جَازَتْ وَإِنْ رَدَّ بَطَلَتْ إلَّا أَنْ يَضْمَنَ الزَّائِدُ الزِّيَادَةَ فَيَجُوزُ وَلَا يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْعَاقِدِ وأن لم يَحْصُلْ لِلْأَجْنَبِيِّ بِمُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ شَيْءٌ وَعَلَى هذا قالوا فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ على أَنَّ خَمْسَمِائَةٍ سِوَى الْأَلْفِ على رَجُلٍ ضَمِنَهُ وَقَبِلَ فَالْعَبْدُ لِلْمُشْتَرِي وَالْخَمْسُمِائَةِ على الثَّالِثِ من غَيْرِ أَنْ يَسْتَحِقَّ شيئا بِالْخَمْسِمِائَةِ
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا قال الرَّجُلُ بِعْ هذه الدَّارَ من فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ على أَنِّي ضَامِنٌ لك من الثَّمَنِ خَمْسَمِائَةٍ إن الْبَيْعَ على هذا الشَّرْطِ صَحِيحٌ وَالْخَمْسُمِائَةِ على الْأَجْنَبِيِّ
وَلَوْ قال على أَنِّي ضَامِنٌ لك خَمْسَمِائَةٍ ولم يَقُلْ من الثَّمَنِ كان بَاطِلًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ في الْمَهْرِ الْمُسَمَّى في النِّكَاحِ وَأَمَّا الزِّيَادَةُ في الْمَنْكُوحَةِ بِالْمَهْرِ الْأَوَّلِ فَلَا تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ في رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ في الْمُسْلَمِ فيه فَلَا تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ في الرَّهْنِ
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ في الدَّيْنِ فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ اسْتِحْسَانًا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ جَائِزٌ قِيَاسًا وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بين الزِّيَادَةِ في الرَّهْنِ وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ في الدَّيْنِ نَذْكُرُهُ في كِتَابِ الرَّهْنِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ حَطُّ بَعْضِ الثَّمَنِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَيَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَالثَّمَنِ هذا الْقَدْرُ من الِابْتِدَاءِ حتى أن الْمَبِيعَ إذَا كان دَارًا فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ بِمَا بَقِيَ بَعْدَ الْحَطِّ وَعِنْدَهُمَا هو هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ إلَّا أَنَّ قِيَامَ الدَّيْنِ عليه أو كَوْنَهُ قَابِلًا لِاسْتِئْنَافِ الْعَقْدِ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَطِّ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وفي الزِّيَادَةِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إن الثَّمَنَ وَالْمَبِيعَ من الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ الْمُتَقَابِلَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ مَبِيعٌ بِلَا ثَمَنٍ وَلَا ثَمَنٌ بِلَا مَبِيعٍ فَالْقَوْلُ بِجَوَازِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ مَبِيعًا وَثَمَنًا قَوْلٌ بِوُجُودِ الْمَبِيعِ وَلَا ثَمَنَ وَالثَّمَنِ وَلَا مَبِيعَ لِأَنَّ الْمَبِيعَ اسْمٌ لِمَالٍ يُقَابِلُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي وهو الثَّمَنُ وَالثَّمَنُ اسْمٌ لِمَالٍ يُقَابِلُ مِلْكَ الْبَائِعِ وهو الْمَبِيعُ فَالزِّيَادَةُ من الْبَائِعِ لو صَحَّتْ مَبِيعًا لَا تُقَابِلُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي بَلْ تُقَابِلُ مِلْكَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ مَلَكَ جَمِيعَ الثَّمَنِ
وَلَوْ صَحَّتْ من الْمُشْتَرِي ثَمَنًا لَا تُقَابِلُ مِلْكَ الْبَائِعِ بَلْ تُقَابِلُ مِلْكَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ مَلَكَ جَمِيعَ الْمَبِيعِ فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ مَبِيعًا وَثَمَنًا لِانْعِدَامِ حَقِيقَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فَيُجْعَلُ منه هِبَةً مُبْتَدَأَةً وَلِأَنَّ كُلَّ الْمَبِيعِ لَمَّا صَارَ مُقَابَلًا بِكُلِّ الثَّمَنِ وَكُلُّ الثَّمَنِ مُقَابَلٌ بِكُلِّ الْمَبِيعِ فَالزِّيَادَةُ لو صَحَّتْ مَبِيعًا وَثَمَنًا لَخَلَتْ عَمَّا يُقَابِلُهُ فَكَانَتْ فَضْلَ مَالٍ خَالٍ عن الْعِوَضِ في عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَهَذَا تَفْسِيرُ الرِّبَا

____________________

(5/258)


وَلَنَا في الزِّيَادَةِ في الْمَهْرِ قَوْله تَعَالَى { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ من بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } أَيْ من بَعْدِ تِلْكَ الْفَرِيضَةِ لِأَنَّ النَّكِرَةَ إذَا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً يزاد ( ( ( يراد ) ) ) بِالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ
أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِإِيتَاءِ الْمُهُورِ الْمُسَمَّاةِ في النِّكَاحِ وَأَزَالَ الْجُنَاحَ في الزِّيَادَةِ على الْمُسَمَّى لِأَنَّ ما يَتَرَاضَاهُ الزَّوْجَانِ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ هو الزِّيَادَةُ في الْمَهْرِ فَيَدُلُّ على جَوَازِ الزِّيَادَةِ
وَرُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لِلْوَازِنِ زِنْ وَأَرْجِحْ فَإِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ هَكَذَا نَزِنُ وَهَذَا زِيَادَةٌ في الثَّمَنِ وقد نُدِبَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَيْهَا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ الْجَوَازُ وَرُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي لُزُومَ الْوَفَاءِ بِكُلِّ شَرْطٍ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ لِأَنَّهُ يقتضى أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُسْلِمٍ عِنْدَ شَرْطِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ إذَا صَحَّتْ الزِّيَادَةُ مَبِيعًا وَثَمَنًا فَأَمَّا إذَا كانت هِبَةً مُبْتَدَأَةً فَلَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ لِأَنَّ الْعَاقِدَيْنِ أَوْقَعَا الزِّيَادَةَ مَبِيعًا وَثَمَنًا كما لو تَبَايَعَا ابْتِدَاءً وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ يَقَعُ على الْوَجْهِ الذي أَوْقَعَهُ إذَا كان أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ وَالْمَحَلُّ قَابِلًا وَلَهُ وِلَايَةٌ عليه وقد وُجِدَ
وَقَوْلُهُمَا إن الثَّمَنَ اسْمٌ لِمَالٍ يُقَابِلُ مِلْكَ الْبَائِعِ وَالْمَبِيعَ اسْمٌ لِمَالٍ يُقَابِلُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي
قُلْنَا هذا مَمْنُوعٌ بَلْ الثَّمَنُ اسْمٌ لِمَا أَزَالَ الْمُشْتَرِي مِلْكَهُ وَيَدَهُ عنه بِمُقَابَلَةِ مَالٍ أَزَالَ الْبَائِعُ مِلْكَهُ وَيَدَهُ عنه فَيَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَالَ الذي كان مِلْكَ صَاحِبِهِ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ عنه شَرْعًا على ما عُرِفَ
ثُمَّ نَقُولُ ما ذَكَرَاهُ حَدُّ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَالزِّيَادَةِ في الْمَبِيعِ وَالثَّمَنُ مَبِيعٌ وَثَمَنٌ من حَيْثُ الصُّورَةُ وَالتَّسْمِيَةُ رِبْحٌ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الرِّبْحَ حَقِيقَةُ ما يُمْلَكُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا بِمُقَابَلَةِ ما هو مَالٌ حَقِيقَةً بَلْ من حَيْثُ الصُّورَةِ وَالتَّسْمِيَةُ وَالزِّيَادَةُ هَهُنَا كَذَلِكَ فَكَانَتْ رِبْحًا حَقِيقَةً فَكَانَ من شَرْطِهَا أَنْ لَا تَكُونَ مُقَابَلَةً بِمِلْكِ الْبَائِعِ إلَّا تَسْمِيَةً وَشَرْطُ الشَّيْءِ كَيْفَ يَمْنَعُ صِحَّتَهُ على أَنَّهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ وَالزِّيَادَةِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ في الْبَيْعِ هو قِيمَةُ الْمَبِيعِ وهو مَالِيَّتُهُ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةٌ بِطَرِيقِ الْمُعَادَلَةِ عُرْفًا وَحَقِيقَةً وَالْمُقَابَلَةُ عِنْدَ التَّسَاوِي في الْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا لو فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ تَجِبُ الْقِيمَةُ عِنْدَنَا وَالثَّمَنُ تَقْدِيرٌ لِمَالِيَّةِ الْمَبِيعِ بِاتِّفَاقِ الْعَاقِدَيْنِ وإذا زَادَ في الْمَبِيعِ أو الثَّمَنِ عُلِمَ أَيُّهُمَا أَخْطَأَ في التَّقْدِيرِ وَغَلِطَ فيه وما هو الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ قد ثَبَتَ بِالْبَيْعِ فإذا بَيَّنَّا التَّقْدِيرَ كان ذلك بَيَانًا لِلْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ إلَّا أَنَّهُ ابْتِدَاءُ إيجَابٍ فَكَانَ عِوَضًا عن مِلْكِ الْعَيْنِ لَا عن مِلْكِ نَفْسِهِ وَهَذَا الْكَلَامُ في الْمَهْرِ أَغْلَبُ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ فيه هو مَهْرُ الْمِثْلِ على ما عَرَفْتَ على أَنَّهُ إنْ كان لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ مع بَقَاءِ الْعَقْدِ على حَالِهِ يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ مع تَغْيِيرِ الْعَقْدِ من حَيْثُ الْوَصْفُ بِأَنْ يُجْعَلَ الْأَلْفُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ بِمُقَابَلَةِ نِصْفِ الْعَبْدِ لِيَخْلُوَ النِّصْفُ عن الثَّمَنِ فَتَجْعَلُ الْأَلْفُ الزِّيَادَةُ بِمُقَابَلَةِ النِّصْفِ الْخَالِي وَهَذَا وَإِنْ كان تَغْيِيرًا وَلَكِنَّهُمَا قَصَدَا تَصْحِيحَ التَّصَرُّفِ وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِالتَّغْيِيرِ وَلَهُمَا وِلَايَةُ التَّغْيِيرِ
أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُمَا وِلَايَةَ الْفَسْخِ وَأَنَّهُ فَوْقَ التَّغْيِيرِ لِأَنَّ الْفَسْخَ رَفَعَ الْأَصْلَ وَالْوَصْفَ وَالتَّغْيِيرَ تَبْدِيلُ الْوَصْفِ مع بَقَاءِ أَصْلِ الْعَقْدِ فلما ثَبَتَ لَهُمَا وِلَايَةُ الْفَسْخِ فَوِلَايَةُ التَّغْيِيرِ أَوْلَى وَلَهُمَا حَاجَةٌ إلَى التَّغْيِيرِ لِدَفْعِ الْغَبْنِ أو لِمَقْصُودٍ آخَرَ فَمَتَى اتَّفَقَا على الزِّيَادَةِ وَقَصَدَا الصِّحَّةَ وَلَا صِحَّةَ إلَّا بهذا الشَّرْطِ يُثْبِتُ هذا الشَّرْطُ مُقْتَضَى تَصَرُّفِهِمَا تَصْحِيحًا له كما في قَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ فَمِنْهَا الْقَبُولُ من الْآخَرِ حتى لو زَادَ أَحَدُهُمَا ولم يَقْبَلْ الْآخَرُ لم تَصِحَّ الزِّيَادَةُ
وَمِنْهَا الْمَجْلِسُ حتى لو افْتَرَقَا قبل الْقَبُولِ بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ في الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ إيجَابُ الْبَيْعِ فِيهِمَا فَلَا بُدَّ من الْقَبُولِ في الْمَجْلِسِ كما في أَصْلِ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ وَأَمَّا الْحَطُّ فَلَا يُشْتَرَطُ له الْمَجْلِسُ وَلَا الْقَبُولُ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ في الثَّمَنِ بِالْإِسْقَاطِ وَالْإِبْرَاءِ عن بَعْضِهِ فَيَصِحُّ من غَيْرِ قَبُولٍ إلَّا أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ كَالْإِبْرَاءِ عن الثَّمَنِ كُلِّهِ
وَأَمَّا كَوْنُ الزِّيَادَةِ وَالْمَزِيدِ عليه من غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا فَهَلْ هو شَرْطٌ لِصِحَّةِ الزِّيَادَةِ ثَمَنًا وَمَبِيعًا وَكَذَا كَوْنُ الْحَطِّ من غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا هل هو شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ حَطًّا وَهَلْ يُؤَثِّرَانِ في فَسَادِ الْعَقْدِ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ ليس بِشَرْطٍ وَيُؤَثِّرَانِ فيه وَعَلَى قَوْلِ أبي يُوسُفَ شَرْطٌ فَيُبْطِلَانِ وَلَا يُؤَثِّرَانِ في الْعَقْدِ
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ شَرْطٌ في الزِّيَادَةِ لَا في الْحَطِّ على ما نَذْكُرُ وَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ لِصِحَّةِ الزِّيَادَةِ فَتَصِحُّ الزِّيَادَةُ سَوَاءٌ كانت قبل قَبْضِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ أو بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ الْحَطُّ لِأَنَّ دَلِيلَ جَوَازِ الزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ
وَأَمَّا قِيَامُ الْمَبِيعِ وَقْتَ الزِّيَادَةِ فَهَلْ هو شَرْطٌ لِصِحَّةِ الزِّيَادَةِ ذَكَرَ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ
____________________

(5/259)


شَرْطٌ ولم يذكر الْخِلَافَ
وَرَوَى أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ عن أبي حَنِيفَةَ رحمهم ( ( ( رحمهما ) ) ) اللَّهُ في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ عِنْدَهُ حتى لو هَلَكَ الْمَبِيعُ في يَدِ الْمُشْتَرِي أو اسْتَهْلَكَهُ أو أَعْتَقَهُ أو دَبَّرَهُ أو اسْتَوْلَدَهَا أو كان عَصِيرًا فَتَخَمَّرَ أو أَخْرَجَهُ الْمُشْتَرِي عن مِلْكِهِ جَازَتْ الزِّيَادَةُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا تَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الزِّيَادَةَ تَصَرُّفٌ في الْعَقْدِ بِالتَّغْيِيرِ وَالْعَقْدُ مُنْعَدِمٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ يعطي له حُكْمُ الْقِيَامِ لِقِيَامِ أَثَرِهِ وهو الْمِلْكُ ولم يَبْقَ بِهَلَاكِ الْعَيْنِ حَقِيقَةً أو حُكْمًا فلم يَبْقَ الْعَقْدُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ بِالزِّيَادَةِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَثْبُتُ عِنْدَنَا بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَالْمُسْتَنِدُ يَثْبُتُ لِلْحَالِ ثُمَّ يَسْتَنِدُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَجْعَلَ شيئا من الْمَبِيعِ بِمُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ لِلْحَالِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذلك بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ فَلَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِنَادَ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لها حِصَّةٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك بَعْدَ الْهَلَاكِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ في الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ لَا تَسْتَدْعِي الْمُقَابَلَةَ لِأَنَّهَا رِبْحٌ في الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كانت مَبِيعًا وَثَمَنًا صُورَةً وَتَسْمِيَةً وَمِنْ شَأْنِ الرِّبْحِ أَنْ لَا يُقَابِلَهُ شَيْءٌ فَلَا يَكُونُ قِيَامُ الْمَبِيعِ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا
وَقَوْلُهُ الْعَقْدُ مُنْعَدِمٌ عِنْدَ الزِّيَادَةِ قُلْنَا الزِّيَادَةُ عِنْدَنَا تُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ عِنْدَ وُجُودِهِ يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ إنْ كانت الزِّيَادَةُ تغيرا ( ( ( تغييرا ) ) ) على أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قِيَامَ الْمَبِيعِ شَرْطٌ لِبَقَاءِ الْبَيْعِ فإن الْبَيْعَ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ يَحْتَمِلُ الانتقاض ( ( ( الانتفاض ) ) ) في الْجُمْلَةِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ فإن الْمُشْتَرِيَ إذَا اطَّلَعَ على عَيْبٍ كان بِهِ قبل الْهَلَاكِ يَرْجِعُ عليه بِالنُّقْصَانِ وَالرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ فَسْخٌ لِلْبَيْعِ في قَدْرِ الْفَائِتِ بِالْعَيْبِ بَعْدَ هَلَاكِهِ وَهَلَاكِ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عليه دَلَّ أَنَّ الْعَقْدَ يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ هَلَاكِ الْمَعْقُودِ عليه في الْجُمْلَةِ إذَا كان في بَقَائِهِ فَائِدَةٌ وَهَهُنَا في بَقَائِهِ فَائِدَةٌ فيبقي في حَقِّهِ كما في حَقِّ الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ في مَهْرِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ مَوْتِهَا أنها جَائِزَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا تَجُوزُ وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِجَارِيَةٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ زَادَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ جَازَتْ الزِّيَادَةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ عِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ
وَأَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُمَا تَبَايَعَا عَيْنًا بِعَيْنٍ وَالْعَقْدُ عِنْدَهُ إذَا وَقَعَ على عَيْنٍ بِعَيْنٍ فَهَلَاكُ أَحَدِ الْعَيْنَيْنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الزِّيَادَةِ وَلَوْ كان الْمَبِيعُ قَائِمًا لَكِنْ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَأَخَذَ أَرْشَهَا ثُمَّ زَادَ الْمُشْتَرِي في الثَّمَنِ شيئا جَازَتْ الزِّيَادَةُ
أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ هَلَاكَ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عليه لَا يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه قَائِمٌ فَكَانَ الْعَقْدُ قَائِمًا فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلتَّغْيِيرِ بِالزِّيَادَةِ وَلَوْ رَهَنَ الْمَبِيعَ أو آجَرَهُ ثُمَّ زَادَ الْمُشْتَرِي في الثَّمَنِ جَازَتْ الزِّيَادَةُ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا على اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ على ما ذَكَرْنَا وقال مُحَمَّدٌ لو اشْتَرَى جَارِيَةً وَقَبَضَهَا فَمَاتَتْ في يَدِهِ وزاد الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ جَارِيَةً أُخْرَى فَالزِّيَادَةُ جَائِزَةٌ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَبِيعِ تَثْبُتُ بِمُقَابَلَةِ الثَّمَنِ وَالثَّمَنُ قَائِمٌ وَلَوْ زَادَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ لم يَجُزْ لِأَنَّ زِيَادَةَ الثَّمَنِ تَثْبُتُ مُقَابَلَةً بِالْمَبِيعِ وَأَنَّهُ هَالِكٌ
وَهَذَا على قِيَاسِ قَوْلِهِمَا أن قِيَامَ الْمَبِيعِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الزِّيَادَةِ فَهَلَاكُهُ يَكُونُ مَانِعًا أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَالزِّيَادَةُ في الْحَالَيْنِ جَائِزَةٌ لِأَنَّ قِيَامَ الْمَبِيعِ عِنْدَهُ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الزِّيَادَةِ فَلَا يَكُونُ هَلَاكُهُ مَانِعًا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا قِيَامُ الْمَعْقُودِ عليه فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَطِّ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الزِّيَادَةِ فَالْحَطُّ أَوْلَى
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ ليس من شَرْطِ صِحَّةِ الْحَطِّ أَنْ يَلْتَحِقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لَا مَحَالَةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ الْحَطُّ عن جَمِيعِ الثَّمَنِ فَلَا يَلْتَحِقُ إذْ لو الْتَحَقَ لعرى الْعَقْدُ عن الثَّمَنِ فلم يَلْتَحِقْ وَاعْتُبِرَ حَطًّا لِلْحَالِ وَلِأَنَّ الْحَطَّ ليس تَصَرُّفَ مُقَابَلَةٍ لِيُشْتَرَطَ له قِيَامُ الْمَحِلِّ الْقَابِلِ بَلْ هو تَصَرُّفٌ في الثَّمَنِ بِإِسْقَاطِ شَطْرِهِ فَلَا يُرَاعَى له قِيَامُ الْمَعْقُودِ عليه بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا ثُمَّ الزِّيَادَةُ مع الْحَطِّ يَخْتَلِفَانِ في حُكْمٍ آخَرَ وهو أَنَّ الزِّيَادَةَ تَنْقَسِمُ على قَدْرِ قِيمَةِ الْمَبِيعِ وَالْحَطُّ لَا يَنْقَسِمُ كما لو اشْتَرَى عَبْدَيْنِ من رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَزَادَهُ الْمُشْتَرِي مِائَةَ دِرْهَمٍ فإن الزِّيَادَةَ تَنْقَسِمُ على قَدْرِ قِيمَتِهِمَا سَوَاءٌ اشْتَرَى ولم يُسَمِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا أو سَمَّى
وَإِنْ حَطَّ الْبَائِعُ عن الْمُشْتَرِي مِائَةَ دِرْهَمٍ كان الْحَطُّ نِصْفَيْنِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّمَنَ يُقَابِلُ الْمَبِيعَ فإذا زَادَ في ثَمَنِ الْمَبِيعَيْنِ مُطْلَقًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ تُقَابِلَهُمَا الزِّيَادَةُ كَأَصْلِ الثَّمَنِ وَالْمُقَابَلَةُ في غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا تَقْتَضِي الِانْفِسَاخَ من حَيْثُ الْقِيمَةُ حُكْمًا لِلْمُعَاوَضَةِ وَالْمُزَاحَمَةِ كَمُقَابَلَةِ أَصْلِ الثَّمَنِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
بِخِلَافِ الْحَطِّ فإنه لَا تَعَلُّقَ له بِالْمَبِيعِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ في الْمَبِيعِ خَاصَّةً بِإِسْقَاطِ بَعْضِهِ فإذا حَطَّ من ثَمَنِهِمَا مُطْلَقًا فَقَدْ سَوَّى بَيْنَهُمَا في الْحَطِّ فَكَانَ الْحَطُّ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِنْ كان
____________________

(5/260)


ثَمَنُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى زِيَادَةِ قَدْرِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْحَطَّ غَيْرُ مُقَابَلٍ بِالثَّمَنِ حتى تُعْتَبَرَ قِيمَةُ الْقَدْرِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْجَوَازِ فَالزِّيَادَةُ في الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ عِنْدَنَا تَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ كان الْعَقْدَ من الِابْتِدَاءِ وَرُدَّ على الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جميعا إذَا لم يَتَضَمَّنْ الِالْتِحَاقُ فَسَادَ أَصْلِ الْعَقْدِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا
وَكَذَلِكَ الْحَطُّ فَأَمَّا إذَا تَضَمَّنَ ذلك بِأَنْ كانت الزِّيَادَةُ في الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فَهَلْ يَلْتَحِقُ بِهِ وَيُفْسِدُهُ أَمْ لَا يَلْتَحِقُ بِهِ وَكَذَلِكَ الْحَطُّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في ذلك قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ يَلْتَحِقَانِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَيُفْسِدَانِهِ وقال أبو يُوسُفَ يُبْطِلَانِهِ وَلَا يَلْتَحِقَانِ بِأَصْلٍ وَأَصْلُ الْعَقْدِ صَحِيحٌ على حَالِهِ
وقال مُحَمَّدٌ الزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ وَالْعَقْدُ على حَالِهِ وَالْحَطُّ جَائِزٌ هِبَةً مُبْتَدَأَةً وَهَذَا بِنَاءً على أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ الْمُتَأَخِّرَ عن الْعَقْدِ الصَّحِيحِ إذَا أُلْحِقَ بِهِ هل يَلْتَحِقُ بِهِ وَيُؤَثِّرُ في فَسَادِهِ أَمْ لَا وهو على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ فَاسِدٍ مُتَأَخِّرٍ عن الْعَقْدِ الصَّحِيحِ أُلْحِقَ بِهِ فَأَبُو يُوسُفَ يقول لَا تَصِحُّ الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ في أَمْوَالِ الرِّبَا لِأَنَّ ذلك لو صَحَّ لَالْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ
وَلَوْ الْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لَأَوْجَبَ فَسَادَ أَصْلِ الْعَقْدِ لِتَحَقُّقِ الرِّبَا فلم يَصِحَّ فَبَقِيَ أَصْلُ الْعَقْدِ صَحِيحًا كما كان وَمُحَمَّدٌ يقول لَا يصلح ( ( ( تصح ) ) ) الزِّيَادَةُ لِمَا قَالَهُ أبو يُوسُفَ فلم تُؤَثِّرْ في أَصْلِ الْعَقْدِ فَبَقِيَ على حَالِهِ وَيَصِحُّ الْحَطُّ لِأَنَّ الِالْتِحَاقَ من لَوَازِمِ الزِّيَادَةِ فَأَمَّا ما ليس من لَوَازِمِ الزِّيَادَةِ فَلَا يَصِحُّ الْحَطُّ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وأبو حَنِيفَةَ يقول الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ صَحِيحَانِ زِيَادَةً وَحَطًّا لِأَنَّ الْعَاقِدَيْنِ أَوْقَعَاهُمَا زِيَادَةً وَحَطًّا وَلَهُمَا وِلَايَةُ فَيَقَعَانِ زِيَادَةً وَحَطًّا وَمِنْ شَأْنِ الزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ الِالْتِحَاقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَلْتَحِقَانِ بِهِ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ هَهُنَا إبْطَالًا لِلْعَقْدِ السَّابِقِ وَلَهُمَا وِلَايَةُ الْإِبْطَالِ بِالْفَسْخِ وَكَذَا بِالزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْبَيْعُ الذي فيه خِيَارٌ فَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ حُكْمِهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ الْخِيَارَاتِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْخِيَارَاتُ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَثْبُتُ شَرْطًا وَنَوْعٌ يَثْبُتُ شَرْعًا لَا شَرْطًا وَالشَّرْطُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَثْبُتَ نَصًّا وَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ دَلَالَةً
أَمَّا الْخِيَارُ الثَّابِتُ بِالشَّرْطِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا يُسَمَّى خِيَارُ التَّعْيِينِ
وَالثَّانِي خِيَارُ الشَّرْطِ
أَمَّا خِيَارُ التَّعْيِينِ فَالْكَلَامُ فيه في جَوَازِ الْبَيْعِ الذي فيه خِيَارُ التَّعْيِينِ قد ذَكَرْنَاهُ في مَوْضِعِهِ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى بَيَانِ حُكْمِ هذا الْبَيْعِ وَإِلَى بَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ وَإِلَى بَيَانِ ما يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَلْزَمُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَحُكْمُهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي في أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ غير عَيْنٍ وَخِيَارُ التَّعْيِينِ أليه عُرِفَ ذلك بِنَصِّ كَلَامِهِمَا حَيْثُ قال الْبَائِعُ بِعْت مِنْك أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ أو هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ أو الدَّابَّتَيْنِ أو غَيْرِهِمَا من الْأَشْيَاءِ الْمُتَفَاوِتَةِ على أَنْ تَأْخُذَ أَيَّهُمَا شِئْت وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي
وَهَذَا يُوجِبُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي في أَحَدِهِمَا وَثُبُوتَ خِيَارِ التَّعْيِينِ له وَالْآخَرُ يَكُونُ مِلْكُ الْبَائِعِ أَمَانَةً في يَدِهِ ذا قَبَضَهُ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لَا على وَجْهِ التَّمْلِيكِ وَلَا على وَجْهِ الثُّبُوتِ فَكَانَ أَمَانَةً وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهُمَا جميعا لِأَنَّ الْمَبِيعَ أَحَدُهُمَا
وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قبل الْقَبْضِ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْهَالِكُ هو الْمَبِيعُ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهَلَاكِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ فَلَا يَبْطُلُ وَالْبَيْعُ قد صَحَّ بِيَقِينٍ وَوَقَعَ الشَّكُّ في بُطْلَانِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِثَمَنِهِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّ الْمَبِيعَ قد تَغَيَّرَ قب ( ( ( قبل ) ) ) الْقَبْضِ بِالتَّعْيِينِ فَيُوجِبُ الْخِيَارَ وَكَذَلِكَ لو كان اشْتَرَى أَحَدَ الْأَثْوَابِ الثَّلَاثَةِ فَهَلَكَ وَاحِدٌ منها وَبَقِيَ اثْنَانِ لَا يَبْطُلُ لِمَا قُلْنَا وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ لِأَنَّ الْمَالِكَ إذَا لم يُعَيِّنْ الْمَبِيعَ كان أَحَدَ الْبَاقِينَ فَكَانَ له أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا كما لو اشْتَرَى أَحَدَهُمَا من الِابْتِدَاءِ
وَلَوْ هَلَكَ الْكُلُّ قبل الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْمَبِيعَ قد هَلَكَ بقين ( ( ( بيقين ) ) ) فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا صِفَةُ هذا الْحُكْمِ فَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ الثبت ( ( ( الثابت ) ) ) بهذا الْبَيْعِ قبل الِاخْتِيَارِ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُمَا جميعا لِأَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ يَمْنَعُ لُزُومَ الْعَقْدِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَيَمْنَعُ لُزُومَ الْمِلْكِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ وَهَذَا لِأَنَّ جَوَازَ هذا النَّوْعِ من الْبَيْعِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِتَعَامُلِ الناس لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذلك لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَا تَنْعَدِمُ حَاجَتُهُمْ إلَّا بَعْدَ اللُّزُومِ
لِأَنَّهُ عَسَى لَا يُوَافِقُهُ كِلَاهُمَا جميعا فَيَحْتَاجَ إلَى رَدِّهِمَا
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ ما يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ اخْتِيَارِيٌّ وَضَرُورِيٌّ وَالِاخْتِيَارِيُّ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا صَرِيحُ الِاخْتِيَارِ وما يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ وَالثَّانِي الِاخْتِيَارُ من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ
أَمَّا الصَّرِيحُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ
____________________

(5/261)


اخْتَرْت هذا الثَّوْبَ أو شِئْته أو رَضِيت بِهِ أو اخْتَرْته وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا فَقَدْ عَيَّنَ مِلْكَهُ فيه فَيَسْقُطُ خِيَارُ التَّعْيِينِ وَلَزِمَ الْبَيْعُ
وَأَمَّا الِاخْتِيَارُ من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ منه فِعْلٌ في أَحَدِهِمَا يَدُلُّ على تَعْيِينِ الْمِلْكِ فيه وهو كُلُّ تَصَرُّفٍ هو دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْمِلْكِ في الشِّرَاءِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَسَنَذْكُرُ ذلك في الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ في أَحَدِهِمَا فَتَصَرُّفُهُ مَوْقُوفٌ إنْ تَعَيَّنَ ما تَصَرَّفَ فيه لِلْبَيْعِ لم يَنْفُذْ تَصَرُّفُهُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَصَرَّفَ في مِلْكِ غَيْرِهِ وَإِنْ تَعَيَّنَ ما تَصَرَّفَ فيه لِلْأَمَانَةِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ إنه تَصَرَّفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَنْفُذُ
وَأَمَّا الضَّرُورِيُّ فَنَحْوَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَيَبْطُلَ الْخِيَارُ لِأَنَّ الْهَالِكَ مِنْهُمَا تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وَلَزِمَهُ ثَمَنُهُ وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْأَمَانَةِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مَبِيعٌ وَالْآخَرُ أَمَانَةٌ وَالْأَمَانَةُ مِنْهُمَا مُسْتَحَقُّ الرَّدِّ على الْبَائِعِ وقد خَرَجَ الْهَالِكُ عن احْتِمَالِ الرَّدِّ فيه فَتَعَيَّنَ الْبَاقِي لِلرَّدِّ فَتَعَيَّنَ الْهَالِكُ لِلْبَيْعِ ضَرُورَةً
وَلَوْ هَلَكَا جميعا قبل الْقَبْضِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إن هَلَكَا على التَّعَاقُبِ وَإِمَّا إن هَلَكَا مَعًا فَإِنْ هَلَكَا على التَّعَاقُبِ فَالْأَوَّلُ يَهْلِكُ مَبِيعًا وَالْآخَرُ أَمَانَةً لِمَا ذَكَرْنَا
وَإِنْ هَلَكَا مَعًا لَزِمَهُ ثَمَنُ نِصْفِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ ليس أَحَدُهُمَا بِالتَّعْيِينِ أَوْلَى من الْآخَرِ فَشَاعَ الْبَيْعُ فِيهِمَا جميعا
وَلَوْ هَلَكَا على التَّعَاقُبِ لَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا في تَرْتِيبِ الْهَلَاكِ فَإِنْ كان ثَمَنُهُمَا مُتَسَاوِيًا فَلَا فَائِدَةَ في هذا الِاخْتِلَافِ لِأَنَّ أَيَّهُمَا هَلَكَ أَوَّلًا فَثَمَنُ الْآخَرِ مِثْلُهُ فَلَا يُفِيدُ الِاخْتِلَافُ
وَإِنْ كان مُتَفَاوِتًا بِأَنْ كان ثَمَنُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ فَادَّعَى الْبَائِعُ هَلَاكَ أَكْثَرِهِمَا ثَمَنًا وَادَّعَى الْمُشْتَرِي هَلَاكَ أَقَلِّهِمَا ثَمَنًا
كان أبو يُوسُفَ أَوَّلًا يقول يَتَحَالَفَانِ وَأَيُّهُمَا نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ وَإِنْ حَلَفَا جميعا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا هَلَكَا مَعًا وَيَلْزَمُهُ ثَمَنُ نِصْفِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
ثُمَّ رَجَعَ وقال الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مع يَمِينِهِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا على أَصْلِ الدَّيْنِ وَاخْتَلَفَا في قَدْرِهِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ مَتَى وَقَعَ بين صَاحِبِ الدَّيْنِ وَبَيْنَ الْمَدْيُونِ في قَدْرِ الدَّيْنِ أو في جِنْسِهِ أو نَوْعِهِ أو صِفَتِهِ كان الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَدْيُونِ مع يَمِينِهِ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ يَدَّعِي عليه زِيَادَةً وهو يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَسَقَطَتْ الْيَمِينُ وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ زِيَادَةً
وَلَوْ تَعَيَّبَ أَحَدُهُمَا فَإِنْ كان قبل الْقَبْضِ لَا يَتَعَيَّنُ الْمَعِيبُ لِلْبَيْعِ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لم يُوجَدْ لَا نَصًّا وَلَا دَلَالَةً وَلَا ضَرُورَةَ إلَى التَّعْيِينِ أَيْضًا لِإِمْكَانِ الرَّدِّ وَالْمُشْتَرِي على خِيَارِهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَعِيبَ مِنْهُمَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْآخَرَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمَا كما لو لم يَتَعَيَّبْ أَصْلًا فَإِنْ أَخَذَ الْمَعِيبَ مِنْهُمَا أَخَذَهُ بِجَمِيعِ ثَمَنِهِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ هو الْمَبِيعُ من الْأَصْلِ وَكَذَلِكَ لو تَعَيَّبَا جميعا فَالْمُشْتَرِي على خِيَارِهِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كان بَعْدَ الْقَبْضِ تَعَيَّنَ الْمَعِيبُ لِلْبَيْعِ وَلَزِمَهُ ثَمَنُهُ وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْأَمَانَةِ كما إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّ تَعَيُّبَ الْمَبِيعِ هَلَاكُ بَعْضِهِ فَلِهَذَا مُنِعَ الرَّدُّ وَلَزِمَ الْبَيْعُ في الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ فَكَذَا في غَيْرِ الْمُعَيَّنِ يَمْنَعُ الرَّدَّ وَتَعَيَّنَ الْمَبِيعُ
وَلَوْ تَعَيَّبَا جميعا فَإِنْ كان على التَّعَاقُبِ تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ لِلْبَيْعِ وَلَزِمَهُ ثَمَنُهُ وَيُرَدُّ الْآخَرُ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَغْرَمُ بِحُدُوثِ الْعَيْبِ شيئا لِمَا قُلْنَا إنَّهُ أَمَانَةٌ
وَإِنْ تَعَيَّبَا مَعًا لَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا لِلْبَيْعِ لِأَنَّهُ ليس أَحَدُهُمَا بِالتَّعْيِينِ أَوْلَى من الْآخَرِ
وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِثَمَنِهِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَتَعَيَّنْ أَحَدُهُمَا لِلْبَيْعِ بَقِيَ الْمُشْتَرِي على خِيَارِهِ إلَّا أَنَّهُ ليس له أَنْ يَرُدَّهُمَا جميعا لِأَنَّ الْبَيْعَ قد لَزِمَ في أَحَدِهِمَا بِتَعْيِينِهِمَا في يَدِ الْمُشْتَرِي وَبَطَلَ خِيَارُ الشَّرْطِ
وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ من يقول من الْمَشَايِخِ إنَّ هذا الْبَيْعَ فيه خِيَارَانِ خِيَارُ التَّعْيِينِ وَخِيَارُ الشَّرْطِ وَلَا بُدَّ له من رُتْبَةٍ مَعْلُومَةٍ إذْ لو لم يَكُنْ لَمَلَكَ رَدَّهُمَا جميعا كما لو لم يَتَعَيَّبْ أَحَدُهُمَا أَصْلًا لَكِنَّهُ لم يَمْلِكْ لِأَنَّ رَدَّهُمَا جميعا قبل التَّعْيِيبِ ثَبَتَ حُكْمًا لِخِيَارِ الشَّرْطِ وقد بَطَلَ خِيَارُ الشَّرْطِ بَعْدَ تَعَيُّنِهِمَا مَعًا فلم يَمْلِكْ رَدَّهُمَا وَبَقِيَ خِيَارُ التَّعْيِينِ فَيَمْلِكُ رَدَّ أَحَدِهِمَا
وَلَوْ ازْدَادَ عَيْبُ أَحَدِهِمَا أو حَدَثَ معه غَيْرُهُ لَزِمَهُ ذلك لِأَنَّ عَدَمَ التَّعْيِينِ لِلْمُزَاحَمَةِ وقد بَطَلَتْ بِزِيَادَةِ عَيْبِ أَحَدِهِمَا أو حُدُوثِ عَيْبٍ آخَرَ معه وَلَا يَبْطُلُ هذا الْخِيَارُ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي بَلْ يُورَثُ بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ لِأَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْمُوَرِّثِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ له في أَحَدِهِمَا غير عَيْنٍ وقد قام الْوَارِثُ مَقَامَهُ في ذلك الْمِلْكِ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهُمَا شَاءَ دُونَ الْآخَرِ إلَّا أَنَّهُ ليس له أَنْ يَرُدَّهُمَا جميعا وقد كان لِلْمُوَرِّثِ ذلك
وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ أُولَئِكَ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ لَا بُدَّ من خِيَارَيْنِ في هذا الْبَيْعِ وقد بَطَلَ أَحَدُهُمَا وهو خِيَارُ الشَّرْطِ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ لَا يُورَثُ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا فَبَطَلَ الْحُكْمُ الْمُخْتَصُّ بِهِ وهو وِلَايَةُ رَدِّهِمَا جميعا
هذا إذَا اشْتَرَى أَحَدَهُمَا شِرَاءً صَحِيحًا
____________________

(5/262)


فَأَمَّا إذَا اشْتَرَى أَحَدَهُمَا شِرَاءً فَاسِدًا بِأَنْ قال الْبَائِعُ بِعْت مِنْك أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِكَذَا ولم يذكر الْخِيَارَ أَصْلًا فإن الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ وَاحِدًا مِنْهُمَا قبل الْقَبْضِ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ قبل الْقَبْضِ
فَإِنْ قَبَضَهُمَا مَلَكَ أَحَدَهُمَا مِلْكًا فَاسِدًا
وَأَيُّهُمَا هَلَكَ لَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِالْقِيمَةِ
وَلَوْ هلك ( ( ( هلكا ) ) ) أحدهما فَإِنْ كانت على التَّعَاقُبِ لَزِمَتْهُ قِيمَةُ الْهَالِكِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وإنه بَيْعٌ فَاسِدٌ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقِيمَةِ
ولو هَلَكَا مَعًا لَزِمَهُ نِصْفُ قِيمَةِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ ليس أَحَدُهُمَا بِتَعْيِينِهِ لِلْبَيْعِ أَوْلَى من الْآخَرِ فَشَاعَ الْبَيْعُ فِيهِمَا وَلَوْ تَعَيَّبَ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا جميعا
أَمَّا غَيْرُ الْمَعِيبِ فَلِأَنَّهُ أَمَانَةٌ وَأَمَّا الْمَعِيبُ فَلِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا وَاجِبُ الرَّدِّ فَيَرُدَّهُمَا وَيَرُدَّ مَعَهُمَا نِصْفَ نُقْصَانِ الْعَيْبِ لِأَنَّ الْمُتَعَيِّبَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هو الْمَبِيعُ فَيَجِبُ نُقْصَانُ الْعَيْبِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هو الْأَمَانَةُ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ وَلَا دَلَالَةَ على التَّعْيِينِ فَيَتَنَصَّفَ الْوَاجِبُ
وَلَوْ تَعَيَّبَ الْآخَرُ بَعْدَ ذلك
وَكَذَا الْجَوَابُ في نُقْصَانِ الْآخَرِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَمَانَةٌ وَالْآخَرَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ
وَلَوْ تَعَيَّبَا مَعًا فَكَذَلِكَ يَرُدُّهُمَا مع نِصْفِ نُقْصَانِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا ليس بِأَوْلَى من الْآخَرِ في التَّعْيِينِ لِلْبَيْعِ
وَلَوْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي في أَحَدِهِمَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فيه وَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ في الْآخَرِ بَعْدَ ذلك لِأَنَّ الْمُتَصَرَّفَ فيه تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ
وَلَوْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ في أَحَدِهِمَا فَتَصَرُّفُهُ مَوْقُوفٌ إنْ رُدَّ ذلك عليه نَفَذَ تَصَرُّفُهُ فيه لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَصَرَّفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ وَإِنْ لم يُرَدَّ عليه وَتَصَرَّفَ فيه الْمُشْتَرِي نَفَذَ تَصَرُّفُهُ فيه وَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ وَبَطَلَ تَصَرُّفُ الْبَائِعِ فيه وَكَذَلِكَ إذَا هَلَكَ في يَدِ الْمُشْتَرِي وَالْأَصْلُ أَنَّ في كل مَوْضِعٍ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ الثَّمَنُ في الْبَيْعِ الصَّحِيحِ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي أَمَّا إذَا كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَلَا يَزُولُ أَحَدُهُمَا عن مِلْكِهِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ وَلَهُ أَنْ يُلْزِمَ الْمُشْتَرِيَ أَيَّ ثَوْبٍ شَاءَ قَبْضَهُ لِلْخِيَارِ وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ التَّرْكِ لِأَنَّ الْبَيْعَ بَاتَ في جَانِبِهِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُلْزِمَهُمَا الْمُشْتَرِيَ لِأَنَّ الْمَبِيعَ أَحَدُهُمَا وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قبل الْقَبْضِ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَيَهْلِكُ أَمَانَةً لِمَا ذَكَرْنَا في خِيَارِ الْمُشْتَرِي وَخِيَارُ الْبَائِعِ على حَالِهِ إنْ شَاءَ أَلْزَمَ الْمُشْتَرِيَ الْبَاقِيَ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ فيه لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَيْسَ له أَنْ يُلْزِمَهُ الْهَالِكَ لِأَنَّهُ هَلَكَ أَمَانَةً
وَإِنْ هَلَكَا جميعا قبل الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ بِيَقِينٍ
وَإِنْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ كان الْهَالِكُ أَمَانَةً أَيْضًا كما لو هَلَكَ قبل الْقَبْضِ وَأَلْزَمَهُ الْبَاقِيَ مِنْهُمَا إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ فيه لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ السِّلْعَةِ عن مِلْكِهِ فَيَهْلِكُ على مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَهُ الْخِيَارُ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ هَلَكَا جميعا فَإِنْ كان هَلَاكُهُمَا على التَّعَاقُبِ فَالْأَوَّلُ يَهْلِكُ أَمَانَةً وَعَلَيْهِ قِيمَةُ آخَرِهِمَا هَلَاكًا لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وإنه مَبِيعٌ هَلَكَ في يَدِ الْمُشْتَرِي وَفِيهِ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ وَإِنْ هَلَكَا مَعًا لَزِمَهُ نِصْفُ قِيمَةِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ ليس أَحَدُهُمَا بِالتَّعْيِينِ أَوْلَى من الْآخَرِ
وَلَوْ تَعَيَّبَ أَحَدُهُمَا أو تَعَيَّبَا مَعًا قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ فَخِيَارُ الْبَائِعِ على حَالِهِ لِأَنَّ الْمَعِيبَ لم يَتَعَيَّنْ لِلْعَيْبِ لِانْعِدَامِ الْمُعَيَّنِ فَكَانَ الْبَائِعُ على خِيَارِهِ له أَنْ يُلْزِمَ الْمُشْتَرِيَ أَيَّهُمَا شَاءَ كما قبل التَّعَيُّبِ
ثُمَّ إذَا لَزِمَهُ أَحَدُهُمَا يُنْظَرُ إنْ كان ذلك غير الْمُتَعَيَّبِ مِنْهُمَا لَزِمَهُ ما لَزِمَهُ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي في تَرْكِهِ لِانْعِدَامِ التعين ( ( ( التعيين ) ) ) فيه
وَإِنْ كان ما لَزِمَهُ هو الْمُتَعَيَّبُ فَإِنْ تَعَيَّبَ قبل الْقَبْضِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ قد تَغَيَّرَ قبل الْقَبْضِ وَتَغَيُّرُ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ تَعَيَّبَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا خِيَارَ له لِأَنَّ التعين ( ( ( التعيب ) ) ) بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ إن شَاءَ الْبَائِعُ فَسَخَ الْبَيْعَ وَاسْتَرَدَّهُمَا لِأَنَّ الْبَيْعَ غَيْرُ لَازِمٍ فَلَهُ وِلَايَةُ الْفَسْخِ
ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان تَعَيُّبُهُمَا في يَدِ الْبَائِعِ فَلَا شَيْءَ له لِأَنَّهُمَا تَعَيَّبَا لَا في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كان تَعَيُّبُهُمَا في يَدِ الْمُشْتَرِي فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ من الْمُشْتَرِي نِصْفَ نُقْصَانِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مَضْمُونٌ عِنْدَهُ بِالْقِيمَةِ وَالْآخَرُ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ وَلَا يَعْلَمُ أَحَدَهُمَا من الْآخَرِ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِمَا أو في أَحَدِهِمَا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا ليس بِمَبِيعٍ بِيَقِينٍ وَالْآخَرُ مَبِيعٌ لَكِنْ لِبَائِعِهِ فيه خِيَارٌ وَخِيَارُ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عن مِلْكِهِ
وَلَوْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ في أَحَدِهِمَا جَازَ تَصَرُّفُهُ فيه وَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْبَيْعِ وَلَهُ خِيَارُ الْإِلْزَامُ فيه وَالْفَسْخُ وَلَوْ تَصَرَّفَ فِيهِمَا جميعا جَازَ تَصَرُّفُهُ فِيهِمَا وَيَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِيهِمَا دَلِيلُ إقْرَارِ الْمِلْكِ فِيهِمَا فَيَضْمَنُ فَسْخَ الْبَيْعِ كما في الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ فَالْكَلَامُ في جَوَازِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ
____________________

(5/263)


وَشِرَائِهِ قد م ( ( ( مر ) ) ) في مَوْضِعِهِ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى بَيَانِ صِفَةِ هذا الْبَيْعِ وَإِلَى بَيَانِ حُكْمِهِ وَإِلَى بَيَانِ ما يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وَإِلَى بَيَانِ ما يَنْفَسِخُ بِهِ الْبَيْعُ
أَمَّا صِفَتُهُ فَهِيَ أَنَّهُ بَيْعٌ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ لُزُومَ الصَّفْقَةِ
قال سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أو خِيَارٌ
وَلِأَنَّ الْخِيَارَ هو التَّخْيِيرُ بين الْبَيْعِ وَالْإِجَازَةِ وَهَذَا يَمْنَعُ اللُّزُومَ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ
ثُمَّ الْخِيَارُ كما يَمْنَعُ لُزُومَ الصَّفْقَةِ فَعَدَمُ الْقَبْضِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِنَفْسِ الْبَيْعِ مِلْكٌ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ وَإِنَّمَا التَّأَكُّدُ بِالْقَبْضِ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا كان الْمَبِيعُ شيئا وَاحِدًا أو أَشْيَاءَ أَنَّهُ ليس لِمَنْ له الْخِيَارُ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ من غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ سَوَاءً كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أو لِلْمُشْتَرِي وَسَوَاءً كان الْبَيْعُ مَقْبُوضًا أو غير مَقْبُوضٍ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ في اللُّزُومِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ تَفْرِيقُ أَصْلِ الصَّفْقَةِ وهو الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ إلَّا بِرِضَا الْعَاقِدَيْنِ بِأَنْ يَقْبَلَ الْبَيْعَ في بَعْضِ الْمَبِيعِ دُونَ الْبَعْضِ بَعْدَ إضَافَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ إلَى الْجُمْلَةِ وَيُوجَبُ الْبَيْعُ بَعْدَ إضَافَةِ الْقَبُولِ إلَى جُمْلَتِهِ لَا يَجُوزُ في وَصْفِهَا
وهو أَنْ يَلْزَمَ الْبَيْعُ في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ إلَّا بِرِضَاهُمَا
وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ في يَدِ الْبَائِعِ وَالْخِيَارُ له لم يَكُنْ له أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ في الْبَاقِي إلَّا بِرِضَا الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَيْعَ انْفَسَخَ في قَدْرِ الْهَالِكِ فَالْإِجَازَةُ في الْبَاقِي تَكُونُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ على الْمُشْتَرِي فَلَا يَجُوزُ من غَيْرِ رِضَاهُ
وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا في يَدِ الْمُشْتَرِي فَلِلْبَائِعِ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ في الْبَاقِي في قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ وَلَيْسَ له أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ في الْبَاقِي وَإِنْ كان الْمَبِيعُ بما ( ( ( مما ) ) ) له مِثْلٌ من الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ فَهَلَكَ بَعْضُهُ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ في الْبَاقِي بِلَا خِلَافٍ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِجَازَةَ هَهُنَا بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ التَّمْلِيكِ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عن مِلْكِهِ فَكَانَ لِلْإِجَازَةِ حُكْمُ الْإِنْشَاءِ وَالْهَالِكُ مِنْهُمَا خَرَجَ عن احْتِمَالِ الْإِنْشَاءِ وَالْإِنْشَاءُ في الْبَاقِي تَمْلِيكٌ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ فِيمَا لَا مِثْلَ له فلم يَحْتَمِلْ الْإِنْشَاءَ وَفِيمَا له مِثْلٌ مَعْلُومَةٌ فَاحْتَمَلَ الْإِنْشَاءَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن هذه الْإِجَازَةَ تُظْهِرُ أَنَّ الْعَقْدَ من حِينِ وُجُودِهِ انْعَقَدَ في حَقِّ الْحُكْمِ فلم يَكُنْ الْهَلَاكُ مَانِعًا من الْإِجَازَةِ
وَقَوْلُهُ الْإِجَازَةُ هَهُنَا إنْشَاءٌ قُلْنَا مَمْنُوعٌ فإن الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ في حَقِّ الْحُكْمِ بِدُونِ الْإِجَازَةِ من انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَبِمَوْتِ من له الْخِيَارُ
وَلَوْ كانت الْإِجَازَةُ إنْشَاءً لَتَوَقَّفَ حُكْمُ الْعَقْدِ على وُجُودِهَا وَهَذَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ إذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ قبل الْإِجَازَةِ ثُمَّ أَجَازَهُ الْمَالِكُ لم يَجُزْ وَهَهُنَا جَازَ فَهَلَاكُ الْمَبِيعِ في بَيْعِ الْفُضُولِيِّ يَمْنَعُ من الْإِجَازَةِ وَهَهُنَا لَا يَمْنَعُ
وجه ( ( ( ووجه ) ) ) الْفَرْقِ أَنَّ بِيعَ الْفُضُولِيِّ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَالْمُسْتَنَدُ ظَاهِرٌ من وَجْهٍ مُقْتَصِرٌ من وَجْهٍ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ إظْهَارًا من وَجْهٍ إنْشَاءً من وَجْهٍ فَمِنْ حَيْثُ أنها إظْهَارٌ كان لَا يَقِفُ صِحَّتُهُ على قِيَامِ الْمَحِلِّ وَمِنْ حَيْثُ أنها إنْشَاءٌ يَقِفُ عليه
فَأَمَّا الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَالْحُكْمُ يَثْبُتُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ إظهارا ( ( ( لإظهار ) ) ) أَنَّ الْعَقْدَ من وَقْتِ وُجُودِهِ انْعَقَدَ في حَقِّ الْحُكْمِ وَالْمَحِلُّ كان قَابِلًا وَقْتَ الْعَقْدِ فَهَلَاكُهُ بَعْدَ ذلك لَا يَمْنَعُ من الْإِجَازَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ في رَجُلَيْنِ اشْتَرَيَا شيئا على أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فيه ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَاخْتَارَ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْبَيْعُ حتى لَا يَمْلِكَ الْآخَرُ الْفَسْخَ احْتِرَازًا عن تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ في اللُّزُومِ وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في خِيَارِ الْعَيْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا حُكْمُ هذا الْبَيْعِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فيه قال أَصْحَابُنَا لَا حُكْمَ لِلْحَالِ وَالْخِيَارُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ في الْحُكْمِ لِلْحَالِ لِمَنْ له الْخِيَارُ بَلْ هو لِلْحَالِ مَوْقُوفٌ على مَعْنَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ حُكْمُهُ لِلْحَالِ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ يَتَّصِلُ بِهِ الْفَسْخُ أو الْإِجَازَةُ فَيُتَوَقَّفُ في الْجَوَابِ لِلْحَالِ وَهَذَا تَفْسِيرُ التَّوَقُّفِ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في قَوْلٍ مِثْلَ قَوْلِنَا وفي قَوْلٍ هو مُنْعَقِدٌ مُفِيدٌ لِلتَّمَلُّكِ لَكِنَّ مِلْكًا مُسَلَّطًا على فَسْخِهِ بِالْخِيَارِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَا يُفَارِقُ الْبَيْعَ الْبَاتَّ إلَّا في الْخِيَارِ وَالْخِيَارُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ بِالْإِجْمَاعِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ على أَصْلِكُمْ
وَلَنَا أَنَّ جَوَازَ هذا الْبَيْعِ مع أَنَّهُ مَعْدُولٌ بِهِ عن الْقِيَاسِ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ وَلَا انْدِفَاعَ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ إلَّا بِامْتِنَاعِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْحَالِ لِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ المشتري قَرِيبَ الْمُشْتَرِي فَلَوْ مَلَكَهُ لِلْحَالِ لَعَتَقَ عليه لِلْحَالِ فَلَا تَنْدَفِعُ حَاجَتُهُ ثُمَّ الْخِيَارُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كان لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي جميعا وَإِمَّا إنْ كان لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ وَإِمَّا إنْ كان لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ وَإِمَّا إنْ كان لِغَيْرِهِمَا بِأَنْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا الْخِيَارَ لِثَالِثٍ فَإِنْ كان الْخِيَارُ لَهُمَا فَلَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ في حَقِّ الْحُكْمِ في الْبَدَلَيْنِ جميعا فَلَا يَزُولُ الْمَبِيعُ عن
____________________

(5/264)


مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَا يَدْخُلُ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي
وَكَذَا لَا يَزُولُ الثَّمَنُ عن مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَلَا يَدْخُلُ في مِلْكِ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْمَانِعَ من الِانْعِقَادِ في حَقِّ الحكم ( ( ( حكم ) ) ) مَوْجُودٍ في الْجَانِبَيْنِ جميعا وهو الْخِيَارُ وَإِنْ كان البائع ( ( ( للبائع ) ) ) وَحْدَهُ فَلَا يَنْعَقِدُ في الْحُكْمِ في حَقِّهِ حتى لَا يَزُولَ الْمَبِيعُ عن مِلْكِهِ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فيه وَيَخْرُجُ الثَّمَنُ عن مِلْكِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَيْعَ بَاتٌّ في حَقِّهِ وَهَلْ يَدْخُلُ في مِلْكِ الْبَائِعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يَدْخُلُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَدْخُلُ وَإِنْ كان لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ لَا يَنْعَقِدُ في حَقِّ الْحُكْمِ في حَقِّهِ حتى لَا يَزُولَ الثَّمَنُ عن مِلْكِهِ
وَلَا يَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فيه إذَا كان عَيْنًا وَلَا يَسْتَحِقَّهُ على الْمُشْتَرِي إذَا كان دَيْنًا وَيَخْرُجَ الْمَبِيعُ عن مِلْكِ الْبَائِعِ حتى لَا يَجُوزَ له التَّصَرُّفُ فيه لِأَنَّ لاالبيع ( ( ( البيع ) ) ) بَاتٌّ في حَقِّهِ وَهَلْ يَدْخُلُ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يَدْخُلُ وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُسْتَدْعِي هو الْأَصْلُ وَالِامْتِنَاعُ بِعَارِضٍ وَالْمَانِعُ هَهُنَا هو الْخِيَارُ وَأَنَّهُ وُجِدَ في أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لَا غَيْرُ فَيَعْمَلُ في الْمَنْعِ فيه لَا في الْجَانِبِ الْآخَرِ أَلَا تَرَى كَيْفَ خَرَجَ الْمَبِيعُ عن مِلْكِ الْبَائِعِ إذَا كان الخيرا ( ( ( الخيار ) ) ) لِلْمُشْتَرِي وَالثَّمَنُ عن مِلْكِ الْمُشْتَرِي إذَا كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَدَلَّ أَنَّ الْبَيْعَ بَاتٌّ في حَقِّ من لَا خِيَارَ له فَيَعْمَلُ في بَتَاتِ هذا الْحُكْمِ الذي وُضِعَ له
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أن الْخِيَارَ إذَا كان لِلْبَائِعِ فَالْمَبِيعُ لم يَخْرُجْ عن مِلْكِهِ وإذا كان لِلْمُشْتَرِي فَالثَّمَنُ لم يَخْرُجْ عن مِلْكِهِ وَهَذَا يَمْنَعُ دُخُولَ الثَّمَنِ في مِلْكِ الْبَائِعِ في الْأَوَّلِ وَدُخُولَ الْمَبِيعِ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَمَعَ بين الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ في عَقْدِ الْمُبَادَلَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَالثَّانِي أن في هذا تَرْكَ التَّسْوِيَةِ بين الْعَاقِدَيْنِ في حُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمَا لَا يَرْضَيَانِ بِالتَّفَاوُتِ
وَقَوْلُهُمَا الْبَيْعُ بَاتٌّ في حَقِّ من لَا خِيَارَ له قُلْنَا هذا يُوجِبُ الْبَتَاتَ في حَقِّ الزَّوَالِ لَا في حَقِّ الثُّبُوتِ لِأَنَّ الْخِيَارَ من أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ له أَثَرٌ في الْمَنْعِ من الزَّوَالِ وَامْتِنَاعُ الزَّوَالِ من أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ يَمْنَعُ الثُّبُوتَ من الْجَانِبِ الْآخَرِ إنْ كان لَا يَمْنَعُ الزَّوَالَ لِمَا ذَكَرْنَا من الْوَجْهَيْنِ وَيَتَفَرَّعُ على هذا الْأَصْلِ بين أبي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ مَسَائِلُ
ومنها إذَا اشْتَرَى ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَعْتِقُ عليه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لم يَدْخُلْ في مِلْكِهِ عِنْدَهُ وَلَا عِتْقَ بِدُونِ الْمِلْكِ وهو على خِيَارِهِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ فَإِنْ فَسَخَ لَا يَعْتِقُ لِأَنَّ الْعَبْدَ عَادَ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَإِنْ أَجَازَهُ عَتَقَ لِأَنَّهُ سَقَطَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْعَقْدُ فَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ وَعِنْدَهُمَا يَعْتِقُ عليه بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ وَيَبْطُلُ خِيَارُهُ لِأَنَّهُ دخل في مِلْكِهِ وَلَوْ قال العبد ( ( ( لعبد ) ) ) الْغَيْرِ إنْ اشْتَرَيْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَتَقَ عليه بِالْإِجْمَاعِ
أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ فَوُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ فَعَتَقَ
وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَلَوْ نُجِزَ عِتْقُهُ بَعْدَ شِرَائِهِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ عَتَقَ وَسَقَطَ خِيَارُهُ لِكَوْنِ الْإِعْتَاقِ إجَازَةً وَاخْتِيَارًا لِلْمِلْكِ على ما نَذْكُرُ
كَذَا هذا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً قد وَلَدَتْ منه بِالنِّكَاحِ على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ له عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهَا لم تَدْخُلْ في مِلْكِهِ وهو على خِيَارِهِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَعَادَتْ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ له وَلَزِمَهُ الثَّمَنُ وَعِنْدَهُمَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ في مِلْكِهِ فَبَطَلَ خِيَارُهُ وَلَزِمَهُ الثَّمَنُ
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهَا لم تَدْخُلْ في مِلْكِهِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا فَسَدَ لِدُخُولِهَا في مِلْكِهِ وَمِلْكُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ رَقَبَةَ صَاحِبِهِ أو شِقْصًا منها يَرْفَعُ النِّكَاحَ فَإِنْ وَطِئَهَا في مُدَّةِ الْخِيَارِ فَإِنْ كانت بِكْرًا كان إجَازَةً بِالْإِجْمَاعِ
أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلِأَجْلِ النُّقْصَانِ بِإِزَالَةِ الْبَكَارَةِ وَهِيَ الْعُذْرَةُ لَا لِأَجْلِ الْوَطْءِ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ فَكَانَ حِلُّ الْوَطْءِ قَائِمًا فَلَا حَاجَةَ إلَى مِلْكِ الْيَمِينِ
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَجْلِ النُّقْصَانِ وَالْوَطْءِ جميعا فَإِنْ كانت ثَيِّبًا لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ بطلانه ( ( ( بطلان ) ) ) الْخِيَارِ لِضَرُورَةِ حِلِّ الْوَطْءِ وَلَا ضَرُورَةَ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ فَكَانَ حِلُّ الْوَطْءِ ثَابِتًا فَلَا ضَرُورَةَ إلَى مِلْكِ الْيَمِينِ بِحِلِّ الْوَطْءِ فلم يَبْطُلْ الْخِيَارُ وعندهما يَبْطُلُ خِيَارُهُ لِضَرُورَةِ حِلِّ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ بِخِلَافِ ما إذَا لم تَكُنْ الْجَارِيَةُ زَوْجَةً له وَوَطِئَهَا أَنَّهُ يَكُونُ إجَازَةً سَوَاءٌ كانت بِكْرًا أو ثَيِّبًا لِأَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ هُنَاكَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِانْعِدَامِ النِّكَاحِ فَكَانَ إقْدَامُهُ على الْوَطْءِ اخْتِيَارًا لِلْمِلْكِ فَيَبْطُلُ الْخِيَارُ
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَقَبَضَهَا فَحَاضَتْ عِنْدَهُ في مُدَّةِ الْخِيَارِ حَيْضَةً
____________________

(5/265)


كَامِلَةً أو بَعْضَ حَيْضَةٍ في مُدَّةِ الْخِيَارِ فَاخْتَارَ الْبَيْعَ لَا تجزي تِلْكَ الْحَيْضَةُ في الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ أُخْرَى لِأَنَّهَا لم تَدْخُلْ في مِلْكِهِ عِنْدَهُ ولم يُوجَدْ سَبَبُ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ وَعِنْدَهُمَا يَحْتَسِبُ بها لِأَنَّهَا دَخَلَتْ في مِلْكِهِ فَكَانَتْ الْحَيْضَةُ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ فَكَانَتْ مَحْسُوبَةً منه
وَلَوْ اخْتَارَ فَسْخَ الْبَيْعِ وَرَدَّ الْجَارِيَةَ فَلَا اسْتِبْرَاءَ على الْبَائِعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كان الرَّدُّ قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ وَعِنْدَهُمَا قبل الْقَبْضِ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجِبُ وَبَعْدَ الْقَبْضِ يَجِبُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا على ما ذَكَرْنَا في مَسَائِلِ الِاسْتِبْرَاءِ
وَإِنْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَفَسَخَ الْعَقْدَ لَا يَجِبُ عليه الِاسْتِبْرَاءُ لِأَنَّهَا لم تَخْرُجْ عن مِلْكِهِ وَإِنْ أَجَازَهُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ الْإِجَازَةِ وَالْقَبْضِ بِحَيْضَةٍ أُخْرَى بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بَعْدَ الْإِجَازَةِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ مِلْكًا مُطْلَقًا
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى شيئا بِعَيْنِهِ على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ ثُمَّ أَوْدَعَهُ الْبَائِعُ في مُدَّةِ الْخِيَارِ فَهَلَكَ في مُدَّةِ الْخِيَارِ أو بَعْدَهَا يَهْلِكُ على الْبَائِعِ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لم يَدْخُلْ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَلَمَّا دخل رَدُّهُ على الْبَائِعِ فَقَدْ ارْتَفَعَ قَبْضُهُ فَهَلَكَ الْمَبِيعُ قبل الْقَبْضِ وَعِنْدَهُمَا يَهْلِكُ على الْمُشْتَرِي وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ لِأَنَّهُ دخل في مِلْكِهِ أَعْنِي الْمُشْتَرِيَ فَقَدْ أَوْدَعَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَيَدُ الْمُودَعِ يَدُهُ فَهَلَاكُهُ في يَدِهِ كَهَلَاكِهِ في يَدِ نَفْسِهِ وَلَوْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ إنَّ الْمُشْتَرِي أَوْدَعَهُ الْبَائِعَ في مُدَّةِ الْخِيَارِ فَهَلَكَ في يَدِ الْبَائِعِ قبل جَوَازِ الْبَيْعِ أو بَعْدَهُ بَطَلَ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كان الْبَيْعُ بَاتًّا فَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ أو بِغَيْرِ إذْنِهِ وَالثَّمَنُ مَنْقُودٌ أو مُؤَجَّلٌ وَلَهُ خِيَارُ رُؤْيَةٍ أو عَيْبٍ فَأَوْدَعَهُ الْبَائِعَ فَهَلَكَ عِنْدَ الْبَائِعِ يَهْلِكُ على الْمُشْتَرِي وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ في حَقِّ الْحُكْمِ فَكَانَ مُودِعًا مِلْكَ نَفْسِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى ذِمِّيٌّ من ذِمِّيٍّ خَمْرًا أو خِنْزِيرًا على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَقَبَضَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ الْمُشْتَرِي بَطَلَ الْعَقْدُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لم يَدْخُلْ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَالْمُسْلِمُ مَمْنُوعٌ عن تَمَلُّكِ الْخَمْرِ بِالْبَيْعِ وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ وَلَا يَبْطُلُ لِأَنَّهُ دخل في مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ من إخْرَاجِهِ عن مِلْكِهِ
وَلَوْ أَسْلَمَ الْبَائِعُ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ بَاتٌّ في جَانِبِهِ وَالْإِسْلَامُ في الْبَيْعِ الْبَاتِّ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَهُ إذَا كان بَعْدَ الْقَبْضِ وَالْمُشْتَرِي على خِيَارِهِ فَإِنْ أَجَازَ الْبَيْعَ جَازَ وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ وَإِنْ فَسَخَهُ انْفَسَخَ وَصَارَ الْخَمْرُ لِلْبَائِعِ حُكْمًا وَالْمُسْلِمُ من أَهْلِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْخَمْرَ حُكْمًا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَمَلَّكُهَا بِالْمِيرَاثِ وَلَوْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَأَسْلَمَ الْبَائِعُ بَطَلَ الْخِيَارُ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ السِّلْعَةِ عن مِلْكِهِ وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ إخْرَاجَ الْخَمْرِ عن مِلْكِهِ بِالْعَقْدِ فَبَطَلَ الْعَقْدُ
وَلَوْ أَسْلَمَ الْمُشْتَرِي لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْبَيْعَ بَاتٌّ في جَانِبِهِ وَالْبَائِعُ على خِيَارِهِ فَإِنْ فَسَخَ الْبَيْعَ عَادَتْ الْخَمْرُ إلَيْهِ وَإِنْ أَجَازَهُ صَارَ الْخَمْرُ لِلْمُشْتَرِي حُكْمًا وَالْمُسْلِمُ من أَهْلِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا حُكْمًا كما في الْإِرْثِ وَلَوْ كان الْبَيْعُ بَاتًّا فَأَسْلَمَا أو أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مَتَى وَرَدَ وَالْحَرَامُ مَقْبُوضٌ يُلَاقِيهِ بِالْعَفْوِ لِأَنَّهُ لم يَثْبُتْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ مِلْكٌ مُبْتَدَأٌ لِثُبُوتِهَا بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ على الْكَمَالِ وَإِنَّمَا يُوجَدُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ دَوَامُ الْمِلْكِ وَالْإِسْلَامُ لَا يُنَافِيه فإن الْمُسْلِمَ إذَا تَخَمَّرَ عَصِيرُهُ فَلَا يُؤْمَرُ بِإِبْطَالِ حَقِّهِ فيها
هذا كُلُّهُ إذَا أَسْلَمَا أو أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَأَمَّا إذَا كان قبل الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ كيف ما كان سَوَاءٌ كان الْبَيْعُ بَاتًّا أو بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُمَا أو لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مَتَى وَرَدَ وَالْحَرَامُ غَيْرُ مَقْبُوضٍ يُمْنَعُ من قَبْضِهِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ لِمَا في الْقَبْضِ من مَعْنَى إنْشَاءِ الْعَقْدِ من وَجْهٍ فَيُلْحَقُ بِهِ في بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وقد تَظْهَرُ فَوَائِدُ هذا الْأَصْلِ في فُرُوعٍ أُخَرَ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَإِنْ كان الْمَبِيعُ دَارًا فَإِنْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ لَا يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ فيها حَقُّ الشُّفْعَةِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لم يَخْرُجْ عن مِلْكِ الْبَائِعِ وَإِنْ كان لِلْمُشْتَرِي يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا على أَصْلِهِمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَبِيعَ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي
وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَالْمَبِيعُ وَإِنْ لم يَدْخُلْ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي لَكِنَّهُ قد زَالَ عن مِلْكِ الْبَائِعِ بِالْإِجْمَاعِ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ يَعْتَمِدُ زَوَالَ مِلْكِ الْبَائِعِ لَا ثُبُوتَ مِلْكِ الْمُشْتَرِي
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ تَبَايَعَا عَبْدًا بِجَارِيَةٍ وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَأَعْتَقَ الْبَائِعُ الْعَبْدَ نَفَذَ إعْتَاقُهُ وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ الْعَبْدِ عن مِلْكِهِ فَقَدْ أَعْتَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَنَفَذَ وَإِنْ أَعْتَقَ الْجَارِيَةَ نَفَذَ أَيْضًا وَلَزِمَ الْبَيْعُ
أَمَّا على أَصْلِهِمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مِلْكُهَا فَأَعْتَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ لم يَمْلِكْهَا بِالْعَقْدِ لَكِنَّ الْإِقْدَامَ على الْإِعْتَاقِ دَلِيلُ عَقْدِ الْمِلْكِ إذْ لَا وُجُودَ لِلْعِتْقِ إلَّا بِالْمِلْكِ وَلَا
____________________

(5/266)


مِلْكَ بِسُقُوطِ الْخِيَارِ فَتَضَمَّنَ إقْدَامُهُ على الْإِعْتَاقِ إسْقَاطَ الْخِيَارِ وَلَوْ أَعْتَقَهُمَا مَعًا نَفَذَ إعْتَاقُهُمَا جميعا وَبَطَلَ الْبَيْعُ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ وَعِنْدَهُمَا نَفَذَ إعْتَاقُهُمَا وَلَا شَيْءَ عليه أَمَّا نُفُوذُ إعْتَاقِهِمَا
أَمَّا الْعَبْدُ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّهُ لم يَخْرُجْ عن مِلْكِ الْبَائِعِ بِلَا خِلَافٍ
وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَكَذَلِكَ على أَصْلِهِمَا لِأَنَّهَا دَخَلَتْ في مِلْكِهِ
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ لم تَدْخُلْ في مِلْكِهِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَقَدْ دَخَلَتْ بِمُقْتَضَى الْإِقْدَامِ على إعْتَاقِهِمَا على ما بَيَّنَّا فَإِعْتَاقُهُمَا صَادَفَ مَحَلًّا مَمْلُوكًا لِلْمُعْتِقِ فَنَفَذَ
وَأَمَّا لُزُومُ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ بَدَلُ الْجَارِيَةِ وقد هَلَكَ قبل التَّسْلِيمِ بِالْإِعْتَاقِ وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ قبل التَّسْلِيمِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ وإذا بَطَلَ الْبَيْعُ وَجَبَ رَدُّ الْجَارِيَةِ وقد عَجَزَ عن رَدِّهَا بِسَبَبِ الْعِتْقِ فَيَغْرَمُ قِيمَتَهَا
وَلَوْ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ أو الْجَارِيَةَ لم يَنْفُذْ إعْتَاقُهُ
أَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّهُ لم يَدْخُلْ في مِلْكِهِ وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَلِأَنَّهَا خَرَجَتْ عن مِلْكِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ أَمَّا خِيَارُ الْبَائِعِ فما يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُهُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ نَوْعَانِ من الْأَصْلِ أَحَدُهُمَا اخْتِيَارِيٌّ وَالْآخَرُ ضَرُورِيٌّ أَمَّا الِاخْتِيَارِيُّ فَالْإِجَازَةُ لِأَنَّ الْأَصْلَ هو لُزُومُ الْبَيْعِ وَالِامْتِنَاعُ بِعَارِضِ الْخِيَارِ وقد بَطَلَ بِالْإِجَازَةِ فَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وَالْإِجَازَةُ نَوْعَانِ صَرِيحٌ وما هو في مَعْنَى الصَّرِيحِ وَدَلَالَةٌ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ أَجَزْتُ الْبَيْعَ أو أَوْجَبْتُهُ أو أَسْقَطْتُ الْخِيَارَ أو أَبْطَلْتُهُ وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى سَوَاءٌ عَلِمَ الْمُشْتَرِي الْإِجَازَةَ أو لم يَعْلَمْ
وَأَمَّا الْإِجَازَةُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَهِيَ أَنْ يُوجَدَ منه تَصَرُّفٌ في الثَّمَنِ يَدُلُّ على الْإِجَازَةِ وَإِيجَابِ الْبَيْعِ فَالْإِقْدَامُ عليه يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ دَلَالَةً
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قال لِبَرِيرَةَ حين عَتَقَتْ مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي وَإِنْ وَطِئَك زَوْجُكِ فَلَا خِيَارَ لَكِ فَقَدْ جَعَلَ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَمْكِينَهَا من الْوَطْءِ دَلِيلَ بُطْلَانِ الْخِيَارِ فَصَارَ ذلك أَصْلًا لِأَنَّ الْخِيَارَ كما يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا كان الثَّمَنُ عَيْنًا فَتَصَرَّفَ الْبَائِعُ فيه تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ بِأَنْ بَاعَهُ أو سَاوَمَهُ أو أَعْتَقَهُ أو دَبَّرَهُ أو كَاتَبَهُ أو آجَرَهُ أو رَهَنَهُ وَنَحْوَ ذلك لِأَنَّ ذلك يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ
أَمَّا على أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّ الثَّمَنَ دخل في مِلْكِ الْبَائِعِ فَكَانَ التَّصَرُّفُ فيه دَلِيلَ تَقَرُّرِ مِلْكِهِ وَأَنَّهُ دَلِيلُ إجَازَةِ الْبَيْعِ
وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَالْإِقْدَامُ على التَّصَرُّفِ يَكُونُ دَلِيلَ اخْتِيَارِ الْمِلْكِ فيه وَذَا دَلِيلُ الْإِجَازَةِ وَكَذَا لو كان الثَّمَنُ دَيْنًا فَأَبْرَأَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِي من الثَّمَنِ أو اشْتَرَى بِهِ شيئا منه أو وَهَبَهُ من الْمُشْتَرِي فَهُوَ إجَازَةٌ لِلْبَيْعِ لِمَا قُلْنَا وَيَصِحُّ شِرَاؤُهُ وَهِبَتُهُ لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ وَالشِّرَاءَ بِهِ مِمَّنْ عليه الدَّيْنُ وَأَنَّهُ جَائِزٌ وَكَذَا لو سَاوَمَهُ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ الذي في ذِمَّتِهِ شيئا لِأَنَّهُ قَصَدَ تَمَلُّكَ ذلك الشَّيْءِ وَلَا يُمْكِنُهُ التَّمَلُّكَ إلَّا بِثُبُوتِ مِلْكِهِ في الثَّمَنِ أو تَقَرُّرِهِ فيه
وَلَوْ اشْتَرَى بِالثَّمَنِ شيئا من غَيْرِهِ لم يَصِحَّ الشِّرَاءُ وكان إجَازَةً أَمَّا عَدَمُ صِحَّةِ الشِّرَاءِ فَلِأَنَّهُ شِرَاءٌ بِالدَّيْنِ من غَيْرِ من عليه الدَّيْنُ
وَأَمَّا كَوْنُهُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ فَلِأَنَّ الشِّرَاءَ بِهِ من غَيْرِهِ وَإِنْ لم يَصِحَّ لَكِنَّهُ قَصَدَ التَّمَلُّكَ وَذَا دَلِيلُ الْإِجَازَةِ كما إذَا سَاوَمَهُ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِهِ في الدَّلَالَةِ على قَصْدِهِ التَّمَلُّكَ فَوْقَ الْمُسَاوَمَةِ فلما كانت الْمُسَاوَمَةُ إجَازَةً فَالشِّرَاءُ أَوْلَى بِخِلَافِ ما إذَا كان الْبَائِعُ قَبَضَ الثَّمَنَ الذي هو دَيْنٌ فَاشْتَرَى بِهِ شيئا أَنَّهُ لَا يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ لِأَنَّ عَيْنَ الْمَقْبُوضِ ليس بِمُسْتَحَقِّ الرَّدِّ عِنْدَ الْفَسْخِ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ عِنْدَنَا في الْفَسْخِ كما لَا يَتَعَيَّنَانِ في الْعَقْدِ فلم يَكُنْ الْمَقْبُوضُ فيه مُسْتَحَقَّ الرَّدِّ فَلَا يَكُونُ التَّصَرُّفُ دَلِيلَ الْإِجَازَةِ بِخِلَافِ ما إذَا اشْتَرَى بِهِ قبل الْقَبْضِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الشِّرَاءَ إلَى عَيْنِ ما هو مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ فَكَانَ دَلِيلَ الْقَصْدِ إلَى الْمِلْكِ أو تَقَرُّرِ الْمِلْكِ فيه على ما قُلْنَا
وَلَوْ كان الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَأَبْرَأَهُ الْبَائِعُ من الثَّمَنِ قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ وُجُوبَ الثَّمَنِ وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ ما ليس بِثَابِتٍ لَا يُتَصَوَّرُ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا أَجَازَ الْبَيْعَ نَفَذَ الْإِبْرَاءُ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْبَيْعِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الثَّمَنَ كان وَاجِبًا فَكَانَ إبْرَاؤُهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَيَنْفُذُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الضرورية ( ( ( الضروري ) ) ) فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ أَحَدُهُمَا مُضِيُّ مُدَّةِ الْخِيَارِ لِأَنَّ الْخِيَارَ مُؤَقَّتٌ بِهِ وَالْمُؤَقَّتُ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ لَكِنْ هل تَدْخُلُ الْغَايَةُ في شَرْطِ الْخِيَارِ بِأَنْ شَرَطَ الْخِيَارَ إلَى اللَّيْلِ أو إلَى الْغَدِ هل يَدْخُلُ اللَّيْلُ أو الْغَدُ قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ تَدْخُلُ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا تَدْخُلُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن الْغَايَةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ ما ضُرِبَتْ له الْغَايَةُ كما في قَوْله تَعَالَى عز
____________________

(5/267)


شَأْنُهُ { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } حتى لَا يَجِبَ الصَّوْمُ في اللَّيْلِ وَكَمَا في التَّأْجِيلِ إلَى غَايَةٍ أَنَّ الْغَايَةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْأَجَلِ كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أن الْغَايَاتِ مُنْقَسِمَةٌ غَايَةُ إخْرَاجٍ وَغَايَةُ إثْبَاتٍ فَغَايَةُ الْإِخْرَاجِ تَدْخُلُ تَحْتَ ما ضُرِبَتْ له الْغَايَةُ كما في قَوْله تَعَالَى { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } وَالْغَايَةُ هَهُنَا في مَعْنَى غَايَةِ الْإِخْرَاجِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو لم يذكر الْوَقْتَ أَصْلًا لَاقْتَضَى ثُبُوتَ الْخِيَارِ في الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا حتى لم يَصِحَّ لِأَنَّهُ يَكُونُ في مَعْنَى شَرْطِ خِيَارٍ مُؤَبَّدٍ بِخِلَافِ التَّأْجِيلِ إلَى غَايَةٍ فإنه لولا ذِكْرُ الْغَايَةِ لم يَثْبُتْ الْأَجَلُ أَصْلًا فَكَانَتْ الْغَايَةُ غَايَةَ إثْبَاتٍ فلم تَدْخُلْ تَحْتَ ما ضُرِبَتْ له الْغَايَةُ وَالثَّانِي مَوْتُ الْبَائِعِ في مُدَّةِ الْخِيَارِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ بِمَوْتِهِ بَلْ يَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ في الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَقَبُ هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ هل يُوَرَّثُ أَمْ لَا عِنْدَنَا يُوَرَّثُ وَعِنْدَهُ لَا يُوَرَّثُ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ خِيَارَ الْقَبُولِ لَا يُوَرَّثُ وَكَذَا خِيَارُ الْإِجَازَةِ في بَيْعِ الْفُضُولِيِّ لَا يُوَرَّثُ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا الْأَجَلُ لَا يُوَرَّثُ بِالِاتِّفَاقِ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ وَخِيَارَ التَّعْيِينِ يُوَرَّثُ
وَأَمَّا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فلم يُذْكَرْ في الْأَصْلِ وَذَكَرَ في الْحِيَلِ أَنَّهُ لَا يُوَرَّثُ وَكَذَا رَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُوَرَّثُ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِظَوَاهِرِ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ حَيْثُ أَثْبَتَ اللَّهُ عز وجل الْإِرْثَ في الْمَتْرُوكِ مُطْلَقًا وَالْخِيَارُ مَتْرُوكٌ فَيَجْرِي فيه الْإِرْثُ وَبِمَا رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال من تَرَكَ مَالًا أو حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ وَالْخِيَارُ حَقٌّ تَرَكَهُ فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ بِالْبَيْعِ فَيَجْرِي فيه الْإِرْثُ كَالْمِلْكِ الثَّابِتِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِرْثَ كما يَثْبُتُ في الإملاك يَثْبُتُ في الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ بِالْبَيْعِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ في خِيَارِ الْعَيْبِ وَخِيَارِ التَّعْيِينِ كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ الْخِيَارَ لو ثَبَتَ لِلْوَارِثِ لم يَخْلُ من أَنْ يَثْبُتَ ابْتِدَاءً أو بِطَرِيقِ الْإِرْثِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الشَّرْطَ لم يُوجَدْ من الْوَارِثِ ابْتِدَاءً وَإِثْبَاتُ الْخِيَارِ له من غَيْرِ وُجُودِ شَرْطِ الْخِيَارِ منه خِلَافُ الْحَقِيقَةِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ الْوَارِثَ يَعْتَمِدُ الْبَاقِي بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ وَخِيَارُهُ لَا يبقي بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّ خِيَارَهُ يُخَيِّرُهُ بين الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذلك منه بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا يُوَرَّثُ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ والمعيين ( ( ( والتعيين ) ) ) لِأَنَّ الْمَوْرُوثَ هُنَاكَ مُحْتَمِلٌ لِلْإِرْثِ وهو الْعَيْنُ الْمَمْلُوكَةُ وَأَمَّا الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِمَا لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إنَّ الْخِيَارَ مَتْرُوكٌ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ عَيْنٌ تَبْقَى وَالْخِيَارُ عَرَضٌ لَا يَبْقَى فلم يَكُنْ مَتْرُوكًا فَلَا يُوَرَّثُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَالثَّالِثُ إجَازَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنْ تَبَايَعَا على أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فَأَجَازَ أَحَدُهُمَا بَطَلَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ عِنْدَهُ حتى لَا يَمْلِكَ صَاحِبُهُ الْفَسْخَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْطُلُ وَخِيَارُ الْآخَرِ على حَالِهِ وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في خِيَارِ الْعَيْبِ
وَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ في مُدَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ لِلْأَبِ أو الْوَصِيِّ لِنَفْسِهِ في بَيْعِ مَالِ الصَّبِيِّ هل يَبْطُلُ الْخِيَارُ قال أبو يُوسُفَ يَبْطُلُ وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ وقال مُحَمَّدٌ تُنْقَلُ الْإِجَازَةُ إلَى الصَّبِيِّ فَلَا يَمْلِكُ الْوَلِيُّ الْإِجَازَةَ لَكِنَّهُ يَمْلِكُ الْفَسْخَ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أن الْوَلِيَّ يَتَصَرَّفُ في مَالِ الصَّغِيرِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عنه شَرْعًا لِعَجْزِهِ عن التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ وقد زَالَ الْعَجْزُ بِالْبُلُوغِ فَتَنْتَقِلُ الْإِجَازَةُ إلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ يَمْلِكُ الْفَسْخَ لِأَنَّهُ من بَابِ دَفْعِ الْحَقِّ فَيَمْلِكُهُ كَالْفُضُولِيِّ في الْبَيْعِ إنَّهُ يَمْلِكُ الْفَسْخَ قبل إجَازَةِ الْمَالِكِ وَإِنْ لم يَمْلِكْ الْإِجَازَةَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أن الْخِيَارَ يَثْبُتُ لِلْوَلِيِّ وهو وِلَايَةُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةُ وقد بَطَلَ بِالْبُلُوغِ فَلَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ إلَى الصَّبِيِّ وَلِهَذَا لم يَنْتَقِلْ إلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ من له الْخِيَارُ وَلَوْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ في مُدَّةِ خِيَارِ شَرْطِهِ لِنَفْسِهِ في الْبَيْعِ بَطَلَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهُ لَمَّا عَجَزَ وَرُدَّ إلَى الرِّقِّ لم يَبْقَ له وِلَايَةُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ ضَرُورَةً كما يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إذَا حَجَرَ عليه الْمَوْلَى في مُدَّةِ الْخِيَارِ بَطَلَ خياره عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن مُحَمَّدٍ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اشْتَرَى الْأَبُ أو الْوَصِيُّ شيئا بِدَيْنٍ في الذِّمَّةِ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهِمَا وَالصَّبِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ
أَمَّا الْجَوَازُ عَلَيْهِمَا فَلِأَنَّ وِلَايَتَهُمَا قد انْقَطَعَتْ بِالْبُلُوغِ فَلَا يَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ بِالْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ فَيَبْطُلُ خِيَارُهُمَا وَجَازَ الْعَقْدُ في حَقِّهِمَا وَأَمَّا خِيَارُ الصَّبِيِّ فَلِأَنَّ الْجَوَازَ وَاللُّزُومَ لم يثبت ( ( ( يثبتا ) ) ) في حَقِّهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ في حَقِّهِمَا فَكَانَ له خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةُ
وَأَمَّا خِيَارُ الْمُشْتَرِي فَيَسْقُطُ بِمَا يُسْقِطُ خِيَارَ الْبَائِعِ وَبِغَيْرِهِ أَيْضًا فَيَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ بموت ( ( ( وبموت ) ) ) من له الْخِيَارُ عِنْدَنَا وَإِجَازَةُ أَحَدِ الشركين ( ( ( الشريكين ) ) ) عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَالْإِجَازَةُ صَرِيحٌ وما هو في مَعْنَى
____________________

(5/268)


الصَّرِيحِ وَدَلَالَةٌ وهو أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي في الْمَبِيعِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ كَالْبَيْعِ وَالْمُسَاوَمَةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ والإجازة ( ( ( والإجارة ) ) ) وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ سُلِّمَ أو لم يُسَلَّمْ لِأَنَّ جَوَازَ هذه التَّصَرُّفَاتِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ فَالْإِقْدَامُ عليها يَكُونُ دَلِيلَ قَصْدِ التَّمَلُّكِ أو تَقَرُّرَ الْمِلْكِ على اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ وَذَا دَلِيلُ الْإِجَازَةِ
وَكَذَا الْوَطْءُ منه وَالتَّقْبِيلُ بِشَهْوَةٍ وَالْمُبَاشَرَةُ لِشَهْوَةٍ وَالنَّظَرُ إلَى فَرْجِهَا لِشَهْوَةٍ يكن ( ( ( يكون ) ) ) إجَازَةً منه لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ لَا يَحِلُّ إلَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ
وَأَمَّا الْمَسُّ عن غَيْرِ شَهْوَةٍ وَالنَّظَرُ إلَى فَرْجِهَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَلَا يَكُونُ إجَازَةً لِأَنَّ ذلك مُبَاحٌ في الْجُمْلَةِ بِدُونِ الْمِلْكِ لِلطَّبِيبِ وَالْقَابِلَةِ
وَأَمَّا الِاسْتِخْدَامُ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ إجَازَةً بِمَنْزِلَةِ الْمَسِّ عن شَهْوَةٍ وَالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ عن شَهْوَةٍ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَكُونُ إجَازَةً لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلتَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ لِيَنْظُرَ أَنَّهُ يُوَافِقُهُ أَمْ لَا على أَنَّ فيه ضَرُورَةً لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عن ذلك غَيْرُ مُمْكِنٍ بِأَنْ يَسْأَلَهُ ثَوْبَهُ عِنْدَ إرَادَةِ الرَّدِّ فَيَرُدَّهُ أو يَسْتَسْرِجَهُ دَابَّتَهُ لِيَرْكَبَهَا فَيَرُدَّهُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ
وَلَوْ قَبَّلَتْ الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرِي بِشَهْوَةٍ أو بَاشَرَتْهُ فَإِنْ كان ذلك بِتَمْكِينٍ بِأَنْ عَلِمَ ذلك منها وَتَرَكَهَا حتى فَعَلَتْ يَسْقُطُ خِيَارُهُ
وَكَذَا هذا في حَقِّ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ إذَا قَبَّلَتْهُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ وَكَذَا في خِيَارِ الْعَيْبِ إذَا وَجَدَ بها عَيْبًا ثُمَّ قَبَّلَتْهُ
وَكَذَا في الطَّلَاقِ إذَا فَعَلَتْ ذلك كان رَجْعَةً وَإِنْ اخْتَلَسَتْ اخْتِلَاسًا من غَيْرِ تَمْكِينِ الْمُشْتَرِي وَالزَّوْجِ وهو كَارِهٌ لِذَلِكَ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ذلك رَجْعَةً وَلَا إجَازَةً لِلْبَيْعِ وقال مُحَمَّدٌ لَا يَكُونُ فِعْلُهَا إجَازَةً لِلْبَيْعِ كيف ما كان وَأَجْمَعُوا على أنها لو بَاضَعَتْهُ وهو نَائِمٌ بِأَنْ أَدْخَلَتْ فَرْجَهُ فَرْجَهَا أَنَّهُ يَسْقُطُ الْخِيَارُ وَيَكُونُ رَجْعَةً
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْخِيَارَ حَقُّ شَرْطٍ له ولم يُوجَدْ منه ما يُبْطِلُهُ نَصًّا وَلَا دَلَالَةً وهو فِعْلٌ يَدُلُّ عليه فَلَا يَبْطُلُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ الِاحْتِيَاطَ يُوجِبُ سُقُوطَ الْخِيَارِ
إذْ لو لم يَسْقُطْ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يُفْسَخَ الْبَيْعُ لِتَبْيِينِ أَنَّ الْمَسَّ عن شَهْوَةٍ وَالتَّمْكِينُ من الْمَسِّ عن شَهْوَةٍ حَصَلَ في غَيْرِ مِلْكٍ وَكُلُّ ذلك حَرَامٌ فَكَانَ سُقُوطُ الْخِيَارِ وَثُبُوتُ الرَّجْعَةِ بِطَرِيقِ الصِّيَانَةِ عن ارْتِكَابِ الْحَرَامِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ وَلِأَنَّ الْمَسَّ عن شَهْوَةٍ يُفْضِي إلَى الْوَطْءِ وَالسَّبَبُ الْمُفْضِي إلَى الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ خُصُوصًا في مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ فَأُقِيمَ ذلك مَقَامَ الْوَطْءِ من الْمُشْتَرِي وَلِهَذَا يَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِالْمَسِّ عن شَهْوَةٍ من الْجَانِبَيْنِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا مُفْضِيًا إلَى الْوَطْءِ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ كَذَا هذا
وَلَوْ قَبَّلَ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ ثُمَّ قال قَبَّلْتُهَا لِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ كَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْخِيَارَ كان ثَابِتًا له فَهُوَ بِقَوْلِهِ كان لِغَيْرِ شَهْوَةٍ يُنْكِرُ سُقُوطُهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ
وَكَذَلِكَ قال أبو حَنِيفَةَ في الْجَارِيَةِ إذ قَبَّلْت الْمُشْتَرِي بِشَهْوَةٍ أنه إنَّمَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُهُ الْعَقْدُ إذَا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي إنَّهَا فَعَلَتْ بِشَهْوَةٍ
فَأَمَّا إذَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ذلك بِشَهْوَةٍ فَلَا يَسْقُطُ لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي بِسُقُوطِ حَقِّهِ فَيَتَوَقَّفُ على إقْرَارِهِ
وَلَوْ حَدَثَ في الْمَبِيعِ في يَدِ الْمُشْتَرِي ما يَمْنَعُ الرَّدَّ على الْبَائِعِ بَطَلَ خِيَارُهُ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْخِيَارِ هو التَّمَكُّنُ من الْفَسْخِ وَالرَّدِّ فإذا خَرَجَ عن احْتِمَالِ الرَّدِّ لم يَكُنْ في بَقَاءِ الْخِيَارِ فَائِدَةٌ فَلَا يَبْقَى ذلك وَذَلِكَ نحو ما إذَا هَلَكَ في يَدِهِ أو انْتَقَصَ بِأَنْ تَعَيَّبَ بِعَيْبٍ لَا يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ سَوَاءٌ كان ذلك فَاحِشًا أو يَسِيرًا وَسَوَاءٌ كان ذلك بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أو بِفِعْلِ الْبَائِعِ أو بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أو بِفِعْلٍ أَجْنَبِيٍّ
لِأَنَّ حُدُوثَ هذه الْمَعَانِي في يَدِ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ الرَّدَّ
أَمَّا الْهَلَاكُ فَظَاهِرٌ وَكَذَا النُّقْصَانُ لِفَوَاتِ شَرْطِ الرَّدِّ وهو أَنْ يَكُونَ ما قَبَضَ كما قَبَضَ لِأَنَّهُ إذَا انْتَقَصَ شَيْءٌ منه فَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْقَدْرِ الْفَائِتِ فَتَقَرَّرَ على الْمُشْتَرِي حِصَّتُهُ من الثَّمَنِ لِأَنَّ فَوَاتَهُ حَصَلَ في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَلَوْ رَدَّ الْبَاقِي كان ذلك تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ على الْبَائِعِ قبل التَّمَامِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وإذا امْتَنَعَ الرَّدُّ بَطَلَ الْخِيَارُ لِمَا قُلْنَا وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ أَيْضًا إلَّا في خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ ما إذَا انْتَقَصَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ فإن الْمُشْتَرِي فِيهِمَا على خِيَارِهِ عِنْدَهُ إنْ شَاءَ رَدَّ عليه وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ
وَأَخَذَ الْأَرْشَ من الْبَائِعِ كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ الِاخْتِلَافَ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاخْتِلَافَ بين أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَإِنْ كان الْعَيْبُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ كَالْمَرَضِ فَالْمُشْتَرِي على خِيَارِهِ إنْ شَاءَ فَسَخَ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ لِأَنَّ كُلَّ عَارِضٍ على أَصْلٍ إذ ارْتَفَعَ يَلْحَقُ بِالْعَدَمِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ
هذا هو الْأَصْلُ وَلَيْسَ له أَنْ يَفْسَخَ إلَّا أَنْ يَرْتَفِعَ الْعَيْبُ في مُدَّةِ الْخِيَارِ فَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ وَالْعَيْبُ قَائِمٌ بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ وَلَزِمَ الْبَيْعُ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا ازْدَادَ
____________________

(5/269)


الْمَبِيعُ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ كما إذَا كان ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أو سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ أو كان أَرْضًا فَبَنَى عليها أو غَرَسَ فيها أَنَّهُ يَبْطُلُ خِيَارُهُ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ مَانِعَةٌ من الرَّدِّ بِالْإِجْمَاعِ فَكَانَتْ مُسْقِطَةً لِلْخِيَارِ وَلَوْ كانت الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ كَالْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالسِّمَنِ وَالْبُرْءِ من الْمَرَضِ وَانْجِلَاءِ الْبَيَاضِ من الْعَيْنِ وَنَحْوِ ذلك فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَبْطُلُ بِنَاءً على أَنَّ هذه الزِّيَادَةَ تَمْنَعُ الرَّدَّ عِنْدَهُمَا كما في الْعَيْبِ في الْمَهْرِ في النِّكَاحِ وَعِنْدَهُ لَا تَمْنَعُ وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي في مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ وَاللَّبَنِ وَنَحْوِهَا أو كانت غير متولده من الْأَصْلِ لَكِنَّهَا بَدَلُ الْجُزْءِ الْفَائِتِ كَالْأَرْشِ أو بَدَلُ ما هو في مَعْنَى الْجُزْءِ كَالْعُقْرِ يَبْطُلُ خِيَارُهُ لِأَنَّهَا مَانِعَةٌ من الرَّدِّ عِنْدَنَا وَإِنْ كانت مُنْفَصِلَةً غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ وَلَا هِيَ بَدَلُ الْجُزْءِ الْفَائِتِ أو ما هو في مَعْنَى الْجُزْءِ كَالصَّدَقَةِ وَالْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ فَلَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ فَإِنْ اخْتَارَ الْبَيْعَ فَالزَّوَائِدُ له مع الْأَصْلِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أنها كَسْبٌ مَلَكَهُ فَكَانَتْ مِلْكَهُ
وَإِنْ اخْتَارَ الْفَسْخَ رَدَّ الْأَصْلَ مع الزَّوَائِدِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الزَّوَائِدُ تَكُونُ له بِنَاءً على أَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ كان مَوْقُوفًا فإذا فُسِخَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَدْخُلْ في مِلْكِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الزِّيَادَةَ حَصَلَتْ على مِلْكِ الْبَائِعِ فَيَرُدُّهَا إلَيْهِ مع الْأَصْلِ وَعِنْدَهُمَا الْمَبِيعُ دخل في مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَكَانَتْ الزَّوَائِدُ حَاصِلَةً على مِلْكِهِ وَالْفَسْخُ يَظْهَرُ في الْأَصْلِ لَا في الزِّيَادَةِ فَبَقِيَتْ على حُكْمِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي
وَلَوْ كان الْمَبِيعُ دَابَّةً فَرَكِبَهَا فَإِنْ رَكِبَهَا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ كان إجَازَةً وَإِنْ رَكِبَهَا لِيَسْقِيَهَا أو يَشْتَرِيَ لها عَلَفًا أو لِيَرُدَّهَا على بَائِعِهَا فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ إجَازَةً لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ ذلك قَوْدًا وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَكُونُ إجَازَةً وهو على خِيَارِهِ لِأَنَّ ذلك مِمَّا لَا بُدَّ منه خُصُوصًا إذَا كانت الدَّابَّةُ صَعْبَةً لَا تَنْقَادُ بِالْقَوْدِ فَكَانَ ذلك من ضَرُورَاتِ الرَّدِّ فَلَا يُجْعَلُ إجَازَةً
وَلَوْ رَكِبَهَا لِيَنْظُرَ إلَى سَيْرِهَا لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ له من ذلك للاختبار ( ( ( للاختيار ) ) ) بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ أَنَّهُ إذَا رَكِبَهَا بَعْدَمَا عَلِمَ بِالْعَيْبِ أَنَّهُ يَبْطُلُ خِيَارُهُ لِأَنَّ له منه بُدًّا وَلَا حَاجَةَ إلَى الرُّكُوبِ هُنَاكَ لِمَعْرِفَةِ سَيْرِهَا فَكَانَ دَلِيلَ الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَلَوْ كان الْمَبِيعُ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ لِيَنْظُرَ إلَى قِصَرِهِ من طُولِهِ وَعَرْضِهِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ لِأَنَّ ذلك مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِلتَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ أَنَّهُ يُوَافِقُهُ أَمْ لَا فلم يَكُنْ منه بُدٌّ
وَلَوْ رَكِبَ الدَّابَّةَ لِيَعْرِفَ سَيْرَهَا ثُمَّ رَكِبَهَا مَرَّةً أُخْرَى يُنْظَرُ إنْ رَكِبَهَا لِمَعْرِفَةِ سَيْرٍ آخَرَ غَيْرِ الْأَوَّلِ بِأَنْ رَكِبَهَا مَرَّةً لِيَعْرِفَ أنها هِمْلَاجٌ ثُمَّ رَكِبَهَا ثَانِيًا لِيَعْرِفَ سُرْعَةَ عَدْوِهَا فَهُوَ على خِيَارِهِ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ السَّيْرَيْنِ مَقْصُودَةٌ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَيْهَا في بَعْضِ الدَّوَابِّ
وَإِنْ رَكِبَهَا لِمَعْرِفَةِ السَّيْرِ الْأَوَّلِ قالوا يَسْقُطُ خِيَارُهُ وَكَذَا في اسْتِخْدَامِ الرَّقِيقِ إذَا اسْتَخْدَمَهُ في نَوْعٍ ثُمَّ اسْتَخْدَمَهُ في ذلك النَّوْعِ قالوا يَسْقُطُ خِيَارُهُ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قالوا لَا يَسْقُطُ لِأَنَّ الِاخْتِبَارَ لَا يَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ لِجَوَازِ أَنَّ الْأَوَّلَ وَقَعَ اتِّفَاقًا فَيُحْتَاجُ إلَى التَّكْرَارِ لِمَعْرِفَةِ الْعَادَةِ وفي الثَّوْبِ إذَا لَبِسَهُ مَرَّةً لِمَعْرِفَةِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ ثُمَّ لَبِسَهُ ثَانِيًا يَسْقُطُ خِيَارُهُ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَكْرَارِ اللُّبْسِ في الثَّوْبِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِاللُّبْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً
وَلَوْ حَمَلَ على الدَّابَّةِ عَلَفًا فَهُوَ إجَازَةٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ حَمْلُ الْعَلَفِ على غَيْرِهَا وَلَوْ قَصَّ حَوَافِرَهَا أو أَخَذَ من عُرْفِهَا شيئا فَهُوَ على خِيَارِهِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ لَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ إذْ هو من بَابِ إصْلَاحِ الدبة ( ( ( الدابة ) ) ) فَيَمْلِكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ وَيَكُونُ مَأْذُونًا فيه دَلَالَةً كما إذَا عَلَفَهَا أو سَقَاهَا
وَلَوْ وَدَجَهَا أو بَزَغَهَا فَهُوَ إجَازَةٌ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فيها بِالتَّنْقِيصِ فَإِنْ كان شَاةً فَحَلَبَهَا أو شَرِبَ لَبَنَهَا فَهُوَ إجَازَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْمِلْكِ أو الْإِذْنِ من الْمَالِكِ ولم يُوجَدْ الْإِذْنُ فَكَانَ دَلِيلًا على قَصْدِ التَّمَلُّكِ أو التَّقْرِيرِ فَيَكُونُ إجَازَةً
وَلَوْ كان الْمَبِيعُ دَارًا فَسَكَنَهَا الْمُشْتَرِي أو أَسْكَنَهَا غَيْرَهُ بِأَجْرٍ أو بِغَيْرٍ أَجْرٍ أو رَمَّ شيئا منها أو جَصَّصَهَا أو طَيَّنَهَا أو أَحْدَثَ فيها شيئا أو هَدَمَ فيها شيئا فَذَلِكَ كُلُّهُ إجَازَةٌ لِأَنَّهُ دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْمِلْكِ أو تَقْرِيرِهِ فَكَانَ إجَازَةً دَلَالَةً
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ في سُكْنَى الْمُشْتَرِي رِوَايَتَانِ وَوَفَّقَ بَيْنَهُمَا فَحَمَلَ إحْدَاهُمَا على ابْتِدَاءِ السُّكْنَى وَالْأُخْرَى على الدَّوَامِ عليه وَلَوْ كان فيها سَاكِنٌ بِأَجْرٍ فَبَاعَهَا الْبَائِعُ بِرِضَا الْمُسْتَأْجِرِ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فَتَرَكَهُ الْمُشْتَرِي فيها أو اسْتَأْوَى الْغَلَّةَ فَهُوَ إجَازَةٌ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ أَخْذُهَا دَلَالَةً قَصْدَ تَمَلُّكِ الْمَنْفَعَةِ أو تَقْرِيرَ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ وَذَلِكَ قَصَدَ تَمَلُّكَ الدَّارِ أو تَقَرَّرَ مِلْكِهِ فيها فَكَانَ إجَازَةً
وَلَوْ كان الْمَبِيعُ أَرْضًا فيها حَرْثٌ فَسَقَاهُ أو حَصَدَهُ أو قَصَلَ منه شيئا فَهُوَ إجَازَةٌ لِأَنَّ السَّقْيَ تَصَرُّفٌ في الْحَرْثِ بِالتَّزْكِيَةِ فَكَانَ دَلِيلِ اخْتِيَارِ الْبَيْعِ وَإِيجَابِهِ
____________________

(5/270)


وَكَذَلِكَ الْقَصْلُ تَصَرُّفٌ فيه بِالتَّنْقِيصِ فَكَانَ دَلِيلَ قَصْدِ التَّمَلُّكِ أو التَّقَرُّرِ وَلَوْ شَرِبَ من نَهْرِ تِلْكَ الْأَرْضِ أو سَقَى منه دَوَابَّهُ لَا يَكُونُ إجَازَةً لِأَنَّ هذا تَصَرُّفٌ لَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ وَلَوْ كان الْمَبِيعُ رَحًى فَطَحَنَ فيها فَإِنْ هو طَحَنَ لِيَعْرِفَ مِقْدَارَ طَحْنِهَا فَهُوَ على خِيَارِهِ لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ ما شُرِعَ له الْخِيَارُ وَلَوْ دَامَ على ذلك كان إجَازَةً لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الزِّيَادَةِ لِلِاخْتِيَارِ فَكَانَ دَلِيلَ الرِّضَا بِوُجُوبِ الْبَيْعِ
وَأَمَّا خِيَارُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي جميعا فَيَسْقُطُ بِمَا يَسْقُطُ بِهِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ فَأَيَّهُمَا أَجَازَ صَرِيحًا أو ما يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ أو فَعَلَ ما يَدُلُّ على الْإِجَازَةِ بَطَلَ خِيَارُهُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ من جَانِبِهِ وَالْآخَرُ على خِيَارِهِ إنْ شَاءَ أَجَازَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ وَأَيَّهُمَا فَسَخَ صَرِيحًا أو ما يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ أو فَعَلَ ما يَدُلُّ على الْفَسْخِ انْفَسَخَ أَصْلًا وَرَأْسًا وَلَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ من صَاحِبِهِ بَعْدَ ذلك وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ لِأَنَّ الْفَسْخَ تَصَرُّفٌ في الْعَقْدِ بِالْإِبْطَالِ وَالْعَقْدُ بعدما بَطَلَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ لِأَنَّ الْبَاطِلَ متلاشي ( ( ( متلاش ) ) )
وَأَمَّا الْإِجَازَةُ فَهِيَ تَصَرُّفٌ في الْعَقْدِ بِالتَّغْيِيرِ وهو الْإِلْزَامُ لَا بِالْإِعْدَامِ فَلَا يُخْرِجُهُ عن احْتِمَالِ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ وَلَوْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا وَفَسَخَ الْآخَرُ انْفَسَخَ الْعَقْدُ سَوَاءٌ كان على التَّعَاقُبِ أو على الْقِرَانِ لِأَنَّ الْفَسْخَ أَقْوَى من الْإِجَازَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْحَقُ الْإِجَازَةَ فإن الْمُجَازَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَأَمَّا الْإِجَازَةُ فَلَا تَلْحَقُ الْفَسْخَ فإن الْمَفْسُوخَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ فَكَانَ الْفَسْخُ أَقْوَى من الْإِجَازَةِ فَكَانَ أَوْلَى وَلَوْ اخْتَلَفَا في الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ فقال أَحَدُهُمَا فَسَخْنَا الْبَيْعَ وقال الْآخَرُ لَا بَلْ أَجَزْنَا الْبَيْعَ جميعا فَاخْتِلَافُهُمَا لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ في مُدَّةِ الْخِيَارِ أو بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَإِنْ كان في الْمُدَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ من يَدَّعِي الْفَسْخَ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ وَأَحَدَهُمَا لَا يَنْفَرِدُ بِالْإِجَازَةِ
وَلَوْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ من يَدَّعِي الْإِجَازَةَ لِأَنَّهُ الْمُدَّعِي وَإِنْ كان بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فقال أَحَدُهُمَا مَضَتْ الْمُدَّةُ بَعْدَ الْفَسْخِ وقال الْآخَرُ بَعْدَ الْإِجَازَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ من يَدَّعِي الْإِجَازَةَ لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ الْجَوَازِ وهو ما بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَتَرَجَّحَ جَانِبُهُ بِشَهَادَةِ الْحَالِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
وَلَوْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مُدَّعِي الْفَسْخِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَمْرًا بِخِلَافِ الظَّاهِرِ وَالْبَيِّنَاتُ شُرِعَتْ له وَإِنْ كان الْخِيَارُ لِأَحَدِهِمَا وَاخْتَلَفَا في الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ في مُدَّةِ الْخِيَارِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ من له الْخِيَارُ سَوَاءٌ ادَّعَى الْفَسْخَ أم الْإِجَازَةَ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْأَمْرَيْنِ جميعا وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْآخَرِ لِأَنَّهُ هو الْمُدَّعِي وَلَوْ كان اخْتِلَافُهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ من يَدَّعِي الْإِجَازَةَ أَيَّهُمَا كان لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ الْجَوَازِ وَهِيَ ما بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَلَوْ أُرِّخَتْ الْبَيِّنَاتُ في هذا كُلِّهِ فَأَسْبَقُهُمَا تَارِيخًا أَوْلَى سَوَاءٌ قَامَتْ على الْفَسْخِ أو على الْإِجَازَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَإِنْ كان خِيَارُ الشَّرْطِ لِغَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ بِأَنْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا الْخِيَارَ لِأَجْنَبِيٍّ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذلك جَائِزٌ وَلِلشَّارِطِ وَالْمَشْرُوطِ له خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ وَأَيُّهُمَا أَجَازَ جَازَ وَأَيُّهُمَا فَسَخَ انْفَسَخَ لِأَنَّهُ صَارَ شَارِطًا لِنَفْسِهِ مُقْتَضَى الشَّرْطِ لِغَيْرِهِ وَصَارَ الْمَشْرُوطُ له بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ لِلشَّارِطِ في الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ فَإِنْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا وَفَسَخَ الْآخَرُ فَإِنْ كَانَا على التَّعَاقُبِ فَأَوَّلُهُمَا أَوْلَى فَسْخًا كان أو إجَازَةً لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالشَّرْطِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فَأَيُّهُمَا سَبَقَ وُجُودُهُ بَطَلَ الْآخَرُ وَإِنْ كَانَا مَعًا ذُكِرَ في الْبُيُوعِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ عن وِلَايَةِ الْمِلْكِ أَوْلَى نَقْضًا كان أو أجازة وَذَكَرَ في الْمَأْذُونِ أَنَّ النَّقْضَ أَوْلَى من أَيِّهِمَا كان
وَجْهُ رِوَايَةِ الْبُيُوعِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ صَدَرَ عن وِلَايَةِ الْمِلْكِ فَلَا يُعَارِضُهُ الصَّادِرُ عن وِلَايَةِ النِّيَابَةِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْمَأْذُونِ أَنَّ النَّقْضَ أَوْلَى من الْإِجَازَةِ لِأَنَّ الْمُجَازَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ أَمَّا الْمَفْسُوخُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ فَكَانَ الرُّجْحَانُ في الْمَأْذُونِ لِلنَّقْضِ من أَيِّهِمَا كان
وَقِيلَ ما رُوِيَ في الْبُيُوعِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ يُقَدِّمُ وِلَايَةَ الْمِلْكِ على وِلَايَةِ النِّيَابَةِ وما ذُكِرَ في الْمَأْذُونِ قَوْلُ أبي يُوسُفَ لِأَنَّهُ لَا يَرَى تَقْدِيمَ وِلَايَةِ الْمِلْكِ وَأَصْلُهُ ما ذُكِرَ في النَّوَادِرِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ من إنْسَانٍ وَبَاعَ الْمَالِكُ من غَيْرِهِ وَخَرَجَ الْكَلَامَانِ مع أَنَّ بَيْعَ الْمُوَكِّلِ أَوْلَى عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُجْعَلُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَيُخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ من المشترين ( ( ( المشتريين ) ) ) وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَنْفَسِخُ بِهِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما يَنْفَسِخُ بِهِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ شَرَائِطِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ ما يَنْفَسِخُ بِهِ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ اخْتِيَارِيٌّ وَضَرُورِيٌّ وَالِاخْتِيَارِيُّ نَوْعَانِ أَيْضًا صَرِيحٌ وما هو في مَعْنَى الصَّرِيحِ وَدَلَالَةٌ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوَ أَنْ يَقُولَ من له الْخِيَارُ فَسَخْتُ الْبَيْعَ أو نَقَضْتُهُ أو أَبْطَلْتُهُ وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ سَوَاءٌ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أو
____________________

(5/271)


لِلْمُشْتَرِي أو لَهُمَا أو لِغَيْرِهِمَا وَلَا يُشْتَرَطُ له التَّرَاضِي وَلَا قَضَاءُ الْقَاضِي لِأَنَّ الْفَسْخَ حَصَلَ بِتَسْلِيطِ صَاحِبِهِ عليه
وَأَمَّا الْفَسْخُ من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَهُوَ أَنْ يَتَصَرَّفَ من له الْخِيَارُ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ إنْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وفي الثَّمَنِ إنْ كان عَيْنًا إذَا كان الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْخِيَارَ إذَا كان لِلْبَائِعِ فَتَصَرُّفُهُ في الْمَبِيعِ تَصَرُّفُ الْمُلَّاكِ دَلِيلُ اسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ فيه وإذا كان لِلْمُشْتَرِي فَتَصَرُّفُهُ في الثَّمَنِ إذَا كان عَيْنًا تَصَرُّفُ الْمُلَّاكِ دَلِيلُ اسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ فيه وَلَا يَكُونُ ذلك إلَّا بِالْفَسْخِ فَالْإِقْدَامُ عليه يَكُونُ فَسْخًا لِلْعَقْدِ دَلَالَةً
وَالْحَاصِلُ أن وُجِدَ من الْبَائِعِ في الْمَبِيعِ ما لو وُجِدَ منه في الثَّمَنِ لَكَانَ إجَازَةً لِلْبَيْعِ يَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ وقد ذَكَرْنَا ذلك كُلَّهُ وَهَذَا النَّوْعُ من الْفَسْخِ لَا يَقِفُ على عِلْمِ صَاحِبِهِ بِلَا خِلَافٍ بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الِانْفِسَاخَ هَهُنَا لَا يَثْبُتُ بِالْفَسْخِ مَقْصُودًا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ ضِمْنًا لِغَيْرِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ له ما يُشْتَرَطُ لِلْفَسْخِ مَقْصُودًا كَبَيْعِ الشِّرْبِ وَالطَّرِيقِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَقْصُودًا وَيَجُوزُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الضَّرُورِيُّ فَنَحْوَ أَنْ يَهْلِكَ الْمَبِيعُ قبل الْقَبْضِ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ سَوَاءٌ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أو لِلْمُشْتَرِي أو لَهُمَا جميعا لِأَنَّهُ لو كان بَاتًّا لَبَطَلَ فإذا كان فيه خِيَارُ الشَّرْطِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَضْعَفُ منه وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَكَذَلِكَ يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَلَكِنْ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ إنْ لم يَكُنْ له مِثْلٌ وَالْمِثْلُ إنْ كان له مِثْلٌ إمَّا بُطْلَانُ الْبَيْعِ فَلِأَنَّ الْمَبِيعَ صَارَ بِحَالٍ لَا يَحْتَمِلُ إنْشَاءَ الْعَقْدِ عليه فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ ضَرُورَةً وَأَمَّا لُزُومُ الْقِيمَةِ فَقَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال ابن أبي لَيْلَى أنه يَهْلِكُ أَمَانَةً
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْخِيَارَ مَنَعَ انْعِقَادَ الْعَقْدِ في حَقِّ الْحُكْمِ فَكَانَ الْمَبِيعُ على حُكْمِ مِلْكِ الْبَائِعِ أَمَانَةً في يَدِ الْمُشْتَرِي فَيَهْلِكُ هَلَاكَ الْأَمَانَاتِ
وَلَنَا أَنَّ الْبَيْعَ وَإِنْ لم يَنْعَقِدْ في حَقِّ الْحُكْمِ لَكِنَّ الْمَبِيعَ في قَبْضِ الْمُشْتَرِي على حُكْمِ الْبَيْعِ فَلَا يَكُونُ دُونَ الْمَقْبُوضِ على سَوْمِ الشِّرَاءِ بَلْ هو فَوْقَهُ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يُوجَدْ الْعَقْدُ لَا بِنَفْسِهِ وَلَا بِحُكْمِهِ وَهَهُنَا إنْ لم يَثْبُتْ حُكْمُ الْعَقْدِ فَقَدْ وُجِدَ بِنَفْسِهِ وَذَلِكَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ أو بِالْمِثْلِ فَهَذَا أَوْلَى
وَإِنْ كان الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَلَكِنْ يَبْطُلُ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ أما على أَصْلِهِمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ فإذا قَبَضَهُ فَقَدْ تَقَرَّرَ عليه الثَّمَنُ فإذا هَلَكَ يَهْلِكُ مَضْمُونًا بِالثَّمَنِ كما كان في الْبَيْعِ الْبَاتِّ
وأما على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَالْمُشْتَرِي وَإِنْ لم يَمْلِكْهُ فَقَدْ اعْتَرَضَ عليه في يَدِهِ قبل الْقَبْضِ ما يَمْنَعُ الرَّدَّ وهو التَّعَيُّبُ بِعَيْبٍ لم يَكُنْ عِنْدَ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْهَلَاكَ في يَدِهِ لَا يَخْلُو عن تَقَدُّمِ عَيْبٍ عَادَةً لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عن سَبَبِ مَوْتِهِ في الْهَلَاكِ عَادَةً وَأَنَّهُ يَكُونُ عَيْبًا وَتَعَيُّبُ الْمَبِيعِ في يَدِ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ الرَّدَّ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فإذا هَلَكَ يَهْلِكُ بِالثَّمَنِ
وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْمَبِيعَ أَجْنَبِيٌّ وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَالْبَائِعُ على خِيَارِهِ لِأَنَّهُ يَهْلِكُ إلَى خَلَفٍ وهو الضَّمَانُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ لِلضَّمَانِ وهو إتْلَافُ مَالٍ مقوم ( ( ( متقوم ) ) ) مَمْلُوكٍ لِغَيْرِهِ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عن مِلْكِهِ وَالْهَالِكُ إلَى خَلَفٍ قَائِمٌ مَعْنًى فَكَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْإِجَازَةِ سَوَاءٌ كان الْمَبِيعُ في يَدِ الْمُشْتَرِي أو في يَدِ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ في الْحَالَيْنِ جميعا فَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَاتَّبَعَ الْجَانِي بِالضَّمَانِ
وَكَذَلِكَ لو اسْتَهْلَكَهُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ وَجَبَ الضَّمَانُ عليه بِالِاسْتِهْلَاكِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَالضَّمَانُ بَدَلُ الْمَضْمُونِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ فَكَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا مَعْنًى فَكَانَ الْخِيَارُ على حَالِهِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَاتَّبَعَ الْمُشْتَرِي بِالضَّمَانِ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ وَاتَّبَعَهُ بِالثَّمَنِ
وَلَوْ تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ في يَدِ الْبَائِعِ فَإِنْ كان بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمَبِيعِ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وهو على خِيَارِهِ لِأَنَّ ما انْتَقَصَ منه من غَيْرِ فِعْلِهِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عليه حَيْثُ لَا يَسْقُطُ بِحِصَّتِهِ شَيْءٌ من الثَّمَنِ فَلَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ في قَدْرِ الضَّمَانِ بِإِبْقَاءِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ على الْمُشْتَرِي فَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ فَإِنْ أَجَازَهُ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِتَغَيُّرِ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ
وَإِنْ كان بِفِعْلِ الْبَائِعِ بَطَلَ الْبَيْعُ لِأَنَّ ما انْتَقَصَ بِفِعْلِهِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عليه حتى يَسْقُطَ عن الْمُشْتَرِي حِصَّةُ قَدْرِ النُّقْصَانِ من الثَّمَنِ فَالْإِجَازَةُ تَتَضَمَّنُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ على الْمُشْتَرِي قبل التَّمَامِ
وَإِنْ كان بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ لم يَبْطُلْ الْبَيْعُ وهو على خِيَارِهِ لِأَنَّ قَدْرَ النُّقْصَانِ هَلَكَ إلَى خَلَفٍ وهو الضَّمَانُ فَكَانَ قَائِمًا مَعْنًى ولم يَبْطُلْ الْبَيْعُ في قَدْرِ الْهَالِكِ فَكَانَ الْبَائِعُ على خِيَارِهِ إنْ شاه ( ( ( شاء ) ) ) فَسَخَ الْبَيْعَ وأتبع الْجَانِيَ بِالْأَرْشِ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ وأتبع الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يَتَّبِعُ الْجَانِي بِالْأَرْشِ
وَكَذَلِكَ لو تَعَيَّبَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالْبَائِعُ على
____________________

(5/272)


خِيَارِهِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ على مِلْكِ الْبَائِعِ فَكَانَ قَدْرُ النُّقْصَانِ مَضْمُونًا على الْمُشْتَرِي فَكَانَ هَلَاكًا إلَى خَلَفٍ فَكَانَ الْبَيْعُ على حَالِهِ وَالْبَائِعُ على خِيَارِهِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَاتَّبَعَ الْمُشْتَرِيَ بِالضَّمَانِ
وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ وَاتَّبَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ
وَكَذَلِكَ إذَا تَعَيَّبَ في يَدِ الْمُشْتَرِي بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أو بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أو بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَالْبَائِعُ على خِيَارِهِ فَإِنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ فَإِنْ أَجَازَ أَخَذَ من الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ سَوَاءٌ كان التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أو بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ أو بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لِأَنَّ الْبَيْعَ جَازَ في الْكُلِّ وَلَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الرَّدِّ بِحُدُوثِ التَّغَيُّرِ في الْمَبِيعِ لِأَنَّهُ حَدَثَ في يَدِهِ في ضامنه ( ( ( ضمانه ) ) ) غير أَنَّهُ إنْ كان التعييب ( ( ( التعيب ) ) ) بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فَلَا سَبِيلَ له على أَحَدٍ
وَإِنْ كان بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَّبِعَ الْجَانِي بِالْأَرْشِ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْعَبْدَ بِإِجَازَةِ الْبَائِعِ من وَقْتِ الْبَيْعِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ على مِلْكِهِ وَإِنْ فَسَخَ يُنْظَرُ إنْ كان التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فإن الْبَائِعَ يَأْخُذُ الْبَاقِي وَيَأْخُذُ أَرْشَ الْجِنَايَةِ من الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْعَبْدَ كان مَضْمُونًا على الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو هَلَكَ في يَدِهِ لزمنه ( ( ( لزمته ) ) ) قِيمَتُهُ وَبِالْفَسْخِ وَجَبَ عليه رَدُّهُ وقد عَجَزَ عن رَدِّ قَدْرِ الْفَائِتِ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ قِيمَتِهِ وَكَذَا إذَا تَعَيَّبَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كان التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْأَجْنَبِيَّ بِالْأَرْشِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ على مِلْكِهِ وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ اخْتَارَ اتِّبَاعَ الْأَجْنَبِيِّ فَالْأَجْنَبِيُّ لَا يَرْجِعُ على أَحَدٍ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ
وَإِنْ اخْتَارَ اتِّبَاعَ الْمُشْتَرِي فَالْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ من الْأَرْشِ على الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قام مَقَامَ الْبَائِعِ في حَقِّ مِلْكِ بَدَلِ الْفَائِتِ وَإِنْ لم يَقُمْ مَقَامَهُ في حَقِّ مِلْكِ نَفْسِ الْفَائِتِ كَغَاصِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا قُتِلَ الْمُدَبَّرُ في يَدِهِ وَضَمِنَهُ لِلْمَالِكِ أَنَّ له أَنْ يَرْجِعَ بِمَا ضَمِنَ على القائل ( ( ( القاتل ) ) ) وَإِنْ لم يَمْلِكْ نَفْسَ الْمُدَبَّرِ كَذَا هذا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْفَسْخِ فَمِنْهَا قِيَامُ الْخِيَارِ لِأَنَّ الْخِيَارَ إذَا بَطَلَ فَقَدْ لَزِمَ الْبَيْعُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَمِنْهَا عِلْمُ صَاحِبِهِ بِالْفَسْخِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حتى لو فُسِخَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كان فَسْخُهُ مَوْقُوفًا عِنْدَهُمَا إنْ عَلِمَ صَاحِبُهُ بِفَسْخِهِ في مُدَّةِ الْخِيَارِ نَفَذَ وَإِنْ لم يَعْلَمْ حتى مَضَتْ الْمُدَّةُ لَزِمَ الْعَقْدُ
وَكَذَا لو أَجَازَ الْفَاسِخُ الْعَقْدَ نَفَذَ فَسْخُهُ قبل عِلْمِ صَاحِبِهِ وَجَازَتْ إجَازَتُهُ وَلَزِمَ الْعُقَدُ وَبَطَلَ فَسْخُهُ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وقال عِلْمُ صَاحِبِهِ ليس بِشَرْطٍ حتى لو فُسِخَ يَصِحُّ فَسْخُهُ عَلِمَ صَاحِبُهُ بِالْفَسْخِ أو لَا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ فَصَلَ بين خِيَارِ الْبَائِعِ وَخِيَارِ الْمُشْتَرِي فلم يَشْتَرِطْ الْعِلْمَ في خِيَارِ الْبَائِعِ وَشَرَطَ في خِيَارِ الْمُشْتَرِي
وَأَمَّا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فَهُوَ على هذا الِاخْتِلَافِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَلَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا في خِيَارِ الْعَيْبِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْفَسْخِ فيه شَرْطٌ سَوَاءٌ كان بَعْدَ الْقَضَاءِ أو قَبْلَهُ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ عَزْلَ الْمُوَكِّلِ وَكِيلَهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ وَإِنْ فَسَخَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الشَّرِكَةَ أو نهى رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ عن التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ لَا يَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ بِغَيْرِ عِلْمِ صَاحِبِهِ فَيَمْلِكُ الْفَسْخَ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَصَلَ بِتَسْلِيطِ صَاحِبِهِ عليه وَرِضَاهُ فَلَا مَعْنَى لِلتَّوَقُّفِ على عِلْمِهِ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ من غَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن الْفَسْخَ لو نَفَذَ بِغَيْرِ عِلْمِ صَاحِبِهِ لَتَضَرَّرَ بِهِ صَاحِبُهُ فَلَا يَنْفُذُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عنه كَالْمُوَكِّلِ إذَا عَزَلَ وَكِيلَهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ وَبَيَانُ الضَّرَرِ أَنَّ صَاحِبَهُ إذَا لم يَعْلَمْ بِالْفَسْخِ فَتَصَرَّفَ في الْمَبِيعِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ على ظَنِّ أَنَّهُ مِلْكَهُ فَلَوْ جَازَ الْفَسْخُ من غَيْرِ عِلْمِهِ لَتَبَيَّنَ أَنَّهُ تَصَرَّفَ في مِلْكِ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَلِهَذَا لم يَجُزْ عَزْلُ الْوَكِيلِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَذَا هذا بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ أَنَّهُ يَصِحُّ من غَيْرِ عِلْمِهِ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فيه وَكَذَا لَا ضَرَرَ في بَيْعِ الْوَكِيلِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ في الْفَسْخِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ حتى لَا يَمْلِكَ الْإِجَازَةَ في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ لِأَنَّهُ تفرق ( ( ( تفريق ) ) ) الصَّفْقَةِ قبل تَمَامِهَا وَأَنَّهُ بَاطِلٌ
وَأَمَّا الْخِيَارُ الثَّابِتُ بِالشَّرْطِ دَلَالَةً فَهُوَ خِيَارُ الْعَيْبِ وَالْكَلَامُ في بَيْعِ الْمَعِيبِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ حُكْمِهِ وفي بين صفة الحكم وفي بَيَانِ تفسري ( ( ( صفة ) ) ) الْعَيْبِ الذي يُوجِبُ الْخِيَارَ وَتَفْصِيلِ الْمُفَسَّرِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ وفي طَرِيقِ إثْبَاتِ الْعَيْبِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الرَّدِّ وَالْفَسْخِ بِالْعَيْبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وفي بَيَانِ من تَلْزَمُهُ الْخُصُومَةُ في الْعَيْبِ وَمَنْ لَا تَلْزَمُهُ وفي بَيَانِ ما يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وفي بَيَانِ ما يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وفي بَيَانِ ما يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وما لَا يَمْنَعُ وفي بَيَانِ طَرِيقِ الرُّجُوعِ
أَمَّا حُكْمُهُ فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي في الْمَبِيعِ لِلْحَالِ لِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ مُطْلَقٌ عن الشَّرْطِ وَالثَّابِتُ بِدَلَالَةِ
____________________

(5/273)


النَّصِّ شَرْطُ السَّلَامَةِ لَا شَرْطُ السَّبَبِ وَلَا شَرْطُ الْحُكْمِ وَأَثَرُهُ في مَنْعِ اللُّزُومِ لَا في من ( ( ( منع ) ) ) أَصْلِ الْحُكْمِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْمَنْصُوصَ عليه هُنَاكَ دخل على السَّبَبِ فَيَمْنَعُ انْعِقَادَهُ في حَقِّ الْحُكْمِ في مُدَّةِ الْخِيَارِ
وَأَمَّا صِفَتُهُ فَهِيَ أَنَّهُ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّ السَّلَامَةَ شَرْطٌ في الْعَقْدِ دَلَالَةً فما لم يُسَلَّمْ الْمَبِيعُ لَا يَلْزَمُ الْبَيْعُ فَلَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ السَّلَامَةَ مَشْرُوطَةٌ في الْعَقْدِ دَلَالَةً أَنَّ السَّلَامَةَ في الْبَيْعِ مَطْلُوبَةُ الْمُشْتَرِي عَادَةً إلَى آخِرِهِ لِأَنَّ غَرَضَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَبِيعِ وَلَا يَتَكَامَلُ انْتِفَاعُهُ إلَّا بِقَيْدِ السَّلَامَةِ وَلِأَنَّهُ لم يَدْفَعْ جَمِيعَ الثَّمَنِ إلَّا لِيُسَلَّمَ له جَمِيعُ الْمَبِيعِ فَكَانَتْ السَّلَامَةُ مَشْرُوطَةً في الْعَقْدِ دَلَالَةً فَكَانَتْ كَالْمَشْرُوطَةِ نَصًّا فإذا فَاتَتْ الْمُسَاوَاةُ كان له الْخِيَارُ كما إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً على أنها بِكْرٌ أو على أنها طَبَّاخَةٌ فلم يَجِدْهَا كَذَلِكَ
وَكَذَا السَّلَامَةُ من مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ أَيْضًا لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَالْمُعَاوَضَاتُ مَبْنَاهَا على الْمُسَاوَاةِ عَادَةً وَحَقِيقَةً وَتَحْقِيقُ الْمُسَاوَاةِ في مُقَابَلَةِ الْبَدَلِ بِالْمُبْدَلِ وَالسَّلَامَةِ بِالسَّلَامَةِ فَكَانَ إطْلَاقُ الْعَقْدِ مُقْتَضِيًا لِلسَّلَامَةِ فإذا لم يُسَلَّمْ الْمَبِيعُ لِلْمُشْتَرِي يَثْبُتُ له الْخِيَارُ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ قَدْرِ الْفَائِتِ بِالْعَيْبِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وهو عَاجِزٌ عن تَسْلِيمِهِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ وَلِأَنَّ السَّلَامَةَ لَمَّا كانت مَرْغُوبَةَ الْمُشْتَرِي ولم يَحْصُلْ فَقَدْ اخْتَلَّ رِضَاهُ وَهَذَا يُوجِبُ الْخِيَارَ لِأَنَّ الرِّضَا شَرْطُ صِحَّةِ الْبَيْعِ قال اللَّهُ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عن تَرَاضٍ مِنْكُمْ } فَانْعِدَامُ الرِّضَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ وَاخْتِلَالُهُ يُوجِبُ الْخِيَارَ فيه إثْبَاتًا لِلْحُكْمِ على قَدْرِ الدَّلِيلِ
وَالْأَصْلُ في شَرْعِيَّةِ هذا الْخِيَارِ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً فَوَجَدَهَا مُصَرَّاةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
وفي رِوَايَةٍ فَهُوَ بِأَحَدِ النَّظَرَيْنِ إلَى ثَلَاثَةٍ أن شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا من تَمْرٍ النظران ( ( ( والنظران ) ) ) الْمَذْكُورَانِ هُمَا نَظَرُ الْإِمْسَاكِ وَالرَّدِّ وَذِكْرُ الثَّلَاثِ في الحديث ليس لِلتَّوْقِيتِ لِأَنَّ هذا النَّوْعَ من الْخِيَارِ ليس بِمُوَقَّتٍ بَلْ هو بِنَاءُ الْأَمْرِ على الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ لِأَنَّ المشتري إنْ كان بِهِ عَيْبٌ يَقِفُ عليه الْمُشْتَرِي في هذه الْمُدَّةِ عَادَةً فيرضي بِهِ فَيُمْسِكُهُ أو لَا يرضي بِهِ فَيَرُدُّهُ وَالصَّاعُ من التَّمْرِ كَأَنَّهُ قِيمَةُ اللَّبَنِ الذي حَلَبَهُ الْمُشْتَرِي عَلِمَهُ رسول اللَّهِ بِطَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْعَيْبِ الذي يُوجِبُ الْخِيَارَ وَتَفْصِيلُ الْمُفَسَّرِ فَكُلُّ ما يُوجِبُ نُقْصَانَ الثَّمَنِ في عَادَةِ التُّجَّارِ نُقْصَانًا فَاحِشًا أو يَسِيرًا فَهُوَ عَيْبٌ يُوجِبُ الْخِيَارَ وما لَا فَلَا نحو الْعَمَى وَالْعَوَرِ وَالْحَوَلِ وَالْقَبَلِ وهو نَوْعٌ من الْحَوْلِ مَصْدَرُ الْأَقْبَلِ وهو الذي كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى طَرَفِ أَنْفِهِ وَالسَّبَلِ وهو زِيَادَةٌ في الْأَجْفَانِ وَالْعَشَا مَصْدَرُ الْأَعْشَى وهو الذي لَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ وَالْخَوَصِ مَصْدَرُ الْأَخْوَصِ وهو غَائِرُ الْعَيْنِ والحوض ( ( ( والحوص ) ) ) مَصْدَرُ الْأَحْوَصِ وهو الضَّيِّقُ مُؤَخَّرِ الْعَيْنِ وَالْغَرَبِ وهو وَرَمٌ في الأماق وَهِيَ أَطْرَافُ الْعَيْنِ التي تَلِي الْأَنْفَ
وَقِيلَ هو دُرُورُ الدَّمْعِ دَائِمًا وَالظَّفَرَةُ وَهِيَ التي يُقَالُ لها بِالْفَارِسِيَّةِ ناخنه وَالشَّتَرِ وهو انْقِلَابُ جَفْنِ الْعَيْنِ وَالْبَرَصِ وَالْقَرَعِ وَالسَّلْعِ وَالشَّلَلِ وَالزَّمَانَةِ وَالْفَدَعِ وهو إعوجاج في الرُّسْغِ من الْيَدِ أو الرِّجْلِ وَالْفَجَجِ مَصْدَرُ الْأَفْجَجُ وهو الذي يَتَدَانَى عَقِبَاهُ وَيَنْكَشِفُ سَاقَاهُ في الْمَشْيِ
وَالصَّكَكِ مَصْدَرُ الْأَصَكِّ وهو الذي يصكك ( ( ( تصطك ) ) ) رُكْبَتَاهُ وَالْحَنَفُ مَصْدَرُ الْأَحْنَفِ وهو الذي أَقْبَلَتْ إحْدَى إبْهَامِ رِجْلَيْهِ على الْأُخْرَى والبزي ( ( ( والبزا ) ) ) مَصْدَرُ الْأَبْزَى وهو خُرُوجُ الصَّدْرِ
وَالْعُسْرِ مَصْدَرُ الْأَعْسَرِ وهو الذي يَعْمَلُ بِشِمَالِهِ والأصبع الزَّائِدَةِ وَالنَّاقِصَةِ وَالسِّنِّ الشَّاغِيَةِ وَالسَّوْدَاءِ وَالنَّاقِصَةِ وَالظُّفْرِ الْأَسْوَدِ وَالْبَخَرِ وهو نَتْنُ الْفَمِ في الْجَوَارِي لَا في الْعَبِيدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ عن دَاءٍ وَالزَّفَرِ وهو نَتْنُ الْإِبِطِ في الْجَارِيَةِ لَا في الْغُلَامِ إلَّا أَنْ يَفْحُشَ فَيَكُونُ عَيْبًا فِيهِمَا جميعا وَالْأَدَرِ مَصْدَرُ الإدرة وهو الذي بِهِ أُدْرَةٌ يُقَالُ لها بِالْفَارِسِيَّةِ فَتْحُ
وَالرَّتَقِ وهو انْسِدَادُ فَرْجِ الْجَارِيَةِ وَالْفَتْقِ وهو انْفِتَاحُ فَرْجِهَا وَالْقَرَنِ وهو في النِّسَاءِ كَالْأُدْرَةِ في الرِّجَالِ وَالشَّمَطِ وَالشَّيْبِ في الْجَوَارِي وَالْعَبِيدِ وَالسَّلُول وَالْقُرُوحِ وَالشِّجَاجِ وَالْأَمْرَاضِ كُلِّهَا
وَالْحَبَلِ في الْجَوَارِي لَا في الْبَهَائِمِ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ في الْبَهِيمَةِ وَحَذْفِ الْحُرُوفِ في الْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ أو في بَعْضِهِ وَالزِّنَا في الْجَارِيَةِ لَا في الْغُلَامِ لِأَنَّهُ يُفْسِدُ الْفِرَاشَ وقد يُقْصَدُ الْفِرَاشُ في الْإِمَاءِ بِخِلَافِ الْغُلَامِ إلَّا إذَا فَحُشَ وَصَارَ اتِّبَاعُ النِّسَاءِ عَادَةً له فَيَكُونُ عَيْبًا فيه أَيْضًا لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَعْطِيلَ مَنَافِعِهِ على الْمَوْلَى وَكَذَا إذَا ظَهَرَ وُجُوبُ الْحَدِّ عليه فَهُوَ عَيْبٌ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِبَلْخٍ الزِّنَا يَكُونُ عَيْبًا في الْغُلَامِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُؤْتَمَنُ على أَهْلِ ابيت ( ( ( البيت ) ) ) فَلَا يُسْتَخْدَمُ
____________________

(5/274)


وَهَذَا ليس بِسَدِيدٍ لِأَنَّ الْغُلَامَ الْكَبِيرَ لَا يُشْتَرَى لِلِاسْتِخْدَامِ في الْبَيْتِ بَلْ لِلْأَعْمَالِ الْخَارِجَةِ وَكَوْنُ المشتري وَلَدَ الزِّنَا في الْجَارِيَةِ لَا في الْعَبِيدِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قد يُقْصَدُ الْفِرَاشُ من الْجَوَارِي فإذا جَاءَتْ بِوَلَدٍ يُعَيَّرُ وَلَدُهُ بِأُمِّهِ بِخِلَافِ الْغُلَامِ لِأَنَّهُ يشتري لخدمة ( ( ( للخدمة ) ) ) عَادَةً وَالْكُفْرُ في الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ عَيْبٌ لِأَنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَنْفِرُ عن صُحْبَةِ الْكَافِرِ
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ بِعَيْبٍ بِأَنْ اشْتَرَى نَصْرَانِيٌّ عَبْدًا فَوَجَدَهُ مُسْلِمًا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ زِيَادَةٌ وَالنِّكَاحُ في الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ مَمْلُوكَةٌ لِلزَّوْجِ وَالْعَبْدُ يُبَاعُ في الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فَيُوجِبُ ذلك نُقْصَانًا في ثَمَنِهِمَا وَالْعِدَّةُ من طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لَا من طَلَاقٍ بَائِنٍ أو ثَلَاثٍ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الْبَائِنِ وَالثَّلَاثِ وَاحْتِبَاسُ الْحَيْضَةِ في الْجَارِيَةِ الْبَالِغَةِ مُدَّةً طَوِيلَةً شَهْرَانِ فَصَاعِدًا والإستحاضة لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْحَيْضِ في أَوَانِهِ لَا يَكُونُ إلَّا لِدَاءٍ عَادَةً
وَكَذَا اسْتِمْرَارُ الدَّمِ في أَيَّامِ الطُّهْرِ وَالْإِحْرَامُ في الْجَارِيَةِ ليس بِعَيْبٍ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ إزَالَتَهُ فإن له أَنْ يُحَلِّلَهَا وَالْحُرْمَةُ بِالرَّضَاعِ أو الصِّهْرِيَّةِ ليس بِعَيْبٍ فيها لِأَنَّ الْجَوَارِيَ لَا يُشْتَرَيْنَ لِلِاسْتِمْتَاعِ عَادَةً بَلْ لِلِاسْتِخْدَامِ في الْبَيْتِ وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ لَا تَقْدَحُ في ذلك بِخِلَافِ النِّكَاحِ حَيْثُ يَكُونُ عَيْبًا وَإِنْ لم يَثْبُتْ بِهِ إلَّا حُرْمَةُ الِاسْتِمْتَاعِ لِأَنَّهُ يحل ( ( ( يخل ) ) ) بِالِاسْتِخْدَامِ
وَالثِّيَابَةُ في الْجَارِيَةِ ليس بِعَيْبٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ اشْتَرَاهَا على شَرْطِ الْبَكَارَةِ فَيَرُدَّهَا بَعْدَ الشَّرْطِ وَالدَّيْنُ وَالْجِنَايَةُ لِأَنَّهُ يُدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ وَيُبَاعُ بِالدَّيْنِ وَالْجَهْلُ بِالطَّبْخِ وَالْخَبْزِ في الْجَارِيَةِ ليس بِعَيْبٍ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الثَّمَنِ في عَادَةِ التُّجَّارِ بَلْ هو حِرْفَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهَا فَانْعِدَامُهُ لَا يَكُونُ عَيْبًا إلَّا أَنْ يَكُونَ ذلك مَشْرُوطًا في الْعَقْدِ فَيَرُدَّهَا لِفَوَاتِ الشَّرْطِ لَا لِلْعَيْبِ
وَلَوْ كانت تحس ( ( ( تحسن ) ) ) الطَّبْخَ والخيز ( ( ( والخبز ) ) ) في يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ نَسِيَتْ في يَدِهِ فَاشْتَرَاهَا فَوَجَدَهَا لَا تُحْسِنُ ذلك رَدَّهَا وَإِنْ لم يَكُنْ ذلك مَشْرُوطًا في الْعَقْدِ لِأَنَّهَا إذَا كانت تُحْسِنُ ذلك في يَدِ الْبَائِعِ وَهِيَ صِفَةٌ مَرْغُوبَةٌ تشتري لها الْجَارِيَةُ عَادَةً فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَاهَا رَغْبَةً فيها فَصَارَتْ مَشْرُوطَةً دَلَالَةً فَيَرُدُّهَا لِانْعِدَامِ الْمَشْرُوطِ كما لو شَرَطَ ذلك نَصًّا وَانْعِدَامُ الْخِتَانِ في الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ إذ كَانَا مَوْلُودَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَإِنْ كانت ( ( ( كانا ) ) ) مَوْلُودَيْنِ صَغِيرَيْنِ فَلَيْسَ بِعَيْبٍ لِأَنَّ الْخِتَانَ في حَالَةِ الْكِبَرِ فيه زِيَادَةُ أَلَمٍ
وَهَذَا الذي ذُكِرَ في الْجَارِيَةِ في عُرْفِ بِلَادِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَخْتِنُونَ الْجَوَارِيَ فَأَمَّا في عُرْفِ دِيَارِنَا فَالْجَارِيَةُ لَا تُخْتَنُ فَعَدَمُ الْخِتَانِ فيها لَا يَكُونُ عَيْبًا أَصْلًا
وَإِنْ كان الْغُلَامُ كَبِيرًا حَرْبِيًّا لَا يَكُونُ عَيْبًا لأن فيه ضَرُورَةٌ لِأَنَّ أَكْثَرَ الرَّقِيقِ يُؤْتَى بِهِ من دَارِ الْحَرْبِ وَأَهْلُ الْحَرْبِ لَا خِتَانَ لهم فَلَوْ جُعِلَ ذلك عَيْبًا يُرَدُّ بِهِ لَضَاقَ الْأَمْرُ على الناس وَلِأَنَّ الْخِتَانَ إذَا لم يَكُنْ من فِعْلِ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَعَادَتِهِمْ وَمَعَ ذلك اشْتَرَاهُ كان ذلك منه دَلَالَةَ الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَالْإِبَاقُ وَالسَّرِقَةُ وَالْبَوْلُ في الْفِرَاشِ وَالْجُنُونُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منها يُوجِبُ النُّقْصَانَ في الثَّمَنِ في عَادَةِ التُّجَّارِ نُقْصَانًا فَاحِشًا فَكَانَ عَيْبًا إلَّا أَنَّهُ هل يُشْتَرَطُ في هذه الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ اتِّحَادُ الْحَالَةِ وَهَلْ يُشْتَرَطُ ثُبُوتُهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِالْحُجَّةِ لِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ فَسَنَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَالْحَنَفُ مَصْدَرُ الْأَحْنَفِ من الْخَيَلِ وهو الذي إحْدَى عَيْنَيْهِ زَرْقَاءُ وَالْأُخْرَى كَحْلَاءُ وَالصَّدَفِ مَصْدَرُ الْأَصْدَفِ وهو الدَّابَّةُ التي يَتَدَانَى فَخْذَاهَا وَيَتَبَاعَدُ حَافِرَاهَا وَيَلْتَوِي رُسْغَاهَا
وَالْعَزْلُ مَصْدَرُ الْأَعْزَلِ وهو من الدَّوَابِّ الذي يَقَعُ ذَنَبُهُ من جَانِبٍ عَادَةً لَا خِلْقَةً وَالْمَشَشُ وهو ارْتِفَاعُ الْعَظْمِ لِآفَةٍ أَصَابَتْهُ وَالْجَرَدُ مَصْدَرُ الْأَجْرَدِ وهو من الْإِبِلِ الذي أَصَابَهُ انْقِطَاعُ عَصَبٍ من يَدِهِ أو رِجْلِهِ فَهُوَ يُنْقِصُهَا إذَا سَارَ وَالْحَرَّانُ وَالْحَرُونُ مَصْدَرُ الْحَرُونِ وهو الذي يَقِفُ وَلَا يَنْقَادُ لِلسَّائِقِ وَلَا لِلْقَائِدِ
وَالْجِمَاحُ وَالْجُمُوحُ مَصْدَرُ الْجَمُوحِ وهو أَنْ يَشْتَدَّ الْفَرَسُ فَيَغْلِبُ رَاكِبَهُ وَخَلْعُ الرَّسَنِ ظَاهِرٌ وَبَلُّ الْمِخْلَاةِ كَذَلِكَ وَالْهَشْمُ في الْأَوَانِي وَالصَّدْعُ في الْحَوَائِطِ والجدوع ( ( ( والجذوع ) ) ) وَنَحْوِهَا من الْعُيُوبِ فَأَنْوَاعُ الْعُيُوبِ فيها كَثِيرَةٌ لَا وَجْهَ لِذِكْرِهَا هَهُنَا كُلِّهَا وَالتَّعْوِيلُ في الْبَابِ على عُرْفِ التُّجَّارِ فما نَقَصَ الثَّمَنَ في عُرْفِهِمْ فَهُوَ عَيْبٌ يُوجِبُ الْخِيَارَ ومالا فَلَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرَائِطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ
فَمِنْهَا ثُبُوتُ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ أو بَعْدَهُ قبل التَّسْلِيمِ حتى لو حَدَثَ بَعْدَ ذلك لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ لِفَوَاتِ صِفَةِ السَّلَامَةِ الْمَشْرُوطَةِ في الْعَقْدِ دَلَالَةً وقد حُصِّلَتْ السِّلْعَةُ سَلِيمَةً في يَدِ الْمُشْتَرِي
وَمِنْهَا ثُبُوتُهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ما قَبَضَ الْمَبِيعَ وَلَا يكتفي بِالثُّبُوتِ عِنْدَ الْبَائِعِ لِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ في جَمِيعِ الْعُيُوبِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ وقال بَعْضُهُمْ فِيمَا سِوَى الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ من الأباق وَالسَّرِقَةِ وَالْبَوْلِ في
____________________

(5/275)


الْفِرَاشِ وَالْجُنُونِ فَكَذَلِكَ فَأَمَّا في الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ فَثُبُوتُهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي ليس بِشَرْطٍ بَلْ الثُّبُوتُ عِنْدَ الْبَائِعِ كَافٍ وَبَعْضُهُمْ فَصَّلَ في الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ فقال لَا يُشْتَرَطُ في الْجُنُونِ وَيُشْتَرَطُ في غَيْرِهِ من الْعُيُوبِ الثَّلَاثَةِ
وَجْهُ قَوْلِ من فَصَّلَ هذه الْعُيُوبَ الْأَرْبَعَةَ من سَائِرِهَا في اعْتِبَارِ هذا الشَّرْطِ أَنَّ هذه الْعُيُوبَ عُيُوبٌ لَازِمَةٌ لَا زَوَالَ لها إذَا ثَبَتَتْ في شَخْصٍ إلَى أَنْ يَمُوتَ فَثُبُوتُهَا عِنْدَ الْبَائِعِ يَدُلُّ على بَقَائِهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَكَانَ له حَقُّ الرَّدِّ من غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ عِنْدَهُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُيُوبِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ
وَجْهُ قَوْلِ من فَرَّقَ بين الْجُنُونِ وَغَيْرِهِ من الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ إن الْجُنُونَ لِفَسَادٍ في مَحَلِّ الْعَقْدِ وهو الدِّمَاغُ وَهَذَا مِمَّا لَا زَوَالَ له عَادَةً إذَا ثَبَتَ وَلِهَذَا قال مُحَمَّدٌ إنَّ الْجُنُونَ عَيْبٌ لَازِمٌ بِخِلَافِ الْإِبَاقِ وَالْبَوْلِ في الْفِرَاشِ أنها لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ بَلْ تَحْتَمِلُ الزَّوَالَ لِزَوَالِ أَسْبَابِهَا
وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ نَصًّا في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فإنه ذَكَرَ فيه أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الرَّدِّ في هذه الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِهَا عِنْدَهُ فَكَانَ الْمَعْنَى فيه إن الثَّابِتَ عِنْدَ الْبَائِعِ مُحْتَمِلُ الزَّوَالِ قَابِلُ الِارْتِفَاعِ فَأَمَّا ما سِوَى الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ لَا شَكَّ فيه
وَكَذَلِكَ الْعُيُوبُ الْأَرْبَعَةُ لِأَنَّ حُدُوثَهَا في الذَّاتِ لِلْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُدُوثِ وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِلزَّوَالِ فَكَانَتْ هِيَ مُحْتَمِلَةً لِلزَّوَالِ لِاحْتِمَالِ زَوَالِ أَسْبَابِهَا فَإِنْ بَقِيَتْ يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ وَإِنْ ارْتَفَعَتْ لَا يَثْبُتُ فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ بِالِاحْتِمَالِ فَلَا بُدَّ من ثُبُوتِهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِيُعْلَمَ أنها قَائِمَةٌ
وَقَوْلُ الْقَائِلِ الْجُنُونُ إذَا ثَبَتَ لَا يَزُولُ عَادَةً مَمْنُوعٌ فإن الْمَجْنُونَ قد يُفِيقُ وَيَزُولُ جُنُونُهُ بِحَيْثُ لَا يَعُودُ إلَيْهِ فما لم يُوجَدْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَا يُعْلَمُ بَقَاؤُهُ كما في الْأَنْوَاعِ الْأُخَرِ إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بين الْجُنُونِ وَغَيْرِهِ من الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ من وَجْهٍ آخَرَ وهو أَنَّ هُنَاكَ يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الْحَالَةِ لِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ وهو أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي في حَالَةِ الصِّغَرِ أو في حَالِ الْكِبَرِ حتى لو أَبَقَ أو سَرَقَ أو بَالَ في الْفِرَاشِ عِنْدَ الْبَائِعِ وهو صَغِيرٌ عَاقِلٌ
ثُمَّ كان ذلك في يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبُلُوغِ لَا يَثْبُتُ له حَقُّ الرَّدِّ وفي الْجُنُونِ اتِّحَادُ الْحَالَةِ ليس بِشَرْطٍ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْحَالِ في الْعُيُوبِ الثَّلَاثِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ السَّبَبِ لِأَنَّ السبب ( ( ( سبب ) ) ) الْبَوْلِ على الْفِرَاشِ في حَالِ الصِّغَرِ هو ضَعْفٌ في الْمَثَانَةِ وفي الْكِبَرِ هو دَاءٌ في الْبَاطِنِ وَالسَّبَبُ في الْإِبَاقِ وَالسَّرِقَةِ في الصِّغَرِ هو الْجَهْلُ وَقِلَّةُ التَّمْيِيزِ وفي الْكِبَرِ الشَّرَارَةُ وَخُبْثُ الطَّبِيعَةِ وَاخْتِلَافُ السَّبَبِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فَكَانَ الْمَوْجُودُ في يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبُلُوغِ غير الْمَوْجُودِ في يَدِ الْبَائِعِ فَكَانَ عَيْبًا حَادِثًا وَأَنَّهُ يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ لِأَنَّ سَبَبَهُ في الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ وهو فَسَادٌ في مَحَلِّ الْعَقْلِ وهو الدِّمَاغُ فَكَانَ الْمَوْجُودُ في حَالَةِ الْكِبَرِ عَيْنَ الْمَوْجُودِ في حَالَةِ الصِّغَرِ وَهَذَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ في الْكِتَابِ الْجُنُونُ عَيْبٌ لَازِمٌ أَبَدًا لَا ما قَالَهُ أُولَئِكَ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
وَمِنْهَا عَقْلُ الصَّبِيِّ في الْإِبَاقِ وَالسَّرِقَةُ وَالْبَوْلُ على الْفِرَاشِ حتى لو أَبَقَ أو سَرَقَ أو بَالَ على الْفِرَاشِ في يَدِ الْبَائِعِ وهو صَغِيرٌ لَا يَعْقِلُ ثُمَّ كان ذلك في يَدِ الْمُشْتَرِي وهو كَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ له حَقُّ الرَّدِّ وَهَذَا إذَا فَعَلَ ذلك في يَدِ الْبَائِعِ وهو صَغِيرٌ لَا يَعْقِلُ ثُمَّ وُجِدَ ذلك في يَدِ الْمُشْتَرِي بعدما عَقَلَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ في يَدِ الْبَائِعِ ليس بِعَيْبٍ وَلَا بُدَّ من وُجُودِ الْعَيْبِ في يَدِهِ
وَمِنْهَا اتِّحَادُ الْحَالِ في الْعُيُوبِ الثَّلَاثَةِ فَإِنْ اخْتَلَفَ لم يَثْبُتْ حَقُّ الرَّدِّ بِأَنْ أَبَقَ أو سَرَقَ أو بَالَ على الْفِرَاشِ في يَدِ الْبَائِعِ وهو صَغِيرٌ عَاقِلٌ ثُمَّ كان ذلك في يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبُلُوغِ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْحَالِ دَلِيلُ اخْتِلَافِ سَبَبِ الْعَيْبِ على ما بَيَّنَّا وَاخْتِلَافُ سَبَبِ الْعَيْبِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعَيْبِ فَكَانَ الْمَوْجُودُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَيْبًا حَادِثًا عِنْدَ الرَّدِّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا جَهْلُ الْمُشْتَرِي بوجوب ( ( ( بوجود ) ) ) الْعَيْبِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ فَإِنْ كان عَالِمًا بِهِ عِنْدَ أَحَدِهِمَا فَلَا خِيَارَ له لِأَنَّ الْإِقْدَامَ على الشِّرَاءِ مع الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ رِضًا بِهِ دَلَالَةً وَكَذَا إذَا لم يَعْلَمْ عِنْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَهُ قبل الْقَبْضِ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْعِلْمُ عِنْدَ الْقَبْضِ كَالْعِلْمِ عِنْدَ الْعَقْدِ
وَمِنْهَا عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْبَرَاءَةِ عن الْعَيْبِ في الْبَيْعِ عِنْدَنَا حتى لو شَرَطَ فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ عن الْعَيْبِ في الْبَيْعِ عِنْدَنَا صَحِيحٌ فإذا أَبْرَأَهُ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَصَحَّ الاسقاط فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً ثُمَّ الْكَلَامُ في الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ في الْأَصْلِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في جَوَازِهِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَدْخُلُ تَحْتَ الْبَرَاءَةِ من الْعَيْبِ
أَمَّا الْكَلَامُ في جَوَازِهِ فَقَدْ مَرَّ في مَوْضِعِهِ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى بَيَانِ ما يَدْخُلُ تَحْتَ الْبَرَاءَةِ من الْعَيْبِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْبَرَاءَةُ لَا تَخْلُو إمَّا إن كانت عَامَّةً بِأَنْ قال بِعْت على أَنِّي بَرِيءٌ من
____________________

(5/276)


الْعُيُوبِ أو قال من كل عَيْبٍ وإما إن كانت خَاصَّةً بِأَنْ قال من عَيْبِ كَذَا وَسَمَّاهُ وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إن قَيَّدَ الْبَرَاءَةَ بِعَيْبٍ قَائِمٍ حَالَةَ الْعَقْدِ وَإِمَّا إن أَطْلَقَهَا إطْلَاقًا وَإِمَّا إن أَضَافَهَا إلَى عَيْبٍ يَحْدُثُ في الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنْ قَيَّدَهَا بِعَيْبٍ قَائِمٍ حَالَةَ الْعَقْدِ لَا يَتَنَاوَلُ الْعَيْبَ الْحَادِثَ بَعْدَ الْبَيْعِ قبل الْقَبْضِ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ كانت الْبَرَاءَةُ عَامَّةً بِأَنْ قال أَبْرَأْتُك من كل عَيْبٍ بِهِ أو خَاصَّةً بِأَنْ قال أَبْرَأْتُك مِمَّا بِهِ من عَيْبِ كَذَا لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُقَيَّدَ بِوَصْفٍ لَا يَتَنَاوَلُ غير الْمَوْصُوفِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَإِنْ أَطْلَقَهَا إطْلَاقًا دخل فيه الْقَائِمُ وَالْحَادِثُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَدْخُلُ فيه الْحَادِثُ وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِبْرَاءَ عن الْعَيْبِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْعَيْبِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عن الْمَعْدُومِ لَا يُتَصَوَّرُ وَالْحَادِثُ لم يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْبَيْعِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِبْرَاءِ فَلَوْ دخل إنَّمَا يَدْخُلُ بِالْإِضَافَةِ إلَى حَالَةِ الْحُدُوثِ وَالْإِبْرَاءُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ لِأَنَّ فيه مَعْنَى التَّمْلِيكِ حتى يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ وَلِهَذَا لم يَدْخُلْ الْحَادِثُ عِنْدَ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ نَصًّا فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ لَفْظَ الْإِبْرَاءِ يَتَنَاوَلُ الْحَادِثَ نَصًّا وَدَلَالَةً أَمَّا النَّصُّ فإنه عَمَّ الْبَرَاءَةَ عن الْعُيُوبِ كُلِّهَا أو خَصَّهَا بِجِنْسٍ من الْعُيُوبِ على الاطلاق نَصًّا فَتَخْصِيصُهُ أو تَقْيِيدُهُ بِالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنَّ غَرَضَ الْبَائِعِ من هذا الشَّرْطِ هو انْسِدَادُ طَرِيقِ الرَّدِّ وَلَا يَنْسَدُّ إلَّا بِدُخُولِ الْحَادِثِ فَكَانَ دَاخِلًا فيه دَلَالَةً
وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدٍ أن هذا إبْرَاءٌ عَمَّا ليس بِثَابِتٍ فَعِبَارَةُ الْجَوَابِ عن هذا الْحَرْفِ من وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ هذا مَمْنُوعٌ بَلْ هو إبْرَاءٌ عن الثَّابِتِ لَكِنْ تَقْدِيرًا وَبَيَانُهُ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَيْبَ الْحَادِثَ قبل الْقَبْضِ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ بِهِ كما يَثْبُتُ بِالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَبْضَ حُكْمُ الْعَقْدِ فَكَانَ هذا إبْرَاءً عن حَقٍّ ثَابِتٍ تَقْدِيرًا
وَالثَّانِي أَنَّ سَبَبَ حَقِّ الرَّدِّ مَوْجُودٌ وهو الْبَيْعُ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عليه سَلِيمًا عن الْعَيْبِ فإذا عَجَزَ عن تَسْلِيمِهِ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ يَثْبُتُ له حَقُّ الرَّدِّ لِيُسَلَّمَ له الثَّمَنُ فَكَانَ وُجُودُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ سَبَبًا لِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ وَالْبَيْعُ سَبَبٌ لِوُجُودِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فَكَانَ ثُبُوتُ حَقِّ الرَّدِّ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ حُكْمَ الْبَيْعِ السَّابِقِ وَالْبَيْعُ سَبَبٌ فَكَانَ هذا إبْرَاءً عن حَقِّ الرَّدِّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ وَسَبَبُ الشَّيْءِ إذَا وُجِدَ يُجْعَلُ هو ثُبُوتًا تَقْدِيرًا لِاسْتِحَالَةِ خُلُوِّ الْحُكْمِ عن السَّبَبِ فَكَانَ إبْرَاءً عن الثَّابِتِ تَقْدِيرًا وَلِهَذَا صَحَّ الْإِبْرَاءُ عن الْجِرَاحَةِ لِكَوْنِ الْجُرْحِ سَبَبَ السِّرَايَةِ فَكَانَ إبْرَاءً عَمَّا يَحْدُثُ من الْجُرْحِ تَقْدِيرًا
وَكَذَا الْإِبْرَاءُ عن الْأُجْرَةِ قبل اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ يَصِحُّ وَإِنْ كانت الْأُجْرَةُ لَا تُمَلَّكُ عِنْدَنَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَالثَّانِي أَنَّ هذا إبْرَاءٌ عن حَقٍّ ليس بِثَابِتٍ لَكِنْ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ وهو الْبَيْعُ وَأَنَّهُ صَحِيحٌ كَالْإِبْرَاءِ عن الْجُرْحِ وَالْإِبْرَاءِ عن الْأُجْرَةِ على ما بَيَّنَّا بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ عن كل حَقٍّ له أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَادِثَ لِأَنَّ الْحَادِثَ مَعْدُومٌ لِلْحَالِ بِنَفْسِهِ وَبِسَبَبِهِ فَلَوْ انْصَرَفَ إلَيْهِ الْإِبْرَاءُ لَكَانَ ذلك إبْرَاءً عَمَّا ليس بِثَابِتٍ أَصْلًا لَا حَقِيقَةً وَلَا تَقْدِيرًا لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْحَقِّ فلم يَنْصَرِفْ إلَيْهِ
وَقَوْلُهُ لو تَنَاوَلَ الْحَادِثَ لَكَانَ هذا تَعْلِيقَ الْبَرَاءَةِ بِشَرْطٍ أو الْإِضَافَةَ إلَى وَقْتٍ مَمْنُوعٍ بَلْ هذا إبْرَاءٌ عن حَقٍّ ثَابِتٍ وَقْتَ الْإِبْرَاءِ تَقْدِيرًا لِمَا بَيَّنَّا من الْوَجْهَيْنِ فلم يَكُنْ هذا تَعْلِيقًا وَلَا إضَافَةً فَيَصِحُّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَإِنْ أَضَافَهَا إلَى عَيْبٍ حَادِثٍ بِأَنْ قال على أَنِّي بَرِيءٌ من كل عَيْبٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَالْبَيْعُ بهذ ( ( ( بهذا ) ) ) الشَّرْطِ فَاسِدٌ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ لِأَنَّهُ وَإِنْ كان إسْقَاطًا فَفِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ الِارْتِدَادَ بِالرَّدِّ وَلَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى زَمَانٍ في الْمُسْتَقْبَلِ نَصَّا كما لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَكَانَ هذا بَيْعًا أَدْخَلَ فيه شَرْطًا فَاسِدًا فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ
وَلَوْ اخْتَلَفَا في عَيْبٍ فقال الْبَائِعُ هو كان مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَدَخَلَ تَحْتَ الْبَرَاءَةِ وقال الْمُشْتَرِي بَلْ هو حَادِثٌ لم يَدْخُلْ تَحْتَ الْبَرَاءَةِ فَإِنْ كانت الْبَرَاءَةُ مُطْلَقَةً فَهَذَا لَا يَتَفَرَّعُ على قَوْلِ أبي يُوسُفَ لِأَنَّ الْعَيْبَ الْحَادِثَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْبَرَاءَةِ الْمُطْلَقَةِ عِنْدَهُ فَأَمَّا على قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مع يَمِينِهِ وقال زُفَرُ وَالْحَسَنُ بن زِيَادٍ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ هو المبري ( ( ( المبرئ ) ) ) لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ تُسْتَفَادُ من قِبَلِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِيمَا أَبْرَأَ قَوْلُهُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَرَاءَةَ عَامَّةٌ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي حَقَّ الرَّدِّ بعد ( ( ( بعموم ) ) ) عموم الْبَرَاءَةِ عن حَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كما لو أَبْرَأْهُ عن الدعاوي كُلِّهَا ثُمَّ ادَّعَى شيئا مِمَّا في يَدِهِ وهو يُنْكِرُ كان الْقَوْلُ قَوْلَهُ دُونَ الْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلَوْ كانت مُقَيَّدَةً بِعَيْبٍ يَكُونُ
____________________

(5/277)


عِنْدَ الْعَقْدِ فَاخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ الْمُقَيَّدَةَ بِحَالِ الْعَقْدِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا الْمَوْجُودَ حَالَةَ الْعَقْدِ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي الْعَيْبَ لِأَقْرَبِ الْوَقْتَيْنِ وَالْبَائِعُ يَدَّعِيهِ لِأَبْعَدِهِمَا فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُشْتَرِي وَهَذَا لِأَنَّ عَدَمَ الْعَيْبِ أَصْلٌ وَالْوُجُودُ عَارِضٌ فَكَانَ إحَالَةُ الْمَوْجُودِ إلَى أَقْرَبِ الْوَقْتَيْنِ أَقْرَبُ إلَى الْأَصْلِ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي ذلك فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا وَقَبَضَهُ فَسَاوَمَهُ رَجُلٌ فقال الْمُشْتَرِي اشتراه ( ( ( اشتره ) ) ) فإنه لَا عَيْبَ بِهِ ثُمَّ لم يَتَّفِقْ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أَنَّ هذا الْعَيْبَ كان عِنْدَ الْبَائِعِ فقال له الْبَائِعُ إنَّك أَقْرَرْتَ أَنَّهُ لَا عَيْبَ بِهِ فَقَدْ أَكْذَبْت شُهُودَكَ لَا يَبْطُلُ بهذا الْكَلَامِ حَقُّهُ في الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ لِأَنَّ مِثْلَ هذا الْكَلَامِ في الْمُتَعَارَفِ لَا يُرَادُ بِهِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يُذْكَرُ لِتَرْوِيجِ السِّلْعَةِ وَلِأَنَّ ظَاهِرَهُ كَذِبٌ لِأَنَّهُ نفي عنه الْعُيُوبَ كُلَّهَا وَالْآدَمِيُّ لَا يَخْلُو عن عَيْبٍ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَصَارَ كَأَنَّهُ لم يَتَكَلَّمْ بِهِ
وَلَوْ عَيَّنَ نَوْعًا من الْعُيُوبِ بِأَنْ قال اشْتَرِهِ فإنه ليسي ( ( ( ليس ) ) ) بِهِ عَيْبُ كَذَا ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا وَأَرَادَ الرَّدَّ فَإِنْ كان ذلك نَوْعًا آخَرَ سِوَى النَّوْعِ الذي عَيَّنَهُ له أَنْ يَرُدَّهُ لِأَنَّهُ لَا إقْرَارَ منه بهذا النَّوْعِ وَإِنْ كان من النَّوْعِ الذي عَيَّنَ يُنْظَرُ إنْ كان مِمَّا يَحْدُثُ مِثْلُهُ في مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ ليس له حَقُّ الرَّدِّ لِأَنَّ مِثْلَ هذا الْكَلَامِ يُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقُ في الْمُتَعَارَفِ لَا تَرْوِيجُ السِّلْعَةِ فَصَارَ مُنَاقِضًا وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ يَخْلُو عن عَيْبٍ مُعِينٍ فلم يَتَعَيَّنْ بِكَذِبِهِ
وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ في مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ له حَقُّ الرَّدِّ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِكَذِبِهِ حَقِيقَةً فَالْتَحَقَ كَلَامُهُ بِالْعَدَمِ
وَلَوْ أَبْرَأَهُ عن عَيْبٍ وَاحِدٍ شَجَّةٍ أو جُرْحٍ فَوَجَدَ شجين ( ( ( شجتين ) ) ) أو جُرْحَيْنِ فَعَلَى قَوْلِ أبي يُوسُفَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ يَبْرَأُ من أَيِّهِمَا شَاءَ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي يَرُدُّ أَيَّهمَا شَاءَ
وَفَائِدَةُ هذا الِاخْتِلَافِ إنَّمَا تَظْهَرُ عِنْدَ امْتِنَاعِ الرَّدِّ بِاعْتِرَاضِ أَسْبَابِ الِامْتِنَاعِ من هَلَاكِ الْمَبِيعِ أو حُدُوثِ عَيْبٍ آخَرَ في يدي ( ( ( يد ) ) ) الْمُشْتَرِي أو غَيْرِ ذلك من الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ من الرَّدِّ وَأَرَادَ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فَأَمَّا عِنْدَ إمْكَانِ الرَّدِّ فَلَا تَظْهَرُ فَائِدَةٌ في هذا الِاخْتِلَافِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِبْرَاءَ يُسْتَفَادُ من قِبَلِ الْمُشْتَرِي وَالِاحْتِمَالُ جاء من قِبَلِهِ حَيْثُ أَطْلَقَ الْبَرَاءَةَ إلَى شَجَّةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرِ عَيْنٍ وإذا كان الْإِجْمَالُ منه كان الْبَيَانُ إلَيْهِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْإِبْرَاءَ وَإِنْ كان من الْمُشْتَرِي لَكِنَّ مَنْفَعَةَ الْإِبْرَاءِ عَائِدَةٌ إلَى الْبَائِعِ فَصَارَ كَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ فَوَّضَ التَّعْيِينَ إلَيْهِ فَكَانَ الْخِيَارُ له
وَلَوْ أَبْرَأَهُ من كل دَاءٍ رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقَعُ عن الْبَاطِنِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُسَمَّى مَرَضًا لَا دَاءً
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقَعُ عن الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ جميعا لِأَنَّ الْكُلَّ دَاءٌ وَلَوْ أَبْرَأَهُ من كل غَائِلَةٍ فَهِيَ على السَّرِقَةِ وَالْإِبَاقِ وَالْفُجُورِ وَكُلِّ ما كان من فِعْلِ الْإِنْسَانِ مِمَّا يَعُدُّهُ التُّجَّارُ عَيْبًا
كَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ لِأَنَّ الْغَائِلَةَ هِيَ الْجِنَايَةُ وَهِيَ التي تُكْتَبُ في عُهْدَةِ الْمَمَالِيكِ لَا دَاءَ وَلَا غَائِلَةَ على ما كُتِبَ لِرَسُولِ اللَّهِ حِينَمَا اشْتَرَى عَبْدًا أو أَمَةً
وَهَذَا ما اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رسول اللَّهِ من القد ( ( ( العداء ) ) ) بن خَالِدِ بن هَوْذَةَ عَبْدًا أو أَمَةً لَا دَاءَ بِهِ وَلَا غَائِلَةَ بَيْعَ الْمُسْلِمِ من الْمُسْلِمِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا طَرِيقُ أثبات الْعَيْبِ فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْعُيُوبِ لِأَنَّ طَرِيقَ إثْبَاتِ الْعَيْبِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَيْبِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْعَيْبُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا شَاهِدًا يَقِفُ عليه كُلُّ أَحَدٍ كالأصبع الزَّائِدَةِ وَالنَّاقِصَةِ وَالسِّنِّ الشَّاغِيَةِ وَالسَّاقِطَةِ وَبَيَاضِ الْعَيْنِ وَالْعَوَرِ وَالْقُرُوحِ وَالشِّجَاجِ وَنَحْوِهَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاطِنًا خَفِيًّا لَا يَقِفُ عليه إلَّا الْخَوَاصُّ من الناس وَهُمْ الْأَطِبَّاءُ وَالْبَيَاطِرَةُ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَقِفُ عليه إلَّا النِّسَاءُ بِأَنْ كان على فَرْجِ الْجَارِيَةِ أو مَوَاضِعِ الْعَوْرَةِ منها
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَقِفُ عليه النِّسَاءُ بِأَنْ كان دَاخِلَ الْفَرْجِ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَقِفُ عليه إلَّا الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرَاةُ كَارْتِفَاعِ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُوقَفُ عليه إلَّا بِالتَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ كَالْإِبَاقِ وَالسَّرِقَةِ وَالْبَوْلِ على الْفِرَاشِ وَالْجُنُونِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُرِيدَ إثْبَاتَ كَوْنِ الْعَيْبِ في يَدِهِ لِلْحَالِ وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ إثْبَاتَ كَوْنِهِ في يَدِ الْبَائِعِ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالْقَبْضِ
فَإِنْ أَرَادَ إثْبَاتَ كَوْنِهِ لِلْحَالِ فَإِنْ كان يُوقَفُ عليه بِالْحِسِّ وَالْعِيَانِ فإنه يَثْبُتُ بِنَظَرِ الْقَاضِي أو أَمِينِهِ
لِأَنَّ الْعَيَّانَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ وَإِنْ كان لَا يَقِفُ عليه إلَّا الْأَطِبَّاءُ وَالْبَيَاطِرَةُ فَيَثْبُتُ لِقَوْلِهِ عز وجل { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وَهُمْ في هذا الْبَابِ من أَهْلِ الذِّكْرِ فيسئلون ( ( ( فيسألون ) ) )
وَهَلْ يُشْتَرَطُ فيه الْعَدَدُ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَوْلِ اثْنَيْنِ منهم من أَهْلِ
____________________

(5/278)


الشَّهَادَةِ وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِسْبِيجَابِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ
وَذَكَرَ شَيْخِي الْإِمَامُ الزَّاهِدُ عَلَاءُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ بن أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ أَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ وَيَثْبُتُ بِقَوْلِ مُسْلِمٍ عَدْلٍ منهم وَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ أبو الْمَعِينِ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ من تَصَانِيفِهِ
وَجْهُ هذا الْقَوْلِ إن هذه الشَّهَادَةَ لَا يَتَّصِلُ بها الْقَضَاءُ وَإِنَّمَا تَصِحُّ بها الْخُصُومَةُ فَقَطْ فَلَا يُشْتَرَطُ فيها الْعَدَدُ وَهَذَا لِأَنَّ شَرْطَ الْعَدَدِ في الشَّهَادَةِ تثبت ( ( ( ثبت ) ) ) تَعَبُّدًا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى لِأَنَّ رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ على جَانِبِ الْكَذِبِ في خَبَرِ الْمُسْلِمِ لَا يَقِفُ على عَدَدٍ بَلْ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَدَالَةِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهِ تَعَبُّدًا فَيُرَاعَى فيه مَوْرِدُ التَّعَبُّدِ وهو شَهَادَةٌ يَتَّصِلُ بها الْقَضَاءُ وَهَذِهِ شَهَادَةٌ لَا يَتَّصِلُ بها الْقَضَاءُ فَبَقِيَتْ على أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ النُّصُوصُ الْمُقْتَضِيَةُ لِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ في عُمُومِ الشَّهَادَةِ وَالْمَعْقُولُ الذي ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَلِأَنَّ هذه الشَّهَادَةَ وَإِنْ كان لَا يَتَّصِلُ بها الْقَضَاءُ لَكِنَّهَا من ضَرُورَاتِ الْقَضَاءِ لَا وُجُودَ لِلْقَضَاءِ بِدُونِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ ما لم يَثْبُتْ الْعَيْبُ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَالْقَاضِي لَا يَقْضِي بِالرَّدِّ فَكَانَ من ضَرُورَاتِ الْقَضَاءِ فَيُشْتَرَطُ فيها الْعَدَدُ كما يُشْتَرَطُ في الشَّهَادَةِ على إثْبَاتِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ
وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عليه إلَّا النِّسَاءُ فَالْقَاضِي يُرِيهُنَّ ذلك لِقَوْلِهِ عز وجل { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وَالنِّسَاءُ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عليه الرِّجَالُ أَهْلُ الذِّكْرِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ مِنْهُنَّ بَلْ يكتفي بِقَوْلِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ عَدْلٍ وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا لَا يَطَّلِعُ عليه الرِّجَالُ حُجَّةٌ في الشَّرْعِ كَشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ في النَّسَبِ لَكِنْ لَا بُدَّ من الْعَدَالَةِ لِأَنَّ هذا يُرَجِّحُ جَانِبَ الصِّدْقِ على جَانِبِ الْكَذِبِ في الْخَبَرِ وَلَا يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كان يَطَّلِعُ عليه لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى مَوْضِعِ الْعَيْبِ له لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ في هذا الْبَابِ وَلَا تُهْمَةَ فِيهِنَّ وَرُخْصَةُ النَّظَرِ ثَابِتَةٌ لَهُنَّ حَالَةَ الضَّرُورَةِ على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ فَيُلْحَقُ هذا بِمَا لَا يَطَّلِعُ عليه النِّسَاءُ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ كان لَا يَطَّلِعُ عليه إلَّا الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرَاةُ فَلَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهَا لِكَوْنِهَا مُتَّهَمَةً وَإِنْ كان في دَاخِلِ فَرْجِهَا فَلَا طَرِيقَ لِلْوُقُوفِ عليه أَصْلًا فَكَانَ الطَّرِيقُ في هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ هو اسْتِحْلَافُ الْبَائِعِ بِاَللَّهِ عز وجل ليس بِهِ لِلْحَالِ هذا الْعَيْبُ
وَأَمَّا الْإِبَاقُ وَالسَّرِقَةُ وَالْبَوْلُ في الْفِرَاشِ وَالْجُنُونُ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أو رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ لِأَنَّ هذا مِمَّا لَا يُوقَفُ عليه إلَّا بِالْخَبَرِ وَلَا ضَرُورَةَ فيه فَلَا بُدَّ من اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فيه كما في سَائِرِ الشَّهَادَاتِ فَإِنْ لم يُقِمْ لِلْمُشْتَرِي حُجَّةً على إثْبَاتِ الْعَيْبِ لِلْحَالِ في هذه الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ هل يُسْتَحْلَفُ الْبَائِعُ لم يذكر في الْأَصْلِ
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَسَكَتَ عن قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عن الْمَشَايِخِ من قال يُسْتَحْلَفُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ وَالتَّنْصِيصُ على قَوْلِهِمَا لَا يَدُلُّ على أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مُخَالِفُهُمَا
وَمِنْهُمْ من قال الْمَسْأَلَةُ على الِاخْتِلَافِ ذُكِرَتْ في النَّوَادِرِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يُسْتَحْلَفُ وَعِنْدَهُمَا يُسْتَحْلَفُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي حَقَّ الرَّدِّ وَلَا يُمْكِنُهُ الرَّدُّ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْعَيْبِ عِنْدَ نَفْسِهِ وَطَرِيقُ الْإِثْبَاتِ الْبَيِّنَةُ أو نُكُولُ الْبَائِعِ فإذا لم تَقُمْ له بَيِّنَةٌ يُسْتَحْلَفُ لِيَنْكُلَ الْبَائِعُ فَيَثْبُتُ العييب ( ( ( العيب ) ) ) عِنْدَ نَفْسِهِ وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ على إثْبَاتِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ يَكُونُ عَقِيبَ الدَّعْوَى على الْبَائِعِ وَلَا دَعْوَى له على الْبَائِعِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَيْبِ عِنْدَ نَفْسِهِ ولم يَثْبُتْ فلم تَثْبُتْ دَعْوَاهُ على الْبَائِعِ فَلَا يُسْتَحْلَفُ
وَقَوْلُهُمَا له طَرِيقُ الْإِثْبَاتِ وهو النُّكُولَ قُلْنَا النُّكُولُ بَعْدَ الِاسْتِحْلَافِ وَانْعِدَامُ الدَّعْوَى يَمْنَعُ الِاسْتِحْلَافَ لِأَنَّ اسْتِحْلَافَ الْبَائِعِ في هذه الْعُيُوبِ على الْعِلْمِ لَا على البنات ( ( ( البتات ) ) ) بالله ( ( ( وبالله ) ) ) ما يَعْلَمُ إن هذا الْعَبْدَ أَبَقَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَلَا سَرَقَ وَلَا بَالَ على الْفِرَاشِ وَلَا جُنَّ وَلَا يَحْلِفُ على الْبَتَاتِ لِأَنَّهُ حَلَفَ على غَيْرِ فِعْلِهِ
وَمَنْ حَلَفَ على غَيْرِ فِعْلِهِ يَحْلِفُ على الْعِلْمِ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ له بِمَا ليس بِفِعْلِهِ وَمَنْ حَلَفَ على فِعْلِ نَفْسِهِ يَحْلِفُ على الْبَتَاتِ أَصْلُهُ خَبَرُ الْمَثْنَوِيِّ فَإِنْ حَلَفَ لم يَثْبُتْ الْعَيْبُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ نَكَلَ يَثْبُتُ عِنْدَهُ فَيُحْتَاجُ إلَى الْإِثْبَاتِ عِنْدَهُ
وإذا أَرَادَ إثْبَاتَ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ فَيُنْظَرُ إنْ كان الْعَيْبُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْحُدُوثَ أَصْلًا كالأصبع الزَّائِدَةِ وَنَحْوِهَا أو لَا يَحْتَمِلُ حُدُوثَ مِثْلِهِ في مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ كَالسِّنِّ الشَّاغِيَةِ وَنَحْوِهَا ثَبَتَ كَوْنُهُ عِنْدَ الْبَائِعِ بِثُبُوتِ كَوْنِهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ إذَا لم يَحْتَمِلْ الْحُدُوثَ أو لا يَحْتَمِلُ حُدُوثَ مِثْلِهِ في مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ فَقَدْ تَيَقَّنَّا بِكَوْنِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَإِنْ كان مِمَّا يُحْتَمَلُ حُدُوثُ مِثْلِهِ في مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَا يكتفي بِثُبُوتِ كَوْنِهِ عِنْدَ
____________________

(5/279)


الْمُشْتَرِي بَلْ يَحْتَاجُ الْمُشْتَرِي إلَى إثْبَاتِ كَوْنِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ إذَا اُحْتُمِلَ حُدُوثُ مثله في مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ اُحْتُمِلَ أَنَّهُ لم يَكُنْ عِنْدَ الْبَائِعِ وَحَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ بِالِاحْتِمَالِ فَلَا بُدَّ من إثْبَاتِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ بِالْبَيِّنَةِ وَهِيَ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أو رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ طَبِيبَتَيْنِ كَانَا أو غير طَبِيبَتَيْنِ وَإِنَّمَا شُرِطَ الْعَدَدُ في هذه الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ يقضي بها على الْخَصْمِ فَكَانَ الْعَدَدُ فيها شَرْطًا كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ التي يقض ( ( ( يقضى ) ) ) بها على الْخُصُومِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أن فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عليه إلَّا النِّسَاءُ يُرَدُّ بِثُبُوتِهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَلَا يُحْتَاجُ إلَى الْإِثْبَاتِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمَشْهُورُ من مَذْهَبِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يكتفي بِالثُّبُوتِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَلْ لَا بُدَّ من إثْبَاتِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ قَوْلَ النِّسَاءِ في هذا الْبَابِ حُجَّةٌ ضَرُورَةً وَالضَّرُورَةُ في الْقَبُولِ في حَقِّ ثُبُوتِهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَتَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ وَلَيْسَ من ضَرُورَةِ ثُبُوتِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ لِاحْتِمَالِ الْحُدُوثِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُمَا في حَقِّ تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ على الْبَائِعِ وإذا كان الثُّبُوتُ عِنْدَ الْبَائِعِ فِيمَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ شَرْطًا لِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ فيقول الْقَاضِي هل كان هذا الْعَيْبُ عِنْدَكَ
فَإِنْ قال نعم رُدَّ عليه إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الرِّضَا أو الْإِبْرَاءَ وَإِنْ قال لَا كان الْقَوْلُ قَوْلَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي عليه حَقَّ الرَّدِّ وهو يُنْكِرُ فَإِنْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ على ذلك رَدَّهُ على الْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْبَائِعُ الدَّفْعَ أو الْإِبْرَاءَ وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ على ذلك فَتَنْدَفِعُ دَعْوَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ لم يَكُنْ له بَيِّنَةٌ فَطَلَبَ يَمِينَ الْمُشْتَرِي حَلَّفَهُ الْقَاضِي بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما رضي بهذا الْعَيْبِ وَإِلَّا أَبْرَأَهُ عنه وَلَا عَرَضَهُ على الْبَيْعِ مُنْذُ رَآهُ وَإِنْ لم يَدَّعِ الدَّفْعَ بِالرِّضَا وَالْإِبْرَاءَ فإن الْقَاضِيَ يَقْضِي بِفَسْخِ الْعَقْدِ وَلَا يَسْتَحْلِفُ الْمُشْتَرِيَ على الرِّضَا وَالْإِبْرَاءِ وَالْعَرْضِ على الْبَيْعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَفْسَخُ ما لم يَسْتَحْلِفْهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ما رضي بهذا الْعَيْبِ وَلَا أَبْرَأَهُ عنه وَلَا عَرَضَهُ على الْبَيْعِ بعدما عَلِمَ بِهِ من الْعَيْبِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْقَاضِيَ لو قَضَى بِالْفَسْخِ قبل الِاسْتِحْلَافِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَدَّعِيَ الْبَائِعُ على الْمُشْتَرِي بِالدَّفْعِ بِدَعْوَى الرِّضَا وَالْإِبْرَاءِ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْفَسْخِ وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عليه فَيُفْسَخُ قَضَاؤُهُ فَكَانَ الِاسْتِحْلَافُ قبل الْفَسْخِ فيه صِيَانَةٌ لِلْقَضَاءِ عن النَّقْضِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْبَائِعَ إذَا لم يَطْلُبْ يَمِينَ الْمُشْتَرِي فتحلييف ( ( ( فتحليف ) ) ) الْقَاضِي من غَيْرِ طَلَبِ الْخَصْمِ إنْشَاءُ الْخُصُومَةِ وَالْقَاضِي نُصِّبَ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ لَا لِإِنْشَائِهَا
وَقَوْلُ أبي يُوسُفَ أَنَّ في هذا صِيَانَةَ قَضَاءِ الْقَاضِي عن الْفَسْخِ فَنَقُولُ الصِّيَانَةُ حَاصِلَةٌ بِدُونِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْبَائِعَ لم يَعْلَمْ بِوُجُودِ الرِّضَا من الْمُشْتَرِي إذْ لو عَلِمَ لَادَّعَى الدَّفْعَ بِدَعْوَى وَلَمَّا سَكَتَ عن دَعْوَى الدَّفْعِ عِنْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ دَلَّ أَنَّهُ لم يَظْهَرْ له الرِّضَا من الْمُشْتَرِي فَلَا يَدَّعِي الدَّفْعَ بَعْدَ ذلك
وَإِنْ لم يُقِمْ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً على إثْبَاتِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَطَلَبَ الْمُشْتَرِي يَمِينَهُ فَفِيمَا سِوَى الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ يُسْتَحْلَفُ على الْبَتَاتِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لقد بِعْتُهُ وَسَلَّمْتُهُ وما بِهِ هذا الْعَيْبُ وَإِنَّمَا يُجْمَعُ بين الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ في الِاسْتِحْلَافِ لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ على الْبَيْعِ يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الْمُشْتَرِي في بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِجَوَازِ أَنْ يَحْدُثَ الْعَيْبُ بَعْدَ الْبَيْعِ قبل التَّسْلِيمِ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ هو الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَمِنْهُمْ من قال لَا احْتِيَاطَ في هذا لِأَنَّهُ لو اُسْتُحْلِفَ على هذا الْوَجْهِ فَمِنْ الْجَائِزِ حُدُوثُ الْعَيْبِ بَعْدَ الْبَيْعِ قبل التَّسْلِيمِ فَيَكُونُ الْبَائِعُ صَادِقًا في يَمِينِهِ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ وُجُودُ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ جميعا فَلَا يَحْنَثُ بِوُجُودِهِ في أَحَدِهِمَا فَيَبْطُلُ حَقُّ الْمُشْتَرِي فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ في هذا الِاسْتِحْلَافِ على حَاصِلِ الدَّعْوَى بِاَللَّهِ عز وجل ما له حَقُّ الرَّدِّ بهذا الْعَيْبِ الذي ذَكَرَهُ
وَمِنْهُمْ من قال يُسْتَحْلَفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لقد سَلَّمْتُهُ وما بِهِ هذا الْعَيْبُ الذي يَدَّعِي وهو صَحِيحٌ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فيه الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالْحَادِثُ قبل التَّسْلِيمِ وَإِنَّمَا لم يُسْتَحْلَفْ على الْبَتَاتِ لِأَنَّهُ اُسْتُحْلِفَ على فِعْلِ نَفْسِهِ وهو الْبَيْعُ وَالتَّسْلِيمُ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ
ثُمَّ إذَا حَلَفَ فَإِنْ حَلَفَ برىء وَلَا يُرَدُّ عليه وَإِنْ نَكَلَ يُرَدُّ عليه وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ إلَّا إذَا ادَّعَى الْبَائِعُ على الْمُشْتَرِي الرِّضَا بِالْعَيْبِ أو الْإِبْرَاءَ عنه أو الْعَرْضَ على الْبَيْعِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ فَيَبْرَأُ وَلَا يُرَدُّ عليه وَإِنْ لم يَكُنْ له بَيِّنَةٌ وَطَلَبَ تَحْلِيفَ الْمُشْتَرِي يَحْلِفُ عليه وَإِنْ لم يَطْلُبْ يُفْسَخُ الْعَقْدُ وَلَا يُحَلِّفْهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ على ما تَقَدَّمَ
وَأَمَّا في الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ فَفِي الثَّلَاثَةِ منها وَهِيَ الْإِبَاقُ وَالسَّرِقَةُ وَالْبَوْلُ في الْفِرَاشِ يُسْتَحْلَفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ما أَبِقَ عِنْدَكَ مُنْذُ بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ وفي الْجُنُونِ بِاَللَّهِ عز وجل ما جُنَّ عِنْدَك قَطُّ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ هذه الْعُيُوبُ في كَيْفِيَّةِ
____________________

(5/280)


الِاسْتِحْلَافِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ اتِّحَادَ الْحَالَةِ في الْعُيُوبِ الثَّلَاثَةِ شَرْطُ ثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ في الْجُنُونِ بَلْ هو عَيْبٌ لَازِمٌ أَبَدًا
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الرَّدِّ وَالْفَسْخِ بِالْعَيْبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَالْمَبِيعُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ في يَدِ الْبَائِعِ أو في يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كان في يَدِ الْبَائِعِ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي رَدَدْتُ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا إلَى التَّرَاضِي بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان في يَدِ الْمُشْتَرِي لَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو بِالتَّرَاضِي عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْفَسِخُ بِقَوْلِهِ رَدَدْتُ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى الْقَضَاءِ وَلَا إلَى رِضَا الْبَائِعِ
وَأَجْمَعُوا على أَنَّ الرَّدَّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ يَصِحُّ من غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضَاءٍ
وَكَذَلِكَ الرَّدُّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ مُتَّصِلًا بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هذا نَوْعُ فَسْخٍ فَلَا تَفْتَقِرُ صِحَّتُهُ إلَى الْقَضَاءِ وَلَا إلَى الرِّضَا كَالْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ بِالْإِجْمَاعِ وَبِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ على أَصْلِكُمْ وَلِهَذَا لم يُفْتَقَرْ إلَيْهِ قبل الْقَبْضِ وَكَذَا بَعْدَهُ
وَلَنَا أَنَّ الصَّفْقَةَ تَمَّتْ بِالْقَبْضِ وَأَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الصَّفْقَةِ بَعْدَ تَمَامِهَا كَالْإِقَالَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْفَسْخَ يَكُونُ على حَسَبِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْعَقْدَ ثُمَّ الْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَلَا يَنْفَسِخُ بِأَحَدِهِمَا من غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ من ( ( ( ومن ) ) ) وغير قَضَاءِ الْقَاضِي بِخِلَافِ ما قبل الْقَبْضِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ قبل الْقَبْضِ لَيْسَتْ بِتَامَّةٍ بَلْ تَمَامُهَا بِالْقَبْضِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ كَأَنَّهُ لم يَسْتَرِدَّ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ في حَقِّ الْحُكْمِ مع بَقَاءِ الْخِيَارِ فَكَانَ الرَّدُّ في مَعْنَى الدَّفْعِ وَالِامْتِنَاعِ من الْقَبُولِ وَبِخِلَافِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ مَنْعُ تَمَامِ الصَّفْقَةِ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ خَلَلًا في الرِّضَا فَكَانَ الرَّدُّ كَالدَّفْعِ أَمَّا هَهُنَا إذْ الصَّفْقَةُ قد تَمَّتْ بِالْقَبْضِ فَلَا تَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ بِنَفْسِ الرَّدِّ من غَيْرِ قَرِينَةِ الْقَضَاءِ أو الرِّضَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وأما بَيَانُ من تَلْزَمُهُ الْخُصُومَةُ في الْعَيْبِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْخُصُومَةُ في الْبَيْعِ تَلْزَمُ الْبَائِعَ سَوَاءً كان حُكْمُ الْعَقْدِ له أو لِغَيْرِهِ بَعْدَ أَنْ كان من أَهْلِ أَنْ تَلْزَمَهُ الْخُصُومَةُ إلَّا الْقَاضِيَ أو أَمِينَهُ كَالْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ وَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ في الْعَيْبِ من حُقُوقِ الْعَقْدِ وَحُقُوقُ الْعَقْدِ في هذا الْبَابِ رَاجِعَةٌ إلَى الْعَاقِدِ إذَا كان أَهْلًا فَإِنْ لم يَكُنْ بِأَنْ كان صَبِيًّا أو مَحْجُورًا أو عَبْدًا مَحْجُورًا فَالْخُصُومَةُ لَا تَلْزَمُهُ وَإِنَّمَا تَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْوَكَالَةِ
وَأَمَّا الْقَاضِي أو أَمِينُهُ فَالْخُصُومَةُ لَا تَلْزَمُهُ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِلْقَاضِي إنَّمَا ثَبَتَتْ شَرْعًا نَظَرًا لِمَنْ وَقَعَ له الْعَقْدُ فَلَوْ لَزِمَهُ الْعُهْدَةُ لَامْتَنَعَ عن النَّظَرِ خَوْفًا من لُزُومِ الْعُهْدَةِ فَكَانَ الْقَاضِي في هذا الْبَابِ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ فيه وَالْوَكِيلِ في بَابِ النِّكَاحِ وما يَلْزَمُ الْوَكِيلَ من الْعُهْدَةِ يَرْجِعُ بها على الْمُوَكِّلِ وَالْمُكَاتَبُ وَالْمَأْذُونُ لَا يَرْجِعَانِ على الْمَوْلَى لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ لِلْمُوَكِّلِ نِيَابَةً عنه وَتَصَرُّفُ النَّائِبِ كَتَصَرُّفِ الْمَنُوبِ عنه
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ وَالْمَأْذُونُ فَإِنَّمَا يَتَصَرَّفَانِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لِأَنْفُسِهِمَا لَا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عن الْمَوْلَى لِمَا عُرِفَ أَنَّ الأذن فَكُّ الْحَجْرِ وَإِزَالَةُ الْمَانِعِ فإذا زَالَ الْحَجْرُ بِالْإِذْنِ فَالْعَبْدُ يَتَصَرَّفُ بِمَالِكِيَّةِ نَفْسِهِ فَكَانَ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ لَا لِمَوْلَاهُ وَاَلَّذِي يَقَعُ لِلْمَوْلَى هو حُكْمُ التَّصَرُّفِ لَا غَيْرُ وإذا كان عَاقِدًا لِنَفْسِهِ كانت الْعُهْدَةُ عليه وَلَوْ رُدَّ الْمَبِيعُ على الْوَكِيلِ هل له أَنْ يَرُدَّهُ على مُوَكِّلِهِ فَهَذَا لَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَرُدَّهُ عليه بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ على الْعَيْبِ وأما أَنْ يَرُدَّهُ عليه بِنُكُولِهِ وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ عليه بِإِقْرَارِهِ بِالْعَيْبِ
فَإِنْ رَدَّهُ علييه بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ على الْعَيْبِ يَرُدُّهُ على الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ وهو نَائِبٌ عنه فَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ وَإِنْ رَدَّهُ عليه بِنُكُولِهِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ نُكُولَهُ مُضَافٌ إلَى الْمُوَكِّلِ لِكَوْنِهِ مُضْطَرًّا مُلْجَأً إلَيْهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ في الْخُصُومَةِ وَإِنَّمَا جاء هذا الاضرار ( ( ( الاضطرار ) ) ) من نَاحِيَةِ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ هو الذي أَوْقَعَهُ فيه فَكَانَ مُضَافًا إلَيْهِ
وَإِنْ رَدَّهُ عليه بِإِقْرَارِهِ بِالْعَيْبِ يُنْظَرُ إنْ كان عَيْبًا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ يَرُدُّ على الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ عَلِمَ بِثُبُوتِهِ عِنْدَ الْبَيْعِ بِيَقِينٍ
وَأَمَّا إنْ كان عَيْبًا يَحْدُثُ مِثْلُهُ لَا يَرُدُّ على الْمُوَكِّلِ حتى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ كان رَدَّ عليه بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ لَا يَرُدُّ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ يَلْزَمُهُ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ فَكَانَ حُجَّةً في حَقِّهِ خَاصَّةً لَا في حَقِّ مُوَكِّلِهِ
وَإِنْ رَدَّ عليه بِغَيْرِ قَضَاءٍ لَزِمَ الْوَكِيلَ خَاصَّةً سَوَاءٌ كان الْعَيْبُ يَحْدُثُ مِثْلُهُ أو لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ لِأَنَّ الرَّدَّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَإِنْ كان فَسْخًا في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ فَهُوَ بَيْعٌ جَدِيدٌ في حَقِّ غَيْرِهِمَا فَلَا يَمْلِكُ الرَّدَّ على الْمُوَكِّلِ كما لو اشْتَرَاهُ
فَأَمَّا الْمُضَارِبُ وَالشَّرِيكُ فَبِقَبُولِهِمَا يَلْزَمُ رَبَّ الْمَالِ وَالشَّرِيكَ الْآخَرَ لِأَنَّ حُكْمَ شَرِكَتِهِمَا تَلْزَمُهُمَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَيَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وما لَا يَسْقُطُ وَلَا يَلْزَمُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تعالى التَّوْفِيقُ الرَّدُّ يَمْتَنِعُ بِأَسْبَابٍ منها
____________________

(5/281)


الرِّضَا بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ لِفَوَاتِ السَّلَامَةِ الْمَشْرُوطَةِ في الْعَقْدِ دَلَالَةً وَلَمَّا رضي بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ دَلَّ أَنَّهُ ما شَرَطَ السَّلَامَةَ وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي دَفْعًا لِلضَّرَرِ عنه فإذا رضي بِالْعَيْبِ فلم يَنْظُرْ لِنَفْسِهِ وَرَضِيَ بِالضَّرَرِ
ثُمَّ الرِّضَا نَوْعَانِ صَرِيحٌ وما هو في مَعْنَى الصَّرِيحِ وَدَلَالَةٌ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوُ قَوْلِهِ رَضِيت بِالْعَيْبِ أو أَجَزْت هذا الْبَيْعَ أو أَوْجَبْته وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى
وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ من الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ تَصَرُّفٌ في الْمَبِيعِ يَدُلُّ على الرِّضَا بِالْعَيْبِ
نَحْوُ ما إذَا كان ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أو قَطَعَهُ أو سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ أو أَرْضًا فَبَنَى عليها أو حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أو لَحْمًا فَشَوَاهُ وَنَحْوَ ذلك أو تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا أَخْرَجَهُ عن مِلْكِهِ وهو عَالِمٌ بِالْعَيْبِ أو ليس بِعَالِمٍ أو بَاعَهُ الْمُشْتَرِي أو وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ أو أَعْتَقَهُ أو كَاتَبَهُ أو دَبَّرَهُ أو اسْتَوْلَدَهُ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ على هذه التَّصَرُّفَاتِ مع الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ دَلِيلُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَيَكُونُ الْعِلْمُ بِالْعَيْبِ وَكُلُّ ذلك يُبْطِلُ حَقَّ الرَّدِّ
وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ رُدَّ عليه بِعَيْبٍ فَإِنْ كان قبل الْقَبْضِ له أَنْ يَرُدَّهُ على بَائِعِهِ سَوَاءً كان الرَّدُّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو بِالتَّرَاضِي بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ كان بِقَضَاءِ الْقَاضِي له أَنْ يَرُدَّهُ على بَائِعِهِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كان قَبِلَهُ الْبَائِعُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ ليس له أَنْ يَرُدَّهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ له أَنْ يَرُدَّهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْمَانِعَ من الرَّدِّ خُرُوجُ السِّلْعَةِ عن مِلْكِهِ فإذا عَادَتْ إلَيْهِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ وَصَارَ كَأَنَّهُ لم يَخْرُجْ وَلِهَذَا إذَا رُدَّ عليه بِقَضَاءٍ له أَنْ يَرُدَّهُ على بَائِعِهِ وَكَذَا إذَا رُدَّ عليه بِخِيَارِ شَرْطٍ أو بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ على أَصْلِكُمْ
وَلَنَا أَنَّ الْقَبُولَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَسْخٌ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ جَدِيدٌ في حَقِّ غَيْرِهِمَا فَصَارَ كما لو عَادَ إلَيْهِ بِشِرَاءٍ وَلَوْ اشْتَرَاهُ لم يَمْلِكْ الرَّدَّ على بَائِعِهِ
كَذَا هذا
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْقَبُولَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بَيْعٌ جَدِيدٌ في حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ مَوْجُودٌ فَكَانَ شُبْهَةُ الشِّرَاءِ قَائِمَةً
فَكَانَ الرَّدُّ عِنْدَ التَّرَاضِي بَيْعًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْعِ فيه إلَّا أَنَّهُ أعطى له حُكْمُ الْفَسْخِ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ فَبَقِيَ بَيْعًا جَدِيدًا في حَقِّ غَيْرِهِمَا بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ المبتدأ وَلِهَذَا يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ فيه مَعْنَى الْبَيْعِ أَصْلًا لِانْعِدَامِ التَّرَاضِي فَكَانَ فَسْخًا وَالْفَسْخُ رَفْعُ الْعَقْدِ من الْأَصْلِ وَجَعْلُهُ كَأَنْ لم يَكُنْ وَلِهَذَا لم يَثْبُتْ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَبِخِلَافِ ما قبل الْقَبْضِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَمَامَ لها قبل الْقَبْضِ
أَلَا تَرَى أَنَّ حُدُوثَ الْعَيْبِ قبل الْقَبْضِ كَوُجُودِهِ قبل الْبَيْعِ فَكَانَ الرَّدُّ قبل الْقَبْضِ في مَعْنَى الِامْتِنَاعِ عن الْقَبُولِ كَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ رَدَّ إيجَابَ الْبَائِعِ ولم يَقْبَلْهُ
وَلِهَذَا لم يَفْتَقِرْ الرَّدُّ قبل الْقَبْضِ إلَى الْقَاضِي وَبِخِلَافِ ما إذَا رُدَّ عليه بِخِيَارِ شَرْطٍ أو رُؤْيَةٍ أَنَّهُ يَرُدُّهُ على بَائِعِهِ لِأَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ لم يُوجَدْ في هذا الرَّدِّ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَرُدُّ على بَائِعِهِ من غَيْرِ رِضَاهُ فَكَانَ فَسْخًا وَرَفْعًا لِلْعَقْدِ من الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ وَكَذَا لو وطىء الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَاةَ أو لَمَسَهَا لِشَهْوَةٍ أو نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ مع الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كانت الْجَارِيَةُ بِكْرًا فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ وَأَمَّا إذَا كانت ثَيِّبًا فَوَطِئَهَا بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ قَبَّلَتْ الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرِيَ لِشَهْوَةٍ فَقَدْ مَرَّ تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فيه في شَرْطِ الْخِيَارِ وَلَوْ اسْتَخْدَمَ الْمُشْتَرِي بعدما عَلِمَ بِالْعَيْبِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْقُطَ خِيَارُهُ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَسْقُطُ وقد ذَكَرْنَا وَجْهَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ في خِيَارِ الشَّرْطِ وَلَوْ كان المشتري دَابَّةً فَرَكِبَهَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ فَإِنْ رَكِبَهَا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ يَسْقُطُ خِيَارُهُ
وَإِنْ رَكِبَهَا لِيَسْقِيَهَا أو لِيَرُدَّهَا على الْبَائِعِ أو لِيَشْتَرِيَ لها عَلَفًا فَفِيهِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ كما في الِاسْتِخْدَامِ وقد ذَكَرْنَا ذلك في خِيَارِ الشَّرْطِ وَلَوْ رَكِبَهَا لِيَنْظُرَ إلَى سَيْرِهَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ يَكُونُ رِضًا يُسْقِطُ خِيَارَهُ وفي شَرْطِ الْخِيَارِ لَا يُسْقِطُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قد تَقَدَّمَ في خِيَارِ الشَّرْطِ
وَكَذَا لو اشْتَرَى ثَوْبًا فَلَبِسَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ لِيَنْظُرَ إلَى طُولِهِ وَعَرْضِهِ بَطَلَ خِيَارُهُ وفي خِيَارِ الشَّرْطِ لَا يَبْطُلُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا قد ذَكَرْنَاهُ في شَرْطِ الْخِيَارِ وَإِنْ كان المشتري دَارًا فَسَكَنَهَا بعدما عَلِمَ بِالْعَيْبِ أو رَمَّ منها شيئا أو هَدَمَ يَسْقُطُ خِيَارُهُ وَذُكِرَ في بَعْضِ شُرُوحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ في السُّكْنَى رِوَايَتَانِ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ يُوجَدُ من الْمُشْتَرِي في المشتري بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ يَدُلُّ على الرِّضَا بِالْعَيْبِ يُسْقِطُ الْخِيَارَ وَيُلْزِمُ الْبَيْعَ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا إسْقَاطُ الْخِيَارِ صَرِيحًا أو ما هو في مَعْنَى الصَّرِيحِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي أَسْقَطْت الْخِيَارَ أو أَبْطَلْته أو أَلْزَمْتُ الْبَيْعَ أو أَوْجَبْتُهُ وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى لِأَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ حَقُّهُ وَالْإِنْسَانُ بِسَبِيلٍ من التَّصَرُّفِ في حَقِّهِ اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا
وَمِنْهَا إبْرَاءُ الْمُشْتَرِي عن
____________________

(5/282)


الْعَيْبِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ وَلَهُ وِلَايَةُ الْإِسْقَاطِ لِأَنَّ الْخِيَارَ حَقُّهُ وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ أَلَا تَرَى كَيْفَ احْتَمَلَ السُّقُوطَ بِالْإِسْقَاطِ صَرِيحًا فإذا أَسْقَطَهُ يَسْقُطُ
وَمِنْهَا هَلَاكُ الْمَبِيعِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الرَّدِّ وَمِنْهَا نُقْصَانُهُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ نُقْصَانَ الْمَبِيعِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قبل الْقَبْضِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أو بِفِعْلِ الْبَائِعِ أو بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أو بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ كان قبل الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمَبِيعِ فَهَذَا وما إذَا لم يَكُنْ بِهِ عَيْبٌ سَوَاءٌ وقد ذَكَرْنَا حُكْمَهُ في بَيْعِ الْبَاتِّ فِيمَا تَقَدَّمَ إن الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ
ثُمَّ إنْ كان النُّقْصَانُ نُقْصَانَ قَدْرٍ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَإِنْ كان نُقْصَانَ وَصْفٍ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِمَا ذَكَرْنَا هُنَالِكَ
وَإِنْ كان بِفِعْلِ الْبَائِعِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فيه وَفِيمَا إذَا لم يَكُنْ بِهِ عَيْبٌ سَوَاءٌ وهو أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَطُرِحَ عنه قَدْرُ النُّقْصَانِ الذي حَصَلَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ من الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ كما إذَا لم يَجِدْ بِهِ عَيْبًا وَإِنْ كان بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَا خِيَارَ له وَيَصِيرُ قَابِضًا بِالْجِنَايَةِ وَيَتَقَرَّرُ عليه جَمِيعُ الثَّمَنِ إنْ لم يَجِدْ بِهِ عَيْبًا كان عِنْدَ الْبَائِعِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ وَجَدَ عَيْبًا كان عِنْدَ الْبَائِعِ فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وَإِنْ شَاءَ رضي بِهِ
وَإِنْ قال الْبَائِعُ أنا آخُذُهُ مع النُّقْصَانِ ليس لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَحْبِسَهُ وَيَرْجِعَ عليه بِالنُّقْصَانِ بَلْ يَرُدُّهُ عليه وَيَسْقُطُ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَسَنَذْكُرُ الْأَصْلَ في جِنْسِ هذه الْمَسَائِلِ في بَيَانِ ما يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وما لَا يَمْنَعُ
هذا إذَا لم يُوجَدْ من الْبَائِعِ مَنْعُ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ بعدما صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا بِالْجِنَايَةِ فَأَمَّا إذَا وُجِدَ منه مَنْعٌ بَعْدَ ذلك ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا له أَنْ يَرُدَّهُ على الْبَائِعِ وَيَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي جَمِيعُ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ بِالْمَنْعِ صَارَ مُسْتَرِدًّا لِلْمَبِيعِ نَاقِضًا ذلك الْقَبْضَ فَانْتَقَضَ وَجُعِلَ كَأَنْ لم يَكُنْ له فَكَانَ حَقُّ الرَّدِّ على الْبَائِعِ وَيَسْقُطُ عنه جَمِيعُ الثَّمَنِ إلَّا قَدْرَ ما نَقَصَ بِفِعْلِهِ
وَإِنْ كان بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رضي بِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَاتَّبَعَ الْجَانِيَ بِالْأَرْشِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَيَسْقُطُ عنه جَمِيعُ الثَّمَنِ وَاتَّبَعَ الْبَائِعُ الْجَانِيَ بِالْأَرْشِ كما إذَا لم يَجِدْ الْمُشْتَرِي بها عَيْبًا
هذا إذَا حَدَثَ النُّقْصَانُ قبل الْقَبْضِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَأَمَّا إذَا حَدَثَ بَعْدَ الْقَبْضِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَإِنْ حَدَثَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أو بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لم يَكُنْ له أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ له أَنْ يَرُدَّهُ وَيَرُدَّ معه أَرْشَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ حَقَّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ثَبَتَ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي
فَلَوْ امْتَنَعَ إنَّمَا يَمْتَنِعُ نَظَرًا لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بِاسْتِحْقَاقِ النَّظَرِ أَوْلَى من الْبَائِعِ لِأَنَّهُ لم يُدَلِّسْ الْعَيْبَ وَالْبَائِعُ قد دَلَّسَ
وَلَنَا أَنَّ شَرْطَ الرَّدِّ أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ عِنْدَ الرَّدِّ على الصِّفَةِ التي كان عليها عِنْدَ الْقَبْضِ ولم يُوجَدْ لِأَنَّهُ خَرَجَ عن مِلْكِ الْبَائِعِ مَعِيبًا بِعَيْبٍ وَاحِدٍ وَيَعُودُ على مِلْكِهِ مَعِيبًا بِعَيْبَيْنِ فَانْعَدَمَ شَرْطُ الرَّدِّ فَلَا يُرَدُّ وَلَوْ كان الْمَبِيعُ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ اطَّلَعَ على عَيْبٍ بها فَإِنْ كانت بِكْرًا لم يَرُدَّهَا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كانت ثَيِّبًا فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُرَدُّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ ثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ مع شَرْطِهِ وما بَعْدَ السَّبَبِ وَشَرْطِهِ ألا الْحُكْمُ أَمَّا السَّبَبُ فَهُوَ الْعَيْبُ وقد وُجِدَ
وَأَمَّا الشَّرْطُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ وَقْتَ الرَّدِّ كما كان وَقْتَ الْقَبْضِ وقد وُجِدَ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الْعَيْنِ إذْ هو اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فَأَشْبَهَ الِاسْتِخْدَامَ بِخِلَافِ وَطْءِ الْبِكْرِ لِأَنَّ الْعُذْرَةَ عُضْوٌ منها وقد أَزَالَهَا بِالْوَطْءِ
وَلَنَا أَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لها حُكْمُ الْأَجْزَاءِ وَالْأَعْيَانِ بِدَلِيلِ أنها مَضْمُونَةٌ بِالْعَيْنِ وَغَيْرُ الْعَيْنِ لَا يُضْمَنُ بِالْعَيْنِ هو الْأَصْلُ وَإِذْ قام الدَّلِيلُ على أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ عِنْدَنَا أَصْلًا فَكَانَ اسْتِيفَاؤُهَا في حُكْمِ إتْلَافِ الْأَجْزَاءِ وَالْأَعْيَانِ فَانْعَدَمَ شَرْطُ الرَّدِّ فَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ كما إذَا قَطَعَ طَرَفًا منها وَكَمَا في وَطْءِ الْبِكْرِ بِخِلَافِ الِاسْتِخْدَامِ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَةٍ مَحْضَةٍ مالها حُكْمُ الْجُزْءِ وَالْعَيْنِ وَلِأَنَّهُ لو رَدَّ الْجَارِيَةَ وَفَسَخَ الْعَقْدَ رُفِعَ من الْأَصْلِ من كل وَجْهٍ أو من وَجْهٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَطْءَ صَادَفَ مِلْكَ الْبَائِعِ من كل وَجْهٍ أو من وَجْهٍ وَأَنَّهُ حَرَامٌ فَكَانَ الْمَنْعُ من الرَّدِّ طَرِيقَ الصِّيَانَةِ عن الْحَرَامِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا إذَا اشترى ( ( ( اشترط ) ) ) رَجُلَانِ شيئا ثُمَّ اطَّلَعَا على عَيْبٍ بِهِ كان عِنْدَ الْبَائِعِ أَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ دُونَ صَاحِبِهِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ وَعَلَى هذا الْخِلَافُ لو اشْتَرَيَا شيئا على أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فيه ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أو اشْتَرَيَا شيئا لم يَرَيَاهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ رَدَّ المشتري كما اشْتَرَى فَيَصِحُّ كما إذَا اشْتَرَى عَبْدًا على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ في نِصْفِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَرَدَّ النِّصْفَ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهُ اشْتَرَى النِّصْفَ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اشْتَرَيَا الْعَبْدَ جُمْلَةً
____________________

(5/283)


وَاحِدَةً كان كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرِيًا نِصْفَهُ وقد رَدَّ النِّصْفَ فَقَدْ رَدَّ ما اشْتَرَى كما اشْتَرَى
وَلِأَبِي حنيفة رحمه أنه لم يوجد شرط الرد وثبوت حق الرد عند انعدام شرطه ممتنع
ولأبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لم يُوجَدْ شَرْطُ الرَّدِّ وَثُبُوتُ حَقِّ الرَّدِّ عِنْدَ انْعِدَامِ شَرْطِهِ مُمْتَنِعٌ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ لم يُوجَدْ شَرْطُ الرَّدِّ أَنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ على الْوَصْفِ الذي كان مَقْبُوضًا ولم يُوجَدْ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ غير مَعِيبٍ بِعَيْبٍ زَائِدٍ فَلَوْ رَدَّهُ لَرَدَّهُ وهو مَعِيبٌ بِعَيْبٍ زَائِدٍ وهو عَيْبُ الشَّرِكَةِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ في الْأَعْيَانِ عَيْبٌ لِأَنَّ نِصْفَ الْعَيْنِ لَا يشتري بِالثَّمَنِ الذي يشتري بِهِ لو لم يَكُنْ مُشْتَرَكًا فلم يُوجَدْ رَدُّ ما اشْتَرَى فَلَا يَصِحُّ الرَّدُّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عن الْبَائِعِ وَلِهَذَا لو أَوْجَبَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ في عَبْدٍ لِاثْنَيْنِ فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لم يَصِحَّ لِأَنَّ الْبَائِعَ لم يَرْضَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ إلَّا عن الْجُمْلَةِ فإذا قَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَقَدْ فَرَّقَ الصَّفْقَةَ على الْبَائِعِ فلم يَصِحَّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عنه
كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ لو كان النُّقْصَانُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أو بِفِعْلِ الْبَائِعِ بِأَنْ قَطَعَ يَدَهُ وَوَجَبَ الْأَرْشُ أو كانت جَارِيَةً فَوَطِئَهَا وَوَجَبَ الْعُقْرُ لم يَكُنْ له أَنْ يَرُدَّ بِالْعَيْبِ لِمَا قُلْنَا وَلِمَعْنًى آخَرَ يَخْتَصُّ بِهِ وهو أَنَّ النُّقْصَانَ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ أو بِفِعْلِ الْبَائِعِ يُؤْخَذُ الْأَرْشُ وَالْعُقْرُ لِلْمُشْتَرِي وَأَنَّهُ زِيَادَةٌ وَلِهَذَا يُمْنَعُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ على ما نذكره ( ( ( سنذكره ) ) ) إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ اشْتَرَى مَأْكُولًا في جَوْفِهِ كَالْبِطِّيخِ وَالْجَوْزِ القثاء ( ( ( والقثاء ) ) ) وَالْخِيَارِ وَالرُّمَّانِ وَالْبَيْضِ وَنَحْوِهَا فَكَسَرَهُ فَوَجَدَهُ فَاسِدًا فَهَذَا في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو عن أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إن وَجَدَهُ كُلَّهُ فَاسِدًا وَإِمَّا إن وَجَدَ الْبَعْضَ فَاسِدًا وَالْبَعْضَ صَحِيحًا فَإِنْ وَجَدَهُ كُلَّهُ فَاسِدًا فَإِنْ كان مِمَّا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَصْلًا فَالْمُشْتَرِي يَرْجِعُ على الْبَائِعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ بَاطِلًا لِأَنَّهُ بَيْعُ ما ليس بِمَالٍ وَبَيْعُ ما ليس بِمَالٍ لَا يَنْعَقِدُ كما إذَا اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حُرٌّ
وَإِنْ كان مِمَّا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ في الْجُمْلَةِ ليس له أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ له أَنْ يَرُدَّهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ منه فَقَدْ سَلَّطَهُ على الْكَسْرِ فَكَانَ الْكَسْرُ حَاصِلًا بِتَسْلِيطِ الْبَائِعِ فَلَا يَمْنَعُ الرَّدَّ
وَلَنَا ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ شَرْطَ الرَّدِّ أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ وَقْتَ الرَّدِّ على الْوَصْفِ الذي كان عليه وَقْتَ الْقَبْضِ ولم يُوجَدْ لِأَنَّهُ تَعَيَّبَ بِعَيْبٍ زَائِدٍ بِالْكَسْرِ فَلَوْ رُدَّ عليه لَرُدَّ مَعِيبًا بِعَيْبَيْنِ فَانْعَدَمَ شَرْطُ الرَّدِّ
وَأَمَّا قَوْلُهُ الْبَائِعُ سَلَّطَهُ على الْكَسْرِ فَنَعَمْ لَكِنْ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَكَّنَهُ من الْكَسْرِ بِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ له فَيَكُونُ هو بِالْكَسْرِ مُتَصَرِّفًا في مِلْكِ نَفْسِهِ لَا في مِلْكِ الْبَائِعِ بِأَمْرِهِ لِيَكُونَ ذلك منه دَلَالَةَ الرِّضَا بِالْكَسْرِ
وَإِنْ وَجَدَ بَعْضَهُ فَاسِدًا دُونَ الْبَعْضِ يُنْظَرُ إنْ كان الْفَاسِدُ كَثِيرًا يَرْجِعُ على الْبَائِعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ في الْقَدْرِ الْفَاسِدِ بَاطِلًا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ليس بِمَالٍ وإذا بَطَلَ في ذلك الْقَدْرِ يَفْسُدُ في الْبَاقِي كما إذَا جَمَعَ بين حُرٍّ وَعَبْدٍ وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً
وَإِنْ كان قَلِيلًا فَكَذَلِكَ في الْقِيَاسِ وفي الِاسْتِحْسَانِ صَحَّ الْبَيْعُ في الْكُلِّ وَلَيْسَ له أَنْ يَرُدَّ وَلَا أَنْ يَرْجِعَ فيه بِشَيْءٍ لِأَنَّ قَلِيلَ الْفَسَادِ فيه مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه إذْ هذه الْأَشْيَاءُ في العبادات ( ( ( العادات ) ) ) لَا تَخْلُو عن قَلِيلِ فَسَادٍ فَكَانَ فيه ضَرُورَةً فَيَلْتَحِقُ ذلك الْقَدْرُ بِالْعَدَمِ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من فَصَّلَ تَفْصِيلًا آخَرَ فقال إذَا وَجَدَ كُلَّهُ فَاسِدًا فَإِنْ لم يَكُنْ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ ما ليس بِمَالٍ وَإِنْ كان لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ كَالرُّمَّانِ وَنَحْوِهِ فَالْبَيْعُ لَا يَبْطُلُ لِأَنَّهُ إذَا كان لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ كان الْقِشْرُ مَالًا وَلَكِنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رضي بِهِ نَاقِصًا وَقَبِلَ قِشْرَهُ وَرَدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ لم يَقْبَلْ لِأَنَّهُ تَعَيَّبَ بِعَيْبٍ زَائِدٍ وَرَدَّ على الْمُشْتَرِي حِصَّةَ الْمَعِيبِ جَبْرًا لِحَقِّهِ وَإِنْ وَجَدَ بَعْضَهُ فَاسِدًا فَعَلَى هذا التَّفْصِيلِ أَيْضًا لِأَنَّهُ إنْ لم يَكُنْ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ رَجَعَ على الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ وَإِنْ كان لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ رَجَعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ دُونَ الْقِشْرِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ إلَّا إذَا كان الْفَاسِدُ منه قَلِيلًا قَدْرَ ما لَا يَخْلُو مِثْلُهُ عن مِثْلِهِ فَلَا يَرُدُّ وَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ من الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في الزِّيَادَةِ أنها لَا تَخْلُو إمَّا إن حَدَثَتْ قبل الْقَبْضِ وَإِمَّا إن حَدَثَتْ بَعْدَهُ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ من الزِّيَادَتَيْنِ لَا تَخْلُو من أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً أو مُنْفَصِلَةً وَالْمُتَّصِلَةُ لَا تَخْلُو من أَنْ تَكُونَ مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ كَالْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالْكِبَرِ وَالسِّمَنِ وَالسَّمْعِ وإنجلاء بَيَاضِ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ وَنَحْوِ ذلك أو غير مُتَوَلِّدَةٍ منه كَالصَّبْغِ في الثَّوْبِ وَالسَّمْنِ أو الْعَسَلِ الْمَلْتُوتِ بِالسَّوِيقِ وَالْبِنَاءِ في الْأَرْضِ وَنَحْوِهَا وَكَذَلِكَ الْمُنْفَصِلَةُ لَا تَخْلُو من أَنْ تَكُونَ مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَنَحْوِهَا أو غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ كَالْكَسْبِ وَالصَّدَقَةِ وَالْغَلَّةِ وَالْبَيْعُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا أو فَاسِدًا
أَمَّا الزِّيَادَةُ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَحُكْمُهَا نَذْكُرُهُ في بَيَانِ حُكْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا في الْبَيْعِ الصَّحِيحِ فَإِنْ حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ قبل الْقَبْضِ فَإِنْ كانت مُتَّصِلَةً مُتَوَلَّدَةً من الْأَصْلِ
____________________

(5/284)


فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ حَقِيقَةً لِقِيَامِهَا بِالْأَصْلِ فَكَانَتْ مَبِيعَةً تَبَعًا وَالْأَصْلُ أَنَّ ما كان تَابِعًا في الْعَقْدِ يَكُونُ تَابِعًا في الْفَسْخِ لِأَنَّ الْفَسْخَ رَفَعَ الْعَقْدَ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ في الْأَصْلِ بِالْفَسْخِ فيه مَقْصُودًا وَيَنْفَسِخُ في الزِّيَادَةِ تَبَعًا لِلِانْفِسَاخِ في الْأَصْلِ
وَإِنْ كانت مُتَّصِلَةً غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ بَلْ هِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْبَيْعِ فيها أَصْلًا وَرَأْسًا فَلَوْ رَدَّ الْمَبِيعَ لَكَانَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَرُدَّهُ وَحْدَهُ بِدُونِ الزِّيَادَةِ وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ مع الزِّيَادَةِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مُتَعَذَّرٌ لِتَعَذُّرِ الْفَصْلِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ في الْعَقْدِ فَلَا تَكُونُ تَابِعَةً في الْفَسْخِ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ قَابِضًا لِلْمَبِيعِ بِإِحْدَاثِ هذه الزِّيَادَةِ فَصَارَ كَأَنَّهَا حَدَثَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ وَحُدُوثُهَا بَعْدَ الْقَبْضِ يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَإِنْ كانت متفصلة ( ( ( منفصلة ) ) ) مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ فَإِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي رَدَّهُمَا جميعا وَإِنْ شَاءَ رضي بِهِمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ بِخِلَافِ ما بَعْدَ الْقَبْضِ عِنْدَنَا إنها تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَسَنَذْكُرُ الْفَرْقَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ لم يَجِدْ بِالْأَصْلِ عَيْبًا وَلَكِنْ وَجَدَ بِالزِّيَادَةِ عَيْبًا ليس له أَنْ يَرُدَّهَا لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ قبل الْقَبْضِ مَبِيعَةٌ تَبَعًا وَالْمَبِيعُ تَبَعًا لَا يُحْتَمَلُ فَسْخُ الْعَقْدِ فيه مَقْصُودًا إلَّا إذَا كان حُدُوثُ هذه الزِّيَادَةِ قبل الْقَبْضِ مِمَّا يُوجِبُ نُقْصَانًا في الْمَبِيعِ كَوَلَدِ الْجَارِيَةِ فَلَهُ خِيَارُ الرَّدِّ لَكِنْ لَا لِلزِّيَادَةِ بَلْ لِلنُّقْصَانِ
وَلَوْ قَبَضَ الْأَصْلَ وَالزِّيَادَةَ جميعا ثُمَّ وَجَدَ بِالْأَصْلِ عَيْبًا له أَنْ يَرُدَّهُ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ بَعْدَمَا قَسَّمَ الثَّمَنَ على قَدْرِ الْأَصْلِ وَقْتَ الْبَيْعِ وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ وَقْتَ الْقَبْضِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا تَأْخُذُ قِسْطًا من الثَّمَنِ بِالْقَبْضِ كَذَلِكَ يُعْتَبَرُ قَبْضُهَا وَقْتَ الْقَبْضِ
وَلَوْ لم يَجِدْ بِالْأَصْلِ عَيْبًا وَلَكِنَّهُ وَجَدَ بِالزِّيَادَةِ عَيْبًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا خَاصَّةً بِحِصَّتِهَا من الثَّمَنِ لِأَنَّهُ صَارَ لها حِصَّةٌ من الثَّمَنِ بِالْقَبْضِ فَيَرُدُّهَا بِحِصَّتِهَا من الثَّمَنِ فَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً من الْأَصْلِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ لِانْعِدَامِ ثُبُوتِ حُكْمِ الْبَيْعِ فيها وَإِنَّمَا هِيَ مَمْلُوكَةٌ بِسَبَبٍ على حِدَةٍ أو بِمِلْكِ الْأَصْلِ فَبِالرَّدِّ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ في الْأَصْلِ وَتَبْقَى الزِّيَادَةُ مَمْلُوكَةً بِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ فيه مَقْصُودًا أو بِمِلْكِ الْأَصْلِ لَا بِالْبَيْعِ فَكَانَتْ رِبْحًا لَا رِبًا لِاخْتِصَاصِ الرِّبَا بِالْبَيْعِ لِأَنَّهُ فَضْلُ مَالٍ قُصِدَ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْبَيْعِ في عُرْفِ الشَّرْعِ ولم يُوجَدْ ثُمَّ إذَا رَدَّ الْأَصْلَ فَالزِّيَادَةُ تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ ثَمَنٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَكِنَّهَا لَا تَطِيبُ له لِأَنَّهَا حَدَثَتْ على مِلْكِهِ إلَّا أنها رِبْحٌ ما لم يَضْمَنْ فَلَا تَطِيبُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الزِّيَادَةُ تَكُونُ لِلْبَائِعِ لَكِنَّهَا لَا تَطِيبُ له وَهَذَا إذَا اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فَإِنْ رضي بِالْعَيْبِ وَاخْتَارَ الْبَيْعَ فَالزِّيَادَةُ لَا تَطِيبُ له بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهَا رِبْحٌ ما لم يَضْمَنْ وَنَهَى رسول اللَّهِ عن ذلك وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ في عَقْدِ الْبَيْعِ وَأَنَّهُ تَفْسِيرُ الرِّبَا
وَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ مع هذه الزِّيَادَةِ ثُمَّ وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا فَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ هَالِكَةً له أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيعَ خَاصَّةً بِجَمِيعِ الثَّمَنِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كانت قَائِمَةً فَكَذَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَرُدُّ معه الزِّيَادَةَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذه زِيَادَةٌ حَدَثَتْ قبل الْقَبْضِ فَيَرُدُّهَا مع الْأَصْلِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هذه الزِّيَادَةَ لَا تَتْبَعُ الْأَصْلَ في حُكْمِ الْعَقْدِ فَلَا تَتْبَعُهُ في حُكْمِ الْفَسْخِ وَلَوْ وَجَدَ بِالزِّيَادَةِ عَيْبًا ليس له أَنْ يَرُدَّهَا لِأَنَّهُ لَا حِصَّةَ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ من الثَّمَنِ فَلَا تَحْتَمِلُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّهَا لو رُدَّتْ لَرُدَّتْ بِغَيْرِ شَيْءٍ
هذا إذَا حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ قبل الْقَبْضِ فَأَمَّا إذَا حَدَثَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ كانت مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ إنْ رضي الْمُشْتَرِي بِرَدِّهَا مع الْأَصْلِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ حَقِيقَةً وَقْتَ الْفَسْخِ فَبِالرَّدِّ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ في الْأَصْلِ مَقْصُودًا وَيَنْفَسِخُ في الزِّيَادَةِ تَبَعًا
وَإِنْ أَبَى أَنْ يَرُدَّهُ وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ نُقْصَانَ الْعَيْبِ من الْبَائِعِ وَأَبَى الْبَائِعُ إلَّا الرَّدَّ مع الْعَيْبِ وَدَفَعَ جَمِيعَ الثَّمَنِ اُخْتُلِفَ فيه قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وأبو يُوسُفَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ نُقْصَانَ الْعَيْبِ من الْبَائِعِ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْبَى ذلك وبطلب ( ( ( ويطلب ) ) ) الرَّدَّ وَيَقُولَ لَا أُعْطِيك نُقْصَانَ الْعَيْبِ وَلَكِنْ رُدَّ عَلَيَّ الْمَبِيعَ مَعِيبًا لِأَدْفَعَ إلَيْك جَمِيعَ الثَّمَنِ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ على الْبَائِعِ إذَا أَبَى ذلك وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَقُولَ له رُدَّ على الْمَبِيعَ حتى أَرُدَّ إلَيْك الثَّمَنَ كُلَّهُ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ الْمُتَوَلِّدَةَ من الْأَصْلِ بَعْدَ الْقَبْضِ هل تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ إذَا لم يَرْضَ صَاحِبُ الزِّيَادَةِ وهو الْمُشْتَرِي بِرَدِّ الزِّيَادَةِ وَيُرِيدُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ عِنْدَهُمَا يَمْنَعُ وَعِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ في النِّكَاحِ إذَا ازْدَادَ الْمَهْرُ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ بَعْدَ الْقَبْضِ ثُمَّ وَرَدَ الطَّلَاقُ قبل
____________________

(5/285)


الدُّخُولِ أنها هل تَمْنَعُ التَّنْصِيفَ عِنْدَهُمَا تَمْنَعُ وَعَلَيْهَا فصف ( ( ( نصف ) ) ) الْقِيمَةِ يوم قَبَضَتْ وَعِنْدَهُ لَا تَمْنَعُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في النِّكَاحِ
وَإِنْ كانت مُتَّصِلَةً غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْإِجْمَاعِ وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لو رَدَّ الْأَصْلَ فَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ مع الزِّيَادَةِ وَالرَّدُّ وَحْدَهُ لَا يُمْكِنُ وَالزِّيَادَةُ لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ في الْعَقْدِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَهَا تَابِعَةً في الْفَسْخِ إلَّا إذَا تَرَاضَيَا على الرَّدِّ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ جَدِيدٍ وَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَمْنَعُ وَيَرُدُّ الْأَصْلَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ وَكَذَلِكَ هذه الزِّيَادَةُ تَمْنَعُ الْفَسْخَ عِنْدَنَا من الْإِقَالَةِ وَالرَّدُّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ
وَالْكَلَامُ فيه مبنى على أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وهو أَنَّ الزِّيَادَةَ عِنْدَنَا مَبِيعَةٌ تَبَعًا لِثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ فيه تَبَعًا وَبِالرَّدِّ بِدُونِ الزيدة ( ( ( الزيادة ) ) ) يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ في الْأَصْلِ مَقْصُودًا وَتَبْقَى الزِّيَادَةُ في يَدِ الْمُشْتَرِي مَبِيعًا مَقْصُودًا بِلَا ثَمَنٍ لِيَسْتَحِقَّ بِالْبَيْعِ وَهَذَا تَفْسِيرُ الرِّبَا في عُرْفِ الشَّرْعِ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ قبل الْقَبْضِ لِأَنَّهَا لَا تُرَدُّ بِدُونِ الْأَصْلِ أَيْضًا احْتِرَازًا عن الرِّبَا بَلْ تُرَدُّ مع الْأَصْلِ وَرَدُّهَا مع الْأَصْلِ لَا يَتَضَمَّنُ الرِّبَا ثُمَّ إنَّمَا لَا يُرَدُّ الْأَصْلُ مع الزِّيَادَةِ هَهُنَا وَرُدَّ هُنَاكَ إما امْتِنَاعُ رَدِّ الْأَصْلِ بِدُونِ الزِّيَادَةِ فَلِمَا قُلْنَا أنه يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا
وَأَمَّا رَدُّهُ مع الزِّيَادَةِ فَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ التَّابِعُ بَعْدَ الرَّدِّ رِبْحَ ما لم يَضْمَنْ لِأَنَّهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ في الزِّيَادَةِ وَيَعُودُ إلَى الْبَائِعِ ولم يَصِلْ إلَى الْمُشْتَرِي بمقابلته ( ( ( بمقابلة ) ) ) شَيْءٍ من الثَّمَنِ في الْفَسْخِ لِأَنَّهُ لَا حِصَّةَ له من الثَّمَنِ فَكَانَ الْوَلَدُ لِلْبَائِعِ رِبْحَ ما لم يُضْمَنْ لِأَنَّهُ حَصَلَ في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَأَمَّا الْوَلَدُ قبل الْقَبْضِ فَقَدْ حَصَلَ في ضَمَانِ الْبَائِعِ فل ( ( ( فلو ) ) ) انْفَسَخَ الْعَقْدُ فيه لَا يَكُونُ رِبْحَ ما لم يُضْمَنْ بَلْ رِبْحَ ما ضُمِنَ وَإِنْ كانت مُنْفَصِلَةً غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ لَا يَمْتَنِعُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ الْأَصْلُ على الْبَائِعِ وَالزِّيَادَةُ لِلْمُشْتَرِي طَيِّبَةٌ له لِمَا مَرَّ أَنَّ هذه الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ أَصْلًا لِانْعِدَامِ ثُبُوتِ حُكْمِ الْبَيْعِ فيها بَلْ مُلِكَتْ بِسَبَبٍ على حِدَةٍ فَأَمْكَنَ إثْبَاتُ حُكْمِ الْفَسْخِ فيه بِدُونِ الزِّيَادَةِ فَيُرَدُّ الْأَصْلُ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فيه وَتَبْقَى الزِّيَادَةُ مَمْلُوكَةً لِلْمُشْتَرِي بِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ فيها شَرْعًا فَتَطِيبُ له
هذا إذَا كانت الزِّيَادَةُ قَائِمَةً في يَدِ الْمُشْتَرِي فَأَمَّا إذَا كانت هَالِكَةً فَهَلَاكُهَا لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أن بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أو بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ كان بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ له أَنْ يَرُدَّ الْأَصْلَ بِالْعَيْبِ وَتُجْعَلُ الزِّيَادَةُ كَأَنَّهَا لم تَكُنْ وَإِنْ كان بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ وَرَدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ لم يَقْبَلْ وَيَرُدَّ نُقْصَانَ الْعَيْبِ سَوَاءٌ كان حُدُوثُ ذلك أَوْجَبَ نُقْصَانًا في الْأَصْلِ أو لم يُوجِبْ نُقْصَانًا فيه لِأَنَّ إتْلَافَ الزِّيَادَةِ بِمَنْزِلَةِ إتْلَافِ جُزْءٍ مُتَّصِلٍ بِالْأَصْلِ لِكَوْنِهَا مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ وَذَا يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ وَإِنْ كان بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ ليس له أَنْ يَرُدَّ لِأَنَّهُ يَجِبُ ضَمَانُ الزِّيَادَةِ على الْأَجْنَبِيِّ فَيَقُومُ الضَّمَانُ مَقَامَ الْعَيْنِ فكان عَيْنَهُ قَائِمَةٌ فَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يُفْسَخُ بِهِ الْعَقْدُ فَالْكَلَامُ هَهُنَا يَقَعُ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما يَنْفَسِخُ بِهِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ الْفَسْخِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَوْعَانِ اخْتِيَارِيٌّ وَضَرُورِيٌّ فَالِاخْتِيَارِيُّ نَحْوُ قَوْلِهِ فَسَخْتُهُ أو نَقَضْتُهُ أو رَدَدْته وما هو في مَعْنَاهُ وَالضَّرُورِيُّ هَلَاكُ الْمَعْقُودِ عليه قبل الْقَبْضِ وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْفَسْخِ فَمِنْهَا سُقُوطُ الْخِيَارِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَلْزَمُ بِسُقُوطِ الْخِيَارِ فَيَخْرُجُ عن احْتِمَالِ الْفَسْخِ
وَمِنْهَا عِلْمُ صَاحِبِهِ بِالْفَسْخِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا سَوَاءٌ كان بَعْدَ الْقَضَاءِ أو قَبْلَهُ بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ وَهَلْ يُشْتَرَطُ له الْقَضَاءُ أو الرِّضَا إنْ كان قبل الْقَبْضِ لَا يُشْتَرَطُ له قَضَاءُ الْقَاضِي وَلَا رِضَا الْبَائِعِ وَإِنْ كان بَعْدَ الْقَبْضِ يُشْتَرَطُ له الْقَضَاءُ أو الرِّضَا وقد ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَتَضَمَّنَ الْفَسْخُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ على الْبَائِعِ قبل التَّمَامِ فَإِنْ تَضَمَّنَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ الْبَائِعُ لِأَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ على الْبَائِعِ قبل التَّمَامِ إضْرَارٌ بِهِ على ما نَذْكُرُ وَالضَّرَرُ وَاجِبُ الدَّفْعِ ما أَمْكَنَ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ الْبَائِعُ لِأَنَّ الضَّرَرَ الْمَرْضِيَّ بِهِ من جِهَةِ الْمُتَضَرِّرِ لا يَجِبُ دَفْعُهُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ مَعِيبًا فَأَرَادَ رَدَّ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ قبل الْقَبْضِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ شيئا وَاحِدًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا كَالْعَبْدِ وَالثَّوْبِ وَالدَّارِ وَالْكَرْمِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ الْمُتَقَارِبِ في وِعَاءٍ وَاحِدٍ أو صُبْرَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةً كَالْعَبْدَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ وَالدَّابَّتَيْنِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ في وِعَاءَيْنِ أو صُبْرَتَيْنِ وَكُلِّ شَيْئَيْنِ يُنْتَفَعُ بِأَحَدِهِمَا فِيمَا وُضِعَ له بِدُونِ الْآخَرِ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئَيْنِ حَقِيقَةً وَشَيْئًا وَاحِدًا تَقْدِيرًا كَالْخُفَّيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ وَالْمُكَعَّبَيْنِ
____________________

(5/286)


وَمِصْرَاعَيْ الْبَابِ وَكُلُّ شَيْءٍ لَا يُنْتَفَعُ بِأَحَدِهِمَا فِيمَا وُضِعَ له بِدُونِ الْآخَرِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ كُلَّ الْمَبِيعِ وَإِمَّا إن لم يَقْبِضْ شيئا منه وَإِمَّا إن قَبَضَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ
وَالْحَادِثُ في الْمَبِيعِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْبًا أو اسْتِحْقَاقًا
أَمَّا الْعَيْبُ فَإِنْ وَجَدَهُ بِبَعْضِ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ لِشَيْءٍ منه فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رضي بِالْكُلِّ وَلَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْكُلَّ وَلَيْسَ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ سَوَاءٌ كان الْمَبِيعُ شيئا وَاحِدًا أو أَشْيَاءَ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَمَامَ لها قبل الْقَبْضِ وَتَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قبل تَمَامِهَا بَاطِلٌ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَتِمُّ قبل الْقَبْضِ أَنَّ الْمَوْجُودَ قبل الْقَبْضِ أَصْلُ الْعَقْدِ وَالْمِلْكِ لَا صِفَةَ التَّأْكِيدِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ الِانْفِسَاخُ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عليه وهو أَنَّهُ عَدَمُ التَّأْكِيدِ وإذا قَبَضَ وَقَعَ الْأَمْرُ عن الِانْفِسَاخِ بِالْهَلَاكِ فَكَانَ حُصُولُ التَّأْكِيدِ بِالْقَبْضِ وَالتَّأْكِيدُ إثْبَاتٌ من وَجْهٍ أو له شُبْهَةُ الْإِثْبَاتِ وَكَذَا مِلْكُ التَّصَرُّفِ يَقِفُ على الْقَبْضِ فَيَدُلُّ على نُقْصَانِ الْمِلْكِ قبل الْقَبْضِ وَنُقْصَانُ الْمِلْكِ دَلِيلُ نُقْصَانِ الْعَقْدِ
وَكَذَا المشتري إذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِنَفْسِ الرَّدِّ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا إلَى التَّرَاضِي
وَلَوْ كانت الصَّفْقَةُ تَامَّةً قبل الْقَبْضِ لَمَا احْتَمَلَ الِانْفِسَاخَ بِنَفْسِ الرَّدِّ كما بَعْدَ الْقَبْضِ فَيَثْبُتُ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ الصَّفْقَةَ لَيْسَتْ بِتَامَّةٍ قبل الْقَبْضِ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ على الْبَائِعِ قبل تَمَامِهَا أَنَّ التَّفْرِيقَ إضْرَارٌ بِالْبَائِعِ وَالضَّرَرُ وَاجِبُ الدَّفْعِ ما أَمْكَنَ وَبَيَانُ الضَّرَرِ أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ شيئا وَاحِدًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَشْيَاءَ حَقِيقَةً شيئا وَاحِدًا تَقْدِيرًا وَالتَّفْرِيقُ تَضَمَّنَ الشَّرِكَةَ وَالشَّرِكَةُ في الْأَعْيَانِ عَيْبٌ فَكَانَ التَّفْرِيقُ عَيْبًا وَأَنَّهُ عَيْبٌ زَائِدٌ لم يَكُنْ عِنْدَ الْبَائِعِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْبَائِعُ وَإِنْ كان الْمَبِيعُ أَشْيَاءَ فَالتَّفْرِيقُ يَتَضَمَّنُ ضَرَرًا آخَرَ وهو لُزُومُ الْبَيْعِ في الْجَيِّدِ بِثَمَنِ الرَّدِيءِ لِأَنَّ ضَمَّ الرَّدِيءِ إلَى الْجَيِّدِ وَالْجَمْعَ بَيْنَهُمَا في الصَّفْقَةِ من عَادَةِ التجارة ( ( ( التجار ) ) ) تَرْوِيجًا لِلرَّدِيءِ بِوَاسِطَةِ الْجَيِّدِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَرَى الْمُشْتَرِي الْعَيْبَ بِالرَّدِيءِ فَيَرُدَّهُ فَيَلْزَمَ الْبَيْعُ في الْجَيِّدِ بِثَمَنِ الرَّدِيءِ فيضرر ( ( ( فيتضرر ) ) ) بِهِ الْبَائِعُ فَدَلَّ أَنَّ في التَّفْرِيقِ ضَرَرًا فَيَجِبُ دَفْعُهُ ما أَمْكَنَ وَلِهَذَا لم يَجُزْ التَّفْرِيقُ في الْقَبُولِ بِأَنْ أصاب ( ( ( أضاف ) ) ) الْإِيجَابَ إلَى جمله فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عن الْبَائِعِ بِلُزُومِ حُكْمِ الْبَيْعِ في الْبَعْضِ من غَيْرِ إضَافَةِ الْإِيجَابِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ ما أَوْجَبَ الْبَيْعَ إلَّا في الْجُمْلَةِ فَلَا يَصِحُّ الْقَبُولُ إلَّا في الْجُمْلَةِ لِئَلَّا يَزُولَ مِلْكُهُ من غَيْرِ إزَالَتِهِ فَيَتَضَرَّرَ بِهِ
على أَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِالْقَبْضِ كان الْقَبْضُ في مَعْنَى الْقَبُولِ من وَجْهٍ فَكَانَ رَدُّ الْبَعْضِ وَقَبْضُ الْبَعْضِ تَفْرِيقًا في الْقَبُولِ من ( ( ( ومن ) ) ) وَجْهٍ فَلَا يَمْلِكُ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ بِرَدِّ الْمَعِيبِ عليه فَيَأْخُذَهُ وَيَدْفَعَ حِصَّتَهُ من الثَّمَنِ فَيَجُوزَ وَيَأْخُذَ الْمُشْتَرِي الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ كان لِدَفْعِ الضَّرَرِ عنه نَظَرًا له فإذا رضي له ( ( ( به ) ) ) فلم يَنْظُرْ لِنَفْسِهِ
وَإِنْ كان الْمُشْتَرِي قَبَضَ بَعْضَ الْمَبِيعِ دُونَ الْبَعْضِ فَوَجَدَ بِبَعْضِهِ عَيْبًا فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ رَدَّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ سَوَاءٌ كان الْمَبِيعُ شيئا وَاحِدًا أو أَشْيَاءَ وَسَوَاءٌ وَجَدَ الْعَيْبَ بِغَيْرِ الْمَقْبُوضِ أو بِالْمَقْبُوضِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِقَبْضِ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عليه فَكَانَ رَدُّ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ قبل التَّمَامِ وإنه بَاطِلٌ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا وَجَدَ الْعَيْبَ بِغَيْرِ الْمَقْبُوضِ فَكَذَلِكَ فَأَمَّا إذَا وَجَدَ بِالْمَقْبُوضِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ فَهُوَ نَظَرَ إلَى الْمَعِيبِ مِنْهُمَا أَيِّهِمَا كان وَاعْتَبَرَ الْآخَرَ بِهِ فَإِنْ كان الْمَعِيبُ غير الْمَقْبُوضِ اُعْتُبِرَ الْآخَرُ غير مَقْبُوضٍ فَكَأَنَّهُمَا لم يَقْبِضَا جميعا وَإِنْ كان الْمَعِيبُ مَقْبُوضًا اُعْتُبِرَ الْآخَرُ مَقْبُوضًا فَكَأَنَّهُ قَبَضَهُمَا جميعا لَكِنَّ هذا الِاعْتِبَارَ ليس بِسَدِيدٍ لِأَنَّهُ في حَدِّ التَّعَارُضِ إذْ ليس اعْتِبَارُ غَيْرِ الْمَعِيبِ بِالْمَعِيبِ في الْقَبْضِ وَعَدَمِهِ أَوْلَى من اعْتِبَارِ الْمَعِيبِ بِغَيْرِ الْمَعِيبِ في الْقَبْضِ بَلْ هذا أَوْلَى لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَبْضِ وَالْعَمَلُ بِالْأَصْلِ عِنْدَ التَّعَارُضِ أَوْلَى
هذا إذَا كان الْمُشْتَرِي لم يَقْبِضْ شيئا من الْمَبِيعِ أو قَبَضَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَإِنْ كان قَبَضَ الْكُلَّ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَإِنْ كان الْمَبِيعُ شيئا وَاحِدًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنْ شَاءَ رضي بِالْكُلِّ بِكُلِّ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْكُلَّ وَاسْتَرَدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَلَيْسَ له أَنْ يَرُدَّ قَدْرَ الْمَعِيبِ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فيه إلْزَامَ عَيْبِ الشَّرِكَةِ وإنها عَيْبٌ حَادِثُ مَانِعٌ من الرَّدِّ
وَإِنْ كان أَشْيَاءَ حَقِيقَةً شيئا وَاحِدًا تَقْدِيرًا فَكَذَلِكَ لِأَنَّ إفْرَادَ أَحَدِهِمَا بِالرَّدِّ إضرارا ( ( ( إضرار ) ) ) بِالْبَائِعِ إذْ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِأَحَدِهِمَا فِيمَا وُضِعَ له بِدُونِ الْآخَرِ فَكَانَا فِيمَا وُضِعَا له من الْمَنْفَعَةِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَكَانَ الْمَبِيعُ شيئا
____________________

(5/287)


وَاحِدًا من حَيْثُ الْمَعْنَى فَبِالرَّدِّ تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَالشَّرِكَةُ في الْأَعْيَانِ عَيْبٌ وإذا كان لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِأَحَدِهِمَا بِدُونِ صَاحِبِهِ فِيمَا وُضِعَ له كان التَّفْرِيقُ تعييبا فَيَعُودُ الْمَبِيعُ إلَى الْبَائِعِ بِعَيْبٍ زَائِدٍ حَادِثٍ لم يَكُنْ عِنْدَهُ وَإِنْ كان أَشْيَاءَ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَلَيْسَ له أَنْ يَرُدَّ الْكُلَّ إلَّا عِنْدَ التَّرَاضِي وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ليس له ذلك بَلْ يَرُدُّهُمَا أو يُمْسِكُهُمَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ في التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا في الرَّدِّ إضْرَارًا بِالْبَائِعِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ضَمَّ الرَّدِيءِ إلَى الْجَيِّدِ في الْبَيْعِ من عَادَةِ التُّجَّارِ لِيُرَوِّجَ الرَّدِيءَ بِوَاسِطَةِ الْجَيِّدِ وقد يَكُونُ الْعَيْبُ بِالرَّدِيءِ فَيَرُدُّهُ على الْبَائِعِ وَيَلْزَمُهُ الْبَيْعُ في الْجَيِّدِ بِثَمَنِ الرَّدِيءِ وَهَذَا إضْرَارٌ بِالْبَائِعِ وَلِهَذَا امْتَنَعَ الرَّدُّ قبل الْقَبْضِ فَكَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ ما ثَبَتَ له حَقُّ الرَّدِّ وُجِدَ في أَحَدِهِمَا فَكَانَ له أَنْ يَرُدَّ أَحَدَهُمَا وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ إنَّمَا يَثْبُتُ لِفَوَاتِ السَّلَامَةِ الْمَشْرُوطَةِ في الْعَقْدِ دَلَالَةً وَالثَّابِتَةِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ على ما بَيَّنَّا وَالسَّلَامَةُ فَاتَتْ في أَحَدِهِمَا فَكَانَ له رَدُّهُ خَاصَّةً فَلَوْ امْتَنَعَ الرَّدُّ إنَّمَا يَمْتَنِعُ لِتَضَمُّنِهِ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ وَتَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ بَاطِلٌ قبل التَّمَامِ لَا بَعْدَهُ وَالصَّفْقَةُ قد تَمَّتْ بِقَبْضِهِمَا فَزَالَ الْمَانِعُ
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا يَتَضَرَّرُ الْبَائِعُ بِرَدِّ الرَّدِيءِ خَاصَّةً فَنَعَمْ لَكِنَّ هذا ضَرَرٌ مَرْضِيٌّ بِهِ من جِهَتِهِ لِأَنَّ إقْدَامَهُ على بَيْعِ الْمَعِيبِ وَتَدْلِيسِ الْعَيْبِ مع عِلْمِهِ أَنَّ الظَّاهِرَ من حَالِ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِالْعَيْبِ دَلَالَةُ الرضي ( ( ( الرضا ) ) ) بِالرَّدِّ بِخِلَافِ ما قبل الْقَبْضِ لِأَنَّهُ لَا تَمَامَ لِلْعَقْدِ قبل الْقَبْضِ فَلَا يَكُونُ قبل الْقَبْضِ دَلَالَةَ الرِّضَا بِالرَّدِّ فَكَانَ الرَّدُّ ضَرَرًا غير مَرْضِيٍّ بِهِ فَيَجِبُ دَفْعُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ رَدَّ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ سَوَاءٌ قَبَضَ الْكُلَّ أو لم يَقْبِضْ شيئا أو قَبَضَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ وَسَوَاءٌ كان الْمَعْقُودُ عليه شيئا وَاحِدًا أو أَشْيَاءَ لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرُدُّهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا سَوَاءٌ كان قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ
وَلَوْ تَمَّتْ الصَّفْقَةُ لَمَا اُحْتُمِلَ الرَّدُّ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو التَّرَاضِي دَلَّ أَنَّ هذا الْخِيَارَ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ وَلَا يَجُوزُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قبل التَّمَامِ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ وَلَوْ قال الْمُشْتَرِي أنا أُمْسِكُ الْمَعِيبَ وَآخُذُ النُّقْصَانَ ليس له ذلك لِأَنَّ قَوْلَهُ أُمْسِكُ الْمَعِيبَ دَلَالَةُ الرِّضَا بِالْمَعِيبِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ
وَكَذَلِكَ لو كان الْمَبِيعُ أَشْيَاءَ فَوَجَدَ بِالْكُلِّ عَيْبًا فَأَرَادَ رَدَّ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ أَنَّ الْمَرْدُودَ إنْ كان مِمَّا لو كان الْعَيْبُ بِهِ وَحْدَهُ لَكَانَ له رَدُّهُ وَحْدَهُ كَالْعَبْدَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ فَلَهُ ذلك لِأَنَّهُ إذَا أَمْسَكَ الْبَعْضَ فَقَدْ رضي بعيبه ( ( ( بعينه ) ) ) فَبَطَل حَقُّ الرَّدِّ فيه لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ صِفَةَ السَّلَامَةِ لم تَكُنْ مَشْرُوطَةً وَلَا مُسْتَحَقَّةً بِالْعَقْدِ فيه فَصَارَ كَأَنَّهُ كان صَحِيحًا في الْأَصْلِ وَوَجَدَ بِالْآخَرِ عَيْبًا فَيَرُدُّهُ وَإِنْ كان الْمَرْدُودُ مِمَّا لو كان الْعَيْبُ بِهِ وَحْدَهُ لَكَانَ لَا يَرُدُّهُ كَالْخُفَّيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ وَنَحْوِهِمَا ليس له ذلك لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا تَعْيِيبٌ
وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا قبل الْقَبْضِ فَقَبَضَ الْمَعِيبَ وهو عَالِمٌ بِالْعَيْبِ لم يَكُنْ له أَنْ يَرُدَّ وَسَقَطَ خِيَارُهُ وَلَزِمَهُ الْعَبْدَانِ لِأَنَّ قَبْضَ الْمَعِيبِ مع الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ دَلِيلُ الرِّضَا وَلِلْقَبْضِ شَبَهٌ بِالْعَقْدِ فَكَانَ الرِّضَا بِهِ عِنْدَ الْقَبْضِ كَالرِّضَا بِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ
وَلَوْ رضي بِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ يَسْقُطُ خِيَارُهُ فَلَزِمَاهُ جميعا كَذَا هذا وَلَوْ قَبَضَ الصَّحِيحَ مِنْهُمَا وَلَوْ كَانَا مَعِيبَيْنِ فَقَبَضَ أَحَدَهُمَا لم يَسْقُطْ خِيَارُهُ لِأَنَّهُ قَبَضَ بَعْضَ الْمَعْقُودِ عليه وَالصَّفْقَةُ لَا تَتِمُّ بِقَبْضِ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عليه وَإِنَّمَا تَتِمُّ بِقَبْضِ الْكُلِّ فَلَوْ لَزِمَهُ الْعَقْدُ في الْمَقْبُوضِ دُونَ الْآخَرِ لَتَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ على الْبَائِعِ قبل التَّمَامِ وَتَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قبل التَّمَامِ بَاطِلٌ وَلَا يُمْكِنُ إسْقَاطُ حَقِّهِ عن غَيْرِ الْمَقْبُوضِ لِأَنَّهُ لم يَرْضَ بِهِ فَبَقِيَ له الْخِيَارُ على ما كان وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الِاسْتِحْقَاقُ فَإِنْ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْمَعْقُودِ عليه قبل الْقَبْضِ ولم يجن ( ( ( يجز ) ) ) الْمُسْتَحَقُّ بَطَلَ الْعَقْدُ في الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ ذلك الْقَدْرَ لم يَكُنْ مِلْكَ الْبَائِعِ ولم تُوجَدْ الْإِجَازَةُ من الْمَالِكِ فَبَطَلَ وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ في الْبَاقِي إنْ شَاءَ رضي بِهِ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ سَوَاءٌ كان اسْتِحْقَاقُ ما اسْتَحَقَّهُ يُوجِبُ الْعَيْبَ في الْبَاقِي أو لَا يُوجِبُ لِأَنَّهُ إذَا لم يَرْضَ الْمُسْتَحِقُّ فَقَدَ تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ على الْمُشْتَرِي قبل التَّمَامِ فَصَارَ كَعَيْبٍ ظَهَرَ بِالسِّلْعَةِ قبل الْقَبْضِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْخِيَارَ فَكَذَا هذا
وأن كان الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ قَبْضِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ سَوَاءٌ وَرَدَ الِاسْتِحْقَاقُ على الْمَقْبُوضِ وَعَلَى غَيْرِ الْمَقْبُوضِ فَإِنْ كان قَبَضَ الْكُلَّ ثُمَّ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ بَطَلَ الْبَيْعُ في الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ لِمَا قُلْنَا
ثُمَّ يَنْظُرُ إنْ كان اسْتِحْقَاقُ ما اسْتَحَقَّ يُوجِبُ الْعَيْبَ في الْبَاقِي بِأَنْ كان الْمَعْقُودُ عليه شيئا وَاحِدًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا
____________________

(5/288)


كَالدَّارِ وَالْكَرْمِ وَالْأَرْضِ وَالْعَبْدِ وَنَحْوِهَا فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ في الْبَاقِي إنْ شَاءَ رضي بِهِ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ في الْأَعْيَانِ عَيْبٌ
وَكَذَلِكَ أن كان الْمَعْقُودُ عليه شَيْئَيْنِ من حَيْثُ الصُّورَةُ شيئا وَاحِدًا من حَيْثُ الْمَعْنَى فَاسْتَحَقَّ أَحَدَهُمَا فَلَهُ الْخِيَارُ في الْبَاقِي وَإِنْ كان اسْتِحْقَاقُ ما اسْتَحَقَّ لَا يُوجِبُ الْعَيْبَ في الْبَاقِي بِأَنْ كان الْمَعْقُودُ عليه شَيْئَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى كَالْعَبْدَيْنِ فَاسْتَحَقَّ أَحَدَهُمَا أو كان صُبْرَةَ حِنْطَةٍ أو جُمْلَةَ وزنى فَاسْتَحَقَّ بَعْضَهُ فإنه يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ في تَبْعِيضِهِ فلم يَكُنْ له خِيَارُ الرَّدِّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وما لَا يَمْنَعُ فَالْكَلَامُ في حَقِّ الرُّجُوعِ بِالنُّقْصَانِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَبْطُلُ بِهِ هذا الْحَقُّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وما لَا يَبْطُلُ
أَمَّا الشَّرَائِطُ فَمِنْهَا امْتِنَاعُ الرَّدِّ وَتَعَذُّرُهُ فَلَا يَثْبُتُ مع إمْكَانِ الرَّدِّ حتى لو وَجَدَ بِهِ عَيْبًا ثُمَّ أَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يُمْسِكَ الْمَبِيعَ مع إمْكَانِ رَدِّهِ على الْبَائِعِ وَيَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ ليس له ذلك لِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ بِالنُّقْصَانِ كَالْخُلْفِ عن الرَّدِّ وَالْقُدْرَةُ على الْأَصْلِ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْخُلْفِ
وَلِأَنَّ إمْسَاكَ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ مع عِلْمِهِ بالعيب دَلَالَةُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَالرِّضَا بِالْعَيْبِ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ كما يَمْنَعُ الرَّدَّ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ امْتِنَاعُ الرَّدِّ لَا من قِبَلِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كان من قِبَلِهِ لَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حَابِسًا الْمَبِيعَ بِفِعْلِهِ مُمْسِكًا عن الرَّدِّ وَهَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْحَقِّ أَصْلًا وَرَأْسًا
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ أو انْتَقَصَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ في الْهَلَاكِ لِضَرُورَةِ فَوَاتِ الْمَحَلِّ وفي النُّقْصَانِ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إلَى الْبَائِعِ وهو دَفْعُ ضَرَرٍ زَائِدٍ يَلْحَقُهُ بِالرَّدِّ
أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقُولَ أنا أَقْبَلُهُ مع النُّقْصَانِ فَأَدْفَعُ إلَيْك جَمِيعَ الثَّمَنِ وإذا كان امْتِنَاعُ الرَّدِّ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ وهو لُزُومُ الضَّرَرِ إيَّاهُ بِالرَّدِّ فإذا دَفَعَ الضَّرَرَ عنه بِامْتِنَاعِ الرَّدِّ لَا بُدَّ من دَفْعِ الضَّرَرِ عن الْمُشْتَرِي بِالرُّجُوعِ بِالنُّقْصَانِ وَسَوَاءٌ كان النُّقْصَانُ يَرْجِعُ إلَى الذَّاتِ بِفَوَاتِ جُزْءٍ من الْعَيْنِ أو لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ كما إذَا كان الْمَبِيعُ جَارِيَةً ثَيِّبًا فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي أو قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ الرَّدَّ امْتَنَعَ لَا من قِبَلِ الْمُشْتَرِي بَلْ من قِبَلِ الْبَائِعِ
أَلَا تَرَى أَنَّ له أَنْ يُقَبِّلَهَا موطوء ( ( ( موطوءة ) ) ) وَلَوْ كان لها زَوْجٌ عِنْدَ الْبَائِعِ فَوَطِئَهَا زَوْجُهَا في يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كان زَوْجُهَا قد وَطِئَهَا في يَدِ الْبَائِعِ لم يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ هذا الْوَطْءَ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ وَإِمْكَانُ الرَّدِّ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ وَإِنْ كان لم يَطَأْهَا عِنْدَ الْبَائِعِ فَوَطِئَهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كانت بِكْرًا يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ وَطْءَ الْبِكْرِ يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ نُقْصَانَ الْعَيْنِ بِإِزَالَةِ الْعُذْرَةِ وَالِامْتِنَاعُ هَهُنَا ليس لِمَعْنًى من قِبَلِ الْمُشْتَرِي بَلْ من قِبَلِ الْبَائِعِ فَلَا يُمْنَعُ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ وَإِنْ كانت ثَيِّبًا لم يذكر في الْأَصْلِ أَنَّهُ يَمْنَعُ الرَّدَّ أَمْ لَا وَقِيلَ لَا يَمْنَعُ فَلَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ مع إمْكَانِ الرَّدِّ
وَكَذَا لو كان الْمَبِيعُ قَائِمًا حَقِيقَةً هَالِكًا تَقْدِيرًا بِأَنْ أعطى له حُكْمُ الْهَلَاكِ كما إذَا كان الْمَبِيعُ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ وَخَاطَهُ أو حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أو دَقِيقًا فَخَبَزَهُ أو لَحْمًا فَشَوَاهُ فإنه يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ في هذه الْمَوَاضِعِ من قِبَلِ الْبَائِعِ
وَلَوْ حَدَثَ في الْمَبِيعِ أو بِسَبَبِهِ زِيَادَةٌ مَانِعَةٌ من الرَّدِّ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ هَهُنَا لَا من قِبَلِ الْمُشْتَرِي بَلْ من قِبَلِ الشَّرْعِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لو رَدَّ الْأَصْلَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ لَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ مَبِيعًا مَقْصُودًا بِلَا ثَمَنٍ وَهَذَا تَفْسِيرُ الرِّبَا في مُتَعَارَفِ الشَّرْعِ وَحُرْمَةُ الرِّبَا تَثْبُتُ حَقًّا لِلشَّرْعِ وَلِهَذَا لو تَرَاضَيَا على الرَّدِّ لَا يقضي بِالرَّدِّ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ حَقًّا لِلشَّرْعِ لَا تَسْقُطُ بِرِضَا الْعَبْدِ
وإذا كان امْتِنَاعُ الرَّدِّ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الشَّرْعِ لَا إلَى الْمُشْتَرِي بَقِيَ حَقُّ الْمُشْتَرِي في وَصْفِ السَّلَامَةِ وَاجِبَ الرِّعَايَةِ فَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ جَبْرًا لِحَقِّهِ وَلَوْ كان الزِّيَادَةُ الْمَانِعَةُ سَمْنًا أو عَسَلًا لَتَّهُ بِسَوِيقٍ أو عصفر ( ( ( عصفرا ) ) ) أو زَعْفَرَانًا صَبَغَ بِهِ الثَّوْبَ أو بِنَاءً على الْأَرْضِ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ التَّعَذُّرَ ليس من قِبَلِ الْمُشْتَرِي وَلَا من قِبَلِ الْبَائِعِ بَلْ من قِبَلِ الشَّرْعِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ ليس لِلْبَائِعِ أَنْ يَقُولَ أنا آخُذُهُ كَذَلِكَ وَتَعَذُّرُ الرَّدِّ لِحَقِّ الشَّرْعِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي أو وَهَبَهُ ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ لم يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ هَهُنَا من قِبَلِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ صَارَ مُمْسِكًا عن الرَّدِّ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قام مَقَامَهُ فَصَارَ مُبْطِلًا لِلرَّدِّ الذي هو الْحَقُّ فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ
وَكَذَلِكَ لو كَاتَبَهُ لِأَنَّهَا تُوجِبُ صَيْرُورَةَ الْعَبْدِ حُرًّا يَدًا فَصَارَ بِالْكِتَابَةِ مُمْسِكًا عن الرَّدِّ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَكَذَلِكَ لو أَعْتَقَهُ على مَالٍ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا
____________________

(5/289)


لِأَنَّ الاعتاق على مَالٍ في حَقِّ الْمُعْتِقِ في مَعْنَى الْبَيْعِ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْعِوَضَ بِمُقَابَلَتِهِ وَالْبَيْعُ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ
كَذَا هذا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وَلَوْ أَعْتَقَهُ على غَيْرِ مَالٍ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَرْجِعَ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وفي الِاسْتِحْسَانِ يَرْجِعُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الرَّدَّ امْتَنَعَ بِفِعْلِهِ وهو الْإِعْتَاقُ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ أن الْكِتَابَةَ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ تَعَذُّرَ الرَّدِّ هَهُنَا ليس من قِبَلِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ ليس بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ بَلْ الْمِلْكُ يَنْتَهِي بِالْإِعْتَاقِ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْآدَمِيِّ عَدَمُ الْمِلْكِ وَالْمَالِيَّةِ إذْ الْأَصْلُ فيه أَنْ يَكُونَ حُرًّا لِأَنَّ الناس كُلَّهُمْ أَوْلَادُ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُتَوَلِّدُ من الْحُرَّيْنِ يَكُونُ حُرًّا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ ضَرَبَ الْمِلْكَ وَالْمَالِيَّةَ عليه بِعَارِضِ الْكُفْرِ مُؤَقَّتًا إلَى غَايَةِ الْإِعْتَاقِ وَالْمُؤَقَّتُ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ فَيَنْتَهِي الْمِلْكُ وَالْمَالِيَّةُ عِنْدَ الْإِعْتَاقِ فَصَارَ كما لو انْتَهَى بِالْمَوْتِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ ليس بِحَبْسٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ ما أَخَذَ الْعِوَضَ فَقَدْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي مَقَامَ نَفْسِهِ فَكَأَنَّهُ اسْتَبَقَاهُ على مِلْكِهِ فَصَارَ حَابِسًا إيَّاهُ بِفِعْلِهِ مُمْسِكًا عن الرَّدِّ فلم يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ
وَكَذَلِكَ لو دَبَّرَهُ أو اسْتَوْلَدَهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ الرَّدَّ لم يَمْتَنِعْ من قِبَلِ الْمُشْتَرِي بَلْ من قِبَلِ الشَّرْعِ
وَلَوْ قَتَلَهُ الْمُشْتَرِي لم يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ فَتَنْتَهِي حَيَاتُهُ عِنْدَ الْقَتْلِ كما تَنْتَهِي عِنْدَ الْمَوْتِ فَصَارَ كما لو مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَهُنَاكَ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ
كَذَا هَهُنَا
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فَوَاتَ الْحَيَاةِ إنْ لم يَكُنْ أَثَرُ فِعْلِ الْقَاتِلِ حَقِيقَةً فَهُوَ أَثَرُ فِعْلِهِ عَادَةً فَجُعِلَ في حَقِّ الْقَاتِلِ كَأَنَّهُ تَفْوِيتُ الْحَيَاةِ حَقِيقَةً وَإِزَالَتُهَا وَإِنْ كان انْتِهَاءً حَقِيقَةً كَالْإِعْتَاقِ على مَالٍ إنه أُلْحِقَ بِالْبَيْعِ في حَقِّ الْمُعْتِقِ وَإِنْ لم يَكُنْ كَذَلِكَ في حَقِّ الْعَبْدِ فَصَارَ حَابِسًا لِلْعَبْدِ بِصُنْعِهِ مُمْسِكًا
وَلَوْ كان الْمَبِيعُ طَعَامًا فَأَكَلَهُ الْمُشْتَرِي أو ثَوْبًا فَلَبِسَهُ حتى تَخَرَّقَ لم يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَرْجِعُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أَكْلَ الطَّعَامِ وَلُبْسَ الثَّوْبِ اسْتِعْمَالُ الشَّيْءِ فِيمَا وُضِعَ له وإنه انْتِفَاعٌ لَا إتْلَافٌ بِخِلَافِ الْقَتْلِ فإنه إزَالَةُ الْحَيَاةِ في حَقِّ الْقَاتِلِ فَكَانَ حَبْسًا وَإِمْسَاكًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يأكل ( ( ( بأكل ) ) ) الطَّعَامِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ أَخْرَجَهُمَا عن مِلْكِهِ حَقِيقَةً إذْ الْمِلْكُ فِيهِمَا ثَبَتَ مُطْلَقًا لَا مُؤَقَّتًا بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَأَشْبَهَ الْقَتْلَ
وَلَوْ اُسْتُهْلِكَ الطَّعَامُ أو الثَّوْبُ بِسَبَبٍ آخَرَ وَرَاءَ الْأَكْلِ وَاللُّبْسِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا لم يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ اسْتِهْلَاكَهُمَا في غَيْرِ ذلك الْوَجْهِ إبْطَالٌ مَحْضٌ فَيُشْبِهُ الْقَتْلَ
وَلَوْ أَكَلَ بَعْضَ الطَّعَامِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا ليس له أَنْ يَرُدَّ الْبَاقِي وَلَا أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الطَّعَامَ كُلَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ وقد امْتَنَعَ رَدُّ بَعْضِهِ بِمَعْنًى من قِبَلِ الْمُشْتَرِي فَيَبْطُلُ حَقُّهُ أَصْلًا في الرَّدِّ وَالرُّجُوعِ كما لو بَاعَ بَعْضَ الطَّعَامِ دُونَ بَعْضٍ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال يَرُدُّ الْبَاقِي وَيَرْجِعُ بِأَرْشِ الْكُلِّ الْمَأْكُولِ وَالْبَاقِي إلَّا إذَا رضي الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال يَرُدُّ الْبَاقِي وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِيمَا أَكَلَ لِأَنَّهُ ليس في تَبْعِيضِ الطَّعَامِ ضَرَرٌ فَيُمْكِنُ رَدُّ الْبَعْضِ فيه دُونَ الْبَعْضِ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَمْتَنِعَ عن ذلك وَبِهِ كان يُفْتِي الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرُ وهو اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أبي اللَّيْثِ
ولو بَاعَ بَعْضَ الطَّعَامِ دُونَ الْبَعْضِ لم يَرُدَّ الْبَاقِي وَلَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَرُدُّ الْبَاقِي وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ إلَّا إذَا رضي الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ وَالرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ لِأَجْلِ الْبَيْعِ وَأَنَّهُ وُجِدَ في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَيَمْتَنِعُ في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الِامْتِنَاعُ بِقَدْرِ الْمَانِعِ
وَلَنَا ما ذَكَرْنَا أَنَّ الطَّعَامَ كُلَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ كَالْعَبْدِ فَالِامْتِنَاعُ في الْبَعْضِ لِمَعْنًى من قِبَلِ الْمُشْتَرِي يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ في الْكُلِّ
وَلَوْ كان الْمَبِيعُ دَارًا فَبَنَاهَا مَسْجِدًا ثُمَّ اطَّلَعَ على عَيْبٍ لم يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّهُ لَمَّا بَنَاهَا مَسْجِدًا فَقَدْ أَخْرَجَهَا عن مِلْكِهِ فَصَارَ كما لو بَاعَهَا
وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَكَفَّنَ بِهِ مَيِّتًا ثُمَّ اطَّلَعَ على عَيْبٍ بِهِ فَإِنْ كان الْمُشْتَرِي وَارِثَ الْمَيِّتِ وقد اشْتَرَى من التَّرِكَةِ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ الْمِلْكَ في الْكَفَنِ لم يَثْبُتْ لِلْمُشْتَرِي وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْمَيِّتِ لِأَنَّ الْكَفَنَ من الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْمَيِّتِ وقد امْتَنَعَ رَدُّهُ بِالْعَيْبِ لَا من قِبَلِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ وَإِنْ كان الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا فَتَبَرَّعَ بِالْكَفَنِ لم يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ الْمِلْكَ في المشتري وَقَعَ له فإذا كَفَّنَ بِهِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ عن مِلْكِهِ بِالتَّكْفِينِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ

____________________

(5/290)


وَمِنْهَا عَدَمُ وُصُولِ عِوَضِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي مع تَعَذُّرِ الرَّدِّ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَإِنْ وَصَلَ إلَيْهِ عِوَضُهُ بِأَنْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ في يَدِهِ خَطَأً لَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ وَإِنْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ على الْبَائِعِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّهُ لم يَصِلْ إلَيْهِ حَقِيقَةُ الْعَيْبِ وَإِنَّمَا وَصَلَ إلَيْهِ قِيمَةُ الْمَعِيبِ فَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ بِمِقْدَارِ الْعَيْبِ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إلَيْهِ قِيمَتُهُ قَامَتْ الْقِيمَةُ مَقَامَ الْعَيْنِ فَكَأَنَّهَا قَائِمَةٌ في يَدِهِ لَمَّا وَصَلَ إلَيْهِ عِوَضُهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهُ
وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اطَّلَعَ على عَيْبٍ بِهِ لم يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ
كَذَا هذا
وَمِنْهَا عَدَمُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ صَرِيحًا وَدَلَالَةً وَهِيَ أَنْ يَتَصَرَّفَ في الْمَبِيعِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ تَصَرُّفًا يَدُلُّ على الرِّضَا بِالْعَيْبِ فإن ذلك يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّ الرَّدِّ وَالرُّجُوعِ جميعا وقد ذَكَرْنَا التَّصَرُّفَاتِ التي هِيَ دَلِيلُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَوْ لم يَعْلَمْ بِالْعَيْبِ حتى تَصَرَّفَ فيه تَصَرُّفًا يَمْنَعُ الرَّدَّ ثُمَّ عَلِمَ فَإِنْ كان التَّصَرُّفُ مما لَا يُخْرِجُ السِّلْعَةَ عن مِلْكِهِ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ إلَّا الْكِتَابَةَ لِانْعِدَامِ دَلَالَةِ الرِّضَا وفي الْكِتَابَةِ يَرْجِعُ لِأَنَّهَا في مَعْنَى الْبَيْعِ على ما مَرَّ وَإِنْ كان التَّصَرُّفُ مِمَّا يُخْرِجُ السِّلْعَةَ عن مِلْكِهِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ لَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ إلَّا الْإِعْتَاقُ لَا على مَالٍ اسْتِحْسَانًا على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الرُّجُوعِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وما لَا يَبْطُلُ فَحَقُّ الرُّجُوعِ يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الْإِبْطَالِ وما يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ نحو قَوْلِهِ أَبْطَلْته أو أَسْقَطْته أو أَبْرَأْتُك عنه وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى لِأَنَّ خِيَارَ الرُّجُوعِ حَقُّهُ كَخِيَارِ الرَّدِّ لِثُبُوتِهِ بِالشَّرْطِ وَهِيَ السَّلَامَةُ الْمَشْرُوطَةُ في الْعَقْدِ دَلَالَةً بِخِلَافِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْإِنْسَانُ بِسَبِيلٍ من التَّصَرُّفِ في حَقِّهِ اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا وَيَسْقُطُ أَيْضًا بِالرِّضَا بِالْعَيْبِ وهو نَوْعَانِ صَرِيحٌ وما يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ وَدَلَالَةٌ فَالصَّرِيحُ هو أَنْ يَقُولَ رَضِيت بِالْعَيْبِ الذي بِهِ أو اخْتَرْت أو أَجَزْت الْبَيْعَ وما يَجْرِي مَجْرَاهُ وَالدَّلَالَةُ هِيَ أَنْ يَتَصَرَّفَ في الْمَبِيعِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ تَصَرُّفًا يَدُلُّ على الرِّضَا بِالْعَيْبِ كما إذَا انْتَقَصَ الْمَبِيعُ في يَدِ الْمُشْتَرِي وَامْتَنَعَ الرَّدُّ بِسَبَبِ النُّقْصَانِ وَوَجَبَ الْأَرْشُ ثُمَّ تَصَرَّفَ فيه تَصَرُّفًا أَخْرَجَهُ عن مِلْكِهِ بِأَنْ بَاعَهُ أو وَهَبَ وسلم أو أَعْتَقَ أو دَبَّرَ أو اسْتَوْلَدَ مع الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الْمُخْرِجَ عن الْمِلْكِ مع الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ دَلَالَةُ الْإِمْسَاكِ عن الرَّدِّ وَذَا دَلِيلُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ فَيَبْطُلُ حَقُّ الرُّجُوعِ
وَلَوْ امْتَنَعَ الرَّدُّ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ من الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَغَيْرِهِ أو الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ الْأَصْلِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ منه كَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ وَالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ كَالصَّبْغِ وَنَحْوِ ذلك ثُمَّ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا أَخْرَجَهُ عن مِلْكِهِ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الرُّجُوعِ بالإرش بَلْ يبقي الإرش على حَالِهِ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ في هذه الصُّورَةِ لم يَقَعْ دَلَالَةً على الْإِمْسَاكِ عن الرَّدِّ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ كان ثَابِتًا قَبْلَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ليس لِلْبَائِعِ خِيَارُ الِاسْتِرْدَادِ بِأَنْ يَقُولَ أنا أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ مع الْعَيْبِ وَأَرُدُّ إلَيْك جَمِيعَ الثَّمَنِ وإذا كان الرَّدُّ مُمْتَنِعًا قبل التَّصَرُّفِ لم يَكُنْ هو بِالتَّصَرُّفِ مُمْسِكًا عن الرَّدِّ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا فَبَقِيَ الْأَرْشُ وَاجِبًا كما كان بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يَكُنْ الرَّدُّ مُمْتَنِعًا حَتْمًا
أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقْبَلَهُ نَاقِصًا مع الْعَيْبِ فَكَانَ الْمُشْتَرِي بِتَصَرُّفِهِ مُفَوِّتًا على نَفْسِهِ حَقَّ الرَّدِّ فَكَانَ حَابِسًا لِلْمَبِيعِ بِفِعْلِهِ مُمْسِكًا إيَّاهُ عن الرَّدِّ وإنه دَلِيلُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ فَيَبْطُلُ الرُّجُوعِ فَصَارَ الْأَصْلُ في هذا الْبَابِ أَنَّ وُجُوبَ الإرش إذَا لم يَكُنْ ثَابِتًا على سَبِيلِ الْحَتْمِ وَالْإِلْزَامِ بَلْ كان خِيَارُ الِاسْتِرْدَادِ لِلْبَائِعِ مع الْعَيْبِ فَتَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذلك تَصَرُّفًا مُخْرِجًا عن الْمِلْكِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الإرش وَإِنْ كان وجه ( ( ( وجوبه ) ) ) ثَابِتًا حَتْمًا بِأَنْ لم يَكُنْ لِلْبَائِعِ خِيَارُ الِاسْتِرْدَادِ فَتَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي لَا يُبْطِلُ الْأَرْشَ
وَجْهُ الْفَرْقِ بين الْفَصْلَيْنِ على نَحْوِ ما بَيَّنَّا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ وَأَمَّا بَيَانُ طَرِيقِ مَعْرِفَةِ نُقْصَانِ الْعَيْبِ فَطَرِيقُهُ أَنْ تُقَوَّمَ السِّلْعَةُ وَلَيْسَ بها ذلك الْعَيْبُ وَتُقَوَّمَ بها ( ( ( وبها ) ) ) ذلك فَيُنْظَرُ إلَى نُقْصَانِ ما بين الْقِيمَتَيْنِ فَيُرْجَعُ على بَائِعِهِ بِقَدْرِ ما نَقَصَهُ الْعَيْبُ من حِصَّتِهِ من الثَّمَنِ إنْ كانت قِيمَتُهُ مِثْلَ ثَمَنِهِ
وَإِنْ اخْتَلَفَا فَإِنْ كان النُّقْصَانُ قَدْرَ عُشْرِ الْقِيمَةِ يُرْجَعُ على بَائِعِهِ بِعُشْرِ الثَّمَنِ وَإِنْ كان قَدْرَ خُمْسِهَا يُرْجَعُ بِخُمْسِ الثَّمَنِ
مِثَالُهُ إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ فَاطَّلَعَ على عَيْبٍ بِهِ يُنْقِصُهُ عُشْرَ قِيمَتِهِ وهو دِرْهَمٌ يَرْجِعُ على بَائِعِهِ بِعُشْرِ الثَّمَنِ وهو دِرْهَمٌ
وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ بِعَشَرَةٍ فَاطَّلَعَ على عَيْبٍ بِهِ يُنْقِصُهُ عُشْرَ الْقِيمَةِ وَذَلِكَ دِرْهَمَانِ فإنه يَرْجِعُ على الْبَائِعِ بِعُشْرِ الثَّمَنِ وَذَلِكَ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ وَلَوْ كانت قِيمَتُهُ عَشَرَةً وقد اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ وَالْعَيْبُ يُنْقِصُهُ عُشْرَ الْقِيمَةِ وَذَلِكَ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ يَرْجِعُ على بَائِعِهِ بِعُشْرِ الثَّمَنِ وَذَلِكَ دِرْهَمَانِ على هذا الْقِيَاسِ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْخِيَارُ
____________________

(5/291)


الثَّابِتُ شَرْعًا لَا شَرْطًا فَهُوَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ شَرْعِيَّةِ الْبَيْعِ الذي فيه خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وفي بَيَانِ صِفَتِهِ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ وفي بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِهِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِهِ وفي بَيَانِ ما يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وما لَا يَسْقُطُ وَلَا يَلْزَمُ أما الْكَلَامُ في شَرْعِيَّتِهِ فَقَدْ مَرَّ في مَوْضِعِهِ وَأَمَّا صِفَتُهُ فَهِيَ أَنَّ شِرَاءَ ما لم يَرَهُ الْمُشْتَرِي غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من اشْتَرَى شيئا لم يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ وَلِأَنَّ جَهَالَةَ الْوَصْفِ تُؤَثِّرُ في الرِّضَا فَتُوجِبُ خَلَلًا فيه واختلال ( ( ( واختلاف ) ) ) الرِّضَا في الْبَيْعِ يُوجِبُ الْخِيَارَ وَلِأَنَّ من الْجَائِزِ اعْتِرَاضَ النَّدَمِ لِمَا عَسَى لَا يَصْلُحُ له إذَا رَآهُ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّدَارُكِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِإِمْكَانِ التَّدَارُكِ عِنْدَ النَّدَمِ نَظَرًا له كما ثَبَتَ خِيَارُ الرَّجْعَةِ شَرْعًا نَظَرًا لِلزَّوْجِ تَمْكِينًا له من التَّدَارُكِ عِنْدَ النَّدَمِ كما قال تَبَارَكَ وَتَعَالَى { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلك أَمْرًا }
وَأَمَّا بَيْعُ ما لم يَرَهُ الْبَائِعُ فَهَلْ يَلْزَمُ رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كان يقول أَوَّلًا لَا يَلْزَمُ وَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ ثُمَّ رَجَعَ وقال يَلْزَمُ وَلَا يَثْبُتُ له الْخِيَارُ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ ما ثبت ( ( ( يثبت ) ) ) له في شِرَاءِ ما لم يَرَهُ الْمُشْتَرِي وهو ما ذَكَرْنَا من الْمَعَانِي مَوْجُودٌ في بَيْعِ ما لم يَرَهُ الْبَائِعُ فَوُرُودُ الشَّرْعِ بِالْخِيَارِ ثَمَّةَ يَكُونُ وُرُودًا هَهُنَا دَلَالَةً
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ ما رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُثْمَانَ بن عَفَّانَ رضي اللَّهُ عنهما بَاعَ أَرْضًا له من طَلْحَةَ بن عبد ( ( ( عبيد ) ) ) اللَّهِ رضي اللَّهُ عنهما ولم يَكُونَا رَأَيَاهَا فَقِيلَ لِسَيِّدِنَا عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه غُبِنْت فقال لي الْخِيَارُ لِأَنِّي بِعْت ما لم أَرَهُ وَقِيلَ لِطَلْحَةَ مِثْلُ ذلك فقال لي الْخِيَارُ لِأَنِّي اشْتَرَيْت ما لم أَرَهُ فَحَكَّمَا في ذلك جُبَيْرَ بن مُطْعِمٍ فَقَضَى بِالْخِيَارِ لِطَلْحَةَ رضي اللَّهُ عنه وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ منهم فَكَانَ إجْمَاعًا منهم على ذلك وَالِاعْتِبَارُ بِجَانِبِ الْمُشْتَرِي ليس بِسَدِيدٍ لِأَنَّ مُشْتَرِيَ ما لم يَرَهُ مشتري ( ( ( مشتر ) ) ) على أَنَّهُ خَيْرٌ مِمَّا ظَنَّهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مشتري ( ( ( مشتر ) ) ) شيء على أَنَّهُ جَيِّدٌ فإذا هو رَدِيءٌ
وَمَنْ اشْتَرَى شيئا على أَنَّهُ جَيِّدٌ فإذا هو رَدِيءٌ فَلَهُ الْخِيَارُ وَبَائِعُ شَيْءٍ لم يَرَهُ يَبِيعُ على أَنَّهُ أَدْوَنُ مِمَّا ظَنَّهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ بَائِعِ شَيْءٍ على أَنَّهُ رَدِيءٌ فإذا هو جَيِّدٌ وَمَنْ بَاعَ شيئا على أَنَّهُ رَدِيءٌ فإذا هو جَيِّدٌ لَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ فَلِهَذَا افْتَرَقَا
وَأَمَّا حُكْمُهُ فَحُكْمُ الْمَبِيعِ الذي لَا خِيَارَ فيه وهو ثُبُوتُ الْحَلِّ لِلْمُشْتَرِي في الْمَبِيعِ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ في الثَّمَنِ لِلْحَالِّ لِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مُطْلَقًا عن شَرْطٍ كان يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَ إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ الْخِيَارُ شَرْعًا لَا شَرْطًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِأَنَّ الْخِيَارَ ثَبَتَ بِنَصِّ كَلَامِ الْعَاقِدَيْنِ فَأَثَّرَ في الرُّكْنِ بِالْمَنْعِ من الِانْعِقَادِ في حَقِّ الْحُكْمِ على ما مَرَّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرَائِطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَإِنْ كان مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لَا يَثْبُتُ فيه الْخِيَارُ حتى أنهما لو تَبَايَعَا عَيْنًا بِعَيْنٍ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
وَلَوْ تَبَايَعَا دَيْنًا بِدَيْنٍ لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَوْ اشْتَرَى عَيْنًا بِدَيْنٍ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَبِيعَ إذَا كان مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَتَعَيَّنْ لِلْعَقْدِ لَا يَتَعَيَّنُ لِلْفَسْخِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ وَقِيَامُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بمثله فإذا قَبَضَ برده ( ( ( يرده ) ) ) هَكَذَا إلَى ما لَا نِهَايَةَ له فلم يَكُنْ الرَّدُّ مُفِيدًا بِخِلَافِ ما إذَا كان عَيْنًا لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ بِرَدِّهِ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ فَيَتَعَيَّنُ في الْفَسْخِ أَيْضًا فَكَانَ الرَّدُّ مُفِيدًا وَلِأَنَّ الْفَسْخَ إنَّمَا يَرِدُ على الْمَمْلُوكِ بِالْعَقْدِ وما لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لَا يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ فَلَا يَرِدُ عليه الْفَسْخُ وَلِهَذَا يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ في الْإِجَارَةِ وَالصُّلْحِ عن دَعْوَى الْمَالِ وَالْقِسْمَةِ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ هذه الْعُقُودَ تَنْفَسِخُ بِرَدِّ هذه الْأَشْيَاءِ فَيَثْبُتُ فيها خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَلَا يَثْبُتُ في الْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ هذه الْعُقُودَ لَا تَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ بِرَدِّ هذه الْأَمْوَالِ فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ ما يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فيه بِرَدِّهِ يَثْبُتُ فيه خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وما لَا فَلَا وَالْفِقْهُ ما ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا عَدَمُ الرُّؤْيَةِ فَإِنْ اشْتَرَاهُ وهو يَرَاهُ فَلَا خِيَارَ له لِأَنَّ الْأَصْلَ هو لُزُومُ الْعَقْدِ وَانْبِرَامُهُ لِأَنَّ رُكْنَ الْعَقْدِ وُجِدَ مُطْلَقًا عن شَرْطٍ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ثُبُوتَ الْخِيَارِ شَرْعًا بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِالْخِيَارِ فِيمَا لم يَرَهُ الْمُشْتَرِي لِقَوْلِهِ عليه الصلاة ( ( ( وسلم ) ) ) والسلام من اشْتَرَى شيئا لم يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ فَبَقِيَ الْخِيَارُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ مَبْقِيًّا على الْأَصْلِ
وَإِنْ كان الْمُشْتَرِي لم يَرَهُ وَقْتَ الشِّرَاءِ وَلَكِنْ كان قد رَآهُ قبل ذلك نُظِرَ في ذلك إنْ كان الْمَبِيعُ وَقْتَ الشِّرَاءِ على حَالِهِ التي كان عليها لم تَتَغَيَّرْ فَلَا خِيَارَ له لِأَنَّ الْخِيَارَ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عن الْأَصْلِ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ في شِرَاءِ ما لم يَرَهُ
____________________

(5/292)


وَهَذَا قد اشْتَرَى شيئا قد رَآهُ فَلَا يَثْبُتُ له الْخِيَارُ وَإِنْ كان قد تَغَيَّرَ عن حَالِهِ فَلَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ إذَا تَغَيَّرَ عن حَالِهِ فَقَدْ صَارَ شيئا آخَرَ فَكَانَ مُشْتَرِيًا شيئا لم يَرَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ
وَلَوْ اخْتَلَفَا في التَّغَيُّرِ وَعَدَمِهِ فقال الْبَائِعُ لم يَتَغَيَّرْ وقال الْمُشْتَرِي قد تَغَيَّرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّغَيُّرِ وَالتَّغَيُّرُ عَارِضٌ فَكَانَ الْبَائِعُ مُتَمَسِّكًا بِالْأَصْلِ وَالْمُشْتَرِي مُدَّعِيًا أَمْرًا عَارِضًا فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْبَائِعِ لَكِنْ مع يَمِينِهِ لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ أَمْرٌ يَجْرِي فيه الْبَدَلُ وَالْإِقْرَارُ فَيَجْرِي فيه الِاسْتِحْلَافُ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِدَعْوَى التَّغَيُّرِ يَدَّعِي حَقَّ الرَّدِّ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ
وَلَوْ اخْتَلَفَا فقال الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي رَأَيْته وَقْتَ الشِّرَاءِ وقال الْمُشْتَرِي لم أَرَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ أَصْلٌ وَالرُّؤْيَةَ عَارِضٌ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُشْتَرِي فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ
وَلِأَنَّ الْبَائِعَ بِدَعْوَى الرُّؤْيَةِ يَدَّعِي عليه إلْزَامَ الْعَقْدِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
وَلَوْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ فَاخْتَلَفَا فقال الْبَائِعُ ليس هذا الذي بِعْتُك وقال الْمُشْتَرِي هو ذَاكَ بِعَيْنِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَنَّهُ بِعَيْنِهِ وَكَذَلِكَ هذا في خِيَارِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ فإن الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ في خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ بِقَوْلِهِ هذا مَالُك لَا يَدَّعِي ثُبُوتَ حَقِّ الرَّدِّ عليه لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ ثَابِتٌ له حتى يَرُدَّ عليه من غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا وَلَكِنَّهُ يَدَّعِي أَنَّ هذا الذي قَبَضَهُ منه فَكَانَ اخْتِلَافُهُمَا في الْحَقِيقَةِ رَاجِعًا إلَى الْمَقْبُوضِ وَالِاخْتِلَافُ مَتَى وَقَعَ في تَعْيِينِ نَفْسِ الْمَقْبُوضِ فإن الْقَوْلَ فيه قَوْلُ الْقَابِضِ
وَإِنْ كان قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ كَقَبْضِ الْغَصْبِ فَفِي الْقَبْضِ الْحَقُّ أَوْلَى بِخِلَافِ الْعَيْبِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَنْفَرِدُ بِالرَّدِّ في خِيَارِ الْعَيْبِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرَّدَّ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو التَّرَاضِي فَكَانَ هو بِقَوْلِهِ هذا مَالُك بِعَيْنِهِ مُدَّعِيًا حَقَّ الرَّدِّ في هذا الْمُعَيَّنِ وَالْبَائِعُ يُنْكَرُ ثُبُوتَ حَقِّ الرَّدِّ فيه فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
هذا إذَا كان الْمُشْتَرِي بَصِيرًا فَأَمَّا إذَا كان أَعْمَى فَشَرْطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ له عَدَمُ الجس ( ( ( الحبس ) ) ) فِيمَا يجس ( ( ( يحبس ) ) ) وَالذَّوْقُ فِيمَا يُذَاقُ وَالشَّمُّ فِيمَا يُشَمُّ وَالْوَصْفُ فِيمَا يُوصَفُ وَقْتَ الشِّرَاءِ لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ في حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الرُّؤْيَةِ في حَقِّ الْبَصِيرِ فَكَانَ انْعِدَامُهَا شَرْطًا لِثُبُوتِ الْخِيَارِ له فَإِنْ وُجِدَ شَيْءٌ منه وَقْتَ الشِّرَاءِ فَاشْتَرَاهُ فَلَا خِيَارَ له
وَكَذَا إذَا وُجِدَتْ قبل الْقَبْضِ ثُمَّ قَبَضَ فَلَا خِيَارَ له لِأَنَّ وُجُودَ شَيْءٍ من ذلك عِنْدَ الْقَبْضِ في حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ وُجُودِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ كَالرُّؤْيَةِ في حَقِّ الْبَصِيرِ بِأَنْ رَآهُ قبل الْقَبْضِ ثُمَّ قَبَضَهُ لِأَنَّ كُلَّ ذلك دَلَالَةُ الرِّضَا بِلُزُومِ الْعَقْدِ على ما نَذْكُرهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
هذا الذي ذَكَرْنَا إذَا رَأَى الْمُشْتَرِي كُلَّ الْمَبِيعِ وَقْتَ الشِّرَاءِ
فَأَمَّا إذَا رَأَى بَعْضَهُ دُونَ الْبَعْضِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في جِنْسِ هذه الْمَسَائِلِ أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ شيئا وَاحِدًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَشْيَاءَ فَإِنْ كان شيئا وَاحِدًا فَرَأَى بَعْضَهُ لَا يَخْلُو إمَّا أن كان ما رَآهُ منه مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ وما لم يَرَهُ منه تَبَعًا
وَإِمَّا إنْ كان كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ فَإِنْ كان ما لم يَرَهُ تَبَعًا لِمَا رَآهُ فَلَا خِيَارَ له سَوَاءٌ كان رُؤْيَةُ ما رَآهُ تُفِيدُ له الْعِلْمَ بِحَالِ ما لم يَرَهُ أو لَا تُفِيدُ لِأَنَّ حُكْمَ التَّبَعِ حُكْمُ الْأَصْلِ فَكَانَ رُؤْيَةُ الْأَصْلِ رُؤْيَةَ التَّبَعِ وَإِنْ كان مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ يُنْظَرُ في ذلك إنْ كان رُؤْيَةُ ما رَأَى تُفِيدُ له الْعِلْمَ بِحَالِ ما لم يَرَهُ فَلَا خِيَارَ له لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْعِلْمُ بِحَالِ الْبَاقِي فَكَأَنَّهُ رَأَى الْكُلَّ وَإِنْ كان لَا يُفِيدُ له الْعِلْمَ بِحَالِ الْبَاقِي فَلَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لم يَحْصُلْ بِرُؤْيَةِ ما رَأَى فَكَأَنَّهُ لم يَرَ شيئا منه أَصْلًا
فَعَلَى هذا الْأَصْلِ تُخَرَّجُ الْمَسَائِلُ
إذَا اشْتَرَى عَبْدًا أو جَارِيَةً فَرَأَى وَجْهَهُ دُونَ سَائِرِ أَعْضَائِهِ لَا خِيَارَ له وَإِنْ كانت رُؤْيَةُ الْوَجْهِ لَا تقيد ( ( ( تفيد ) ) ) له الْعِلْمَ بِمَا وَرَاءَهُ لِأَنَّ الْوَجْهَ أَصْلٌ في الرُّؤْيَةِ في بَنِي آدَمَ وَسَائِرُ الْأَعْضَاءِ تَبَعٌ له فيها
وَلَوْ رَأَى سَائِرَ أَعْضَائِهِ دُونَ الْوَجْهِ فَلَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ رُؤْيَةَ التَّبَعِ لَا تَكُونُ رُؤْيَةَ الْأَصْلِ فَكَأَنَّهُ لم يَرَ شيئا منه
وَلَوْ اشْتَرَى فَرَسًا أو بَغْلًا أو حِمَارًا أو نحو ذلك فَرَأَى وَجْهَهُ لَا غَيْرُ رَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَسْقُطُ خِيَارُهُ وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّقِيقِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ له الْخِيَارَ ما لم يَرَ وَجْهَهُ وَمُؤَخَّرَهُ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْوَجْهَ وَالْكَفَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُضْوٌ مَقْصُودٌ في الرُّؤْيَةِ في هذا الْجِنْسِ فما لم يَرَهُمَا فَهُوَ على خِيَارِهِ
وَإِنْ اشْتَرَى شَاةً فَإِنْ كانت نَعْجَةً حَلُوبًا اشْتَرَاهَا لِلْقُنْيَةِ أو اشْتَرَى بَقَرَةً حَلُوبًا أو نَاقَةً حَلُوبًا اشْتَرَاهَا لِلْقُنْيَةِ لَا بُدَّ من النَّظَرِ إلَى ضَرْعِهَا وَإِنْ اشْتَرَى شَاةً لِلَّحْمِ لَا بُدَّ من الْجَسِّ حتى لو رَآهَا من بَعِيدٍ فَهُوَ على خِيَارِهِ لِأَنَّ اللَّحْمَ مَقْصُودٌ من شَاةِ اللَّحْمِ وَالضَّرْعَ مَقْصُودٌ من الْحَلُوبِ وَالرُّؤْيَةُ من بَعِيدٍ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِهَذَيْنِ الْمَقْصُودَيْنِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْبُسُطُ فَإِنْ كان مِمَّا يَخْتَلِفُ وَجْهُهُ وَظَهْرُهُ فَرَأَى وَجْهَهُ دُونَ ظَهْرِهِ كَالْمَغَافِرِ وَنَحْوِهَا لَا خِيَارَ له وَإِنْ رَأَى الظَّهْرَ دُونَ الْوَجْهِ فَلَهُ الْخِيَارُ كَذَا
____________________

(5/293)


رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ
وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَاحِدًا فَرَأَى ظَاهِرَهُ مَطْوِيًّا ولم يَنْشُرْهُ فَإِنْ كان سَاذَجًا ليس بِمُنَقَّشٍ وَلَا بِذِي عَلَمٍ فَلَا خِيَارَ له لِأَنَّ رُؤْيَةَ ظَاهِرِهِ مَطْوِيًّا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْبَاقِي وَإِنْ كان مُنَقَّشًا فَهُوَ على خِيَارِهِ ما لم يَنْشُرْهُ وَيَرَى نَقْشَهُ لِأَنَّ النَّقْشَ في الثَّوْبِ الْمُنَقَّشِ مَقْصُودٌ وَإِنْ لم يَكُنْ مُنَقَّشًا وَلَكِنَّهُ ذُو عَلَمٍ فَرَأَى عَلَمَهُ فَلَا خِيَارَ له وَإِنْ لم يَرَ كُلَّهُ وَلَوْ رَأَى كُلَّهُ إلَّا عَلَمَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ الْعَلَمَ في الثَّوْبِ الْمُعْلَمِ مَقْصُودٌ كَالنَّقْشِ في الْمُنَقَّشِ
وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا فَرَأَى خَارِجَهَا أو بُسْتَانًا فَرَأَى خَارِجَهُ ورؤوس ( ( ( ورءوس ) ) ) الْأَشْجَارِ فَلَا خِيَارَ له كَذَا ذُكِرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الدَّارَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَكَذَا الْبُسْتَانُ فَكَانَ رُؤْيَةُ الْبَعْضِ رُؤْيَةَ الْكُلِّ إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا قالوا إنَّ هذا مُؤَوَّلٌ وَتَأْوِيلُهُ أَنْ لَا يَكُونَ في دَاخِلِ الدَّارِ بُيُوتٌ وَأَبْنِيَةٌ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِرُؤْيَةِ الْخَارِجِ فَأَمَّا إذَا كان دَاخِلَهَا أَبْنِيَةٌ فَلَهُ الْخِيَارُ ما لم يَرَ دَاخِلَهَا لِأَنَّ الدَّاخِلَ هو الْمَقْصُودُ من الدَّارِ وَالْخَارِجُ كَالتَّابِعِ له بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ الْمُعَلَّمِ إذَا رَأَى كُلَّهُ إلَّا عَلَمَهُ كان له الْخِيَارُ لِأَنَّ الْعِلْمَ هو الْمَقْصُودُ منه
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَجَابَ على عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ في زَمَنِهِ فإن دُورَهُمْ في زَمَنِهِ كانت لَا تَخْتَلِفُ في الْبِنَاءِ وَكَانَتْ على تَقْطِيعٍ وَاحِدٍ وَهَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنَّمَا كانت تَخْتَلِفُ في الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالْعِلْمُ بِهِ يَحْصُلُ بِرُؤْيَةِ الْخَارِجِ وَأَمَّا الْآنَ فَلَا بُدَّ من رُؤْيَةِ دَاخِلِ الدَّارِ وهو الصَّحِيحُ لِاخْتِلَافِ الْأَبْنِيَةِ في دَاخِلِ الدُّورِ في زَمَانِنَا اخْتِلَافًا فَاحِشًا فَرُؤْيَةُ الْخَارِجِ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالدَّاخِلِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
هذا إذَا كان المشتري شيئا وَاحِدًا فَرَأَى بَعْضَهُ فَأَمَّا إنْ كان أَشْيَاءَ فَرَأَى وَقْتَ الشِّرَاءِ بَعْضَهَا دُونَ الْبَعْضِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كان من الْمَكِيلَاتِ أو الْمَوْزُونَاتِ فَرَأَى بَعْضَهَا وَقْتَ الشِّرَاءِ فَإِنْ كان في وِعَاءٍ وَاحِدٍ فَلَا خِيَارَ له لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ فيها تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْبَاقِي فَكَانَ رُؤْيَةُ الْبَعْضِ كَرُؤْيَةِ الْكُلِّ إلَّا إذَا وَجَدَ الْبَاقِي بِخِلَافِ ما رآى فَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ لَكِنْ خِيَارُ الْعَيْبِ لَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَإِنْ كان في وِعَاءَيْنِ فَإِنْ كان الْكُلُّ من جِنْسٍ وَاحِدٍ وَعَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال مَشَايِخُ بَلْخٍ له الْخِيَارُ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْوِعَاءَيْنِ جَعَلَهُمَا كَجِنْسَيْنِ وقال مَشَايِخُ الْعِرَاقِ لَا خِيَارَ له وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ من هذا الْجِنْسِ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْبَاقِي سَوَاءٌ كان في وِعَاءٍ وَاحِدٍ أو في وِعَاءَيْنِ بَعْدَ إن كان الْكُلُّ من جِنْسٍ وَاحِدٍ وَعَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ كان من جِنْسَيْنِ أو من جِنْسٍ وَاحِدٍ على صِفَتَيْنِ فَلَهُ الْخِيَارُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ من جِنْسٍ وَعَلَى وَصْفٍ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِجِنْسٍ آخَرَ وَعَلَى وَصْفٍ آخَرَ وَإِنْ كان من الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ كَالْعَبِيدِ وَالدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ بِأَنْ اشْتَرَى جَمَاعَةَ عَبِيدٍ أو جواري ( ( ( جوار ) ) ) أو إبِلٍ أو بَقَرٍ أو قَطِيعَ غَنَمٍ أو جِرَابٍ هَرَوِيٌّ فَرَأَى بَعْضَهَا أو كُلَّهَا إلَّا وَاحِدًا فَلَهُ الْخِيَارُ بين أَنْ يَرُدَّ الْكُلَّ أو يُمْسِكَ الْكُلَّ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ من هذا الْجِنْسِ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِمَا وَرَاءَهُ فَكَأَنَّهُ لم يَرَ شيئا منه بِخِلَافِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ منه تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْبَاقِي
وَلَوْ اشْتَرَى جَمَاعَةَ ثِيَابٍ في جِرَابٍ وَرَأَى أَطْرَافَ الْكُلِّ أو طَيَّ الْكُلِّ لَا خِيَارَ له إلَّا إذَا كانت مُعْلَمَةً أو مُنَقَّشَةً لِأَنَّهَا إذَا لم تَكُنْ مُعْلَمَةً أو مُنَقَّشَةً لم ( ( ( ولم ) ) ) يَكُنْ الْبَعْضُ من كل وَاحِدٍ منها مَقْصُودًا وَالْبَعْضُ تَبَعًا وَرُؤْيَةُ الْبَعْضِ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِحَالِ الْبَاقِي فَكَانَ رُؤْيَةُ الْبَعْضِ رُؤْيَةَ الْكُلِّ كما إذَا اشْتَرَى الْبِطِّيخَ في السريجة وَالرُّمَّانَ في الْقُفَّةِ فَرَأَى الْبَعْضَ فَلَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ الْبَعْضَ منها ليس تَبَعًا لِلْبَعْضِ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ منها مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ فَرُؤْيَةُ الْبَعْضِ منها لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْبَاقِي لِكَوْنِهَا مُتَفَاوِتَةً تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَكَانَ له الْخِيَارُ
وَإِنْ كان من الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ فَرَأَى الْبَعْضَ منها ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ له الْخِيَارُ وَأَلْحَقَهُ بِالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ لِاخْتِلَافِهَا في الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ كَالْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ
وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ الإسبيجاني ( ( ( الإسبيجابي ) ) ) رَحِمَهُ اللَّهُ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا خِيَارَ له وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بين صَغِيرِ الْبَيْضِ وَالْجَوْزِ وَكَبِيرِهِمَا مُتَقَارِبٌ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ عُرْفًا وَعَادَةً وَشَرْعًا وَلِهَذَا أُلْحِقَ بِالْعَدَمِ في السَّلَمِ حتى جَازَ السَّلَمُ فيها عَدَدًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ فَكَانَ رُؤْيَةُ بَعْضِهِ مُعَرِّفًا حَالَ الْبَاقِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ على ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَيُفَرَّقُ بين هذا وَبَيْنَ السَّلَمِ وهو أَنَّ الْبَيْضَ وَالْجَوْزَ مِمَّا يَتَفَاوَتُ في الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ حَقِيقَةً
وَالْأَصْلُ في الْحَقَائِقِ اعْتِبَارُهَا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَهْدَرَ هذا التَّفَاوُتَ وَأَلْحَقَهُ بِالْعَدَمِ في السَّلَمِ لِحَاجَةِ الناس وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِهْدَارِ في إسْقَاطِ الْخِيَارِ فَبَقِيَ التَّفَاوُتُ فيه مُعْتَبَرًا فَرُؤْيَةُ الْبَعْضِ لَا تُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ وهو الْعِلْمُ بِحَالِ الْبَاقِي فَبَقِيَ الْخِيَارُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ اشْتَرَى دُهْنًا في قَارُورَةٍ فَرَأَى خَارِجَ الْقَارُورَةِ فَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ رَوَى ابن سِمَاعَةَ عنه أَنَّهُ
____________________

(5/294)


لَا خِيَارَ له لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ من الْخَارِجِ تفيد ( ( ( تقيد ) ) ) الْعِلْمَ بِالدَّاخِلِ فَكَأَنَّهُ رَآهُ وهو خَارِجٌ وَرُوِيَ عنه أَنَّ له الْخِيَارَ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَا في دَاخِلِ الْقَارُورَةِ لَا يَحْصُلُ بِالرُّؤْيَةِ من خَارِجِ الْقَارُورَةِ لِأَنَّ ما في الدَّاخِلِ يَتَلَوَّنُ بِلَوْنِ الْقَارُورَةِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ من هذه الرُّؤْيَةِ
وَقَالُوا في الْمُشْتَرِي إذَا رَأَى الْمَبِيعَ في الْمِرْآةِ أن له الْخِيَارَ وَكَذَا في الْمَاءِ وَقَالُوا لِأَنَّهُ لم يَرَ عَيْنَهُ وَإِنَّمَا رَأَى مِثَالَهُ
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ رَأَى عَيْنَ الْمَبِيعِ لَا أن غير الْمَبِيعِ في الْمِرْآةِ وَالْمَاءِ بَلْ يَرَاهُ حَيْثُ هو لَكِنْ لَا على الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فيه الرُّؤْيَةُ وَهَذَا ليس بِبَعِيدٍ لِأَنَّ الْمُقَابَلَةَ لَيْسَتْ من شَرْطِ الرُّؤْيَةِ فَإِنَّا نَرَى اللَّهَ تَعَالَى عز شَأْنُهُ بِلَا مُقَابَلَةٍ وَلَكِنْ قد لَا يَحْصُلُ له الْعِلْمُ بِهَيْئَتِهِ لِتَفَاوُتِ الْمِرْآةِ فَيَعْلَمُ بِأَصْلِهِ لَا بِهَيْئَتِهِ فَلِذَلِكَ يَثْبُتُ له الْخِيَارُ لَا لِمَا قالوا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ على أَنَّ في الْعُرْفِ لَا يَشْتَرِي الْإِنْسَانُ شيئا لم يَرَهُ لِيَرَاهُ في المرأة أو في الْمَاءِ لِيَحْصُلَ له الْعِلْمُ بهذا الطَّرِيقِ فَلَا تَكُونُ رُؤْيَتُهُ في الْمِرْآةِ وَإِنْ رَأَى عَيْنَهُ مُسْقِطَةً لِلْخِيَارِ
وَعَلَى هذا قالوا فِيمَنْ رَأَى فَرْجَ أُمِّ امْرَأَتِهِ في الْمَاءِ أو في الْمِرْآةِ فَنَظَرَ إلَيْهِ بِشَهْوَةٍ لَا تَثْبُتُ له حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ وَكَذَا لَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا لِلْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ اشْتَرَى سَمَكًا في دَائِرَةٍ يُمْكِنُ أَخْذُهُ من غَيْرِ اصْطِيَادٍ وَحِيلَةٍ حتى جَازَ الْبَيْعُ فَرَآهُ في الْمَاءِ ثُمَّ أَخَذَهُ قال بَعْضُهُمْ لَا خِيَارَ له لِأَنَّهُ رَأَى عَيْنَ السَّمَكِ في الْمَاءِ وقال بَعْضُهُمْ له الْخِيَارُ لِأَنَّ ما رَآهُ كما هو لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُرَى في الْمَاءِ كما هو بَلْ يُرَى أَكْثَرَ مِمَّا هو فلم يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الرُّؤْيَةِ وهو مَعْرِفَتُهُ كما هو فَلَهُ الْخِيَارُ
وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ فَوَقْتُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ هو وَقْتُ الرُّؤْيَةِ لَا قَبْلَهَا حتى لو أَجَازَ قبل الرُّؤْيَةِ وَرَضِيَ بِهِ صَرِيحًا بِأَنْ قال أَجَزْتُ أو رَضِيتُ أو ما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى ثُمَّ رَآهُ له أَنْ يَرُدَّهُ لِمَا رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ أَثْبَتَ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي بَعْدَ الرُّؤْيَةِ فَلَوْ ثَبَتَ له خِيَارُ الْإِجَازَةِ قبل الرُّؤْيَة وَأَجَازَ لم يَثْبُتْ له الْخِيَارُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه قبل الرُّؤْيَةِ مَجْهُولُ الْوَصْفِ وَالرِّضَا بِالشَّيْءِ قبل الْعِلْمِ بِهِ وَالْعِلْمُ بِوُجُودِ سَبَبِهِ مُحَالٌ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ
وَأَمَّا الْفَسْخُ قبل الرُّؤْيَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا خِيَارَ قبل الرُّؤْيَةِ وَلِهَذَا لم تَجُزْ الْإِجَازَةُ فَلَا يَجُوزُ الْفَسْخُ وقال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ هذا عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ مَحَلَّ الْفَسْخِ كَالْعَقْدِ الذي فيه خِيَارُ الْعَيْبِ وَعَقْدِ الْإِعَارَةِ وَالْإِيدَاعِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِمْ إنَّهُ لَا خِيَارَ قبل الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ مِلْكَ الْفَسْخِ لم يَثْبُتْ حُكْمًا لِلْخِيَارِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمًا لِعَدَمِ لُزُومِ الْعَقْدِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ إنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ يَثْبُتُ مُطْلَقًا في جَمِيعِ الْعُمُرِ إلَى أَنْ يُوجَدَ ما يُبْطِلُهُ فَيَبْطُلُ حِينَئِذٍ وَإِلَّا فَيَبْقَى على حَالِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ بِإِمْكَانِ الْفَسْخِ وهو اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ هذا الْخِيَارِ هو اخْتِلَالُ الرِّضَا وَالْحُكْمُ يَبْقَى ما بَقِيَ سَبَبُهُ
وقال بَعْضُهُمْ إنَّهُ يَثْبُتُ مؤقتا إلَى غَايَةِ إمْكَانِ الْفَسْخِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ حتى لو رَآهُ وَأَمْكَنَهُ الْفَسْخُ ولم يَفْسَخْ يَسْقُطُ خِيَارُهُ وَإِنْ لم تُوجَدْ الْأَسْبَابُ الْمُسْقِطَةُ لِلْخِيَارِ على ما نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ من الْأَسْبَابِ الْمُسْقِطَةِ لِلْخِيَارِ الرِّضَا وَالْإِجَازَةَ وَالِامْتِنَاعُ من الْفَسْخِ بَعْدَ الْإِمْكَانِ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ وَالرِّضَا
وَاَللَّهُ سبحانه ( ( ( عز ) ) ) وتعالى ( ( ( وجل ) ) ) أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وما لَا يَسْقُطُ وَلَا يَلْزَمُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
ما يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ اخْتِيَارِيٌّ وَضَرُورِيٌّ وَالِاخْتِيَارِيُّ نَوْعَانِ صَرِيحٌ وما يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ ودلالة ( ( ( دلالة ) ) )
أَمَّا الصَّرِيحُ وما في مَعْنَاهُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ أَجَزْتُ الْبَيْعَ أو رَضِيتُ أو اخْتَرْتُ أو ما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى سَوَاءٌ عَلِمَ الْبَائِعُ بِالْإِجَازَةِ أو لم يَعْلَمْ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ هو اللُّزُومُ وَالِامْتِنَاعُ لِخَلَلٍ في الرِّضَا فإذا أَجَازَ وَرَضِيَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيَلْزَمُ وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ من الْمُشْتَرِي تَصَرُّفٌ في الْمَبِيعِ بَعْد الرُّؤْيَةِ يَدُلُّ على الْإِجَازَةِ وَالرِّضَا نَحْوُ ما إذَا قَبَضَهُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ الْقَبْضَ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ دَلِيلُ الرِّضَا بِلُزُومِ الْبَيْعِ لِأَنَّ لِلْقَبْضِ شَبَهًا بِالْعَقْدِ فَكَانَ الْقَبْضُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ كَالْعَقْدِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ وَذَاكَ دَلِيلُ الرِّضَا كَذَا هذا
وَسَوَاءٌ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ أو وَكِيلِهِ بِالْقَبْضِ بِأَنْ قَبَضَهُ الْوَكِيلُ وهو يَنْظُرُ إلَيْهِ وَكَانَتْ رُؤْيَتُهُ كَرُؤْيَةِ الْمُوَكِّلِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ مع رُؤْيَتِهِ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْقَبْضِ يَمْلِكُ إسْقَاطَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ
وَأَجْمَعُوا على أَنَّ الرَّسُولَ بِالْقَبْضِ لَا يَمْلِكُ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ يَمْلِكُ وَكَانَتْ رؤية الْمُوَكِّلِ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ الرَّسُولَ بِالشِّرَاءِ
____________________

(5/295)


لَا يَمْلِكُ وَلَا تَكُونُ رُؤْيَتُهُ رُؤْيَةَ الْمُرْسَلِ وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُرْسَلِ إذَا لم يَرَهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَكِيلَ مُتَصَرِّفٌ بِحُكْمِ الْأَمْرِ وَالْمُتَصَرِّفُ بِحُكْمِ الْأَمْرِ لَا يَتَعَدَّى إلَى مَوْرِدِ الْأَمْرِ وهو وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ لَا بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ خِيَارِ الْعَيْبِ وَلَا خِيَارِ الشَّرْطِ وَكَذَا الرَّسُولُ لَا يَمْلِكُ فَكَذَا الْوَكِيلُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ لَكِنْ بِقَبْضٍ تَامٍّ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالشَّيْءِ وَكِيلٌ بِإِتْمَامِ ذلك الشَّيْءِ وَلِهَذَا كان الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ وَكِيلًا بِالْقَبْضِ وَتَمَامُ الْقَبْضِ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ التَّفْرِيقَ بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْبُوضٍ
وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِمَا أَنَّهُ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ لَا بِإِبْطَالِ الْخِيَارِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ عِنْدَهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ الْخِيَارِ مَقْصُودًا لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَا يَمْلِكُ ذلك فَكَيْفَ يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ وَإِنَّمَا يَبْطُلُ في ضِمْنِ الْقَبْضِ بِأَنَّ قَبْضَهُ وهو يَنْظُرُ إلَيْهِ حتى لو قَبَضَهُ مَسْتُورًا ثُمَّ أَرَادَ بُطْلَانَ الْخِيَارِ لَا يَمْلِكُهُ وَالشَّيْءُ قد يَثْبُتُ ضِمْنًا لِغَيْرِهِ وَإِنْ كان لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَعَزْلِ الْوَكِيلِ وَغَيْرِهِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّفْرِيقَ بَعْدَ الْقَبْضِ وَكَذَا الرَّدُّ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ لم يَكُنْ رَفْعًا لِلْعَقْدِ من الْأَصْلِ بِخِلَافِ الرَّدِّ قبل الْقَبْضِ وَبِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لِلِاخْتِبَارِ وَالْقَبْضُ وَسِيلَةٌ إلَى الِاخْتِبَارِ فلم يَصْلُحْ الْقَبْضُ دَلِيلَ الرِّضَا وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِخَلَلٍ في الرِّضَا وَالْقَبْضُ مع الرُّؤْيَةِ دَلِيلُ الرِّضَا على الْكَمَالِ فَأَوْجَبَ بُطْلَانَ الْخِيَارِ وَبِخِلَافِ الرَّسُولِ بِالْقَبْضِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ في الْقَبْضِ عن الْمُرْسَلِ فَكَانَ قَبْضُهُ قَبْضَ الْمُرْسَلِ فَكَانَ إتْمَامُ الْقَبْضِ إلَى الْمُرْسَلِ
وَأَمَّا الْوَكِيلُ فَأَصْلٌ في نَفْسِ الْقَبْضِ وَإِنَّمَا الْوَاقِعُ لِلْمُوَكِّلِ حُكْمُ فِعْلِهِ فَكَانَ الْإِتْمَامُ إلَى الْوَكِيلِ وَكَذَا إذَا تَصَرَّفَ فيه تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ بِأَنْ كان ثَوْبًا فقط ( ( ( فقطعه ) ) ) أو صَبَغَهُ أَحْمَرَ أو أَصْفَرَ أو سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ أو عَسَلٍ أو أَرْضًا فَبَنَى عليها أو غَرَسَ أو زَرَعَ أو جَارِيَةً فَوَطِئَهَا أو لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ أو نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا عن شَهْوَةٍ أو دَابَّةً فَرَكِبَهَا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ وَنَحْوَ ذلك لِأَنَّ الْإِقْدَامَ على هذه التَّصَرُّفَاتِ دَلَالَةُ الْإِجَازَةِ وَالرِّضَا بِلُزُومِ الْبَيْعِ وَالْمِلْكِ بِهِ إذْ لو لم يَكُنْ بِهِ وَفَسَخَ الْبَيْعَ لَتَبَيَّنَ أَنَّهُ تَصَرَّفَ في مِلْكِ الْغَيْرِ من كل وَجْهٍ أو من وَجْهٍ وَأَنَّهُ حَرَامٌ فَجُعِلَ ذلك إجَازَةً منه صِيَانَةً له عن ارْتِكَابِ الْحَرَامِ
وَكَذَا إذَا عَرَضَهُ على الْبَيْعِ بَاعَ أو لم يَبِعْ لِأَنَّهُ لَمَّا عَرَضَهُ على الْبَيْعِ فَقَدْ قَصَدَ إثْبَاتَ الْمِلْكِ اللَّازِمِ لِلْمُشْتَرِي وَمِنْ ضَرُورَتِهِ لُزُومُ الْمِلْكِ له لِيُمْكِنَهُ إثْبَاتُهُ لِغَيْرِهِ وَلَوْ عَرَضَ بَعْضَهُ على الْبَيْعِ سَقَطَ خِيَارُهُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَسْقُطُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أبي يُوسُفَ لِأَنَّ سُقُوطَ الْخِيَارِ وَلُزُومَ الْبَيْعِ بِالْعَرْضِ لِكَوْنِ الْعَرْضِ دَلَالَةَ الْإِجَازَةِ وَالرِّضَا وَدَلَالَةَ الْإِجَازَةِ دُونَ صَرِيحِ الْإِجَازَةِ ثُمَّ لو صَرَّحَ بِالْإِجَازَةِ في الْبَعْضِ لم يَجُزْ ولم يَسْقُطْ خِيَارُهُ لِمَا فيه من تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ على الْبَائِعِ قبل التَّمَامِ فَلَأَنْ لَا يَسْقُطَ بِدَلَالَةِ الْإِجَازَةِ أَوْلَى
وَكَذَا لو وَهَبَهُ سَلَّمَ أو لم يُسَلِّمْ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْهِبَةِ لَا يَعُودُ إلَيْهِ إلَّا بِقَرِينَةِ الْقَضَاءِ أو الرِّضَا فَكَانَ الْإِقْدَامُ عليها دَلَالَةَ قَصْدِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ اللَّازِمِ فَيَقْتَضِي لُزُومَ الْمِلْكِ لِلْوَاهِبِ وَكَذَا إذَا رَهَنَهُ وسلم أو آجَرَهُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدٌ لَازِمٌ في نَفْسِهِ وَالثَّابِتُ بِهِمَا حَقٌّ لَازِمٌ لِلْغَيْرِ
وَكَذَا إذَا كَاتَبَهُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ في جَانِبِ الْمُكَاتِبِ وَالثَّابِتُ بها حَقٌّ لَازِمٌ في حَقِّهِ وَكَذَا إذَا بَاعَهُ أو وَهَبَهُ وسلم
وَكَذَا إذَا أَعْتَقَهُ أو دَبَّرَهُ أو اسْتَوْلَدَهُ لِأَنَّ هذه تَصَرُّفَاتٌ لَازِمَةٌ وَالثَّابِتُ بها مِلْكٌ لَازِمٌ أو حَقٌّ لَازِمٌ فَالْإِقْدَامُ عليها يَكُونُ إجَازَةً وَالْتِزَامًا لِلْعَقْدِ دَلَالَةً
وَلَوْ بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ في رِوَايَةٍ وفي رِوَايَةٍ يَسْقُطُ وَهِيَ الصَّحِيحَةُ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَا يَكُونُ أَدْنَى من الْعَرْضِ على الْبَيْعِ بَلْ فَوْقَهُ ثُمَّ الْعَرْضُ على الْبَيْعِ يُسْقِطُ الْخِيَارَ فَهَذَا أَوْلَى
وَكَذَا لو أَخْرَجَ بَعْضَهُ عن مِلْكِهِ يَسْقُطُ خِيَارُهُ عن الْبَاقِي وَلَزِمَ الْبَيْعُ فيه لِأَنَّ رَدَّ الْبَاقِي تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ على الْبَائِعِ قبل التَّمَامِ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ تَمَامَ الرِّضَا
وَكَذَا إذَا اُنْتُقِصَ الْمَعْقُودُ عليه بِفِعْلِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الضَّرُورِيُّ فَهُوَ كُلُّ ما يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ وَيُلْزِمُ الْبَيْعَ من غَيْرِ صُنْعِهِ نَحْوُ مَوْتِ الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْمَسْأَلَةُ قد مَرَّتْ في خِيَارِ الشَّرْطِ وَكَذَا إجَازَةُ أَحَدِ الشركين ( ( ( الشريكين ) ) ) فِيمَا اشْتَرَيَاهُ ولم يَرَيَاهُ دُونَ صَاحِبِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في خِيَارِ الْعَيْبِ
وَكَذَا إذَا هَلَكَ بَعْضُهُ أو اُنْتُقِصَ بِأَنْ تَعَيَّبَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أو بِفِعْلِ الْبَائِعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أو ازداد ( ( ( زاد ) ) ) في يَدِ الْمُشْتَرِي زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً أو مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً
____________________

(5/296)


أو غير مُتَوَلِّدَةٍ على التَّفْصِيلِ وَالِاتِّفَاقُ وَالِاخْتِلَافُ الذي ذَكَرْنَا في خِيَارِ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ ما يُبْطِلُ خِيَارَ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ يُبْطِلُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ إلَّا أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ لَا يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ لَا قبل الرُّؤْيَةِ وَلَا بَعْدَهَا
أَمَّا قَبْلَهَا فَلِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ قبل الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ أَوَانَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ هو أَوَانُ الرُّؤْيَةِ فَقَبْلَ الرُّؤْيَةِ لَا خِيَارَ وَإِسْقَاطُ الشَّيْءِ قبل ثُبُوتِهِ وَثُبُوتِ سَبَبِهِ مُحَالٌ وَأَمَّا بَعْدَ الرُّؤْيَةِ فَلِأَنَّ الْخِيَارَ ما ثَبَتَ بِاشْتِرَاطِ الْعَاقِدَيْنِ لِأَنَّ رُكْنَ الْعَقْدِ مُطْلَقٌ عن الشَّرْطِ نَصًّا وَدَلَالَةً وَإِنَّمَا يَثْبُتُ شَرْعًا لحكمة فيه فَكَانَ ثَابِتًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى
وَأَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ فَثَبَتَ بِاشْتِرَاطِ الْعَاقِدَيْنِ أَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عليه في الْعَقْدِ
وَأَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ فَلِأَنَّ السَّلَامَةَ مَشْرُوطَةٌ في الْعَقْدِ دَلَالَةً وَالثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ كَالثَّابِتِ بِصَرِيحِ النَّصِّ فَكَانَ ثَابِتًا حَقًّا لِلْعَبْدِ وما ثَبَتَ حَقًّا لِلْعَبْدِ يُحْتَمَلُ السُّقُوطُ بِإِسْقَاطِهِ مَقْصُودًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في حَقِّ نَفْسِهِ مَقْصُودًا اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا
فَأَمَّا ما ثَبَتَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيه إسْقَاطًا مَقْصُودًا لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في حَقِّ غَيْرِهِ مَقْصُودًا لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ بِأَنْ يَتَصَرَّفَ في حَقِّ نَفْسِهِ مَقْصُودًا وَيَتَضَمَّنُ ذلك سُقُوطَ حَقِّ الشَّرْعِ فَيَسْقُطُ حَقُّ الشَّرْعِ في ضِمْنِ التَّصَرُّفِ في حَقِّ نَفْسِهِ كما إذَا أَجَازَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ وَرَضِيَ بِهِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ نَصًّا أو دَلَالَةً بِمُبَاشَرَةِ تَصَرُّفٍ يَدُلُّ على الرِّضَا وَالْإِجَازَةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ ثَبَتَ حَقًّا لِلشَّرْعِ لَكِنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَهُ نَظَرًا لِلْعَبْدِ حتى إذَا رَآهُ وَصَلَحَ له أَجَازَهُ وَإِنْ لم يَصْلُحْ له رَدَّهُ إذْ الْخِيَارُ هو التَّخْيِيرُ بين الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ فَكَانَ الْمُشْتَرِي بِالْإِجَازَةِ وَالرِّضَا مُتَصَرِّفًا في حَقِّ نَفْسِهِ مَقْصُودًا
ثُمَّ من ضَرُورَةِ الْإِجَازَةِ لُزُومُ الْعَقْدِ وَمِنْ ضَرُورَةِ لُزُومِ الْعَقْدِ سُقُوطُ الْخِيَارِ فَكَانَ سُقُوطُ الْخِيَارِ من طَرِيقِ الضَّرُورَةِ لَا بِالْإِسْقَاطِ مَقْصُودًا وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الشَّيْءُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ
وَإِنْ كان لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا عَزَلَهُ الْمُوَكِّلُ ولم يَعْلَمْ بِهِ فإنه لَا يَنْعَزِلُ وَلَوْ بَاعَ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ
كَذَا هُنَا
وَلَوْ بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ قبل الرُّؤْيَةِ أو عَرَضَهُ على الْبَيْعِ أو وَهَبَهُ ولم يُسَلِّمْ أو كان لِلْمُشْتَرِي دَارًا فَبِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ على خِيَارِهِ لِأَنَّ هذه التَّصَرُّفَاتِ دَلَالَةُ الرِّضَا وَهَذَا الْخِيَارُ قبل الرُّؤْيَةِ لَا يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الرِّضَا فَبِدَلَالَةِ الرِّضَا أَوْلَى أَنْ لَا يَسْقُطَ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ بِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ بِأَنْ أَعْتَقَ أو دَبَّرَ أو بَاعَ أو آجَرَ أو رَهَنَ وسلم
أَمَّا الْإِعْتَاقُ وَالتَّدْبِيرُ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقَعَ صَحِيحًا لِمُصَادَفَتِهِ مَحَلًّا مَمْلُوكًا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَصَرُّفٌ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَالْفَسْخَ فَتَعَذَّرَ فَسْخُ الْبَيْعِ لِتَعَذُّرِ فَسْخِهِمَا
وَأَمَّا الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالرَّهْنُ فَلِأَنَّهَا تَصَرُّفَاتٌ لَازِمَةٌ أَوْجَبَ بها مِلْكًا لَازِمًا أو حَقًّا لَازِمًا لِلْغَيْرِ على وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ فَتَعَذَّرَ الْفَسْخُ وَتَعَذُّرُ فَسْخِ الْعَقْدِ يُوجِبُ لُزُومَهُ لِأَنَّ الْفَسْخَ إذَا تَعَذَّرَ لم يَكُنْ في بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً
وَلَوْ بَاعَ أو رَهَنَ أو آجَرَ ثُمَّ رُدَّ عليه بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو أفتك الرَّهْنَ أو انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ لَا يَعُودُ الْخِيَارُ
كَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ بعدما سَقَطَ لَا يَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ وَعَلَى هذا إذَا كَاتَبَهُ أو وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ أو بَاعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي قبل الرُّؤْيَةِ يَلْزَمُ الْبَيْعُ لِأَنَّ هذه عُقُودٌ لَازِمَةٌ أَوْجَبَتْ حُقُوقًا لَازِمَةً
أَمَّا الْكِتَابَةُ فَلِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ في حَقِّ الْمُكَاتِبِ حتى لَا يَمْلِكَ الْفَسْخَ من غَيْرِ رِضَا الْمُكَاتَبِ وَكَذَا الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ لَازِمٌ في جَانِبِ الْبَائِعِ
وَأَمَّا الْهِبَةُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بها مِلْكٌ لَا يُحْتَمَلُ الْعَوْدُ إلَيْهِ إلَّا بِقَضَاءٍ أو رِضًا فَكَانَ في مَعْنَى اللازم ( ( ( اللزوم ) ) ) وإذا تَعَذَّرَ الْفَسْخُ بِسَبَبِ هذه التَّصَرُّفَاتِ وَتَعَذُّرُ الْفَسْخِ يُوجِبُ اللُّزُومَ وَيُسْقِطُ الْخِيَارَ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْفَائِدَةِ
بِخِلَافِ ما إذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ ليس بِتَصَرُّفٍ لَازِمٍ في حَقِّهِ وَكَذَا الْهِبَةُ من غَيْرِ تَسْلِيمٍ وَالْعَرْضُ على الْبَيْعِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من سُقُوطِ الْخِيَارِ وَلُزُومِ الْبَيْعِ بِرِضَا الْمُشْتَرِي إذَا رَأَى كُلَّ الْمَبِيعِ فَرَضِيَ بِهِ
فَأَمَّا إذَا رَأَى بَعْضَهُ دُونَ بَعْضٍ فَهَلْ يَسْقُطُ خِيَارُهُ فَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ فيه على النَّحْو الذي ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا رَأَى بَعْضَ الْمَبِيعِ دُونَ بَعْضٍ وَقْتَ الشِّرَاءِ فَكُلُّ ما يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْخِيَارِ هُنَاكَ يَسْقُطُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ هَهُنَا وما لَا فَلَا وَفِيمَا وَرَاءَ ذلك لَا يَخْتَلِفَانِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَعَلَى ذلك يَخْرُجُ ما إذَا اشْتَرَى مُغَيَّبًا في الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَالْبَصَلِ وَالثُّومِ وَالسَّلْقِ وَالْفُجْلِ وَنَحْوِهَا من الْمُغَيَّبَاتِ في الْأَرْضِ فَقَلَعَ بَعْضَهُ وَرَضِيَ بِالْمَقْلُوعِ إنه لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ عِنْدَ
____________________

(5/297)


أبي حَنِيفَةَ حتى إنَّهُ إذَا قَلَعَ الْبَاقِي كان على خِيَارِهِ إنْ شَاءَ رَدَّ الكل وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ الْكُلَّ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إذَا قَلَعَ شيئا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ على الْبَاقِي في عظمة ورضى بِهِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ لَازِمٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنه إذَا قَلَعَ ما يُسْتَدَلُّ بِهِ على الْبَاقِي كان رُؤْيَةُ بَعْضِهِ كَرُؤْيَةِ كُلِّهِ فَكَأَنَّهُ قَلَعَ الْكُلَّ وَرَضِيَ بِهِ كما إذَا اشْتَرَى صُبْرَةً فَرَأَى ظَاهِرَهَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ هذه الْمُغَيَّبَاتِ مِمَّا تَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا فَرُؤْيَةُ الْبَعْضِ منها لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِحَالِ الْبَقِيَّةِ فَأَشْبَهَ الثِّيَابَ وَسَائِرَ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ
وَلَوْ قَطَعَ الْمُشْتَرِي الْكُلَّ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ سَقَطَ خِيَارُهُ لِأَنَّهُ نَقَّصَ الْمَعْقُودُ عليه بِالْقَلْعِ لِأَنَّهُ كان يَنْمُو في الْأَرْضِ وَيَزِيدُ وَلَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ وَبَعْدَ الْقَلْعِ لَا يَنْمُو وَيَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ وَانْتِقَاصُ الْمَعْقُودُ عليه في يَدِ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ صُنْعِهِ يُسْقِطُ الْخِيَارَ وَيُلْزِمُ الْبَيْعَ فَبِصُنْعِهِ أَوْلَى
وَكَذَا إذَا قَلَعَ بَعْضَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّهُ نَقَّصَ بَعْضَ الْمَبِيعِ وَانْتِقَاصُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِنَفْسِهِ يَمْنَعُ رَدَّ الْبَاقِي فَبِصُنْعِهِ أَوْلَى
وَإِنْ قَلَعَ كُلَّهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أو بَعْضَهُ أو قَلَعَ الْبَاقِي بِنَفْسِهِ لم يذكر الْكَرْخِيُّ هذا الْفَصْلَ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ الْجَوَابُ فيه على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ كما في الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي إذَا انْتَقَصَ الْمَبِيعُ بِفِعْلِ الْبَائِعِ إنه يَسْقُطُ خِيَارُ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُمَا وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وفي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَا يَسْقُطُ
وَرَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا قَلَعَ الْبَعْضَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أو قَلَعَ الْبَائِعُ بَعْضَهُ أَنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كان الْمُغَيَّبُ مِمَّا يُبَاعُ بِالْكَيْلِ أو الْوَزْنِ بَعْدَ الْقَلْعِ فَقَلَعَ قَدْرَ ما يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ أو الْوَزْنِ وَرَضِيَ بِهِ يَلْزَمُ الْبَيْعُ وَيَسْقُطُ خِيَارُهُ لِأَنَّ الرِّضَا بِبَعْضِ الْمَكِيلِ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ رِضًا بِالْكُلِّ لِأَنَّ رُؤْيَةَ بَعْضِهِ تُعَرِّفُ حَالَ الْبَاقِي إلَّا إذَا كان الْمَقْلُوعُ قَلِيلًا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ فَلَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ لِأَنَّ قَلْعَهُ وَالتَّرْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَأَنَّهُ لم يَقْلَعْ منه شيئا
وَإِنْ كان مِمَّا يُبَاعُ عَدَدًا كَالسَّلْقِ وَالْفُجْلِ وَنَحْوِهَا فَقَلَعَ بَعْضًا منه فَهُوَ على خِيَارِهِ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ منه لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِحَالِ الْبَاقِي لِلتَّفَاوُتِ الْفَاحِشِ بين الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ من هذا الْجِنْسِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِرُؤْيَةِ الْبَعْضِ فبقي ( ( ( فيبقى ) ) ) على خِيَارِهِ وقال أبو يُوسُفَ إذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي في الْقَلْعِ فقال الْمُشْتَرِي إنِّي أَخَافُ أن قَلَعْتُهُ لَا يَصْلُحُ لي وَلَا أَقْدِرُ على الرَّدِّ وقال الْبَائِعُ إنِّي أَخَافُ إنْ قطعته ( ( ( قلعته ) ) ) لَا تَرْضَى بِهِ فَمَنْ تَطَوَّعَ مِنْهُمَا بِالْقَلْعِ جَازَ وَإِنْ تَشَاحَّا على ذلك فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُمَا إذَا تَشَاحَّا فَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِجْبَارِ لِمَا في الْإِجْبَارِ من الْإِضْرَارِ فَتَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ فلم يَكُنْ في بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ فَيُفْسَخُ
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ هذا الذي ذَكَرْنَا بَيَانُ ما يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ في حَقِّ الْبَصِيرِ فَأَمَّا الْأَعْمَى إذَا اشْتَرَى شيئا وَثَبَتَ له الْخِيَارُ فإن خِيَارَهُ يَسْقُطُ بِمَا ذَكَرْنَا من الْأَسْبَابِ الْمُسْقِطَةِ لَكِنْ بعدما وُجِدَ منه ما يَقُومُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ وهو الْجَسُّ فِيمَا يُجَسُّ وَالذَّوْقُ فِيمَا يُذَاقُ وَالشَّمُّ فِيمَا يُشَمُّ وَالْوَصْفُ فِيمَا يُوصَفُ كَالدَّارِ وَالْعَقَارِ وَالثِّمَارِ على رؤوس الْأَشْجَارِ وَنَحْوِهَا إذَا كان الْمَوْصُوفُ على ما وُصِفَ وكان ذلك في حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الرُّؤْيَةِ في حَقِّ الْبَصِيرِ
وَرُوِيَ عن الْحَسَنِ بن زِيَادٍ أَنَّهُ قال يُوَكِّلُ بصير ( ( ( بصيرا ) ) ) بِالرُّؤْيَةِ وَتَكُونُ رُؤْيَةُ الْوَكِيلِ قَائِمَةً مَقَامَ رُؤْيَتِهِ
وَرَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَقُومُ من الْمَبِيعِ في مَوْضِعٍ لو كان بَصِيرًا لَرَآهُ ثُمَّ يُوصَفُ له لِأَنَّ هذا أَقْصَى ما يُمْكِنُ وَلَوْ وَصَفَ له فَرَضِيَ بِهِ ثُمَّ أَبْصَرَ لَا يَعُودُ الْخِيَارُ لِأَنَّ الْوَصْفَ في حَقِّهِ كَالْخَلْفِ عن الرُّؤْيَةِ لِعَجْزِهِ عن الْأَصْلِ وَالْقُدْرَةُ على الْأَصْلِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلْفِ لَا يُبْطِلُ حُكْمَ الْخَلْف كَمَنْ صلى بِطَهَارَةِ التَّيَمُّمِ ثُمَّ قَدَرَ على الْمَاءِ وَنَحْوِ ذلك
وَلَوْ اشْتَرَى الْبَصِيرُ شيئا لم يَرَهُ حتى ثَبَتَ له الْخِيَارُ ثُمَّ عَمِيَ فَهَذَا وَالْأَعْمَى عِنْدَ الشِّرَاءِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ له خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وهو أَعْمَى فَكَانَتْ رُؤْيَتُهُ رُؤْيَةَ الْعُمْيَانِ وَهِيَ ما ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ فَالْكَلَامُ في هذا الْفَصْلِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ وَالثَّانِي في بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْفَسْخِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فما يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ نَوْعَانِ اخْتِيَارِيُّ وَضَرُورِيٌّ فالاختيار ( ( ( فالاختياري ) ) ) هو أَنْ يَقُولَ فَسَخْتُ الْعَقْدَ أو نَقَضْتُهُ أو رَدَدْتُهُ وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى وَالضَّرُورِيُّ أَنْ يَهْلِكَ الْمَبِيعُ قبل الْقَبْضِ
وَأَمَّا شَرَائِطُ صِحَّتِهِ فَمِنْهَا قِيَامُ الْخِيَارِ لِأَنَّ الْخِيَارَ إذَا سَقَطَ لَزِمَ الْعَقْدُ وَالْعَقْدُ اللَّازِمُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَتَضَمَّنُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ على الْبَائِعِ وَإِنْ تَضَمَّنَ بِأَنْ رَدَّ بَعْضَ الْمَبِيعِ دُونَ الْبَعْضِ لم يَصِحَّ وَكَذَا إذَا رَدَّ الْبَعْضَ وَأَجَازَ الْبَيْعَ في الْبَعْضِ لم يَجُزْ سَوَاءٌ كان قبل قَبْضِ الْمَعْقُودِ عليه أو بَعْدَهُ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ فَكَانَ هذا تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ
____________________

(5/298)


على الْبَائِعِ قبل تَمَامِهَا وإنه بَاطِلٌ
وَمِنْهَا عِلْمُ الْبَائِعِ بِالْفَسْخِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ ليس بِشَرْطٍ وقد ذَكَرْنَا دَلَائِلَ الْمَسْأَلَةِ في خِيَارِ الشَّرْطِ
وَأَمَّا قَضَاءُ الْقَاضِي أو التَّرَاضِي فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْفَسْخِ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ كما لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ فَيَصِحُّ من غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا قبل الْقَبْضِ وَبَعْدِهِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ وقد ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بيما ( ( ( فيما ) ) ) تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْبَيْعُ الْفَاسِدُ فَهُوَ كُلُّ بَيْعٍ فَاتَهُ شَرْطٌ من شَرَائِطِ الصِّحَّةِ وقد ذَكَرْنَا شَرَائِطَ الصِّحَّةِ في مَوَاضِعِهَا
وَأَمَّا حُكْمُهُ فَالْكَلَامُ في حُكْمِهِ يَقَعُ في ثَلَاثِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ وَالثَّانِي في بَيَانِ صِفَتِهِ وَالثَّالِثُ في بَيَانِ شَرَائِطِهِ
أَمَّا أَصْلُ الْحُكْمِ فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ في الْجُمْلَةِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا حُكْمَ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَالْبَيْعُ عِنْدَهُ قِسْمَانِ جَائِزٌ وَبَاطِلٌ لَا ثَالِثَ لَهُمَا وَالْفَاسِدُ وَالْبَاطِلُ سَوَاءٌ وَعِنْدَنَا الْفَاسِدُ قِسْمٌ آخَرَ وَرَاءَ الْجَائِزِ وَالْبَاطِلِ وَهَذَا على مِثَالِ ما يقول في أَقْسَامِ الْمَشْرُوعَاتِ أَنَّ الْفَرْضَ وَالْوَاجِبَ سَوَاءٌ وَعِنْدَنَا هُمَا قِسْمَانِ حَقِيقَةً على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عنه فَلَا يُفِيدُ الْمِلْك قِيَاسًا على بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَلَا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نهى عن بَيْعٍ وَشَرْطٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال لِعَتَّابِ بن أُسَيْدٍ حين بَعَثَهُ إلَى مَكَّةَ أنههم عن أَرْبَعٍ عن بَيْعٍ ما لم يَقْبِضُوا وَعَنْ رِبْحِ ما لم يَضْمَنُوا
وَعَنْ شَرْطَيْنِ في بَيْعٍ وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ
وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَنَحْوُ ذلك وَالْمَنْهِيُّ عنه يَكُونُ حَرَامًا وَالْحَرَامُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْمِلْكَ نِعْمَةٌ وَالْحَرَامُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ النِّعْمَةِ وَلِهَذَا بَطَلَ بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَكَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ هذا بَيْعٌ مَشْرُوعٌ فَيُفِيدُ الْمِلْك في الْجُمْلَةِ اسْتِدْلَالًا بِسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْمَشْرُوعَةِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ بَيْعٌ أَنَّ الْبَيْعَ في اللُّغَةِ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ مَالًا كان أو غير مَالٍ قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى } سمي مُبَادَلَةَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى اشْتِرَاءً وَتِجَارَةً فقاله ( ( ( فقال ) ) ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فما رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ } وَالتِّجَارَةُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ قال اللَّهُ عز شَأْنُهُ { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى من الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لهم الْجَنَّةَ } سَمَّى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُبَادَلَةَ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ بِالْجَنَّةِ اشْتِرَاءً وَبَيْعًا حَيْثُ قال تَعَالَى في آخَرِ الْآيَةِ { فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ } وفي عُرْفِ الشَّرْعِ هو مُبَادَلَةُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ وقد وُجِدَ فَكَانَ بَيْعًا
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ مَشْرُوعٌ النُّصُوصُ الْعَامَّةُ الْمُطْلَقَةُ في بَابِ الْبَيْعِ من نَحْوُ قَوْله تَعَالَى عز وجل { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ عن تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَنَحْوِ ذلك مِمَّا وَرَدَ من النُّصُوصِ في هذا الْبَابِ عَامًّا مُطْلَقًا فَمَنْ ادَّعَى التَّخْصِيصَ وَالتَّقْيِيدَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ
وَلَنَا الِاسْتِدْلَال بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا وهو أَنَّا أَجْمَعْنَا على أَنَّ الْبَيْعَ الْخَالِي عن الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ مَشْرُوعٌ وَمُفِيدٌ لِلْمِلْكِ وَقِرَانُ هذه الشُّرُوطِ بِالْبَيْعِ ذِكْرًا لم يَصِحَّ فَالْتُحِقَ ذِكْرُهَا بِالْعَدَمِ إذْ الْمَوْجُودُ الْمُلْحَقُ بِالْعَدَمِ شَرْعًا وَالْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ سَوَاءٌ وإذا أُلْحِقَ بِالْعَدَمِ في نَفْسِ الْبَيْعِ خَالِيًا عن الْمُفْسِدِ وَالْبَيْعُ الْخَالِي عن الْمُفْسِدِ مَشْرُوعٌ وَمُفِيدٌ لِلْمِلْكِ بِالْإِجْمَاعِ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ قَوِيٌّ
وَأَمَّا النَّهْيُ فَالْجَوَابُ عن التَّعَلُّقِ بِهِ أَنَّ هذا نَهْيٌ عن غَيْرِ الْبَيْعِ لَا عن عَيْنِهِ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ أحدهما ( ( ( أحدها ) ) ) أَنَّ شَرْعِيَّةَ أَصْلِ الْبَيْعِ وَجِنْسِهِ ثَبْتٌ مَعْقُولُ الْمَعْنَى وهو أَنَّهُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الِاخْتِصَاصِ وَانْدِفَاعِ الْمُنَازَعَةِ وَأَنَّهُ سَبَبُ بَقَاءِ الْعَالَمِ إلَى حِينِ إذْ لَا قِوَامَ لِلْبَشَرِ إلَّا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْنَى وَاللِّبَاسِ وَلَا سَبِيلَ إلَى اسْتِبْقَاءِ النَّفْسِ بِذَلِكَ إلَّا بِالِاخْتِصَاصِ بِهِ وَانْدِفَاعِ الْمُنَازَعَةِ وَذَلِكَ سَبَبُ الِاخْتِصَاصِ وَانْدِفَاعِ الْمُنَازَعَةِ وهو الْبَيْعُ
وَلَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ عَمَّا عُرْفَ حُسْنُهُ أو حَسُنَ أَصْلُهُ بِالْعَقْلِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ وَلِهَذَا لم يَجُزْ النَّهْيُ عن الْإِيمَان بِاَللَّهِ عز وجل وَشُكْرِ النِّعَمِ وَأَصْلِ الْعِبَادَاتِ لِثُبُوتِ حُسْنِهَا بِالْعَقْلِ فَيُحْمَلُ النَّهْيُ الْمُضَافُ إلَى الْبَيْعِ على غَيْرِهِ ضَرُورَةً
وَالثَّانِي أن سُلِّمَ جَوَازُ وُرُودِ النَّهْيِ عن الْبَيْعِ في الْجُمْلَةِ لَكِنَّ حَمْلَهُ على الْغَيْرِ هَهُنَا أَوْلَى من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَمَلٌ بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَالثَّانِي أَنَّ في الْحَمْلِ على الْبَيْعِ نَسْخَ الْمَشْرُوعِيَّةِ وفي الْحَمْلِ على غَيْرِهِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِحَقِيقَةِ الْكَلَامِ وَالْحَمْلِ على الْمَجَازِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَمْلَ على الْمَجَازِ أَوْلَى من الْحَمْلِ على التَّنَاسُخِ لِأَنَّ الْحَمْلَ على الْمَجَازِ من بَابِ نَسْخِ
____________________

(5/299)


الْكَلَامِ وَنَسْخُ الْمَشْرُوعِيَّةِ نَسْخُ الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ هو الْمَقْصُودُ وَالْكَلَامُ وَسِيلَةٌ وَنَسْخُ الْوَسِيلَةِ أَوْلَى من نَسْخِ الْمَقْصُودِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا صِفَةُ هذا الْحُكْمِ فَنَقُولُ له صِفَاتٌ منها أَنَّهُ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ بَلْ هو مُسْتَحِقُّ الْفَسْخِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ في هذه الصِّفَةِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنَّ الثَّابِتَ بهذا الْبَيْعِ مُسْتَحِقُّ الْفَسْخِ وفي بَيَانِ من يَمْلِكُ الْفَسْخَ وفي بَيَانِ ما يَكُونُ فَسْخًا وفي بَيَانِ شَرْطِ صِحَّةِ الْفَسْخِ وفي بَيَانِ ما يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْفَسْخِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الثَّابِتَ بهذا الْبَيْعِ أَوْجَبَ الْفَسْخَ فَهُوَ أَنَّ الْبَيْعَ وَإِنْ كان مَشْرُوعًا في ذَاتِهِ فَالْفَسَادُ مُقْتَرِنٌ بِهِ ذِكْرًا وَدَفْعُ الْفَسَادِ وَاجِبٌ وَلَا يُمْكِنُ إلَّا بِفَسْخِ الْعَقْدِ فَيُسْتَحَقُّ فَسْخُهُ لَكِنْ لِغَيْرِهِ لَا لِعَيْنِهِ حتى لو أَمْكَنَ دَفْعُ الْفَسَادِ بِدُونِ فَسْخِ الْبَيْعِ لَا يُفْسَخُ كما إذَا كان الْفَسَادُ لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ فَأَسْقَطَاهُ يَسْقُطُ ويبقي الْبَيْعُ مَشْرُوعًا كما كان وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ الرِّبَا وَشَرْطَ الْخِيَارِ مَجْهُولٌ وَإِدْخَالُ الْآجَالِ الْمَجْهُولَةِ في الْبَيْعِ وَنَحْوُ ذلك مَعْصِيَةٌ وَالزَّجْرُ عن الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ وَاسْتِحْقَاقُ الْفَسْخِ يَصْلُحُ زَاجِرًا عن الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَفْسَخُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عن الْمُبَاشَرَةِ
وَأَمَّا بَيَانُ من يَمْلِكُ الْفَسْخَ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْفَسَادُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى الْبَدَلِ بِأَنْ بَاعَ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَإِمَّا أَنْ لم يَكُنْ رَاجِعًا إلَيْهِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ مَنْفَعَةٍ زَائِدَةٍ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أو إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ وَالْحَالُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كان قبل الْقَبْضِ وَإِمَّا أَنْ كان بَعْدَهُ فَإِنْ كان قبل الْقَبْضِ فَكُلُّ وَاحِدٍ من الْعَاقِدَيْنِ يَمْلِكُ الْفَسْخَ من غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ كَيْفَ ما كان الْفَسَادُ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ قبل الْقَبْضِ فَكَانَ الْفَسْخُ قبل الْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ الِامْتِنَاعِ عن الْقَبُولِ وَالْإِيجَابِ فَيَمْلِكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْفَسْخِ بِخِيَارِ شَرْطِ الْعَاقِدَيْنِ
وَإِنْ كان بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ كان الْفَسَادُ رَاجِعًا إلَى الْبَدَلِ فَالْجَوَابُ فيه وَفِيمَا قبل الْقَبْضِ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْفَسَادَ الرَّاجِعَ إلَى الْبَدَلِ فَسَادٌ في صُلْبِ الْعَقْدِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِخِلَافِ هذا الْمُفْسِدِ لِمَا أَنَّهُ لَا قِوَامَ لِلْعَقْدِ إلَّا بِالْبَدَلَيْنِ فَكَانَ الْفَسَادُ قَوِيًّا فَيُؤَثِّرُ في صُلْبِ الْعَقْدِ بِسَلْبِ اللُّزُومِ عنه فَيَظْهَرُ عَدَمُ اللُّزُومِ في حَقِّهِمَا جميعا وَلَوْ لم يَكُنْ رَاجِعًا إلَى الْبَدَلِ
فَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ الإسبيجاني ( ( ( الإسبيجابي ) ) ) في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ وِلَايَةَ الْفَسْخِ لِصَاحِبِ الشَّرْطِ لَا لِصَاحِبِهِ ولم يَحْكِ خِلَافًا لِأَنَّ الْفَسَادَ الذي لَا يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ لَا يَكُونُ قَوِيًّا لِكَوْنِهِ مُحْتَمِلًا لِلْحَذْفِ وَالْإِسْقَاطِ فَيَظْهَرُ في حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْطِ لَا غَيْرُ وَيُؤَثِّرُ في سَلْبِ اللُّزُومِ في حَقِّهِ لَا في حَقِّ صاحب ( ( ( صاحبه ) ) )
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ الإختلاف في الْمَسْأَلَةِ فقال في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفَسْخَ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حَقُّ الْفَسْخِ لِمَنْ شُرِطَ له الْمَنْفَعَةُ لَا غَيْرُ
وَجْهُ قَوْلِهِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ من له شَرْطُ الْمَنْفَعَةِ قَادِرٌ على تَصْحِيحِ الْعَقْدِ بِحَذْفِ الْمُفْسِدِ واسقاطه فَلَوْ فَسَخَهُ الْآخَرُ لا بطل حَقَّهُ عليه وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن الْعَقْدَ في نَفْسِهِ غَيْرُ لَازِمٍ لِمَا فيه من الْفَسَادِ بَلْ هو مُسْتَحِقُّ الْفَسْخِ في نَفْسِهِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ
وَقَوْلُهُ الْمُفْسِدُ مُمْكِنُ الْحَذْفِ فَنَعَمْ لَكِنَّهُ إلَى أَنْ يُحْذَفْ فَهُوَ قَائِمٌ وَقِيَامُهُ يَمْنَعُ لُزُومَ الْعَقْدِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفَسْخَ من صَاحِبِهِ ليس بابطال لِحَقِّ صَاحِبِ الشَّرْطِ لِأَنَّ ابطال الْحَقِّ قبل ثُبُوتِهِ مُحَالٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَكُونُ فَسْخًا لِهَذَا الْعَقْدِ فَفَسْخُهُ بِطَرِيقَيْنِ قَوْلٍ وَفِعْلٍ فَالْقَوْلُ هو أَنْ يَقُولَ من يَمْلِكُ الْفَسْخَ فَسَخْتُ أو نَقَضْتُ أو رَدَدْتُ وَنَحْوَ ذلك فَيَنْفَسِخُ بِنَفْسِ الْفَسْخِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَضَاءِ القاضى وَلَا إلَى رِضَا الْبَائِعِ سَوَاءٌ كان قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ لِأَنَّ هذا الْبَيْعَ إنَّمَا اسْتَحَقَّ الْفَسْخَ حَقًّا للهعز وجل لِمَا في الْفَسْخِ من رَفْعِ الْفَسَادِ وَرَفْعُ الْفَسَادِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى على الْخُلُوصِ فَيَظْهَرُ في حَقِّ الْكُلِّ فَكَانَ فَسْخًا في حَقِّ الناس كَافَّةً فَلَا تَقِفُ صِحَّتُهُ على الْقَضَاءِ وَلَا على الرِّضَا وَالْفِعْلُ هو أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيعَ على بَائِعِهِ على أى وَجْهٍ ما رَدَّهُ بِبَيْعٍ أو هِبَةٍ أو صَدَقَةٍ أو إعَارَةٍ أو إيدَاعٍ بِأَنْ بَاعَهُ منه أو وهبة أو تَصَدَّقَ عليه أو أَعَارَهُ منه أو أَوْدَعَهُ إيَّاهُ يَبْرَأُ المشترى عن الضَّمَانِ لِأَنَّهُ حق يَسْتَحِقُّ الرَّدَّ على الْبَائِعِ فَعَلَى أى وَجْهٍ ما ورده ( ( ( رده ) ) ) يَقَعُ عن جهى ( ( ( جهة ) ) ) الإستحقاق بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْعَارِيَّةِ والوديعة أَنَّهُ يَكُونُ فَسْخًا والوديعة بأى طَرِيقٍ كان الرَّدُّ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا وَكَذَا الوباعه المشترى من وَكِيلِ الْبَائِعِ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَيْعِ يَقَعُ لِمُوَكِّلِهِ وهو الْبَائِعُ فكانه بَاعَهُ لِلْبَائِعِ وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي من عبد بَائِعِهِ وهو مَأْذُونٌ له في التِّجَارَةِ فَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ كان فَسْخًا لِلْبَيْعِ وَلَا يَبْرَأُ عن المشترى ضَمَانُهُ حتى يَصِلَ إلَى الْبَائِعِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَحُكْمُ تَصَرُّفِهِ وَقَعَ لِلْمَوْلَى فَكَانَ بَيْعًا من الْمَوْلَى وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ لَا يَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ وَيَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ على المشترى لِأَنَّهُ إذَا كان عليه دَيْنٌ فَحُكْمُ تَصَرُّفِهِ
____________________

(5/300)



لَا يَقَعُ لِلْمَوْلَى فلم يَكُنْ ذلك بَيْعًا من الْمَوْلَى فَصَارَ كما إذَا بَاعَهُ من أجنبى وَلَوْ اشْتَرَى من عَبْدٍ مَأْذُونٍ لانسان شيئا منه شِرَاءً فَاسِدًا وَقَبَضَهُ ثُمَّ إنَّهُ بَاعَهُ من مَوْلَاهُ فَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ كان فَسْخًا لِلْبَيْعِ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا من الْمَوْلَى كانه اشْتَرَاهُ من مَوْلَاهُ ثُمَّ بَاعَهُ منه فَإِنْ كان عليه دَيْنٌ لم يَكُنْ فَسْخًا لِأَنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا منه ولا من مَوْلَاهُ فكانه اشْتَرَى من أجنبى وَبَاعَهُ من مَوْلَاهُ وَلَوْ بَاعَهُ المشترى من مُضَارِبِ الْبَائِعِ لم يَكُنْ فَسْخًا لِلْبَيْعِ وَتَقَرَّرَ الضَّمَانُ على المشترى بِخِلَافِ ما إذَا بَاعَهُ من وَكِيلِ بَائِعِهِ بِالشِّرَاءِ أَنَّهُ يَكُونُ فَسْخًا وَوَجْهُ الْفَرْقِ إن الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ يَتَصَرَّفُ لِمُوَكِّلِهِ لَا لِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ تَصَرُّفِهِ يَقَعُ لِمُوَكِّلِهِ لَا له فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْبَيْعِ من الْمُوَكِّلِ وَذَلِكَ فَسْخٌ فَأَمَّا الْمُضَارِبُ فَمُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّبْحَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ إلا جنبى وَلَوْ كان الْبَائِعُ وَكِيلًا لِغَيْرِهِ بِالشِّرَاءِ فَاشْتَرَى المشترى شِرَاءً فاسد ( ( ( فاسدا ) ) ) لِمُوَكِّلِهِ لم يَكُنْ فَسْخًا لِلْبَيْعِ لِأَنَّ حُكْمَ الشِّرَاءِ يَقَعُ لِمُوَكِّلِهِ لَا له وَوَجَبَ عليه الثَّمَنُ للمشترى وَتَقَرَّرَ على المشترى ضَمَانُ الْقِيمَةِ وَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ في الإستيفاء وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ أن كان في أَحَدِهِمَا فَضْلٌ الله ( ( ( والله ) ) ) عز وجل أَعْلَمُ وَأَمَّا شَرْطُ صِحَّةِ الْفَسْخِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفَسْخُ بِمَحْضَرٍ من صَاحِبِهِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ ولم يذكر الإختلاف فيه وَذَكَرَ القاضى الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطحاوى إن هذا شَرْطٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ ليس بِشَرْطٍ وَجَعَلَهُ على الإختلاف في خِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ وقد ذَكَرْنَا المسئلة ( ( ( المسألة ) ) ) فِيمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْفَسْخِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وَيَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ وما لَا يَبْطُلُ وَلَا يَلْزَمُ وَلَا يَتَقَرَّرُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْفَسْخُ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ببطل ( ( ( يبطل ) ) ) بِصَرِيحِ الْإِبْطَالِ وَالْإِسْقَاطِ بِأَنْ يَقُولَ أَبْطَلْتُ أو أَسْقَطْتُ أو أَوْجَبْتُ الْبَيْعَ أو الزمته لِأَنَّ وُجُوبَ الْفَسْخِ عنه ثَبَتَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى دَفْعًا لِلْفَسَادِ وما ثَبَتَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ على إسْقَاطِهِ مَقْصُودًا كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لَكِنْ قد يَسْقُطُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ بِأَنْ يَتَصَرَّفَ الْعَبْدُ في حَقِّ نَفْسِهِ مَقْصُودًا فَيَتَضَمَّنُ ذلك سُقُوطَ حَقِّ اللَّهِ عز وجل بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ أو يَفُوتَ مَحَلُّ الْفَسْخِ أو غَيْرُ ذلك وَبَيَانُ ذلك في مَسَائِلِ المشترى شِرَاءً فاسد ( ( ( فاسدا ) ) ) إذَا بَاعَ المشترى أو وهبة أو تَصَدَّقَ بِهِ بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ وَعَلَى المشترى الْقِيمَةُ أو الْمِثْلُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ في مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ فَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ وَلَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ على بَعْضِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ عن تسليطمنه وَيَطِيبُ للمشترى الثَّانِي لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ بِخِلَافٍ المشترى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا يَطِيبُ له لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ ما إذَا دخل مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بامان فَأَخَذَ شيأ من أَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ اذنهم وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ بَاعَهُ أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ لَكِنْ لَا يَطِيبُ للمشترى كمالا يَطِيبُ لِلْآخِذِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ إن عَدَمَ الطِّيبِ في الْمَأْخُوذِ من الْحَرْبِيِّ بِغَيْرِ اذنه لِكَوْنِهِ مَأْخُوذًا على وَجْهِ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ وَالْمَأْخُوذُ على هذا الْوَجْهِ وَاجِبُ الرَّدِّ على صَاحِبِهِ رَدًّا اللخيانة ( ( ( للخيانة ) ) ) وَبِالْبَيْعِ لم يَخْرُجْ عن اسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ على مَالِكِهِ لِحُصُولِهِ لَا بِتَسْلِيطٍ من جِهَتِهِ فبقى وَاجِبَ الرَّدِّ كما كان وَهَذَا يَمْنَعُ الطِّيبِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِأَنَّ انْعِدَامَ الطِّيبِ للمشترى هَهُنَا لقرآن الْفَسَادِ بِهِ ذِكْرًا لَا حَقِيقَةً ولم يُوجَدْ ذلك في الْبَيْعِ الثَّانِي وَخَرَجَ الْمَبِيعُ من أَنْ يَكُونَ متسحق ( ( ( مستحق ) ) ) الرَّدِّ على الْبَائِعِ لِحُصُولِ الْبَيْعِ من المشترى بِتَسْلِيطِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ وَلَوْ بَاعَهُ فَرُدَّ عليه بِخِيَارِ شَرْطٍ أو رُؤْيَةٍ أو عَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ وَعَادَ على حُكْمِ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ عَادَ حَقُّ الْفَسْخِ لِأَنَّ الرَّدَّ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ فَسْخٌ مَحْضٌ فَكَانَ دَفْعًا لِلْعَقْدِ من الْأَصْلِ وَجَعْلًا له كان لم يَكُنْ وَلَوْ اشْتَرَاهُ ثَانِيًا أو عَادَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ مبتدأ لَا يَعُودُ الْفَسْخُ لِأَنَّ الْمِلْكَ اخْتَلَفَ لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ فَكَانَ اخْتِلَافُ الْمِلْكَيْنِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْعَقْدَيْنِ وَلَوْ اعتقه المشترى أود بره ( ( ( دبره ) ) ) بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ لِمَا قُلْنَا ولان الْإِعْتَاقَ وَالتَّدْبِيرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَصَرُّفٌ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ صِحَّتِهِ فَيُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الإسترداد وَالْفَسْخَ ضَرُورَةً وَكَذَلِكَ لو اسْتَوْلَدَهَا لِمَا قُلْنَا وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِ المشترى لِأَنَّ الإستيلاد قد صَحَّ لِحُصُولِهِ في مِلْكِهِ وَعَلَى المشترى قِيمَةُ الْجَارِيَةِ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ بالإستيلاد فَصَارَ كما لو هَلَكَتْ في يَدِهِ وَهَلْ يَغْرَمُ الْعُقْرَ ذَكَرَ في الْبُيُوعِ أَنَّهُ لَا يَغْرَمُ وفي الشُّرْبِ رِوَايَتَانِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْعُقْرَ لِأَنَّهُ وطىء مِلْكَ نَفْسِهِ وقد تَقَرَّرَ مِلْكُهُ بالإستيلاد لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ وَلَوْ وَطِئَهَا المشترى ولم يُعَلِّقْهَا لَا ببطل ( ( ( يبطل ) ) ) حَقُّ الْفَسْخِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْجَارِيَةَ مع عُقْرِهَا بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ فَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ الْجَارِيَةِ الْمَوْهُوبَةِ إذَا وَطِئَهَا الْمَوْهُوبُ له وَأَعْلَقَهَا ثُمَّ رَجَعَ الْوَاهِبُ في هِبَتِهِ وَأَخَذَ الْجَارِيَةَ أَنَّ الْمَوْهُوبَ له لَا
____________________

(5/301)


يَضْمَنُ الْعُقْرَ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْهِبَةِ مِلْكٌ مُحَلِّلٌ لِلْوَطْءِ وَبِالرُّجُوعِ لم يَتَبَيَّنْ أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ لم يَكُنْ فَكَانَ مُسْتَمْتِعًا بِمِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا عُقْرَ عليه بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِأَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِهِ لَا يَظْهَرُ في حَقِّ حِلِّ الْوَطْءِ فَكَانَ الْوَطْءُ حَرَامًا إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ عنه لحد ( ( ( الحد ) ) ) لِلشُّبْهَةِ فَوَجَبَ الْعَقْدُ وَكَذَلِكَ لو كَاتَبَهُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ قد صَحَّتْ لوجودهاى ( ( ( لوجودها ) ) ) في الْمِلْكِ وَلَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ إلَى نَقْضِهَا لِحُصُولِهَا من المشترى بستليط ( ( ( بتسليط ) ) ) الْبَائِعِ فَلَا يَكُونُ له حَقُّ النَّقْضِ عليه وَعَلَى المشترى فيمة ( ( ( قيمة ) ) ) الْعَبْدِ فَإِنْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ وَعَتَقَ تَقَرَّرَ على المشترى ضَمَانُ الْقِيمَةِ وأن عَجَزَ وَرُدَّ في الرقى ( ( ( الرق ) ) ) يُنْظَرُ أن كان ذلك قبل الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ على المشترى فاللبائع ( ( ( فللبائع ) ) ) أَنْ يَسْتَرِدَّهُ لِأَنَّهُ كان مُسْتَحَقَّ الرَّدِّ قبل الْكِتَابَةِ لِعَدَمِ لُزُومِ الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ أمتنع الرَّدُّ لِعَارِضِ الْكِتَابَةِ فَإِنْ عَجَزَ وَرَدَّ في الرِّقِّ قبل الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ فَقَدْ زَالَ الْعَارِضُ على الْعَبْدِ لِأَنَّهُ بِالْقَضَاءِ والقيمة ( ( ( بالقيمة ) ) ) تَقَرَّرَ مِلْكُ المشترى في الْعَبْدِ وَلَزِمَ من وَقْتِ وُجُودِهِ فَيَعُودُ إلَيْهِ لَازِمًا الملك ( ( ( والملك ) ) ) اللَّازِمُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ لو رَهَنَهُ المشترى بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ وَوِلَايَةُ الإسترداد لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ افْتَكَّهُ المشترى فَهُوَ على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا في الْكِتَابَةِ وَلَوْ أَجَّرَهُ صَحَّتْ الْإِجَارَةُ لِمَا قُلْنَا وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْفَسْخِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ وَإِنْ كانت عَقْدًا لَازِمًا إلَّا إنها تُفْسَخُ بِالْعُذْرِ وَلَا عُذْرَ أَقْوَى من رَفْعِ الْفَسَادِ فَتَنْفَسِخُ بِهِ وَسُلِّمَتْ الإجرة للمشترى لِأَنَّ الْمَنَافِعَ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ وَالْعَقْدُ وُجِدَ من المشترى فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ له وَهَلْ تَطِيبُ له ينظران كان قد أَدَّى ضَمَانَ الْقِيمَةِ ثُمَّ آجَرَ طَابَتْ الْأُجْرَةُ له لِأَنَّ الضَّمَانَ بَدَلُ الْمَضْمُونِ قَائِمٌ مقامة فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ رِبْحَ ما قد ضَمِنَ وَإِنْ آجَرَ ثُمَّ أَدَّى الضَّمَانَ لَا تَطِيبُ له لِأَنَّهَا رِبْحُ ما لم يَضْمَنْ وَلَوْ أَوْصَى بِهِ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِمَا قُلْنَا ثُمَّ إنْ كان الموصى حَيًّا بَعْدُ فَلِلْبَائِعِ حَقُّ الإسترداد لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَصَرُّفٌ غَيْرُ لَازِمٍ حَالَ حَيَاةِ الموصى بَلْ مُحْتَمَلٌ وَإِنْ مَاتَ بَطَلَ حَقُّهُ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُوصَى له مِلْكٌ جَدِيدٌ بِخِلَافِ الثَّابِتِ لِلْوَارِثِ بِأَنْ مَاتَ المشترى شِرَاءً فاسد ( ( ( فاسدا ) ) ) لِأَنَّهُ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْفَسْخِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ من وَرَثَتِهِ وَكَذَا إذَا مَاتَ الْبَائِعُ فلو رثته وِلَايَةُ الإسترداد لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْوَارِثِ عَيْنُ ما كان لِلْمُوَرِّثِ وَإِنَّمَا هو خَلْفُهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ وَلِهَذَا يَرُدُّ الْوَارِثُ بأن مات الإستيرداد لأن الثابت للوارث عين ما كان للمورث وإنما هو خلفه قائم مقامه ولهذا يرد الوارث بالغيب ( ( ( بالعيب ) ) ) وَيُرَدُّ عليه وَمِلْكُ الْمُوَرِّثِ مَضْمُونُ الرَّدِّ مستحقق ( ( ( مستحق ) ) ) الْفَسْخِ بِخِلَافِ الْمُوصَى له فإن الثَّابِتَ مِلْكٌ جَدِيدٌ حَصَلَ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ وَلِهَذَا لم يُرَدَّ بِالْعَيْبِ وَلَا يُرَدُّ عليه وأنه لم يَكُنْ مُسْتَحَقَّ الْفَسْخِ ولو ازْدَادَ الْمَبِيعُ في يَدِ المشترى فَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً متولده من الْأَصْلِ كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ حَقِيقَةً وَالْأَصْلُ مَضْمُونُ الرَّدِّ فَكَذَلِكَ التَّبَعُ كما في الغضب ( ( ( الغصب ) ) ) وَإِنْ كانت غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ كما إذَا كان الْمَبِيعُ سَوِيقًا فَلَتَّهُ المشترى بِعَسَلٍ أو سَمْنٍ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ لِأَنَّهُ لو فُسِخَ أما أَنْ يُفْسَخَ على الْأَصْلِ وَحْدَهُ وأما أَنْ يُفْسَخَ على الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جمعيا ( ( ( جميعا ) ) ) لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِتَعَذُّرِ الْفَصْلِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لم تَدْخُلْ تَحْتَ الْبَيْعِ لَا أَصْلًا وَلَا تَبَعًا فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْفَسْخِ وأن كانت مُنْفَصِلَةً فَإِنْ كانت مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ وَالثَّمَرَةِ لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْأَصْلَ مع الزِّيَادَةِ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ لِكَوْنِهَا مُتَوَلِّدَةً منه وَالْأَصْلُ مَضْمُونُ الرَّدِّ فَكَذَا الزِّيَادَةُ كما في بَابِ الغضب ( ( ( الغصب ) ) ) وَكَذَا لو كانت الزِّيَادَةُ أَرْشًا أو عُقْرًا لِأَنَّ الْأَرْشَ بَدَلُ جُزْءٍ فَائِتٍ من الْأَصْلِ حَقِيقَةً كَالْمُتَوَلِّدِ من الْأَصْلِ وَالْعُقْرَ بَدَلُ حَالِهِ حُكْمُ الْجُزْءِ وَالْعَيْنِ فَكَأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ من الْعَيْنِ ثُمَّ في فصلب ( ( ( فصل ) ) ) الْوَلَدِ إذَا كانت الْجَارِيَةُ في يَدِ المشترى فَإِنْ نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ وَبِالْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ يَنْجَبِرُ النُّقْصَانُ بِالْوَلَدِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خلا ( ( ( خلافا ) ) ) فالزفر ( ( ( لزفر ) ) ) كما في الغضب ( ( ( الغصب ) ) ) وَسَنَذْكُرُ المسئلة ( ( ( المسألة ) ) ) في كِتَابِ الْغَصْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ لم تَنْقُصْهَا الْوِلَادَةُ اسْتَرَدَّهَا الْبَائِعُ وَلَا شَيْءَ على الْبَائِعِ وأن نَقَصَتْهَا وَلَيْسَ بِالْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ رَدَّهَا مع ضَمَانِ النُّقْصَانِ كما في الْغَصْبِ وأن هَلَكَ الْوَلَدُ قبل الرَّدِّ لَا ضَمَانَ على المشترى بِالزِّيَادَةِ كما في الْغَصْبِ وَلَوْ اسْتَهْلَكَ المشترى الزِّيَادَةَ ضَمِنَ كما في الْغَصْبِ وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ وَالزِّيَادَةُ قَائِمَةٌ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الزِّيَادَةَ وَيَضْمَنَ قِيمَةَ الْمَبِيعِ وَقْتَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُمَا كَانَا مضمونى الرَّدِّ إلَّا إنه تَعَذَّرَ اسْتِرْدَادُ الْمَبِيعِ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ وَصَارَ مَضْمُونَ الْقِيمَةِ فبقى الْوَلَدُ على حال ( ( ( حاله ) ) ) مَضْمُونَ
____________________

(5/302)


الرَّدِّ كما كان وَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْكَسْبِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ والبائع ( ( ( وللبائع ) ) ) أَنْ يَسْتَرِدَّ الْأَصْلَ مع الزِّيَادَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَضْمُونُ الرَّدِّ وَبِالرَّدِّ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ من الْأَصْلِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الزِّيَادَةَ حَصَلَتْ على مِلْكِهِ إلَّا إنها لَا تَطِيبُ له لِأَنَّهَا لم تَحْدُثْ في ضَمَانِهِ المشترى فَكَانَتْ في مَعْنَى رِبْحِ ما لم يُضْمَنْ وَلَوْ هَلَكَتْ هذه الزِّيَادَةُ في يَدِ المشترى لَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا مَضْمُونٌ بِالْقَبْضِ وَالْقَبْضُ لم يَرِدْ على الزِّيَادَةِ لَا أَصْلًا وَلَا تَبَعًا أَمَّا أَصْلًا فلا نعدامها عِنْدَ الْقَبْضِ وَأَمَّا تَبَعًا فلانها لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ حَقِيقَةً بَلْ هِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا مُلِكَتْ بِسَبَبٍ على حِدَةٍ لَا بِسَبَبِ الْأَصْلِ وأن اسْتَهْلَكَهَا المشترى فَكَذَلِكَ لك عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا ضَمَانَ عليه وعندها ( ( ( وعندهما ) ) ) يَضْمَنُ وَأَصْلُ المسئلة ( ( ( المسألة ) ) ) في الْغَصْبِ إنه إذَا اسْتَهْلَكَ الْغَاصِبُ هذه الزِّيَادَةَ هل يَضْمَنُ عِنْدَهُ لَا يَضْمَنُ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ وَنَذْكُرُ المسئلة ( ( ( المسألة ) ) ) في كِتَابِ الْغَصْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ قَائِمَةٌ في يَدِ المشترى تَقَرَّرَ عليه ضَمَانُ قِيمَةِ الْمَبِيعِ وَالزِّيَادَةُ للمشترى تَقَرَّرَ ضَمَانُ الْقِيمَةِ بِخِلَافِ الْمُتَوَلَّدِ كما في الْغَصْبِ وَالْفَرْقُ بين الزِّيَادَتَيْنِ يُذْكَرُ في الْغَصْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هذا إذ زَادَ الْمَبِيعُ في يَدِ المشترى شِرَاءً فَاسِدًا فَأَمَّا إذَا انْتَقَصَ في يَدِهِ كان النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فإنه لَا يَمْنَعُ الإسترداد وَلِلْبَائِعِ أَنْ يأخذ ( ( ( يأخذه ) ) ) مع أَرْشِ النُّقْصَانِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا يُضْمَنُ بِالْقَبْضِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْقَبْضُ وَرَدَ عليه بِجَمِيعِ اجزائه فَصَارَ مَضْمُونًا بِجَمِيعِ اجزائه وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ بِالْقَبْضِ وَإِنْ كانت لَا تُضْمَنُ بِالْعَقْدِ كما في قَبْضِ المغضوب ( ( ( المغصوب ) ) ) وَكَذَلِكَ إذَا كان النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ لِأَنَّ هذا وَالنُّقْصَانَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ سَوَاءٌ وأن كان النُّقْصَانُ بِفِعْلِ المشترى فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ لو انْتَقَصَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ كان مَضْمُونًا عليه فَبِصُنْعِهِ أَوْلَى وأن كان بِفِعْلٍ أجنبى فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ أن شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ من المشترى والمشترى يَرْجِعُ بِهِ على الجانى وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ الجانى وهو لَا يَرْجِعُ على المشترى كما في الْغَصْبِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ قِيمَةَ النُّقْصَانِ من المشترى فَقَدْ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ في ذلك الْجُزْءِ من وَقْتِ الْبَيْعِ فيه فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ على مِلْكٍ مُتَقَرِّرٍ له فَيَرْجِعُ عليه وإلا جنبى لم يَمْلِكْ فَلَا يَرْجِعُ وَلَوْ قَتَلَهُ أجنبى فَلِلْبَائِعِ أَنْ يُضَمِّنَ المشترى قِيمَتَهُ حَالَةَ الْقَبْضِ وَلَا سَبِيلَ له على الْقَاتِلِ وَيَرْجِعُ المشترى على عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ بِقِيمَتِهِ في ثَلَاثِ سِنِينَ فَرَّقَ هَهُنَا بين الْبَيْعِ وَبَيْنَ الْغَصْبِ فإنه لو قَتَلَ الْمَغْصُوبَ قَاتِلٌ فالما لك بِالْخِيَارِ أن شَاءَ ضَمَّنَ الغاضب ( ( ( الغاصب ) ) ) قِيمَتَهُ حَالَةَ الْغَصْبِ وَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ على عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ في ثَلَاثِ سِنِينَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ عَاقِلَةَ الْقَاتِلِ قِيمَتَهُ في ثَلَاثِ سِنِينَ وَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ على الْغَاصِبِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الاجنبى جَنَى على مِلْكِ المشترى لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَبِيعَ بِالْقَبْضِ وَتَقَرَّرَ مِلْكُهُ فيه بِالْجِنَايَةِ لَا على مِلْكِ الْبَائِعِ فَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ تَضْمِينَهُ بِخِلَافِ الْغَصْبِ فإن الْغَاصِبَ لَا يَمْلِكُ الْمَغْصُوبَ إلَّا بِتَضْمِينِ الْمَغْصُوبِ منه إيَّاهُ فَقَبْلَهُ لَا مِلْكَ له فيه فَكَانَ الْقَتْلُ جِنَايَةً على مِلْكِ الْمَالِكِ وَالْقَبْضُ جِنَايَةٌ على مِلْكِهِ أَيْضًا فَكَانَ له خِيَارُ التَّضْمِينِ وأن كان النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْبَائِعِ لَا شَيْءَ على المشترى لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَرِدًّا بِفِعْلِهِ وَإِنْ هَلَكَ لَا من سِرَايَةِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ فَعَلَى المشترى ضَمَانُهُ لَكِنْ يُطْرَحُ منه حِصَّةُ النُّقْصَانِ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ اسْتَرَدَّ ذلك الْقَدْرَ بِجِنَايَتِهِ وَلَوْ قَتْلَهُ الْبَائِعُ لَا ضَمَانَ على المشترى لِأَنَّهُ اسْتَرَدَّهُ بِالْقَتْلِ وَكَذَلِكَ لو حَفَرَ الْبَائِعُ بِئْرًا فَوَقَعَ فيه وَمَاتَ لِأَنَّ ذلك في مَعْنَى الْقَتْلِ فَيَصِيرُ مُسْتَرَدًّا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ وَلَوْ كان الْمَبِيعُ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ المشترى إذا ( ( ( وخاطه ) ) ) أحدث ( ( ( قميصا ) ) ) في المبيع ( ( ( بطنه ) ) ) صنعا ( ( ( وحشاه ) ) ) لو أحدثه بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ وَتَقَرَّرَ عليه قِيمَتُهُ يوم الْقَبْضِ وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ المشترى إذَا أَحْدَثَ في الْمَبِيعِ صُنْعًا لو أَحْدَثَهُ الْغَاصِبُ في الْمَغْصُوبِ لَا يَقْطَعُ حَقَّ الْمَالِكِ ببطل ( ( ( يبطل ) ) ) حَقُّ الْفَسْخِ وَيَتَقَرَّرُ حَقُّهُ في ضَمَانِ الْقِيمَةِ أو الْمِثْلِ كما إذَا كان الْمَبِيعُ قُطْنًا فَغَزَلَهُ أو غَزْلًا فَنَسَجَهُ أو حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أو سِمْسِمًا أو عِنَبًا فَعَصَرَهُ أو سَاحَةً فَبَنَى عليها أو شَاةً فَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا أو طَبَخَهَا وَنَحْوَ ذلك وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَبْضَ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَقَبْضِ الْغَصْبِ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونُ الرَّدِّ حَالَ قِيَامِهِ وَمَضْمُونُ الْقِيمَةِ أو الْمِثْلِ حَالَ هلا كه فَكُلُّ ما يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْمَالِكِ هُنَاكَ يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ هَهُنَا وَلَوْ كان الْمَبِيعُ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ المشترى بصبغ ( ( ( بصبع ) ) ) يَزِيدُ من الْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ وَنَحْوِهِمَا ذَكَرَ
____________________

(5/303)


الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ منقطع ( ( ( ينقطع ) ) ) حَقُّ الْبَائِعِ عنه إلَى الْقِيمَةِ وروى ( ( ( ووري ) ) ) عن مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَائِعَ أن شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ ما زَادَ الصَّبْغُ فيه وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَقَبْضِ الْغَصْبِ ثُمَّ الْجَوَابُ في الْغَصْبِ هَكَذَا أَنَّ الْمَالِكَ بِالْخِيَارِ أن شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَى الْغَاصِبَ ما زَادَ الصَّبْغُ فيه وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ فَكَذَا هذا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ وَلَوْ كان الْمَبِيعُ أَرْضًا فَبَنَى عليها بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعَلَى المشترى ضَمَانُ قِيمَتِهَا وَقْتَ الْقَبْضِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْطُلُ وَيُنْقَضُ الْبِنَاءُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذا الْقَبْضَ مُعْتَبَرٌ بِقَبْضِ الْغَصْبِ ثُمَّ هُنَاكَ يَنْقُضُ الْبِنَاءُ فَكَذَا هَهُنَا وَلِأَنَّ الْبِنَاءَ يُنْقَضُ بِحَقِّ الشَّفِيعِ بِالْإِجْمَاعِ وَحَقُّ الْبَائِعِ فَوْقَ حَقِّ الشَّفِيعِ بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّفِيعَ لَا يَأْخُذُ إلَّا بِقَضَاءٍ وَالْبَائِعُ يَأْخُذُ من غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا فلما نقص ( ( ( نقض ) ) ) لِحَقِّ الشَّفِيعِ فَلِحَقِّ الْبَائِعِ أَوْلَى وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ إنه لو ثَبَتَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الإسترداد لَكَانَ لَا يَخْلُو ما ( ( ( إما ) ) ) أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مع الْبِنَاءِ أو بِدُونِ الْبِنَاءِ لَا سَبِيلَ إلَى الثانى لأن لَا يُمْكِنُ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْبِنَاءَ من المشترى تَصَرُّفٌ حَصَلَ بِتَسْلِيطِ الْبَائِعِ وإنه يَمْنَعُ النَّقْضَ كَتَصَرُّفِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِ ذلك بِخِلَافِ الْغَصْبِ وَالشُّفْعَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يُوجَدْ التَّسْلِيطُ على الْبِنَاءِ وَكَذَا لَا يَمْنَعَانِ نَقْضَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَمِنْهَا أَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِلْكٌ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ أو بِالْمِثْلِ لَا بِالْمُسَمَّى بِخِلَافِ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ هِيَ الْمُوجِبُ الأصلى في الْبِيَاعَاتِ لِأَنَّهَا مِثْلُ الْمَبِيعِ في الْمَالِيَّةِ إلَّا أَنَّهُ يُعْدَلُ عنها إلَى الْمُسَمَّى إذَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ فإذا لم تَصِحَّ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْمُوجِبِ الأصلى خُصُوصًا إذَا كان الْفَسَادُ من قِبَلِ الْمُسَمَّى لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ إذَا لم تَصِحَّ لم يَثْبُتْ الْمُسَمَّى فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَ وَسَكَتَ عن ذِكْرِ الثَّمَنِ وَلَوْ كان كَذَلِكَ كان بَيْعًا بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةٌ بِالْمَالِ فإذا لم يذكر الْبَدَلَ صَرِيحًا صَارَتْ الْقِيمَةُ أو الْمِثْلُ مَذْكُورًا دَلَالَةً فَكَانَ بَيْعًا بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ أو بمثله أن كان من قَبِيلِ الْأَمْثَالِ وَمِنْهَا أَنَّ هذا الْمِلْكَ يُفِيدُ المشترى انْطِلَاقَ تَصَرُّفٍ ليس فيه انْتِفَاعٌ بِعَيْنِ الملوك ( ( ( المملوك ) ) ) بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِ ذلك مِمَّا ليس فيه انْتِفَاعٌ بِعَيْنِ الْمَبِيعِ وَأَمَّا التَّصَرُّفُ الذى فيه انْتِفَاعٌ بِعَيْنِ الْمَمْلُوكِ كاكل الطَّعَامِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَسُكْنَى الدَّارِ والإستمتاع بِالْجَارِيَةِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَنَّ الثَّابِتَ بهذا الْبَيْعِ مِلْكٌ خَبِيثٌ وَالْمِلْكُ الْخَبِيثُ لَا يُفِيدُ اطلاق الإنتفاع لِأَنَّهُ وَاجِبُ الرَّفْعِ وفي الإنتفاع بِهِ تَقَرَّرَ له وَفِيهِ تقرر ( ( ( تقرير ) ) ) الْفَسَادِ وَلِهَذَا لم يُفْدِ الْمِلْكُ قبل الْقَبْضِ تَحَرُّزًا عن تَقْرِيرِ الْفَسَادِ بِالتَّسْلِيمِ على ما نَذْكُرهُ في مَوْضِعِهِ أن شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ كان الْمُشْتَرَى دَارًا لَا يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ فيها حَقُّ الشُّفْعَةِ وأن كان يُفِيدُ الْمِلْكَ للمشترى لِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ لم يَنْقَطِعْ وَالشُّفْعَةُ إنَّمَا تَجِبُ بِانْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ لَا بِثُبُوتِ الْمِلْكِ للمشترى أَلَا تَرَى أَنَّ من أَقَرَّ بِبَيْعِ دَارِهِ من فُلَانٍ وَفُلَانٌ مُنْكِرٌ تَثْبُتُ الْمِلْكُ للمشترى لِانْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ بِإِقْرَارِهِ وَهَهُنَا حَقُّ الْبَائِعِ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ فَلَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ حتى لو وُجِدَ ما يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّهِ تَجِبُ الشُّفْعَةُ ولو بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ الدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا اتثبت ( ( ( تثبت ) ) ) الشُّفْعَةُ لِأَنَّ هذا الشِّرَاءَ صَحِيحٌ فَيُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْبَائِعِ فَيَثْبُتُ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ ولو وطىء الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَاةَ شِرَاءً فَاسِدًا فَإِنْ لم يُعَلِّقْهَا فَلَا عُقْرَ عليه قبل الْفَسْخِ وأن فَسَخَ الْعَقْدَ فَعَلَيْهِ العقروان أَعْلَقَهَا وَضَمِنَ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ فَفِي وُجُوبِ الْعُقْرِ رِوَايَتَانِ على ما ذَكَرْنَا
وَأَمَّا شَرَائِطُهُ فَاثْنَانِ أَحَدُهُمَا الْقَبْضُ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ قبل الْقَبْضِ لِأَنَّهُ وَاجِبُ الْفَسْخِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ وفي وُجُوبِ الْمِلْكِ قبل الْقَبْضِ تَقَرَّرَ الْفَسَادُ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ قبل الْقَبْضِ يَجِبُ على الْبَائِعِ تَسْلِيمُهُ إلَى الْمُشْتَرِي وفي التَّسْلِيمِ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ وَإِيجَابُ رَفْعِ الْفَسَادِ على وَجْهٍ فيه رَفْعُ الْفَسَادِ مُتَنَاقِضٌ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ فَإِنْ قَبَضَ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَصْلًا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِأَنْ نَهَاهُ عن الْقَبْضِ أو قَبَضَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ منه من غَيْرِ إذْنِهِ فَإِنْ لم يَنْهَهُ وَلَا أَذِنَ له في الْقَبْضِ صَرِيحًا فَقَبَضَهُ بِحَضْرَةِ الْبَائِعِ ذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ إنه لَا يَثْبُتُ
وَجْهُ رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ إذَا قَبَضَهُ بِحَضْرَتِهِ ولم يَنْهَهُ كان ذلك إذْنًا منه بِالْقَبْضِ دَلَالَةً مع ما أَنَّ الْعَقْدَ الثَّابِتَ دَلَالَةُ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ لِأَنَّهُ تَسْلِيطٌ له على الْقَبْضِ فَكَأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ
وَالْإِذْنُ بِالْقَبْضِ قد يَكُونُ صَرِيحًا وقد يَكُونُ دَلَالَةً كما في بَابِ الْهِبَةِ إذَا قَبَضَ الْمَوْهُوبُ له بِحَضْرَةِ الْوَاهِبِ فلم يَنْهَهُ صَحَّ قَبْضُهُ كَذَا هَهُنَا

____________________

(5/304)


وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ الْإِذْنَ بِالْقَبْضِ لم يُوجَدْ نَصًّا وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ في الْقَبْضِ تَقْرِيرَ الْفَسَادِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ إذْنًا بِمَا فيه تَقْرِيرُ الْفَسَادِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ لَا يَقَعُ تَسْلِيطًا على الْقَبْضِ لِوُجُودِ الْمَانِعِ من الْقَبْضِ على ما بَيَّنَّا بِخِلَافِ الْهِبَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا مَانِعَ من الْقَبْضِ فأمكن إثْبَاتُهُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ ما دَامَ الْمَجْلِسُ قَائِمًا وَإِنَّمَا شُرِطَ الْمَجْلِسُ لِأَنَّ الْقَبْضَ في الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ الرُّكْنِ فَيُشْتَرَطُ له الْمَجْلِسُ كما يُشْتَرَطُ لِلْقَبُولِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْبَيْعُ الْبَاطِلُ فَهُوَ كُلُّ بَيْعٍ فَاتَهُ شَرْطٌ من شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ من الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ وَغَيْرِهِمَا وقد ذَكَرْنَا جُمْلَةَ ذلك في صَدْرِ الْكِتَابِ وَلَا حُكْمَ لِهَذَا الْبَيْعِ أَصْلًا لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْمَوْجُودِ وَلَا وُجُودَ لِهَذَا الْبَيْعِ إلَّا من حَيْثُ الصُّورَةُ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الشَّرْعِيَّ لَا وُجُودَ له بِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ شَرْعًا كما لَا وُجُودَ لِلتَّصَرُّفِ الْحَقِيقِيِّ إلَّا من الْأَهْلِ في الْمَحَلِّ حَقِيقَةً وَذَلِكَ نَحْوُ بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْعَذِرَةِ وَالْبَوْلِ وَبَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ وَكُلِّ ما ليس بِمَالٍ وَكَذَا بَيْعُ صَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ وَكَذَا بَيْعُ الْحُرِّ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ وَكَذَا بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُسْتَسْعَى لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ حُرَّةٌ من وَجْهٍ وَكَذَا الْمُدَبَّرُ فلم يَكُنْ مَالًا مُطْلَقًا وَالْمُكَاتَبُ حُرٌّ يَدًا فلم يَكُنْ مَالًا على الْإِطْلَاقِ وَالْمُسْتَسْعَى عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ وَعِنْدَهُمَا حُرٌّ عليه دَيْنٌ وَكَذَا بَيْعُ الْخِنْزِيرِ من الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ في حَقِّ الْمُسْلِمِ وَكَذَا بَيْعُ الْخَمْرِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ في حَقِّ الْمُسْلِمِ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ تَقَوُّمَهَا في حَقِّ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ أَهَانَهَا عليهم فَيَبْطُلُ وَلَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ لو انْعَقَدَ إمَّا أَنْ يَنْعَقِدَ بِالْمُسَمَّى وَإِمَّا أَنْ يَنْعَقِدَ بِالْقِيمَةِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لم تَصِحَّ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ له إذْ التَّقْوِيمُ يبنى ( ( ( ينبني ) ) ) عن الْعِزَّةِ وَالشَّرْعُ أَهَانَ الْمُسَمَّى على الْمُسْلِمِ فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ بِقِيمَتِهِ وَلَا قِيمَةَ له وإذا لم يَنْعَقِدْ يَبْطُلُ ضَرُورَةً
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من فَصَّلَ في بَيْعِ الْخَمْرِ تَفْصِيلًا فقال إنْ كان الثَّمَنُ دَيْنًا بِأَنْ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ وَإِنْ كان عَيْنًا بِأَنْ بَاعَهَا بِثَوْبٍ وَنَحْوِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ في حَقِّ الثَّوْبِ وَيَنْعَقِدُ بِقِيمَةِ الثَّوْبِ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْعَاقِدَيْنِ ليس هو تَمَلُّكُ الْخَمْرِ وَتَمْلِيكُهَا لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلتَّمَلُّكِ
وَالتَّمْلِيكُ في حَقِّ الْمُسْلِمِ مَقْصُودٌ بَلْ تَمْلِيكُ الثَّوْبِ وَتَمَلُّكُهُ لِأَنَّ الثَّوْبَ يَصْلُحُ مَقْصُودًا بِالتَّمَلُّكِ وَالتَّمْلِيكِ فَالتَّسْمِيَةُ إنْ لم تَظْهَرْ في حَقِّ الْخَمْرِ تَظْهَرُ في حَقِّ الثَّوْبِ وَلَا مُقَابِلَ له فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْمُشْتَرِي بَاعَ الثَّوْبَ ولم يذكر الثَّمَنَ فَيَنْعَقِدُ بِقِيمَتِهِ بِخِلَافِ ما إذَا كان الثَّمَنُ دَيْنًا لِأَنَّ الثَّمَنَ يَكُونُ في الذِّمَّةِ وما في الذِّمَّةِ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ بَلْ يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى الْمَقْصُودِ فَتَصِيرُ الْخَمْرُ مَقْصُودَةً بِالتَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ فَيَبْطُلُ أَصْلًا
وَأَمَّا بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَلَا يَبْطُلُ بَلْ يَفْسُدُ وَيَنْعَقِدُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ
وَكَذَا الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ في حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْخَمْرُ مَالٌ في حَقِّنَا إلَّا أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لها شَرْعًا فإذا جَعَلَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ ثَمَنًا فَقَدْ ذَكَرَ ما هو مَالٌ وَكَوْنُ الثَّمَنِ مَالًا في الْجُمْلَةِ أو مَرْغُوبًا فيه عِنْدَ الناس بِحَيْثُ لَا يُؤْخَذُ مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ يَكْفِي لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ أو مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ إلَّا أَنَّ كَوْنَ الْمَعْقُودِ عليه مُتَقَوِّمًا شَرْطُ الِانْعِقَادِ وقد وُجِدَ وَكَذَا بَيْعُ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُسْتَسْعَى لِأَنَّ هذه الْأَمْوَالَ في الْجُمْلَةِ مَرْغُوبٌ فيها فَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ وَكَذَا بَيْعُ الْعَبْدِ بِمَا يَرْعَى إبِلَهُ من أَرْضِهِ من الْكَلَأِ أو بِمَا يَشْرَبُ من مَاءِ بِئْرِهِ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ ثَمَنًا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ إلَّا أَنَّهُ مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ وَكَذَا هو مَجْهُولٌ أَيْضًا فَانْعَقَدَ بِوَصْفِ الْفَسَادِ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ
وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا في بَيْعِ الْعَبْدِ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ قال عَامَّتُهُمْ يَبْطُلُ وقال بَعْضُهُمْ يَفْسُدُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَبْطُلُ لِأَنَّ الْمُسَمَّى ثَمَنًا ليس بِمَالٍ أَصْلًا وَكَوْنُ الثَّمَنِ مَالًا في الْجُمْلَةِ شَرْطُ الِانْعِقَادِ
وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا قال بِعْتُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ قال بَعْضُهُمْ يَبْطُلُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْكَرْخِيُّ من أَصْحَابِنَا وقال بَعْضُهُمْ يَفْسُدُ وَلَا يَبْطُلُ كما إذَا بَاعَ وَسَكَتَ عن ذِكْرِ الثَّمَنِ وقد ذَكَرْنَا وَجْهَ كل وَاحِدٍ من الْقَوْلَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ
ثُمَّ إذَا بَاعَ مَالًا بِمَا ليس بِمَالٍ حتى بَطَلَ الْبَيْعُ فَقَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَالَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ هل يَكُونُ مَضْمُونًا عليه أو يَكُونُ أَمَانَةً اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ يَكُونُ أَمَانَةً لِأَنَّهُ مَالٌ قَبَضَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ في عَقْدٍ وُجِدَ صُورَةً لَا مَعْنًى فَالْتَحَقَ الْعَقْدُ بِالْعَدَمِ وَبَقِيَ إذْنُهُ بِالْقَبْضِ وقال بَعْضُهُمْ يَكُونُ مَضْمُونًا عليه لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ على حُكْمِ هذا الْبَيْعِ لَا يَكُونُ دُونَ الْمَقْبُوضِ على ( ( ( بعلي ) ) ) سَوْمِ الشِّرَاءِ وَذَلِكَ مَضْمُونٌ فَهَذَا أَوْلَى
وَأَمَّا الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ فَهُوَ بَيْعُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وهو الْمُسَمَّى بِبَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَلَا حُكْمَ له يُعْرَفُ لِلْحَالِ لِاحْتِمَالِ الْإِجَازَةِ
____________________

(5/305)


وَالرَّدِّ من الْمَالِكِ فَيَتَوَقَّفُ في الْجَوَابِ في الْحَالِ لَا أَنْ يَكُونَ التَّوَقُّفُ حُكْمًا شَرْعِيًّا وقد ذَكَرْنَا حُكْمَ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ ما يَبْطُلُ منها ولا ( ( ( وما ) ) ) يُتَوَقَّفُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَرْفَعُ حُكْمَ الْبَيْعِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ حُكْمُ الْبَيْعِ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْتَفِعُ بِالْفَسْخِ وهو الذي يَقُومُ بِرَفْعِهِ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ وهو حُكْمُ كل بَيْعٍ غَيْرِ لَازِمٍ كَالْبَيْعِ الذي فيه أَحَدُ الْخِيَارَاتِ الْأَرْبَعِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَنَوْعٌ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بالإقالة ( ( ( بإقالة ) ) ) وهو حُكْمُ كل بَيْعٍ لَازِمٍ وهو الْبَيْعُ الصَّحِيحُ الْخَالَيْ عن الْخِيَارِ
وَالْكَلَامُ في الْإِقَالَةِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِ الْإِقَالَةِ وفي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الْإِقَالَةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْإِقَالَةِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْإِقَالَةِ أَمَّا رُكْنُهَا فَهُوَ الْإِيجَابُ من أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ وَالْقَبُولُ من الْآخَرِ فإذا وُجِدَ الْإِيجَابُ من أَحَدِهِمَا وَالْقَبُولُ من الْآخَرِ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عليه فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ لَكِنَّ الْكَلَامَ في صِيغَةِ اللَّفْظِ الذي يَنْعَقِدُ بِهِ الرُّكْنُ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عن الْمَاضِي بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا أَقَلْتُ وَالْآخَرُ قَبِلْتُ أو رَضِيتُ أو هَوِيتُ وَنَحْوَ ذلك وَهَلْ تنعقد ( ( ( ينعقد ) ) ) بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عن الْمَاضِي وَبِالْآخَرِ عن الْمُسْتَقْبَلِ بِأَنْ قال أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَقِلْنِي فيقول أَقَلْتُكَ أو قال له جِئْتُكَ لِتُقِيلَنِي فقال أَقَلْتُ فقال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَنْعَقِدُ كما في النِّكَاحِ وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عن الْمَاضِي كما في الْبَيْعِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ رُكْنَ الْإِقَالَةِ هو الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ كَرُكْنِ الْبَيْعِ ثُمَّ رُكْنُ الْبَيْعِ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عن الْمَاضِي فَكَذَا رُكْنُ الْإِقَالَةِ وَلَهُمَا الْفَرْقُ بين الْإِقَالَةِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ وهو أَنَّ لَفْظَةَ الِاسْتِقْبَالِ لِلْمُسَاوَمَةِ حَقِيقَةً وَالْمُسَاوَمَةُ في الْبَيْعِ معتاد ( ( ( معتادة ) ) ) فَكَانَتْ اللَّفْظَةُ مَحْمُولَةً على حَقِيقَتِهَا فلم تَقَعْ إيجَابًا بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ اللَّفْظِ على ( ( ( بعلي ) ) ) حَقِيقَتِهَا لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ فيها لَيْسَتْ بِمُعْتَادَةٍ فَيُحْمَلُ على الْإِيجَابِ وَلِهَذَا حَمَلْنَاهَا على الْإِيجَابِ في النِّكَاحِ كَذَا هذا
وَأَمَّا بَيَانُ مَاهِيَّةِ الْإِقَالَةِ وعملتها ( ( ( وعملها ) ) ) فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في مَاهِيَّتِهَا قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ الْإِقَالَةُ فَسْخٌ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ جَدِيدٌ في حَقِّ ثَالِثٍ سَوَاءٌ كان قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أنها فَسْخٌ قبل الْقَبْضِ بَيْعٌ بَعْدَهُ وقال أبو يُوسُفَ أنها بَيْعٌ جَدِيدٌ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ أَنْ تُجْعَلَ بَيْعًا فَتُجْعَلَ فَسْخًا قال مُحَمَّدٌ أنها فَسْخٌ إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ أَنْ تُجْعَلَ فَسْخًا فَتُجْعَلَ بَيْعًا لِلضَّرُورَةِ وقال زُفَرُ أنها فَسْخٌ في حَقِّ الناس كَافَّةً
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أن الْإِقَالَةَ في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن الرَّفْعِ يُقَالُ في الدُّعَاءِ اللَّهُمَّ أَقِلْنِي عَثَرَاتِي أَيْ ارْفَعْهَا وفي الحديث من أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَ اللَّهُ عثراته ( ( ( عثرته ) ) ) يوم الْقِيَامَةِ وَعَنْ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إلَّا في حَدٍّ
وَالْأَصْلُ أَنَّ مَعْنَى التَّصَرُّفِ شَرْعًا ما ينبىء عنه اللَّفْظُ لُغَةً وَرَفْعُ الْعَقْدِ فَسْخُهُ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِقَالَةَ اخْتَلَفَا اسْمًا فَيَخْتَلِفَانِ حُكْمًا هذا هو الْأَصْلُ فإذا كانت رَفْعًا لَا تَكُونُ بَيْعًا لِأَنَّ الْبَيْعَ إثْبَاتٌ وَالرَّفْعُ نَفْيٌ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ فَكَانَتْ الْإِقَالَةُ على هذا التَّقْدِيرِ فَسْخًا مَحْضًا فَتَظْهَرُ في حَقِّ كَافَّةِ الناس
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْأَصْلَ فيها الْفَسْخُ كما قال زُفَرُ إلَّا أَنَّهُ إذَا لم يُمْكِنْ أَنْ تُجْعَلَ فَسْخًا فَتُجْعَلُ بَيْعًا ضَرُورَةً
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ هو مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وهو أَخْذُ بَدَلٍ وَإِعْطَاءُ بَدَلٍ وقد وُجِدَ فَكَانَتْ الْإِقَالَةُ بَيْعًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْعِ فيها وَالْعِبْرَةُ لَلْمَعْنَى لَا لِلصُّورَةِ وَلِهَذَا أعطى حُكْمَ الْبَيْعِ في كَثِيرٍ من الْأَحْكَامِ على ما نَذْكُرُ وَكَذَا اُعْتُبِرَ بَيْعًا في حَقِّ الثَّالِثِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَقْرِيرِ مَعْنَى الْفَسْخِ ما ذَكَرْنَاهُ لَزُفَرَ أَنَّهُ رَفْعٌ لُغَةً وَشَرْعًا وَرَفْعُ الشَّيْءِ فَسْخُهُ وَأَمَّا تَقْرِيرُ مَعْنَى الْبَيْعِ فيه فما ذَكَرْنَا لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ بِبَدَلٍ وَهَذَا مَعْنَى الْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إظْهَارُ مَعْنَى الْبَيْعِ في الْفَسْخِ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ لِلتَّنَافِي فَأَظْهَرْنَاهُ في حَقِّ الثَّالِثِ فَجُعِلَ فَسْخًا في حَقِّهِمَا بَيْعًا في حَقٍّ ثَالِثٍ وَهَذَا ليس بِمُمْتَنِعٍ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُجْعَلَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ من شَخْصٍ وَاحِدٍ طَاعَةً من وَجْهٍ وَمَعْصِيَةً من وَجْهٍ فَمِنْ شَخْصَيْنِ أَوْلَى
وَالدَّلِيلُ عليه أنها لَا تَصِحُّ من غَيْرِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ وَثَمَرَةُ هذا الِاخْتِلَافِ إذَا تَقَايَلَا ولم يُسَمِّيَا الثَّمَنَ الْأَوَّلَ أو سَمَّيَا زِيَادَةً على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أو أَنْقَصَ من الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أو سَمَّيَا جِنْسًا آخَرَ سِوَى الْجِنْسِ الْأَوَّلِ قَلَّ أو كَثُرَ أو أَجَّلَا الثَّمَنَ الْأَوَّلَ فَالْإِقَالَةُ على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَتَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْأَجَلِ وَالْجِنْسِ الْآخَرِ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ كانت الْإِقَالَةُ قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهَا وَالْمَبِيعُ مَنْقُولٌ أو غَيْرُ مَنْقُولٍ
____________________

(5/306)


لِأَنَّهَا فَسْخٌ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَالْفَسْخُ رَفْعُ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ وقع ( ( ( رفع ) ) ) بالثمن ( ( ( الثمن ) ) ) الْأَوَّلَ فَيَكُونُ فَسْخُهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ ضَرُورَةً لِأَنَّهُ فَسَخَ ذلك الْعَقْدَ وَحُكْمُ الْفَسْخِ لَا يَخْتَلِفُ بين ما قبل الْقَبْضِ وَبَيْنَ ما بَعْدَهُ وَبَيْنَ الْمَنْقُولِ وَغَيْرِ الْمَنْقُولِ وَتَبْطُلُ تَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْجِنْسُ الْآخَرُ وَالْأَجَلُ وَتَبْقَى الْإِقَالَةُ صَحِيحَةً لِأَنَّ إطْلَاقَ تَسْمِيَةِ هذه الْأَشْيَاءِ لَا يُؤَثِّرُ في الْإِقَالَةِ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تُبْطِلُهَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ
وَبِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ إنَّمَا يُؤَثِّرُ في الْبَيْعِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الرِّبَا فيه وَالْإِقَالَةُ رَفْعُ الْبَيْعِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَمَكُّنُ الرِّبَا فيه فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا
وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ إنْ كان بَعْدَ الْقَبْضِ فَالْإِقَالَةُ على ما سَمَّيَا لِأَنَّهَا بَيْعٌ جَدِيدٌ كَأَنَّهُ بَاعَهُ فيه ابْتِدَاءً وَإِنْ كان قبل الْقَبْضِ وَالْمَبِيعُ عَقَارًا فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُهُ بَيْعًا لِأَنَّ بَيْعَ الْعَقَارِ قبل الْقَبْضِ جَائِزٌ عِنْدَهُ وَإِنْ كان مَنْقُولًا فَالْإِقَالَةُ فَسْخٌ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا بَيْعًا لِأَنَّ بَيْعَ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ على كل حَالٍ فَكُلُّ ما لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا تَجُوزُ إقَالَتُهُ فَعَلَى هذه الرِّوَايَةِ لَا تَجُوزُ الْإِقَالَةُ عِنْدَهُ في الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ كان قبل الْقَبْضِ فَالْإِقَالَةُ تَكُونُ على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَتَبْطُلُ تَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَالْجِنْسُ الْآخَرُ وَالنُّقْصَانُ وَالْأَجَلُ يَكُونُ فَسْخًا كما قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا قبل الْقَبْضِ بَيْعًا لَكِنَّ بَيْعَ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ مَنْقُولًا كان أو عَقَارًا
وَإِنْ كان بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ تَقَايَلَا من غَيْرِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ أَصْلًا أو سَمَّيَا الثَّمَنَ الْأَوَّلَ من غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ أو نَقَصَا عن الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَالْإِقَالَةُ على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَتَبْطُلُ تَسْمِيَةُ النُّقْصَانِ وَتَكُونُ فَسْخًا أَيْضًا كما قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أنها فَسْخٌ في الْأَصْلِ وَلَا مَانِعَ من جَعْلِهَا فَسْخًا فَتُجْعَلُ فَسْخًا وَإِنْ تَقَايَلَا عن الزِّيَادَةِ أو على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أو على جِنْسٍ آخَرَ سِوَى جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَلَّ أو كَثُرَ فَالْإِقَالَةُ على ما سَمَّيَا وَيَكُونُ بَيْعًا عِنْدَهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا فَسْخًا هَهُنَا لِأَنَّ من شَأْنِ الْفَسْخِ أَنْ يَكُونَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وإذا لم يُمْكِنْ جَعْلُهَا فَسْخًا تُجْعَلُ بَيْعًا بِمَا سَمَّيَا بِخِلَافِ ما إذَا تَقَايَلَا على أَنْقَصَ من الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِقَالَةَ تَكُونُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُ وَتُجْعَلُ فَسْخًا وَلَا تُجْعَلُ بَيْعًا عِنْدَهُ لِأَنَّ هذا سُكُوتٌ عن نَقْصِ الثَّمَنِ وَذَلِكَ نَقْصُ الثَّمَنِ وَالسُّكُوتُ عن النَّقْصِ لَا يَكُونُ أَعْلَى من السُّكُوتِ عن الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَهُنَاكَ يُجْعَلُ فَسْخًا لَا بَيْعًا فَهَهُنَا أَوْلَى وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَم
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا كان الْمُشْتَرَى دَارًا وَلَهَا شَفِيعٌ فقضى له بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ طَلَبَ منه الْمُشْتَرِي أَنْ يُسَلِّمَ الشُّفْعَةَ بِزِيَادَةٍ على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أو بِجِنْسٍ آخَرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ بَاطِلَةٌ
وَكَذَا تَسْمِيَةُ الْجِنْسِ الْآخَرِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَمَّا قضى لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ فَقَدْ انْتَقَلَتْ الصَّفْقَةُ إلَيْهِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَالتَّسْلِيمُ بِالزِّيَادَةِ على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أو بِجِنْسٍ آخَرَ يَكُونُ إقَالَةً على الزِّيَادَةِ على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أو على جِنْسٍ آخَرَ فَتَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ وَيَصِحُّ التَّسْلِيمُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُمَا وَإِنَّمَا اتَّفَقَ جَوَابُهُمَا هَهُنَا على أَصْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ لَا يَرَى جَوَازَ بَيْعِ الْمَبِيعِ الْعَقَارِ قبل الْقَبْضِ فَيَبْقَى فَسْخًا على الْأَصْلِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ الزِّيَادَةُ صَحِيحَةٌ
وَكَذَا تَسْمِيَةُ جِنْسٍ آخَرَ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُ بَيْعٌ وَلَا مَانِعَ من جَعْلِهَا بَيْعًا فَتَبْقَى بَيْعًا على الْأَصْلِ وَلَوْ تَقَايَلَا الْبَيْعَ في الْمَنْقُولِ ثُمَّ إنَّ الْبَائِعَ بَاعَهُ من الْمُشْتَرِي ثَانِيًا قبل أَنْ يَسْتَرِدَّهُ من يَدِهِ يَجُوزُ الْبَيْعُ وَهَذَا يَطَّرِدُ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَمَّا على أَصْلِ زُفَرَ فَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ مُطْلَقٌ في حَقِّ الْكُلِّ
وَعَلَى أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَسْخٌ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَالْمُشْتَرِي أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَعَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَسْخٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ من جَعْلِهِ فَسْخًا وَلَا مَانِعَ هَهُنَا من جَعْلِهِ فَسْخًا بَلْ وُجِدَ الْمَانِعُ من جَعْلِهِ بَيْعًا لِأَنَّ بَيْعَ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ فَكَانَتْ الْإِقَالَةُ فَسْخًا عِنْدَهُمْ فلم يَكُنْ هذا بَيْعَ
____________________

(5/307)


الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ فَجَازَ
وَأَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ فَلَا يَطَّرِدُ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ بَيْعٌ مُطْلَقٌ وَبَيْعُ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا فَكَانَ هذا الْفِعْلُ حُجَّةً عليه إلَّا أَنْ يَثْبُتَ عنه الْخِلَافُ فيه
وَلَوْ بَاعَهُ من غَيْرِ الْمُشْتَرِي لَا يَجُوزُ وَهَذَا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَطَّرِدُ
أَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ فَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ بَيْعٌ جَدِيدٌ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا إلَّا لِمَانِعٍ وَلَا مَانِعَ من جَعْلِهَا بَيْعًا هَهُنَا لِأَنَّا لو جَعَلْنَاهَا بَيْعًا لَا تَفْسُدُ الْإِقَالَةُ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ فَتُجْعَلُ بَيْعًا فَكَانَ هذا بَيْعُ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ فلم يَجُزْ
وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَهِيَ وَإِنْ كانت فَسْخًا لَكِنْ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَأَمَّا في حَقِّ غَيْرِهِمَا فَهِيَ بَيْعٌ وَالْمُشْتَرِي غَيْرُهُمَا فَكَانَ بَيْعًا في بَيْعِهِ فَيَكُونُ بَيْعَ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ
وَأَمَّا على أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فَلَا يَطَّرِدُ لِأَنَّهَا عِنْدَ زُفَرَ فَسْخٌ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْأَصْلُ فيها الْفَسْخُ إلَّا لِمَانِعٍ ولم يُوجَدْ الْمَانِعُ فَبَقِيَ فَسْخًا في حَقِّ الْكُلِّ ولم يَكُنْ هذا بَيْعُ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ وَإِنْ كان الْمَبِيعُ غير مَنْقُولٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا جَازَ بَيْعُهُ من غَيْرِ الْمُشْتَرِي أَيْضًا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَكَذَا على قِيَاسِ أَصْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ على أَصْلِهِ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ في حَقِّ الْكُلِّ إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ وَهَهُنَا يُمْكِنُ لِمَا قُلْنَا
وَعَلَى أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ بَيْعٌ في حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ فَكَانَ هذا بَيْعُ الْمَبِيعِ الْعَقَارَ قبل الْقَبْضِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَهُمَا وَعَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَسْخٌ إلَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ وَلَا تَعَذُّرَ هَهُنَا لِأَنَّهَا حَصَلَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَبَقِيَتْ فَسْخًا فلم يَكُنْ هذا بَيْعُ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ بَلْ بَيْعُ الْمَفْسُوخِ فيه الْبَيْعُ قبل الْقَبْضِ وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَهُ مَنْقُولًا كان أو غير مَنْقُولٍ وَعِنْدَ زُفَرَ هو فَسْخٌ على الاطلاق فلم يَكُنْ بَيْعُهُ بَيْعَ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ فَيَجُوزُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا اشْتَرَى دَارًا وَلَهَا شَفِيعٌ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ أو اشْتَرَاهَا ولم يَكُنْ بِجَنْبِهَا دَارٌ ثُمَّ بُنِيَتْ بِجَنْبِهَا دَارٌ ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ فإن الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ جَدِيدٌ في حَقِّ الْكُلِّ على أَصْلِ أبي يُوسُفَ وَلَا مَانِعَ من جَعْلِهَا بَيْعًا
وَعَلَى أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ بَيْعٌ في حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ وَالشَّفِيعُ غَيْرُهُمَا فَيَكُونُ بَيْعًا في حَقِّهِ فَيَسْتَحِقُّ وَأَمَّا على قِيَاسِ أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَا يَثْبُتُ حَقُّ الشُّفْعَةِ لِأَنَّهَا فَسْخٌ مُطْلَقٌ على ( ( ( وعلى ) ) ) أَصْلِ زُفَرَ
وَعَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَسْخٌ ما أَمْكَنَ وَهَهُنَا مُمْكِنٌ وَالشُّفْعَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْبَيْعِ لَا بِالْفَسْخِ كَالرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ وَنَحْوُ ذلك وَلَوْ تَقَايَلَا ثُمَّ وُهِبَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ من الْمُشْتَرِي قبل الِاسْتِرْدَادِ وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي جَازَتْ الْهِبَةُ وَمَلَكَهُ الْمُشْتَرِي وَلَا تَنْفَسِخُ الْإِقَالَةُ وَلَوْ كان هذا في الْبَيْعِ لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ وَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِأَنْ وَهَبَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ قبل الْقَبْضِ من الْبَائِعِ وَقَبِلَهُ الْبَائِعُ وَهَذَا يُشْكَلُ على أَصْلِ أبي يُوسُفَ لِأَنَّهُ أَجْرَى الْإِقَالَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ مَجْرَى الْبَيْعِ وَلَوْ كانت كَذَلِكَ لَمَا جَازَتْ الْهِبَةُ وَلَكَانَتْ فَسْخًا لِلْإِقَالَةِ كما كانت فَسْخًا لِلْبَيْعِ
ثُمَّ الْفَرْقُ على أَصْلِ من يَجْعَلُهَا فَسْخًا ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْفَسْخَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْهِبَةِ مَجَازًا عن الْإِقَالَةِ فَلَا تَنْفَسِخُ الْإِقَالَةُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فإنه يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَأَمْكَنَ جَعْلُ الْهِبَةِ مَجَازًا عن إقَالَةِ الْبَيْعِ
وَلَوْ كان الْمَبِيعُ مَكِيلًا أو مَوْزُونًا بِيعَ مُكَايَلَةً أو مُوَازَنَةً فَتَقَايَلَا الْبَيْعَ فَاسْتَرَدَّهُ الْبَائِعُ من غَيْرِ كَيْلٍ أو وَزْنٍ صَحَّ قَبْضُهُ وَهَذَا لَا يَطَّرِدُ على أَصْلِ أبي يُوسُفَ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ لو كانت بَيْعًا لَمَا صَحَّ قَبْضُهُ من غَيْرِ كَيْلٍ أو وَزْنٍ كما في الْبَيْعِ وَلَوْ تَقَايَلَا قبل قَبْضِ الْمَبِيعِ أو بَعْدَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْبَائِعُ بِهِ عَيْبًا كان عِنْدَ بَائِعِهِ ليس له أَنْ يَرُدَّهُ عليه وَهَذَا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَطَّرِدُ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ على أَصْلِ أبي يُوسُفَ بَيْعٌ في حَقِّ الْكُلِّ وَعَلَى أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ بَيْعٌ في حَقِّ ثَالِثٍ فَكَانَ بَيْعًا في حَقِّهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ ثَانِيًا أو وَرِثَهُ من الْمُشْتَرِي
وَعَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يُشْكِلُ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ على أَصْلِهِمَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْنَعَ الرَّدَّ وَلَوْ اشْتَرَى شيئا وَقَبَضَهُ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ ثُمَّ بَاعَهُ من أَجْنَبِيٍّ ثُمَّ تَقَايَلَا وَعَادَ الْمَبِيعُ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ إنَّ بَائِعَهُ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ قبل النَّقْدِ يَجُوزُ وَهَذَا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ على أَصْلِ أبي يُوسُفَ بَيْعٌ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا
وَعَلَى أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ بَيْعٌ في حَقِّ ثَالِثٍ وَالْبَائِعُ الْأَوَّلُ هَهُنَا ثَالِثٌ فَكَانَتْ الْإِقَالَةُ بَيْعًا في حَقِّهِ كأن الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ اشْتَرَاهُ ثَانِيًا ثُمَّ بَاعَهُ من بَائِعِهِ بِأَقَلَّ من الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قبل الْعَقْدِ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَذَا هذا
وَأَمَّا على أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فَلَا يَطَّرِدُ لِأَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ الْإِقَالَةَ فَسْخًا فَكَانَتْ إعَادَةً إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ فَيَنْبَغِيَ أَنْ لَا يَجُوزُ وَأَمَّا شَرَائِطُ صِحَّةِ الْإِقَالَةِ فَمِنْهَا رِضَا الْمُتَقَايِلَيْنِ أَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مُطْلَقٌ وَالرِّضَا شَرْطُ صِحَّةِ الْبِيَاعَاتِ
وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فَلِأَنَّهَا فَسْخُ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ لم يَنْعَقِدْ على الصِّحَّةِ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا أَيْضًا وَمِنْهَا الْمَجْلِسُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ مَوْجُودٌ فيها فَيُشْتَرَطُ لها الْمَجْلِسُ كما يُشْتَرَطُ لِلْبَيْعِ
وَمِنْهَا تَقَابُضُ بَدَلَيْ الصَّرْفِ في إقَالَةِ الصَّرْفِ وَهَذَا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ ظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ قَبْضَ الْبَدَلَيْنِ إنَّمَا وَجَبَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ وَالْإِقَالَةُ على أَصْلِهِ وَإِنْ كانت فَسْخًا في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ فَهِيَ بَيْعٌ جَدِيدٌ في حَقٍّ ثَالِثٍ فَكَانَ حَقُّ الشَّرْعِ في حُكْمِ ثَالِثٍ فَيُجْعَلُ بَيْعًا في حَقِّهِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ بِمَحَلِّ الْفَسْخِ بِسَائِرِ أَسْبَابِ
____________________

(5/308)


الْفَسْخِ كَالرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ فَإِنْ لم يَكُنْ بِأَنْ ازْدَادَ زِيَادَةً تَمْنَعُ الْفَسْخَ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا تَصِحُّ الْإِقَالَةُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ هذا ليس بِشَرْطٍ أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُمَا فَسْخٌ لِلْعَقْدِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمَحَلُّ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ فإذا خَرَجَ عن احْتِمَالِ الْفَسْخِ خَرَجَ عن احْتِمَالِ الْإِقَالَةِ ضَرُورَةً
وَأَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ فَلِأَنَّهَا بَعْدَ الْقَبْضِ بَيْعٌ مُطْلَقٌ وهو بَعْدَ الزِّيَادَةِ مُحْتَمِلٌ لِلْبَيْعِ فَبَقِيَ مُحْتَمِلًا لِلْإِقَالَةِ وَأَمَّا على أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كانت فَسْخًا لَكِنْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَلَا إمْكَانَ هَهُنَا لِأَنَّا لو جَعَلْنَاهَا فَسْخًا لم يَصِحَّ
وَلَوْ جَعَلْنَاهَا بَيْعًا لَصَحَّتْ فَجُعِلَ بَيْعًا لِضَرُورَةِ والصحة ( ( ( الصحة ) ) ) فَلِهَذَا اتَّفَقَ جَوَابُ مُحَمَّدٍ مع جَوَابِ أبي يُوسُفَ في هذا الْفَصْلِ
وَمِنْهَا قِيَامُ الْمَبِيعِ وَقْتَ الْإِقَالَةِ فَإِنْ كان هَالِكًا وَقْتَ الْإِقَالَةِ لم تَصِحَّ فَأَمَّا قِيَامُ الثَّمَنِ وَقْتَ الْإِقَالَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ إقَالَةَ الْبَيْعِ رَفْعُهُ فَكَانَ قِيَامُهَا بِالْبَيْعِ وَقِيَامُ الْبَيْعِ بِالْمَبِيعِ لَا بِالثَّمَنِ لِأَنَّهُ هو الْمَعْقُودُ عليه على مَعْنَى أَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عليه لَا على الثَّمَنِ لِأَنَّهُ يَرِدُ على الْمُعَيَّنِ وَالْمُعَيَّنُ هو الْمَبِيعُ لَا الثَّمَنُ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ وأن عَيَّنَ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا في الذِّمَّةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ إيرَادُ الْعَقْدِ عليه دَلَّ أَنَّ قِيَامَ الْبَيْعِ بِالْمَبِيعِ لَا بِالثَّمَنِ فإذا هَلَكَ لم يَبْقَ مَحَلُّ حُكْمِ الْبَيْعِ فَلَا يَبْقَى حُكْمُهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِقَالَةُ التي هِيَ رَفْعُ حُكْمِ الْبَيْعِ في الْحَقِيقَةِ وإذا هَلَكَ الثَّمَنُ فَمَحَلُّ حُكْمِ الْبَيْعِ قَائِمٌ فَتَصِحُّ الْإِقَالَةُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَيَّنَا أو لم يُعَيِّنَا وَالْفُلُوسِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيَّاتِ التقاربة ( ( ( المتقاربة ) ) ) الْمَوْصُوفَةِ في الذِّمَّةِ ثُمَّ تَقَايَلَا أَنَّهُمَا إنْ تَقَايَلَا وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ في يَدِ الْمُشْتَرِي صَحَّتْ الْإِقَالَةُ سَوَاءٌ كان الثَّمَنُ قَائِمًا في يَدِهِ أو هَالِكًا لِقِيَامِ حُكْمِ الْبَيْعِ بِقِيَامِ الْمَعْقُودِ عليه وَإِنْ تَقَايَلَا بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ لم تَصِحَّ وَكَذَا إنْ كانت قَائِمَةً وَقْتَ الْإِقَالَةِ ثُمَّ هَلَكَتْ قبل الرَّدِّ على الْبَائِعِ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ سَوَاءً كان الثَّمَنُ قَائِمًا أو هَالِكًا لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فيها مَعْنَى الْبَيْعِ
أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَ الْإِقَالَةِ وَجَبَ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَدُّ ما في يَدِهِ على صَاحِبِهِ فَكَانَ هَلَاكُ الْبَيْعِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ قبل الْقَبْضِ كَهَلَاكِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْل الْقَبْضِ فإنه يُوجِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ كَذَا هذا سَوَاءٌ بَقِيَ الثَّمَنُ أو هَلَكَ لِأَنَّهُ إذَا لم يَتَعَيَّنْ فَقِيَامُهُ وَهَلَاكُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ
وَكَذَا إذَا كان الْمَبِيعُ عَبْدَيْنِ وَتَقَابَضَا ثُمَّ هَلَكَا ثُمَّ تَقَايَلَا أَنَّهُ لَا تَصِحَّ الْإِقَالَةُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عليه إذَا هَلَكَ لم يَبْقَ مَحَلُّ الْفَسْخِ بِالْإِقَالَةِ وَكَذَا لو كان أَحَدُهُمَا هَالِكًا وَقْتَ الْإِقَالَةِ وَالْآخَرُ قَائِمًا وَصَحَّتْ الْإِقَالَةُ ثُمَّ هَلَكَ الْقَائِمُ قبل الرَّدِّ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ لِأَنَّهُ هَلَكَ الْمَعْقُودُ عليه قبل الْقَبْضِ على ما بَيَّنَّا
وَلَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِعَيْنٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ هَلَكَتْ إحْدَاهُمَا في يَدِ مُشْتَرِيهَا ثُمَّ تَقَايَلَا صَحَّتْ الْإِقَالَةُ وَعَلَى مُشْتَرِي الْهَالِكِ قِيمَةَ الْهَالِكِ إنْ لم يَكُنْ له مِثْلٌ وَمِثْلُهُ إنْ كان له مِثْلُ فَيُسَلِّمُهُ إلَى صَاحِبِهِ وَيَسْتَرِدُّ منه الْعَيْنَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ على حِدَةِ لِقِيَامِ الْعَقْدِ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ خَرَجَ الْهَالِكُ من أَنْ يَكُونَ قِيَامُ الْعَقْدِ بِهِ فَيَقُومُ بِالْآخَرِ وإذا بَقِيَ الْمَبِيعُ بَقِيَ مَحَلُّ الْفَسْخِ فَيَصِحُّ أو نَقُولُ الْمَبِيعُ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ ثَمَنٌ إذْ الْمَبِيعُ لَا بُدَّ له من الثَّمَنِ فإذا هَلَكَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْهَالِكُ لِلثَّمَنِ وَالْقَائِمُ لِلْمَبِيعِ لِمَا فيه من تَصْحِيحِ الْعَقْدِ وفي الْقَلْبِ إفْسَادُهُ فَكَانَ التَّصْحِيحُ أَوْلَى فَبَقِيَ الْبَيْعُ بِبَقَاءِ الْمَبِيعِ فَاحْتَمَلَ الْإِقَالَةَ
وَكَذَلِكَ لو تَقَايَلَا وَالْعَيْنَانِ قَائِمَتَانِ ثُمَّ هَلَكَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْإِقَالَةِ قبل الرَّدِّ لَا تَبْطُلُ الْإِقَالَةُ لِأَنَّ هَلَاكَ إحْدَاهُمَا قبل الْإِقَالَةِ لَمَّا لم يَمْنَعْ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ فَهَلَاكُهَا بَعْدَ الْإِقَالَةِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَهَا على الصِّحَّةِ من طَرِيقِ الْأُولَى لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ من الِابْتِدَاءِ وَهَذَا بِخِلَافِ بِيعَ الْعَرْضِ بِالْعَرْضِ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِأَحَدِ الْعَرْضَيْنِ ابْتِدَاءً وإذا انْعَقَدَ بِهِمَا ثُمَّ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قبل الْقَبْضِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِأَحَدِ الْبَدَلَيْنِ وَيَبْطُلُ بِهَلَاكِ أَحَدِ الْعَرْضَيْنِ قبل الْقَبْضِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الْعَرْضَيْنِ مَبِيعٌ وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْبَيْعَ
فَأَمَّا الْإِقَالَةُ فَرَفْعُ الْبَيْعِ فَتَسْتَدْعِي بَقَاءَ حُكْمِ الْبَيْعِ وقد بَقِيَ بِبَقَاءِ أَحَدِهِمَا وَعَلَى هذا تَخْرُجُ إقَالَةُ السَّلَمِ قبل قَبْضِ الْمُسْلَمِ فيه أنها جَائِزَةٌ سَوَاءٌ كان رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا أو عَيْنًا وَسَوَاءٌ كان قَائِمًا في يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ أو هَالِكًا لِأَنَّ الْمَبِيعَ هو الْمُسْلَمُ فيه وإنه قَائِمٌ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فيه وَإِنْ كان دَيْنًا حَقِيقَةً فَلَهُ حُكْمُ الْعَيْنِ حتى لَا يَجُوزَ اسْتِبْدَالُهُ قبل الْقَبْضِ فَكَانَ كَالْمَعْقُودِ عليه وإنه قَائِمٌ فَوُجِدَ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِقَالَةِ وإذا صَحَّتْ فَإِنْ كان رَأْسُ الْمَالِ عَيْنَ مَالٍ قَائِمَةٍ رَدَّهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ وَإِنْ كانت هَالِكَةً فَإِنْ كان مِمَّا له مِثْلٌ رَدَّ مثله وَإِنْ كان مِمَّا لَا مِثْلَ له رَدَّ قِيمَتَهُ وَإِنْ كان دَيْنًا رَدَّ مثله قَائِمًا كان أو هَالِكًا لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ
____________________

(5/309)


فَهَلَاكُهُ وَقِيَامُهُ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ لو كانت الْإِقَالَةُ بَعْدَ قَبْضِ الْمُسْلَمِ فيه وإنه قَائِمٌ في يَدِ رَبِّ السَّلَمِ أَنَّهُ تَصِحُّ الْإِقَالَةُ ثَمَّةَ لِأَنَّهَا صَحَّتْ حَالَ كَوْنِهِ دَيْنًا حَقِيقَةً فَحَالُ صَيْرُورَتِهِ عَيْنًا بِالْقَبْضِ أَوْلَى
وإذا صَحَّتْ فَعَلَى رَبِّ السَّلَمِ رَدُّ عَيْنِ الْمَقْبُوضِ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِعَقْدِ السَّلَمِ كَأَنَّهُ عَيْنُ ما وَرَدَ عليه الْعَقْدُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً على رَأْسِ الْمَالِ وَالْمُرَابَحَةُ بَيْعُ ما اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مع زِيَادَةِ رِبْحٍ وإذا كان الْمَقْبُوضُ عَيْنَ ما وَرَدَ عليه الْعَقْدُ في التَّقْدِيرِ وَالْحُكْمِ وَجَبَ رَدُّ عَيْنِهِ في الْإِقَالَةِ
وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِنُقْرَةٍ أو بِمَصُوغٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ هَلَكَ الْعَبْدُ في يَدِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ تَقَايَلَا وَالْفِضَّةُ قَائِمَةٌ في يَدِ الْبَائِعِ صَحَّتْ الْإِقَالَةُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ لِتَعَيُّنِهِ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَ مَعْقُودًا عليه فَيَبْقَى الْبَيْعُ بِبَقَاءِ أَحَدِهِمَا وَعَلَى الْبَائِعِ رَدُّ عَيْنِ الْفِضَّةِ وَيَسْتَرِدُّ من الْمُشْتَرِي قِيمَةَ الْعَبْدِ لَكِنْ ذَهَبًا لَا فِضَةً لِأَنَّ الْإِقَالَةَ وَرُدَّتْ على قِيمَةِ الْعَبْدِ فَلَوْ اسْتَرَدَّ قِيمَتَهُ فِضَّةً وَالْقِيمَةُ تَخْتَلِفُ فَتَزْدَادُ أو تَنْقُصُ فَيُؤَدِّي إلَى الرِّبَا وَلَوْ كان الْعَبْدُ قَائِمًا وَقْتَ الْإِقَالَةِ ثُمَّ هَلَكَ قبل الرَّدِّ على الْبَائِعِ فَعَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَرُدَّ الْفِضَّةَ وَيَسْتَرِدَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ إنْ شَاءَ ذَهَبًا وَإِنْ شَاءَ فِضَّةً لِأَنَّ الْإِقَالَةَ هَهُنَا وَرَدَتْ على عَيْنِ الْعَبْدِ ثُمَّ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ على الْمُشْتَرِي بَدَلًا لِلْعَبْدِ وَلَا رَبَا بِينَ الْعَبْدِ وَقِيمَتِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
____________________

(5/310)



كِتَابُ الْكَفَالَةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِ الْكَفَالَةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْكَفَالَةِ وفي بَيَانِ ما يَخْرُجُ بِهِ الْكَفِيلُ عن الْكَفَالَةِ وفي بَيَانِ الرُّجُوعِ بَعْدَ الْخُرُوجِ أَنَّهُ هل يَرْجِعُ أَمْ لَا أَمَّا الرُّكْنُ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الْإِيجَابُ من الْكَفِيلِ وَالْقَبُولُ من الطَّالِبِ وَهَذَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وهو قَوْلُ أبي يُوسُف الْآخَرُ وفي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ الرُّكْنُ هو الْإِيجَابُ فَحَسْبُ
فَأَمَّا الْقَبُولُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ وهو أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أتى بِجِنَازَةِ رَجُلٍ من الْأَنْصَارِ فقال هل على صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ فَقِيلَ نعم درهما ( ( ( درهمان ) ) ) أو دِينَارَانِ فَامْتَنَعَ من الصَّلَاةِ عليها فقال سَيِّدُنَا عَلِيٌّ أو أبو قَتَادَةَ رضي اللَّهُ عنهما هُمَا عَلَيَّ يا رَسُولَ اللَّهِ فَصَلَّى عليها ولم يُنْقَلْ قَبُولُ الطَّالِبِ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمٌّ لُغَةً وَالْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِمَا على الْأَصِيلِ شَرْعًا لَا تَمْلِيكٌ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ الْجَهَالَةُ وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَحْتَمِلُ ذلك وَمَعْنَى الضَّمِّ وَالِالْتِزَامِ يَتِمُّ بِإِيجَابِ الْكَفِيلِ فَأَشْبَهَ النَّذْرَ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا قال عِنْدَ مَوْتِهِ لِوَرَثَتِهِ اضْمَنُوا عَنِّي ما عَلَيَّ من الدَّيْنِ لِغُرَمَائِي وَهُمْ غُيَّبٌ فَضَمِنُوا ذلك فَهُوَ جَائِزٌ وَيَلْزَمُهُمْ وَأَيُّ فَرْقٍ بين الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ وَلَهُمَا أَنَّ الْكَفَالَةَ لَيْسَتْ بِالْتِزَامٍ مَحْضٍ بَلْ فيها مَعْنَى التَّمْلِيكِ لِمَا نَذْكُرُ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَالْبَيْعِ وَالْجَوَابُ عن مَسْأَلَةِ الْمَرِيضِ نَذْكُرُهُ من بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فإذا عَرَفْت أَنَّ رُكْنَ الْكَفَالَةِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَالْإِيجَابُ من الْكَفِيلِ أَنْ يَقُولَ أنا كَفِيلٌ أو ضَمِينٌ أو زَعِيمٌ أو غَرِيمٌ أو قَبِيلٌ أو حَمِيلٌ أو لَك عَلَيَّ أو لَك قِبَلِي أو لَك عِنْدِي
أَمَّا لَفْظُ الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ فَصَرِيحَانِ وَكَذَلِكَ الزَّعَامَةُ بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ وَالْغَرَامَةُ بِمَعْنَى الضَّمَانِ قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الزَّعِيمُ غَارِمٌ أَيْ الْكَفِيلُ ضَامِنٌ وَكَذَلِكَ الْقُبَالَةُ بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ أَيْضًا يُقَالُ قَبِلْت بِهِ أَقْبَلُ قُبَالَةً وَتَقَبَّلْت بِهِ أَيْ كَفَلَتْ قال اللَّهُ تَعَالَى { أو تَأْتِيَ بِاَللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا } أَيْ كَفِيلًا يَكْفُلُونِي بِمَا يقول وَالْحَمِيلُ بِمَعْنَى
____________________

(6/2)


الْمَحْمُولِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْقَتِيلِ بِمَعْنَى الْمَقْتُولِ وإنه ينبىء عن تَحَمُّلِ الضَّمَانِ
وَقَوْلُهُ على كَلِمَةِ إيجَابٍ وَكَذَا قَوْلُهُ إلَيَّ
قال رسول اللَّهِ من تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ وَقَوْلُهُ قِبَلِي ينبىء عن الْقُبَالَةِ وَهِيَ الْكَفَالَةُ على ما ذَكَرْنَا
وَقَوْلُهُ عِنْدِي وَإِنْ كانت مُطْلِقَةً لِلْوَدِيعَةِ لَكِنَّهُ بِقَرِينَةِ الدَّيْنِ يَكُونُ كَفَالَةً لِأَنَّ قَوْلَهُ عِنْدِي يَحْتَمِلُ الْيَدَ وَيَحْتَمِلُ الذِّمَّةَ لِأَنَّهَا كَلِمَةُ قُرْبٍ وَحَضْرَةٍ وَذَلِكَ يُوجَدُ فِيهِمَا جميعا فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ على الْيَدِ لِأَنَّهُ أَدْنَى وَعِنْدَ قَرِينَةِ الدَّيْنِ يُحْمَلُ على الذِّمَّةِ أَيْ في ذِمَّتِي لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَحْتَمِلُهُ إلَّا الذِّمَّةُ
وَأَمَّا الْقَبُولُ من الطَّالِبِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَبِلَتْ أو رَضِيَتْ أو هَوَيْت أو ما يَدُلُّ على هذا الْمَعْنَى ثُمَّ رُكْنُ الْكَفَالَةِ في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو عن أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أو مُقَيَّدًا بِوَصْفٍ أو مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أو مُضَافًا إلَى وَقْتٍ فَإِنْ كان مُطْلَقًا فَلَا شَكَّ في جَوَازِهِ إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْجَوَازِ وَهِيَ ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى غير أَنَّهُ إنْ كان الدَّيْنُ على الْأَصِيلِ حَالًّا كانت الْكَفَالَةُ حَالَّةً وَإِنْ كان الدَّيْنُ عليه مُؤَجَّلًا كانت الْكَفَالَةُ مُؤَجَّلَةً لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ فَتَتَقَيَّدُ بِصِفَةِ الْمَضْمُونِ
وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَلَا يَخْلُو أما إنْ كان مُقَيَّدًا بِوَصْفِ التَّأْجِيلِ أو بِوَصْفِ الْحُلُولِ فَإِنْ كانت الْكَفَالَةُ مُؤَجَّلَةً فَإِنْ كان التَّأْجِيلُ إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ بِأَنْ كَفَلَ إلَى شَهْرٍ أو سَنَةٍ جَازَ ثُمَّ إنْ كان الدَّيْنُ على الْأَصِيلِ مُؤَجَّلًا إلَى أَجَلٍ مِثْلِهِ يَتَأَجَّلُ إلَيْهِ في حَقِّ الْكَفِيلِ أَيْضًا وَإِنْ سمي الْكَفِيلُ أَجَلًا أَزْيَدَ من ذلك أو أَنْقَصَ جَازَ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّ للطالب ( ( ( الطالب ) ) ) فَلَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ وَإِنْ كان الدَّيْنُ عليه حَالًّا جَازَ التَّأْجِيلُ إلَى الْأَجَلِ الْمَذْكُورِ وَيَكُونُ ذلك تَأْجِيلًا في حَقِّهِمَا جميعا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وروي ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أن يَكُونُ تَأْجِيلًا في حَقِّ الْكَفِيلِ خَاصَّةً
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ إن الطَّالِبَ خَصَّ الْكَفِيلَ بِالتَّأْجِيلِ فَيَخُصُّ بِهِ كما إذَا كَفَلَ حَالًّا أو مُطْلَقًا ثُمَّ أَخَّرَ عنه بَعْدَ الْكَفَالَةِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّأْجِيلَ في نَفْسِ الْعَقْدِ يَجْعَلُ الْأَجَلَ صِفَةً لِلدَّيْنِ وَالدَّيْنُ وَاحِدٌ وهو على الْأَصِيلِ فَيَصِيرُ مُؤَجَّلًا عليه ضَرُورَةً بِخِلَافِ ما إذَا كان بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ الْمُتَأَخِّرَ عن الْعَقْدِ يُؤَخِّرُ الْمُطَالَبَةَ وقد خُصَّ بِهِ الْكَفِيلُ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْأَصِيلِ
وَلَوْ كان الدَّيْنُ على الْأَصِيلِ مُؤَجَّلًا إلَى سَنَةٍ فَكَفَلَ بِهِ مُؤَجِّلًا إلَى سَنَةٍ أو مُطْلِقًا ثُمَّ مَاتَ الْأَصِيلُ قبل تَمَامِ السَّنَةِ يَحِلُّ الدَّيْنُ في مَالِهِ وهو على الْكَفِيلِ إلَى أَجَلِهِ
وَكَذَا لو مَاتَ الْكَفِيلُ دُونَ الْأَصِيلِ يَحِلُّ الدَّيْنُ في مَالِ الْكَفِيلِ وهو على الْأَصِيلِ إلَى أَجَلِهِ لِأَنَّ الْمُبْطِلَ لِلْأَجَلِ وُجِدَ في حَقِّ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَإِنْ كان التَّأْجِيلُ إلَى وَقْتٍ مَجْهُولٍ فَإِنْ كان يُشْبِهُ آجَالَ الناس كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَالنَّيْرُوزِ وَنَحْوِهِ فَكَفَلَ إلَى هذه الْأَوْقَاتِ جَازَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا عَقْدٌ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ فَلَا يَصِحُّ كَالْبَيْعِ
وَلَنَا أَنَّ هذا ليس بِجَهَالَةٍ فَاحِشَةٍ فَتَحْمِلُهَا الْكَفَالَةُ وَهَذَا لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ من جَوَازِ الْعَقْدِ لِعَيْنِهَا بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَجَهَالَةُ التقدير ( ( ( التقديم ) ) ) وَالتَّأْخِيرِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ في بَابِ الْكَفَالَةِ لِأَنَّهُ يُسَامَحُ في أَخْذِ الْعَقْدِ ما لَا يُسَامَحُ في غَيْرِهِ لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ من جِهَة الْأَصِيلِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ جَوَازُهَا بِالْعُرْفِ وَالْكَفَالَةُ إلَى هذه الْآجَالِ مُتَعَارَفَةٌ وَلَوْ كانت الْكَفَالَةُ حَالَّةً فَأَخَّرَ إلَى هذه الْأَوْقَاتِ جَازَ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كان لَا يُشْبِهُ آجَالَ الناس كمجىء ( ( ( كمجيء ) ) ) الْمَطَرِ وَهُبُوبِ الرِّيحِ فَالْأَجَلُ بَاطِلٌ وَالْكَفَالَةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ هذه جَهَالَةٌ فَاحِشَةٌ فَلَا تَتَحَمَّلُهَا الْكَفَالَةُ فلم يَصِحَّ التَّأْجِيلُ فَبَطَلَ وَبَقِيَتْ الْكَفَالَةُ صَحِيحَةً
وَكَذَا لو كان على رَجُلٍ دَيْنٌ فَأَجَّلَهُ الطَّالِبُ إلَى هذه الْأَوْقَاتِ جَازَ وَإِنْ كان ثَمَنُ مَبِيعٍ وَلَا يُوجِبُ ذلك فَسَادَ الْبَيْعِ لِأَنَّ تَأْجِيلَ الدَّيْنِ ابْتِدَاءً بِمَنْزِلَةِ التَّأْخِيرِ في الْكَفَالَةِ وَذَا لَا يُؤَثِّرُ في الْبَيْعِ فَكَذَا هذا هذا إذَا كانت الْكَفَالَةُ مُؤَجَّلَةً فَأَمَّا إذَا كانت حَالَّةً فَإِنْ شَرَطَ الطَّالِبُ الْحُلُولَ على الْكَفِيلِ جَازَ سَوَاءٌ كان الدَّيْنُ على الْأَصِيلِ حَالًّا أو مُؤَجَّلًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّ الْمَكْفُولِ له فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيه بِالتَّعْجِيلِ وَالتَّأْجِيلِ وَلَوْ كَفَلَ حَالًّا ثُمَّ أَجَّلَهُ الطَّالِبُ بَعْدَ ذلك يَتَأَخَّرُ في حَقِّ الْكَفِيلِ إذَا قُبِلَ التَّأْخِيرُ دُونَ الْأَصْلِ بِخِلَافِ ما إذَا كان التَّأْجِيلُ في الْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَا من الْفَرْقِ
وَلَوْ كان الدَّيْنُ على الْأَصْلِ حَالًّا فَأَخَّرَهُ الطَّالِبُ إلَى مُدَّةٍ وَقَبِلَهُ الْمَطْلُوبُ جَازَ التَّأْخِيرُ وَيَكُونُ تَأْخِيرًا في حَقِّ الْكَفِيلِ
هذا إذَا كانت الكفالة مُقَيَّدَةً بِوَصْفٍ فَأَمَّا إذَا كانت مُعَلَّقَةً بِشَرْطٍ فَإِنْ كان الْمَذْكُورُ شَرْطًا سَبَبًا لِظُهُورِ
____________________

(6/3)


الْحَقِّ أو لِوُجُوبِهِ أو وَسِيلَةً إلَى الْأَدَاءِ في الْجُمْلَةِ جَازَ بِأَنْ قال إنْ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ فَأَنَا كَفِيلٌ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمَبِيعِ سَبَبٌ لِظُهُورِ الْحَقِّ وَكَذَا إذَا قال إذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنَا كَفِيلٌ لِأَنَّ قُدُومَهُ وَسِيلَةٌ إلَى الْأَدَاءِ في الْجُمْلَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَكْفُولًا عنه أو يَكُونَ مُضَارَبَةً فَإِنْ لم يَكُنْ سَبَبًا لِظُهُورِ الْحَقِّ وَلَا لِوُجُوبِهِ وَلَا وَسِيلَةَ إلَى الْأَدَاءِ في الْجُمْلَةِ لَا يَجُوزُ بِأَنْ قال إذَا جاء الْمَطَرُ أو هَبَّتْ الرِّيحُ أو إنْ دخل زَيْدٌ الدَّارَ فَأَنَا كَفِيلٌ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ فيها مَعْنَى التَّمْلِيكِ لِمَا ذَكَرْنَا وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَجُوزَ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ إلَّا شَرْطًا أُلْحِقَ بِهِ تعقل ( ( ( تعلق ) ) ) بِالظُّهُورِ أو التَّوَسُّلِ إلَيْهِ في الْجُمْلَةِ فَيَكُونُ مُلَائِمًا لِلْعَقْدِ فَيَجُوزُ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ جَوَازُهَا بِالْعُرْفِ وَالْعُرْفُ في مِثْلِ هذا الشَّرْطِ دُونَ غَيْرِهِ
وَلَوْ قال إنْ قَتَلَك فُلَانٌ أو إنْ شَجَّك فُلَانٌ أو إنْ أغصبك ( ( ( غصبك ) ) ) فُلَانٌ أو إنْ بَايَعْت فُلَانًا فَأَنَا ضَامِنٌ لِذَلِكَ جَازَ لِأَنَّ هذه الْأَفْعَالَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ
وَلَوْ قال إنْ غَصَبَك فُلَانٌ ضَيْعَتَك فَأَنَا ضَامِنٌ لم يَجُزْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَجَازَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِنَاءً على أَنَّ غَصْبَ الْعَقَارِ لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَقَّقُ وَلَوْ قال من قَتَلَك من الناس أو من غَصَبَك من الناس أو من شَجَّك من الناس أو من بَايَعَكَ من الناس لم يَجُزْ لَا من قِبَلِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ بَلْ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عنه مَجْهُولٌ وَجَهَالَةُ الْمَضْمُونِ عنه تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ
وَلَوْ قال ضَمِنَتْ لَك ما على فَلَانَ إنْ توى ( ( ( نوى ) ) ) جَازَ لِأَنَّ هذا شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ لِأَنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَى التَّوَسُّلِ إلَى ما هو الْمَقْصُودُ وَكَذَا لو قال إنْ خَرَجَ من الْمِصْرِ ولم يُعْطِك فَأَنَا ضَامِنٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ شَرَطَ في الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ تَسْلِيمَ الْمَكْفُولِ بِهِ في وَقْتٍ بِعَيْنِهِ جَازَ لِأَنَّ هذا تَأْجِيلُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَيَصِحُّ كَالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ وَكَذَا سَائِرُ أَنْوَاعِ الْكَفَالَاتِ في التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ وَالتَّأْجِيلِ وَالْإِضَافَةِ إلَى الْوَقْتِ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْكُلَّ في مَعْنَى الْكَفَالَةِ على السَّوَاءِ
وَلَوْ قال كَفَلَتْ لَك مَالَك على فُلَانٍ حَالًّا على أَنَّك مَتَى طَلَبْته فَلِيَ أَجَلُ شَهْرٍ جَازَ وإذا طَلَبْته منه فَلَهُ أَجَلُ ثُمَّ إذَا مَضَى الشَّهْرُ فَلَهُ أَنْ يأخذه ( ( ( يأخذ ) ) ) مَتَى شَاءَ
وَلَوْ شَرَطَ ذلك بَعْدَ تَمَامِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ حَالًّا لم يَجُزْ وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ مَتَى شَاءَ
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَوْجُودَ هَهُنَا كَفَالَتَانِ إحْدَاهُمَا حَالَّةٌ مُطْلَقَةٌ وَالثَّانِيَةُ مُؤَجَّلَةٌ إلَى شَهْرٍ مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطِ الطَّلَبِ فإذا وُجِدَ الشَّرْطُ ثَبَتَ التَّأْجِيلُ إلَى شَهْرٍ فإذا مَضَى الشَّهْرُ انْتَهَى حُكْمُ التَّأْجِيلِ فَيَأْخُذُهُ بِالْكَفَالَةِ الْحَالَّةِ هذا مَعْنَى قَوْلِهِ في الْكِتَابِ يَأْخُذُهُ مَتَى شَاءَ بِالطَّلَبِ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ ما إذَا كان التَّأْجِيلُ بِالشَّرْطِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ لِأَنَّ ذلك تَعْلِيقُ التَّأْجِيلِ بِالشَّرْطِ لَا تَعْلِيقُ الْعَقْدِ الْمُؤَجَّلِ بِالشَّرْطِ وَالتَّأْجِيلُ نَفْسُهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَبَطَلَ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا كَفَلَ إلَى قُدُومِ زَيْدٍ جَازَ وَلَوْ كَفَلَ مُطْلَقًا ثُمَّ أَخَّرَ إلَى قُدُومِ زَيْدٍ لم يَجُزْ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هذا
وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ الْمَطْلُوبِ على أَنَّهُ إنْ لم يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ ما عليه وهو الْأَلْفُ فَمَضَى الْوَقْتُ ولم يُوَافِ بِهِ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ لِأَنَّ هُنَا كَفَالَتَانِ بِالنَّفْسِ وَبِالْمَالِ إلَّا أَنَّهُ كَفَلَ بِالنَّفْسِ مُطْلَقًا وَعَلَّقَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ فَكُلُّ ذلك جَائِزٌ
أَمَّا الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَلَا شَكَّ فيها وَكَذَا الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ لِأَنَّ هذا شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ مُحَقِّقٌ لِمَا شُرِعَ له وهو الْوُصُولُ إلَى الْحَقِّ من جِهَةِ الْكَفِيلِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ من قِبَلِ الْأَصِيلِ فإذا لم يُوجَدْ الشَّرْطُ لَزِمَهُ الْمَالُ وإذا أَدَّاهُ لَا يَبْرَأُ عن الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ لِجَوَازِ أَنْ يَدَّعِيَ عليه مَالًا آخَرَ فَيَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ وَكَذَا إذَا قال فَعَلَيْهِ ما عليه وَعَلَيْهِ أَلْفٌ ولم يُسَمِّ لِأَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْأَلْفِ لِأَنَّهُ أضف ( ( ( أضاف ) ) ) الْكَفَالَةَ إلَى ما عليه وَالْأَلْفُ عليه وَكَذَا لو كَفَلَ لِامْرَأَةٍ بِصَدَاقِهَا إنْ لم يُوَافِ الزَّوْجُ وَصَدَاقُهَا وَصِيفٌ فالوصيف ( ( ( فالوصف ) ) ) لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْوَصِيفِ كَفَالَةٌ بِمَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ وهو الزَّوْجُ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ يَثْبُتُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا ليس بِمَالٍ فَيَلْزَمُ الْكَفِيلَ وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وقال إنْ لم أُوَافِك بِهِ غَدًا فعلى أَلْفُ دِرْهَمٍ ولم يَقُلْ الْأَلْفُ التي عليه أو الْأَلْفُ التي ادَّعَيْت وَالْمَطْلُوبُ يُنْكَرُ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَلْزَمُهُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هذا إيجَابُ الْمَالِ مُعَلَّقًا بِالْخَطَرِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ لم تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى الْوَاجِبِ وَوُجُوبُ الْمَالِ ابْتِدَاءً لَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَطَرِ فَأَمَّا الْكَفَالَةُ بِمَالٍ ثَابِتٍ فَتَتَعَلَّقُ بِالْخَطَرِ ولم يُوجَدْ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن مُطْلَقَ الْأَلْفِ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَلْفِ الْمَعْهُودَةِ وَهِيَ الْأَلْفُ الْمَضْمُونَةُ مع ما أَنَّ في الصَّرْفِ إلَى ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ فَسَادَ الْعَقْدِ وفي الصَّرْفِ إلَى ما عليه صِحَّتُهُ فَالصَّرْفُ إلَى ما فيه صِحَّةُ الْعَقْدِ أَوْلَى
وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ على أَنْ يُوَافِيَ بِهِ إذَا ادَّعَى بِهِ فَإِنْ لم يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ التي عليه
____________________

(6/4)


جَازَ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِالنَّفْسِ مُطْلَقًا وَعَلَّقَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ عِنْدَ طَلَبِ الْمُوَافَاةِ وَهَذَا شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَا فإذا طَلَبَ منه الْمَكْفُولُ له تَسْلِيمَ النَّفْسِ فَإِنْ سَلَّمَ مَكَانَهُ برىء لِأَنَّهُ أتى بِمَا الْتَزَمَ وَإِنْ لم يُسَلِّمْ فَعَلَيْهِ الْمَالُ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ وهو عَدَمُ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ عِنْدَ الطَّلَبِ وَلَوْ قال ائْتِنِي بِهِ عَشِيَّةً أو غَدْوَةً وقال الْكَفِيلُ أنا آتِيك بِهِ بَعْدَ غَدٍ فَإِنْ لم يَأْتِ بِهِ في الْوَقْتِ الذي طَلَبَ الْمَكْفُولُ له فَعَلَيْهِ الْمَالُ لِوُجُودِ شَرْطِ اللُّزُومِ وَإِنْ أَخَّرَ الْمُطَالَبَةَ إلَى ما بَعْدِ غَدٍ كما قَالَهُ الْكَفِيلُ فَأَتَى بِهِ فَهُوَ بَرِيءٌ من الْمَالِ لِأَنَّهُ بِالتَّأْخِيرِ أَبْطَلَ الطَّلَبَ الْأَوَّلَ فلم يَبْقَ التَّسْلِيمُ وَاجِبًا عليه وَصَارَ كَأَنَّهُ طَلَبَ منه من الِابْتِدَاءِ التَّسْلِيمَ بَعْدَ غَدٍ وقد وُجِدَ وبرىء من الْمَالِ وَلَوْ كَفَلَ بِالْمَالِ وقال إنْ وَافَيْتُك بِهِ غَدًا فَأَنَا برىء ( ( ( بريء ) ) ) فَوَافَاهُ من الْغَدِ يَبْرَأُ من الْمَالِ في رِوَايَةٍ وفي رِوَايَةٍ لَا يَبْرَأُ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ إن قَوْلَهُ إنْ وَافَيْتُك بِهِ غَدًا فَأَنَا بَرِيءٌ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ عن الْمَالِ بِشَرْطِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ وَالْبَرَاءَةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لِأَنَّ فيها مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَالتَّمْلِيكَاتُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى إن هذا ليس بِتَعْلِيقِ الْبَرَاءَةِ بِشَرْطِ الْمُوَافَاةِ بَلْ هو جَعْلُ الْمُوَافَاةِ غَايَةً لِلْكَفَالَةِ بِالْمَالِ وَالشَّرْطُ قد يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْغَايَةِ لِمُنَاسِبَةٍ بَيْنَهُمَا وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ
وَلَوْ شَرَطَ في الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ في مَجْلِسِ الْقَاضِي جَازَ لِأَنَّ هذا شَرْطٌ مُفِيدٌ وَيَكُونُ التَّسْلِيمُ في الْمِصْرِ أو في مَكَان يَقْدِرُ على إحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي تَسْلِيمًا إلَى الْقَاضِي لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ في مِصْرٍ مُعَيَّنٍ يَصِحُّ التَّقْيِيدُ بِالْمِصْرِ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّعْيِينُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْأَمِيرِ لَا يَتَقَيَّدُ بِهِ حتى لو دَفْعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي أو عُزِلَ الْأَمِيرُ وولى غَيْرُهُ فَدَفْعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الثَّانِي جَازَ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مُفِيدٍ وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ لم يُوَافِ بِهِ فَعَلَيْهِ ما يَدَّعِيه الطَّالِبُ فَإِنْ ادَّعَى الطَّالِبُ أَلْفًا فَإِنْ لم يَكُنْ عليه بَيِّنَةٌ لَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِنَفْسِ الدَّعْوَى شَيْءٌ فَقَدْ أَضَافَ الِالْتِزَامُ إلَى ما ليس بِسَبَبِ اللُّزُومِ وَكَذَا إذَا أَقَرَّ بها الْمَطْلُوب لِأَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ عليه لَا على غَيْرِهِ فَلَا يَصْدُقُ على الْكَفِيلِ وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عليها أو أَقَرَّ بها الْكَفِيلُ فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ سَبَبٌ لِظُهُورِ الْحَقِّ وَكَذَا إقْرَارُ الْإِنْسَانِ على نَفْسِهِ صَحِيحٌ فَيُؤَاخِذُ بِهِ
وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ على أَنَّهُ إنْ لم يُوَافِ بِهِ إلَى شَهْرٍ فَعَلَيْهِ ما عليه فَمَاتَ الْكَفِيلُ قبل الشَّهْرِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ثُمَّ مَضَى الشَّهْرُ قبل أَنْ يَدْفَعَ وَرَثَةُ الْكَفِيلِ الْمَكْفُولَ بِهِ إلَى الطَّالِبِ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ وَيَضْرِبُ الطَّالِبُ مع الْغُرَمَاءِ أَمَّا لُزُومُ الْمَالِ فَلِأَنَّ الْحُكْمَ بَعْدَ الشَّرْطِ يَثْبُتُ مُضَافًا إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ وهو عنده مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ صَحِيحٌ وَلِهَذَا لو كَفَلَ وهو صَحِيحٌ ثُمَّ مَرِضَ تُعْتَبَرُ الْكَفَالَةُ من جَمِيعِ الْمَالِ لَا من الثُّلُثِ وَأَمَّا الضَّرْبُ مع الْغُرَمَاءِ فَلِاسْتِوَاءِ الدِّينَيْنِ وَكَذَا لو مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ ثُمَّ مَاتَ الْكَفِيلُ لِأَنَّهُ إذَا ما ( ( ( مات ) ) ) فَقَدْ عَجَزَ الْكَفِيلُ عن تَسْلِيمِ نَفْسِهِ فَوُجِدَ شَرْطُ لُزُومِ الْمَالِ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ
هذا إذَا كانت الْكَفَالَةُ مُعَلَّقَةً بِالشَّرْطِ فَأَمَّا إذَا كانت مُضَافَةً إلَى وَقْتٍ بِأَنْ ضَمِنَ ما أدان له على فُلَانٍ أو ما قَضَى له عليه أو ما دَايَنَ فُلَانًا أو ما أَقْرَضَهُ أو ما اسْتَهْلَكَ من مَالِهِ أو ما غَصَبَهُ أو ثَمَنَ ما بَايَعَهُ صَحَّتْ هذه الْكَفَالَةُ لِأَنَّهَا أُضِيفَتْ إلَى سَبَبِ الضَّمَانِ وَإِنْ لم يَكُنْ الضَّمَانُ ثَابِتًا في الْحَالِ وَالْكَفَالَةُ إنْ كان فيها مَعْنَى التَّمْلِيكِ فَلَيْسَتْ بِتَمْلِيكٍ مَحْضٍ فَجَازَ أَنْ تحتمل ( ( ( يحتمل ) ) ) الْإِضَافَةَ
وَلَوْ قال كُلَّمَا بَايَعْتَ فُلَانًا فَثَمَنُهُ عَلَيَّ أو ما بَايَعْتَ أو الذي بَايَعْتَ يُؤَاخَذُ الْكَفِيلُ بِجَمِيعِ ما بَايَعَهُ
وَلَوْ قال إنْ بَايَعْتَ أو إذَا بَايَعْتَ أو مَتَى بَايَعْتَ يُؤَاخَذُ بِثَمَنِ أَوَّلِ الْمُبَايَعَةِ لا يُؤَاخَذُ بِثَمَنِ ما بَايَعَهُ بَعْدَهَا لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّ لِعُمُومِ الْأَفْعَالِ وَكَذَا كَلِمَةُ ما وَاَلَّذِي لِلْعُمُومِ وقد دَخَلَتْ على الْمُبَايَعَةِ فَيَقْتَضِي تَكْرَارَ الْمُبَايَعَةِ ولم يُوجَدْ مِثْلُ هذه الدَّلَالَةِ في قَوْلِهِ إنْ بَايَعْتَ وَنَظَائِرِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فصل ( ( ( ركن ) ) ) وَأَمَّا شَرَائِطُ الْكَفَالَةِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْكَفِيلِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْأَصِيلِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَكْفُولِ له وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَكْفُولِ بِهِ ثُمَّ منها ما هو شَرْطُ الِانْعِقَادِ وَمِنْهَا ما هو شَرْطُ النَّفَاذِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْكَفِيلِ فَأَنْوَاعٌ منها الْعَقْلُ وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وأنهما من شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ لِهَذَا التَّصَرُّفِ فَلَا تَنْعَقِدُ كَفَالَةُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَا تَنْعَقِدُ مِمَّنْ ليس من أَهْلِ التَّبَرُّعِ إلَّا أَنَّ الْأَبَ أو الْوَصِيَّ لو اسْتَدَانَ دَيْنًا في نَفَقَةِ الْيَتِيمِ وَأَمَرَ الْيَتِيمَ أَنْ يَضْمَنَ الْمَالَ عنه جَازَ
وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَكْفُلَ عنه النَّفْسَ لم يَجُزْ لِأَنَّ ضَمَانَ الدَّيْنِ قد لَزِمَهُ من غَيْرِ شَرْطٍ فَالشَّرْطُ
____________________

(6/5)


لَا يَزِيدُهُ إلَّا تَأْكِيدًا فلم يَكُنْ مُتَبَرِّعًا فَأَمَّا ضَمَانُ النَّفْسِ وهو تَسْلِيمُ نَفْسِ الْأَبِ أو الْوَصِيِّ فلم يَكُنْ عليه فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فيه فلم يَجُزْ
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ وَهِيَ شَرْطُ نَفَاذِ هذا التَّصَرُّفِ فَلَا تَجُوزُ كَفَالَةُ الْعَبْدِ مَحْجُورًا كان أو مَأْذُونًا له في الجارة ( ( ( التجارة ) ) ) لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُهُ بِدُونِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَلَكِنَّهَا تَنْعَقِدُ حتى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ النَّفَاذِ ما كان لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ بَلْ لِحَقِّ الْمَوْلَى وقد زَالَ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ منه لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فَلَا تَحْتَمِلُ النَّفَاذَ بِالْبُلُوغِ
وَلَوْ أَذِنَ له الْمَوْلَى بِالْكَفَالَةِ فَإِنْ كان عليه دَيْنٌ لم يَجُزْ لِأَنَّ إذْنَهُ بِالتَّبَرُّعِ لم يَصِحَّ وَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ جَازَتْ كَفَالَتُهُ وَتُبَاعُ رَقَبَتُهُ في الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى وَلَا تَجُوزُ كَفَالَةُ الْمُكَاتَبِ من الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ على لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَسَوَاءٌ أَذِنَ له الْمَوْلَى أو لم يَأْذَنْ لِأَنَّ إذْن الْمَوْلَى لم يَصِحَّ في حَقِّهِ وَصَحَّ في حَقِّ الْقِنِّ وَلَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ حتى يُطَالَبَ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ
وَلَوْ كَفَلَ الْمُكَاتَبُ أو الْمَأْذُونُ عن الْمَوْلَى جَازَ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ التَّبَرُّعَ عليه وَأَمَّا صِحَّةُ بَدَنِ الْكَفِيلِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْكَفَالَةِ فَتَصِحُّ كَفَالَةُ الْمَرِيضِ لَكِنْ من الثُّلُثِ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْأَصِيلِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا على تَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِهِ إمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِنَائِبِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلَا فصح ( ( ( تصح ) ) ) الْكَفَالَةُ بِالدَّيْنِ عن مَيِّتٍ مُفْلِسٍ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَوْتَ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ مَالٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَفْتَقِرُ بَقَاؤُهُ إلَى الْقُدْرَةِ وَلِهَذَا بَقِيَ إذَا مَاتَ مَلِيًّا حتى تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ وَكَذَا بَقِيَتْ الْكَفَالَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُفْلِسًا وإذا مَاتَ عن كفل ( ( ( كفيل ) ) ) تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عنه بِالدَّيْنِ فَكَذَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عنه وَالتَّبَرُّعُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّيْنَ عِبَارَةٌ عن الْفِعْلِ وَالْمَيِّتُ عَاجِزٌ عن الْفِعْلِ فَكَانَتْ هذه كَفَالَةٌ بِدَيْنٍ سَاقِطٍ فَلَا تَصِحُّ كما كَفَلَ على إنْسَانٍ بِدَيْنٍ وَلَا دَيْنَ عليه إذا ( ( ( وإذا ) ) ) مَاتَ مَلِيًّا فَهُوَ قَادِرٌ بِنَائِبِهِ
وَكَذَا إذَا مَاتَ عن كَفِيلٍ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ في قَضَاءِ دَيْنِهِ
وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ وَالتَّبَرُّعُ فَهُمَا في الْحَقِيقَةِ إبْرَاءٌ عن الْمُؤَاخَذَةِ بِسَبَبِ الْمُمَاطَلَةِ في قَضَاءِ الدَّيْنِ وَالتَّبَرُّعِ بِتَخْلِيصِ الْمَيِّتِ عن الْمُؤَاخَذَةِ بِسَبَبِ التَّقْصِيرِ بِوَاسِطَةِ إرْضَاءِ الْخَصْمِ بِهِبَةِ هذا الْقَدْرِ منه فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إبْرَاءً عن الدَّيْنِ وَتَبَرُّعًا بِقَضَائِهِ حَقِيقَةً فَلَا على ما عُرِفَ في الْخِلَافِيَّاتِ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِأَنْ كَفَلَ ما على فُلَانٍ فَأَمَّا إذَا قال على أَحَدٍ من النَّاس أو بِعَيْنٍ أو بِنَفْسٍ أو بِفِعْلٍ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عليه مَجْهُولٌ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ جَوَازُهَا بِالْعُرْفِ وَالْكَفَالَةُ على هذا الْوَجْهِ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ فَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْأَصِيلِ وَعَقْلُهُ وَبُلُوغُهُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْكَفَالَةِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَضْمُونِ ما على الْأَصْلِ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ من الْكَفِيلِ وقد وُجِدَ
أَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ عليه وَيُطَالِبُ بِهِ في الْجُمْلَةِ فَأَشْبَهَ الْكَفَالَةَ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ
وَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ في ذِمَّتِهِمَا وَالْوَلِيُّ مُطَالِبٌ بِهِ في الْحَالِ وَيُطَالَبَانِ أَيْضًا في الْجُمْلَةِ وهو ما بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ فَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ عن الْعَبْدِ وَإِنْ كان مَحْجُورًا وَعَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إلَّا أَنَّ الْكَفِيلَ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عليهم بِمَا أَدَّى وَإِنْ كانت الْكَفَالَةُ بِإِذْنِهِمْ لِمَا نَذْكُرُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ حَضْرَتُهُ فَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ عن غَائِبٍ أو مَحْبُوسٍ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْكَفَالَةِ في الْغَالِبِ في مِثْلِ هذه الْأَحْوَالِ فَكَانَتْ الْكَفَالَةُ فِيهِمَا أَجْوَزَ ما يَكُونُ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَكْفُولِ له فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا حتى أَنَّهُ إذَا كَفَلَ لِأَحَدٍ من الناس لَا تَجُوزُ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ له إذَا كان مَجْهُولًا لَا يَحْصُلُ ما شُرِعَ له الْكَفَالَةُ وهو التَّوَثُّقُ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ في مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَأَنَّهُ شَرَطَ الِانْعِقَادَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إذَا لم يَقْبَلْ عنه حَاضِرٌ في الْمَجْلِسِ حتى إن من كَفَلَ لِغَائِبٍ عن الْمَجْلِسِ فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ لَا تَجُوزُ عِنْدَهُمَا إذَا لم يَقْبَلْ عنه حَاضِرٌ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ وَظَاهِرُ إطْلَاقِ مُحَمَّدٍ في الْأَصْلِ أنها جَائِزَةٌ على قَوْلِهِ الْآخَرِ يَدُلُّ على أَنَّ الْمَجْلِسَ عِنْدَهُ ليس بشرط ( ( ( شرطا ) ) ) أَصْلًا لَا شَرْطَ النَّفَاذِ وَلَا شَرْطَ الِانْعِقَادِ لِأَنَّ مُحَمَّدًا رُبَّمَا يُطْلِقُ الْجَوَازَ على النَّافِذِ فَأَمَّا الْمَوْقُوفُ فَنُسَمِّيه بَاطِلًا إلَّا أَنْ يُجِيزَ وَهَذَا الاطلاق صَحِيحٌ لِأَنَّ الْجَائِزَ هو النَّافِذُ في اللُّغَةِ يُقَالُ جَازَ السَّهْمُ إذَا نَفَذَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ الْآخَرِ ما ذَكَرْنَا في صَدْرِ الْكِتَابِ أَنَّ مَعْنَى هذا الْعَقْدِ لُغَةً وَشَرْعًا وهو الضَّمُّ وَالِالْتِزَامُ يَتِمُّ بِإِيجَابِ الْكَفِيلِ فَكَانَ إيجَابُهُ كُلَّ الْعَقْدِ وَالدَّلِيلُ عليه مَسْأَلَةُ الْمَرِيضِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا ما ذَكَرْنَا أَنَّ فيه مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَقُومُ إلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَكَانَ الْإِيجَابُ وَحْدَهُ شَطْرَ الْعَقَدِ فَلَا يَقِفُ على غَائِبٍ
____________________

(6/6)


عن الْمَجْلِسِ كَالْبَيْعِ مع ما أَنَّا نَعْمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ جميعا فَنَقُولُ شبه ( ( ( لشبه ) ) ) الِالْتِزَامِ يَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ وَالتَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةِ إلَى الْوَقْتِ وَلِشِبْهِ التَّمْلِيكِ لَا يَقِفُ على غَائِبٍ عن الْمَجْلِسِ اعْتِبَارًا لِلشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْمَرِيضِ فَقَدْ قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا أن جَوَازَ الضَّمَانِ هُنَاكَ بِطَرِيقِ الْإِيصَاءِ بِالْقَضَاءِ عنه بَعْدَ مَوْتِهِ لَا بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ اضْمَنُوا عَنِّي إيصَاءً منه إلَيْهِمْ بِالْقَضَاءِ عنه حتى لو مَاتَ ولم يَتْرُكْ شيئا لَا يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ شَيْءٌ فَعَلَى هذا لَا يَلْزَمُ وَبَعْضُهُمْ أَجَازُوهُ على سَبِيلِ الْكَفَالَةِ
وَوَجْهُهُ ما أَشَارَ إلَيْهِ أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ في الْأَصْلِ وقال هو بِمَنْزِلَةِ الْمُعَبِّرِ عن غُرَمَائِهِ وَشَرْحُ هذه الْإِشَارَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِمَالِهِ وَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ عنه حتى لَا يَنْفُذَ منه التَّصَرُّفُ الْمُبْطِلُ لِحَقِّ الْغَرِيمِ
وَلَوْ قال أَجْنَبِيٌّ لِلْوَرَثَةِ اضْمَنُوا لِغُرَمَاءِ فُلَانٍ عنه فقلوا ( ( ( فقالوا ) ) ) ضَمِنَّا يكتفي بِهِ فَكَذَا الْمَرِيضُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا وهو تَفْرِيعٌ على مَذْهَبِهِمَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَلَا يَصِحُّ قَبُولُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ الْقَبُولِ وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ وَلِيِّهِمَا عنهما لِأَنَّ الْقَبُولَ يُعْتَبَرُ مِمَّنْ وَقَعَ له الْإِيجَابُ وَمَنْ وَقَعَ له الْإِيجَابُ ليس من أَهْلِ الْقَبُولِ وَمَنْ قَبِلَ لم يَقَعْ الْإِيجَابُ له فَلَا يُعْتَبَرُ قَبُولُهُ
وَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْمَكْفُولِ له فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ من أَهْلِ الْقَبُولِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَكْفُولِ بِهِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَضْمُونًا على الْأَصِيلِ سَوَاءٌ كان دَيْنًا أو عَيْنًا أو نَفْسًا أو فِعْلًا ليس بِدَيْنٍ وَلَا عَيْنٍ وَلَا نَفْسٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ في الْكَفَالَةِ بِالْعَيْنِ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِنَفْسِهَا
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ عَيْنٌ وَدَيْنٌ وَنَفْسٌ وَفِعْلٌ ليس بِدَيْنٍ وَلَا عَيْنٍ وَلَا نَفْسٍ
أَمَّا الْعَيْنُ فَنَوْعَانِ عَيْنٌ هِيَ أَمَانَةٌ وَعَيْنٌ هِيَ مَضْمُونَةٌ أَمَّا الْعَيْنُ التي هِيَ أَمَانَةٌ فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بها سَوَاءٌ كانت أَمَانَةً غير وَاجِبَةِ التَّسْلِيمِ كَالْوَدَائِعِ وَمَالِ الشَّرِكَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ أو كانت أَمَانَةً وَاجِبَةَ التَّسْلِيمِ كَالْعَارِيَّةِ وَالْمُسْتَأْجَرِ في يَدِ الْأَجِيرِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى عَيْنِهَا وَعَيْنُهَا لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ وله كَفَلَ بِتَسْلِيمِ الْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجَرِ عن الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ جَازَ لِأَنَّهُمَا مَضْمُونَا التَّسْلِيمِ عَلَيْهِمَا فَالْكَفَالَةُ أُضِيفَتْ إلَى مَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ وهو فِعْلُ التَّسْلِيمِ فَصَحَّتْ
وَأَمَّا الْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ فَنَوْعَانِ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَقْبُوضِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْمَقْبُوضِ على سَوْمِ الشِّرَاءِ وَمَضْمُونٌ بِغَيْرِهِ كَالْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ وَالرَّهْنِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ كَفَالَةٌ بِمَضْمُونٍ بِنَفْسِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ رَدُّ عَيْنِهِ حَالَ قِيَامِهِ وَرَدُّ مِثْلِهِ أو قِيمَتِهِ حَالَ هَلَاكِهِ فَيَصِيرُ مَضْمُونًا على الْكَفِيلِ على هذا الْوَجْهِ أَيْضًا وَلَا تَصِحُّ بِالنَّوْعِ الثَّانِي لِأَنَّ الْمَبِيعَ قبل الْقَبْضِ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ لَا بِنَفْسِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا هَلَكَ في يَدِ الْبَائِعِ لَا يَجِبُ عليه شَيْءٌ وَلَكِنْ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عن الْمُشْتَرِي
وَكَذَا الرَّهْنُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِنَفْسِهِ بَلْ بِالدَّيْنِ أَلَا يرى أَنَّهُ إذَا هَلَكَ لَا يَجِبُ على الْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ وَلَكِنْ يَسْقُطُ الدَّيْنُ عن الرَّاهِنِ بِقَدْرِهِ
وَأَمَّا الْفِعْلُ فَهُوَ فِعْلُ التَّسْلِيمِ في الْجُمْلَةِ فَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَالرَّهْنِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ على الْبَائِعِ وَالرَّهْنَ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ على الْمُرْتَهِنِ في الْجُمْلَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَكَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَضْمُونًا على الْأَصِيلِ وهو فِعْلُ التَّسْلِيمِ فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِهِ لَكِنَّهُ إذَا هَلَكَ لَا شَيْءَ على الْكَفِيلِ لِأَنَّهُ لم يَبْقَ مَضْمُونًا على الْأَصِيلِ فَلَا يَبْقَى على الْكَفِيلِ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلْحَمْلِ فَكَفَلَ رَجُلٌ بِالْحَمْلِ فَإِنْ كانت الدَّابَّةُ بِعَيْنِهَا لم تَجُزْ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ وَإِنْ كانت بِغَيْرِ عَيْنِهَا جَازَتْ لِأَنَّ في الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْوَاجِبَ على الْآجِرِ فِعْلُ تَسْلِيمِ الدَّابَّةِ دُونَ الْحَمْلِ فلم تَكُنْ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ كَفَالَةً بِمَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ فلم تَجُزْ
وفي الْوَجْهِ الثَّانِي الْوَاجِبُ عليه فِعْلُ الْحَمْلِ دُونَ تَسْلِيمِ الدَّابَّةِ فَكَانَتْ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ كَفَالَةً بِفِعْلٍ هو مَضْمُونٌ على الْأَصِيلِ فَجَازَتْ وَعَلَى هذا إذَا كَفَلَ بِنَفْسِ من عليه الْحَقُّ جَازَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ كَفَالَةٌ بِالْفِعْلِ وهو تَسْلِيمُ النَّفْسِ وَفِعْلُ التَّسْلِيمِ مَضْمُونٌ على الْأَصِيلِ فَقَدْ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ فَجَازَ وَكَذَا إذَا كَفَلَ بِرَأْسِهِ أو بِوَجْهِهِ أو بِرَقَبَتِهِ أو بِرُوحِهِ أو بِنِصْفِهِ
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى جُزْءٍ جَامِعٍ كَالرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَالرَّقَبَةِ وَنَحْوِهَا جَازَتْ لِأَنَّ هذه الْأَجْزَاءَ يُعَبَّرُ بها عن جُمْلَةِ الْبَدَنِ فَكَانَ ذِكْرُهَا ذِكْرًا لِلْبَدَنِ كما في بَابِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ
وَكَذَا إذَا أَضَافَ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ كَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَنَحْوِهِمَا جَازَتْ لِأَنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وُجُوبُ تَسْلِيمِ النَّفْسِ بِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ وَالنَّفْسُ في حَقِّ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ لَا
____________________

(6/7)


تَتَجَزَّأُ وَذِكْرُ بَعْضِ ما لَا يَتَجَزَّأُ شَرْعًا ذِكْرٌ لِكُلِّهِ كما في الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وإذا أَضَافَهَا إلَى الْيَدِ أو الرِّجْلِ وَنَحْوِهِمَا من الْأَجْزَاءِ الْمُعَيَّنَةِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّ هذه الْأَعْضَاءَ لَا يُعَبَّرُ بها عن جَمِيعِ الْبَدَنِ وَهِيَ في حُكْمِ الْكَفَالَةِ مُتَجَزِّئَةٌ فَلَا يَكُونُ ذِكْرُهَا ذِكْرًا لِجَمِيعِ الْبَدَنِ كما في الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَلَوْ قال في الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ هو عَلَيَّ جَازَ لِأَنَّ هذا صَرِيحٌ في الْتِزَامِ تَسْلِيمِ النَّفْسِ
وَكَذَا إذَا قال أنا ضَامِنٌ لِوَجْهِهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ جُزْءٌ جَامِعٌ وَلَوْ قال أنا ضَامِنٌ لِمَعْرِفَتِهِ لَا تَصِحُّ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً على الْأَصِيلِ وَلَوْ قال لِلطَّالِبِ أنا ضَامِنٌ لَك لم يَصِحَّ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ غَيْرُ مَعْلُومٍ أَصْلًا
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنِ وَالْفِعْلِ أنها صَحِيحَةٌ وما ذَكَرْنَا من التَّفْرِيعَاتِ عليها مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أنها غَيْرُ صَحِيحَةٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْكَفَالَةَ أُضِيفَتْ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهَا فَلَا تَصِحُّ وَدَلَالَةُ ذلك أَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الدَّيْنِ فَكَانَ مَحِلَّهَا الدَّيْنُ فلم تُوجَدْ وَالتَّصَرُّفُ الْمُضَافُ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ بَاطِلٌ وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ على تَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِهِ شَرْطُ جَوَازِ الْكَفَالَةِ وَالْقُدْرَةُ على الْإِعْتَاقِ لَا تَتَحَقَّقُ
وَلَنَا قَوْلُهُ عز وجل { وَلِمَنْ جاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وأنا بِهِ زَعِيمٌ } أَخْبَرَ اللَّهُ عز شَأْنُهُ عن الْكَفَالَةِ بِالْعَيْنِ عن الْأُمَمِ السَّالِفَةِ ولم يُغَيِّرْ وَالْحَكِيمُ إذَا حَكَى عن مُنْكَرٍ غَيَّرَهُ وَلِأَنَّ هذا حُكْمٌ لم يُعْرَفْ له مُخَالِفٌ من عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إلَى زَمَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَكَانَ الْإِنْكَارُ خُرُوجًا عن الْإِجْمَاعِ فَكَانَ بَاطِلًا وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هذه الْكَفَالَةَ أُضِيفَتْ إلَى مَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ مَقْدُورِ الِاسْتِيفَاءِ من الْكَفِيلِ فَتَصِحُّ أَصْلُهُ الْكَفَالَةُ بِالدَّيْنِ
وَقَوْلُهُ الْكَفَالَةُ الْتِزَامُ الدَّيْنِ مَمْنُوعٌ بَلْ هِيَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِمَضْمُونٍ على الأصلي ( ( ( الأصيل ) ) ) وقد يَكُونُ ذلك دَيْنًا وقد يَكُونُ عَيْنًا وَالْعَيْنُ مَقْدُورَةُ التَّسْلِيمِ في حَقِّ الْأَصِيلِ كَالدَّيْنِ
عَبْدٌ مُقَرٌّ بِالرِّقِّ في يَدِ رَجُلٍ فَأَخَذَ منه الْمَوْلَى كَفِيلًا بِنَفْسِهِ فَأَبَقَ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَا ليس بِمَضْمُونٍ
وَكَذَا لو كَفَلَ بَعْدَ إبَاقِهِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لو ادَّعَى رَجُلٌ على إنْسَانٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ وَأَنْكَرَ المدعي عليه وَزَعَمَ أَنَّهُ حُرٌّ وَكَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِهِ حتى لو أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ عَبْدُهُ فَمَاتَ الْمُدَّعَى عليه لَا شَيْءَ على الْأَصِيلِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ كان المدعي في يَدِ ثَالِثٍ فقال أنا ضَامِنٌ لَك قِيمَةَ هذا إنْ استحقيته ( ( ( استحققته ) ) ) صَحَّتْ الْكَفَالَةُ حتى لو أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ عَبْدُهُ فَمَاتَ الْمُدَّعَى عليه فَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ كُلَّ قِيمَتِهِ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَفَلَ بِمَضْمُونِ صَبِيٍّ في يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ وَادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَضَمِنَ له إنْسَانٌ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ وقد مَاتَ الصَّبِيُّ فَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَفِيلٌ بِمَضْمُونٍ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ ادَّعَى على إنْسَانٍ أَنَّهُ غَصَبَهُ عَبْدًا فَقَبْلَ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ قال رَجُلٌ أنا ضَامِنٌ بِالْعَبْدِ الذي يَدَّعِي فَهُوَ ضَامِنٌ حتى يَأْتِيَ بِالْعَبْدِ فَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عليه لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ وهو إحْضَارُهُ مَجْلِسَ الْقَاضِي فَإِنْ هَلَكَ وَاسْتَحَقَّهُ بِبَيِّنَةٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ بِعَيْنٍ مضمون ( ( ( مضمونا ) ) ) بِنَفْسِهِ
وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ غصبه ( ( ( غضبه ) ) ) أَلْفَ دِرْهَمٍ وَاسْتَهْلَكَهَا أو عَبْدًا وَمَاتَ في يَدِهِ فقال رَجُلٌ خَلِّهِ فَأَنَا ضَامِنُ الْمَالِ أو لَقِيمَةِ الْعَبْدِ فَهُوَ ضَامِنٌ يَأْخُذُهُ بِهِ من سَاعَتِهِ وَلَا يَقِفُ على إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ أنا ضَامِنٌ لَقِيمَةِ الْعَبْدِ أَقَرَّ بِكَوْنِ الْقِيمَةِ وَاجِبَةً على الْأَصِيلِ فَقَدْ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ فَلَا يَقِفُ على الْبَيِّنَةِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هُنَاكَ ما عُرِفَ وُجُوبُ الْقِيمَةِ بِإِقْرَارِهِ بَلْ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَتَوَقَّفَ عليها
وَالنَّوْعُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ على الْكَفِيلِ لِيَكُونَ الْعَقْدُ مُفِيدًا فَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ من الْكَفِيلِ فَلَا تُفِيدُ الْكَفَالَةُ فَائِدَتَهَا وَهَهُنَا شَرْطٌ ثَالِثٌ لَكِنَّهُ يَخُصُّ الدَّيْنَ وهو أَنْ يَكُونَ لَازِمًا فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عن الْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ ليس بِدَيْنٍ لَازِمٍ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ إسْقَاطَ الدَّيْنِ عن نَفْسِهِ بِالتَّعْجِيزِ لَا بِالْكَسْبِ بِمَضْمُونٍ
وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ من عليه الْقِصَاصُ في النَّفْسِ وما دُونَهَا وَبِحَدِّ الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ إذَا بَذَلَهَا الْمَطْلُوبُ فَأَعْطَاهُ بها كَفِيلًا بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ كَفَالَةٌ بِمَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ مَقْدُورِ الِاسْتِيفَاءِ من الْكَفِيلِ فَتَصِحُّ كَالْكَفَالَةِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِ من عليه الدَّيْنُ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ من إعْطَاءِ الْكَفِيلِ عِنْدَ الطَّلَبِ هل يَجْبُرُهُ الْقَاضِي عليه قال أبو حَنِيفَةَ لَا يَجْبُرُهُ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجْبُرُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن نَفْسَ من عليه الْقِصَاصُ وَالْحَدُّ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ عليه عِنْدَ الطَّلَبِ كَنَفْسِ من عليه الدَّيْنُ ثُمَّ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ من عليه الدَّيْنُ وَيُجْبَرُ عليها عِنْدَ الطَّلَبِ فَكَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكَفَالَةَ شُرِعَتْ
____________________

(6/8)


وَثِيقَةً وَالْحُدُودُ مَبْنَاهَا على الدَّرْءِ فَلَا يُنَاسِبُهَا التَّوْثِيقُ بِالْجَبْرِ على الْكَفَالَةِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْحَبْسُ في الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ قبل تَزْكِيَةِ الشُّهُودِ وَالْحَبْسُ تَوْثِيقٌ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتُّهْمَةِ لَا لِلتَّوْثِيقِ لِأَنَّ شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ أو شَاهِدٍ وَاحِدٍ لَا تَخْلُو عن إيرَاثِ تُهْمَةٍ فَكَانَ الْحَبْسُ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ دُونَ التَّوْثِيقِ وَيَجُوزُ الْجَبْرُ على إعْطَاءِ الْكَفِيلِ في التَّعْزِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَالُ لِدَرْئِهِ لِكَوْنِهِ حَقَّ الْعَبْدِ
وَأَمَّا الدَّيْنُ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ على الْأَصِيلِ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ من الْكَفِيلِ
وَالنَّوْعُ الثالث ( ( ( الثاني ) ) ) أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ من الْكَفِيلِ لِيَكُونَ الْعَقْدُ مُفِيدًا فَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ من الْكَفِيلِ فَلَا تُفِيدُ الْكَفَالَةُ فَائِدَتَهَا وَهَهُنَا شَرْطٌ ثَالِثٌ لَكِنَّهُ يَخُصُّ الدَّيْنَ وهو أَنْ يَكُونَ لَازِمًا فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عن الْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ ليس بِدَيْنٍ لَازِمٍ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ إسْقَاطَ الدَّيْنِ عن نَفْسِهِ بِالتَّعْجِيزِ لَا بِالْكَسْبِ فَلَوْ أَجَزْنَا الْكَفَالَةَ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لَكَانَ لَا يَخْلُو
إمَّا أَنْ يَمْلِكَ الْكَفِيلُ إسْقَاطَهُ عن نَفْسِهِ كما يَمْلِكُ الْأَصِيلُ وَإِمَّا أَنْ لَا يَمْلِكَ فَإِنْ مَلَكَ لَا تُفِيدُ الْكَفَالَةُ وَإِنْ لم يَمْلِكْ لم يَكُنْ هذا الْتِزَامَ ما على الْأَصِيلِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّصَرُّفُ كَفَالَةً وَلِأَنَّا لو أَجَزْنَا هذه الْكَفَالَةَ لَكَانَ الدَّيْنُ على الْكَفِيلِ أَلْزَمَ منه على الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا مَاتَ عَاجِزًا بَطَلَ عنه الدَّيْنُ
وَلَوْ مَاتَ الْكَفِيلُ عَاجِزًا مُفْلِسًا لم يَبْطُلْ عنه الدَّيْنُ فَكَانَ الْحَقُّ على الْكَفِيلِ أَلْزَمَ منه على الْأَصِيلِ وَهَذَا خِلَافُ ما تُوجِبُهُ الْأُصُولُ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ جَوَازُهَا بِالْعُرْفِ فَلَا تَجُوزُ فِيمَا لَا عُرْفَ فيه وَلَا عُرْفَ في الْكَفَالَةِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ
وَكَذَا لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ عن الْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ بِسَائِرِ الدُّيُونِ سِوَى دَيْنِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ غَيْرَهُ من الدُّيُونِ إنَّمَا وَجَبَ لِلْمَوْلَى عليه بِمَشِيئَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا لُزُومُ الْكِتَابَةِ عليه لَمَا وَجَبَ عليه دَيْنٌ آخَرُ فَكَانَ دَيْنُ الْكِتَابَةِ أَصْلًا لِوُجُوبِ دَيْنٍ آخَرَ عليه فلما لم تَجُزْ الْكَفَالَةُ بِالْأَصْلِ فَلَأَنْ لَا تَجُوزَ بِالْفَرْعِ أَوْلَى وَأَحْرَى
وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِبَدَلِ السِّعَايَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا تَجُوزُ بِنَاءً على أَنَّ الْمُسْتَسْعَى بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ حُرٍّ عليه دَيْنٌ وَكَوْنُ الْمَكْفُولِ بِهِ مَعْلُومَ الذَّاتِ في أَنْوَاعِ الْكَفَالَاتِ أو مَعْلُومَ الْقَدْرِ في الدَّيْنِ ليس بِشَرْطٍ حتى لو كَفَلَ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ غير عَيْنٍ بِأَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ أو بِمَا عليه وهو أَلْفٌ جَازَ وَعَلَيْهِ أَحَدُهُمَا أَيَّهُمَا شَاءَ لِأَنَّ هذه جَهَالَةٌ مَقْدُورَةُ الدَّفْعِ بِالْبَيَانِ فَلَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْكَفَالَةِ
وَكَذَا إذَا كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ أو بِمَا عليه أو بِنَفْسِ رَجُلٍ آخَرَ أو بِمَا عليه جَازَ وَيَبْرَأُ بِدَفْعِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الطَّالِبِ
وَلَوْ كَفَلَ عن رَجُلٍ بِمَا لِفُلَانٍ عليه أو بِمَا يُدْرِكُهُ في هذا الْبَيْعِ جَازَ لِأَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ قال اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { وَلِمَنْ جاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وأنا بِهِ زَعِيمٌ } أَجَازَ اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ الْكَفَالَةَ بِحِمْلِ الْبَعِيرِ مع أَنَّ الْحِمْلَ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ ضَمِنَ رَجُلٌ بِالْعُهْدَةِ فَضَمَانُهُ بَاطِلٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا صَحِيحٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ ضَمَانَ الْعُهْدَةِ في مُتَعَارَفِ الناس ضَمَانُ الدَّرْكِ وهو ضَمَانُ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ وَذَلِكَ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعُهْدَةَ تَحْتَمِلُ الدَّرْكَ وَتَحْتَمِلُ الصَّحِيفَةَ وهو الصَّكُّ وَأَحَدُهُمَا وهو الصَّكُّ غَيْرُ مَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ فَدَارَتْ الْكَفَالَةُ بِالْعُهْدَةِ بين أَنْ تَكُونَ بِمَضْمُونٍ وَغَيْرِ مَضْمُونٍ فَلَا تَصِحُّ مع الشَّكِّ فلم يَكُنْ عَدَمُ الصِّحَّةِ عِنْدَهُ لِجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ بِهِ بَلْ لِوُقُوعِ الشَّكِّ في وُجُودِ شَرْطِ الْجَوَازِ وهو كَوْنُهُ مَضْمُونًا على الْأَصِيلِ وَضَمَانُ الدَّرْكِ هو ضَمَانُ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ وإذا اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ يُخَاصِمُ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ أَوَّلًا فإذا قَضَى عليه بِالثَّمَنِ يَكُونُ قَضَاءً على الْكَفِيلِ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ من أَيِّهِمَا شَاءَ وَلَيْسَ له أَنْ يُخَاصِمَ الْكَفِيلَ أَوَّلًا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال الْكَفِيلُ يَكُونُ خَصْمًا
هذا إذَا كان الْمَبِيعُ ما سِوَى الْعَبْدِ فَإِنْ كان عَبْدًا فَظَهَر أَنَّهُ حُرٌّ بِالْبَيِّنَةِ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُخَاصِمَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِمَا سِوَى الِاسْتِحْقَاقِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ أو بِخِيَارِ الشَّرْطِ أو بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ الْكَفِيلُ لِأَنَّ ذلك ليس من الدَّرْكِ
وَلَوْ أَخَذَ الْمُشْتَرِي رَهْنًا بِالدَّرْكِ لَا يَصِحُّ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالدَّرْكِ وَالْفَرْقُ عُرِفَ في مَوْضِعِهِ وَلَوْ بَنَى الْمُشْتَرِي في الدَّارِ بِنَاءً ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ وَنُقِضَ عليه الْبِنَاءُ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ على بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ وَبِقِيمَةِ بِنَائِهِ مَبْنِيًّا إذَا سَلَّمَ النَّقْضَ إلَى الْبَائِعِ وَإِنْ لم يُسَلِّمْ لَا يَرْجِعْ عليه إلَّا بِالثَّمَنِ خَاصَّةً في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ عليه بِالثَّمَنِ وَبِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالتَّالِفِ
وَلَوْ سَلَّمَ النَّقْضَ
____________________

(6/9)


إلَى الْبَائِعِ وَقَضَى عليه بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا له أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالثَّمَنِ وَيَأْخُذُ الْبَائِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَأْخُذُ أَيَّهمَا شَاءَ بِهِمَا جميعا إنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا من الْبَائِعِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا من الْكَفِيلِ بِالدَّرْكِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ على الْبَائِعِ إنْ كانت الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ جَعَلَ الطَّحَاوِيُّ قِيمَةَ الْبِنَاءِ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ وهو غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ من الدَّرَكِ ضَمَانُ الْمُشْتَرِي في مُتَعَارَفِ الناس فَلَا تَكُونُ قِيمَةُ الْبِنَاءِ دَاخِلَةً تَحْتَ الْكَفَالَةِ بِالدَّرْكِ
وَكَذَلِكَ لو كان الْمَبِيعُ جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ وَأَخَذَ منه قِيمَةَ الْجَارِيَةِ وَقِيمَةَ الْوَلَدِ وَالْعُقْرِ فإن الْمُشْتَرِيَ يَأْخُذُ الثَّمَنَ من أَيِّهِمَا شَاءَ وَلَا يُؤَاخَذُ الْكَفِيلُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ قِيمَةَ الْوَلَدِ من الْبَائِعِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ لم يَدْخُلْ تَحْتَ الْكَفَالَةِ بِالدَّرْكِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ وَلَوْ كَفَلَ بماله على فُلَانٍ فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عليه بِأَلْفٍ ضَمِنَهَا الْكَفِيلُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ وَإِنْ لم تَقُمْ الْبَيِّنَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ مع يَمِينِهِ في مِقْدَارِ ما يُقِرُّ بِهِ أَمَّا الْقَوْلُ قَوْلُهُ في الْمُقِرِّ بِهِ لِأَنَّهُ مَالٌ لَزِمَ بِالْتِزَامِهِ فَيُصَدَّقُ في الْقَدْرِ الْمُلْتَزَمِ كما إذَا أَقَرَّ على نَفْسِهِ بِمَالٍ مَجْهُولٍ
وَأَمَّا الْيَمِينُ فَلِأَنَّهُ مُنْكِرٌ الزِّيَادَةَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مع يَمِينِهِ في الشَّرْعِ وَلَوْ أَقَرَّ الْمَكْفُولُ عنه بِأَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ لم يُصَدِّقْهُ على كَفِيلِهِ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ حُجَّةٌ في حَقِّ نَفْسِهِ لَا في حَقِّ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ في حَقِّ نَفْسِهِ مُدَّعٍ في حَقِّ غَيْرِهِ وَلَا يَظْهَرُ صِدْقُ الْمُدَّعِي إلَّا بِحُجَّةٍ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْكَفَالَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ لِلْكَفَالَةِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا ثُبُوتُ وِلَايَةِ مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ بِمَا على الْأَصِيلِ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا وَيَطَّرِدُ هذا الْحُكْمُ في سَائِرِ أَنْوَاعِ الْكَفَالَاتِ لِأَنَّ الْكُلَّ في احْتِمَالِ هذا الْحُكْمِ على السَّوَاءِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ مَحَلُّ الْحُكْمِ من الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ وَالْفِعْلِ فَيُطَالِبُ الْكَفِيلُ بِالدَّيْنِ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ على الْأَصِيلِ لَا عليه فَالدَّيْنُ على وَاحِدٍ وَالْمُطَالَبُ بِهِ اثْنَانِ غير أَنَّ الْكَفِيلَ إنْ كان وَاحِدًا يُطَالَبُ بِكُلِّ الدَّيْنِ
وَإِنْ كان بِهِ كَفِيلَانِ وَالدَّيْنُ أَلْفٌ يُطَالَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ إذَا لم يَكْفُلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا في الْكَفَالَةِ وَالْمَكْفُولِ بِهِ يَحْتَمِلُ الِانْقِسَامَ فَيَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا في حَقِّ الْمُطَالَبَةِ كما في الشِّرَاءِ وَيُطَالِبُ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ بِإِحْضَارِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ إنْ لم يَكُنْ غَائِبًا
وَإِنْ كان غَائِبًا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ إلَى مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ إحْضَارُهُ فيها فَإِنْ لم يَحْضُر في الْمُدَّةِ ولم يَظْهَرْ عَجْزُهُ لِلْقَاضِي حَبْسُهُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ عَجْزُهُ له فإذا عَلِمَ الْقَاضِي ذلك بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ أو غَيْرِهَا أَطْلَقَهُ وَأَنْظَرَهُ إلَى حَالِ الْقُدْرَةِ على إحْضَارِهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُفْلِسِ لَكِنْ لَا يَحُولُ بين الطَّالِبِ وَالْكَفِيلِ بَلْ يُلَازِمُهُ من الطَّالِبِ وَلَا يَحُولُ الطَّالِبُ أَيْضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَشْغَالِهِ وَلَا يَمْنَعُهُ من الْكَسْبِ وَغَيْرِهِ وَيُطَالِبُ الْكَفِيلَ بِالْعَيْنِ بِتَسْلِيمِ عَيْنِهَا إنْ كانت قَائِمَةً وَمِثْلِهَا أو قِيمَتِهَا إنْ كانت هَالِكَةً وَيُطَالِبُ الْكَفِيلَ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَبِالْفِعْلِ بِهِمَا
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ وُجُوبُ أَصْلِ الدَّيْنِ على الْكَفِيلِ وَالْمُطَالَبَةُ مرتبة ( ( ( مرتب ) ) ) عليه فَيُطَالِبُ الْكَفِيلُ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ عليه لَا على الأصلي ( ( ( الأصيل ) ) ) كما يُطَالَبُ الْأَصِيلُ بِدَيْنٍ عليه لَا على الْكَفِيلِ فَيَتَعَدَّدُ الدَّيْنُ حَسْبَ تَعَدُّدِ الْمُطَالَبَةِ وَبِهِ أَخَذَ شَيْخُهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَزَعَمَ أَنَّ هذا يَمْنَعُ من صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ وَالنَّفْسِ وَالْفِعْلِ لِأَنَّ هذا الْحُكْمَ لَا يَتَحَقَّقُ في الْكَفَالَةِ بِغَيْرِ الدَّيْنِ
وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْكَفَالَاتِ أَنْوَاعٌ لِكُلِّ نَوْعٍ حُكْمٌ على حِدَةٍ فَانْعِدَامُ حُكْمِ نَوْعٍ منها لَا يَدُلُّ على انْعِدَامِ حُكْمِ نَوْعٍ آخَرَ فَأَمَّا بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ فَلَيْسَ حُكْمَ الْكَفَالَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَالطَّالِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ طَالَبَ الْأَصِيلَ وَإِنْ شَاءَ طَالَبَ الْكَفِيلَ إلَّا إذَا كانت الْكَفَالَةُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ لِأَنَّهَا حَوَالَةٌ مَعْنًى أو كانت مُقَيَّدَةً بِمَا عليه من الدَّيْنِ لِأَنَّهَا في مَعْنَى الْحَوَالَةِ أَيْضًا
وقال ابن أبي لَيْلَى أن الْكَفَالَةَ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تنبىء عن الضَّمِّ وهو ضَمُّ دمة ( ( ( ذمة ) ) ) إلَى ذِمَّةٍ في حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِمَا على الْأَصِيلِ أو في حَقِّ أَصْلِ الدَّيْنِ وَالْبَرَاءَةُ تُنَافِي الضَّمَّ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ لو كانت مُبَرِّئَةً لَكَانَتْ حَوَالَةً وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ لِأَنَّ تَغَايُرَ الْأَسَامِي دَلِيلُ تَغَايُرِ الْمَعَانِي في الْأَصْلِ وَأَيَّهمَا اخْتَارَ مُطَالَبَتَهُ لَا يَبْرَأُ الْآخَرُ بَلْ يَمْلِكُ مُطَالَبَتَهُ
فَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ إن لِلْمَالِكِ أَنْ يَضْمَنْ أَيَّهمَا شَاءَ فإذا اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا لَا يَمْلِكُ اخْتِيَارَ تَضْمِينِ الْآخَرِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمَلَّكُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ فإذا اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا فَقَدْ هَلَكَ الْمَضْمُونُ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عنه وَهَذَا الْمَعْنَى هُنَا مَعْدُومٌ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الطَّالِبِ مُطَالَبَةَ أَحَدِهِمَا بِالْمَضْمُونِ
____________________

(6/10)


لَا يَتَضَمَّنُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَكَذَا فَرَّقُوا بين هذا وَبَيْنَ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بين اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وهو مُوسِرٌ حتى يَثْبُتَ لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ اخْتِيَارَ تَضْمِينِ الْمُعْتِقِ وَاسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ فَاخْتِيَارُ أَحَدِهِمَا يُبْطِلُ اخْتِيَارَ الْآخَرِ لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ الضَّمَانَ صَارَ نَصِيبُهُ مَنْقُولًا إلَى الْمُعْتَقِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمَلَّكُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ فَلَوْ اخْتَارَ الِاسْتِسْعَاءَ يَسْعَى وهو رَقِيقٌ وَإِنَّمَا يُعْتَقُ كُلُّهُ بِأَدَاءِ السِّعَايَةِ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ وَلَا تَنَافٍ هَهُنَا لِأَنَّ الطَّالِبَ لَا يَمْلِكُ الْمَضْمُونَ بِاخْتِيَارِ الْمُطَالَبَةِ فَيَمْلِكُ مُطَالَبَةَ الْآخَرِ وَالثَّانِي ثُبُوتُ وِلَايَةِ مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ الْأَصِيلَ إذَا كانت الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ في الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا
ثُمَّ إذَا كانت الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَطَالَبَ الْكَفِيلُ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ إلَى الطَّالِبِ إذَا طَالَبَهُ وَإِنْ كانت بِالْعَيْنِ الْمَضْمُونَةِ يُطَالَبُ بِتَسْلِيمِ عَيْنِهَا إذَا كانت قَائِمَةً وَتَسْلِيمِ مِثْلِهَا أو قِيمَتِهَا إذَا كانت هَالِكَةً إذَا طُولِبَ بِهِ
وَإِنْ كانت بِفِعْلِ التَّسْلِيمِ وَالْحَمْلِ يُطَالَبُ بِهِمَا وَإِنْ كانت بِدَيْنٍ يُطَالِبُهُ بِالْخَلَاصِ إذَا طُولِبَ فَكَمَا طُولِبَ الْكَفِيلُ طَالَبَ هو الْمَكْفُولَ عنه بِالْخَلَاصِ وَإِنْ حَبَسَ فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْمَكْفُولَ عنه لِأَنَّهُ هو الذي أَوْقَعَهُ في هذه الْعُهْدَةِ فَكَانَ عليه تَخْلِيصُهُ منها
وَإِنْ كانت الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ حَقُّ مُلَازَمَةِ الْأَصِيلِ إذَا لُوزِمَ وَلَا حَقُّ الْحَبْسِ إذَا حُبِسَ وَلَيْسَ له أَنْ يُطَالِبَ بِالْمَالِ قبل أَنْ يُؤَدِّيَ هو وَإِنْ كانت الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمُطَالَبَةِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِحُكْمِ الْقَرْضِ وَالتَّمْلِيكِ على ما نَذْكُرُهُ وَكُلُّ ذلك يَقِفُ على الْأَدَاءِ ولم يُوجَدْ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ أَنَّ له وِلَايَةَ مُطَالَبَةِ الْمُوَكِّلِ بِالثَّمَنِ بَعْدَ الشِّرَاءِ قبل أَنْ يُؤَدِّيَ هو من مَالِ نَفْسِهِ لِأَنَّ هُنَاكَ الثَّمَنَ يُقَابِلُ الْمَبِيعَ وَالْمِلْكُ في الْمَبِيعِ كما وَقَعَ وَقَعَ لِلْمُوَكِّلِ فكأن الثَّمَنُ عليه فَكَانَ له أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ وَهُنَا الْمُطَالَبَةُ بِسَبَبِ الْقَرْضِ أو التَّمْلِيكِ ولم يُوجَدْ هُنَا وإذا أَدَّى كان له أَنْ يَرْجِعَ عليه إذَا كانت الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْأَمْرِ في حَقِّ الْمَطْلُوبِ اسْتِقْرَاضٌ وهو طَلَبُ الْقَرْضِ من الْكَفِيلِ وَالْكَفِيلُ بِأَدَاءِ الْمَالِ مُقْرِضٌ من الْمَطْلُوبِ وَنَائِبٌ عنه في الْأَدَاءِ إلَى الطَّالِبِ وفي حَقِّ الطَّالِبِ تَمْلِيكُ ما في ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ من الْكَفِيلِ بِمَا أُخِذَ من الْمَالِ وَالْمُقْرِضُ يَرْجِعُ على الْمُسْتَقْرِضِ بِمَا أَقْرَضَهُ وَالْمُشْتَرِي يَمْلِكُ الشِّرَاءَ بِالْبَيْعِ لَا غير هذا
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَخْرُجُ بِهِ الْكَفِيلُ عن الْكَفَالَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تعالى التَّوْفِيقُ
أَمَّا الْكَفِيلُ بِالْمَالِ فَإِنَّمَا يَخْرُجُ عن الْكَفَالَةِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَدَاءُ الْمَالِ إلَى الطَّالِبِ أو ما هو في مَعْنَى الْأَدَاءِ سَوَاءٌ كان الْأَدَاءُ من الْكَفِيلِ أو من الْأَصِيلِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ للتوصل ( ( ( للتوسل ) ) ) إلَى الْأَدَاءِ فإذا وُجِدَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَيَنْتَهِي حُكْمُ الْعَقْدِ وَكَذَا إذَا وَهَبَ الطَّالِبُ الْمَالَ من الْكَفِيلِ أو من الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْهِبَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأَدَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَكَذَا إذَا تَصَدَّقَ بِهِ على الْكَفِيلِ أو على الْأَصِيلِ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكٌ كَالْهِبَةِ فَكَانَ هو وَأَدَاءُ الْمَالِ سَوَاءً كَالْهِبَةِ
وَالثَّانِي الإبراه ( ( ( الإبراء ) ) ) وما هو في مَعْنَاهُ فإذا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ أو الْأَصِيلَ خَرَجَ عن الْكَفَالَةِ غير أَنَّهُ إذَا أَبْرَأَ الْكَفِيلَ لَا يَبْرَأُ الْأَصِيلُ وإذا أَبْرَأَ الْأَصِيلَ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ لِأَنَّ الدَّيْنَ على الْأَصِيلِ لَا على الْكَفِيلِ إنَّمَا عليه حَقُّ الْمُطَالَبَةِ فَكَانَ إبراه ( ( ( إبراء ) ) ) الْأَصِيلِ إسْقَاطَ الدَّيْنِ عن ذِمَّتِهِ فإذا سَقَطَ الدَّيِّنُ عن ذِمَّتِهِ يَسْقُطُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ ضَرُورَةً لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالدَّيْنِ وَلَا دَيْنَ مُحَالٌ
فَأُمًّا إبراه ( ( ( إبراء ) ) ) الْكَفِيلِ فَإِبْرَاؤُهُ عن الْمُطَالَبَةِ لَا عن الدِّينِ إذْ لَا دَيْنَ عليه وَلَيْسَ من ضَرُورَةِ إسْقَاطِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ عن الْكَفِيلِ سُقُوطِ أَصْلِ الدَّيْنِ عن الْأَصِيلِ لَكِنْ يَخْرُجُ الْكَفِيلُ عن الْكَفَالَةِ لِأَنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ عن الْكَفِيلِ فإذا سَقَطَ تَنْتَهِي إلَّا أَنَّ إبْرَاءَ الْأَصِيلِ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَكَذَا الْهِبَةُ منه أو التَّصَدُّقُ عليه وَإِبْرَاءُ الْكَفِيلِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَالْهِبَةِ منه وَالتَّصَدُّقِ عليه وَالْفَرْقُ بين هذه الْجُمْلَةِ يُعْرَفُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وإذا ارْتَدَّتْ هذه التَّصَرُّفَاتُ بِرَدِّ الْأَصِيلِ عَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّتِهِ وَهَلْ تَعُودُ الْمُطَالَبَةُ بِالدَّيْنِ إلَى الْكَفِيلِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
وَلَوْ أَبْرَأَ الْأَصِيلُ أو وَهَبَ منه بَعْدَ مَوْتِهِ فَرَدَّ وَرَثَتُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَرْتَدُّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا بِمَنْزِلَةِ ما لو أَبْرَأَهُ حَالَ حَيَاتِهِ ثُمَّ مَاتَ قبل الرَّدِّ وَهُنَاكَ لَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْوَرَثَةِ فَكَذَا هذا
وَلَهُمَا أَنَّ إبْرَاءَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ إبْرَاءٌ لِوَرَثَتِهِ لِأَنَّهُمْ يُطَالَبُونَ بِدَيْنِهِ من مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِبْرَاءُ الْوَرَثَةِ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِمْ بِخِلَافِ حَالِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُطَالَبُونَ بِدَيْنِهِ بِوَجْهٍ فَاقْتَصَرَ حُكْمُ الْإِبْرَاءِ عليه فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْوَرَثَةِ
وَكَذَا لو قال الطَّالِبُ لِلْكَفِيلِ بَرِئْتُ إلَيَّ من الْمَالِ لِأَنَّ هذا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ غَايَةً لِبَرَاءَتِهِ وَالْبَرَاءَةُ التي هِيَ غَايَتُهَا
____________________

(6/11)


نَفْسُهُ هِيَ بَرَاءَةُ الْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ وَبَرِئَا جميعا
لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ يُوجِبُ بَرَاءَتَهُمَا جميعا فَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ على الْأَصِيلِ إذَا كانت الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَلَوْ قال بَرِئْتُ من الْمَالِ ولم يَقُلْ إلَيَّ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَهَذَا وَقَوْلُهُ بَرِئْتُ إلى سَوَاءٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ دُونَ الْأَصِيلِ وَهَذَا وَقَوْلُهُ أَبْرَأْتُكَ سَوَاءٌ عِنْدَهُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَرَاءَةَ عن الْمَالِ قد تَكُونُ بِالْأَدَاءِ وقد تَكُونُ بِالْإِبْرَاءِ فَلَا تُحْمَلُ على الْأَدَاءِ إلَّا بِدَلِيلٍ زَائِدٍ وقد وُجِدَ ذلك في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وهو قَوْلُهُ إلَيَّ لِأَنَّ ذلك ينبى عن مَعْنَى الْأَدَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا ولم يُوجَدْ هُنَا فيحمل ( ( ( فتحمل ) ) ) على الْإِبْرَاءِ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ حُكْمُ الْإِبْرَاءِ في الْأَصْلِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ الْمُضَافَةَ إلَى الْمَالِ تُسْتَعْمَلُ في الْأَدَاءِ عُرْفًا وَعَادَةً فَتُحْمَلُ عليه وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ من الْكَفَالَةِ بِشَرْطٍ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ فيها مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَلَوْ أَحَالَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ بِمَالِ الْكَفَالَةِ على رَجُلٍ وَقَبِلَهُ الطَّالِبُ فَالْمُحْتَالُ عليه يَخْرُجُ عن الْكَفَالَةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وَكَذَا إذَا أَحَالَهُ الْمَطْلُوبُ بِمَالِ الْكَفَالَةِ على رَجُلٍ وَقَبِلَهُ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مُبَرِّئَةٌ عن الدَّيْنِ وَالْمُطَالَبَةِ جميعا عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ مُبَرِّئَةٌ عن الْمُطَالَبَةِ وَإِبْرَاءُ الْكَفِيلِ
وَالْأَصِيلِ مُخْرِجٌ عن الْكَفَالَةِ لِمَا ذَكَرْنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَخْرُجُ الْكَفِيلُ عن الْكَفَالَةِ بِالْحَوَالَةِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ عِنْدَهُ لَيْسَتْ بِمُبَرِّئَةٍ أَصْلًا لِمَا يَأْتِي في كِتَابِ الْحَوَالَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ يَخْرُجُ عن الْكَفَالَةِ بِالصُّلْحِ كما يَخْرُجُ بِالْحَوَالَةِ بِأَنْ يُصَالِحَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ على بَعْضِ المدعي لِأَنَّ الصُّلْحَ على جِنْسِ المدعي إسْقَاطُ بَعْضِ الْحَقِّ فَكَانَ فيه مَعْنَى الْإِبْرَاءِ وَعَلَى خِلَافِ الْجِنْسِ مُعَاوَضَةٌ فَكَانَ في مَعْنَى الْإِبْرَاءِ وَكُلُّ ذلك يَخْرُجُ عن الْكَفَالَةِ غير أَنَّ في حَالَيْنِ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ وَالْأَصِيلُ جميعا وفي حَالٍ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ دُونَ الْأَصِيلِ
أَمَّا الْحَالَتَانِ اللَّتَانِ برىء فِيهِمَا الْكَفِيلُ وَالْأَصِيلُ جميعا
إحْدَاهُمَا أَنْ يَقُولَ الْكَفِيلُ لِلطَّالِبِ صَالَحْتُكَ من الْأَلْفِ على خَمْسِمِائَةٍ على أَنِّي وَالْمَكْفُولُ عنه بَرِئَانِ من الْخَمْسمِائَةِ الْبَاقِيَةِ وَيَكُونُ الطَّالِبُ في الْخَمْسمِائَةِ التي وَقَعَ عليها الصُّلْحُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أخدها ( ( ( أخذها ) ) ) من الْكَفِيلِ ثُمَّ الْكَفِيلُ يرجع ( ( ( يرفع ) ) ) بها على الْأَصِيلِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا من الْأَصِيلِ
وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَقُولَ صَالِحَتُكَ على خَمْسِمِائَةٍ مُطْلَقًا عن شَرْطِ الْبَرَاءَةِ أَصْلًا لِمَا ذَكَرْنَا قبل هذا أَنَّ الْإِبْرَاءَ الْمُضَافَ إلَى الْمَالِ الْمُجَرَّدِ عن شَرْطِ الْبَرَاءَةِ الْمُضَافَةِ إلَى الْكَفِيلِ إبْرَاءٌ عن الدَّيْنِ وَالدَّيْنُ وَاحِدٌ فإذا سَقَطَ عن الْأَصِيلِ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ عن الْكَفِيلِ
وَأَمَّا الْحَوَالَةُ التي يَبْرَأُ الْكَفِيلُ فيها دُونَ الْأَصِيلِ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْكَفِيلُ لِلطَّالِبِ صَالَحْتُك على أَنِّي بَرِيءٌ من الْخَمْسمِائَةِ وقد بَيَّنَّا الْفَرْقَ من قَبْلُ وَالطَّالِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ جَمِيعَ دَيْنِهِ من الْأَصِيلِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْكَفِيلِ خَمْسِمِائَةٍ وَمِنْ الْأَصِيلِ خَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ على الْأَصِيلِ بِمَا أَدَّى إنْ كان الصُّلْحُ بِأَمْرِهِ
وَأَمَّا الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ فَيَخْرُجُ عن الْكَفَالَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أحداها تَسْلِيمُ النَّفْسِ إلَى الطَّالِبِ وهو التَّخْلِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ في مَوْضِعٍ يَقْدِرُ على إحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي لِأَنَّ التَّسْلِيمَ في مِثْلِ هذا الْمَوْضِعِ مُحَصِّلٌ لِلْمَقْصُودِ من الْعَقْدِ وهو إمْكَانُ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ بِالْمُرَافَعَةِ إلَى الْقَاضِي فإذا حَصَلَ الْمَقْصُودُ يَنْتَهِي حُكْمُهُ فَيَخْرُجُ عن الْكَفَالَةِ
وَلَوْ سَلَّمَهُ في صَحْرَاءَ أو بَرِيَّةٍ لَا يَخْرُجُ لِأَنَّهُ لم يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ وَلَوْ سَلَّمَ في السُّوقِ أو في الْمِصْرِ يَخْرُجُ سَوَاءٌ أَطْلَقَ الْكَفَالَةَ أو قَيَّدَهَا بِالتَّسْلِيمِ في مَجْلِسِ الْقَاضِي أَمَّا إذَا أَطْلَقَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِمَكَانٍ يَقْدِرُ على إحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ وَكَذَا إذَا قَيَّدَ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ في هذه الْأَمْكِنَةِ تَسْلِيمٌ في مَجْلِسِ الْقَاضِي بِوَاسِطَةٍ وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يُسَلِّمَهُ في مِصْرٍ مُعَيَّنٍ فَسَلَّمَهُ في مِصْرٍ آخَرَ يَخْرُجُ عن الْكَفَالَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَخْرُجُ عنها إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ في الْمِصْرِ الْمَشْرُوطِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْمِصْرِ مُفِيدٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلطَّالِبِ بَيِّنَةٌ يَقْدِرُ على إقَامَتِهَا فيه دُونَ غَيْرِهِ فَكَانَ التَّعْيِينُ مُفِيدًا فَيَتَقَيَّدُ بِهِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ من تَسْلِيمِ النَّفْسِ هو الْوُصُولُ إلَى الْحَقِّ بِالْمُرَافَعَةِ إلَى الْقَاضِي وَهَذَا الْغَرَضُ مُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءِ من كل قَاضٍ فَلَا يَصِحُّ التَّعْيِينُ وَلَوْ سَلَّمَهُ في السَّوَادِ وَلَا قَاضِي فيه لَا يَخْرُجُ عن الْكَفَالَةِ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ في مِثْلِ هذا الْمَكَانِ لَا يَصْلُحُ وَسِيلَةً إلَى الْمَقْصُودِ فَكَانَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْأَمِيرِ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي يَخْرُجُ عن الْكَفَالَةِ
وَكَذَا إذَا عُزِلَ الْأَمِيرُ وَوُلِّيَ غَيْرُهُ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الثَّانِي لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَ كل من وُلِّيَ ذلك مُحَصِّلٌ لِلْمَقْصُودِ فلم يَكُنْ التَّقْيِيدُ مُفِيدًا فَلَا يَتَقَيَّدُ وَلَوْ كَفَلَ جَمَاعَةً بِنَفْسِ
____________________

(6/12)


رَجُلٍ كَفَالَةً وَاحِدَةً فَأَحْضَرَهُ أَحَدُهُمْ برؤوا ( ( ( برئوا ) ) ) جميعا وَإِنْ كانت الْكَفَالَةُ مُتَفَرِّقَةً لم يَبْرَأْ الْبَاقُونَ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْكَفَالَةِ الْوَاحِدَةِ فِعْلٌ وَاحِدٌ وهو الْإِحْضَارُ وقد حَصَلَ ذلك بِوَاحِدٍ وَالدَّاخِلَ تَحْتَ الْكَفَالَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ أَفْعَالٌ مُتَفَرِّقَةٌ فَلَا يَحْصُلُ بِإِحْضَارِ وَاحِدٍ الْإِبْرَاءُ بِهِ فَيَبْرَأُ هو دُونَ الْبَاقِينَ وَلَيْسَ هذا كما إذَا كَفَلَ جَمَاعَةً بِمَالِ وَاحِدٍ كَفَالَةً وَاحِدَةً أو مُتَفَرِّقَةً فَأَدَّى أَحَدُهُمْ برىء الْبَاقُونَ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَسْقُطُ عن الْأَصِيلِ بِأَدَاءِ الْمَالِ فَلَا يَبْقَى على الْكَفِيلِ لِمَا مَرَّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ فَإِنْ لم يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ ما عليه وهو كَذَا فَلَقِيَ الرَّجُلُ الطَّالِبَ فَخَاصَمَهُ الطَّالِبُ وَلَازَمَهُ فَالْمَالُ على الْكَفِيلِ وَإِنْ لَازَمَهُ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ من الْكَفِيلِ الْمُوَافَاةُ بِهِ
وَلَوْ قال الرَّجُلُ لِلطَّالِبِ قد دَفَعْتُ نَفْسِي إلَيْكَ عن كَفَالَةٍ فلان يَبْرَأَ الْكَفِيلُ من الْمَالِ سَوَاءٌ كانت الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ بِأَمْرِهِ أو لَا لِأَنَّهُ أَقَامَ نَفْسَهُ مَقَامَ الْكَفِيلِ في التَّسْلِيمِ عنه فَيَصِحُّ التَّسْلِيمُ كَمَنْ تَبَرَّعَ بِقَضَاءِ دَيْنِ غَيْرِهِ أَنَّ هُنَاكَ لَا يُجْبَرُ على الْقَبُولِ وَهُنَا يُجْبَرُ عليه
وَالْفَرْقُ أَنَّ انْعِدَامَ الْجَبْرِ على الْقَبُولِ في بَابِ الْمَالِ لِلتَّحَرُّزِ عن لُحُوقِ الْمِنَّةِ الْمَطْلُوبَةِ من جِهَةِ الْمُتَبَرِّعِ لِأَنَّ نَفْسَهُ رُبَّمَا لَا تُطَاوِعُهُ بِتَحَمُّلِ الْمِنَّةِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى هُنَا مَعْدُومٌ لِأَنَّ تَسْلِيمَ نَفْسِهِ وَاجِبٌ عليه وَلَا مِنَّةَ في أَدَاءِ الْوَاجِبِ سَوَاءٌ كانت الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ بِأَمْرِهِ أو بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِأَنَّ نَفْسَهُ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ في الْحَالَيْنِ
وَالثَّانِي الْإِبْرَاءُ إذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ من الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ خَرَجَ عن الْكَفَالَةِ لِأَنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ وقد أَسْقَطَ الْمُطَالَبَةَ عنه بِالْإِبْرَاءِ فَيَنْتَهِي الْحَقُّ ضَرُورَةً وَلَا يَكُونُ هذا الْإِبْرَاءُ لِلْأَصِيلِ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ الْمُطَالَبَةَ عنه دُونَ الْأَصِيلِ
وَلَوْ أَبْرَأَ الْأَصِيلَ بَرِئَا جميعا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ وقد بَطَلَ الضَّمَانُ بِالْإِبْرَاءِ فَيَنْتَهِي حُكْمُ الْكَفَالَةِ
وَالثَّالِثُ مَوْتُ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ وقد سَقَطَ الضَّمَانُ عنه فَيَسْقُطُ عن الْكَفِيلِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْكَفِيلُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا وَالْأَفْعَالِ الْمَضْمُونَةِ تَخْرُجُ عن الْكَفَالَةِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا تَسْلِيمُ الْعَيْنِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا إنْ كانت قَائِمَةً وَتَسْلِيمُ مِثْلِهَا أو قِيمَتِهَا إنْ كانت هَالِكَةً وَيَحْصُلُ الْفِعْلُ الْمَضْمُونُ وهو التَّسْلِيمُ وَالْحَمْلُ
وَالثَّانِي الْإِبْرَاءُ فَلَا يَخْرُجُ بِمَوْتِ الْغَاصِبِ وَالْبَائِعِ وَالْمُكَارِي لِأَنَّ نَفْسَ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مَكْفُولٍ بها حتى يَسْقُطَ بِمَوْتِهِمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا رُجُوعُ الْكَفِيلِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في الرُّجُوعِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في شَرَائِطِ وِلَايَةِ الرُّجُوعِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَرْجِعُ بِهِ أَمَّا الشَّرْطُ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عنه لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِقْرَاضِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ وَلَوْ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا يَرْجِعُ عليه عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرْجِعُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ تَبَرُّعٌ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْغَيْرِ فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنٍ صَحِيحٍ وهو إذْنُ من يَجُوزُ إقْرَارُهُ على نَفْسِهِ بِالدَّيْنِ حتى أَنَّهُ لو كَفَلَ عن الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ بِإِذْنِهِ فَأَدَّى لَا يَرْجِعُ لِأَنَّ إذْنَهُ بِالْكَفَالَةِ لم يَصِحَّ لِأَنَّهُ من الْمَكْفُولِ عنه اسْتِقْرَاضٌ وَاسْتِقْرَاضُ الصَّبِيِّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ
وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ فَإِذْنُهُ بِالْكَفَالَةِ صَحِيحٌ في حَقِّ نَفْسِهِ حتى يَرْجِعَ عليه بَعْدَ الْعَتَاقِ لَكِنْ لَا يَصِحُّ في حَقِّ الْمَوْلَى فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ في الْحَالِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا إضَافَةُ الضَّمَانِ إلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ اضْمَنْ عَنِّي وَلَوْ قال اضْمَنْ كَذَا ولم يُضِفْ إلَى نَفْسِهِ لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ إذَا لم يُضِفْ إلَيْهِ فَالْكَفَالَةُ لم تَقَعْ إقْرَاضًا إيَّاهُ فَلَا يَرْجِعُ عليه
وَمِنْهَا أَدَاءُ الْمَالِ إلَى الطَّالِبِ أو ما هو في مَعْنَى الْأَدَاءِ إلَيْهِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ قبل الْأَدَاءِ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِقْرَاضِ وَالتَّمْلِيكِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِأَدَاءِ الْمَالِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ قَبْلَهُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْأَصِيلِ على الْكَفِيلِ دَيْنٌ مِثْلُهُ فَأَمَّا إذَا كان فَلَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ إذَا أَدَّى الدَّيْنَ التقي الدَّيْنَانِ قِصَاصًا إذْ لو ثَبَتَ لِلْكَفِيلِ حَقُّ الرُّجُوعِ على الْأَصِيلِ لَثَبَتَ لِلْأَصِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عليه أَيْضًا فَلَا يُفِيدُ فَيَسْقُطَانِ جميعا
وَلَوْ وَهَبَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْمَالَ لِلْكَفِيلِ يَرْجِعُ على الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْهِبَةَ في مَعْنَى الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ لَمَّا وَهَبَ منه فَقَدْ مَلَكَ ما في ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فَيَرْجِعُ عليه كما إذَا مَلَكُهُ بِالْأَدَاءِ وإذا وَهَبَ الدَّيْنَ من الْأَصِيلِ برىء الْكَفِيلُ لِأَنَّ هذا وَأَدَاءَ الْمَالِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ لَمَّا وَهَبَهُ منه فَقَدْ مَلَكَ ما في ذِمَّتِهِ كما إذَا أَدَّى وَمَتَى برىء الْأَصِيلُ برىء الْكَفِيلُ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ
وَلَوْ مَاتَ الطَّالِبُ فَوَرِثَهُ الْكَفِيلُ
____________________

(6/13)


يَرْجِعُ على الْأَصِيلِ وَلَوْ وَرِثَهُ الْأَصِيلُ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ لِأَنَّ الْإِرْثَ من أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَيَمْلِكُهُ الْأَصِيلُ وَمَتَى مَلَكَهُ برىء فَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ كما إذَا أَدَّى
وَلَوْ أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ لَا يَرْجِعُ على الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ وهو في حَقِّ الْكَفِيلِ إسْقَاطُ الْمُطَالَبَةِ لَا غَيْرُ وَلِهَذَا لَا تُوجِبُ بَرَاءَةُ الْكَفِيلِ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فلم يَكُنْ فيه مَعْنَى تَمْلِيكِ الدَّيْنِ أَصْلًا فَلَا يَرْجِعُ
وَلَوْ أَبْرَأَ للكفيل ( ( ( الكفيل ) ) ) الْمَكْفُولَ عنه مِمَّا ضَمِنَهُ بِأَمْرِهِ قبل أَدَائِهِ أو وَهَبَهُ منه جَازَ حتى لو أَدَّاهُ الْكَفِيلُ بَعْدَ ذلك لَا يَرْجِعُ عليه لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْحَقِّ له على الْأَصِيلِ وهو الْعَقْدُ بِإِذْنِهِ مَوْجُودٌ وَالْإِبْرَاءُ عن الْحَقِّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ قبل الْوُجُوبِ جَائِزٌ كَالْإِبْرَاءِ عن الْأُجْرَةِ قبل مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَلَوْ لم يُؤَدِّ الْكَفِيلُ ما كَفَلَ بِهِ حتى عَجَّلَ الْأَصِيلُ لِمَا كَفَلَ عنه وَدَفَعَ إلَى الْكَفِيلِ يُنْظَرُ إنْ دَفْعَهُ إلَيْهِ على وَجْهِ الْقَضَاءِ يَجُوزُ لِأَنَّ وِلَايَةَ الرُّجُوعِ على الْأَصِيلِ إنْ لم تَكُنْ ثَابِتَةً له في الْحَالِ لَكِنَّهَا ثَبَتَتْ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَأَشْبَهَ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ إذَا عَجَّلَهُ الْمَطْلُوبُ قبل حِلِّ الْأَجَلِ أَنَّهُ يُقْبَلُ منه وَيَكُونُ قَضَاءً كَذَا هذا
وبرىء الْأَصِيلُ من دَيْنِ الْكَفِيلِ وَلَكِنْ لَا يَبْرَأُ عن دَيْنِ الْمَكْفُولِ له وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ أَيَّهمَا شَاءَ فَإِنْ أَخَذَ من الْأَصِيلِ كان له أَنْ يَرْجِعَ على الْكَفِيلِ بِمَا أَدَّى لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَكُنْ قَضَاءً وَإِنْ كان الْكَفِيلُ تَصَرَّفَ في ذلك الْمُعَجَّلِ وَرَبِحَ هل يَطِيبُ له الرِّبْحُ يُنْظَرُ إنْ كان الدَّيْنُ دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ يَطِيبُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَعَيَّنَانِ في عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَحَصَلَ التَّمْلِيكُ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا فَيَطِيبُ له الرِّبْحُ وَإِنْ كان الدَّيْنُ مَكِيلًا أو مَوْزُونًا مِمَّا يَتَعَيَّنُ في الْعَقْدِ يَطِيبُ له الرِّبْحُ أَيْضًا عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ذَكَرَ في كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّهُ يَطِيبُ له الرِّبْحُ ولم يُذْكَرْ الْخِلَافُ وفي رِوَايَةٍ قال يَتَصَدَّقُ وفي رِوَايَةٍ قال أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ يَرُدَّ الرِّبْحَ على الْمَكْفُولِ عنه
هذا إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ على وَجْهِ الْقَضَاءِ فَأَمَّا إذَا دَفَعَهُ على وَجْهِ الرِّسَالَةِ لِيُؤَدِّيَ الدَّيْنَ مِمَّا دَفَعَهُ إلَيْهِ لَا على وَجْهِ الْقَضَاءِ فَتَصَرَّفَ فيه الْوَكِيلُ وَرَبِحَ لَا يَطِيبُ له الرِّبْحُ سَوَاءٌ كان الدَّيْنُ دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ أو غَيْرَهُمَا من الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَطِيبُ وهو كَاخْتِلَافِهِمْ في الْمُودَعِ وَالْغَاصِبِ إذَا تَصَرَّفَ في الْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ وَرَبِحَ فِيهِمَا أَنَّهُ لَا يَطِيبُ له الرِّبْحُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَطِيبُ وَالْمَسْأَلَةُ تأتي في مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ قال الطَّالِبُ لِلْكَفِيلِ بَرِئْتُ إلَيَّ من الْمَالِ يَرْجِعُ على الْأَصِيلِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ هذا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ لِمَا نَذْكُرُ وفي قَوْلِهِ بَرِئْتُ من الْمَالِ اخْتِلَافٌ نَذْكُرُهُ بَعْدَ هذا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ كَفَلَ رَجُلَانِ لِرَجُلٍ عن رَجُلٍ بِأَمْرِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حتى يَثْبُتَ لِلطَّالِبِ وَلَايَةُ مُطَالَبَةِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ فَأَدَّى أَحَدُهُمَا شيئا من مَالِ الْكَفَالَةِ فَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ على صَاحِبِهِ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أن كَفَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ بِمَا عليه وَقْتَ الْعَقْدِ أو بَعْدَهُ أو كَفَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ بِمَا عليه دُونَ الْآخَرِ أو لم يَكْفُلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ أَصْلًا فَإِنْ لم يَكْفُلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ أَصْلًا لَا يَرْجِعُ على صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَدَّى لِأَنَّهُ أَدَّى عن نَفْسِهِ لَا عن صَاحِبِهِ أَصْلًا لِأَنَّهُ لم يَكْفُلْ عنه وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ على الْأَصِيلِ لِأَنَّهُ كَفِيلٌ عنه بِأَمْرِهِ
وَإِنْ كَفَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ بِمَا عليه ولم يَكْفُلْ عنه صَاحِبُهُ بِمَا عليه فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ فِيمَا أَدَّى أَنَّهُ من كَفَالَةِ صَاحِبِهِ إلَيْهِ أو من كَفَالَةِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْمَالِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا من جِهَةِ كَفَالَةِ نَفْسِهِ عن الْأَصِيلِ
وَالثَّانِي من جِهَةِ الْكَفَالَةِ عن صَاحِبِهِ وَلَيْسَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَوْلَى من الْآخَرِ فَكَانَ له وَلَايَةُ الْأَدَاءِ عن أَيِّهِمَا شَاءَ فإذا قال أَدَّيْتُهُ عن كَفَالَةِ صَاحِبِي يُصَدَّقُ وَيُرْجَعُ عليه لِأَنَّهُ كَفَلَ عنه بِأَمْرِهِ سَوَاءٌ أَدَّى الْمَالَ إلَى الطَّالِبِ ثُمَّ قال ذلك أو قال ابْتِدَاءً إنِّي أودي عن كَفَالَةِ صَاحِبِي
وَكَذَا إذَا قال أَدَّيْتُهُ عن كَفَالَةِ الْأَصِيلِ فَقُبِلَ منه وَيَرْجِعُ عليه لِأَنَّهُ كَفَلَ عنه بِأَمْرِهِ سَوَاءٌ قال ذلك بَعْدَ أَدَاءِ الْمَالِ إلَى الطَّالِبِ أو عِنْدَهُ ابْتِدَاءً
وَإِنْ كَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ بِمَا عليه فما أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ عن نَفْسِهِ إلَى خَمْسِمِائَةٍ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فيه أَنَّهُ أَدَّى عن شَرِيكِهِ لَا عن نَفْسِهِ بَلْ يَكُونُ عن نَفْسِهِ إلَى هذا الْقَدْرِ فَلَا يَرْجِعُ على شَرِيكِهِ
وَكَذَا إذَا قال ابْتِدَاءً أني أُؤَدِّي عن شَرِيكَيْ لَا عن نَفْسِي لَا يُقْبَلُ منه وَيَكُونُ عن نَفْسِهِ إلَى هذا الْقَدْرِ وَلَا يَرْجِعُ على شَرِيكِهِ ما لم يَزِدْ المؤدي على خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّ الْمُؤَدِّي إلَى خَمْسِمِائَةٍ له مُعَارِضٌ وَالزِّيَادَةُ لَا مُعَارِضَ لها فإذا زَادَ على خَمْسِمِائَةٍ يَرْجِعُ بِالزِّيَادَةِ إنْ شَاءَ على شَرِيكِهِ وَإِنْ شَاءَ على الْأَصِيلِ
وَكَذَا لو اشْتَرَى
____________________

(6/14)


رَجُلَانِ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَكَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ فما أَدَّى أَحَدُهُمَا يَقَعُ عن نَفْسِهِ وَلَا يَرْجِعُ على شَرِيكِهِ حتى يَزِيدَ على النِّصْفِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَكَذَلِكَ الْمُتَفَاوِضَانِ إذَا افْتَرَقَا وَعَلَيْهِمَا دَيْنٌ فَلِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يُطَالِبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَيُّهُمَا أَدَّى شيئا لَا يَرْجِعُ على شَرِيكِهِ حتى يَزِيدَ المؤدي على النِّصْفِ لِمَا ذَكَرْنَا
هذا إذَا كَفَلَا كَفَالَةً وَاحِدَةً ولم يَكْفُلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ بِجَمِيعِ الْمَالِ فَأَمَّا إذَا كَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَالَةً مُتَفَرِّقَةً بِجَمِيعِ الْمَالِ عن الْمَطْلُوبِ ثُمَّ كَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ بِمَا عليه فما أَدَّى أَحَدُهُمَا شيئا يَرْجِعُ بِكُلِّ المؤدي على الْأَصِيلِ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ يَرْجِعُ بِنِصْفِهِ على شَرِيكِهِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا من وَجْهَيْنِ الْكَفَالَةُ عن نَفْسِهِ وَالْكَفَالَةُ عن صَاحِبِهِ على السَّوَاءِ فَيَقَعُ المؤدي نِصْفُهُ عن نَفْسِهِ وَنِصْفُهُ عن صَاحِبِهِ لِتَسَاوِيهِمَا في الْكَفَالَتَيْنِ بالمؤدي وإذا وَقَعَ نِصْفُ المؤدي عن صَاحِبِهِ فَيَرْجِعُ عليه لِيُسَاوِيَهُ في الْأَدَاءِ كما سَاوَاهُ في الْكَفَالَةِ بالمؤدي بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصِيلٌ في نِصْفِ الْمَالِ بِالْكَفَالَةِ عن نَفْسِهِ كَفِيلٌ عن صَاحِبِهِ بِالْكَفَالَةِ عنه فَيَكُونُ مُؤَدِّيًا عن نَفْسِهِ إلَى النِّصْفِ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ لِمَا مَرَّ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَرْجِعُ بِهِ الْكَفِيلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إنَّ الْكَفِيلَ يَرْجِعُ بِمَا كَفَلَ لَا بِمَا أَدَّاهُ حتى لو كَفَلَ عن رَجُلٍ بِدَرَاهِمَ صِحَاحٍ جِيَادٍ فَأَعْطَاهُ مُكَسَّرَةً أو زُيُوفًا وَتَجُوزُ بِهِ الْمُطَالَبَةُ يَرْجِعُ عليه بِالصِّحَاحِ الْجِيَادِ لِأَنَّهُ بِالْأَدَاءِ مَلَكَ ما في ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فَيَرْجِعُ بالمؤدي وهو الصِّحَاحُ الْجِيَادُ وَلَيْسَ هذا كَالْمَأْمُورِ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ له أَنْ يَرْجِعَ بالمؤدي لَا بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ بِالْأَدَاءِ ما مَلَكَ الدَّيْن بَلْ أَقْرَضَ الْمُؤَدِّي من الْآمِرِ فَيَرْجِعُ عليه بِمَا أَقْرَضَهُ
وَكَذَلِكَ لو أَعْطَى بِالدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ أو شيئا من الْمَكِيلِ أو الْمَوْزُونِ فإنه يَرْجِعُ عليه بِمَا كَفَلَ لَا بِمَا أَدَّى لِمَا ذَكَرْنَا بِخِلَافِ ما إذَا صَالَحَ من الْأَلْفِ على خَمْسِمِائَةٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالْخَمْسِمِائَةِ لَا بِالْأَلْفِ لِأَنَّهُ بِأَدَاءِ الْخَمْسمِائَةِ ما مَلَكَ ما في ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وهو الْأَلْفُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيقَاعُ الصُّلْحِ تَمْلِيكًا هَهُنَا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَيَقَعُ إسْقَاطًا لِبَعْضِ الْحَقِّ وَالسَّاقِطُ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ بِهِ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ كَفَلَ خمسة ( ( ( بخمسة ) ) ) دَنَانِيرَ فَصَالَحَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ على ثَلَاثَةٍ ولم يَقُلْ أَصَالِحُكَ على أَنْ تُبَرِّئَنِي فَالصُّلْحُ وَاقِعٌ عن الْأَصِيلِ وَالْكَفِيلِ جميعا وَبَرِئَا جميعا وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ على الْأَصِيلِ بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ
وَلَوْ قال أُصَالِحُكَ على ثَلَاثَةٍ على أَنْ تُبَرِّئَنِي فَهَذَا بَرَاءَةٌ عن الْكَفِيلِ خَاصَّةً وَيَرْجِعُ الطَّالِبُ على الْمَطْلُوبِ بِدِينَارَيْنِ لِأَنَّ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إيقَاعُ الصُّلْحِ على ثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ تَصَرُّفٌ في نَفْسِ الْحَقِّ بِإِسْقَاطِ بَعْضِهِ فَكَانَ الصُّلْحُ وَاقِعًا عنهما جميعا فَيَبْرَآنِ جميعا وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ على الْأَصِيلِ بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ لِأَنَّهُ مَلَكَ هذا الْقَدْرَ بِالْأَدَاءِ فَيَرْجِعُ بِهِ عليه
وَأَمَّا في الْفَصْلِ الثَّانِي فَإِضَافَةُ الصُّلْحِ إلَى ثَلَاثَةٍ مَقْرُونًا بِشَرْطِ الْإِبْرَاءِ الْمُضَافِ إلَى الْكَفِيلِ إبْرَاءً لِلْكَفِيلِ عن الْمُطَالَبَةِ بِدِينَارَيْنِ وَإِبْرَاءُ الْكَفِيلِ لَا يُوجِبُ إبْرَاءَ الْأَصِيلِ فَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ ويبقي الدِّينَارَانِ على الْأَصِيلِ فَيَأْخُذُهُ الطَّالِبُ مِنْهُمَا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
كِتَابُ الْحَوَالَةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِ الْحَوَالَةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْحَوَالَةِ وفي بَيَانِ ما يَخْرُجُ بِهِ الْمُحَالُ عليه عن الْحَوَالَةِ وفي بَيَانِ الرُّجُوعِ بَعْدَ الْخُرُوجِ أَنَّهُ هل يَرْجِعُ أَمْ لَا أَمَّا رُكْنُ الْحَوَالَةِ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الْإِيجَابُ من الْمُحِيلِ وَالْقَبُولُ من الْمُحَالِ عليه وَالْمُحَالِ جميعا فَالْإِيجَابُ أَنْ يَقُولَ الْمُحِيلُ لِلطَّالِبِ أَحَلْتُك على فُلَانٍ هَكَذَا وَالْقَبُولُ من الْمُحَالِ عليه وَالْمُحَالِ أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبِلْتُ أو رَضِيتُ أو نحو ذلك مِمَّا يَدُلُّ على الْقَبُولِ وَالرِّضَا وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ لم يَكُنْ لِلْمُحِيلِ على الْمُحَالِ عليه دَيْنٌ فَكَذَلِكَ فَأَمَّا إذَا كان له عليه دَيْنٌ فَيَتِمُّ بِإِيجَابِ الْمُحِيلِ وَقَبُولِ الْمُحْتَالِ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْمُحِيلَ في هذه الصُّورَةِ مُسْتَوْفٍ حَقَّ نَفْسِهِ بِيَدِ الطَّالِبِ فَلَا يَقِفُ على قَبُولِ من عليه الْحَقُّ كما إذَا وَكَّلَهُ بِالْقَبْضِ وَلَيْسَ هو كَالْمُحَالِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَصَرُّفٌ عليه بِنَقْلِ حَقِّهِ من ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ مع اخْتِلَافِ الذِّمَمِ فَلَا يَصِحُّ من غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ
وَلَنَا أَنَّ الْحَوَالَةَ تَصَرُّفٌ على الْمُحَالِ
____________________

(6/15)


عليه بِنَقْلِ الْحَقِّ إلَى ذِمَّتِهِ فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِقَبُولِهِ وَرِضَاهُ بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ ليس تَصَرُّفًا عليه بِنَقْلِ الْوَاجِبِ إلَيْهِ ابْتِدَاءً بَلْ هو تَصَرُّفٌ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ فَلَا يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ وَرِضَاهُ وَلِأَنَّ الناس في اقْتِضَاءِ الدُّيُونِ وَالْمُطَالَبَةِ بها على التَّفَاوُتِ بَعْضُهُمْ أَسْهَلُ مُطَالَبَةً وَاقْتِضَاءً وَبَعْضُهُمْ أَصْعَبُ فَلَا بُدَّ من قَبُولِهِ لِيَكُونَ لُزُومُ ضَرَرِ الصُّعُوبَةِ مُضَافًا إلَى الْتِزَامِهِ
فصل وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُحِيلِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ عليه وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ بِهِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُحِيلِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَلَا تَصِحُّ حَوَالَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ الْعَقْلَ من شَرَائِطِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ كُلِّهَا وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَالِغًا وهو شَرْطُ النَّفَاذِ دُونَ الِانْعِقَادِ فَتَنْعَقِدُ حَوَالَةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ مَوْقُوفًا نَفَاذُهُ على إجَازَةِ وَلِيِّهِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إبْرَاءٌ بِحَالِهَا وَفِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ بمالها خُصُوصًا إذَا كانت مُقَيَّدَةً فَتَنْعَقِدُ من الصَّبِيِّ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْمُحِيلِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَوَالَةِ حتى تَصِحَّ حَوَالَةُ الْعَبْدِ مَأْذُونًا كان في التِّجَارَةِ أو مَحْجُورًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَبَرُّعٍ بِالْتِزَامِ شَيْءٍ كَالْكَفَالَةِ فَيَمْلِكُهَا الْعَبْدُ غير أَنَّهُ إنْ كان مَأْذُونًا في التِّجَارَةِ رَجَعَ عليه الْمُحَالُ عليه لِلْحَالِّ إذَا أَدَّى ولم يَكُنْ لِلْعَبْدِ عليه دَيْنٌ مِثْلُهُ وَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَإِنْ كان مَحْجُورًا يَرْجِعُ عليه بَعْدَ الْعِتْقِ وَكَذَا الصِّحَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَوَالَةِ لِأَنَّهَا من قِبَلِ الْمُحِيلِ لَيْسَتْ بِتَبَرُّعٍ فَتَصِحُّ من الْمَرِيضِ
وَمِنْهَا رِضَا الْمُحِيلِ حتى لو كان مُكْرَهًا على الْحَوَالَةِ لَا تَصِحُّ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إبْرَاءٌ فيها مَعْنَى التَّمْلِيكِ فَتَفْسُدُ بِالْإِكْرَاهِ كَسَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ فَأَنْوَاعٌ منها الْعَقْلُ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّ قَبُولَهُ رُكْنٌ وَغَيْرُ الْعَاقِلِ لَا يَكُونُ من أَهْلِ الْقَبُولِ
وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وَأَنَّهُ شَرْطُ النَّفَاذِ لَا شَرْطَ الِانْعِقَادِ فَيَنْعَقِدُ احْتِيَالُهُ مَوْقُوفًا على إجَازَةِ وَلِيِّهِ إنْ كان الثَّانِي أَمْلَأَ من الْأَوَّلِ وَكَذَا الْوَصِيُّ إذَا احْتَالَ بِمَالِ الْيَتِيمِ فلا تَصِحُّ إلَّا بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عن قُرْبَانِ مَالِهِ إلَّا على وَجْهِ الْأَحْسَنِ لِلْآيَةِ الشَّرِيفَةِ فيه { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وَمِنْهَا الرِّضَا علي لو احْتَالَ مُكْرَهًا لَا تَصِحُّ لِمَا ذَكَرْنَا وَمِنْهَا مَجْلِسُ الْحَوَالَةِ وهو شَرْطُ الِانْعِقَادِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ شَرْطُ النَّفَاذِ حتى إن الْمُحْتَالَ لو كان غَائِبًا عن الْمَجْلِسِ فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ لَا يَنْفُذُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَنْفُذُ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُمَا لِأَنَّ قَبُولَهُ من أَحَدِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ فَكَانَ كَلَامُهُمَا بِدُونِ شَرْطِ الْعَقْدِ فَلَا يَقِفُ على غَائِبٍ عن الْمَجْلِسِ كما في الْبَيْعِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ عليه فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا منها الْعَقْلُ فَلَا يَصِحُّ من الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ قَبُولَ الْحَوَالَةِ أَصْلًا لِمَا ذَكَرْنَا وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وإنه شَرْطُ الِانْعِقَادِ أَيْضًا فَلَا يَصِحُّ من الصَّبِيِّ قَبُولُ الْحَوَالَةِ أَصْلًا لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كان عَاقِلًا سَوَاءٌ كان مَحْجُورًا عليه أو مَأْذُونًا في التِّجَارَةِ وَسَوَاءٌ كانت الْحَوَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُحِيلِ أو بِأَمْرِهِ
أَمَّا إذَا كانت بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ على الْمُحِيلِ فَكَانَ تَبَرُّعًا بِابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ
وَكَذَلِكَ إذَا كانت بِأَمْرِهِ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِابْتِدَائِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ مَحْجُورًا كان أو مَأْذُونًا في التِّجَارَةِ كَالْكَفَالَةِ وَإِنْ قَبِلَ عنه وَلِيُّهُ لَا يَصِحُّ أَيْضًا لِأَنَّهُ من التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْوَلِيُّ
وَمِنْهَا الرِّضَا حتى لو أُكْرِهَ على قَبُولِ الْحَوَالَةِ لَا يَصِحُّ
وَمِنْهَا الْمَجْلِسُ وإنه شَرْطُ الِانْعِقَادِ عِنْدَهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا في جَانِبِ الْمُحِيلِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ بِهِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا فَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ لِأَنَّهَا نَقْلُ ما في الذِّمَّةِ ولم يُوجَدْ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ لَازِمًا فَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ من ( ( ( بدين ) ) ) غَيْرِ لَازِمٍ كَبَدَلِ الْكِتَابَةِ وما يَجْرِي مَجْرَاهُ لِأَنَّ ذلك دَيْنٌ تَسْمِيَةً لَا حَقِيقَةً إذْ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ له على عَبْدِهِ دَيْنٌ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ دَيْنٍ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ لَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِهِ
وَأَمَّا وُجُوبُ الدَّيْنِ على الْمُحَالِ عليه لِلْمُحِيلِ قبل الْحَوَالَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَوَالَةِ حتى تَصِحَّ الْحَوَالَةُ سَوَاءٌ كان لِلْمُحِيلِ على الْمُحَالِ عليه دَيْنٌ أو لم يَكُنْ وَسَوَاءٌ كانت الْحَوَالَةُ مُطْلَقَةً أو مُقَيَّدَةً
وَالْجُمْلَةُ فيه أَنَّ الْحَوَالَةَ نَوْعَانِ مُطْلَقَةٌ وَمُقَيَّدَةٌ فَالْمُطْلَقَةُ أَنْ يُحِيلَ بِالدَّيْنِ على فُلَانٍ وَلَا يُقَيِّدُهُ بِالدَّيْنِ الذي عليه وَالْمُقَيَّدَةُ أَنْ يُقَيِّدَهُ بِذَلِكَ وَالْحَوَالَةُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ من النَّوْعَيْنِ جَائِزَةٌ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من أُحِيلَ على مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ من غَيْرِ فَصْلٍ إلَّا أَنَّ الْحَوَالَةَ الْمُطْلَقَةَ تُخَالِفُ الْحَوَالَةَ الْمُقَيَّدَةَ في أَحْكَامٍ منها إذَا أَطْلَقَ الْحَوَالَةَ ولم يَكُنْ له على الْمُحَالِ عليه دَيْنٌ فإن الْمُحَالَ يَطْلُبُ الْمُحَالَ عليه بِدَيْنِ الْحَوَالَةِ لَا غَيْرُ وَإِنْ كان له عليه دَيْنٌ فإن الْمُحَالَ عليه يُطَالَبُ بِدَيْنَيْنِ دَيْنِ الْحَوَالَةِ وَدَيْنِ الْمُحِيلِ فَيُطَالِبُهُ
____________________

(6/16)


الْمُحَالُ بِدَيْنِ الْحَوَالَةِ وَيُطَالِبُهُ الْمُحِيلُ بِالدَّيْنِ الذي له عليه وَلَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ لِلْمُحِيلِ بِدَيْنِهِ بِسَبَبِ الْحَوَالَةِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ لم تَتَقَيَّدْ بِالدَّيْنِ الذي لِلْمُحَالِ عليه لِأَنَّهَا وُجِدَتْ مُطْلَقَةً عن هذه الشَّرِيطَةِ فَيَتَعَلَّقُ دَيْنُ الْحَوَالَةِ بِنَعْتِهِ وَدَيْنُ الْمُحِيلِ بَقِيَ على حَالِهِ وإذا قَيَّدَهَا بِالدَّيْنِ الذي عليه يَنْقَطِعُ حَقُّ مُطَالَبَةِ الْمُحِيلِ لِأَنَّهُ قَيَّدَ الْحَوَالَةَ بهذا الدَّيْنِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ وَيَكُونُ ذلك الدَّيْنُ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ عِنْدَهُ وَإِنْ لم يَكُنْ رَهْنًا على الْحَقِيقَةِ
وَمِنْهَا أَنَّهُ لو ظَهَرَتْ بَرَاءَةُ الْمُحَالِ عليه من الدَّيْنِ الذي قُيِّدَتْ بِهِ الْحَوَالَةُ بِأَنْ كان الدَّيْنُ ثَمَنَ مَبِيعٍ فَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ وَلَوْ سَقَطَ عنه الدَّيْنُ لِمَعْنًى عَارِضٍ بِأَنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْبَائِعِ قبل التَّسْلِيمِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ حتى سَقَطَ الثَّمَنُ عنه لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ عنه لَكِنْ إذَا أَدَّى الدَّيْنَ بَعْدَ سُقُوطِ الثَّمَنِ يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى على الْمُحِيلِ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ وَلَوْ ظَهَرَ ذلك في الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ لَا يَبْطُلُ لِأَنَّهُ لَمَّا قَيَّدَ الْحَوَالَةَ بِهِ فَقَدْ تَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِهِ فإذا ظَهَرَ أَنَّهُ لَا دَيْنَ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا حَوَالَةَ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ بِالدَّيْنِ وقد تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا دَيْنَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حَوَالَةَ ضَرُورَةً وَهَذَا لَا يُوجَدُ في الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِهِ يُوجِبُ تَقْيِيدَ الْحَوَالَةِ ولم يُوجَدْ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الدَّيْنُ فَيَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ فَلَا يَظْهَرُ أَنَّ الْحَوَالَةَ كانت بَاطِلَةً
وَكَذَلِكَ لو قَيَّدَ الْحَوَالَةَ بِأَلْفٍ وَدِيعَةً عِنْدَ رَجُلٍ فَهَلَكَتْ الْأَلْفُ عِنْدَ الْمُودَعِ بَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَلَوْ كانت الْأَلْفُ على الْمُحَالِ عليه مضمونه لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ بِالْهَلَاكِ لِأَنَّهُ يَجِبُ عليه مِثْلُهَا
وَمِنْهَا إنه إذَا مَاتَ الْمُحِيلُ في الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ قبل أَنْ يُؤَدِّيَ الْمُحَالُ عليه الدَّيْنَ إلَى الْمُحَالِ وَعَلَى الْمُحِيلِ دُيُونٌ سِوَى دَيْنِ الْمُحَالِ وَلَيْسَ له مَالٌ سِوَى هذا الدَّيْنِ لَا يَكُونُ الْمُحَالُ أَحَقَّ بِهِ من بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ من بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ كَالرَّهْنِ
وَلَنَا الْفَرْقُ بين الْحَوَالَةِ وَالرَّهْنِ وهو أَنَّ الْمُرْتَهِنَ اُخْتُصَّ بِغُرْمِ الرَّهْنِ من بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو هَلَكَ يَسْقُطُ دَيْنُهُ خَاصَّةً وَلَمَّا اُخْتُصَّ بِغُرْمِهِ اُخْتُصَّ بِغُنْمِهِ لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ فَأَمَّا الْمُحَالُ في الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ فلم يَخْتَصَّ بِغُرْمِ ذلك الْمَالِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو توى لَا يَسْقُطُ دَيْنُهُ على الْمُحِيلِ وَالتَّوَى على الْمُحِيلِ دُونَهُ فلما لم يَخْتَصَّ بِغُرْمِهِ لم يَخْتَصَّ بِغُنْمِهِ أَيْضًا بَلْ يَكُونُ هو وَغُرَمَاءُ الْمُحِيلِ أُسْوَةً في ذلك وإذا أَرَادَ الْمُحِيلُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُحَالَ عليه بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِ فَلَيْسَ له ذلك لِأَنَّ الْمَالَ الذي قُيِّدَتْ بِهِ الْحَوَالَةُ اُسْتُحِقَّ من الْمُحَالِ عليه فَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ
وَلَوْ كانت الْحَوَالَةُ مُطْلَقَةً وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا يُؤْخَذُ من الْمُحَالِ عليه جَمِيعُ الدَّيْنِ الذي عليه وَيُقْسَمُ بين غُرَمَاءِ الْمُحِيلِ وَلَا يَدْخُلُ الْمُحَالُ في ذلك وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ من الْمُحَالِ عليه لِأَنَّ الْحَوَالَةَ لم تَتَعَلَّقْ بِهِ فَذَلِكَ مِلْكُ الْمُحِيلِ وَلَا يُشَارِكُهُمْ الْمُحَالُ في ذلك لِأَنَّ حَقَّهُ ثَبَتَ على الْمُحَالِ عليه وَلَا يَعُودُ إلَى الْمُحِيلِ وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَأْخُذُ من غُرَمَاءِ الْمُحِيلِ كَفِيلًا لِأَنَّهُ ثَبَتَ الرُّجُوعُ إلَيْهِمْ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ
أَمَّا الْمُحَالُ إذَا توى ما على الْآخَرِ وَأَمَّا الْمُحَالُ عليه إذَا أَدَّى الدَّيْنَ فَالْقَاضِي نُصِّبَ نَاظِرًا لِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَيُحْتَاطُ في ذلك بِأَخْذِ الْكَفِيلِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْحَوَالَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تعالى التَّوْفِيقُ الْحَوَالَةُ لها أَحْكَامٌ منها بَرَاءَةُ الْمُحِيلِ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ الْحَوَالَةُ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ وَالْحَقُّ في ذِمَّتِهِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ على ما كان عليه قَبْلَهَا كَالْكَفَالَةِ سَوَاءً
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْحَوَالَةَ شُرِعَتْ وَثِيقَةً لِلدَّيْنِ كَالْكَفَالَةِ وَلَيْسَ من الْوَثِيقَةِ بَرَاءَةُ الْأَوَّلِ بَلْ الْوَثِيقَةُ في مُطَالَبَةِ الثَّانِي مع بَقَاءِ الدَّيْنِ على حَالِهِ في ذِمَّةِ الْأَوَّلِ من غَيْرِ تَغْيِيرٍ كما في الْكَفَالَةِ سَوَاءً
وَلَنَا أَنَّ الْحَوَالَةَ مُشْتَقَّةٌ من التَّحْوِيلِ وهو النَّقْلُ فَكَانَ مَعْنَى الِانْتِقَالِ لَازِمًا فيها وَالشَّيْءُ إذَا انْتَقَلَ إلَى مَوْضِعٍ لَا يَبْقَى في الْمَحِلِّ الْأَوَّلِ ضَرُورَةٌ وَمَعْنَى الْوَثِيقَةِ يَحْصُلُ بِسُهُولَةِ الْوُصُولِ من حَيْثُ الْمَلَاءَةُ وَالْإِنْصَافُ وَلَوْ كَفَلَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ جَازَ وَتَكُونُ حَوَالَةً لِأَنَّهُ أتى بِمَعْنَى الْحَوَالَةِ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ في كَيْفِيَّةِ النَّقْلِ مع اتِّفَاقِهِمْ على ثُبُوتِ أَصْلِهِ مُوجِبًا لِلْحَوَالَةِ قال بَعْضُهُمْ إنَّهَا نَقْلُ الْمُطَالَبَةِ وَالدَّيْنِ جميعا
وقال بَعْضُهُمْ إنَّهَا نَقْلُ الْمُطَالَبَةِ فَحَسْبُ
فَأَمَّا أَصْلُ الدَّيْنِ فَبَاقٍ في ذِمَّةِ الْمُحِيلِ
وَجْهُ قَوْلِ الْأَوَّلِينَ دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ
أَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا على أَنَّهُ لو أَبْرَأَ الْمُحَالَ عليه من الدَّيْنِ أو وَهَبَ الدَّيْنَ منه صَحَّتْ الْبَرَاءَةُ وَالْهِبَةُ وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُحِيلَ من الدَّيْنِ أو وَهَبَ الدَّيْنَ منه لَا يَصِحُّ وَلَوْلَا أَنَّ الدَّيْنَ انْتَقَلَ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عليه وَفَرَغَتْ ذِمَّةُ الْمُحِيلِ عن الدَّيْنِ لَمَا صَحَّ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عن الدَّيْنِ وَهِبَةُ الدَّيْنِ وَلَا دَيْنَ مُحَالٌ وَلَصَحَّ الثَّانِي لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عن دَيْنٍ ثَابِتٍ وَهِبَتُهُ منه صَحِيحٌ وَإِنْ تَأَخَّرَتْ الْمُطَالَبَةُ كَالْإِبْرَاءِ عن الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الْحَوَالَةَ تُوجِبُ النَّقْلَ لِأَنَّهَا
____________________

(6/17)


مُشْتَقَّةٌ من التَّحْوِيلِ وهو النَّقْلُ فَيَقْتَضِي نَقْلَ ما أُضِيفَ إلَيْهِ وقد أُضِيفَ إلَى الدَّيْنِ لَا إلَى الْمُطَالَبَةِ لِأَنَّهُ إذَا قال أَحَلْتُ بِالدَّيْنِ أو أَحَلْتُ فُلَانًا بِدَيْنِهِ فَيُوجِبُ انْتِقَالَ الدَّيْنِ إلَى الْمُحَالِ عليه إلَّا أَنَّهُ إذَا انْتَقَلَ أَصْلُ الدَّيْنِ إلَيْهِ تَنْتَقِلُ الْمُطَالَبَةُ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ وَجْهُ قَوْلِ الْآخَرِينَ دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ
أَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فإن الْمُحِيلَ إذَا قضي دَيْنَ الطَّالِبِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ قبل أَنْ يُؤَدِّيَ الْمُحَالُ عليه لَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا وَيُجْبَرُ على الْقَبُولِ وَلَوْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ لَكَانَ مُتَطَوِّعًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُجْبَرَ على الْقَبُولِ كما إذَا تَطَوَّعَ أَجْنَبِيٌّ بِقَضَاءِ دَيْنِ إنْسَانٍ على غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ الْمُحَالُ لو أَبْرَأَ الْمُحَالَ عليه عن دَيْنِ الْحَوَالَةِ لَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ وَلَوْ وَهَبَهُ منه يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ كما إذَا أَبْرَأَ الطَّالِبَ الْكَفِيلُ أو وَهَبَ منه وَلَوْ انْتَقَلَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عليه لَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْإِبْرَاءِ وَالْهِبَةِ وَلَا ارْتَدَّا جميعا بِالرَّدِّ كما لو أَبْرَأَ الْأَصِيلَ أو وَهَبَ منه
وَكَذَلِكَ الْمُحَالُ لو أَبْرَأَ الْمُحَالَ عليه عن دَيْنِ الْحَوَالَةِ لَا يَرْجِعُ على الْمُحِيلِ وَإِنْ كانت الْحَوَالَةُ بِأَمْرِهِ كما في الْكَفَالَةِ
وَلَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ منه له أَنْ يَرْجِعَ عليه إذَا لم يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عليه دَيْنٌ كما في الْكَفَالَةِ وَلَوْ كان له عليه دَيْنٌ يَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا كَالْكَفَالَةِ سَوَاءً فَدَلَّتْ هذه الْأَحْكَامُ على التَّسْوِيَةِ بين الْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ ثُمَّ إنَّ الدَّيْنَ في بَابِ الْكَفَالَةِ ثَابِتٌ في ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فَكَذَا في الْحَوَالَةِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْحَوَالَةَ شُرِعَتْ وَثِيقَةً لِلدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ وَلَيْسَ من الْوَثِيقَةِ إبْرَاءُ الْأَوَّلِ بَلْ الْوَثِيقَةُ في نَقْلِ الْمُطَالَبَةِ مع قِيَامِ أَصْلِ الدَّيْنِ في ذِمَّةِ الْمُحِيلِ
وَمِنْهَا ثُبُوتُ وِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ لِلْمُحَالِ على الْمُحَالِ عليه بِدَيْنٍ في ذِمَّتِهِ أو في ذِمَّةِ الْمُحِيلِ على حَسَبِ ما ذَكَرْنَا من اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ فيه لِأَنَّ الْحَوَالَةَ أَوْجَبَتْ النَّقْلَ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عليه بِدَيْنٍ في ذِمَّتِهِ إمَّا نَقْلُ الدَّيْنِ وَالْمُطَالَبَةِ جميعا وَإِمَّا نَقْلُ الْمُطَالَبَةِ لَا غَيْرُ وَذَلِكَ يُوجِبُ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ لِلْمُحَالِ على الْمُحَالِ عليه
وَمِنْهَا ثُبُوتُ حَقِّ الْمُلَازَمَةِ لِلْمُحَالِ عليه على الْمُحِيلِ إذَا لَازَمَهُ الْمُحَالُ فَكُلَّمَا لَازَمَهُ الْمُحَالُ فَلَهُ أَنْ يُلَازِمَ الْمُحِيلَ لِيَتَخَلَّصَ عن مُلَازَمَةِ الْمُحَالِ وإذا حَبَسَهُ له أَنْ يَحْبِسَهُ إذَا كانت الْحَوَالَةُ بِأَمْرِ الْمُحِيلِ ولم يَكُنْ على الْمُحَالِ عليه دَيْنٌ مِثْلُهُ لِلْمُحِيلِ لِأَنَّهُ هو الذي أَوْقَعَهُ في هذه الْعُهْدَةِ فَعَلَيْهِ تَخْلِيصُهُ منها
وَإِنْ كانت الْحَوَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أو كانت بِأَمْرِهِ وَلَكِنْ لِلْمُحِيلِ على الْمُحَالِ عليه دَيْنٌ مِثْلُهُ وَالْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةٌ لم يَكُنْ لِلْمُحَالِ عليه أَنْ يُلَازِمَ الْمُحِيلَ إذَا لُوزِمَ وَلَا أَنْ يَحْبِسَهُ إذَا حُبِسَ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إذَا كانت بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُحِيلِ كان الْمُحَالُ عليه مُتَبَرِّعًا وَإِنْ كان لِلْمُحِيلِ عليه دَيْنٌ مِثْلُهُ وَقَيَّدَ الْحَوَالَةَ بِهِ فَلَوْ لَازَمَهُ الْمُحَالُ عليه لَكَانَ لِلْمُحِيلِ أَنْ يُلَازِمَهُ أَيْضًا فَلَا يُفِيدُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَخْرُجُ بِهِ الْمُحَالُ عليه من الْحَوَالَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ أنه يَخْرُجُ من الْحَوَالَةِ بِانْتِهَاءِ حُكْمِ الْحَوَالَةِ وَحُكْمُ الْحَوَالَةِ يَنْتَهِي بِأَشْيَاءَ منها فَسْخُ الْحَوَالَةِ لِأَنَّ فيها مَعْنَى مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ فَكَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلْفَسْخِ وَمَتَى فُسِخَ تَعُودُ الْمُطَالَبَةُ إلَى الْمُحِيلِ
وَمِنْهَا التَّوَى عِنْدَ عُلَمَائِنَا وعن ( ( ( وعند ) ) ) الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ حُكْمُ الْحَوَالَةِ لَا يَنْتَهِي بِالتَّوَى وَلَا تَعُودُ الْمُطَالَبَةُ إلَى الْمُحِيلِ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من أُحِيلَ على مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ ولم يُفَصِّلْ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِأَنَّ الْحَوَالَةَ مُبَرِّئَةٌ بِلَا خِلَافٍ وقد عُقِدَتْ مُطْلَقَةً عن شَرِيطَةِ السَّلَامَةِ فَتُفِيدُ الْبَرَاءَةَ مُطْلَقًا
وَلَنَا ما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال في الْمُحَالِ عليه إذَا مَاتَ مُفْلِسًا عَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ وقال لَا تَوًى على مَالِ امرىء مُسْلِمٍ وَعَنْ شُرَيْحٍ مِثْلُ ذلك ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ ولم يُنْقَلْ عن أَحَدٍ من الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ فَكَانَ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ الدَّيْنَ كان ثَابِتًا في ذِمَّةِ الْمُحِيلِ قبل الْحَوَالَةِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْقَضَاءِ قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الدَّيْنُ مَقْضِيٌّ إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ الْإِبْرَاءُ بِالْقَضَاءِ في السُّقُوطِ وَالْحَوَالَةُ لَيْسَتْ بِقَضَاءٍ وَلَا إبْرَاءٍ فَبَقِيَ الدَّيْنُ في ذِمَّتِهِ على ما كان قبل الْحَوَالَةِ إلَّا أَنَّ بِالْحَوَالَةِ انْتَقَلَتْ الْمُطَالَبَةُ إلَى الْمُحَالِ عليه لَكِنْ إلَى غَايَةِ التَّوَى لِأَنَّ حَيَاةَ الدَّيْنِ بِالْمُطَالَبَةِ فإذا توى لم تَبْقَ وَسِيلَةٌ إلَى الأحياء فَعَادَتْ إلَى مَحِلِّهَا الْأَصْلِيِّ وَلَا حُجَّةَ له في الحديث لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِشَرِيطَةِ الْمَلَاءَةِ وقد ذَهَبَتْ بِالْإِفْلَاسِ ثُمَّ التَّوَى عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِشَيْئَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا أَحَدُهُمَا أَنْ يَمُوتَ الْمُحَالُ عليه مُفْلِسًا
وَالثَّانِي أَنْ يَجْحَدَ الْحَوَالَةَ وَيَحْلِفَ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُحَالِ وقد قال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بِهِمَا وَبِثَالِثٍ وهو أَنْ يُفْلِسَ الْمُحَالُ عليه حَالَ حَيَاتِهِ وَيَقْضِيَ الْقَاضِي بِإِفْلَاسِهِ بِنَاءً على أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالْإِفْلَاسِ حَالَ
____________________

(6/18)


حَيَاتِهِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا يَقْضِي بِهِ
وَمِنْهَا أَدَاءُ الْمُحَالِ عليه الْمَالَ إلَى الْمُحَالِ فإذا أَدَّى الْمَالَ خَرَجَ عن الْحَوَالَةِ إذْ لَا فَائِدَةَ في بَقَائِهَا بَعْدَ انْتِهَاءِ حُكْمِهَا
وَمِنْهَا أَنْ يَهَبَ الْمُحَالُ الْمَالَ لِلْمُحَالِ عليه وَيَقْبَلَهُ
وَمِنْهَا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عليه وَيَقْبَلَهُ لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ في مَعْنَى الْإِبْرَاءِ وَمِنْهَا أَنْ يَمُوتَ الْمُحَالُ فَيَرِثُهُ الْمُحَالُ عليه
وَمِنْهَا أَنْ يُبَرِّئَهُ من الْمَالِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فصل وَأَمَّا بَيَانُ الرُّجُوعِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في الرُّجُوعِ في مَوْضِعَيْنِ في بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّجُوعِ وفي بَيَانِ ما يَرْجِعُ بِهِ أَمَّا شَرَائِطُهُ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ تَكُونَ الْحَوَالَةُ بِأَمْرِ الْمُحِيلِ فَإِنْ كانت بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا يَرْجِعُ بِأَنْ قال رَجُلٌ لِلطَّالِبِ أن لَك على فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا من الدَّيْنِ فَاحْتَلْ بها عَلَيَّ فَرَضِيَ بِذَلِكَ الطَّالِبُ جَازَتْ الْحَوَالَةُ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَدَّى لَا يَرْجِعُ على الْمُحِيلِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إذَا كانت بِأَمْرِ الْمُحِيلِ صَارَ الْمُحَالُ مُمَلَّكًا الدَّيْنَ من الْمُحَالِ عليه بِمَا أَدَّى إلَيْهِ من الْمَالِ فَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ على الْمُحِيلِ وَإِنْ كانت بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا يُوجَدُ مَعْنَى التَّمْلِيكِ فَلَا تَثْبُتُ وَلَايَةُ الرُّجُوعِ
وَمِنْهَا أَدَاءُ مَالِ الْحَوَالَةِ أو ما هو في مَعْنَى الْأَدَاءِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ إذَا قَبِلَ الْمُحَالُ عليه وَكَذَا إذَا وَرِثَهُ الْمُحَالُ عليه لِأَنَّ الْإِرْثَ من أَسْبَابِ الْمِلْكِ فإذا وَرِثَهُ فَقَدْ مَلَكَهُ فَكَانَ له حَقُّ الرُّجُوعِ
وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُحَالُ الْمُحَالَ عليه من الدَّيْنِ لَا يَرْجِعُ على الْمُحِيلِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطُ حَقِّهِ فَلَا يُعْتَبَرُ فيه جَانِبُ التَّمْلِيكِ إلَّا عِنْدَ اشْتِغَالِهِ بِالرَّدِّ فإذا لم يُوجَدْ بَقِيَ إسْقَاطًا مَحْضًا فلم يَمْلِكْ الْمُحَالُ عليه شيئا فَلَا يَرْجِعُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُحِيلِ على الْمُحَالِ عليه دَيْنٌ مِثْلُهُ فَإِنْ كان لَا يَرْجِعُ لِأَنَّ الدَّيْنَيْنِ الْتَقَيَا قِصَاصًا لِأَنَّهُ لو رَجَعَ على الْمُحِيلِ لَرَجَعَ الْمُحِيلُ عليه أَيْضًا فَلَا يُفِيدُ فَيَتَقَاصَّا الدَّيْنَيْنِ فَبَطَلَ حَقُّ الرُّجُوعِ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَرْجِعُ بِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ أن الْمُحَالَ عليه يَرْجِعُ بِالْمُحَالِ بِهِ لَا بِالْمُؤَدَّى حتى لو كان الدَّيْنُ الْمُحَالُ بِهِ دَرَاهِمَ فَنَقَدَ الْمُحَالُ عليه دَنَانِيرَ عن الدَّرَاهِمِ أو كان الدَّيْنُ دَنَانِيرَ فَنَقَدَهُ دَرَاهِمَ عن الدَّنَانِيرِ فَتَصَارَفَا جَازَ وَيُرَاعَى فيه شَرَائِطُ الصَّرْفِ حتى لو افْتَرَقَا قبل الْقَبْضِ أو شَرَطَا فيه الْأَجَلَ وَالْخِيَارُ يُبْطِلُ الصَّرْفَ وَيَعُودُ الدَّيْنُ إلَى حَالِهِ
وإذا صَحَّتْ الْمُصَارَفَةُ فَالْمُحَالُ عليه يَرْجِعُ على الْمُحِيلِ بِمَالِ الْحَوَالَةِ لَا بِالْمُؤَدَّى لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَأَنَّهُ يَمْلِكُ دَيْنَ الْحَوَالَةِ لَا الْمُؤَدَّى بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْكَفَالَةِ وَكَذَا إذَا بَاعَهُ بِالدَّرَاهِمِ أو الدَّنَانِيرِ عَرَضًا يَرْجِعُ بِمَالِ الْحَوَالَةِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَكَذَا إذَا أَعْطَاهُ زُيُوفًا مَكَانَ الْجِيَادِ وَتَجَوَّزَ بها الْمُحَالُ رَجَعَ على الْمُحِيلِ بِالْجِيَادِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ صَالَحَ الْمُحَالُ الْمُحَالَ عليه فَإِنْ صَالَحَهُ على جِنْسِ حَقِّهِ وَأَبْرَأَهُ عن الْبَاقِي يَرْجِعُ على الْمُحِيلِ بِالْقَدْرِ الْمُؤَدَّى لِأَنَّهُ مَلَكَ ذلك الْقَدْرَ من الدَّيْنِ فَيَرْجِعُ بِهِ
وَإِنْ صَالَحَ على خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ بِأَنْ صَالَحَهُ من الدَّرَاهِمِ على دَنَانِيرَ أو على مَالٍ آخَرَ يَرْجِعُ على الْمُحِيلِ بِكُلِّ الدَّيْنِ لِأَنَّ الصُّلْحَ على خِلَافِ جِنْسِ الْحَقِّ مُعَاوَضَةً وَالْمُؤَدَّى يَصْلُحُ عِوَضًا على كل الدَّيْنِ
وَلَوْ قَبَضَ الْمُحَالُ مَالَ الْحَوَالَةِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فقال الْمُحِيلُ لم يَكُنْ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ وَإِنَّمَا أنت وَكِيلِي في الْقَبْضِ وَالْمَقْبُوضُ لي وقال الْمُحَالُ لَا بَلْ أَحَلْتنِي بِأَلْفٍ كانت لي عَلَيْك فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ مع يَمِينِهِ لِأَنَّ الْمُحَالَ يَدَّعِي عليه دَيْنًا وهو يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ مع يَمِينِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
كِتَابُ الْوَكَالَةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ مَعْنَى التَّوْكِيلِ لُغَةً وَشَرْعًا وفي بَيَانِ رُكْنِ التَّوْكِيلِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي حُكْمِ التَّوْكِيلِ وفي بَيَانِ ما يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عن الْوَكَالَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالتَّوْكِيلُ إثْبَاتُ الْوَكَالَةِ وَالْوَكَالَةُ في اللُّغَةِ تُذْكَرُ وَيُرَادُ بها الْحِفْظُ قال اللَّهُ عز وجل { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } أَيْ الْحَافِظُ وقال تَبَارَكَ وَتَعَالَى { لَا إلَهَ إلَّا هو فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا }
قال الْفَرَّاءُ أَيْ حَفِيظًا وَتُذْكَرُ وَيُرَادُ بها الِاعْتِمَادُ وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ } وقال اللَّهُ تَعَالَى عز وجل خَبَرًا عن سَيِّدِنَا هُودٍ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنِّي تَوَكَّلْتُ على اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ } أَيْ اعْتَمَدْتُ على اللَّهِ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إلَيْهِ وفي الشَّرِيعَةِ يُسْتَعْمَلُ في هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ أَيْضًا على تَقْرِيرِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وهو تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ وَالْحِفْظِ إلَى الْوَكِيلِ وَلِهَذَا قال أَصْحَابُنَا إنَّ من قال لِآخَرَ وَكَّلْتُكَ في كَذَا أن يَكُونُ وَكِيلًا في الْحِفْظِ
____________________

(6/19)


لِأَنَّهُ أَدَّى ما يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ فَيُحْمَلُ عليه
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ رُكْنِ التَّوْكِيلِ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَالْإِيجَابُ من الْمُوَكِّلِ أَنْ يَقُولَ وَكَّلْتُكَ بِكَذَا أو افْعَلْ كَذَا أو أَذِنْتُ لك أَنْ تَفْعَلَ كَذَا وَنَحْوُهُ وَالْقَبُولُ من الْوَكِيلِ أَنْ يَقُولَ قَبِلْتُ وما يَجْرِي مَجْرَاهُ فما لم يُوجَدْ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَا يَتِمُّ الْعَقْدُ وَلِهَذَا لو وَكَّلَ إنْسَانًا بِقَبْضِ دَيْنِهِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ ثُمَّ ذَهَبَ الْوَكِيلُ فَقَبَضَهُ لم يَبْرَأْ الْغَرِيمُ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ قبل وُجُودِ الْآخَرِ كما في الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ ثُمَّ رُكْنُ التَّوْكِيلِ قد يَكُونُ مُطْلَقًا وقد يَكُونُ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ إنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتَ وَكِيلِي في بَيْعِ هذا الْعَبْدِ وقد يَكُونُ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ بِأَنْ يَقُولَ وَكَّلْتُكَ في بَيْعِ هذا الْعَبْدِ غَدًا وَيَصِيرُ وَكِيلًا في الْغَدِ فما بَعْدَهُ وَلَا يَكُونُ وَكِيلًا قبل الْغَدِ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إطْلَاقُ التَّصَرُّفِ وَالْإِطْلَاقَاتُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَإِذْنِ الْعَبْدِ في التِّجَارَةِ وَالتَّمْلِيكَاتُ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِبْرَاءِ عن الدُّيُونِ وَالتَّقْيِيدَاتُ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ وَالْحَجْرِ على الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالرَّجْعَةُ وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يَحْتَمِلُ ذلك
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكَّلِ بِهِ أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ فِعْلَ ما وَكَّلَ بِهِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَفْوِيضُ ما يَمْلِكُهُ من التَّصَرُّفِ إلَى غَيْرِهِ فما لَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ كَيْفَ يَحْتَمِلُ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ من الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ أَصْلًا لِأَنَّ الْعَقْلَ من شَرَائِطِ الْأَهْلِيَّةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ بِأَنْفُسِهِمَا وَكَذَا من الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا من التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ وَيَصِحُّ بِالتَّصَرُّفَاتِ النَّافِذَةِ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ من غَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ مِمَّا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهِ فيلك ( ( ( فيملك ) ) ) تَفْوِيضَهُ إلَى غَيْرِهِ بِالتَّوْكِيلِ وَأَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الدَّائِرَةُ بين الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَإِنْ كان مَأْذُونًا له في التِّجَارَةِ يَصِحُّ منه التَّوْكِيلُ بها لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِنَفْسِهِ وَإِنْ كان مَحْجُورًا يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا على إجَازَةِ وَلِيِّهِ وَعَلَى إذْنِ وَلِيِّهِ بِالتِّجَارَةِ أَيْضًا كما إذَا فَعَلَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ في انْعِقَادِهِ فَائِدَةً لِوُجُودِ الْمُجِيزِ لِلْحَالِ وهو الْوَلِيُّ وَلَا يَصِحُّ من الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ وَيَصِحُّ من الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ بِأَنْفُسِهِمَا فَيَمْلِكَانِ بِالتَّفْوِيضِ إلَى غَيْرِهِمَا بِخِلَافِ الْمَحْجُورِ
وَأَمَّا التَّوْكِيلُ من الْمُرْتَدِّ فَمَوْقُوفٌ أن أَسْلَمَ يَنْفُذُ وَإِنْ قُتِلَ أو مَاتَ على الرِّدَّةِ أو لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ يَبْطُلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ هو نَافِذٌ بِنَاءً على أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ لِوُقُوفِ أَمْلَاكِهِ وَعِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ لِثُبُوتِ أَمْلَاكِهِ وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ من الْمُرْتَدَّةِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِهَا نَافِذَةٌ بِلَا خِلَافٍ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَلَا تَصِحُّ وَكَالَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا الْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَا بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ فَتَصِحُّ وَكَالَةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَالْعَبْدِ مَأْذُونَيْنِ كَانَا أو مَحْجُورَيْنِ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَالَةُ الصَّبِيِّ غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَلَا تَصِحُّ وَكَالَةُ الْمَجْنُونِ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا خَطَبَ أُمَّ سَلَمَةَ قالت إنَّ أَوْلِيَائِي غُيَّبٌ يا رَسُولَ اللَّهِ فقال ليس فِيهِمْ من يَكْرَهُنِي ثُمَّ قال لعمر ( ( ( لعمرو ) ) ) ابْنِ أُمِّ سَلَمَةَ قُمْ فَزَوِّجْ أُمَّكَ مِنِّي فَزَوَّجَهَا من رسول اللَّهِ وكان صَبِيًّا وَالِاعْتِبَارُ بِالْمَجْنُونِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وقد انْعَدَمَ هُنَاكَ وَوُجِدَ هُنَا فَتَصِحُّ وَكَالَتُهُ كَالْبَالِغِ إلَّا أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ من الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ إذَا كان بَالِغًا وإذا كان صَبِيًّا تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ لِمَا ذكرنا ( ( ( نذكر ) ) ) في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَكَذَا رِدَّةُ الْوَكِيلِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ فَتَجُوزُ وَكَالَةُ الْمُرْتَدِّ بِأَنْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ مُرْتَدًّا لِأَنَّ وُقُوفَ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ لِوُقُوفِ مِلْكِهِ وَالْوَكِيلُ يَتَصَرَّفُ في مِلْكِ الْمُوَكِّلِ وأنه نَافِذُ التَّصَرُّفَاتِ وَكَذَا لو كان مُسْلِمًا وَقْتَ التَّوْكِيلِ ثُمَّ ارْتَدَّ فَهُوَ على وَكَالَتِهِ لِمَا قُلْنَا إلَّا أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَتَبْطُلُ وَكَالَتُهُ لِمَا نَذْكُرُ في مَوْضِعِهِ
وَأَمَّا عِلْمُ الْوَكِيلِ فَهَلْ هو شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ لَا خِلَافَ في أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّوْكِيلِ في الْجُمْلَةِ شَرْطٌ أما عِلْمُ الْوَكِيلِ وأما عِلْمُ من يُعَامِلُهُ حتى أَنَّهُ لو وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ من رَجُلٍ قبل عِلْمِهِ وَعَلِمَ الرَّجُلُ بِالتَّوْكِيلِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ حتى
____________________

(6/20)


يُجِيزَهُ الْمُوَكِّلُ أو الْوَكِيلُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْوَكَالَةِ لِأَنَّ حُكْمَ الْآمِرِ لَا يَلْزَمُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ أو الْقُدْرَةِ على اكْتِسَابِ سَبَبِ الْعِلْمِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ كما في أَوَامِرِ الشَّرْعِ
وَأَمَّا عِلْمُ الْوَكِيلِ على التَّعْيِينِ بِالتَّوْكِيلِ فَهَلْ هو شَرْطٌ ذُكِرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ شَرْطٌ وَذُكِرَ في الْوَكَالَةِ أَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ فإنه قال إذَا قال الْمُوَكِّلُ لِرَجُلٍ اذْهَبْ بِعَبْدِي هذا إلَى فُلَانٍ فَيَبِيعُهُ فُلَانٌ مِنْكَ فَذَهَبَ الرَّجُلُ بِالْعَبْدِ إلَيْهِ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ صَاحِبَ الْعَبْدِ أَمَرَهُ بِبَيْعِهِ منه فَاشْتَرَاهُ منه صَحَّ شِرَاؤُهُ وَإِنْ لم يُخْبِرْهُ بِذَلِكَ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَجَعَلَ عِلْمَ الْمُشْتَرِي بِالتَّوْكِيلِ كَعِلْمِ الْبَائِعِ الْوَكِيلَ
وَذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ في الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَذَكَرَ في الْمَأْذُونِ الْكَبِيرِ ما يَدُلُّ على جَوَازِ اليبع ( ( ( البيع ) ) ) فإنه قال إذَا قال الْمَوْلَى لِقَوْمٍ بَايِعُوا عَبْدِي فَإِنِّي قد أَذِنْتُ له في التِّجَارَةِ فَبَايَعُوهُ جَازَ وَإِنْ لم يَعْلَمْ الْعَبْدُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لهم بِالْمُبَايَعَةِ وَلَيْسَ التَّوْكِيلُ كَالْوِصَايَةِ فإن من أَوْصَى إلَى رَجُلٍ غَائِبٍ أَيْ جَعَلَهُ وَصِيًّا بَعْدَ مَوْتِهِ ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي ثُمَّ أن الْوَصِيَّ بَاعَ شيئا من تَرِكَةِ الْمَيِّتِ قبل عِلْمِهِ بِالْوِصَايَةِ وَالْمَوْتِ فإن بَيْعَهُ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا وَيَكُونُ ذلك قَبُولًا منه لِلْوِصَايَةِ حتى لَا يَمْلِكَ إخْرَاجَ نَفْسِهِ منها وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَصِيَّ خَلَفٌ عن الْمُوصِي قَائِمٌ مَقَامَهُ كَالْوَارِثِ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ
وَلَوْ بَاعَ الْوَارِثُ تَرِكَةَ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ وهو لَا يَعْلَمُ مَوْتَهُ جَازَ بَيْعُهُ فَكَذَا الْوَصِيُّ بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ من الْمُوَكِّلِ وَحُكْمُ الْأَمْرِ لَا يَلْزَمُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ أو سَبَبِهِ على ما مَرَّ فإذا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّوْكِيلِ شَرْطٌ فَإِنْ كان التَّوْكِيلُ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ أو كَتَبَ الْمُوَكِّلُ بِذَلِكَ كِتَابًا إلَيْهِ فَبَلَغَهُ وَعَلِمَ ما فيه أو أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ أو أخبره بِالتَّوْكِيلِ رَجُلَانِ أو رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ صَارَ وَكِيلًا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ أخبره بِذَلِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ صَارَ وَكِيلًا أَيْضًا وَإِنْ لم يُصَدِّقْهُ يبغي ( ( ( ينبغي ) ) ) أَنْ يَكُونَ على الِاخْتِلَافِ في الْعَدْلِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يَكُونُ وَكِيلًا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَكُونُ وَكِيلًا كما في الْعَزْلِ على ما نَذْكُرهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ فإنه يَرْجِعُ إلَى بَيَانِ ما يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهِ وما لَا يَجُوزُ وَالْجُمْلَةُ فيه أَنَّ التَّوْكِيلَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِحُقُوقِ اللَّهِ عز وجل وَهِيَ الْحُدُودُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَالتَّوْكِيلُ بِحُقُوقِ اللَّهِ عز وجل نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا بِالْإِثْبَاتِ
وَالثَّانِي بِالِاسْتِيفَاءِ
أَمَّا التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ فَإِنْ كان حَدًّا لَا يُحْتَاجُ فيه إلَى الْخُصُومَةِ كَحَدِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلَا يَتَقَدَّرُ التَّوْكِيلُ فيه بِالْإِثْبَاتِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ عِنْدَ الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ أو الْإِقْرَارِ من غَيْرِ خُصُومَةٍ
وَإِنْ كان مِمَّا يُحْتَاجُ فيه إلَى الْخُصُومَةِ كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ فِيهِمَا إلَّا من الْمُوَكِّلِ وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِإِثْبَاتِ الْقِصَاصِ على هذا الْخِلَافِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ كما يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فيه بِالِاسْتِيفَاءِ فَكَذَا بِالْإِثْبَاتِ لِأَنَّ الْإِثْبَاتَ وَسِيلَةٌ إلَى الِاسْتِيفَاءِ وَلَهُمَا الْفَرْقُ بين الْإِثْبَاتِ وَالِاسْتِيفَاءِ وهو إن امْتِنَاعَ التَّوْكِيلِ في الِاسْتِيفَاءِ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ مُنْعَدِمَةٌ في التَّوْكِيلِ بِالْإِثْبَاتِ
وَأَمَّا التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ حَدِّ الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ فَإِنْ كان الْمَقْذُوفُ وَالْمَسْرُوقُ منه حَاضِرًا وَقْتَ الِاسْتِيفَاءِ جَازَ لِأَنَّ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ إلَى الأمام وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ على أَنْ يَتَوَلَّى الِاسْتِيفَاءَ بِنَفْسِهِ على كل حَالٍ
وَإِنْ كان غَائِبًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ لِاحْتِمَالِ الْعَفْوِ وَالصُّلْحِ وَأَنَّهُ لايحتملهما
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إنْ كان لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ وَالصُّلْحَ فَيَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالتَّصْدِيقَ وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ حَدِّ الْقَذْفِ كيف ما كان
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا حَقُّهُ فَكَانَ بِسَبِيلٍ من اسْتِيفَائِهِ بِنَفْسِهِ وَبِنَائِبِهِ كما في سَائِرِ الْحُقُوقِ
وَلَنَا الْفَرْقُ على قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وهو ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لو كان حاضر ( ( ( حاضرا ) ) ) الصدق ( ( ( لصدق ) ) ) الرَّامِيَ فِيمَا رَمَاهُ أو يَتْرُكُ الْخُصُومَةَ فَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ مع الشُّبْهَةِ وَالشُّبْهَةُ لَا تَمْنَعُ من اسْتِيفَاءِ سَائِرِ الْحُقُوقِ
وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالتَّعْزِيرِ إثْبَاتًا وَاسْتِيفَاءً بِالِاتِّفَاقِ وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ سَوَاءٌ كان الْمُوَكِّلُ غَائِبًا أو حَاضِرًا لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ والاختصاص ( ( ( والقصاص ) ) ) وَلِهَذَا ثَبَتَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْحُقُوقِ بِخِلَافِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ
وَأَمَّا التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَإِنْ كان الْمُوَكِّلُ وهو الْمَوْلَى حَاضِرًا جَازَ لِأَنَّهُ قد لَا يَقْدِرُ على الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّوْكِيلِ وَإِنْ كان غَائِبًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْعَفْوِ قَائِمٌ لِجَوَازِ أَنَّهُ لو كان حَاضِرًا
____________________

(6/21)


لَعَفَا فَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مع قِيَامِ الشُّبْهَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْعَدِمٌ حَالَةَ الْحَضْرَةِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ كان غَائِبًا وَالْكَلَامُ في الطَّرَفَيْنِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في حَدِّ الْقَذْفِ
وَأَمَّا التَّوْكِيلُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ حُقُوقُ الْعِبَادِ على نَوْعَيْنِ نَوْعٌ لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ مع الشُّبْهَةِ كَالْقِصَاصِ وقد مَرَّ حُكْمُ التَّوْكِيلِ بِإِثْبَاتِهِ وباستيفائه ( ( ( واستيفائه ) ) ) وَنَوْعٌ يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ وَأَخْذُهُ مع الشُّبْهَةِ كَالدُّيُونِ وَالْإِعْتَاقِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ سِوَى الْقِصَاصِ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ في إثْبَاتِ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ بِرِضَا الْخَصْمِ حتى يَلْزَمَ الْخَصْمَ جَوَابُ التَّوْكِيلِ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن جَعْفَرٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه كان لَا يَحْضُرُ الْخُصُومَةَ وكان يقول إنَّ لها لَحْمًا يَحْضُرُهَا الشَّيَاطِينُ فَجَعَلَ الْخُصُومَةَ إلَى عَقِيلٍ رضي اللَّهُ عنه فلما كَبِرَ وَرَقَّ حَوَّلَهَا إلَيَّ وكان عَلِيٌّ يقول ما قضى لِوَكِيلِي فَلِيَ وما قضى على وَكِيلِي فَعَلَيَّ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه لم يَكُنْ مِمَّنْ لَا يَرْضَى أَحَدٌ بِتَوْكِيلِهِ فَكَانَ تَوْكِيلُهُ بِرِضَا الْخَصْمِ فَدَلَّ على الْجَوَازِ بِرِضَا الْخَصْمِ وَاخْتُلِفَ في جَوَازِهِ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ
قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ لَا يَجُوزُ من غَيْرِ عُذْرِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجُوزُ في الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ لَا فَصْلَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بين الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ لَكِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ من أَصْحَابِنَا اسْتَحْسَنُوا في الْمَرْأَةِ إذَا كانت مُخَدَّرَةً غير بَرِيزَةٍ فَجَوَّزُوا تَوْكِيلَهَا وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ في مَوْضِعِهِ
وقال ابن أبي لَيْلَى لَا يَجُوزُ إلَّا تَوْكِيلُ الْبِكْرِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا يُذْكَرُ
وَجْهُ قَوْلِهِمْ إن التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ صَادَفَ حَقَّ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَقِفُ على رِضَا الْخَصْمِ كَالتَّوْكِيلِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ وَدَلَالَةُ ذلك أَنَّ الدَّعْوَى حَقُّ الْمُدَّعِي وَالْإِنْكَارُ حَقُّ المدعي عليه فَقَدْ صَادَفَ التَّوْكِيلُ من الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عليه حَقَّ نَفْسِهِ فَلَا يَقِفُ على رِضَا خَصْمِهِ كما لو كان خَاصَمَهُ بِنَفْسِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْحَقَّ هو الدَّعْوَى الصَّادِقَةُ وَالْإِنْكَارُ الصَّادِقُ وَدَعْوَى الْمُدَّعِي خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَالسَّهْوَ وَالْغَلَطَ وَكَذَا إنْكَارُ الْمُدَّعَى عليه فَلَا يَزْدَادُ الِاحْتِمَالُ في خَبَرِهِ بِمُعَارَضَةِ خَبَرِ الْمُدَّعِي فلم يَكُنْ كُلُّ ذلك حَقًّا فَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ لَا يَلْزَمَ بِهِ جَوَابٌ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَ الْجَوَابَ لِضَرُورَةِ فَصْلِ الْخُصُومَاتِ وَقَطْعِ الْمُنَازَعَاتِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى الْفَسَادِ وَإِحْيَاءِ الْحُقُوقِ الْمَيِّتَةِ وَحَقُّ الضَّرُورَةِ يَصِيرُ مَقْضِيًّا بِجَوَابِ الْمُوَكِّلِ فَلَا تَلْزَمُ الْخُصُومَةُ عن جَوَابِ الْوَكِيلِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ مع ما أَنَّ الناس في الْخُصُومَاتِ على التَّفَاوُتِ بَعْضُهُمْ أَشَدُّ خُصُومَةً من الْآخَرِ فَرُبَّمَا يَكُونُ الْوَكِيلُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ فَيَعْجِزُ من يُخَاصِمُهُ عن إحْيَاءِ حَقِّهِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ فَيُشْرَطُ رِضَا الْخَصْمِ لِيَكُونَ لُزُومُ الضَّرَرِ مُضَافًا إلَى الْتِزَامِهِ
وإذا كان الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا أو مُسَافِرًا فَهُوَ عَاجِزٌ عن الدَّعْوَى وَعَنْ الْجَوَابِ بِنَفْسِهِ فَلَوْ لم يَمْلِكْ النَّقْلَ إلَى غَيْرِهِ بِالتَّوْكِيلِ لَضَاعَتْ الْحُقُوقُ وَهَلَكَتْ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَكَذَلِكَ إذَا كانت الْمَرْأَةُ مُخَدَّرَةً مَسْتُورَةً لِأَنَّهَا تستحي ( ( ( تستحيي ) ) ) عن الْحُضُورِ لِمَحَافِلِ الرِّجَالِ وَعَنْ الْجَوَابِ بَعْدَ الْخُصُومَةِ بِكْرًا كانت أو ثَيِّبًا فَيَضِيعُ حَقُّهَا
وَأَمَّا في مَسْأَلَتِنَا فَلَا ضَرُورَةَ
وَلَوْ وَكَّلَ بِالْخُصُومَةِ وَاسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ وَتَزْكِيَةَ الشُّهُودِ في عَقْدِ التَّوْكِيلِ بِكَلَامٍ مُنْفَصِلٍ جَازَ وَيَصِيرُ وَكِيلًا بِالْإِنْكَارِ سَوَاءٌ كان التَّوْكِيلُ من الطَّالِبِ أو من الْمَطْلُوبِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا وَكَّلَ الطَّالِبُ وَاسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ يَجُوزُ وَإِنْ وَكَّلَ الْمَطْلُوبُ لَا يَجُوزُ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْإِقْرَارِ في عَقْدِ التَّوْكِيلِ إنَّمَا جَازَ لِحَاجَةِ الْمُوَكِّلِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ على مُوَكِّلِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وَلَوْ أَطْلَقَ التَّوْكِيلَ من غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ لَتَضَرَّرَ بِهِ الْمُوَكِّلُ
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين التَّوْكِيلِ من الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ
هذا إذَا وَكَّلَ بِالْخُصُومَةِ وَاسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ في الْعَقْدِ فَأَمَّا إذَا وَكَّلَ مُطْلَقًا ثُمَّ اسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ في كَلَامٍ مُنْفَصِلٍ يَصِحُّ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِحُّ
وَأَمَّا التَّوْكِيلُ بِالْإِقْرَارِ فذكر في الْأَصْلِ إنه يَجُوزُ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ من الْمُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ شَرِكَةَ الْعِنَانِ وَالْمُفَاوَضَةِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ الْخُصُومَةَ بِأَنْفُسِهِمْ فَيَمْلِكُونَ تَفْوِيضَهَا إلَى غَيْرِهِمْ بِالتَّوْكِيلِ وَيَجُوزُ من الذِّمِّيِّ كما يَجُوزُ من الْمُسْلِمِ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ مَصُونَةٌ مَرْعِيَّةٌ عن الضَّيَاعِ كَحُقُوقِنَا وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ قد لَا يَقْدِرُ على الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ
____________________

(6/22)


إلَى التَّفْوِيضِ إلَى غَيْرِهِ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ إلَّا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِقَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَبَدَلِ الصَّرْفِ إنَّمَا يَجُوزُ في الْمَجْلِسِ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّمَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ فيه لَا في غَيْرِهِ
وإذا قَبَضَ الدَّيْنَ من الْغَرِيمِ بريء الْغَرِيمُ لِأَنَّ الْقَبْضَ الصَّحِيحَ يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ وَتَجُوزُ الوكابة ( ( ( الوكالة ) ) ) بِقَضَاءِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْقَضَاءَ بِنَفْسِهِ وقد لَا يَتَهَيَّأُ له الْقَضَاءُ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّفْوِيضِ إلَى غَيْرِهِ سَوَاءٌ كان الْمُوَكِّلُ حُرًّا أو عَبْدًا مَأْذُونًا أو مُكَاتَبًا لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الْقَضَاءَ بِأَنْفُسِهِمَا فَيَمْلِكَانِ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِمَا أَيْضًا وَيَجُوزُ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ وَبِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَبِالْقِسْمَةِ لِأَنَّ هذه حُقُوقٌ يَتَوَلَّاهَا الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ تَوْلِيَتَهَا غَيْرَهُ
وَيَجُوزُ بِالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ وَالْكِتَابَةِ وَالْإِعْتَاقِ على مَالٍ وَالصُّلْحِ على إنْكَارٍ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ هذه التَّصَرُّفَاتِ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ تَفْوِيضَهَا إلَى غَيْرِهِ وَتَجُوزُ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْإِعَارَةُ وَالْإِيدَاعُ وَالرَّهْنُ وَالِاسْتِعَارَةُ وَالِاسْتِيهَابُ وَالِارْتِهَانُ لِمَا قُلْنَا
وَيَجُوزُ بِالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ لِمَا قُلْنَا وَيَجُوزُ بِالْإِقْرَاضِ وَالِاسْتِقْرَاضِ إلَّا أَنَّ في التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِقْرَاضِ لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ ما اسْتَقْرَضَهُ الْوَكِيلُ إلَّا إذَا بَلَغَ على وَجْهِ الرِّسَالَةِ بِأَنْ يَقُولَ أَرْسَلَنِي فُلَانٌ إلَيْكَ لِيَسْتَقْرِضَ كَذَا
وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالصُّلْحِ وَبِالْإِبْرَاءِ وَيَجُوزُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارِ لِمَا قُلْنَا
وَيَجُوزُ بِالسَّلَمِ وَالصَّرْفِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُمَا بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ تَفْوِيضَهُمَا إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ قَبْضَ الْبَدَلِ في الْمَجْلِسِ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ على الصِّحَّةِ وَالْعِبْرَةُ لِبَقَاءِ الْعَاقِدَيْنِ وَافْتِرَاقِهِمَا لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ رَاجِعَةٌ إلَيْهِمَا لِمَا نَذْكُرُ فإذا تَقَابَضَ الْوَكِيلَانِ في الْمَجْلِسِ فَقَدْ وُجِدَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ قبل الِافْتِرَاقِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ على الصِّحَّةِ بِخِلَافِ الرَّسُولَيْنِ إذَا تَقَابَضَا في الْمَجْلِسِ ثُمَّ افْتَرَقَا أَنَّهُ يَبْطُلُ الْعَقْدُ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَا تَرْجِعُ إلَى الرَّسُولِ فَلَا يَقَعُ قَبْضُهُمَا عن الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ فإذا افْتَرَقَا فَقَدْ حَصَلَ الِافْتِرَاقُ لَا عن قَبْضٍ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِخِلَافِ الْوَكِيلَيْنِ على ما مَرَّ وَلَا تُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ بَلْ هو أَجْنَبِيٌّ عنها فَبَقَاؤُهُ وَافْتِرَاقُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ
وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِأَنَّهُمَا مِمَّا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ مُبَاشَرَتَهُمَا بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ لِجَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ شرط ( ( ( شرطا ) ) ) وهو الْخُلُوُّ عن الْجَهَالَةِ الْكَثِيرَةِ في أَحَدِ نَوْعَيْ الْوَكَالَةِ دُونَ النَّوْعِ الْآخَرِ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالشِّرَاءِ نَوْعَانِ عَامٌّ وَخَاصٌّ فَالْعَامُّ أَنْ يَقُولَ له اشْتَرِ لي ما شِئْتَ أو ما رَأَيْتَ أو أَيَّ ثَوْبٍ شِئْتَ أو أَيَّ دَارٍ شِئْتَ أو ما تَيَسَّرَ لك من الثِّيَابِ وَمِنْ الدَّوَابِّ وَيَصِحُّ مع الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ من غَيْرِ بَيَانِ النَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالثَّمَنِ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الرَّأْيَ إلَيْهِ فَيَصِحُّ مع الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ كَالْبِضَاعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْخَاصُّ أَنْ يَقُولَ اشْتَرِ لي ثَوْبًا أو حَيَوَانًا أو دَابَّةً أو جَوْهَرًا أو عَبْدًا أو جَارِيَةً أو فَرَسًا أو بَغْلًا أو حِمَارًا أو شَاةً
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الْجَهَالَةَ إنْ كانت كَثِيرَةً تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ وَإِنْ كانت قَلِيلَةً لَا تَمْنَعُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يُمْنَعَ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَلَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ النَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَمِقْدَارِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لَا يَصِحَّانِ مع الْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ فَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِهِمَا أَيْضًا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ما روى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ دَفَعَ دِينَارًا إلَى حَكِيمِ بن حِزَامٍ لِيَشْتَرِيَ له بِهِ أُضْحِيَّةً وَلَوْ كانت الْجَهَالَةُ الْقَلِيلَةُ مَانِعَةً من صِحَّةِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ لَمَا فَعَلَهُ رسول اللَّهِ لِأَنَّ جَهَالَةَ الصِّفَةِ لَا تَرْتَفِعُ بِذِكْرِ الْأُضْحِيَّةَ وَبِقَدْرِ الثَّمَنِ وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْقَلِيلَةَ في بَابِ الْوَكَالَةِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ مَبْنَى التَّوْكِيلِ على الْفُسْحَةِ وَالْمُسَامَحَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُنَازَعَةُ فيه عِنْدَ قِلَّةِ الْجَهَالَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ مَبْنَاهُ على الْمُضَايَقَةِ وَالْمُمَاكَسَةِ لِكَوْنِهِ معاونة ( ( ( معاوضة ) ) ) الْمَالِ بِالْمَالِ فَالْجَهَالَةُ فيه وَإِنْ قَلَّتْ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَتُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وإذا ثَبَتَ أَنَّ الْجَهَالَةَ الْقَلِيلَةَ غَيْرُ مَانِعَةٍ فَفِي كل مَوْضِعٍ قَلَّتْ الْجَهَالَةُ صَحَّ التَّوْكِيلُ بِالشِّرَاءِ وَإِلَّا فَلَا ينظر ( ( ( فينظر ) ) ) إنْ كان اسْمُ ما وَقَعَ التَّوْكِيلُ بِشِرَائِهِ مِمَّا يَقَعُ على أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهِ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ النَّوْعِ وَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ اشْتَرِ لي ثَوْبًا لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ يَقَعُ على أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ من ثَوْبِ الْإِبْرَيْسَمِ وَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وغيرهما ( ( ( وغيرهم ) ) ) فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ كَثِيرَةً فَمَنَعَتْ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ فَلَا يَصِحُّ وَإِنْ سَمَّى الثَّمَنَ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ بَعْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ مُتَفَاحِشَةٌ فَلَا تَقِلُّ إلَّا بِذِكْرِ النَّوْعِ بِأَنْ يَقُولَ اشْتَرِ لي ثَوْبًا هَرَوِيًّا فَإِنْ سَكَتَ عنه كَثُرَتْ الْجَهَالَةُ فلم يَصِحَّ التَّوْكِيلُ
وَكَذَا إذَا قال اشْتَرِ لي حَيَوَانًا أو قال اشْتَرِ لي دَابَّةً أو أَرْضًا أو مَمْلُوكًا أو جَوْهَرًا أو حُبُوبًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منها اسْمُ جِنْسٍ يَدْخُلُ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ فَلَا بُدَّ من ذِكْرِ النَّوْعِ بِأَنْ يَقُولَ ثَوْبًا هَرَوِيًّا فإذا سَكَتَ عنه كَثُرَتْ الْجَهَالَةُ فلم يَصِحَّ التَّوْكِيلُ
وَكَذَا إذَا قال
____________________

(6/23)


اشْتَرِ لي دَارًا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ بين الدَّارِ وَالدَّارِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَإِنْ عَيَّنَ الدَّارَ يَجُوزُ وَإِنْ لم يُعَيِّنْ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ الثَّمَنَ جَازَ أَيْضًا وَيَقَعُ على دُورِ الْمِصْرِ الذي وَقَّعَ فيه الْوَكِيلُ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَقِلُّ بَعْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بَعْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ حق ( ( ( حتى ) ) ) يُعَيِّنَ مِصْرًا من الْأَمْصَارِ وَلَوْ قال اشْتَرِ لي دَارًا في مَوْضِعِ كَذَا أو حَبَّةَ لُؤْلُؤٍ أو يَاقُوتٍ أَحْمَرَ ولم يُسَمِّ الثَّمَنَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ مُتَفَاحِشٌ وَالصِّفَةَ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِحَالِ الْمُوَكِّلِ فَلَا بُدَّ من بَيَانِ الثَّمَنِ وَإِنْ كان اسْمُ ما وَقَعَ التَّوْكِيلُ بِشِرَائِهِ لَا يَقَعُ إلَّا على نَوْعٍ وَاحِدٍ يكتفي فيه بِذِكْرِ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا الصِّفَةُ بِأَنْ قال اشْتَرِ لي عَبْدًا تُرْكِيًّا أو مِقْدَارُ الثَّمَنِ بِأَنْ قال اشْتَرِ لي عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَقِلُّ بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا وَبِحَالِ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الصِّفَةَ تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِذِكْرِ الثَّمَنِ وَإِنْ لم يَذْكُرْهَا وإذا ذَكَرَ الصِّفَةَ يَصِيرُ الثَّمَنُ مَعْلُومًا بِحَالِ الْآمِرِ فِيمَا يَشْتَرِيهِ أَمْثَالُهُ عَادَةً حتى إنَّهُ لو خَرَجَ الْمُشْتَرِي عن عَادَةِ أَمْثَالِهِ لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ كَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ قال اشْتَرِ لي خَادِمًا من جِنْسِ كَذَا إن ذلك يَقَعُ على ما يَتَعَامَلُهُ الناس من ذلك الْجِنْسِ فَإِنْ كان الثَّمَنُ كَثِيرًا لَا يَتَعَامَلُ الناس بِهِ لم يَجُزْ على الْآمِرِ
وَكَذَا الْبَدَوِيُّ إذَا قال اشْتَرِ لي خَادِمًا حَبَشِيًّا فَهُوَ على ما يَعْتَادُهُ أَهْلُ الْبَادِيَةِ وَهَذَا كُلُّهُ اعْتِبَارُ حَالِ الْمُوَكِّلِ
فَإِنْ لم يذكر أَحَدَهُمَا أَصْلًا فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فَحُشَتْ بِتَرْكِ ذَكَرِهِمَا جميعا فَمَنَعَتْ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ
وَلَوْ قال اشْتَرِ لي حِمَارًا أو بَغْلًا أو فَرَسًا أو بَعِيرًا ولم يذكر له صِفَةً وَلَا ثَمَنًا قالوا إنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّ النَّوْعَ صَارَ مَعْلُومًا بِذِكْرِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ وَالْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ وَالصِّفَةُ تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِحَالِ الْمُوَكِّلِ وَكَذَا الثَّمَنُ فَيُنْظَرُ إنْ اشترا ( ( ( اشترى ) ) ) حِمَارًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أو بِأَقَلَّ أو بِأَكْثَرَ قَدْرَ ما يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ جَازَ على الْمُوَكِّلِ إذَا كان الْحِمَارُ مِمَّا يشترى مثله الْمُوَكِّلُ وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَشْتَرِي مثله الْمُوَكِّلُ لَا يَجُوزُ على الْمُوَكِّلِ وَيَلْزَمُ الْوَكِيلَ وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ نَحْوُ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مُكَارِيًا فَاشْتَرَى الْوَكِيلُ حِمَارًا مِصْرِيًّا يَصْلُحُ لِلرُّكُوبِ لِأَنَّ مثله يَشْتَرِي الْحِمَارَ لِلْعَمَلِ وَالْحَمْلِ لَا لِلرُّكُوبِ
وَلَوْ قال اشْتَرِ لي شَاةٌ أو بَقَرَةٌ ولم يذكر صِفَةً وَلَا ثَمَنًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الشَّاةَ وَالْبَقَرَةَ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةَ الصِّفَةِ بِحَالِ الْمُوَكِّلِ وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ قال اشْتَرِ لي حِنْطَةً لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ ما لم يذكر أَحَدَ شَيْئَيْنِ إمَّا قَدْرُ الثَّمَنِ وَإِمَّا قَدْرُ الْمُثَمَّنِ وهو الْمَكِيلُ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَقِلُّ إلَّا بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا وَعَلَى هذا جَمِيعُ الْمُقَدَّرَاتِ من الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَلَوْ وَكَّلَهُ لِيَشْتَرِيَ له طَيْلَسَانًا لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ وَالنَّوْعِ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَقِلُّ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ أَحَدِهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ التَّوْكِيلِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ حُكْمُ التَّوْكِيلِ صَيْرُورَةُ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَكِيلًا لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إثْبَاتُ الْوَكَالَةِ وَلِلْوَكَالَةِ أَحْكَامٌ
منها ثُبُوتُ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ الذي تَنَاوَلَهُ التَّوْكِيلُ فَيُحْتَاجُ إلَى بَيَانِ ما يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ من التَّصَرُّفِ بِمُوجَبِ التَّوْكِيلِ بَعْدَ صِحَّتِهِ وما لَا يَمْلِكُهُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ على مُوَكِّلِهِ في الْجُمْلَةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَمْلِكُ وَالْأَبُ وَالْوَصِيُّ وَأَمِينُ الْقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ على الصَّغِيرِ بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ وَكِيلٌ بِالْمُنَازَعَةِ وَالْإِقْرَارُ مُسَالَمَةٌ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ
وَلَنَا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ وَكِيلٌ بِالْجَوَابِ الذي هو حَقٌّ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل وقد يَكُونُ ذلك إنْكَارًا وقد يَكُونُ إقْرَارًا فإذا أَقَرَّ على مُوَكِّلِهِ دَلَّ أَنَّ الْحَقَّ هو الْإِقْرَارُ فَيَنْفُذُ على الْمُوَكِّلِ كما إذَا أَقَرَّ على مُوَكِّلِهِ وَصَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَصِحُّ إقْرَارُهُ في مَجْلِسِ الْقَاضِي لَا في غَيْرِهِ وقال أبو يُوسُفَ يَصِحُّ فيه وفي غَيْرِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ التَّوْكِيلَ تَفْوِيضُ ما يَمْلِكُهُ الْمُوَكِّلُ إلَى غَيْرِهِ وَإِقْرَارُ الْمُوَكِّلِ لَا تَقِفُ صِحَّتُهُ على مَجْلِسِ الْقَاضِي فَكَذَا إقْرَارُ الْوَكِيلِ
وَلَهُمَا أَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَيْهِ لَكِنْ في مَجْلِسِ الْقَاضِي لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ أو بِجَوَابِ الْخُصُومَةِ وَكُلُّ ذلك يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي أَلَا يرى أَنَّ الْجَوَابَ لَا يَلْزَمُ في غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَكَذَا الْخُصُومَةُ لَا تَنْدَفِعُ بِالْيَمِينِ في غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي فَتَتَقَيَّدُ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي إلَّا أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ في غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي يَخْرُجُ عن الْوَكَالَةِ وَيَنْعَزِلُ لِأَنَّهُ لو بَقِيَ وَكِيلًا لَبَقِيَ وَكِيلًا بِالْإِقْرَارِ عَيْنًا لِأَنَّ الْإِنْكَارَ لَا يُسْمَعُ منه لِلتَّنَاقُضِ وَالْإِقْرَارُ عَيْنًا غَيْرُ مُوَكَّلٍ بِهِ وَالْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ في مَالٍ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ يَمْلِكُ قَبْضَهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَمْلِكُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ
____________________

(6/24)


الْمَطْلُوبَ من الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ الِاهْتِدَاءُ وَمِنْ الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ الْأَمَانَةُ وَلَيْسَ كُلُّ من يَهْتَدِي إلَى شَيْءٍ يُؤْتَمَنُ عليه فَلَا يَكُونُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ تَوْكِيلًا بِالْقَبْضِ
وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ في مَالٍ فَقَدْ ائْتَمَنَهُ على قَبْضِهِ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ فيه لَا تَنْتَهِي إلَّا بِالْقَبْضِ فَكَانَ التَّوْكِيلُ بها تَوْكِيلًا بِالْقَبْضِ وَالْوَكِيلُ بِتَقَاضِي الدَّيْنِ يَمْلِكُ الْقَبْضَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ حَقَّ التَّقَاضِي لَا يَنْقَطِعُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَكَانَ التَّوْكِيلُ بِهِ تَوْكِيلًا بِالْقَبْضِ وَلِأَنَّ التَّقَاضِيَ وَالِاقْتِضَاءَ وَالِاسْتِيفَاءَ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ من أَصْحَابِنَا قالوا إنَّهُ لَا يَمْلِكُ في عُرْفِ دِيَارِنَا لِأَنَّ الناس في زَمَانِنَا لَا يَرْضَوْنَ بِقَبْضِ الْمُتَقَاضِي كَالْوُكَلَاءِ على أَبْوَابِ الْقُضَاةِ لِتُهْمَةِ الْخِيَانَةِ في أَمْوَالِ الناس وَالْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ في إثْبَاتِ الدَّيْنِ إذَا أَنْكَرَ الْغَرِيمُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ وهو رِوَايَةُ الْحَسَنِ عن أبي حَنِيفَةَ أَيْضًا فَيَمْلِكُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ
وَكَذَا لو أَقَامَ المدعي عليه الْبَيِّنَةَ أَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ اسْتَوْفَى منه أو أَبْرَأَهُ عنه قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا تُقْبَلُ وَلَا يَمْلِكُ وَأَجْمَعُوا في الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ إذَا أَنْكَرَ من في يَدِهِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ حتى لَا يَمْلِكَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ
وَلَوْ أَقَامَ المدعي عليه الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا من الذي وَكَّلَهُ بِالْقَبْضِ لَا تُسْمَعُ منه بَيِّنَتُهُ في إثْبَاتِ الشِّرَاءِ وَلَكِنَّهَا تُسْمَعُ لِدَفْعِ خُصُومَةِ الْوَكِيلِ في الْحَالِ إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْمُوَكِّلُ وَقَالُوا في الْوَكِيلِ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ وَبِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَبِالْقِسْمَةِ أنه يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ تَوْكِيلٌ بِاسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْخُصُومَةِ كَالتَّوْكِيلِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ تَوْكِيلٌ بِالْمُبَادَلَةِ وَالْحُقُوقُ في مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ كما في الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَدَلَالَةُ ذلك أَنَّ اسْتِيفَاءَ عَيْنِ الدَّيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ لِأَنَّ الدَّيْنَ إمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عن الْفِعْلِ وهو فِعْلُ تَسْلِيمِ الْمَالِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عن مَالٍ حُكْمِيٍّ في الذِّمَّةِ وَكُلُّ ذلك لَا يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاؤُهُ وَلَكِنَّ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ عِبَارَةٌ عن نَوْعِ مُبَادَلَةٍ وهو مُبَادَلَةُ الْمَأْخُوذِ الْعَيْنِ بِمَا في ذِمَّةِ الْغَرِيمِ وَتَمْلِيكُهُ بهذا الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ من الْمَالِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَالْخُصُومَةَ في حُقُوقِ مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ فَيَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ لِأَنَّ ذلك تَوْكِيلٌ بِاسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ لَا بِالْمُبَادَلَةِ لِأَنَّ عَيْنَهُ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ فيها إلَّا بِأَمْرٍ جَدِيدٍ فَهُوَ الْفَرْقُ بين الْفَصْلَيْنِ فإذا لم يَمْلِكْ الْخُصُومَةَ لَا تُسْمَعُ بَيِّنَةُ المدعي عليه على الشِّرَاءِ من الْمُوَكَّلِ بِالْقَبْضِ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ قَامَتْ لَا على خَصْمٍ وَلَكِنَّهَا تُسْمَعُ في دَفْعِ قَبْضِ الْوَكِيلِ
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ مَسْمُوعَةً من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ كَمَنْ وَكَّلَ إنْسَانًا بِنَقْلِ زَوْجَتِهِ إلَى حَيْثُ هو فَطَالَبَهَا الْوَكِيلُ بِالِانْتِقَالِ فَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ على أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا تُسْمَعُ هذه الْبَيِّنَةُ في انْدِفَاعِ حَقِّ الْوَكِيلِ في النَّقْلِ وَلَا تُسْمَعُ في إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِأَخْذِ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ وَكِيلٌ بِالْمُبَادَلَةِ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ وَكَذَا الرَّدُّ بِالْعَيْبِ وَالْقِسْمَةُ فيها مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فَكَانَتْ الْخُصُومَةُ فيها من حُقُوقِهَا فَيَمْلِكُهَا الْوَكِيلُ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ إذَا أَرَادَ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ
هذا على وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ كانت الْوَكَالَةُ عَامَّةً بِأَنْ قال له وَقْتَ التَّوْكِيلِ بِالْقَبْضِ اصْنَعْ ما شِئْتَ أو ما صَنَعْتَ من شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيَّ أو نحو ذلك وَإِمَّا إن كانت خَاصَّةً بِأَنْ لم يَقُلْ ذلك عِنْدَ التَّوْكِيلِ بِالْقَبْضِ فَإِنْ كانت عَامَّةً يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِالْقَبْضِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَخْرُجُ مَخْرَجَ الْعُمُومِ إجْرَاؤُهُ على عُمُومِهِ
وَإِنْ كانت خَاصَّةً فَلَيْسَ له أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِالْقَبْضِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ بِتَفْوِيضِ الْمُوَكِّلِ فَيَمْلِكُ قَدْرَ ما فَوَّضَ إلَيْهِ فَإِنْ فَعَلَ ذلك وَقَبَضَ الْوَكِيلُ الثَّانِي لم يَبْرَأْ الْغَرِيمُ من الدَّيْنِ لِأَنَّ تَوْكِيلَهُ بِالْقَبْضِ إذَا لم يَصِحَّ فَقَبْضُهُ وَقَبْضُ الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ فَإِنْ وَصَلَ إلَى يَدِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ برىء الْغَرِيمُ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى يَدِ من هو نَائِبُ الْمُوَكِّلِ في الْقَبْضِ
وَإِنْ هَلَكَ في يَدِهِ قبل أَنْ يَصِلَ إلَى الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ ضَمِنَ الْقَابِضُ لِلْغَرِيمِ لِأَنَّ قَبْضَهُ بِجِهَةِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ وَالْقَبْضُ بِجِهَةِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ قَبْضٌ بِجِهَةِ الْمُبَادَلَةِ على ما مَرَّ وَالْمَقْبُوضُ بِجِهَةِ الْمُبَادَلَةِ مَضْمُونٌ على الْقَابِضِ كَالْمَقْبُوضِ على سَوْمِ الشِّرَاءِ وكان له أَنْ يَرْجِعَ بِمَا ضَمِنَ على الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا من جِهَتِهِ بِتَوْكِيلِهِ بِالْقَبْضِ فَيَرْجِعُ عليه إذْ كُلُّ غَارٍّ ضَامِنٌ لِلْمَغْرُورِ بِمَا لَحِقَهُ من الْعُهْدَةِ فَيَرْجِعُ عليه بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ وَلَا يَبْرَأُ الْغَرِيمُ من الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا إنَّ تَوْكِيلَهُ بِالْقَبْضِ لم يَصِحَّ فَكَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ الْغَرِيمَ بِدَيْنِهِ وإذا أَخَذَ منه رَجَعَ الْغَرِيمُ على الْوَكِيلِ الثَّانِي لِمَا قُلْنَا وَيَرْجِعُ الْوَكِيلُ الثَّانِي على الْأَوَّلِ بِحُكْمِ الْغُرُورِ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لِلْمُوَكِّلِ على إنْسَانٍ مُعَيَّنٍ أو في بَلَدٍ =ج17=

ج17 بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587.

مُعَيَّنٍ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ بِحُكْمِ الْآمِرِ لَا يَمْلِكُ التَّعَدِّيَ عن مَوْضِعِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ عِوَضًا عن الدَّيْنِ وهو أَنْ يَأْخُذَ عَيْنًا مَكَانَهُ لِأَنَّ هذه مُعَاوَضَةٌ مَقْصُودَةٌ وإنها لَا تَدْخُلُ تَحْتَ التَّوْكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَبْضَ الدَّيْنِ حَقِيقَةً لَا يُتَصَوَّرُ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّوْكِيلُ بِقَبْضِهِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ جُعِلَ تَوْكِيلًا بِالْمُعَاوَضَةِ ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ التَّصَرُّفِ وَدَفْعِ الْحَاجَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِالتَّوْكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ وَحَقُّ الضَّرُورَةِ يَصِيرُ مَقْضِيًّا بِثُبُوتِهَا ضِمْنًا لِلْعَقْدِ فَبَقِيَتْ الْمُعَاوَضَةُ الْمَقْصُودَةُ خَارِجَةً عن الْعَقْدِ أَصْلًا فَلَا يَمْلِكُهَا الْوَكِيلُ
وَلَوْ كان لِرَجُلٍ على رَجُلٍ دَيْنٌ فَجَاءَ إنْسَانٌ إلَى الْغَرِيمِ وقال إنَّ الطَّالِبَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْبِضَهُ مِنْكَ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْغَرِيمُ وَأَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ لَا يُمْنَعُ منه وَإِنْ أَبَى أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ يُجْبَرُ على الدَّفْعِ في الدَّيْنِ وفي الْعَيْنِ لَا يُجْبَرُ عليه
وَالْفَرْقُ أَنَّ التَّصْدِيقَ في الدَّيْنِ إقْرَارٌ على نَفْسِهِ فَكَانَ مَجْبُورًا على التَّسْلِيمِ
وفي الْعَيْنِ إقْرَارٌ على غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِتَصْدِيقِ ذلك الْغَيْرِ
وَإِنْ لم يُصَدِّقْهُ لم يُجْبَرْ على الدَّفْعِ فَإِنْ دَفَعَهُ إلَيْهِ ثُمَّ جاء الطَّالِبُ فَإِنْ صَدَّقَهُ مَضَى الْأَمْرُ وَإِنْ كَذَّبَهُ وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ وَكَّلَهُ بِذَلِكَ فَهَذَا على وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ
أما إن صَدَّقَهُ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ وأما إن كَذَّبَهُ وَمَعَ ذلك دَفَعَ إلَيْهِ وَأَمَّا إنْ لم يُصَدِّقْهُ ولم يُكَذِّبْهُ وَدَفَعَ إلَيْهِ فَإِنْ صَدَّقَهُ في الْوَكَالَةِ ولم يُضَمِّنْهُ فَجَاءَ الطَّالِبُ يُقَالُ له ادْفَعْ الدَّيْنَ إلَى الطَّالِبِ وَلَا حَقَّ لك على الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُ في الْوَكَالَةِ فَقَدْ أَقَرَّ بِوَكَالَتِهِ وَإِقْرَارُهُ صَحِيحٌ في حَقِّ نَفْسِهِ فَكَأَنَّهُ يقول إنَّ الْوَكِيلَ كان مُحِقًّا في الْقَبْضِ وَإِنَّ الطَّالِبَ ظَالِمٌ فِيمَا يَقْبِضُ مِنِّي وَإِنْ ظَلَمَ على مُبْطِلٍ فَلَا أَظْلِمُ على مُحِقٍّ وَإِنْ صَدَّقَهُ وَضَمَّنَهُ ما دَفَعَ إلَيْهِ ثُمَّ حَضَرَ الطَّالِبُ فَأَخَذَ منه يَرْجِعُ هو على الْقَابِضِ لِأَنَّ الْغَرِيمَ وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّ الْقَابِضَ مُحِقٌّ في الْقَبْضِ بِتَصْدِيقِهِ إيَّاهُ في الْوَكَالَةِ فَعِنْدَهُ أَنَّ الطَّالِبَ مُبْطِلٌ فيه ظَالِمٌ فِيمَا يَقْبِضُ منه فإذا ضَمِنَهُ فَقَدْ أَضَافَ الضَّمَانَ إلَى ما يَقْبِضُهُ الطَّالِبُ عنه بِغَيْرِ حَقٍّ وَإِضَافَةُ الضَّمَانِ إلَى الْمَقْبُوضِ الْمَضْمُونِ صَحِيحٌ كما إذَا قال ما غَصَبَكَ فُلَانٌ فَعَلَيَّ
وَإِنْ كَذَّبَهُ في الْوَكَالَةِ وَمَعَ ذلك دَفَعَ إلَيْهِ له أَنْ يُضَمِّنَ الْوَكِيلَ لِأَنَّ عِنْدَهُ إنه مُبْطِلٌ في الْقَبْضِ وَإِنَّمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ على رَجَاءِ أَنْ يُجَوِّزَهُ الطَّالِبُ
وَكَذَا إذَا لم يُصَدِّقْ ولم يُكَذِّبْ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه الْإِقْرَارُ بِكَوْنِهِ مُحِقًّا في الْقَبْضِ فَيَمْلِكُ الرُّجُوعَ عليه الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ إذَا قَبَضَهُ فَوَجَدَهُ مَعِيبًا فما كان لِلْمُوَكِّلِ رَدُّهُ فَلَهُ رَدُّهُ وأخد ( ( ( وأخذ ) ) ) بَدَلِهِ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فَهُوَ يَمْلِكُ قَبْضَ حَقِّهِ أَصْلًا وَوَصْفًا فَكَذَا الْوَكِيلُ
وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلًا بِقَبْضِ دَيْنٍ له على رَجُلٍ وَغَابَ الطَّالِبُ فَادَّعَى الْغَرِيمُ أَنَّهُ قد أَوْفَاهُ الطَّالِبَ لَا يَحْتَاجُ الْوَكِيلُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَلَا إلَى إحْضَارِ الطَّالِبِ لِيُحَلِّفَهُ لَكِنْ يُقَالُ لِلْغَرِيمِ ادْفَعْ الدَّيْنَ إلَى الْوَكِيلِ ثُمَّ اتْبَعْ الطَّالِبَ وَحَلِّفْهُ إنْ أَرَدْتَ يَمِينَهُ فَإِنْ حَلَفَ وَإِلَّا رَجَعْتَ عليه لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِالدَّيْنِ وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ على لِسَانِ رسول اللَّهِ فَلَا يُحْكَمُ بِسُقُوطِهِ بِدَعْوَى الْإِيفَاءِ مع الِاحْتِمَالِ بَلْ يُجْبَرُ على التَّسْلِيمِ إلَى الْوَكِيلِ
وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ إذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّ الشَّفِيعَ قد سَلَّمَ لِلشُّفْعَةِ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ الدَّارِ إلَى الْوَكِيلِ ثُمَّ يُقَالُ له اتْبَعْ الشَّفِيعَ وَحَلِّفْهُ إنْ أَرَدْتَ يَمِينَهُ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُقِرٌّ بِثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا يَكُونُ فَلَا يُبْطَلُ الْحَقَّ الثَّابِتَ بِدَعْوَى التَّسْلِيمِ مع الِاحْتِمَالِ فَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ المشتري إلَى الْوَكِيلِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ إذَا ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قد رضي بِالْعَيْبِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لِلْوَكِيلِ حَقُّ الرَّدِّ حتى يَحْضُرَ الْمُوَكِّلُ فَيَحْلِفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى ما رضي بهذا الْعَيْبِ لِأَنَّ الْبَائِعَ بِقَوْلِهِ رضي الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ لم يُقِرَّ بِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ إذْ ليس كُلُّ عَيْبٍ مُوجِبًا لِلرَّدِّ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو اشْتَرَاهُ وهو عَالِمٌ بِعَيْبِهِ ليس له حَقُّ الرَّدِّ مع وُجُودِ الْعَيْبِ فَيَتَوَقَّفُ على حُضُورِ الْمُوَكِّلِ وَيَمِينِهِ فَإِنْ أَرَادَ الْغَرِيمُ أَنْ يُحَلِّفَ الْوَكِيلَ بِاَللَّهِ عز وجل ما يَعْلَمُ أَنَّ الطَّالِبَ قد اسْتَوْفَى الدَّيْنَ لم يَكُنْ له أَنْ يُحَلِّفَهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وقال زُفَرُ يُحَلِّفُهُ على عِلْمِهِ فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ خَرَجَ عن الْوَكَالَةِ ولم يَبْرَأْ الْغَرِيمُ وكان الطَّالِبُ على حُجَّتِهِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ هذا أَمْرٌ لو أَقَرَّ بِهِ الْوَكِيلُ لَلَزِمَهُ وَسَقَطَ حَقُّهُ من الْقَبْضِ فإذا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ لِجَوَازِ أَنَّهُ يَنْكُلُ عن الْيَمِينِ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ
وَلَنَا قَوْلُ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْيَمِينُ على الْمُدَّعَى عليه وَالْغَرِيمُ ما ادَّعَى على الْوَكِيلِ شيئا وَإِنَّمَا ادَّعَى على الْمُوَكِّلِ فَكَانَتْ الْيَمِينُ عليه وَالْيَمِينُ مِمَّا لَا تَجْرِي فيه النِّيَابَةُ فَلَا يَثْبُتُ لِلْغَرِيمِ وِلَايَةُ اسْتِحْلَافِ الْوَكِيلِ وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا مَاتَ الطَّالِبُ فَادَّعَى الْغَرِيمُ أَنَّهُ قد كان اسْتَوْفَاهُ حَالَ حَيَاتِهِ وَأَنْكَرَ الْوَارِثُ أَنَّ له أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْوَارِثَ على عِلْمِهِ
____________________

(6/26)


بِاَللَّهِ تَعَالَى ما يَعْلَمُ أَنَّ الطَّالِبَ اسْتَوْفَى الدَّيْنَ لِأَنَّ هُنَاكَ الْوَارِثَ مدعي عليه لِأَنَّ الْغَرِيمَ يَدَّعِي عليه بُطْلَانَ حَقِّهِ في الِاسْتِيفَاءِ الذي هو حَقُّهُ فلم يَكُنِ اسْتِحْلَافُهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عن الْمُوَرِّثِ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ على عِلْمِهِ لِأَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ على فِعْلِ غَيْرِهِ وَكُلُّ من يُسْتَحْلَفُ على فِعْلٍ بَاشَرَهُ غَيْرُهُ يُسْتَحْلَفُ على الْعِلْمِ لَا الْبَتِّ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ له بِهِ أَنَّهُ فَعَلَ ذلك أو لم يَفْعَلْ
فَإِنْ أَقَامَ الْغَرِيمُ الْبَيِّنَةَ على الْإِيفَاءِ سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا تُسْمَعُ وهو رِوَايَةُ الْحَسَنِ عن أبي حَنِيفَةَ بِنَاءً على أَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ هل يَكُونُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ فيه عِنْدَهُ يَكُونُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ لِمَا تَقَدَّمَ
وَكَذَلِكَ على هذا الِاخْتِلَافِ إذَا أَقَامَ الْغَرِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَعْطَى الطَّالِبَ بِالدَّرَاهِمِ الدَّنَانِيرَ أو بَاعَهُ بها عَرَضًا فَبَيِّنَتُهُ مَسْمُوعَةٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ لِأَنَّ إيفَاءَ الدَّيْنِ بِطَرِيقَيْ الْمُبَادَلَةِ وَالْمُقَاصَّةِ وَيَسْتَوِي فِيهِمَا الْجِنْسُ وَخِلَافُ الْجِنْسِ فَكَانَ الْخِلَافُ في الْكُلِّ ثَابِتًا
وَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ فَالتَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا فَإِنْ كان مُقَيَّدًا يُرَاعَى فيه الْقَيْدُ بِالْإِجْمَاعِ حتى إنَّهُ إذَا خَالَفَ قَيْدَهُ لَا يَنْفُذُ على الْمُوَكِّلِ وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ على إجَازَتِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ خِلَافُهُ إلَى خَيْرٍ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ مُسْتَفَادَةٍ من قِبَلِ الْمُوَكِّلِ فَيَلِي من التَّصَرُّفِ قَدْرَ ما وَلَّاهُ
وَإِنْ كان الْخِلَافُ إلَى خَيْرٍ فَإِنَّمَا نَفَذَ لِأَنَّهُ إنْ كان خِلَافًا صُورَةً فَهُوَ وِفَاقٌ مَعْنًى لِأَنَّهُ آمِرٌ بِهِ دَلَالَةً فَكَانَ مُتَصَرِّفًا بِتَوْلِيَةِ الْمُوَكِّلِ فَنَفَذَ بَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا قال بِعْ عَبْدِي هذا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ بِأَقَلَّ من الْأَلْفِ لَا يَنْفُذُ
وَكَذَا إذَا بَاعَهُ بِغَيْرِ الدَّرَاهِمِ لَا يَنْفُذُ وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَكْثَرَ من أَلْفِ دِرْهَمٍ لِأَنَّهُ خِلَافٌ إلَى شَرٍّ لِأَنَّ أَغْرَاضَ الناس تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ فَكَانَ في مَعْنَى الْخِلَافِ إلَى شَرٍّ وَإِنْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ من أَلْفِ دِرْهَمٍ نَفَذَ لِأَنَّهُ خِلَافٌ إلَى خَيْرٍ فلم يَكُنْ خِلَافًا أَصْلًا
وَكَذَلِكَ على هذا لو وَكَّلَهُ بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَالَّةً فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ نَسِيئَةً لم يَنْفُذْ بَلْ يَتَوَقَّفُ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ حَالَّةً نَفَذَ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِلْآمِرِ فَبَاعَهُ ولم يَشْتَرِطْ الْخِيَارَ لم يَجُزْ بَلْ يَتَوَقَّفُ
وَلَوْ بَاعَ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِلْآمِرِ ليس له أَنْ يُجِيزَ لِأَنَّهُ لو مَلَكَ الْإِجَازَةَ بِنَفْسِهِ لم يَكُنْ لِلتَّقْيِيدِ فَائِدَةٌ
هذا إذَا كان التَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ مُقَيَّدًا فَأَمَّا إذَا كان مُطْلَقًا فَيُرَاعَى فيه الْإِطْلَاقُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَيَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ
وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ إلَّا بِمَا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ مُطْلَقَ الْبَيْعِ يَنْصَرِفُ إلَى الْبَيْعِ الْمُتَعَارَفِ وَالْبَيْعُ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ ليس بِمُتَعَارَفٍ فَلَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ كَالتَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَصْلَ في اللَّفْظِ الْمُطْلَقَ أَنْ يَجْرِي على إطْلَاقِهِ وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَالْعُرْفُ مُتَعَارِضٌ فإن الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لِغَرَضِ التَّوَصُّلِ بِثَمَنِهِ إلَى شِرَاءِ ما هو أَرْبَحُ منه مُتَعَارَفٌ أَيْضًا فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ مع التَّعَارُضِ مع أَنَّ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ إنْ لم يَكُنْ مُتَعَارَفًا فِعْلًا فَهُوَ مُتَعَارَفٌ ذِكْرًا وَتَسْمِيَةً لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يسمي بَيْعًا أو هو مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ لُغَةً وقد وُجِدَ وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ ذِكْرًا وَتَسْمِيَةً من غَيْرِ اعْتِبَارِ الْفِعْلِ
أَلَا تَرَى أَنَّ من حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمَ الْآدَمِيِّ أو لَحْمَ الْخِنْزِيرِ يَحْنَثُ وَإِنْ لم يَكُنْ أَكْلُهُ مُتَعَارَفًا لِكَوْنِهِ مُتَعَارَفًا إطْلَاقًا وَتَسْمِيَةً
كَذَا هذا
وَأَمَّا التَّوْكِيلُ بِالشِّرَاءِ فَالْجَوَابُ عنه من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ جَوَازَهُ ثَبَتَ على خِلَافِ الْقِيَاسِ لِكَوْنِهِ أَمْرًا بِالتَّصَرُّفِ في مَالِ غَيْرِهِ وَذِكْرُ الثَّمَنِ فيه تَبَعٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ بِدُونِ ذِكْرِ الثَّمَنِ إلَّا أَنَّهُ جُوِّزَ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ إذْ كُلُّ أَحَدٍ لَا يَتَهَيَّأُ له أَنْ يَشْتَرِيَ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجَ إلَى من يُوَكِّلُ بِهِ غَيْرَهُ وَالْحَاجَةُ إلَى التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ بِثَمَنٍ جَرَى التَّعَارُفُ بِشِرَاءِ مِثْلِهِ بمثله فَيَنْصَرِفُ الْأَمْرُ بِمُطْلَقِ الشِّرَاءِ إلَيْهِ البتة الثَّانِي الْمُشْتَرِي مُتَّهَمٌ بهذا الِاحْتِمَالِ أَنَّهُ يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ فلما تَبَيَّنَ فيه الْغَبْنُ أَظْهَرَ الشِّرَاءَ لِلْمُوَكِّلِ وَمِثْلُ هذه التُّهْمَةِ في الْبَيْعِ مُنْعَدِمَةٌ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِغَيْرِ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ إلَّا بِالنَّقْدِ وَالْحُجَجُ من الطَّرَفَيْنِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في الْبَيْعِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ
وَلَوْ بَاعَ الْوَكِيلُ بَعْضَ ما وُكِّلَ بِبَيْعِهِ فَهُوَ على وَجْهَيْنِ أما إن كان ذلك مِمَّا لَا ضَرَرَ في تَبْعِيضِهِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِأَنْ كان وَكِيلًا بِبَيْعِ عَبْدَيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا جَازَ بِالْإِجْمَاعِ
وَإِنْ كان في تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِأَنْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدٍ فَبَاعَ نِصْفَهُ جَازَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَةِ
____________________

(6/27)


الْمُوَكِّلِ أو بِبَيْعِ النِّصْفِ الْبَاقِي وَلَوْ كان وَكِيلًا بِالشِّرَاءِ فَاشْتَرَى نِصْفَهُ لم يَلْزَمْ الْآمِرَ إجْمَاعًا إلَّا أَنَّهُ يَشْتَرِي الْبَاقِي وَيُجِيزُهُ الْمُوَكِّلُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا الْجَمْعُ بين الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ بِجَامِعٍ وهو الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ وَوُجُوبُ دَفْعِ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِالشَّرِكَةِ في الْأَعْيَانِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بين الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ على ما مَرَّ أَلَا يُرَى أَنَّ عِنْدَهُ لو بَاعَ الْكُلَّ بهذا الْقَدْرِ من الثَّمَنِ يَجُوزُ فَلَأَنْ يَجُوزَ بَيْعُ الْبَعْضِ بِهِ أَوْلَى لِأَنَّهُ نَفَّعَ مُوَكِّلَهُ حَيْثُ أَمْسَكَ الْبَعْضَ على مِلْكِهِ وَبِهَذَا فَارَقَ الشِّرَاءَ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ إذَا اشْتَرَى النِّصْفَ بِثَمَنِ الْكُلِّ لَا يَجُوزُ وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ يَمْلِكُ إبْرَاءَ الْمُشْتَرِي عن الثَّمَنِ وَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عنه وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ عِوَضًا وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ على شَيْءٍ وَيَحْتَالَ بِهِ على إنْسَانٍ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَمْلِكُ شيئا من ذلك
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْإِبْرَاءِ وإخواته تَصَرُّفٌ في مِلْكِ الْمُوَكِّلِ من غَيْرِ إذْنِهِ فَلَا يَنْفُذُ عليه كما لو فَعَلَهَا أَجْنَبِيٌّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ تَصَرَّفَ في حَقِّ نَفْسِهِ بِالْإِبْرَاءِ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ حَقُّهُ فَكَانَ الْإِبْرَاءُ عن الثَّمَنِ إبْرَاءً عن قَبْضِهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَلَوْ أُسْقِطَ حَقُّ الْقَبْضِ لَسَقَطَ الدَّيْنُ ضَرُورَةً لِأَنَّهُ لو بَقِيَ لَبَقِيَ دَيْنًا لَا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ أَصْلًا وَهَذَا مِمَّا لَا نَظِيرَ له في أُصُولِ الشَّرْعِ وَلِأَنَّ دَيْنًا لَا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ وَالِاسْتِيفَاءَ بِوَجْهٍ لَا يُفِيدُ فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً وَيَضْمَنُ الثَّمَنَ لِلْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَصَرَّفَ في حَقِّ نَفْسِهِ لَكِنَّهُ تَعَدَّى إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ بِالْإِتْلَافِ فَيَجِبُ عليه الضَّمَانُ
وَكَذَا إذَا أَخَذَ بِالثَّمَنِ عِوَضًا عن الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ مَلَكَ منه الْقَبْضَ الذي هو حَقُّهُ فَيَصِحُّ وَمَتَى مَلَكَ ذلك فَيَمْلِكُ رَقَبَةَ الدَّيْنِ ضَرُورَةً بِمَا أَخَذَهُ من الْعِوَضِ وَيَضْمَنُ لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَا إذَا صَالَحَهُ على شَيْءٍ لِأَنَّ الصُّلْحَ مُبَادَلَةٌ وَكَذَا إذَا أَحَالَهُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ على إنْسَانٍ وَقَبِلَ الْوَكِيلُ الْحَوَالَةَ لِأَنَّهُ بِقَبُولِ الْحَوَالَةِ تَصَرَّفَ في حَقِّ نَفْسِهِ بِالْإِبْرَاءِ عنه لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مُبَرِّئَةٌ وَذَلِكَ يُوجِبُ سُقُوطَ الدَّيْنِ عن الْمُحِيلِ فيه لِمَا ذَكَرْنَا وَيَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ تَأْخِيرُ الدَّيْنِ من الْوَكِيلِ تَأْخِيرُ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ وَالْقَبْضِ وَأَنَّهُ صَادَفَ حَقَّ نَفْسِهِ فَيَصِحُّ لَكِنَّهُ تَعَدَّى إلَى الْمُوَكِّلِ بِثُبُوتِ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِلْكِهِ فَيَضْمَنُ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ لِأَنَّ مَبْنَى الْوَكَالَةِ على الْخُصُوصِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ مُسْتَفَادَةٍ من قِبَلِ الْمُوَكِّلِ فَيَمْلِكُ قَدْرَ ما أَفَادَهُ وَلَا يَثْبُتُ الْعُمُومُ إلَّا بِلَفْظٍ يَدُلُّ عليه وهو قَوْلُهُ اعْمَلْ فيه بِرَأْيِك وَغَيْرِ ذلك مِمَّا يَدُلُّ على الْعُمُومِ فَإِنْ وَكَّلَ غَيْرَهُ بِالْبَيْعِ فَبَاعَ الثَّانِي بِحَضْرَةِ الْأَوَّلِ جَازَ وَإِنْ بَاعَ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْأَوَّلُ والموكل
وَكَذَا إذَا بَاعَهُ فُضُولِيٌّ بلغ ( ( ( فبلغ ) ) ) الْوَكِيلَ أو الْمُوَكِّلَ فَأَجَازَ
يَجُوزُ هذا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَكِيلِ الثَّانِي سَوَاءٌ كان بِحَضْرَةِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ أو لم يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ
وقال ابن أبي لَيْلَى يَجُوزُ كيف ما كان وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ عِبَارَةَ الْوَكِيلِ لَيْسَتْ مَقْصُودَ الْمُوَكِّلِ بَلْ الْمَقْصُودُ رَأْيُهُ فإذا بَاعَ الثَّانِي بِحَضْرَتِهِ فَقَدْ حَصَلَ التَّصَرُّفُ بِرَأْيِهِ فَنَفَذَ وإذا بَاعَهُ لَا بِحَضْرَتِهِ أو بَاعَ فُضُولِيٌّ فَقَدْ خَلَا التَّصَرُّفُ عن رَأْيِهِ فَلَا يَنْفُذُ وَلَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا على إجَازَةِ الْوَكِيلِ أو الْمُوَكِّلِ لِصُدُورِ التَّصَرُّفِ من أَهْلِهِ في مَحَلِّهِ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ أَنْ يَبِيعَ من نَفْسِهِ لِأَنَّ الْحُقُوقَ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ في زَمَانٍ وَاحِدٍ مُسَلِّمًا وَمُتَسَلِّمًا مُطَالِبًا وَمُطَالَبًا وَهَذَا مُحَالٌ
وَكَذَا لَا يَبِيعُ من نَفْسِهِ وَإِنْ أَمَرَهُ الْمُوَكِّلُ بِذَلِكَ لِمَا قُلْنَا وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ في ذلك وَلَيْسَ له أَنْ يَبِيعَ من أبيه وَجَدِّهِ وَوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ الْكِبَارِ وَزَوْجَتِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ ذلك بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ من عَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْبَيْعَ من هَؤُلَاءِ وَمِنْ الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُهُ أَجْنَبِيٌّ من صَاحِبِهِ ثُمَّ لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ من نَفْسِهِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَيْعَ من هَؤُلَاءِ بَيْعٌ من نَفْسِهِ من حَيْثُ الْمَعْنَى لِاتِّصَالِ مَنْفَعَةِ مِلْكِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ ثُمَّ لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ من نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ من هَؤُلَاءِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ من عَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ لِأَنَّ الْبَيْعَ من عَبْدِهِ بَيْعٌ من نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ له
وَكَذَا الْمُكَاتَبُ لِأَنَّهُ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ على لِسَانِ رسول اللَّهِ
كَذَا هذا
يُحَقِّقُهُ أَنَّ اتِّصَالَ مَنَافِعِ الْأَمْلَاكِ بَيْنَهُمَا تُورِثُ التُّهْمَةَ لِهَذَا لم تُقْبَلْ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ
وَلَوْ عَمَّمَ التَّوْكِيلَ فقال اصْنَعْ ما شِئْتَ أو بِعْ من هَؤُلَاءِ أو أَجَازَ ما صَنَعَهُ الْوَكِيلُ جَازَ بَيْعُهُ بِالِاتِّفَاقِ
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ من نَفْسِهِ أو من وَلَدِهِ الصَّغِيرِ أو من عَبْدِهِ إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ بحال ( ( ( يحال ) ) ) الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا يَمْلِكُ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْعِ يَقَعُ على كل وَاحِدٍ من النَّوْعَيْنِ إذْ هو مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ
____________________

(6/28)


بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ وقد وُجِدَ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ مُطْلَقًا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من النِّكَاحَ الْحِلُّ وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ وَالْمَقْصُودُ من الْبَيْعِ الْمِلْكُ وَأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ
وَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَهَلْ يَمْلِكُ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ قال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَمْلِكُ
وقال مُحَمَّدٌ لَا يَمْلِكُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ بَيْعٌ لَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ وَالصَّحِيحُ يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ فَكَانَا مُخْتَلِفَيْنِ فَلَا يَكُونُ التَّوْكِيلُ بِأَحَدِهِمَا تَوْكِيلًا بِالْآخَرِ فإذا بَاعَ بَيْعًا صَحِيحًا صَارَ مُخَالِفًا
وَلَهُمَا أَنَّ هذا ليس بِخِلَافٍ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ خَيْرٌ وَكُلُّ مُوَكَّلٍ بِشَيْءٍ مُوَكَّلٌ بِمَا هو خَيْرٌ منه دَلَالَةً وَالثَّابِتُ دَلَالَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا فَكَانَ آتِيًا بِمَا وُكِّلَ بِهِ فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا
وَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ فَالتَّوْكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَا يَخْلُو إمَّا إن كان مُطْلَقًا أو مُقَيَّدًا فَإِنْ كان مُقَيَّدًا يراعي فيه الْقَيْدُ إجْمَاعًا لِمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ كان الْقَيْدُ رَاجِعًا إلَى المشتري أو إلَى الثَّمَنِ حتى إنَّهُ إذَا خَالَفَ يَلْزَمُ الشِّرَاءَ إلَّا إذَا كان خِلَافًا إلَى خَيْرٍ فَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ
مِثَالُ الْأَوَّلِ إذَا قال اشْتَرِ لي جَارِيَةً أَطَؤُهَا أو استخدمها أو اتخذها أُمَّ وَلَدٍ فاشتري جَارِيَةً مَجُوسِيَّةً أو أُخْتَهُ من الرَّضَاعِ أو مُرْتَدَّةً أو ذَاتَ زَوْجٍ لَا يَنْفُذُ على الْمُوَكِّلِ وَيَنْفُذُ على الموكل ( ( ( الوكيل ) ) )
وَكَذَلِكَ إذَا قال اشْتَرِ لي جَارِيَةً تَخْدِمُنِي فَاشْتَرَى جَارِيَةً مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ أو الرِّجْلَيْنِ أو عَمْيَاءَ لِأَنَّ الْأَصْلَ في كل مُقَيَّدٍ اعْتِبَارُ الْقَيْدِ فيه إلَّا قَيْدًا لَا يُفِيدُ اعْتِبَارُهُ وَاعْتِبَارُ هذا النَّوْعِ من الْقَيْدِ مُفِيدٌ
وَكَذَلِكَ إذَا قال اشْتَرِ لي جَارِيَةً تُرْكِيَّةً فَاشْتَرَى جَارِيَةً حَبَشِيَّةً لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ وَيَلْزَمُ الْوَكِيلَ لِمَا ذَكَرْنَا
وَمِثَالُ الثَّانِي إذَا قال له اشْتَرِ لي جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى جَارِيَةً بِأَكْثَرَ من الْأَلْفِ تَلْزَمُ الْوَكِيلَ دُونَ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ الْمُوَكِّلِ فَيَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَلَوْ قال اشْتَرِ لي جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أو بِمِائَةِ دِينَارٍ فَاشْتَرَى جَارِيَةً بِمَا سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لَا تَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ إجْمَاعًا لِأَنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلِفٌ فَيَكُونُ مُخَالِفًا
وَلَوْ قال اشْتَرِ لي هذه الْجَارِيَةَ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَاشْتَرَاهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ قِيمَتُهَا مِائَةُ دِينَارٍ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْمَشْهُورَ من قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً فَكَانَ التَّقْيِيدُ بِأَحَدِهِمَا مُفِيدًا وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ كَأَنَّهُ اعْتَبَرَهُمَا جِنْسًا وَاحِدًا في الْوَكَالَةِ كما اُعْتُبِرَا جِنْسًا وَاحِدًا في الشُّفْعَةِ وهو أَنَّ الشَّفِيعَ إذَا أَخْبَرَ أَنَّ الدَّارَ بِيعَتْ بِدَنَانِيرَ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ثُمَّ ظَهَرَ أنها بِيعَتْ بِدَرَاهِمَ وَقِيمَتُهَا مِثْلُ الدَّنَانِيرِ صَحَّ التَّسْلِيمُ كَذَا هَهُنَا فَإِنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ كان مِثْلُهَا يشتري بِأَلْفٍ أو بِأَكْثَرَ من أَلْفٍ أو بِأَقَلَّ من أَلْفٍ مِقْدَارَ ما يَتَغَابَنُ الناس فيه لزم ( ( ( فيلزم ) ) ) الْمُوَكِّلَ وَإِنْ كان النُّقْصَانُ مِقْدَارَ ما لَا يَتَغَابَنُ الناس فيه لَزِمَ الْوَكِيلَ لِأَنَّ شِرَاءَ الْوَكِيلِ المعروف ( ( ( معروف ) ) ) المعروف
وَإِنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَمِثْلُهَا يُشْتَرَى بِأَلْفٍ لَزِمَ الْمُوَكِّلَ لِأَنَّ الْخِلَافَ إلَى خَيْرٍ لَا يَكُونُ خِلَافًا مَعْنًى وَكَذَا إذَا وَكَّلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ له جَارِيَةً بِأَلْفٍ نَسِيئَةً فَاشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفٍ حَالَّةً لَزِمَ الْوَكِيلَ لِأَنَّهُ خَالَفَ قَيْدَ الْمُوَكِّلِ وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِأَلْفٍ حَالَّةً فَاشْتَرَى بِأَلْفٍ نَسِيئَةً لَزِمَ الْمُوَكِّلَ لِأَنَّهُ وَإِنْ خَالَفَ صُورَةً فَقَدْ وَافَقَ مَعْنًى وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعْنَى لَا لِلصُّورَةِ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ وَيَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِلْمُوَكِّلِ فَاشْتَرَى بِغَيْرِ خِيَارٍ لَزِمَ الْوَكِيلَ
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ إذَا خَالَفَ يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَالْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ إذَا خَالَفَ يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قد ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ مُتَّهَمٌ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ فَأَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ عليه حتى أنه لو كان صَبِيًّا مَحْجُورًا أو عَبْدًا مَحْجُورًا لَا يَنْفُذُ عليه بَلْ يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ الشِّرَاءَ لِأَنْفُسِهِمَا فَلَا يُمْكِنُ التَّنْفِيذُ عَلَيْهِمَا فَتَوَقَّفَ وَكَذَا إذَا كان الْوَكِيلُ مُرْتَدًّا أو كان وَكِيلًا بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَاشْتَرَى نِصْفَهُ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّنْفِيذِ عليه فَاحْتُمِلَ التَّوَقُّفُ وَمَعْنَى التُّهْمَةِ لَا يَتَعَذَّرُ من الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ فَاحْتُمِلَ التَّوَقُّفُ على الْإِجَازَةِ
وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ فَاشْتَرَاهُ بِعَيْنٍ من أَعْيَانِ مَالِ الْمُوَكِّلِ تُوُقِّفَ على الْإِجَازَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهُ بِعَيْنٍ من أَعْيَانِ مَالِهِ فَقَدْ بَاعَ الْعَيْنَ وَالْبَيْعُ يَقِفُ على إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ هذا إذَا كان التَّوْكِيلُ بِالشِّرَاءِ مُقَيَّدًا فَأَمَّا إذَا كان مُطْلَقًا فإنه يراعي فيه الْإِطْلَاقُ ما أَمْكَنَ إلَّا إذَا قام دَلِيلُ التَّقْيِيدِ من عُرْفٍ أو غَيْرِهِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ
وَعَلَى هذا إذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِشِرَاءِ جَارِيَةٍ وَسَمَّى نَوْعَهَا وَثَمَنَهَا حتى صَحَّتْ الْوَكَالَةُ فَاشْتَرَى جَارِيَةً مَقْطُوعَةَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ من خِلَافٍ أو عَوْرَاءَ لَزِمَ الْمُوَكِّلَ وَكَذَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ أو الرِّجْلَيْنِ أو عَمْيَاءَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُ الْوَكِيلَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجَارِيَةَ تُشْتَرَى لِلِاسْتِخْدَامِ عُرْفًا وَعَادَةً
____________________

(6/29)


وَغَرَضُ الِاسْتِخْدَامِ لَا يَحْصُلُ عِنْدَ فَوَاتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ فَيَتَقَيَّدُ بِالسَّلَامَةِ عن هذه الصِّفَةِ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ وَلِهَذَا قُلْنَا لَا يَجُوزُ تَحْرِيرُهَا عن الْكَفَّارَةِ وَإِنْ كان نَصُّ التَّحْرِيرِ مُطْلَقًا عن شَرْطِ السَّلَامَةِ لِثُبُوتِهَا دَلَالَةً
كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ بِإِطْلَاقِهَا يَقَعُ على هذه الْجَارِيَةِ كما يَقَعُ على سَلِيمَةِ الْأَطْرَافِ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ وقد وُجِدَ
وَأَمَّا في بَابِ الْكَفَّارَةِ فَلِأَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِتَحْرِيرِ رَقَبَةٍ وَالرَّقَبَةُ اسْمٌ لِذَاتٍ مُرَكَّبٍ من هذه الْأَجْزَاءِ فإذا فَاتَ ما يَقُومُ بِهِ جِنْسٌ من مَنَافِعِ الذَّاتِ انْتَقَضَ الذَّاتُ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ اسْمِ الرَّقَبَةِ فَأَمَّا اسْمُ الْجَارِيَةِ فَلَا يَدُلُّ على هذه الذَّاتِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَلَا يَقْدَحُ نُقْصَانُهَا في اسْمِ الْجَارِيَةِ بِخِلَافِ اسْمِ الرَّقَبَةِ حتى أن التَّوْكِيلَ لو كان بِشِرَاءِ رَقَبَةٍ لَا يَجُوزُ كما يَجُوزُ في الْكَفَّارَةِ كَذَا قالوا
وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ له جَارِيَةً وَكَالَةً صَحِيحَةً ولم يُسَمِّ ثَمَنًا فَاشْتَرَى الْوَكِيلُ جَارِيَةً إنْ اشْتَرَى بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أو بِأَقَلَّ من الْقِيمَةِ أو بِزِيَادَةٍ يُتَغَابَنُ في مِثْلِهَا جَازَ على الْمُوَكِّلِ وَإِنْ اشْتَرَى بِزِيَادَةٍ لَا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهَا يَلْزَمُ الْوَكِيلَ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْقَلِيلَةَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنها فَلَوْ مَنَعْتَ النَّفَاذَ على الْمُوَكِّلِ لَضَاقَ الْأَمْرُ على الْوُكَلَاءِ وَلَامْتَنَعُوا عن قَبُولِ الْوَكَالَاتِ وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَيْهَا فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى تَحَمُّلِهَا وَلَا ضَرُورَةَ في الْكَثِيرِ لِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عنه وَالْفَاصِلُ بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ إنْ كانت زِيَادَةً تَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَهِيَ قَلِيلَةٌ وما لَا تَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِهِمْ فَهِيَ كَثِيرَةٌ لِأَنَّ ما يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ لَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ زِيَادَةً وما لَا يَدْخُلُ كانت زِيَادَتُهُ مُتَحَقَّقَةً وَقَدَّرَ مُحَمَّدٌ الزِّيَادَةَ الْقَلِيلَةَ التي يُتَغَابَنُ في مِثْلِهَا في الْجَامِعِ بِنِصْفِ الْعُشْرِ فقال إنْ كانت نِصْفَ الْعُشْرِ أو أَقَلَّ فَهِيَ مِمَّا يُتَغَابَنُ في مِثْلِهَا وَإِنْ كانت أَكْثَرَ من نِصْفِ الْعُشْرِ فَهِيَ مِمَّا لَا يُتَغَابَنُ في مِثْلِهَا
وقال الْجَصَّاصُ ما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لم يَخْرُجْ مَخْرَجَ التَّقْدِيرِ في الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا لِأَنَّ ذلك يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السِّلَعِ منها ما يُعَدُّ أَقَلَّ من ذلك غَبْنًا فيه
وَمِنْهَا ما لَا يُعَدُّ أَكْثَرَ من ذلك غَبْنًا فيه
وَقَدَّرَ نَصْرُ بن يحيى الْقَلِيلَ بالده ينم وفي الْحَيَوَانِ بالده يازده وفي الْعَقَارِ بالده دوازده وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ إذَا اشْتَرَى نِصْفَهُ فَالشِّرَاءُ مَوْقُوفٌ إنْ اشْتَرَى بَاقِيَهُ قبل الْخُصُومَةِ لَزِمَ الْمُوَكِّلَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ الْوَكِيلِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَلْزَمُ الْوَكِيلَ
وَلَوْ خَاصَمَ الْمُوَكِّلُ الْوَكِيلَ إلَى الْقَاضِي قبل أَنْ يَشْتَرِيَ الْوَكِيلُ الْبَاقِيَ وَأَلْزَمَ الْقَاضِي الْوَكِيلَ ثُمَّ إنَّ الْوَكِيلَ اشْتَرَى الْبَاقِيَ بَعْدَ ذلك يَلْزَمُ الْوَكِيلَ إجْمَاعًا لِأَنَّهُ خَالَفَ وَكَذَلِكَ هذا في كل ما في تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ وفي تَشْقِيصِهِ عَيْبٌ كَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَالدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ وما أَشْبَهَ ذلك
وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَ نِصْفَهُ أو جزء منه مَعْلُومًا أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ بَاعَ الْبَاقِيَ منه أو لَا وَالْفَرْقُ له على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا
وَلَوْ أَعْتَقَهُ بعدما اشْتَرَى نِصْفَهُ قبل أَنْ يَشْتَرِيَ الْبَاقِيَ
قال أبو يُوسُفَ إنْ أَعْتَقَهُ الْمُوَكِّلُ جَازَ وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْوَكِيلُ لم يَجُزْ وقال مُحَمَّدٌ على الْقَلْبِ من ذلك
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْوَكِيلَ قد خَالَفَ فِيمَا وُكِّلَ بِهِ فلم يَكُنْ مُشْتَرِيًا لِلْمُوَكِّلِ فَكَيْفَ يَنْفُذُ منه إعْتَاقُهُ وهو في الظَّاهِرِ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ فَيَنْفُذُ إعْتَاقُهُ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ إعْتَاقَ الْمُوَكِّلِ صَادَفَ عَقْدًا مَوْقُوفًا نَفَاذُهُ على إجَازَتِهِ فَكَانَ الْإِعْتَاقُ إجَازَةً منه كما إذَا صَرَّحَ بِالْإِجَازَةِ وَإِعْتَاقُ الْوَكِيلِ لم يُصَادِفْ عَقْدًا مَوْقُوفًا على إجَازَتِهِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ فلم يَحْتَمِلْ التَّوَقُّفَ على إجَازَتِهِ فَبَطَلَ
وَإِنْ كان وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ ليس في تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ وَلَا في تَشْقِيصِهِ عَيْبٌ فَاشْتَرَى نِصْفَهُ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ وَلَا يَقِفُ لُزُومُهُ على شِرَاءِ الْبَاقِي نحو إنْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ كُرِّ حِنْطَةٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى نِصْفَ الْكُرِّ بِخَمْسِينَ
وَكَذَا لو وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى أَحَدَهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ لَزِمَ الْمُوَكِّلَ إجْمَاعًا وَكَذَا لو وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ جَمَاعَةٍ من الْعَبِيدِ فَاشْتَرَى وَاحِدًا منها وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ عَشَرَةِ أَرْطَالِ لَحْمٍ بِدِرْهَمٍ إذَا اشْتَرَى عِشْرِينَ رَطْلًا بِدِرْهَمٍ من لَحْمٍ يُبَاعُ مِثْلُهُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ لَزِمَ الْمُوَكِّلَ منه عَشَرَةُ أَرْطَالٍ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَلْزَمُهُ الْعِشْرُونَ بِدِرْهَمٍ وَلَوْ اشْتَرَى عَشْرَةَ أَرْطَالٍ وَنِصْفَ رَطْلٍ بِدِرْهَمٍ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ اسْتِحْسَانًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ هذا خِلَافٌ صُورَةً لَا مَعْنًى لِأَنَّهُ خِلَافٌ إلَى خَيْرٍ وَذَا لَا يَمْنَعُ النَّفَاذَ على الْمُوَكِّلِ كما إذَا اشْتَرَى عَشَرَةَ أَرْطَالٍ ونصف ( ( ( ونصفا ) ) ) بِدِرْهَمٍ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ الأمر فَلَا يَتَعَدَّى تَصَرُّفُهُ مَوْضِعَ الْأَمْرِ وقد أَمَرَهُ بِشِرَاءِ عَشَرَةِ إرطال فَلَا يَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ على ذلك بِخِلَافِ ما إذَا اشْتَرَى عَشَرَةَ أَرْطَالٍ وَنِصْفَ رَطْلٍ بِدِرْهَمٍ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْقَلِيلَةَ لَا تَتَحَقَّقُ زِيَادَةً
____________________

(6/30)


لِدُخُولِهَا بين الْوَزْنَيْنِ
وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِمِائَةٍ فَاشْتَرَى بها عَبْدَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي مِائَةً رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا
وقال أبو حَنِيفَةَ إذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِشِرَاءِ عَبْدَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ فَاشْتَرَى أَحَدَهُمَا بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ الثَّانِيَ بِبَقِيَّةِ الْأَلْفِ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إذَا كانت الزِّيَادَةُ مِمَّا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهَا يَلْزَمُهُ وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ خِلَافًا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
الوكيل ( ( ( والوكيل ) ) ) بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ وإذا اشْتَرَى يَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ لِأَنَّ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ عَزْلٌ لِنَفْسِهِ عن الْوَكَالَةِ وهو لَا يَمْلِكُ ذلك إلَّا بِمَحْضَرٍ من الْمُوَكِّلِ كما لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ عَزْلَهُ إلَّا بِمَحْضَرٍ منه على ما نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى
وَأَمَّا الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ إذَا اشْتَرَى يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ لِلْمُوَكِّلِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّهُ إذَا قال اشْتَرَيْتُهُ لِنَفْسِي وَصَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ فالمشتري له وإذا قال الْمُوَكِّلُ اشْتَرَيْتُهُ لي وَصَدَّقَهُ الْوَكِيلُ فالمشتري لِلْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ كما يَمْلِكُ لِلْمُوَكِّلِ فَاحْتُمِلَ شِرَاؤُهُ لِمُوَكَّلِهِ فَيَحْكُمُ فيه التَّصْدِيقُ فَيُحْمَلُ على أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ بِتَصَادُقِهِمَا
وَلَوْ اخْتَلَفَا فقال الْوَكِيلُ اشْتَرَيْتُهُ لِنَفْسِي وقال الْمُوَكِّلُ اشْتَرَيْتَهُ لي يَحْكُمُ فيه الثَّمَنُ فَإِنْ أَدَّى الْوَكِيلُ الثَّمَنَ من دَرَاهِمَ نَفْسِهِ فالمشتري له وَإِنْ أَدَّاهُ من دَرَاهِمَ مُوَكِّلِهِ فالمشتري لِمُوَكِّلِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ نَقْدُ الثَّمَنِ من مَالِ من يشتري له فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلثَّمَنِ فَكَانَ صَادِقًا في حُكْمِهِ
وَأَمَّا إذَا لم تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ وَقْتَ الشِّرَاءِ وَاتَّفَقَا عليه يَحْكُمُ فيه الثَّمَنُ أَيْضًا عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُتَصَرِّفًا لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْوَكِيلِ فَكَانَ المشتري له
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ على الصَّلَاحِ وَالسَّدَادِ ما أَمْكَنَ وَذَلِكَ في تَحْكِيمِ الثَّمَنِ على ما مَرَّ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ من نَفْسِهِ لِأَنَّ الْحُقُوقَ في بَابِ الشِّرَاءِ تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ فَيُؤَدِّي إلَى الْإِحَالَةِ وهو أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ في زَمَانٍ وَاحِدٍ مُسَلِّمًا وَمُتَسَلَّمًا مُطَالِبًا وَمُطَالَبًا وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ في الشِّرَاءِ من نَفْسِهِ
وَلَوْ أَمَرَهُ الْمُوَكِّلُ بِذَلِكَ لَا يَصِحُّ لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَلِكَ لو اشْتَرَى من وَلَدِهِ الصَّغِيرِ لِأَنَّ ذلك شِرَاءٌ من نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ لو اشْتَرَى من عَبْدِهِ الذي لَا دَيْنَ عليه أو مُكَاتَبِهِ
وَكَذَا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ من أبيه وَجَدِّهِ وَوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ وَكُلِّ من لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ له عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ إذَا اشْتَرَى بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أو بِأَقَلَّ أو بِزِيَادَةٍ يُتَغَابَنُ في مِثْلِهَا
وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ من عَبْدِهِ الذي لَا دَيْنَ عليه وَمُكَاتَبِهِ وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ بِحُجَجِهَا من قَبْلُ وَلَوْ كانت الْوَكَالَةُ عَامَّةً بِأَنْ قال له اعْمَلْ ما شِئْتَ أو قال له بِعْ من هَؤُلَاءِ أو أَجَازَ ما صَنَعَهُ الْوَكِيلُ جَازَ لِأَنَّ الْمَانِعَ من الْجَوَازِ التُّهْمَةُ وقد زَالَتْ بِالْأَمْرِ وَالْإِجَازَةِ
وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ وَوَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ له بها طَعَامًا فَهُوَ على الْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ لَا على الْفَاكِهَةِ وَاللَّحْمِ وَالْخُبْزِ لِأَنَّ الطَّعَامَ في الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كان اسْمًا لِمَا يُطْعَمُ لَكِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ بِقَرِينَةِ الشِّرَاءِ في الْعُرْفِ وَلِهَذَا سُمِّيَ السُّوقُ الذي تُبَاعُ فيه الْحِنْطَةُ وَالدَّقِيقُ سُوقَ الطَّعَامِ دُونَ غَيْرِهِ إلَّا إذَا كان الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ قَلِيلًا كَالدَّرَاهِمِ وَنَحْوِهِ أو كان هُنَاكَ وَلِيمَةً فَيَنْصَرِفُ إلَى الْخُبْزِ وَقِيلَ يَحْكُمُ الثَّمَنُ إنْ كان قَلِيلًا يَنْصَرِفُ إلَى الْخُبْزِ وَإِنْ كان كَثِيرًا يَنْصَرِفُ إلَيْهِمَا
وَلَوْ قال اشْتَرِ لي بِدِرْهَمٍ لَحْمًا يَنْصَرِفُ إلَى اللَّحْمِ الذي يُبَاعُ في السُّوقِ وَيَشْتَرِي الناس منه في الْأَغْلَبِ من لَحْمِ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ وَالْبَقَرِ وَالْإِبِلِ إنْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِشِرَائِهِ وَلَا يتصرى ( ( ( ينصرف ) ) ) إلَى الْمَشْوِيِّ وَالْمَطْبُوخِ إلَّا إذَا كان مُسَافِرًا وَنَزَلَ خَانًا وَدَفَعَ إلَى إنْسَانٍ دِرْهَمًا لِيَشْتَرِيَ بِهِ لَحْمًا وَلَا إلَى لَحْمِ الطَّيْرِ وَالْوَحْشِ وَالسَّمَكِ وَلَا إلَى شَاةٍ حَيَّةٍ وَلَا إلَى مَذْبُوحَةٍ غَيْرِ مَسْلُوخَةٍ لِانْعِدَامِ جَرَيَانِ الْعَادَةِ بِاشْتِرَائِهِ وَإِنْ اشْتَرَى مَسْلُوخًا جَازَ على الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الْمَسْلُوخَ يُبَاعُ في الْأَسْوَاقِ في الْعَادَةِ وَلَا إلَى الْبَطْنِ وَالْكِرْشِ وَالْكَبِدِ وَالرَّأْسِ وَالْكُرَاعِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِلَحْمٍ وَلَا يشتري مَقْصُودًا أَيْضًا بَلْ تَبَعًا لِلَّحْمِ فَلَا يَنْصَرِفُ مُطْلَقُ التَّوْكِيلِ إلَيْهِ بِخِلَافِ ما إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ هذه الْأَشْيَاءَ إنه يَحْنَثُ لِأَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ على الْعُرْفِ ذِكْرًا وَتَسْمِيَةً وَمَبْنَى الْوَكَالَةِ على الْعُرْفِ عَادَةً وَفِعْلًا أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ الْحِنْثِ يَلْزَمُ بِأَكْلِ الْقَدِيدِ
وَلَوْ اشْتَرَى الْوَكِيلُ الْقَدِيدَ لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ لِانْعِدَامِ الْعَادَةِ بِبَيْعِ الْقَدِيدِ في الْأَسْوَاقِ في الْغَالِبِ وَلَا إلَى شَحْمِ الْبَطْنِ وَالْأَلْيَةِ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِلَحْمٍ
وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ إلية لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَحْمًا لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ اسْمًا وَمَقْصُودًا وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ سَمَكًا بِدِرْهَمٍ
____________________

(6/31)


فَهُوَ على الطَّرِيِّ الْكِبَارِ دُونَ الْمَالِحِ وَالصِّغَارِ لِأَنَّ الْعَادَةَ بشراء ( ( ( شراء ) ) ) الطَّرِيِّ الْكِبَارِ منه دُونَ الْمَالِحِ وَدُونَ الصِّغَارِ
وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ الرَّأْسِ فَهُوَ على النِّيءِ دُونَ الْمَطْبُوخِ وَالْمَشْوِيِّ وهو على رَأْسِ الْغَنَمِ دُونَ الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ إلَّا في مَوْضِعٍ جَرَتْ الْعَادَةُ بِذَلِكَ
وَالْمَذْكُورُ من الْخِلَافِ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَرْجِعُ إلَى اخْتِلَافِ الْعَصْرِ وَالزَّمَانِ دُونَ الْحَقِيقَةِ وَدُونَ رَأْسِ الْعُصْفُورِ وَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ لإنعدام الْعَادَةِ
وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ دُهْنٍ فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ أَيَّ دُهْنٍ شَاءَ وَكَذَا إذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ فَاكِهَةٍ له أَنْ يَشْتَرِيَ أَيَّ فَاكِهَةٍ تُبَاعُ في السُّوقِ عَادَةً
وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ الْبَيْضِ فَهُوَ على بَيْضِ الدَّجَاجِ
وَإِنْ كانت الْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ عليه تَقَعُ على بَيْضِ الطُّيُورِ كُلِّهَا لِمَا ذَكَرْنَا
وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَبَنًا فَهُوَ على ما يُبَاعُ في عَادَةِ الْبَلَدِ في السُّوقِ من الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالْإِبِلِ
وَكَذَا إذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ السَّمْنِ فَإِنْ اسْتَوَيَا فَهُوَ عَلَيْهِمَا جميعا
بِخِلَافِ ما إذَا حَلَفَ لَا يَذُوقُ لَبَنًا إنَّ ذلك يَقَعُ على لَبَنِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالْإِبِلِ لِمَا ذَكَرْنَا من الْعُرْفِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ الْكَبْشِ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَ النَّعْجَةِ حتى لو اشْتَرَى لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ لِأَنَّ الْكَبْشَ اسْمٌ لِلذَّكَرِ وَالنَّعْجَةُ اسْمٌ لِلْأُنْثَى وَكَذَا لو وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَنَاقٍ فَاشْتَرَى جَدْيًا أو شِرَاءِ فَرَسٍ أو بِرْذَوْنٍ فَاشْتَرَى رَمَكَةً لَا يَجُوزُ على الْمُوَكِّلِ وَالْبَقَرُ يَقَعُ على الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَكَذَا الْبَقَرَةُ في رِوَايَةِ الْجَامِعِ قال اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } قِيلَ إنَّهَا كانت ذَكَرًا وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ }
وَإِثَارَةُ الْأَرْضِ عَمَلُ الثِّيرَانِ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أنها تَقَعُ على الْأُنْثَى وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْجَامِعِ لِمَا ذَكَرْنَا وَالدَّجَاجُ يَقَعُ على الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالدَّجَاجَةُ على الْأُنْثَى
وَالْبَعِيرُ على الذَّكَرِ وَالنَّاقَةُ على الْأُنْثَى وَالْبُخْتِيُّ ضَرْبٌ خَاصٌّ من الْإِبِلِ وَالنَّجِيبَةُ ضَرْبٌ مَعْرُوفٌ بِسُرْعَةِ السَّيْرِ وَهِيَ كَالْحِمَارَةِ في عُرْفِ بِلَادِنَا وَلَا يَقَعُ اسْمُ الْبَقَرِ على الْجَامُوسِ وَإِنْ كان من جِنْسِ الْبَقَرِ حتى يَتِمَّ بِهِ نِصَابُ الزَّكَاةِ لِبُعْدِهِ عن أَوْهَامِهِمْ لِقِلَّتِهِ فِيهِمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ فَاشْتَرَى أن فَعَلَهُ بِحَضْرَةِ الْأَوَّلِ أو بِإِجَازَتِهِ أو بِإِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ جَازَ على الْمُوَكِّلِ وَإِلَّا فَلَا إلَّا إذَا كانت الْوَكَالَةُ عَامَّةً على ما مَرَّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ الْوَكِيلَانِ هل يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا وُكِّلَا بِهِ أَمَّا الْوَكِيلَانِ بِالْبَيْعِ فَلَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا التَّصَرُّفَ بِدُونِ صَاحِبِهِ وَلَوْ فَعَلَ لم يَجُزْ حتى يُجِيزَ صَاحِبُهُ أو الْمُوَكِّلُ لِأَنَّ الْبَيْعَ مِمَّا يُحْتَاجُ فيه إلَى الرَّأْيِ وَالْمُوَكِّلُ إنَّمَا رضي بِرَأْيِهِمَا لَا بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا وَاجْتِمَاعُهُمَا على ذلك مُمْكِنٌ فلم يُمْتَثَلْ أَمْرُ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَنْفُذُ عليه وَكَذَا الْوَكِيلَانِ بِالشِّرَاءِ سَوَاءٌ كان الثَّمَنُ مُسَمًّى أو لم يَكُنْ وَسَوَاءٌ كان الْوَكِيلُ الْآخَرُ غَائِبًا أو حَاضِرًا لِمَا ذَكَرْنَا في الْبَيْعِ إلَّا أَنَّ في الشِّرَاءِ إذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِدُونِ صَاحِبِهِ يَنْفُذُ على الْمُشْتَرِي وَلَا يَقِفُ على الْإِجَازَةِ وفي الْبَيْعِ يَقِفُ على الْإِجَازَةِ وقد مَرَّ الْفَرْقُ
وَكَذَلِكَ الْوَكِيلَانِ بِالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ على مَالٍ وَالْعِتْقِ على مَالٍ وَالْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ وَكُلِّ عَقْدٍ فيه بَدَلٌ هو مَالٌ لِأَنَّ كُلَّ ذلك ما ( ( ( مما ) ) ) يَحْتَاجُ إلَى الرَّأْيِ ولم يَرْضَ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا بِانْفِرَادِهِ وَكَذَا ما خَرَجَ مَخْرَجَ التَّمْلِيكِ بِأَنْ قال لِرَجُلَيْنِ جَعَلْتُ أَمْرَ امْرَأَتِي بِيَدِكُمَا أو قال لَهُمَا طَلِّقَا امْرَأَتِي إنْ شِئْتُمَا لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالتَّطْلِيقِ لِأَنَّهُ جَعَلَ أَمْرَ الْيَدِ تَمْلِيكًا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقِفُ على الْمَجْلِسِ وَالتَّمْلِيكَاتُ هِيَ التي تَخْتَصُّ بِالْمَجْلِسِ وَالتَّمْلِيكُ على هذا الْوَجْهِ مَشْرُوطٌ بِالْمَشِيئَةِ كَأَنَّهُ قال طَلِّقَا امْرَأَتِي إنْ شِئْتُمَا وَهُنَاكَ لَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا التَّطْلِيقَ دُونَ صَاحِبِهِ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطَيْنِ لَا يَنْزِلُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِهِمَا فَكَذَا هذا
وَكَذَا الْوَكِيلَانِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا أَنْ يَقْبِضَ دُونَ صَاحِبِهِ لِأَنَّ قَبْضَ الدَّيْنِ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى الرَّأْيِ وَالْأَمَانَةِ وقد فَوَّضَ الرَّأْيَ إلَيْهِمَا جميعا لَا إلَى أَحَدِهِمَا وَرَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا جميعا لَا بِأَمَانَةِ أَحَدِهِمَا فَإِنْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا لم يُبَرِّئْهُ الْغَرِيمُ حتى يَصِلَ ما قَبَضَهُ إلَى صَاحِبِهِ فَيَقَعُ في أَيْدِيهِمَا جميعا أو يَصِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ الْمَقْبُوضُ إلَى صَاحِبِهِ أو إلَى الْمُوَكِّلِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْقَبْضِ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا قَبَضَاهُ جميعا ابْتِدَاءً
وَأَمَّا الْوَكِيلَانِ بِالطَّلَاقِ على غَيْرِ مَالٍ وَالْعِتْقُ على غَيْرِ مَالٍ وَالْوَكِيلَانِ بِتَسْلِيمِ الْهِبَةِ وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ فَيَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا وُكِّلَا بِهِ لِأَنَّ هذه التَّصَرُّفَاتِ مِمَّا لَا تَحْتَاجُ إلَى الرَّأْيِ فَكَانَ إضَافَةُ الوكيل ( ( ( التوكيل ) ) ) إلَيْهِمَا تَفْوِيضًا لِلتَّصَرُّفِ إلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ
وَأَمَّا الْوَكِيلَانِ بِالْخُصُومَةِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَصَرَّفُ بانفرداه ( ( ( بانفراده ) ) ) عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَنْفَرِدُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْخُصُومَةَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى الرَّأْيِ ولم يَرْضَ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا فَلَا يَمْلِكُهَا أَحَدُهُمَا دُونَ صَاحِبِهِ
وَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْغَرَضَ من
____________________

(6/32)


الْخُصُومَةِ إعْلَامُ الْقَاضِي بِمَا يَمْلِكُهُ الْمُخَاصِمُ وَاسْتِمَاعُهُ وَاجْتِمَاعُ الْوَكِيلِينَ على ذلك يُخِلُّ بِالْإِعْلَامِ وَالِاسْتِمَاعِ لِأَنَّ ازْدِحَامَ الْكَلَامِ يُخِلُّ بِالْفَهْمِ فَكَانَ إضَافَةُ التَّوْكِيلِ إلَيْهِمَا تَفْوِيضًا لِلْخُصُومَةِ إلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَيُّهُمَا خَاصَمَ كان تَمْثِيلًا إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا الْقَبْضَ دُونَ صَاحِبِهِ
وَإِنْ كان الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ يَمْلِكُ الْقَبْضَ عِنْدَنَا لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا على الْقَبْضِ مُمْكِنٌ فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِقَبْضِ أَحَدِهِمَا بِانْفِرَادِهِ
وَأَمَّا الْمُضَارِبَانِ فَلَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا التَّصَرُّفَ بِدُونِ إذْنِ صَاحِبِهِ إجْمَاعًا وفي الْوَصِيَّيْنِ خِلَافٌ بين أَصْحَابِنَا نَذْكُرُهُ في كِتَابِ الْوَصِيَّةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
الْوَكِيلُ هل يَمْلِكُ الْحُقُوقَ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمُوَكَّلَ بِهِ نَوْعَانِ نَوْعٌ لَا حُقُوقَ له إلَّا ما أَمَرَ بِهِ الْمُوَكِّلُ كَالْوَكِيلِ بِتَقَاضِي الدَّيْنِ وَالتَّوْكِيلِ بِالْمُلَازَمَةِ وَنَحْوِهِ وَنَوْعٌ له حُقُوقٌ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَنَحْوِهِ
أَمَّا التَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَحُقُوقُهَا تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ فَيُسَلَّمُ الْمَبِيعَ وَيَقْبِضُهُ وَيَقْبِضُ الثَّمَنَ وَيُطَالِبُ بِهِ وَيُخَاصِمُ في الْعَيْبِ وَقْتَ الِاسْتِحْقَاقِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لَا يَحْتَاجُ فيه إلَى إضَافَتِهِ إلَى الْمُوَكِّلِ وَيَكْتَفِي فيه بِالْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ فَحُقُوقُهُ رَاجِعَةٌ إلَى الْعَاقِدِ كَالْبِيَاعَاتِ والإشربة وَالْإِجَارَاتِ وَالصُّلْحِ الذي هو في مَعْنَى الْبَيْعِ فَحُقُوقُ هذه الْعُقُودِ تَرْجِعُ لِلْوَكِيلِ وَعَلَيْهِ وَيَكُونُ الْوَكِيلُ في هذه الْحُقُوقِ كَالْمَالِكِ وَالْمَالِكُ كَالْأَجْنَبِيِّ حتى لَا يَمْلِكَ الْمُوَكِّلُ مُطَالَبَةَ الْمُشْتَرِي من الْوَكِيلِ بِالثَّمَنِ
وَلَوْ طَالَبَهُ فَأَبَى لَا يُجْبَرُ على تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إلَيْهِ وَلَوْ أَمَرَهُ الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مَلَكَ الْمُطَالَبَةَ وَأَيُّهُمَا طَالَبَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ يُجْبَرُ على التَّسْلِيمِ إلَيْهِ وَلَوْ نَهَاهُ الْوَكِيلُ عن قَبْضِ الثَّمَنِ صَحَّ نَهْيُهُ
وَلَوْ نهى الْمُوَكِّلُ الْوَكِيلَ عن قَبْضِ الثَّمَنِ لَا يَعْمَلُ نَهْيُهُ غير أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ إلَى الْمُوَكِّلِ يَبْرَأُ عن الثَّمَنِ اسْتِحْسَانًا وكذ الْوَكِيلُ هو الْمُطَالَبُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إذَا نَقَدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ وَلَا يُطَالِبُ بِهِ الْمُوَكِّلُ
وإذا اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ في يَدِ الْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ على الْوَكِيلِ إنْ كان نَقَدَ الثَّمَنَ إلَيْهِ وَإِنْ كان نَقَدَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عليه وَكَذَا إذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ عَيْبًا له أَنْ يُخَاصِمَ الْوَكِيلَ
وإذا أَثْبَتَ الْعَيْبَ عليه وَرَدَّهُ عليه بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَخَذَ الثَّمَنَ من الْوَكِيلِ إنْ كان نَقَدَهُ الثَّمَنَ وَإِنْ كان نَقَدَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ أَخَذَهُ منه وَكَذَا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ هو الْمُطَالَبُ بِالثَّمَنِ دُونَ الْمُوَكِّلِ وهو الذي يَقْبِضُ الْمَبِيعَ دُونَ الْمُوَكِّلِ وإذا اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ في يَدِهِ فَهُوَ الذي يَتَوَلَّى الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ على بَائِعِهِ دُونَ الْمُوَكِّلِ
وَلَوْ وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا إنْ كان الْمَبِيعُ في يَدِهِ ولم يُسَلِّمْهُ إلَى الْمُوَكِّلِ بَعْدُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ على بَائِعِهِ بِالْعَيْبِ وَإِنْ كان قد سَلَّمَهُ إلَى مُوَكِّلِهِ ليس له أَنْ يَرُدَّهُ عليه إلَّا بِرِضَا مُوَكِّلِهِ
وَكَذَلِكَ هذا في الْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارِ وَأَخَوَاتِهِمَا وَكُلُّ عَقْدٍ يُحْتَاجُ فيه إلَى إضَافَتِهِ إلَى الْمُوَكِّلِ فَحُقُوقُهُ تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ على مَالٍ وَالْعَتَاقِ على مَالٍ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ وَالْكِتَابَةِ وَالصُّلْحِ عن إنْكَارِ المدعي عليه وَنَحْوِهِ فَحُقُوقُ هذه الْعُقُودِ تَكُونُ لِلْمُوَكِّلِ وعليه وَالْوَكِيلُ فيها يَكُونُ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا مَحْضًا حتى أن وَكِيلَ الزَّوْجِ في النِّكَاحِ لَا يُطَالَبُ بِالْمَهْرِ وَإِنَّمَا يُطَالَبُ بِهِ الزَّوْجُ إلَّا إذَا ضَمِنَ الْمَهْرَ فيحنئذ ( ( ( فحينئذ ) ) ) يُطَالَبُ بِهِ لَكِنْ بِحُكْمِ الضَّمَانِ وَوَكِيلُ الْمَرْأَةِ في النِّكَاحِ لَا يَمْلِكُ قَبْضَ الْمَهْرِ
وَكَذَا الْوَكِيلُ بِالْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ لَا يَمْلِكُ قَبْضَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ إنْ كان وَكِيلَ الزَّوْجِ وَإِنْ كان وَكِيلَ الْمَرْأَةِ لَا يُطَالَبُ بِبَدَلِ الْخُلْعِ إلَّا بِالضَّمَانِ وَكَذَا الْوَكِيلُ بِالصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ في الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَأَخَوَاتِهِمَا تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَرْجِعُ شَيْءٌ من الْحُقُوقِ إلَى الْوَكِيلِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْوَكِيلَ مُتَصَرِّفٌ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عن الْمُوَكِّلِ وَتَصَرُّفُ النَّائِبِ تَصَرُّفُ الْمَنُوبِ عنه أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ تَصَرُّفِهِ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ فَكَذَا حُقُوقُهُ لِأَنَّ الْحُقُوقَ تَابِعَةٌ لِلْحُكْمِ وَالْحُكْمُ هو الْمَتْبُوعُ فإن ( ( ( فإذا ) ) ) كان الْأَصْلُ له فَكَذَا التَّابِعُ
وَلَنَا أَنَّ الْوَكِيلَ هو الْعَاقِدُ حَقِيقَةً فَكَانَتْ حُقُوقُ الْعَقْدِ رَاجِعَةً إلَيْهِ كما إذَا تَوَلَّى الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ وَلَا شَكَّ إن الْوَكِيلَ هو الْعَاقِدُ حَقِيقَةً لِأَنَّ عَقْدَهُ كَلَامُهُ الْقَائِمُ بِذَاتِهِ حَقِيقَةً وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فَاعِلًا بِفِعْلِ الْغَيْرِ حَقِيقَةً وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ مُقَرَّرَةٌ بِالشَّرِيعَةِ قال اللَّهُ عز وجل { وَأَنْ ليس لِلْإِنْسَانِ إلَّا ما سَعَى } وقال اللَّه عز شَأْنُهُ { لها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا ما اكْتَسَبَتْ } وكان يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْحُكْمِ له أَيْضًا لِأَنَّ السَّبَبَ وُجِدَ منه حَقِيقَةً وَشَرْعًا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ أَصْلَ الْحُكْمِ لِلْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ إنَّمَا فَعَلَهُ له بِأَمْرِهِ وَإِنَابَتِهِ وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ مُضَافٌ إلَى الْآمِرِ فَتَعَارَضَ الشَّبْهَانِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فَعَمِلْنَا بِشِبْهِ الأمر وَالْإِنَابَةُ بِإِيجَابِ أَصْلِ الْحُكْمِ لِلْمُوَكِّلِ وَنِسْبَةِ الْحَقِيقَةِ الْمُقَرَّرَةِ بِالشَّرِيعَةِ
____________________

(6/33)


بِإِثْبَاتِ تَوَابِعِ الْحُكْمِ لِلْوَكِيلِ تَوْفِيرًا على الشَّبَهَيْنِ حَظُّهُمَا من الْحُكْمِ وَلَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِالْعَكْسِ وهو إثْبَاتُ أَصْلِ الْحُكْمِ لِلْوَكِيلِ وَإِثْبَاتُ التَّوَابِعِ لِلْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الْأَصْلَ في نَفَاذِ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ هو الْوِلَايَةُ لِأَنَّهَا عِلَّةُ نَفَاذِهِ إذا لَا مِلْكَ له وَالْمُوَكِّلُ أَصْلٌ في الْوِلَايَةِ وَالْوَكِيلُ تَابِعٌ له لِأَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةِ نَفْسِهِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ بَلْ بِوِلَايَةٍ مُسْتَفَادَةٍ من قِبَلِ الْمُوَكِّلِ فَكَانَ إثْبَاتُ أَصْلِ الْحُكْمِ لِلْمُوَكِّلِ وَإِثْبَاتُ التَّوَابِعِ لِلْوَكِيلِ وَضْعُ الشَّيْءِ في مَوْضِعِهِ وهو حَدُّ الْحِكْمَةِ وَعَكْسُهُ وَضْعُ الشَّيْءِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ وهو حَدُّ السَّفَهِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَأَخَوَاتِهِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ هُنَاكَ ليس بِنَائِبٍ عن الْمُوَكِّلِ بَلْ هو سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُضِيفُ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ بَلْ إلَى مُوَكِّلِهِ فَانْعَدَمَتْ النِّيَابَةُ فَبَقِيَ سَفِيرًا مَحْضًا فَاعْتُبِرَ الْعَقْدُ مَوْجُودًا من الْمُوَكِّلِ من كل وَجْهٍ فَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَيْهِ ثُمَّ نَقُولُ إنَّمَا تَلْزَمُهُ الْعُهْدَةُ وَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَيْهِ إذَا كان من أَهْلِ الْعُهْدَةِ
فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ بِأَنْ كان صَبِيًّا مَحْجُورًا يَنْفُذُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ وَتَكُونُ الْعُهْدَةُ على الْمُوَكِّلِ لَا عليه لِأَنَّ ذلك من بَابِ التَّبَرُّعِ وَالصَّبِيُّ ليس من أَهْلِ التَّبَرُّعِ لِكَوْنِهِ من التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ فَيَقَعُ مَحْضًا لِحُصُولِ التَّجْرِبَةِ وَالْمُمَارَسَةِ له في التَّصَرُّفَاتِ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي من الْوَكِيلِ الْمَحْجُورِ سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّهُ مَحْجُورٌ أو لم يَعْلَمْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كان عَالِمًا فَلَا خِيَارَ له فَأَمَّا إذَا كان جَاهِلًا فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ وَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الرِّضَا شَرْطُ جَوَازِ التِّجَارَةِ وقد اخْتَلَّ الرِّضَا لِأَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ على الْعَقْدِ على أَنْ تَكُونَ الْعُهْدَةُ على الْعَاقِدِ فإذا تَبَيَّنَ أنها لَيْسَتْ عليه اخْتَلَّ رِضَاهُ فَثَبَتَ له الْخِيَارُ كما إذَا ظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ
وَجْهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْجَهْلَ بِالْحَجْرِ ليس بِعُذْرٍ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ خُصُوصًا في حَقِّ الصَّبِيِّ لِأَنَّ الْأَصْلَ فيه هو الْحَجْرُ وَالْإِذْنُ بعارض ( ( ( يعارض ) ) ) الرُّشْدَ فَكَانَ سَبَبُ الْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ قَائِمًا فَالْجَهْلُ بِهِ لِتَقْصِيرٍ من جِهَتِهِ فَلَا يُعْذَرُ وَيُعْتَبَرُ عَالِمًا وَلَوْ عَلِمَ بِالْحَجْرِ حَقِيقَةً لَمَا ثَبَتَ له الْخِيَارُ كَذَا هذا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
الْوَكِيلُ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْإِيدَاعِ وَالرَّهْنِ وَالْقَرْضِ إذَا فَعَلَ ما أُمِرَ بِهِ وَقَبَضَ لَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِرَدِّ شَيْءٍ من ذلك إلَى يَدِهِ وَلَا أَنْ يَقْبِضَ الْوَدِيعَةَ وَالْعَارِيَّةَ وَالرَّهْنَ وَلَا الْقَرْضَ مِمَّنْ عليه لِأَنَّ الْحُكْمَ في هذه الْعُقُودِ يَقِفُ على الْقَبْضِ وَلَا صُنْعَ لِلْوَكِيلِ في الْقَبْضِ بَلْ هو صُنْعُ الْقَابِضِ في مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى فكان ( ( ( فكانت ) ) ) حُقُوقُ الْعَقْدِ رَاجِعَةً إلَيْهِ وكان الْوَكِيلُ سَفِيرًا عنه بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وأخوانه ( ( ( وأخواته ) ) ) لِأَنَّ الْحُكْمَ فيها لِلْعَقْدِ لَا لِلْقَبْضِ وهو الْعَاقِدُ حَقِيقَةً وَشَرْعًا على ما قَرَّرْنَا فَكَانَتْ الْحُقُوقُ عَائِدَةً إلَيْهِ
وَكَذَا في التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِعَارَةِ وَالِارْتِهَانِ وَالِاسْتِيهَابِ الْحُكْمُ وَالْحُقُوقُ تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ وَكَذَا في التَّوْكِيلِ بِالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ لِمَا قُلْنَا وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ في الْحُقُوقِ لِأَنَّهُ أَصْلٌ في الْحُقُوقِ وَالْمَالِكُ أَجْنَبِيٌّ عنها فَمَلَكَ تَوْكِيلَ غَيْرِهِ فيها
وَمِنْهَا أَنَّ الْمَقْبُوضَ في يَدِ الْوَكِيلِ بِجِهَةِ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَقَبْضِ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ أَمَانَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ لِأَنَّ يَدَهُ نِيَابَةٍ عن الْمُوَكِّلِ بِمَنْزِلَةِ يَدِ الْمُودِعِ فَيَضْمَنُ بِمَا يَضْمَنُ في الْوَدَائِعِ وَيَبْرَأُ بِمَا يَبْرَأُ فيها وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ في دَفْعِ الضَّمَانِ عن نَفْسِهِ
وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا وقال اقْضِهِ فُلَانًا عن دَيْنِي فقال الْوَكِيلُ قد قَضَيْتُ صَاحِبَ الدَّيْنِ فَادْفَعْهُ إلَيَّ وَكَذَّبَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ في بَرَاءَةِ نَفْسِهِ عن الضَّمَانِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ في أَنَّهُ لم يَقْبِضْهُ حتى لَا يَسْقُطَ دَيْنُهُ عن الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَمِينٌ فَيُصَدَّقُ في دفعه ( ( ( دفع ) ) ) الضَّمَانِ عن نَفْسِهِ وَلَا يُصَدَّقُ على الْغَرِيمِ في إبْطَالِ حَقِّهِ وَتَجِبُ الْيَمِينُ على أَحَدِهِمَا لَا عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُوَكِّلِ من تَصْدِيقِ أَحَدِهِمَا وَتَكْذِيبِ الْآخَرِ فَيَحْلِفُ الْمُكَذَّبُ مِنْهُمَا دُونَ الْمُصَدَّقِ فَإِنْ صُدِّقَ الْوَكِيلُ في الدَّفْعِ يَحْلِفُ الطَّالِبُ بِاَللَّهِ عز وجل ما قَبَضَهُ فَإِنْ حَلَفَ لم يَظْهَرْ قَبْضُهُ ولم يَسْقُطْ دَيْنُهُ وَإِنْ نَكَلَ ظَهَرَ قَبْضُهُ وَسَقَطَ دَيْنُهُ عن الْمُوَكِّلِ
وَإِنْ صُدِّقَ الطَّالِبُ أَنَّهُ لم يَقْبِضْهُ وَكُذِّبَ الْوَكِيلُ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لقد دَفَعَهُ إلَيْهِ فَإِنْ حَلَفَ بريء وَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ ما دَفَعَ إلَيْهِ
وَكَذَلِكَ لو أَوْدَعَ مَالَهُ رَجُلًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى فُلَانٍ فقال الْمُودَعُ دَفَعْتُ وَكَذَّبَهُ فُلَانٌ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا وَلَوْ دَفَعَ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ إلَى رَجُلٍ وَادَّعَى أَنَّهُ قد دَفَعَهَا إلَيْهِ بِأَمْرِ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ وَأَنْكَرَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ الْأَمْرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مع يَمِينِهِ أَنَّهُ لم يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمُودِعَ يَدَّعِي عليه الْأَمْرَ وهو يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مع يَمِينِهِ
وَلَوْ كان الْمَالُ مَضْمُونًا على رَجُلٍ كَالْمَغْصُوبِ في يَدِ الْغَاصِبِ أو الدَّيْنِ على الْغَرِيمِ فَأَمَرَ الطَّالِبُ أو الْمَغْصُوبُ منه أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى فُلَانٍ فقال الْمَأْمُورُ قد دَفَعْتُ إلَيْهِ وقال فُلَانٌ ما قَبَضْتُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ
____________________

(6/34)


فُلَانٍ أَنَّهُ لم يَقْبِضْ وَلَا يُصَدَّقُ الْوَكِيلُ على الدَّفْعِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ أو بِتَصْدِيقِ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الضَّمَانَ قد وَجَبَ عليه وهو يَدَّعِي الدَّفْعَ إلَى فُلَانٍ يُرِيدُ إبْرَاءَ نَفْسِهِ عن الضَّمَانِ الْوَاجِبِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ أو بِتَصْدِيقِ الْمُوَكِّلِ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ يَبْرَأُ أَيْضًا لِأَنَّهُ إذَا صَدَّقَهُ فَقَدْ أَبْرَأَهُ عن الضَّمَانِ وَلَكِنَّهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ على الْقَابِضِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ أَنَّهُ لم يَقْبِضْهُ مع يَمِينِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا حُجَّةٌ في حَقِّ أَنْفُسِهِمَا لَا في إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ مع يَمِينِ الطَّالِبِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلْقَبْضِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مع يَمِينِهِ
وَلَوْ كَذَّبَهُ الْمُوَكِّلُ في الدَّفْعِ وَطَلَبَ الْوَكِيلُ يَمِينَهُ فإنه يَحْلِفُ على الْعِلْمِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ما يَعْلَمُ أَنَّهُ دَفَعَ فَإِنْ حَلَفَ أُخِذَ منه الضَّمَانُ
وَإِنْ نَكَلَ سَقَطَ الضَّمَانُ عنه وَلَوْ أَنَّ الْوَكِيلَ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ الْمَالُ قَضَى الدَّيْنَ من مَالِ نَفْسِهِ وَأَمْسَكَ ما دَفَعَ إلَيْهِ الْمُوَكِّلُ جَازَ لِأَنَّهُ لو لم يَدْفَعْ إلَيْهِ الدَّرَاهِمَ أَصْلًا وَقَضَى الْوَكِيلُ من مَالِ نَفْسِهِ جَازَ على الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ في الْحَقِيقَةِ وَكِيلٌ بِشِرَاءِ الدَّيْنِ من الطَّالِبِ وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ من مَالِ نَفْسِهِ جَازَ فَهَذَا أَوْلَى وَلَوْ لم يَدْفَعْ إلَيْهِ شيئا وَلَكِنَّهُ أَمَرَهُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ
فقال الْوَكِيلُ قَضَيْتُهُ وَكَذَّبَهُ الطَّالِبُ وَالْمُوَكِّلُ فَأَقَامَ الْوَكِيلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قد قَضَى صَاحِبَ الدَّيْنِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وبرىء الْمُوَكِّلُ من الدَّيْنِ وَيَرْجِعُ الْوَكِيلُ على الْمُوَكِّلِ بِمَا قَضَى عنه لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ حِسًّا وَمُشَاهَدَةً
وقد ثَبَتَ قَضَاءُ الدَّيْنِ بِالْبَيِّنَةِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَلَوْ لم تَكُنْ له بَيِّنَةٌ وَكَذَّبَهُ الطَّالِبُ وَالْمُوَكِّلُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا مع الْيَمِينِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِدَعْوَى الْقَبْضِ يُرِيدُ إيجَابَ الضَّمَانِ على الطَّالِبِ لِأَنَّهُ يُرِيدُ إسْقَاطَ الدَّيْنِ عن الْمُوَكِّلِ وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ وهو أَنْ يَصِيرَ الْمَقْبُوضُ مَضْمُونًا على الْقَابِضِ الطَّالِبِ دَيْنًا عليه وَلَهُ على الْمُوَكِّلِ دَيْنٌ مِثْلُهُ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا وَالطَّالِبُ مُنْكِرٌ
وَكَذَا الْمُوَكِّلُ مُنْكِرٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عليه فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمَا مع الْيَمِينِ أو يُقَالُ إنَّ الْوَكِيلَ بِقَوْلِهِ قَضَيْتُ يَدَّعِي على الطَّالِبِ بَيْعَ دَيْنِهِ من الْغَرِيمِ وَعَلَى الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ منه وَهُمَا مُنْكِرَانِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمَا مع الْيَمِينِ وَيَحْلِفُ الْمُوَكِّلُ على الْعِلْمِ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ على فِعْلِ غَيْرِهِ وهو قَبْضُ الطَّالِبِ
وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ في الْقَضَاءِ وَكَذَّبَهُ الطَّالِبُ يُصَدَّقُ على الْمُوَكِّلِ دُونَ الطَّالِبِ حتى يَرْجِعَ على الْمُوَكِّلِ بِمَا قَضَى وَيَغْرَمَ أَلْفًا أُخْرَى لِلطَّالِبِ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ صَدَّقَهُ في دَعْوَى الْقَضَاءِ عنه بِأَمْرِهِ وهو مُصَدَّقٌ على نَفْسِهِ في تَصْدِيقِهِ فَثَبَتَ الْقَضَاءُ في حَقِّهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ هَكَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَرْجِعُ على الْمُوَكِّلِ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ لِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ يَعْتَمِدُ وُجُودَ الْقَضَاءِ ولم يُوجَدْ لِأَنَّ الطَّالِبَ مُنْكِرٌ إلَّا أَنَّا نَقُولُ إنْكَارُ الطَّالِبِ يَمْنَعُ وُجُودَ الْقَضَاءِ في حَقِّهِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ ما لَا يُمْنَعُ وُجُودُهُ في حَقِّ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ وَإِقْرَارُ كل مُقِرٍّ حُجَّةٌ في حَقِّهِ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَشْبَهَ
وَلَوْ دَفَعَ إلَى إنْسَانٍ مَالًا لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ فَقَضَاهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ قَضَاهُ الْوَكِيلُ فَإِنْ كان الْوَكِيلُ لم يَعْلَمْ بِمَا فَعَلَهُ الْمُوَكِّلُ فَلَا ضَمَانَ على الْوَكِيلِ وَيَرْجِعُ الْمُوَكِّلُ على الطَّالِبِ بِمَا قَبَضَ من الْوَكِيلِ وَإِنْ عَلِمَ بِأَنَّ الْمُوَكِّلَ قد قَضَاهُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمَّا قَضَاهُ بِنَفْسِهِ فَقَدْ عَزَلَ الْوَكِيلَ إلَّا أَنَّ عَزْلَ الْوَكِيلِ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ فإذا عَلِمَ بِفِعْلِ الْمُوَكِّلِ فَقَدْ عَلِمَ بِالْعَزْلِ فَصَارَ مُتَعَدِّيًا في الدَّفْعِ فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ وإذا لم يَعْلَمْ فلم يُوجَدْ منه التَّعَدِّي فَلَا ضَمَانَ عليه وَلَيْسَ هذا كَالْوَكِيلِ يدفع ( ( ( بدفع ) ) ) الزَّكَاةِ إذَا أَدَّى الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ أَدَّى الْوَكِيلُ أَنَّهُ يَضْمَنُ الْوَكِيلُ عَلِمَ بِأَدَاءِ الْمُوَكِّلِ أو لم يَعْلَمْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ هو إسْقَاطُ الْفَرْضِ بِتَمْلِيكِ الْمَالِ من الْفَقِيرِ ولم يُوجَدْ ذلك من الْوَكِيلِ لِحُصُولِهِ من الْمُوَكِّلِ فَبَقِيَ الدَّفْعُ من الْوَكِيلِ تَعَدِّيًا مَحْضًا فَكَانَ مَضْمُونًا عليه
فَأَمَّا قَضَاءُ الدَّيْنِ فَعِبَارَةٌ عن أَدَاءِ مَالٍ مَضْمُونٍ على الْقَابِضِ على ما ذَكَرْنَا وَالْمَدْفُوعُ إلَى الطَّالِبِ مَقْبُوضٌ عنه وَالْمَقْبُوضُ بِجِهَةِ الضَّمَانِ مَضْمُونٌ كَالْمَقْبُوضِ على سَوْمِ الشِّرَاءِ لِكَوْنِهِ مَقْبُوضًا بِجِهَةِ الْقَضَاءِ وَالْمَقْبُوضُ بِجِهَةِ الْقَضَاءِ مَضْمُونٌ على الْقَابِضِ وَيُقَالُ إنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ عِبَارَةٌ عن نَوْعِ مُعَاوَضَةٍ وهو نَوْعُ شِرَاءِ الدَّيْنِ بِالْمَالِ وَالْمَقْبُوضُ من الْوَكِيلِ مَقْبُوضٌ بِجِهَةِ الشِّرَاءِ مَضْمُونٌ على الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ ما إذَا دَفَعَهُ على عِلْمِهِ بِدَفْعِ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يُوجَدْ الْقَبْضُ بِجِهَةِ الضَّمَانِ لِانْعِدَامِ الْقَبْضِ بِجِهَةِ الْقَضَاءِ فَبَقِيَ تَعَدِّيًا فَيَجِبُ عليه ضَمَانُ التَّعَدِّي وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ في أَنَّهُ لم يَعْلَمْ بِدَفْعِ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْأَمِينِ في دَفْعِ الضَّمَانِ عن نَفْسِهِ لَكِنْ مع الْيَمِينِ
وَعَلَى هذا إذَا مَاتَ الْمُوَكِّلُ ولم يَعْلَمْ الْوَكِيلُ بِمَوْتِهِ حتى قَضَى الدَّيْنَ لَا ضَمَانَ عليه وإذا كان عَالِمًا بِمَوْتِهِ ضَمِنَ لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ عَزّ وجل أَعْلَمُ
الْوَكِيلُ بِبَيْعِ الْعَبْدِ إذَا قال بِعْتُ
____________________

(6/35)


وَقَبَضْتُ الثَّمَنَ وَهَلَكَ هذا على وَجْهَيْنِ أَمَّا إنْ كان الْمُوَكِّلُ سَلَّمَ الْعَبْدَ إلَى الْوَكِيلِ أو كان لم يُسَلِّمْ إلَيْهِ فَإِنْ لم يَكُنْ سَلَّمَ الْعَبْدَ إلَيْهِ فقال الْوَكِيلُ بِعْتُهُ من هذا الرَّجُلِ وَقَبَضْتُ منه الثَّمَنَ وَهَلَكَ الثَّمَنُ في يَدِي أو قال دَفَعْتُهُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إن صَدَّقَهُ في ذلك أو كَذَّبَهُ فَإِنْ كَذَّبَهُ بِالْبَيْعِ أو صَدَّقَهُ بِالْبَيْعِ وَكَذَّبَهُ في قَبْضِ الثَّمَنِ أو صَدَّقَهُ فِيهِمَا وَكَذَّبَهُ في الْهَلَاكِ فَإِنْ صَدَّقَهُ في ذلك كُلِّهِ يَهْلِكُ الثَّمَنُ من مَالِ الْمُوَكِّلِ وَلَا شَيْءَ على الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ يَهْلِكُ أَمَانَةً في يَدِهِ وَإِنْ كَذَّبَهُ في ذلك كُلِّهِ بِأَنْ كَذَّبَهُ بِالْبَيْعِ أو صَدَّقَهُ بِالْبَيْعِ وَكَذَّبَهُ في قَبْضِ الثَّمَنِ فإن الْوَكِيلَ يُصَدَّقُ في الْبَيْعِ وَلَا يُصَدَّقُ في قَبْضِ الثَّمَنِ في حَقِّ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ إقْرَارَ الْوَكِيلِ في حَقِّ نَفْسِهِ جَائِزٌ عليه وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَدَ الثَّمَنَ ثَانِيًا إلَى الْمُوَكِّلِ وَأَخَذَ منه الْمَبِيعَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ في الْحَالَيْنِ جميعا على الْوَكِيلِ بِمَا نَقَدَهُ كَذَا وَلَوْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ وَزَعَمَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَبَضَ من الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ وَأَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ ذلك فإن الْوَكِيلَ يُصَدَّقُ في الْبَيْعِ وَلَا يُصَدَّقُ في إقْرَارِهِ على الْمُوَكِّلِ بِالْقَبْضِ لِمَا ذَكَرْنَا وَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي على ما ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّ هُنَاكَ لَا يَرْجِعُ على الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه الْإِقْرَارُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ في الْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ وَكَذَّبَهُ في الْهَلَاكِ أو الدَّفْعِ إلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ في دَعْوَى الْهَلَاكِ أو الدَّفْعِ إلَيْهِ مع يَمِينِهِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَيُجْبَرُ الْمُوَكِّلُ على تَسْلِيمِ الْعَبْدِ إلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ ثَبَتَ الْبَيْعُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ بِتَصْدِيقِهِ إيَّاهُ وَلَا يُؤْمَرُ الْمُشْتَرِي بِنَقْدِ الثَّمَنِ ثَانِيًا إلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ وُصُولُ الثَّمَنِ إلَى يَدِ وَكِيلِهِ بِتَصْدِيقِهِ وَوُصُولُ الثَّمَنِ إلَى يَدِ وَكِيلِهِ كَوُصُولِهِ إلَى يَدِهِ
هذا إذَا لم يَكُنْ الْعَبْدُ مُسَلَّمًا إلَى الْوَكِيلِ فَأَمَّا إذَا كان مُسَلَّمًا إلَيْهِ فقال الْوَكِيلُ بِعْتُهُ من هذا الرَّجُلِ وَقَبَضْتُ منه الثَّمَنَ فَهَلَكَ عِنْدِي أو قال دَفَعْتُهُ إلَى الْمُوَكِّلِ أو قال قَبَضَ الْمُوَكِّلُ الثَّمَنَ من الْمُشْتَرِي فإن الْوَكِيلَ يُصَدَّقُ في ذلك كُلِّهِ وَيُسَلَّمُ الْعَبْدُ إلَى الْمُشْتَرِي وَيَبْرَأُ الْمُشْتَرِي من الثَّمَنِ وَلَا يَمِينَ عليه
أَمَّا إذَا صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ في ذلك كُلِّهِ فَلَا يُشْكَلُ وَكَذَا إذَا كَذَّبَهُ في الْبَيْعِ أو صَدَّقَهُ فيه وَكَذَّبَهُ في قَبْضِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَقَرَّ بِبَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي عن الثَّمَنِ فَلَا يَحْلِفُ وَيَحْلِفُ الْوَكِيلُ فَإِنْ حَلَفَ على ما يَدَّعِيهِ بريء من الثَّمَنِ وَإِنْ نَكَلَ عن الْيَمِينِ لَزِمَهُ ضَمَانُ الثَّمَنِ لِلْمُوَكِّلِ فَإِنْ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ بَعْدَ ذلك من يَدِ الْمُشْتَرِي فإنه يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ على الْوَكِيلِ إذَا أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ منه وَالْوَكِيلُ لَا يَرْجِعُ على الْمُوَكِّلِ بِمَا ضَمِنَ من الثَّمَنِ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لم يُصَدِّقْهُ على قَبْضِ الثَّمَنِ فَإِقْرَارُ الْوَكِيلِ في حَقِّهِ جَائِزٌ وَلَا يَجُوزُ في حق ( ( ( حقه ) ) ) الرُّجُوعُ على الْمُوَكِّلِ وَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُوَكِّلَ على الْعِلْمِ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ فَإِنْ نَكَلَ رَجَعَ عليه بِمَا ضَمِنَ
وَلَوْ أَقَرَّ الْمُوَكِّلُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ الثَّمَنَ لَكِنَّهُ كَذَّبَهُ في الْهَلَاكِ أو الدَّفْعِ إلَيْهِ فإن الْوَكِيلَ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عليه لِأَنَّ يَدَ وَكِيلِهِ كَيَدِهِ وَلَوْ كان الْوَكِيلُ لم يُقِرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَبَضَهُ من الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي على الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ لم يَقْبِضْ منه الثَّمَنَ وَلَا يَرْجِعُ على الْمُوَكِّلِ أَيْضًا لِأَنَّ إقْرَارَهُمَا على الْمُوَكِّلِ لَا يَجُوزُ وَلَوْ لم يَسْتَحِقَّ الْمَبِيعَ وَلَكِنَّهُ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا كان له أَنْ يُخَاصِمَ الْوَكِيلَ فإذا رَدَّ عليه بِقَضَاءِ الْقَاضِي رَجَعَ عليه بِالثَّمَنِ إنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ منه وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَرْجِعَ على الْمُوَكِّلِ بِمَا ضَمِنَ إذَا أَقَرَّ الْمُوَكِّلُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ الثَّمَنَ وَيَكُونُ الْمَبِيعُ لِلْمُوَكِّلِ وَإِنْ لم يُقِرَّ الْمُوَكِّلُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ الثَّمَنَ لَا يَرْجِعُ الْوَكِيلُ بِمَا ضَمِنَ على الْمُوَكِّلِ وَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُوَكِّلَ على الْعِلْمِ بِقَبْضِهِ فَإِنْ نَكَلَ رَجَعَ عليه وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْجِعُ وَلَكِنَّهُ يَبِيعُ الْعَبْدَ فَيَسْتَوْفِي ما ضَمِنَ من ثَمَنِ الْعَبْدِ فَإِنْ كان فيه فَضْلٌ رَدَّهُ على الْمُوَكِّلِ وَإِنْ كان فيه نُقْصَانٌ فَلَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ على أَحَدٍ
وَلَوْ كان الْوَكِيلُ لم يُقِرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ بِقَبْضِ الْمُوَكِّلِ لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ على الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ لم يَدْفَعْهُ إلَيْهِ وَلَا يَرْجِعُ على الْمُوَكِّلِ أَيْضًا لِأَنَّهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ عليه بِالْقَبْضِ وَعَلَى الْمُوَكِّلِ الْيَمِينُ على الْبَتَاتِ فَإِنْ نَكَلَ رَجَعَ عليه وَالْمَبِيعُ له
وَإِنَّ حَلَفَ لَا يَرْجِعُ عليه بِشَيْءٍ وَلَكِنَّ الْمَبِيعَ يُبَاعُ عليه
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْوَكِيلَ يَبِيعُهُ في قَوْلِهِمَا وفي قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَبِيعُهُ وَجَعَلَ هذا كَبَيْعِ مَالِ الْمَدْيُونِ الْمُفْلِسِ وَلَكِنَّ الْوَكِيلَ لو بَاعَهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا رُدَّ عليه فَسْخًا عَادَتْ الْوَكَالَةُ فإذا بِيعَ الْعَبْدُ يَسْتَوْفِي الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ منه إنْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الْمُوَكِّلِ ولم يُقِرَّ بِقَبْضِ نَفْسِهِ
وَإِنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ وَضَمِنَ الْمُشْتَرِي يَأْخُذُ من الثَّمَنِ مِقْدَارَ ما غَرِمَ فَإِنْ كان فيه فَضْلٌ رَدَّهُ على الْمُوَكِّلِ وَإِنْ كان فيه نُقْصَانٌ لَا يَرْجِعُ على أَحَدٍ
وَمِنْهَا أَنَّ الْوَكِيلَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ إذَا لم يَدْفَعْ الْمُوَكِّلُ إلَيْهِ مَالًا لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ منه فَقَضَاهُ من
____________________

(6/36)


مَالِ نَفْسِهِ يَرْجِعُ بِمَا قَضَى على الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الْآمِرَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ من مَالِ غَيْرِهِ اسْتِقْرَاضٌ منه وَالْمُقْرِضُ يَرْجِعُ على الْمُسْتَقْرِضِ بِمَا أَقْرَضَهُ
وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ من غَيْرِ دَفْعِ الثَّمَنِ إلَى الْوَكِيلِ تَوْكِيلٌ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وهو الثَّمَنُ وَالْوَكِيلُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ إذَا قَضَى من مَالِ نَفْسِهِ يَرْجِعُ على الْمُوَكِّلِ فَكَذَا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ من الْمُوَكِّلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ ليس له حَبْسُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْمَبِيعَ أَمَانَةٌ في يَدِ الْوَكِيلِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو هَلَكَ في يَدِهِ فَالْهَلَاكُ على الْمُوَكِّلِ حتى لَا يَسْقُطَ الثَّمَنُ عنه وَلَيْسَ لِلْأَمِينِ حَبْسُ الْأَمَانَةِ بَعْدَ طَلَبِ أَهْلِهَا قال اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } فَصَارَ كَالْوَدِيعَةِ
وَلَنَا أَنَّهُ عَاقِدٌ وَجَبَ الثَّمَنُ له على من وَقَعَ له حُكْمُ الْبَيْعِ ضَمَانًا لِلْمَبِيعِ فَكَانَ له حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ كَالْبَائِعِ مع الْمُشْتَرِي
وإذا طَلَبَ منه الْمُوَكِّلُ فَحَبَسَهُ حتى هَلَكَ كان مَضْمُونًا عليه بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ
قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَكُونُ مَضْمُونًا ضَمَانَ الْبَيْعِ
وقال أبو يُوسُفَ يَكُونُ مَضْمُونًا ضَمَانَ الرَّهْنِ
وقال زُفَرُ يَكُونُ مَضْمُونًا ضَمَانَ الْغَصْبِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَبِيعَ أَمَانَةٌ في يَدِهِ وَالْأَمِينُ لَا يَمْلِكُ حَبْسَ الْأَمَانَةِ عن صَاحِبِهَا فإذا حَبَسَهَا فَقَدْ صَارَ غَاصِبًا وَالْمَغْصُوبُ مَضْمُونٌ بِقَدْرِهِ من الْمِثْلِ أو بِالْقِيمَةِ بَالِغًا ما بَلَغَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ إن هذه عَيْنٌ مَحْبُوسَةٌ بِدَيْنٍ يَسْقُطُ بِهَلَاكِهَا فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْأَقَلِّ من قِيمَتِهَا وَمِنْ الدَّيْنِ كَالرَّهْنِ
وَجْهٌ قَوْلُهُمَا إن هذه عَيْنٌ مَحْبُوسَةٌ بِدَيْنٍ هو ثَمَنٌ فَكَانَتْ مَضْمُونَةً ضَمَانَ الْبَيْعِ كَالْمَبِيعِ في يَدِ الْبَائِعِ وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ وسلم وَقَبَضَ الثَّمَنَ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ في يَدِ الْمُشْتَرِي فإنه يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ على الْوَكِيلِ فَيَأْخُذُ عَيْنَهُ إنْ كان قَائِمًا
وَمِثْلَهُ أو قِيمَتَهُ إنْ كان هَالِكًا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عن الْوَكَالَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْوَكِيلُ يَخْرُجُ عن الْوَكَالَةِ بِأَشْيَاءَ منها عَزْلُ الْمُوَكِّلِ إيَّاهُ وَنَهْيُهُ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ بِالْعَزْلِ وَالنَّهْيِ وَلِصِحَّةِ الْعَزْلِ شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا عِلْمُ الْوَكِيلِ بِهِ لِأَنَّ الْعَزْلَ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ فَلَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ كَالْفَسْخِ فإذا عَزَلَهُ وهو حَاضِرٌ انْعَزَلَ وَكَذَا لو كان غَائِبًا فَكَتَبَ إلَيْهِ كِتَابَ الْعَزْلِ فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ وَعَلِمَ بِمَا فيه انْعَزَلَ لِأَنَّ الْكِتَابَ من الْغَائِبِ كَالْخِطَابِ من الْحَاضِرِ
وَكَذَلِكَ لو أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ وقال إنَّ فُلَانًا أَرْسَلَنِي إلَيْكَ وَيَقُولُ إنِّي عَزَلْتُكَ عن الْوَكَالَةِ فإنه يَنْعَزِلُ كَائِنًا ما كان الرَّسُولُ عَدْلًا كان أو غير عَدْلٍ حُرًّا كان أو عَبْدًا صَغِيرًا كان أو كَبِيرًا بَعْدَ أَنْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ على الْوَجْهِ الذي ذَكَرْنَا لِأَنَّ الرَّسُولَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْسِلِ مُعَبِّرٌ وَسَفِيرٌ عنه فَتَصِحُّ سِفَارَتُهُ بَعْدَ أَنْ صَحَّتْ عِبَارَتُهُ على أَيِّ صِفَةٍ كان وَإِنْ لم يَكْتُبْ كِتَابًا وَلَا أَرْسَلَ رَسُولًا وَلَكِنْ أخبره بِالْعَزْلِ رَجُلَانِ عَدْلَانِ كَانَا أو غير عَدْلَيْنِ أو رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ يَنْعَزِلُ في قَوْلِهِمْ جميعا سَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْوَكِيلُ أو لم يُصَدِّقْهُ إذَا ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ في الْمُعَامَلَاتِ فَإِنْ لم يَكُنْ عَدْلًا فَخَبَرُ الْعَدْلَيْنِ أو الْعَدْلِ أَوْلَى وَإِنْ أخبره وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ يَنْعَزِلُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَذَّبَهُ لَا يَنْعَزِلُ وَإِنْ ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَنْعَزِلُ إذَا ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ وَإِنْ كَذَّبَهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الأخبار عن الْعَزْلِ من بَابِ الْمُعَامَلَاتِ فَلَا يُشْتَرَطُ فيه الْعَدَدُ وَلَا الْعَدَالَةُ كما في الأخبار في سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الأخبار عن الْعَزْلِ له شِبْهُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ فيه الْتِزَامَ حُكْمِ الْمُخْبَرِ بِهِ وهو الْعَزْلُ وهو لُزُومُ الِامْتِنَاعِ من التَّصَرُّفِ وَلُزُومُ الْعُهْدَةِ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فيه بَعْدَ الْعَزْلِ فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ أَحَدِ شُرُوطِهَا وهو الْعَدَالَةُ أو الْعَدَدُ
وَعَلَى هذا الِاخْتِلَافِ الشَّفِيعُ إذَا أخبره بِالْبَيْعِ وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ فلم يُصَدِّقْهُ ولم يَطْلُبْ الشُّفْعَةَ حتى ظَهَرَ عِنْدَهُ صِدْقُ الْخَبَرِ فَهُوَ على شُفْعَتِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ
وَعَلَى هذا الِاخْتِلَافِ إذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً في بَنِي آدَمَ ثُمَّ أَخْبَرَ وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ مَوْلَاهُ إن عَبْدَهُ قد جَنَى فلم يُصَدِّقْهُ حتى أَعْتَقَهُ لَا يَصِيرُ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ
وَعَلَى هذا الِاخْتِلَافِ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إذَا بَلَغَهُ حَجْرُ الْمَوْلَى من غَيْرِ عَدْلٍ فلم يُصَدِّقْهُ لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ مَحْجُورًا وَإِنْ عَزَلَهُ الْمُوَكِّلُ وَأَشْهَدَ على عَزْلِهِ وهو غَائِبٌ ولم يُخْبِرْهُ بِالْعَزْلِ أَحَدٌ لَا يَنْعَزِلُ وَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ قبل الْعِلْمِ بَعْدَ الْعَزْلِ كَتَصَرُّفِهِ قبل الْعَزْلِ في جَمِيعِ الْأَحْكَامِ التي بَيَّنَّاهَا
وَعَنْ أبي يُوسُفَ في الْمُوَكِّلِ إذَا عَزَلَ الْوَكِيلَ ولم يَعْلَمْ بِهِ فَبَاعَ الْوَكِيلُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَهَلَكَ الثَّمَنُ في يَدِ الْوَكِيلِ وَمَاتَ
____________________

(6/37)


الْعَبْدُ قبل التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي كان لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمْنِ على الْوَكِيلِ وَيَرْجِعَ الْوَكِيلُ على الْمُوَكِّلِ كما قبل الْعَزْلِ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْعَزْلَ لم يَصِحَّ لِانْعِدَامِ شَرْطِ صِحَّتِهِ وهو الْعِلْمُ
وَالثَّانِي أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِالْوَكَالَةِ حَقُّ الْغَيْرِ فَأَمَّا إذَا تَعَلَّقَ بها حَقُّ الْغَيْرِ فَلَا يَصِحُّ الْعَزْلُ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ لِأَنَّ في الْعَزْلِ إبْطَالَ حَقِّهِ من غَيْرِ رِضَاهُ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ وهو كَمَنْ رَهَنَ مَالَهُ عِنْدَ رَجُلٍ بِدَيْنٍ له عليه أو وَضَعَهُ على يَدَيْ عَدْلٍ وَجَعَلَ الْمُرْتَهَنَ أو الْعَدْلَ مُسَلَّطًا على بَيْعِهِ وَقَبْضِ ثَمَنِهِ عِنْدَ حِلِّ الْأَجَلِ فَعَزَلَ الرَّاهِنُ الْمُسَلَّطَ على الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ بِهِ عَزْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا
وَكَذَلِكَ إذَا وَكَّلَ المدعي عليه وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ مع الْمُدَّعِي بِالْتِمَاسِ الْمُدَّعِي فَعَزَلَهُ المدعي عليه بِغَيْرِ حَضْرَةِ الْمُدَّعِي لَا يَنْعَزِلُ لِمَا ذَكَرْنَا
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ إنْ غَابَ ثُمَّ عَزَلَهُ الزَّوْجُ من غَيْرِ حَضْرَةِ الْمَرْأَةِ ثُمَّ غَابَ
قال بَعْضُهُمْ لَا يَصِحُّ عَزْلُهُ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَذِهِ الْوَكَالَةِ حَقُّ الْمَرْأَةِ فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ
وقال بَعْضُهُمْ يَصِحُّ عَزْلُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَجْبُورٍ على الطَّلَاقِ وَلَا على التَّوْكِيلِ بِهِ وَإِنَّمَا فَعَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَيَمْلِكُ عَزْلَهُ كما في سَائِرِ الْوَكَالَاتِ
وَلَوْ وَكَّلَ وَكَالَةً غَيْرُ جَائِزٍ الرُّجُوعُ يَعْنِي بِالْفَارِسِيَّةِ وَكِيلِي ( دمار كست ) هل يَمْلِكُ عَزْلَهُ
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ قال بَعْضُهُمْ إنْ كان ذلك في الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَا يَمْلِكُ لِأَنَّهُ لَمَّا وَكَّلَهُ وَكَالَةً ثَابِتَةً غَيْرُ جَائِزٍ الرُّجُوعُ عنها فَقَدْ أَلْحَقَ حُكْمَ هذا التَّوْكِيلِ بِالْأَمْرِ ثُمَّ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ إلَى رَجُلٍ يُطَلِّقُهَا مَتَى شَاءَ أو أَمْرَ عَبْدِهِ إلَى رَجُلٍ يُعْتِقُهُ مَتَى شَاءَ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عنه
وَكَذَا إذَا قال لِرَجُلٍ طَلِّقْ امْرَأَتِي إنْ شِئْتَ أو أَعْتِقْ عَبْدِي إنْ شِئْتَ لَا يَمْلِكُ عَزْلَهُ كَذَا هذا وَإِنْ كان في الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِ يَمْلِكُ عَزْلَهُ وقال بَعْضُهُمْ إنَّهُ يَمْلِكُ الْعَزْلَ في الْكُلِّ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ بَلْ هِيَ إبَاحَةٌ وَلِلْمُبِيحِ حَقُّ الْمَنْعِ عن الْمُبَاحِ
وَلَوْ قال وَقْتَ التَّوْكِيلِ كُلَّمَا عَزَلْتُكَ فَأَنْتَ وَكِيلِي وَكَالَةً مُسْتَقْبَلَةً فَعَزَلَهُ يَنْعَزِلُ وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ وَكِيلًا ثَانِيًا وَكَالَةً مُسْتَقْبَلَةً كما شَرَطَ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ جَائِزٌ
وَلَوْ قال الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ كنت وَكَّلْتُكَ وَقُلْتُ لك كُلَّمَا عَزَلْتُكَ فإنت وَكِيلِي فيه وقد عَزَلْتُكَ عن ذلك كُلِّهِ لَا يَصِيرُ وَكِيلًا بَعْدَ ذلك إلَّا بِتَوْكِيلٍ جَدِيدٍ لِأَنَّ من عَلَّقَ التَّوْكِيلَ بِشَرْطٍ ثُمَّ عَزَلَهُ عن الْوَكَالَةِ قبل وُجُودِ الشَّرْطِ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ وَلَا يَصِيرُ وَكِيلًا بَعْدَ ذلك بِوُجُودِ الشَّرْطِ
وقال بَعْضُهُمْ في التَّوْكِيلِ الْمُعَلَّقِ لَا يَمْلِكُ الْعَزْلَ قبل وُجُودِ الشَّرْطِ وَيَكُونُ الْوَكِيلُ على وَكَالَتِهِ بَعْدَ الْعَزْلِ وَكَالَةً مُسْتَقْبَلَةً وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْعَزْلَ في الْمُرْسَلِ فَفِي الْمُعَلَّقِ أَوْلَى
وَمِنْهَا مَوْتُ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ وقد بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ الْآمِرِ بِالْمَوْتِ فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ عَلِمَ الْوَكِيلُ بِمَوْتِهِ أَمْ لَا
وَمِنْهَا جُنُونُهُ جُنُونًا مُطْبِقًا لِأَنَّ الْجُنُونَ الْمُطْبِقَ مُبْطِلٌ لِأَهْلِيَّةِ الْآمِرِ وَاخْتَلَفَ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ في حَدِّ الْجُنُونِ الْمُطْبِقِ فَحَدَّهُ أبو يُوسُفَ بِمَا يَسْتَوْعِبُ الشَّهْرَ وَمُحَمَّدٌ بِمَا يَسْتَوْعِبُ الْحَوْلَ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُسْتَوْعِبَ لِلْحَوْلِ هو الْمُسْقِطُ لِلْعِبَادَاتِ كُلِّهَا فَكَانَ التَّقْدِيرُ بِهِ أَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ هذا الْقَدْرَ أَدْنَى ما يَسْقُطُ بِهِ عِبَادَةُ الصَّوْمِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ بِهِ أَوْلَى
وَمِنْهَا لَحَاقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عن الْوَكَالَةِ بِنَاءً على أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ فَكَانَتْ وَكَالَةُ الْوَكِيلِ مَوْقُوفَةً أَيْضًا فَإِنْ أَسْلَمَ الْمُوَكِّلُ نَفَذَتْ
وَإِنْ قُتِلَ على الرِّدَّةِ أو لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ وَعِنْدَهُمَا تَصَرُّفَاتُهُ نَافِذَةٌ فَكَذَا بالوكالة ( ( ( الوكالة ) ) ) وَإِنْ كان الْمُوَكِّلُ امْرَأَةً فَارْتَدَّتْ فَالْوَكِيلُ على وَكَالَتِهِ حتى تَمُوتَ أو تَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ إجْمَاعًا لِأَنَّ رِدَّةَ الْمَرْأَةِ لَا تَمْنَعُ نَفَاذَ تَصَرُّفِهَا لِأَنَّهَا لَا تُؤَثِّرُ فِيمَا رُتِّبَ عليه النَّفَاذُ وهو الْمِلْكُ
وَمِنْهَا عَجْزُ الْمُوَكِّلِ وَالْحَجْرُ عليه بِأَنْ وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ رَجُلًا فَعَجِزَ الْمُوَكِّلُ وَكَذَا إذَا وَكَّلَ الْمَأْذُونُ إنْسَانًا فَحُجِرَ عليه لِأَنَّهُ بِالْعَجْزِ وَالْحَجْرِ عليه بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ آمِرِهِ بِالتَّصَرُّفِ في الْمَالِ فَيَبْطُلُ الآمر فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ
وَمِنْهَا مَوْتُ الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْمَوْتَ مُبْطِلٌ لِأَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ وَمِنْهَا جُنُونُهُ الْمُطْبِقُ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا لم يَجُزْ له التَّصَرُّفُ إلَّا أَنْ يَعُودَ مُسْلِمًا لِأَنَّ أَمْرَهُ قبل الْحُكْمِ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ كان مَوْقُوفًا فَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا زَالَ التَّوَقُّفُ وَصَارَ كَأَنَّهُ لم يَرْتَدَّ أَصْلًا وأن حُكِمَ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا هل تَعُودُ الْوَكَالَةُ قال أبو يُوسُفَ لَا تَعُودُ وقال مُحَمَّدٌ تَعُودُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن نَفْسَ الرِّدَّةِ لَا تُنَافِي الْوَكَالَةَ أَلَا تَرَى أنها لَا تَبْطُلُ قبل لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ إلَّا أَنَّهُ لم يَجُزْ تَصَرُّفُهُ في دَارِ الْحَرْبِ لِتَعَذُّرِ التَّنْفِيذِ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فإذا عَادَ زَالَ الْمَانِعُ فَيَجُوزُ
وَنَظِيرُهُ من وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدٍ بِالْكُوفَةِ فلم يَبِعْهُ فيها حتى خَرَجَ إلَى الْبَصْرَةِ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ بِالْبَصْرَةِ ثُمَّ إذَا عَادَ إلَى الْكُوفَةِ مَلَكَ بَيْعَهُ فيها
كَذَا هذا
وَجْهُ
____________________

(6/38)


قَوْلِ أبي يُوسُفَ إن الْوَكَالَةَ عَقْدٌ حُكِمَ بِبُطْلَانِهِ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ كَالنِّكَاحِ
وَأَمَّا الْمُوَكِّلُ إذَا ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أنها تَعُودُ وَوَجْهُهُ أَنَّ بُطْلَانَ الْوَكَالَةِ لِبُطْلَانِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ فإذا عَادَ مُسْلِمًا عَادَ مِلْكُهُ الْأَوَّلُ فَيَعُودُ بِحُقُوقِهِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إن لُحُوقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ وَلَوْ مَاتَ لَا يُحْتَمَلُ الْعَوْدُ فَكَذَا إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ
وَمِنْهَا أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ فِيمَا وَكَّلَ بِهِ قبل تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ نَحْوُ ما إذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ الْمُوَكِّلُ أو أَعْتَقَهُ أو دَبَّرَهُ أو كَاتَبَهُ أو وَهَبَهُ وَكَذَا إذَا اسْتَحَقَّ أو كان حُرَّ الْأَصْلِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ عَجَزَ عن التَّصَرُّفِ لِزَوَالِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ فَيَنْتَهِي حُكْمُ الْوَكَالَةِ كما إذَا هَلَكَ الْعَبْدُ
وَلَوْ بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ رُدَّ عليه بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ هل تَعُودُ الْوَكَالَةُ كما إذَا هَلَكَ الْعَبْدُ قال أبو يُوسُفَ لَا تَعُودُ
وقال مُحَمَّدٌ تَعُودُ لِأَنَّ الْعَائِدَ بِالْفَسْخِ عَيْنُ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ فَيَعُودُ بِحُقُوقِهِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ إن تَصَرُّفَ الْمُوَكِّلِ نَفْسِهِ يَتَضَمَّنُ عَزْلَ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ أَعْجَزَهُ عن التَّصَرُّفِ فِيمَا وَكَّلَهُ بِهِ وَالْوَكِيلُ بعدما انْعَزَلَ لَا يَعُودُ وَكِيلًا إلَّا بِتَجْدِيدِ التَّوْكِيلِ وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ فَوَهَبَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ رَجَعَ في هِبَتِهِ لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ حتى لَا يَمْلِكَ الْوَكِيلُ أَنْ يَهَبَهُ فَمُحَمَّدٌ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بين الْبَيْعِ وَبَيْنَ الْهِبَةِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ له لم يَتَّضِحْ وَكَذَلِكَ له وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِنَفْسِهِ وَكَذَا إذَا وَكَّلَهُ بِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ فَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّهُ عَجَزَ عن تَزْوِيجِهَا منه فَبَطَلَتْ الْوَكَالَةُ
وَكَذَا إذَا وَكَّلَهُ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أو بِالتَّدْبِيرِ أو بِالْكِتَابَةِ أو الْهِبَةِ فَفَعَلَ بِنَفْسِهِ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَا إذَا وَكَّلَهُ بِخُلْعِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ خَلَعَهَا لِأَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَا تَحْتَمِلُ الْخُلْعَ
وَكَذَا إذَا وَكَّلَهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا بِنَفْسِهِ ثَلَاثًا أو وَاحِدَةً فانقضت ( ( ( وانقضت ) ) ) عِدَّتُهَا لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ بَعْدَ الثَّلَاثِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حتى لو طَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَاحِدَةً وَالْعِدَّةُ بَاقِيَةٌ فَالْوَكَالَةُ قَائِمَةٌ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ في الْعِدَّةِ
وَلَوْ وَكَّلَهُ بِالْكِتَابَةِ فَكَاتَبَهُ ثُمَّ عَجَزَ لم يَكُنْ له أَنْ يُكَاتِبَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً
وَكَذَا لو وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ وَأَبَانَهَا لم يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُزَوِّجَهُ مَرَّةً أُخْرَى لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فإذا فَعَلَ مَرَّةً حَصَلَ الِامْتِثَالُ فَانْتَهَى حُكْمُ الْآمِرِ كما في الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ بِخِلَافِ ما لو وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ ثُمَّ رُدَّ عليه بِقَضَاءِ قَاضٍ أَنَّ له أَنْ يَبِيعَهُ ثَانِيًا لِأَنَّ الرَّدَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي يُوجِبُ ارْتِفَاعَ الْعَقْدِ من الْأَصْلِ وَيَجْعَلُهُ كَأَنْ لم يَكُنْ فلم يَكُنْ هذا تكررا ( ( ( تكرارا ) ) ) حتى لو رد ( ( ( رده ) ) ) عليه بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ لم يَجُزْ له أَنْ يَبِيعَهُ لِأَنَّ هذا بَيْعٌ جَدِيدٌ وقد انْتَهَتْ الْوَكَالَةُ بِالْأَوَّلِ فَلَا يَمْلِكُ الثَّانِي إلَّا بِتَجْدِيدِ التَّوْكِيلِ
وَمِنْهَا هَلَاكُ الْعَبْدِ الذي وُكِّلَ بِبَيْعِهِ أو بِإِعْتَاقِهِ أو بِهِبَتِهِ أو بِتَدْبِيرِهِ أو بِكِتَابَتِهِ أو نَحْوِ ذلك لِأَنَّ التَّصَرُّفَ في الْمَحَلِّ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ هَلَاكِهِ وَالْوَكَالَةُ بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّصَرُّفَ بحال ( ( ( محال ) ) ) فَبَطَلَ
ثُمَّ هذه الْأَشْيَاءُ التي ذَكَرْنَا له أَنْ يُخْرِجَ بها الْوَكِيلَ من الْوَكَالَةِ سِوَى الْعَزْلِ وَالنَّهْيِ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ فيها بين ما إذَا عَلِمَ الْوَكِيلُ أو لم يَعْلَمْ في حَقِّ الْخُرُوجِ عن الْوَكَالَةِ لَكِنْ تَقَعُ الْمُفَارَقَةُ فِيمَا بين الْبَعْضِ وَالْبَعْضِ من وَجْهٍ آخَرَ وهو أَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا بَاعَ الْعَبْدَ الْمُوَكَّلَ بِبَيْعِهِ بِنَفْسِهِ ولم يَعْلَمْ بِهِ الْوَكِيلُ فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَهَلَكَ الثَّمَنُ في يَدِهِ وَمَاتَ الْعَبْدُ قبل التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي على الْوَكِيلِ بِالثَّمَنِ رَجَعَ الْوَكِيلُ على الْمُوَكِّلِ
وَكَذَا لو دَبَّرَهُ أو أَعْتَقَهُ أو اسْتَحَقَّ أو كان حُرَّ الْأَصْلِ وَفِيمَا إذَا مَاتَ الْمُوَكِّلُ أو جُنَّ أو هَلَكَ الْعَبْدُ الذي وُكِّلَ بِبَيْعِهِ وَنَحْوَهُ لَا يَرْجِعُ الْوَكِيلُ
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَكِيلَ هُنَاكَ وَإِنْ صَارَ مَعْزُولًا بِتَصَرُّفِ الْمُوَكَّل لَكِنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا من جِهَتِهِ بِتَرْكِ إعْلَامِهِ إيَّاهُ فَصَارَ كَفِيلًا له بِمَا يَلْحَقُهُ من الضَّمَانِ فَيَرْجِعُ عليه بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ إذْ ضَمَانُ الْغُرُورِ في الْحَقِيقَةِ ضامن ( ( ( ضمان ) ) ) الْكَفَالَةِ وَمَعْنَى الْغُرُورِ لَا يَتَقَدَّرُ في الْمَوْتِ وَهَلَاكِ الْعَبْدِ وَالْجُنُونِ وَأَخَوَاتِهَا فَهُوَ الْفَرْقُ
وَلَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دَيْنٍ على رَجُلٍ ثُمَّ إنَّ الْمُوَكِّلَ وَهَبَ الْمَالَ لِلَّذِي عليه الدَّيْنُ وَالْوَكِيلُ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ فَقَبَضَ الْوَكِيلُ الْمَالَ فَهَلَكَ في يَدِهِ كان لِدَافِعِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ الْمُوَكِّلَ وَلَا ضامن ( ( ( ضمان ) ) ) على الْوَكِيلِ لِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ يَدُ نِيَابَةٍ عن الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِأَمْرِهِ وَقَبْضُ النَّائِبِ كَقَبْضِ الْمَنُوبِ عنه فَكَأَنَّهُ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ بعدما وَهَبَهُ منه
وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَرَجَعَ عليه فَكَذَا هذا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
كِتَابُ الصُّلْحِ الْكَلَامُ في كِتَابِ الصُّلْحِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنْوَاعِ الصُّلْحِ وفي بَيَانِ شَرْعِيَّةِ كل نَوْعٍ وفي بَيَانِ رُكْنِ الصُّلْحِ وفي
____________________

(6/39)


بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الصُّلْحِ وفي بَيَانِ ما يَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ الصُّلْحِ بَعْدَ وُجُودِهِ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا بَطَلَ أو لم يَصِحَّ من الْأَصْلِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الصُّلْحُ في الْأَصْلِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ صُلْحٌ عن إقْرَارِ المدعي عليه وَصُلْحٌ عن إنْكَارِهِ وَصُلْحٌ عن سُكُوتِهِ من غَيْرِ إقْرَارٍ وَلَا إنْكَارٍ
وَكُلُّ نَوْعٍ من ذلك لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بين الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عليه وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بين الْمُدَّعِي وَالْأَجْنَبِيِّ الْمُتَوَسِّطِ فَإِنْ كان بين الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عليه فَكُلُّ وَاحِدٍ من الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ مَشْرُوعٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وقال ابن أبي لَيْلَى الْمَشْرُوعُ هو الصُّلْحُ عن إقْرَارٍ وَسُكُوتٍ لَا غَيْرِهِمَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَشْرُوعُ هو الصُّلْحُ عن إقْرَارٍ لَا غَيْرُ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ إن جَوَازَ الصُّلْحِ يَسْتَدْعِي حَقًّا ثَابِتًا ولم يُوجَدْ في مَوْضِعِ الْإِنْكَارِ وَالسُّكُوتِ
أَمَّا في الْإِنْكَارِ فَلِأَنَّ الْحَقَّ لو ثَبَتَ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالدَّعْوَى وقد عَارَضَهَا الْإِنْكَارُ فَلَا يَثْبُتُ الْحَقُّ عِنْدَ التَّعَارُضِ
فَأَمَّا في السُّكُوتِ فَلِأَنَّ السَّاكِتَ يُنَزَّلُ مُنْكِرًا حُكْمًا حتى تُسْمَعَ عليه الْبَيِّنَةُ فَكَانَ إنْكَارُهُ مُعَارِضًا لِدَعْوَى الْمُدَّعِي فلم يَثْبُتْ الْحَقُّ
وَلَوْ بَذَلَ الْمَالَ لَبَذَلَهُ لِدَفْعِ خُصُومَةٍ بَاطِلَةٍ فَكَانَ في مَعْنَى الرِّشْوَةِ
وَلَنَا ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ جِنْسَ الصُّلْحِ بِالْخَيْرِيَّةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَاطِلَ لَا يُوصَفُ بِالْخَيْرِيَّةِ فَكَانَ كُلُّ صُلْحٍ مَشْرُوعًا بِظَاهِرِ هذا النَّصِّ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ
وَعَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال رُدُّوا الْخُصُومَ حتى يَصْطَلِحُوا فإن فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورِثُ بَيْنَهُمْ الضَّغَائِنَ
أَمَرَ رضي اللَّهُ عنه بِرَدِّ الْخُصُومِ إلَى الصُّلْحِ مُطْلَقًا وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا من الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ حُجَّةً قَاطِعَةً وَلِأَنَّ الصُّلْحَ شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إلَى قَطْعِ الْخُصُومَةِ وَالْمُنَازَعَةِ وَالْحَاجَةُ إلَى قَطْعِهَا في التَّحْقِيقِ عِنْدَ الْإِنْكَارِ إذْ الْإِقْرَارُ مسالة ( ( ( مسالمة ) ) ) وَمُسَاعَدَةٌ فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَلِهَذَا قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَجْوَزُ ما يَكُونُ الصُّلْحُ على الْإِنْكَارِ
وقال الشَّيْخُ أبو مَنْصُورِ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ رَحِمَهُ لله ما صَنَعَ الشَّيْطَانُ من إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ في بَنِي آدَمَ ما صَنَعَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في إنْكَارِهِ الصُّلْحَ على الْإِنْكَارِ
وَقَوْلُهُ إن الْحَقَّ ليس بِثَابِتٍ قُلْنَا هذا على الْإِطْلَاقِ مَمْنُوعٌ بَلْ الْحَقُّ ثَابِتٌ في زَعْمِ الْمُدَّعِي وَحَقُّ الْخُصُومَةِ وَالْيَمِينِ ثَابِتَانِ له شَرْعًا فَكَانَ هذا صُلْحًا عن حَقٍّ ثَابِتٍ فَكَانَ مَشْرُوعًا
فَصْلٌ وَأَمَّا رُكْنُ الصُّلْحِ فَالْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وهو أَنْ يَقُولَ المدعي عليه صَالَحْتُكَ من كَذَا على كَذَا أو من دَعْوَاكَ كَذَا على كَذَا وَيَقُولُ الْآخَرُ قَبِلْتُ أو رَضِيت أو ما يَدُلُّ على قَبُولِهِ وَرِضَاهُ فإذا وُجِدَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَقَدْ تَمَّ عَقْدُ الصُّلْحِ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُصَالِحِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الصالح ( ( ( المصالح ) ) ) عليه وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُصَالَحِ عنه
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُصَالِحِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا وَهَذَا شَرْطٌ عَامٌّ في جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ كُلِّهَا فَلَا يَصِحُّ صُلْحُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ بِانْعِدَامِ الْعَقْلِ
فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ حتى يَصِحَّ صُلْحُ الصَّبِيِّ في الْجُمْلَةِ وهو الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ إذَا كان له فيه نَفْعٌ أو لَا يَكُونُ له فيه ضَرَرٌ ظَاهِرٌ
بَيَانُ ذلك إذَا وَجَبَ لِلصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ على إنْسَانٍ دَيْنٌ فَصَالَحَهُ على بَعْضِ حَقِّهِ فَإِنْ لم يَكُنْ له عليه بَيِّنَةٌ جَازَ الصُّلْحُ لِأَنَّ عِنْدَ انْعِدَامِ الْبَيِّنَةِ لَا حَقَّ له إلَّا الْخُصُومَةُ وَالْحَلِفُ وَالْمَالُ أَنْفَعُ له مِنْهُمَا وَإِنْ كان له عليه بَيِّنَةٌ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ لِأَنَّ الْحَطَّ تَبَرُّعٌ وهو لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَاتِ وَلَوْ أَخَّرَ الدَّيْنَ جَازَ سَوَاءً كانت له بَيِّنَةٌ أو لَا فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصُّلْحِ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الدَّيْنِ من أَعْمَالِ التِّجَارَةِ وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ في التِّجَارَاتِ كَالْبَالِغِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّأْجِيلَ في نَفْسِ الْعَقْدِ بِأَنْ يَبِيعَ بِأَجَلٍ فَيَمْلِكُهُ مُتَأَخِّرًا عن الْعَقْدِ أَيْضًا بِخِلَافِ الخط ( ( ( الحط ) ) ) لِأَنَّهُ ليس من التِّجَارَةِ بَلْ هو تَبَرُّعٌ فَلَا يَمْلِكُهُ إلَّا أَنَّهُ يَمْلِكُ حَطَّ بَعْضِ الثَّمَنِ لِأَجْلِ الْعَيْبِ لِأَنَّ حَطَّ بَعْضِ الثَّمَنِ لِلْعَيْبِ قد يَكُونُ أَنْفَعَ من أَخْذِ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ فَكَانَ ذلك من بَابِ التِّجَارَةِ فَيَمْلِكُهُ
وَلَوْ صَالَحَ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ من الْمُسْلَمِ فيه على رَأْسِ الْمَالِ جَازَ لِأَنَّ الصُّلْحَ من الْمُسْلَمِ فيه على رَأْسِ الْمَالِ إقَالَةٌ لِلْعَقْدِ وَالْإِقَالَةُ من بَابِ التِّجَارَةِ وَكَذَلِكَ لو اشْتَرَى سِلْعَةً وَظَهَرَ بها عَيْبٌ فَصَالَحَ الْبَائِعَ على أَنْ قَبِلَهَا جَازَ لِأَنَّ الثَّمَنَ أَنْفَعُ من الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ عَادَةً
وَلَوْ صَالَحَهُ الْبَائِعُ فَحَطَّ عنه بَعْضَ الثَّمَنِ لَا شَكَّ فيه أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّ الْحَطَّ من الْبَائِعِ تَبَرُّعٌ منه على الصَّبِيِّ فَيَصِحُّ وَلَوْ ادَّعَى إنْسَانٌ
____________________

(6/40)


عليه دَيْنًا فَأَقَرَّ بِهِ فَصَالَحَهُ على أَنْ حَطَّ عنه الْبَعْضَ جَازَ لِأَنَّ إقْرَارَ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ صَحِيحٌ فَكَانَ الصُّلْحُ تَبَرُّعًا على الصَّبِيِّ بِحَطِّ بَعْضِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ عليه وَالصَّبِيُّ من أَهْلِ أَنْ يُتَبَرَّعَ عليه فَيَصِحُّ
وَكَذَلِكَ حُرِّيَّةُ الْمُصَالِحِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الصُّلْحِ حتى يَصِحَّ صُلْحُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا كان له فيه مَنْفَعَةٌ أو كان من التِّجَارَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الصُّلْحَ على حَطِّ بَعْضِ الْحَقِّ إذَا كان له عليه بَيِّنَةٌ وَيَمْلِكُ التَّأْجِيلَ كَيْفَ ما كان وَيَمْلِكُ حَطَّ بَعْضِ الثَّمَنِ لِأَجْلِ الْعَيْبِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ صَالَحَهُ الْبَائِعُ على حَطِّ بَعْضِ الثَّمَنِ جَازَ لِمَا ذَكَرْنَا في الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَكَذَلِكَ لو ادَّعَى على إنْسَانٍ دَيْنًا وهو مَأْذُونٌ فَأَقَرَّ بِهِ ثُمَّ صَالَحَهُ على أَنْ حَطَّ بَعْضَهُ جَازَ لِأَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ صَحِيحٌ فَكَانَ الْحَطُّ من الْمُدَّعِي تَبَرُّعَا على الْعَبْدِ بِبَعْضِ الدَّيْنِ فَيَصِحُّ
وَلَوْ حَجَر عليه الْمَوْلَى ثُمَّ ادَّعَى إنْسَانٌ عليه دَيْنًا فَأَقَرَّ بِهِ وهو مَحْجُورٌ ثُمَّ صَالَحَهُ عنه على مَالٍ ضَمِنَهُ بِإِقْرَارِهِ فَإِنْ لم يَكُنْ في يَدِهِ مَالٌ لَا يَنْفُذُ الصُّلْحُ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ لَا يَنْفُذُ إذَا لم يَكُنْ في يَدِهِ مَالٌ وإذا لم يَنْفُذْ لم يَنْفُذْ الصُّلْحُ فَلَا يُطَالَبُ بِهِ لِلْحَالِ وَلَكِنْ يُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ من نَفْسِهِ صَحِيحٌ لِصُدُورِهِ من أَهْلِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا لم يَظْهَرْ في حَقِّ الْمَوْلَى لِلْحَالِ لِمَانِعٍ وهو حَقُّ الْمَوْلَى فإذا عَتَقَ زَالَ الْمَانِعُ فَيَظْهَرُ حِينَئِذٍ وَأَمَّا إذَا كان في يَدِهِ مَالٌ فَيَجُوزُ إقْرَارُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذا إقْرَارُ الْمَحْجُورِ لِبُطْلَانِ الْإِذْنِ بِالْحَجْرِ وَإِقْرَارُ الْمَحْجُورِ غَيْرُ صَحِيحٍ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ إذَا كان في يَدِهِ مَالٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ من أَهْلِ الْإِقْرَارِ وَإِنَّمَا الْمَانِعُ من ظُهُورِهِ حَقُّ الْمَوْلَى فإذا كانت يَدُهُ ثَابِتَةً على هذا الْمَالِ مَنَعَ ظُهُورَ حَقِّ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا في إقْرَارِهِ فَيَمْنَعُ ظُهُورَ حَقِّ الْمَوْلَى فيه وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فَلَا يَظْهَرُ فَلَا تَبْطُلُ يَدُهُ الثَّابِتَةُ عليه بِالشَّكِّ بِخِلَافِ ما إذَا لم يَكُنْ في يَدِهِ مَالٌ لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ حَقِيقَةً وَالْإِقْرَارُ في نَفْسِهِ مُحْتَمَلٌ فَلَا يُوجِبُ بُطْلَانَ يَدِهِ الثَّابِتَةِ حَقِيقَةً مع الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ
وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبِ نَظِيرُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ في جَمِيعِ ما ذَكَرْنَا لِأَنَّهُ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ على لِسَانِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ فَادَّعَى رَجُلٌ عليه دَيْنًا فَاصْطَلَحَا على أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَهُ وَيُؤَخِّرَ بَعْضَهُ فَإِنْ لم يَكُنْ له عليه بَيِّنَةٌ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمَّا عَجَزَ فَقَدْ صَارَ مَحْجُورًا عن التَّصَرُّف فَلَا يَصِحّ صُلْحُهُ وَإِنْ كانت له عليه بَيِّنَةٌ جَازَ لِأَنَّهُ وَإِنْ عَجَزَ فَالْخَصْم في دُيُونِهِ هو فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيها لِحَطِّ الْبَعْضِ بِالصُّلْحِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمُصَالِحُ بِالصُّلْحِ على الصَّغِيرِ مُضِرًّا بِهِ مَضَرَّةٌ ظَاهِرَةٌ حتى أَنَّ من ادَّعَى على صَبِيٍّ دِينًا فَصَالَحَ أَبِ الْوَصِيِّ من دَعْوَاهُ على مَالِ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ فَإِنْ كان لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةً وما أَعْطَى من الْمَالِ مِثْلَ الْحَقِّ المدعي أو زِيَادَةً يُتَغَابَنُ في مِثْلِهَا فالصفح ( ( ( فالصلح ) ) ) جَائِزٌ لِأَنَّ الصُّلْحَ في هذه الصُّورَةِ لِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ لَإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى كل الْحَقِّ بِالْبَيِّنَةِ وَالْأَبُ يَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ من مَالِ الصَّغِيرِ بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ وَإِنْ لم تَكُنْ له بَيِّنَةٌ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ عِنْدَ انْعِدَامِ الْبَيِّنَةِ يَقَعُ الصُّلْحُ تَبَرُّعًا بِمَالِ الصَّغِيرِ وَأَنَّهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ فَلَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ
وَلَوْ صَالَحَ من مَالِ نَفْسِهِ جَازَ لِأَنَّهُ ما أَضَرَّ بِالصَّغِيرِ بَلْ نَفْعَهُ حَيْثُ قَطْعَ الْخُصُومَةَ عنه وَلَوْ ادَّعَى أب ( ( ( أبو ) ) ) الصَّغِيرِ على إنْسَانٍ دَيْنًا لِلصَّغِيرِ فَصَالَحَ على أَنْ حَطَّ بَعْضَهُ وَأَخَذَ الْبَاقِيَ فَإِنْ كان له عليه بَيِّنَةٌ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْحَطَّ منه تَبَرُّعٌ من مَالِهِ وهو لَا يَمْلِكُ ذلك
وَإِنْ صَالَحَهُ على مِثْلِ قِيمَةِ ذلك الشَّيْءِ أو نَقَصَ منه شيئا يَسِيرًا جَازَ لِأَنَّ الصُّلْحَ في هذه الصُّورَةِ بِمَعْنَى الْبَيْعِ وهو يَمْلِكُ الْبَيْعَ فَيَمْلِكُ الصُّلْحَ وَهَلْ يَمْلِكُ الْأَبُ الْحَطَّ من دَيْنٍ وَجَبَ لِلصَّغِيرِ وَالْإِبْرَاءُ عنه هذا لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ أما إنْ كان وَلِيَ ذلك الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ وأما إنْ لم يَكُنْ وَلِيَهُ فَإِنْ لم يَكُنْ وَلِيَهُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْحَطَّ وَالْإِبْرَاءَ من بَابِ التَّبَرُّعِ وَالْأَبُ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ لِكَوْنِهِ مَضَرَّةً مَحْضَةً
وَإِنْ كان وَلِيَهُ بِنَفْسِهِ يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وَهَذَا على اخْتِلَافِهِمْ في الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا أَبْرَأَ الْمُشْتَرِي عن الثَّمَنِ أو حَطَّ بَعْضَهُ وقد ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَلَا يَجُوزُ صُلْحُ أَحَدٍ على حَمْلٍ أبا ( ( ( أيا ) ) ) كان الْمُصَالِحُ أو غَيْرُهُ
وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا بَعْدَ ذلك وَوِرْثَ وَجَازَتْ الْوَصَايَا لِأَنَّهُ لو صَحَّ عليه لَكَانَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَصِحَّ على اعْتِبَارِ الْحَالِ وَإِمَّا أَنْ يَصِحَّ على اعْتِبَارِ الِانْفِصَالِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الصُّلْحَ عليه من بَابِ تَنْفِيذِ الْوِلَايَةِ وهو لِلْحَالِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُوَلِّيًا عليه وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ الصُّلْحَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ وَيَمْلِكُ الْأَبُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ في النَّفْسِ وما دُونَهَا وَلَا يَمْلِكُ الْوَصِيُّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ في النَّفْسِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ تَصَرُّفٌ
____________________

(6/41)


على نَفْسِ الصَّغِيرِ بالأحياء وَتَحْصِيلِ التَّشَفِّي قال اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ { وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } وَكَذَا مَنْفَعَةُ التَّشَفِّي رَاجِعَةٌ إلَى نَفْسِهِ وَلِلْأَبِ وِلَايَةٌ على نَفْسِ الصَّغِيرِ وَلَا وِلَايَةَ لِلْوَصِيِّ عليها وَلِهَذَا مَلَكَ إنْكَاحَهُ دُونَ الْوَصِيِّ إلَّا أَنَّهُ بملك ( ( ( يملك ) ) ) الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِأَنَّ ما دُونَ النَّفْسِ يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَك الْأَمْوَالِ لِشَبَهِهِ بِالْأَمْوَالِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجْرِي بين طَرَفِ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَلَا بين طَرَفِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مع جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمْ في الْأَنْفُسِ
ويستوفي الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ في الْحُرِّ كما يستوفي في سَائِرِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ فيه وَلَا يستوفي الْقِصَاصُ في النَّفْسِ فيه ويقضي بِالنُّكُولِ في الْأَطْرَافِ كما يقضي بِهِ في الْأَمْوَالِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَلَا يقضي بِهِ في الْأَنْفُسِ وَلَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ في الْحَالِ وَالْمَآلِ فَيَلِي التَّصَرُّفَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَيَمْلِكُ الْأَبُ الصُّلْحَ عن الْقِصَاصِ في النَّفْسِ وما دُونَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الِاسْتِيفَاءَ فَلَأَنْ يَمْلِكَ الصُّلْحَ أَوْلَى لِأَنَّهُ أنفه ( ( ( أنفع ) ) ) من الِاسْتِيفَاءِ
وَكَذَا الْوَصِيُّ يَمْلِكُ الصُّلْحَ عن الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَكَذَا الصُّلْحُ عنه لِأَنَّهُ أَنْفَعُ وهو ( ( ( وهل ) ) ) يَمْلِكُ الصُّلْحَ عن الْقِصَاصِ في النَّفْسِ ذَكَرَ في أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يَمْلِكُ وَكَذَا رَوَى الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بين الِاسْتِيفَاءِ وَبَيْنَ الصُّلْحِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِصَاصَ تَصَرُّفٌ في النَّفْسِ بِتَحْصِيلِ الْحَيَاةِ وَالتَّشَفِّي وَلَا وِلَايَةَ له على نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ فَأَمَّا الصُّلْحُ فَتَصَرُّفٌ في الْمَالِ وَلَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ في الْمَالِ وَأَنَّهُ فَرْقٌ وَاضِحٌ
وَجْهُ رِوَايَةِ الصُّلْحِ أَنَّ الصُّلْحَ اعْتِيَاضٌ عن الْقِصَاصِ فإذا لم يَمْلِكْ الْقِصَاصَ فَكَيْفَ يَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ عنه وَلَوْ صَالَحَ الْأَبُ أو الْوَصِيُّ على أَقَلِّ من الدِّيَةِ في الخطأ وَشِبْهِ الْعَمْدِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْحَطَّ تَبَرُّعٌ وَهُمَا لَا يَمْلِكَانِ التَّبَرُّعَ بِمَالِ الْيَتِيمِ وَالْحَطُّ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْغَبْنِ الْيَسِيرِ في الْبَيْعِ أَنَّهُمَا يَمْلِكَانِهِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحَطَّ نُقْصَانٌ مُتَحَقِّقٌ لِأَنَّ الدِّيَةَ مُقَدَّرَةٌ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ فَالنُّقْصَانُ عنه مُتَحَقِّقٌ وَإِنْ قَلَّ وَالنُّقْصَانُ في الْبَيْعِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ لِأَنَّ الْعِوَضَ فيه غَيْرُ مُقَدَّرٍ لِاخْتِلَافِهِ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فإذا لم يَتَقَدَّرْ الْعِوَضُ لَا يَتَحَقَّقُ النُّقْصَانُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُصَالِحُ عن الصَّغِيرِ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في مَالِهِ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْوَصِيِّ لِأَنَّ الصُّلْحَ تَصَرُّفٌ في الْمَالِ فَيَخْتَصُّ بِمَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيه وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مُرْتَدًّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا صُلْحُهُ نَافِذٌ بِنَاءً على أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ لَكِنْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ نَفَاذُ تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ نَفَاذُ تَصَرُّفِ من عليه الْقِصَاصُ في النَّفْسِ
وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ في مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ حها ( ( ( فصلحها ) ) ) جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْحَرْبِيَّةِ إلَّا أنها إذَا الْتَحَقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ بَطَلَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ كَصُلْحِ الْحَرْبِيَّةِ لِثُبُوتِ أَحْكَامِ أَهْلِ الْحَرْبِ في حَقِّهَا بِالْتِحَاقِهَا بِدَارِ الْحَرْبِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ التي تَرْجِعُ إلَى الْمُصَالَحِ عليه فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ مَالًا فَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ على الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَصَيْدِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ وَكُلُّ ما ليس بِمَالٍ لِأَنَّ في الصُّلْحِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فما لَا يَصْلُحُ عِوَضًا في الْبِيَاعَاتِ لَا يَصْلُحُ بَدَلَ الصُّلْحِ
وَكَذَا إذَا صَالَحَ على عَبْدٍ فإذا هو حُرٌّ لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الصُّلْحَ لم يُصَادِفْ مَحَلَّهُ وَسَوَاءٌ كان الْمَالُ عَيْنًا أو دَيْنًا أو مَنْفَعَةً لَيْسَتْ بِعَيْنٍ وَلَا دَيْنٍ لِأَنَّ الْعِوَضَ في الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ قد يَكُونُ عَيْنًا وقد يَكُونُ دَيْنًا وقد يَكُونُ مَنْفَعَةً إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ في بَعْضِ الْأَعْوَاضِ في بَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ المدعي لَا يَخْلُو من أَحَدِ وُجُوهٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا وهو ما يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ مُطْلَقًا جِنْسًا وَنَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً وَاسْتِحْقَاقًا كَالْعُرُوضِ من الثِّيَابِ وَالْعَقَارِ من الْأَرْضَيْنِ وَالدُّورِ وَالْحَيَوَانِ من الْعَبِيدِ وَالدَّوَابِّ وَالْمَكِيلِ من الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْمَوْزُونِ من الصُّفْرِ وَالْحَدِيدِ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا وهو ما لَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ من الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ الْمَوْصُوفِ في الذِّمَّةِ وَالْمَوْزُونِ الْمَوْصُوفِ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالثِّيَابِ الْمَوْصُوفَةِ وَالْحَيَوَانِ الْمَوْصُوفِ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْفَعَةً وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقًّا ليس بِعَيْنٍ وَلَا دَيْنٍ وَلَا مَنْفَعَةٍ وَبَدَلُ الصُّلْحِ لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ عَيْنًا أو دَيْنًا أو مَنْفَعَةً وَالصُّلْحُ لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ عن إقْرَارِ المدعي عليه أو عن إنْكَارِهِ أو عن سُكُوتِهِ فَإِنْ كان المدعي عَيْنًا فَصَالَحَ منها عن إقْرَارٍ يَجُوزُ سَوَاءً كان بَدَلَ الصُّلْحِ عَيْنًا أو دَيْنًا بَعْدَ أَنْ كان مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ إلَّا الْحَيَوَانُ وَإِلَّا الثِّيَابُ إلَّا بِجَمِيعِ شَرَائِطِ
____________________

(6/42)


السَّلَمِ لِأَنَّ هذا الصُّلْحَ من الْجَانِبَيْنِ جميعا في مَعْنَى الْبَيْعِ فَكَانَ بَدَلَ الصُّلْحِ في مَعْنَى الثَّمَنِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَصْلُحُ ثَمَنًا في الْبِيَاعَاتِ عَيْنًا كانت أو دَيْنًا إلَّا الْحَيَوَانَ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا هو مَالٌ أَصْلًا
وَالثِّيَابُ لَا تثبت ( ( ( يثبت ) ) ) دَيْنًا في الذِّمَّةِ إلَّا بِشَرَائِطِ السَّلَمِ من بين ( ( ( بيان ) ) ) الْقَدْرِ وَالْوَصْفِ وَالْأَجَلِ وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ يَثْبُتَانِ في الذِّمَّةِ مُطْلَقًا في الْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ من غَيْرِ أَجْلٍ وَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ في الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ ليس بِصَرْفٍ وَلَا في تَرْكِ قَبْضِهِ افْتِرَاقٌ عن دَيْنٍ بِدَيْنٍ بَلْ هو افْتِرَاقٌ عن عَيْنٍ بِعَيْنٍ أو عَيْنٍ بِدَيْنٍ وَكُلُّ ذلك جَائِزٌ وَإِنْ كان دَيْنًا فَإِنْ كان دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ فَصَالَحَ منها لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إنْ صَالَحَ منها على خِلَافِ جِنْسِهَا أو على جِنْسِهَا فَإِنْ صَالَحَ منها على خِلَافِ جِنْسِهَا فَإِنْ صَالَحَ منها على عَيْنٍ جَازَ لِأَنَّ الصُّلْحَ عليها في مَعْنَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ
وَإِنْ صَالَحَ منها على دَيْنٍ سِوَاهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَائِعٌ ما ليس عِنْدَهُ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانٌ أَبَدًا وما وَقَعَ عليه الصُّلْحُ مَبِيعٌ فَالصُّلْحُ في هذه الصُّورَةِ يَقَعُ بَيْعَ ما ليس عِنْدَ الْبَائِعِ وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عنه
وَإِنْ صَالَحَ منها على جِنْسِهَا فَإِنْ صَالَحَ من دَرَاهِمَ على دَرَاهِمَ فَهَذَا لَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ صَالَحَ على مِثْلِ حَقِّهِ وَإِمَّا إن صَالَحَ على أَقَلَّ من حَقِّهِ وأما إن صَالَحَ على أَكْثَرَ من حَقِّهِ فَإِنْ صَالَحَ على مِثْلِ حَقِّهِ قَدْرًا ووصفا بِأَنْ صَالَحَ من أَلْفٍ جِيَادٍ على أَلْفٍ جِيَادٍ فَلَا شَكَّ في جَوَازِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ لِأَنَّ هذا اسْتِيفَاءُ عَيْنِ حَقِّهِ أَصْلًا وَوَصْفًا
وَلَوْ صَالَحَ على أَقَلَّ من حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا بِأَنْ صَالَحَ من الْأَلْفِ الْجِيَادِ على خَمْسِمِائَةٍ نَبَهْرَجَةٍ يَجُوزُ أَيْضًا وَيُحْمَلُ على اسْتِيفَاءِ بَعْضِ عَيْنِ الْحَقِّ أَصْلًا وَالْإِبْرَاءُ عن الْبَاقِي أَصْلًا وَوَصْفًا لِأَنَّ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ على الصَّلَاحِ وَالسَّدَادِ ما أَمْكَنَ
وَلَوْ حُمِلَ على الْمُعَاوَضَةِ يؤدي إلَى الرِّبَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا أَلْفًا بِخَمْسِمِائَةٍ وَأَنَّهُ رِبًا فَيُحْمَلُ على اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْحَقِّ وَالْإِبْرَاءِ عن الْبَاقِي وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ وَيَجُوزُ مُؤَجَّلًا لِأَنَّ جَوَازَهُ ليس بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ لِيَكُونَ صَرْفًا
وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَ على أَقَلَّ من حَقِّهِ وَصْفًا لَا قَدْرًا بِأَنْ صَالَحَ عن أَلْفٍ جِيَادٍ على أَلْفٍ نَبَهْرَجَةٍ أو صَالَحَ على أَقَلَّ من حَقِّهِ قَدْرًا لَا وَصْفًا بِأَنْ صَالَحَ من أَلْفٍ جِيَادٍ على خَمْسِمِائَةٍ جَيِّدَةٍ يَجُوزُ وَيُحْمَلُ على اسْتِيفَاءِ الْبَعْضِ وَالْحَطُّ وَالْإِبْرَاءُ وَالتَّجَوُّزُ بِدُونِ الْحَقِّ أَصْلًا وَوَصْفًا يَجُوزُ من غَيْرِ قَبْضٍ وَمُؤَجَّلًا
وَلَوْ صَالَحَ على أَكْثَرَ من حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا بِأَنْ صَالَحَ من أَلْفٍ نَبَهْرَجَةٍ على أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ جِيَادٍ أو صَالَحَ على أَكْثَرَ من حَقِّهِ قَدْرًا لَا وَصْفًا بِأَنْ صَالَحَ من أَلْفٍ جِيَادٍ على أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ نَبَهْرَجَةٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ رِبَا لِأَنَّهُ يَحْمِلُهُ على الْمُعَاوَضَةِ هُنَا لِتَعَذُّرِ حَمْلِهِ على اسْتِيفَاءِ الْبَعْضِ وَإِسْقَاطِ الْبَاقِي
وَإِنْ صَالَحَ على أَكْثَرَ من حَقِّهِ وَصْفًا لَا قَدْرًا بِأَنْ صَالَحَ من أَلْفٍ نَبَهْرَجَةٍ على أَلْفٍ جِيَادٍ جَازَ وَيُشْتَرَطُ الْحُلُولُ أو التَّقَابُضُ حتى كان الصُّلْحُ مُؤَجَّلًا إنْ لم يُقْبَضْ في الْمَجْلِسِ يَبْطُلْ لِأَنَّهُ صَرْفٌ وَأَمَّا إذَا صَالَحَ على أَكْثَرَ من حَقِّهِ وَصْفًا وَأَقِلَّ منه قَدْرًا بِأَنْ صَالَحَ من أَلْفٍ نَبَهْرَجَةٍ على خَمْسِمِائَةٍ جِيَادٍ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْآخَرُ وكان يقول أَوَّلًا لا يَجُوزُ ثُمَّ رَجَعَ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ إن هذا حَطُّ بَعْضِ حَقِّهِ وهو خَمْسُمِائَةٍ نَبَهْرَجَةٍ فَيَبْقَى عليه خَمْسُمِائَةٍ نَبَهْرَجَةٍ إلَّا أَنَّهُ أَحْسَنَ في الْقَضَاءِ بِخَمْسِمِائَةٍ جَيِّدَةٍ فَلَا يُمْنَعُ عنه حتى أَنَّهُ لو امْتَنَعَ لَا يَكُونُ عليه إلَّا خَمْسَمِائَةٍ نَبَهْرَجَةٍ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الصُّلْحَ من الْأَلْفِ النَّبَهْرَجَةِ على الْخَمْسمِائَةِ الْجَيِّدَةِ اعْتِيَاضٌ عن صِفَةِ الْجَوْدَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ في الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ لَا قِيمَةَ لها عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عنها لِسُقُوطِ قِيمَتِهَا شَرْعًا وَالسَّاقِطُ شَرْعًا وَالْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ سَوَاءٌ وَلِأَنَّ الصُّلْحَ على هذا الْوَجْهِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُجْعَلَ اسْتِيفَاءً لَعَيْنِ الْحَقِّ أو يُجْعَلَ مُعَاوَضَةً لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ حَقَّهُ في الرَّدِيءِ لَا في الْجَيِّدِ فَيُحْمَلُ على الْمُعَاوَضَةِ فَيَصِيرُ بَائِعًا ألف ( ( ( ألفا ) ) ) نَبَهْرَجَةً بِخَمْسِمِائَةٍ جَيِّدَةٍ فَيَكُونُ رِبًا وَكَذَلِكَ حُكْمُ الدَّنَانِيرِ وَالصُّلْحُ منها على دَنَانِيرَ كَحُكْمِ الدَّرَاهِمِ في جَمِيعِ ما ذَكَرْنَا وَلَوْ صَالَحَ من دَرَاهِمَ على دَنَانِيرَ أو من دَنَانِيرَ على دَرَاهِمَ جَازَ وَيُشْتَرَطُ الْقَبْضُ في الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ صَرْفٌ
وَلَوْ ادَّعَى أَلْفَ دِرْهَمٍ وَمِائَةَ دِينَارٍ فَصَالَحَهُ على مِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى شَهْرٍ جَازَ وَطَرِيقُ جَوَازِهِ بِأَنْ يُجْعَلَ حَطًّا لَا مُعَاوَضَةَ لِأَنَّهُ لو جُعِلَ مُعَاوَضَةً لَبَطَلَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَعْضُ الْمِائَةِ عِوَضًا عن الدَّنَانِيرِ وَالْبَعْضُ عِوَضًا عن الدَّرَاهِمِ فَيَصِيرُ بَائِعًا تِسْعَمِائَةٍ بِخَمْسِينَ فَيَكُونُ رِبًا وَأُمُورُ الْمُسْلِمِينَ محمول ( ( ( محمولة ) ) ) على الصَّلَاحِ وَالسَّدَادِ ما أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ حَطًّا لِلدَّنَانِيرِ أَصْلًا وَبَعْضِ الدَّرَاهِمِ
____________________

(6/43)


وَذَلِكَ تِسْعُمِائَةٍ وَتَأْجِيلُ الْبَعْضِ وَذَلِكَ مِائَةٌ إلَى شَهْرٍ
وَكَذَلِكَ لو كان عليه أَلْفُ دِرْهَمٍ وَكُرٍّ فَصَالَحَهُ على مِائَةٍ جَازَ وَطَرِيقُ جَوَازِهِ أَنْ يُجْعَلَ حَطًّا وَإِسْقَاطًا لِلْكُرِّ لَا مُعَاوَضَةً لِأَنَّ اسْتِبْدَالَ الْمُسْلِمِ فيه لَا يَجُوزُ وَلَوْ كان الْمَالَانِ عليه لرجل ( ( ( لرجلين ) ) ) لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ وَالْآخَرُ دَنَانِيرُ فَصَالَحَهُ على مِائَةِ دِرْهَمٍ جَازَ وَطَرِيقَةُ جَوَازِهِ أَنْ يُعْتَبَرَ مُعَاوَضَةً في حَقِّ أَحَدِهِمَا وَحَطًّا وَإِسْقَاطًا في حَقِّ الْآخَرِ وَذَلِكَ أَنْ يُقَسَّمَ بَدَلُ الصُّلْحِ على قَدْرِ قِيمَةِ دينيهما ( ( ( دينهما ) ) ) من الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَالْقَدْرُ الذي أَصَابَ الدَّنَانِيرَ يَكُونُ عِوَضًا عنها فَيَكُونُ صَرْفًا فَيُرَاعَى فيه شَرَائِطُ الصَّرْفِ فَيَشْتَرِطُ الْقَبْضُ في الْمَجْلِسِ وَالْقَدْرِ الذي أَصَابَ الدَّرَاهِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ عِوَضًا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَيُجْعَلُ الصُّلْحُ في حَقِّهِ اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ الْحَقِّ وَإِبْرَاءً عن الْبَاقِي
وَالْأَصْلُ أَنَّ الصُّلْحَ مَتَى وَقَعَ على أَقَلَّ من جِنْسِ حَقِّهِ من الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ يُعْتَبَرُ اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ الْحَقِّ وَإِبْرَاءً عن الْبَاقِي وَمَتَى وَقَعَ على أَكْثَرَ من جِنْسِ حَقِّهِ منها أو وَقَعَ على جِنْسٍ آخَرَ من الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ يُعْتَبَرُ مُعَاوَضَةً لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ على اسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ وَالْإِبْرَاءُ عن الْبَاقِي لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ عَيْنِ الْحَقِّ من جِنْسِهِ يَكُونُ ولم يُوجَدْ فَيُعْتَبَرُ مُعَاوَضَةً فما جَازَتْ بِهِ الْمُعَاوَضَاتُ يَجُوزُ هذا وما فَسَدَتْ بِهِ تِلْكَ يَفْسُدُ بِهِ هذا وقد ذَكَرْنَا بَعْضَ مَسَائِلِ هذا الْأَصْلِ
وَعَلَى هذا إذَا صَالَحَ من أَلْفٍ حَالَّةٍ على أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ جَازَ وَيُعْتَبَرُ حَطًّا لِلْحُلُولِ وَتَأْجِيلًا لِلدَّيْنِ وَتَجَوُّزًا بِدُونِ من حَقِّهِ لَا مُعَاوَضَةَ
وَلَوْ صَالَحَ من أَلْفٍ حَالَّةٍ على خَمْسِمِائَةٍ قد ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ وَيُعْتَبَرُ اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ حَقِّهِ وَإِبْرَاءً عن الْبَاقِي وَأَمَّا إذَا صَالَحَ على خَمْسِمِائَةٍ أَنْ يُعْطِيَهَا إيَّاهُ فَهَذَا لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أن وَقَّتَ لِأَدَاءِ الْخَمْسِمِائَةِ وَقْتًا وَإِمَّا أن لم يؤقت فَإِنْ لم يؤقت فَالصُّلْحُ جَائِزٌ وَيَكُونُ حَطًّا لِلْخَمْسِمِائَةِ لِأَنَّ هذا الشَّرْطَ لَا يُفِيدُ شيئا لم يَكُنْ من قَبْلُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو لم يُذْكَرْ لَلَزِمَهُ الْإِعْطَاءُ فَكَانَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عنه بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ
وَكَذَلِكَ الْحَطُّ على هذا بِأَنْ قال لِلْغَرِيمِ حَطَطْتُ عَنْكَ خَمْسَمِائَةٍ على أَنْ تُعْطِيَنِي خَمْسَمِائَةٍ لِمَا بَيَّنَّا
وَإِنْ وَقَّتَ بِأَنْ قال صَالَحْتُكَ على خَمْسَمِائَةٍ على أَنْ تعطنيها ( ( ( تعطينيها ) ) ) الْيَوْمَ أو على أَنْ تُعَجِّلَهَا الْيَوْمَ فَأَمَّا إنْ اقْتَصَرَ على هذا الْقَدْرِ ولم يَنُصَّ على شَرْطِ الْعَدَمِ وَأَمَّا أن نَصَّ عليه فقال فَإِنْ لم تُعْطِنِي الْيَوْمَ أو إنْ لم تُعَجِّلْ الْيَوْمَ أو على أَنْ تُعَجِّلَهَا الْيَوْمَ فَالْأَلْفُ عَلَيْك فَإِنْ نَصَّ عليه فَإِنْ أَعْطَاهُ وَعُجِّلَتْ في الْيَوْمِ فَالصُّلْحُ مَاضٍ وبرىء عن خَمْسِمِائَةٍ وَإِنْ لم يُعْطِهِ حتى مَضَى الْيَوْمُ فَالْأَلْفُ عليه بِلَا خِلَافٍ وَكَذَلِكَ الْحَطُّ على هذا
وَأَمَّا إذَا اقْتَصَرَ عليه ولم يَنُصَّ على شَرَطِ الْعَدَمِ فَإِنْ أَعْطَاهُ في الْيَوْمِ بريء عن خَمْسِمِائَةٍ بِالْإِجْمَاعِ
وَأَمَّا إذَا لم يُعْطِهِ حتى مَضَى الْيَوْمُ بَطَلَ الصُّلْحُ وَالْأَلْفُ عليه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ الصُّلْحُ مَاضٍ وَعَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ فَقَطْ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن شَرْطَ التَّعْجِيلِ ما أَفَادَهُ شيئا لم يَكُنْ من قَبْلُ لِأَنَّ التَّعْجِيلَ كان وَاجِبًا عليه بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَكَانَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عنه بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ سَكَتَ عنه لَكَانَ الْأَمْرُ على ما وَصَفْنَا فَكَذَا هذا بِخِلَافِ ما إذَا قال فَإِنْ لم تفعل ( ( ( نفعل ) ) ) فَكَذَا لِأَنَّ التَّنْصِيصَ على عَدَمِ الشَّرْطِ نَفْيٌ لِلْمَشْرُوطِ عِنْدَ عَدَمِهِ فَكَانَ مُفِيدًا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ شَرْطَ التَّعْجِيلِ في هذه الصُّورَةِ شَرْطُ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ عِنْدَ عَدَمِهِ بِدَلَالَةِ حَالِ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَقْصِدُ بِتَصَرُّفِهِ الْإِفَادَةَ دُونَ اللَّغْوِ وَاللَّعِبِ وَالْعَبَثِ
وَلَوْ حُمِلَ الْمَذْكُورُ على ظَاهِرِ شَرْطِ التَّعْجِيلِ لَلَغَا لِأَنَّ التَّعْجِيلَ ثَابِتٌ بِدُونِهِ فَيُجْعَلُ ذِكْرُ شَرْطِ التَّعْجِيلِ ظَاهِرًا شَرْطًا لِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ عِنْدَ عَدَمِ التَّعْجِيلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَصَّ على هذا الشَّرْطِ فقال فَإِنْ لم تُعَجِّلْ فَلَا صُلْحَ بَيْنَنَا
وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَكَانَ الْأَمْرُ على ما نُصَّ عليه فَكَذَا هذا
وَتَبَيَّنَ بهذا أَنَّ هذا تَعْلِيقُ الْفَسْخِ بِالشَّرْطِ لَا تَعْلِيقُ الْعَقْدِ كما إذَا بَاعَ بِأَلْفٍ على أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَإِنْ لم يَنْقُدْهُ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ جَائِزٌ لِدُخُولِ الشَّرْطِ على الْفَسْخِ لَا على الْعَقْدِ فَكَذَا هذا
وَكَذَلِكَ لو أَخَذَ منه كَفِيلًا وَشَرَطَ على الْكَفِيلِ أَنَّهُ إنْ لم يُوَفِّهِ خَمْسَمِائَةٍ إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ فَعَلَيْهِ كُلُّ الْمَالِ وهو الْأَلْفُ فَهُوَ جَائِزٌ وَالْأَلْفُ لَازِمَةٌ لِلْكَفِيلِ إنْ لم يُوَفِّهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ عَدَمَ إيفَاءِ الْخَمْسِمِائَةِ إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ شَرْطًا لِلْكَفَالَةِ بِأَلْفٍ فإذا وُجِدَ الشَّرْطُ ثَبَتَ الْمَشْرُوطُ وَلَوْ ضَمِنَ الْكَفِيلُ الْأَلْفَ ثُمَّ قال حَطَطْتُ عَنْك خَمْسَمِائَةٍ على أَنْ تُوَفِّيَنِي رَأْسَ الشَّهْرِ خَمْسَمِائَةٍ فَإِنْ لم تَفْعَلْ فَالْأَلْفُ عَلَيْكَ فَهَذَا أَوْثَقُ من الْبَابِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هذا هُنَا عَلَّقَ الْحَطَّ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ وهو إيفَاءُ الْخَمْسِمِائَةِ رَأْسَ الشَّهْرِ وَجَعَلَ عَدَمَ هذا الشَّرْطِ شَرْطًا لِانْفِسَاخِ الْحَطِّ وفي الْبَابِ الْأَوَّلِ جَعَلَ عَدَمَ التَّعْجِيلِ شَرْطًا لِلْعَقْدِ وهو الْكَفَالَةُ بِالْأَلْفِ وَالْفَسْخُ لشرط ( ( ( للشرط ) ) ) أَقْبَلُ من الْعَقْدِ لِذَلِكَ كان الثَّانِي
____________________

(6/44)


أَوْثَقَ من الْأَوَّلِ
وَكَذَلِكَ لو جَعَلَ الْمَالَ نُجُومًا بِكَفِيلٍ أو بِغَيْرِ كَفِيلٍ وَشَرَطَ أَنَّهُ إنْ لم يُوَفِّهِ كُلَّ نَجْمٍ عِنْدَ مَحَلِّهِ فَالْمَالُ حَالٌّ عليه فَهُوَ جَائِزٌ على ما شَرَطَ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْإِخْلَالَ بِنَجْمٍ شَرْطًا لِحُلُولِ كل الْمَالِ عليه وَأَنَّهُ صَحِيحٌ
وَلَوْ كان له عليه أَلْفٌ فقال أَدِّ إلَيَّ من الْأَلْفِ خَمْسَمِائَةٍ غَدًا على أَنَّك بَرِيءٌ من الْبَاقِي فَإِنْ أَدَّى إلَيْهِ خَمْسَمِائَةٍ غَدًا يَبْرَأُ من الْبَاقِي إجْمَاعًا وَإِنْ لم يُؤَدِّ فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ ليس عليه إلَّا خَمْسَمِائَةٍ وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ
وَلَوْ قال إنْ أَدَّيْتَ إلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ فَأَنْتَ بَرِيءٌ من الْبَاقِي أو قال مَتَى أَدَّيْتَ فأدى ( ( ( فأد ) ) ) إلَيْهِ خَمْسَمِائَةٍ لَا يبرىء ( ( ( يبرأ ) ) ) عن الْخَمْسِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ حتى يُبْرِئَهُ وَكَذَلِكَ إذَا قال لِمُكَاتَبِهِ ذلك فَأَدَّى خَمْسَمِائَةٍ لَا يَبْرَأُ عن الْبَاقِي حتى يُبْرِئَهُ لِأَنَّ هذا تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ بِالشَّرْطِ وإنه بَاطِلٌ
بِخِلَافِ ما إذَا كان بِلَفْظِ الصُّلْحِ أو الْحَطِّ أو الْأَمْرِ لِأَنَّ ذلك ليس تَعْلِيقَ بالبراءة ( ( ( البراءة ) ) ) بِالشَّرْطِ على ما مَرَّ
وَلَوْ قال لِمُكَاتَبِهِ إنْ أَدَّيْتَ إلَيَّ خمسماية ( ( ( خمسمائة ) ) ) فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَدَّى خمسماية ( ( ( خمسمائة ) ) ) عَتَقَ لِأَنَّ هذا تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ وَذَلِكَ في حَقِّ الْمُكَاتَبِ صَحِيحٌ
وَلَوْ كان له على إنْسَانٍ أَلْفٌ مُؤَجَّلَةٌ فَصَالَحَ منها فَهَذَا لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ صَالَحَ منها على أَقَلَّ من حَقِّهِ أو على تَمَامِ حَقِّهِ وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو من أَنْ يَشْتَرِطَ التَّعْجِيلَ أو لم يَشْتَرِطْ فَإِنْ صَالَحَ على أَقَلَّ من حَقِّهِ قَدْرًا أو وَصْفًا أو قَدْرًا وَوَصْفًا ولم يَشْتَرِطْ التَّعْجِيلَ لَمَّا وَقَعَ عليه الصُّلْحُ جَازَ وَيَكُونُ حَطًّا وَتَجَوُّزًا بِدُونِ حَقِّهِ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِيَ بَعْدَ حِلِّ الْأَجَلِ
وَإِنْ شَرَطَ التَّعْجِيلَ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ وَعَلَيْهِ رَدُّ ما قَبْضَ وَالرُّجُوعُ بِرَأْسِ مَالِهِ بَعْدَ حِلِّ الْأَجَلِ لِأَنَّ فيه مُعَاوَضَةَ الْأَجَلِ وهو التَّعْجِيلُ بِالْحَطِّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَجَلَ ليس بِمَالٍ
وَإِنْ صَالَحَ على تَمَامِ حَقِّهِ جَازَ وَإِنْ شَرَطَ التَّعْجِيلَ فَإِنْ صَالَحَ من أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ على أَلْفٍ معجله لَكِنْ بِشَرْطِ الْقَبْضِ قبل الِافْتِرَاقِ عن الْمَجْلِسِ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الدَّنَانِيرِ على هذا وَلَوْ كان الْوَاجِبُ عليه قِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ فَإِنْ كان الْمُسْتَهْلَكُ من ذَوَاتِ الْقِيمَةِ فَصَالَحَ فَإِنْ صَالَحَ على الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ حَالَّةً أو مُؤَجَّلَةً جَازَ الصُّلْحُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ في ذِمَّتِهِ قبل الْمُتْلَفِ صُورَةً وَمَعْنًى كَذَا الِاسْتِهْلَاكُ تَحْقِيقًا للمماثلة ( ( ( للماثلة ) ) ) الْمُعَلَّقَةِ ثُمَّ يَمْلِكُهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فإذا صَالَحَ كان هذا الصُّلْحُ على عَيْنِ حَقِّهِ فَيَجُوزُ على أَيْ وَصْفٍ كان
وَإِنْ صَالَحَ على غَيْرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إنْ كان عَيْنًا جَازَ وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ وَإِنْ كان دَيْنًا مَوْصُوفًا يَجُوزُ أَيْضًا لَكِنَّ الْقَبْضَ في الْمَجْلِسِ شَرْطٌ وَلَوْ كان الْوَاجِبُ عليه مِثْلَ الْمُسْتَهْلَكِ فَإِنْ كان من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الذي ليس في تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ فَحُكْمُ الصُّلْحِ فيه كَحُكْمِ الصُّلْحِ في كُرِّ الْحِنْطَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إذَا كان المدعي دَيْنًا سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَإِنْ كان مَكِيلًا بِأَنْ كان كُرَّ حِنْطَةٍ مِثْلًا فَصَالَحَ منه لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ أَمَّا إنْ صَالَحَ على جِنْسِهِ أو على خِلَافِ جِنْسِهِ فَإِنْ صَالَحَ على جِنْسِهِ لَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَمَّا إنْ صَالَحَ على مِثْلِ حَقِّهِ وَأَمَّا على أَقَلَّ منه وَأَمَّا إنْ صَالَحَ على أَكْثَرَ منه فَإِنْ صَالَحَ على مِثْلِ حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا جَازَ وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى عَيْنَ حَقِّهِ
وَإِنْ صَالَحَ على أَقَلَّ من حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا جَازَ وَيَكُونُ حَطًّا لَا مُعَاوَضَةً لِمَا ذَكَرْنَا في الدَّرَاهِمِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ وَيَكُونُ مُؤَجَّلًا
وَإِنْ صَالَحَ على أَقَلَّ من حَقِّهِ وَصْفًا لَا قَدْرًا جَازَ أَيْضًا وَيَكُونُ اسْتِيفَاءً لَعَيْنِ حَقِّهِ أَصْلًا وَإِبْرَاءً له عن الصِّفَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ للقبض ( ( ( القبض ) ) ) وَيَجُوزُ حتى لَا يَبْطُلَ بِالتَّأْجِيلِ أو تَرْكِهِ وَيُعْتَبَرُ رِضًا بِدُونِ حَقِّهِ وَلَوْ صَالَحَ على أَكْثَرَ من حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا أو قَدْرًا لَا وَصْفًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ رِبًا
وَإِنْ صَالَحَ على أَكْثَرَ منه وَصْفًا لَا قَدْرًا بِأَنْ صَالَحَ من كُرٍّ رَدِيءٍ على كُرٍّ جَيِّدٍ جَازَ وَيُعْتَبَرُ مُعَاوَضَةً احْتِرَازًا عن الِافْتِرَاقِ عن دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَلَوْ صَالَحَ منه على كُرٍّ مُؤَجَّلٍ جَازَ لِأَنَّهُ حَطَّ حَقَّهُ في الْحُلُولِ وَرَضِيَ بِدُونِ حَقِّهِ كما في الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
هذا إذَا كان أَكْثَرَ الدَّيْنِ حَالًّا فَإِنْ كان مُؤَجَّلًا فَصَالَحَ على بَعْضِ حَقِّهِ أو على تَمَامِ حَقِّهِ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا في الصُّلْحِ من الْأَلْفِ الْمُؤَجَّلَةِ من غَيْرِ تَفَاوُتٍ هذا إذَا صَالَحَ من الْكُرِّ على جِنْسِهِ فَإِنْ صَالَحَ على خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ فَإِنْ كان الْكُرُّ الذي عليه سَلَمًا لَا يَجُوزُ بِحَالٍ لِأَنَّ الصُّلْحَ على خِلَافِ جِنْسِ الْمُسْلَمِ فيه يَكُونُ مُعَاوَضَةً وَفِيهِ اسْتِبْدَالُ الْمُسْلَمِ فيه قبل قَبْضِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الصُّلْحُ منه على رَأْسِ الْمَالِ يَجُوزُ لِأَنَّ الصُّلْحَ من الْمُسْلَمِ فيه على رَأْسِ الْمَالِ يَكُونُ إقَالَةً للسلم ( ( ( للمسلم ) ) ) وَفَسْخًا له وَذَلِكَ جَائِزٌ وَإِنْ لم يَكُنْ سَلَمًا فَصَالَحَ على خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ
فَإِنْ كان ذلك من الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ جَازَ وَيُشْتَرَطُ الْقَبْضُ وَإِنْ كان مُعِينًا مُشَارًا إلَيْهِ لِأَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَ تَرْكُ قَبْضِهِ افْتِرَاقًا عن دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَإِنْ كان ذلك من الْمَكِيلَاتِ
____________________

(6/45)


وهو عَيْنٌ جَازَ وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ
وَإِنْ كان مَوْصُوفًا في الذِّمَّةِ جَازَ أَيْضًا فَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ ما إذَا كان عليه دَرَاهِمُ أو دَنَانِيرُ فَصَالَحَ منها على مَكِيلٍ أو مَوْزُونٍ مَوْصُوفٍ في الذِّمَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ذلك مَبِيعٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قُوبِلَ بِالْأَثْمَانِ وَالْمَبِيعُ ما يُقَابِلُ بِالثَّمَنِ وَهَذَا لَا يُقَابِلُ بِالثَّمَنِ فَلَا يَكُونُ متبعا ( ( ( مبيعا ) ) ) إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ من الْقَبْضِ في الْمَجْلِسِ احْتِرَازًا من الِافْتِرَاقِ عن دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَإِنْ كان من الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ فَإِنْ كان عَيْنًا جَازَ وَإِنْ كان دَيْنًا يَجُوزُ في الثِّيَابِ الْمَوْصُوفَةِ إذَا أتى بِشَرَائِطِ السَّلَمِ لَكِنْ الْقَبْضُ في الْمَجْلِسِ شَرْطُ احترازا ( ( ( احتراز ) ) ) عن الِافْتِرَاقِ عن دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَلَا يَجُوزُ في الْحَيَوَانِ الْمَوْصُوفِ بِحَالٍ لِأَنَّهُ لَا يُثْبِتُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا هو مَالٌ وَكَذَلِكَ إذَا كان المدعي مَوْزُونًا دَيْنًا مَوْصُوفًا في الذِّمَّةِ فَصَالَحَ منه على جِنْسِهِ أو على خِلَافِ جِنْسِهِ إلَى آخِرِ ما ذَكَرْنَا في الْمَكِيلِ الْمَوْصُوفِ
هذا إذَا كان المدعي مَكِيلًا أو مَوْزُونًا دَيْنًا مَوْصُوفًا في الذِّمَّةِ فَإِنْ كان ثَوْبَ السَّلَمِ فَصَالَحَ منه فَهَذَا لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ أما إنْ صَالَحَ منه على جِنْسِهِ وأما إنْ صَالَحَ منه على خِلَافِ جِنْسِهِ
فَإِنْ صَالَحَ على جِنْسِهِ فَهُوَ على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أما إنْ صَالَحَ على مِثْلِ حَقِّهِ أو أَكْثَرَ منه أو أَقَلَّ فَإِنْ صَالَحَ على مِثْلِ حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا فَإِنْ صَالَحَ من ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ جَيِّدٍ على ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ جَيِّدٍ جَازَ وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى عَيْنَ حَقِّهِ
وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَ على أَقَلَّ من حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا أو وَصْفًا لَا قَدْرًا يَجُوزُ وَيَكُونُ هذا اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ عَيْنِ حَقِّهِ وَحَطًّا للبقي ( ( ( للباقي ) ) ) وَإِبْرَاءً عنه أَصْلًا وَوَصْفًا وَالْإِبْرَاءُ عن الْمُسْلَمِ فيه صَحِيحٌ لِأَنَّ قَبْضَهُ ليس بِوَاجِبٍ
وَإِنْ صَالَحَ على أَقَلَّ من حَقِّهِ قَدْرًا لَا وَصْفًا بِأَنْ صلح ( ( ( صالح ) ) ) من ثَوْبٍ رَدِيءٍ على نِصْفِ ثَوْبٍ جَيِّدٍ جَازَ بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الْمَوْصُوفِينَ بِأَنْ صَالَحَ من أَلْفٍ نَبَهْرَجَةٍ على خَمْسِمِائَةٍ جِيَادٍ أو صَالَحَ من كُرٍّ رَدِيءٍ على نِصْفِ كُرٍّ جَيِّدٍ أو صَالَحَ من حَدِيدٍ رَدِيءٍ على نِصْفٍ من جَيِّدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَانِعَ من الْجَوَازِ هو الِاعْتِيَاضُ عن الْجَوْدَةِ هُنَا جَائِزٌ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ في غَيْرِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ مُقَابِلَتِهَا بِجِنْسِهَا لها قِيمَةٌ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَكُونَ الْجَوْدَةُ مُتَقَوِّمَةً في الْأَمْوَالِ كُلِّهَا لِأَنَّهَا صِفَةٌ مَرْغُوبَةٌ ببذل ( ( ( يبذل ) ) ) الْعِوَضُ في مُقَابِلَتِهَا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَهَا في الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ تَعَبُّدًا بِقَوْلِهِ جَيِّدُهَا وردئيها ( ( ( ورديئها ) ) ) سَوَاءٌ فَبَقِيَتْ مُتَقَوِّمَةً في غَيْرِهَا على الْأَصْلِ فَيَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عنها
وَإِنْ صَالَحَ على أَكْثَرَ من حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا بِأَنْ صَالَحَ من ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ جَيِّدٍ على ثَوْبَيْنِ هَرَوِيَّيْنِ جَيِّدَيْنِ يَجُوزُ لَكِنْ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ لِأَنَّ جَوَازَهُ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ وَالْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ فَلَا بُدَّ من الْقَبْض لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الرِّبَا
وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَ على أَكْثَرَ من حَقِّهِ قَدْرًا لَا وَصْفًا بِأَنْ صَالَحَ عن ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ جَيِّدٍ على ثَوْبَيْنِ هَرَوِيَّيْنِ رَدِيئَيْنِ جَازَ وَالْقَبْضُ شَرْطٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ صَالَحَ على أَكْثَرَ من حَقِّهِ وَصْفًا لَا قَدْرًا بِأَنْ صَالَحَ من ثَوْبٍ رَدِيءٍ على ثَوْبٍ جَيِّدٍ جَازَ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ إذْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ على اسْتِيفَاءِ عَيْن الْحَقّ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ له فَيُحْمَلُ على الْمُعَاوَضَةِ وَيُشْتَرَطُ الْقَبْضَ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الرِّبَا
وَإِنْ صَالَحَ على خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ كَائِنًا ما كان لَا يَجُوزُ دَيْنًا كان أو عَيْنًا لِأَنَّ فيه اسْتِبْدَالَ الْمُسْلَمِ فيه قبل الْقَبْضِ وأنه لَا يَجُوزُ إلَّا على رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ لِأَنَّ الصُّلْحَ عليه يَكُونُ إقَالَةً وَفَسْخًا لَا اسْتِبْدَالًا
وَإِنْ كان المدعي حَيَوَانًا مَوْصُوفًا في الذِّمَّةِ في قَتْلِ الخطأ أو شِبْهِ الْعَمْدِ فَصَالَحَ فَنَقُولُ الْجُمْلَةُ فيه أَنَّ هذا في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو من وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ صَالَحَ على ما هو مَفْرُوضٌ في بَابِ الدِّيَةِ في الْجُمْلَةِ وَإِمَّا أَنْ صَالَحَ على ما ليس بِمَفْرُوضٍ في الْبَابِ أَصْلًا
وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ صَالَحَ قبل تَعْيِينِ الْقَاضِي نَوْعًا من الْأَنْوَاعِ الْمَفْرُوضَةِ أو بَعْدَ تَعْيِينِهِ نَوْعًا منها فَإِنْ صَالَحَ على الْمَفْرُوضِ قبل تَعْيِينِ الْقَاضِي بِأَنْ صَالَحَ على عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ أو على أَلْفِ دِينَارٍ أو على مِائَةٍ من الْإِبِلِ أو على مِائَةِ بَقَرَةٍ أو على أَلْفَيْ شَاةٍ أو على مِائَتَيْ حُلَّةٍ جَازَ الصُّلْحُ وهو في الْحَقِيقَةِ تَعْيِينٌ منها لِلْوَاجِبِ من أَحَدِ الْأَنْوَاعِ الْمَفْرُوضَةِ بِمَنْزِلَةِ تَعْيِينِ الْقَاضِي فَيَجُوزُ وَيَكُونُ اسْتِيفَاءً لَعَيْنِ حَقِّهِ الْوَاجِبِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ ذلك فِعْلًا بِرِضَا الْقَاتِلِ
وَكَذَا إذَا صَالَحَ على أَقَلَّ من الْمَفْرُوضِ يَكُونُ اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ عَيْنِ الْحَقِّ وَإِبْرَاءً عن الْبَاقِي وَإِنْ صَالَحَ على أَكْثَرَ من الْمَفْرُوضِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ رِبًا وَلَوْ صَالَحَ بَعْدَ ما عَيَّنَ الْقَاضِي نَوْعًا منها فَإِنْ صَالَحَ على جِنْسِ حَقِّهِ الْمُعَيَّنِ جَازَ إذَا كان مِثْلُهُ أو أَقَلَّ منه وَإِنْ كان أَكْثَرَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ رِبًا وَإِنْ صَالَحَ على خِلَافِ الْجِنْسِ الْمُعَيَّنِ فَإِنْ كان من جِنْسِ الْمَفْرُوضِ في الْجُمْلَةِ بِأَنْ عَيَّنَ الْقَاضِي مِائَةً من الْإِبِلِ فَصَالَحَ على مِائَةٍ من الْبَقَرِ أو أَكْثَرَ
____________________

(6/46)


جَازَ وَتَكُونُ مُعَاوَضَةً لِأَنَّ الْإِبِلَ تَعَيَّنَتْ وَاجِبَةً بِتَعْيِينِ الْقَاضِي فلم يَبْقَ غَيْرُهُ وَاجِبًا فَكَانَتْ الْبَقَرُ بَدَلًا عن الْوَاجِبِ في الذِّمَّةِ فَكَانَتْ مُعَاوَضَةً وَلَا بُدَّ من الْقَبْضِ احْتِرَازًا عن الِافْتِرَاقِ عن دَيْنٍ بِدَيْنٍ
وَكَذَلِكَ إذَا كان من خِلَافِ جِنْسِ الْمَفْرُوضِ بِأَنْ صَالَحَ على مَكِيلٍ أو مَوْزُونٍ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ جَازَ وَيَكُونُ مُعَاوَضَةً وَيُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ صَالَحَ على قِيمَةِ الْإِبِلِ أو أَكْثَرَ مِمَّا يَتَغَابَنُ الناس فيه جَازَ لِأَنَّ قِيمَةَ الْإِبِلِ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ وَإِنَّهَا لَيْسَتْ من جِنْسِ الْإِبِلِ فَكَانَ الصُّلْحُ عليها مُعَاوَضَةً فَيَجُوزُ قَلَّ أو كَثُرَ وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ
وَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَ من الْإِبِلِ على دَرَاهِمَ في الذِّمَّةِ وَافْتَرَقَا من غَيْرِ قَبْضٍ جَازَ وَإِنْ كان هذا افْتِرَاقًا عن دَيْنٍ بِدَيْنٍ لِأَنَّ هذا الْمَعْنَى ليس بِمُعَاوَضَةٍ بَلْ هو اسْتِيفَاءُ عَيْنِ حَقِّهِ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ الْوَاجِبَ في الذِّمَّةِ وَإِنْ كان دِينًا لَكِنَّهُ ليس بِدَيْنٍ لَازِمٍ أَلَا تَرَى إن من عليه إذَا جاء بِقِيمَتِهِ يُجْبَرُ من له على الْقَبُولِ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ فَلَا يَكُونُ افْتِرَاقًا عن دَيْنٍ بِدَيْنٍ حَقِيقَةً
هذا إذَا قَضَى عليه القاضي بِالْإِبِلِ فَإِنْ قَضَى عليه بِالدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فَصَالَحَ من مَكِيلٍ أو مَوْزُونٍ سِوَى الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ أو بَقَرٍ ليس عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ما يُقَابِلُ هذه الْأَشْيَاءَ دَرَاهِمُ أو دَنَانِيرُ وإنها أَثْمَانٌ فَتَتَعَيَّنُ هذه مَبِيعَةً وَبَيْعُ الْمَبِيعِ الذي ليس بِمُعَيَّنٍ لَا يَجُوزُ إلَّا بِطَرِيقِ السَّلَمِ
هذا إذَا صَالَحَ على الْمَفْرُوضِ في بَابِ الدِّيَةِ فَأَمَّا إذَا صَالَحَ على ما ليس بِمَفْرُوضٍ أَصْلًا كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَنَحْوِ ذلك مِمَّا لَا يَدْخُلُ له في الْفَرْضِ قبل تَعْيِينِ الْقَاضِي جَازَ وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَكْثَرَ من الْمَفْرُوضِ لَكِنْ الْقَبْضُ في الْمَجْلِسِ شَرْطٌ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ فَيَجُوزُ وَلَا بُدَّ من الْقَبْضِ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ كان بَعْدَ تَعْيِينِ الْقَاضِي فَهُوَ على ما ذَكَرْنَا من التَّفْصِيلِ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الصُّلْحِ عن إنْكَارِ المدعي عليه وَسُكُوتِهِ بِحُكْمِ الصُّلْحِ عن إقْرَارِهِ في جَمِيعِ ما وَصَفْنَا هذا الذي ذَكَرْنَا إذَا كان بَدَلُ الصُّلْحِ مَالًا عَيْنًا أو دَيْنًا فَأَمَّا إذَا كان مَنْفَعَةً بِأَنْ صَالَحَ على خِدْمَةِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ أو رُكُوبِ دَابَّةٍ بِعَيْنِهَا أو على زِرَاعَةِ أَرْضٍ أو سُكْنَى دَارٍ وَقْتًا مَعْلُومًا جَازَ الصُّلْحُ وَيَكُونُ في مَعْنَى الْإِجَارَةِ سَوَاءً كان الصُّلْحُ عن إقْرَارِ المدعي عليه أو عن إنْكَارِهِ أو عن سُكُوتِهِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ وقد وُجِدَ أَمَّا في مَوْضِعِ الْإِقْرَارِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ عِوَضٌ عن المدعي وَكَذَا في مَوْضِعِ الْإِنْكَارِ في جَانِبِ الْمُدَّعِي وفي جَانِبِ الْمُدَّعَى عليه هو عِوَضٌ عن الْخُصُومَةِ وَالْيَمِينِ
وَكَذَا في السُّكُوتِ لِأَنَّ السَّاكِتَ مُنْكِرٌ حُكْمًا سَوَاءٌ كان المدعي عَيْنًا أو دَيْنًا لَكِنَّ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ قد يَكُونُ بِالْعَيْنِ وقد يَكُونُ بِالدَّيْنِ كما في سَائِرِ الْإِجَارَاتِ وَإِنْ كان المدعي مَنْفَعَةً فَإِنْ كانت الْمَنْفَعَتَانِ من جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كما إذَا صَالَحَ من سُكْنَى دَارٍ على خِدْمَةِ عَبْدٍ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَتَا من جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ في كِتَابِ الْإِجَارَاتِ
وإذا اُعْتُبِرَ الصُّلْحُ على الْمَنَافِعِ إجَارَةً يَصِحُّ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الْإِجَارَاتُ وَيَفْسُدُ بِمَا تَفْسُدُ بِهِ وَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ أَنْ يُعْتِقَهُ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِعْتَاقِ يَقِفُ على قِيَامِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وأنه قَائِمٌ فَأَشْبَهَ إعْتَاقَ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمَرْهُونِ وَلَيْسَ له أَنْ يَبِيعَهُ لِأَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ بَعْدَ مِلْكِ الْيَدِ ولم يُوجَدْ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ وَالْمَرْهُونِ وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ من غَيْرِهِ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ صَارَتْ مَمْلُوكَةً له بِالصُّلْحِ فَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَاهُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ شَاءَ مَلَكَهَا من غَيْرِهِ كَالْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ من الْمُدَّعَى عليه في مُدَّةِ الصُّلْحِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَلَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ كما لو آجَرَهُ من غَيْرِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ وَيَبْطُلُ الصُّلْحُ كما لو آجَرَهُ من الْمُؤَاجِرِ في مُدَّةِ الْإِجَارَةِ
وإنه لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ الْأُولَى وَلَا يَجِبُ على الْمُسْتَأْجِرِ شَيْءٌ من الْأُجْرَةِ
كَذَا هذا وَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ
وَذَكَرَ في الْإِجَارَةَ أَنَّ من اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ لم يَكُنْ له أَنْ يُسَافِرَ بِهِ لِلتَّفَاوُتِ بين خِدْمَتِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُسَافَرَةَ بِالْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ لِلْخِدْمَةِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِالْآجِرِ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الرَّدِّ في بَابِ الْإِجَارَةِ عليه وَرُبَّمَا يُلْزِمُهُ بِرَدِّهِ مُؤْنَةً تَزِيدُ على الْأُجْرَةِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ فلم يَمْلِكْ الْمُسَافِرَةَ بِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عنه وَهَذَا الْمَعْنَى هَهُنَا مُنْعَدِمٌ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الرَّدِّ لَا تَلْزَمُ صَاحِبَ الْعَبْدِ فَأَشْبَهَ الْعَبْدَ الموصي بِخِدْمَتِهِ وَالْعَبْدَ الْمَرْهُونَ وَهُمَا يَمْلِكَانِ الْمُسَافَرَةَ بِهِ كَذَا هذا
وَلَوْ ادَّعَى على رَجُلٍ دَارًا في يَدِهِ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عليه فَصَالَحَهُ على أَنْ يَسْكُنَ الْمُدَّعَى عليه الذي في يَدِهِ الدَّارُ سَنَةً ثُمَّ يَدْفَعُهَا إلَى الْمُدَّعِي جَازَ لِأَنَّ الْمُدَّعِي مُتَصَرِّفٌ في مِلْكِ نَفْسِهِ بِبَدَلِ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُدَّعَى عليه في زَعْمِهِ سَنَةً وَالْمُدَّعَى عليه مُتَصَرِّفٌ في مِلْكِ نَفْسِهِ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لِنَفْسِهِ في الْمُدَّةِ الْمَشْرُوطَةِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَصَرِّفًا في مِلْكِ نَفْسِهِ في زَعْمِهِ فَيَجُوزُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا فَلَا يَصِحُّ
____________________

(6/47)


الصُّلْحُ على الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ من الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ في حَقِّهِ وَكَذَا إذَا صَالَحَ على دَنٍّ من خَلٍّ فإذا هو خَمْرٌ لم يَصِحَّ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يُصَادِفْ مَحَلَّهُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْمُصَالِحِ حتى أنه إذَا صَالَحَ على مَالٍ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ من يَدِ الْمُدَّعِي لم يَصِحَّ الصُّلْحُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ليس مَمْلُوكًا لِلْمُصَالِحِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الصُّلْحَ لم يَصِحَّ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِأَنَّ جَهَالَةَ الْبَدَلِ تُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَتُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ إلَّا إذَا كان شيئا لَا يُفْتَقَرُ إلَى الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ كما إذَا ادَّعَى رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على صَاحِبِهِ حَقًّا ثُمَّ تَصَالَحَا على أَنْ جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ما ادَّعَاهُ على صَاحِبِهِ صُلْحًا مِمَّا ادَّعَاهُ عليه صَاحِبُهُ يَصِحُّ الصُّلْحُ وَإِنْ كان مَجْهُولًا لِأَنَّ جَهَالَةَ الْبَدَلِ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ لَعَيْنِهَا بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ من التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فإذا كان ما لا يستغني عن التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَلَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ إلَّا أَنَّ الصُّلْحَ من الْقِصَاصِ في النَّفْسِ وما دُونَهُ تُتَحَمَّلُ الْجَهَالَةُ الْقَلِيلَةُ في الْبَدَلِ كما تُتَحَمَّل في الْمَهْرِ في بَابِ النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالْإِعْتَاقِ على مَالٍ وَالْكِتَابَةُ لِمَا عُلِّمَ
وَلَوْ صَالَحَ على مُسَيِّلٍ أو شِرْبٍ من نَهْرٍ لَا حَقَّ له في رَقَبَتِهِ أو على أَنْ يُحَمِّلَ كَذَا وَكَذَا جِذْعًا على هذا الْحَائِطِ وَعَلَى أَنْ يُسَيِّلَ مِيزَابَهُ في دَارِهِ أَيَّامًا مَعْلُومَةً لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ما وَقَعَ عليه الصُّلْحُ في هذه الْمَوَاضِعِ مُفْتَقِرٌ إلَى الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ فلم تَكُنْ جَهَالَتُهُ مُحْتَمَلَةً لِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عليها وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ ما يَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ يَجُوزُ الصُّلْحُ عليه وما لَا فَلَا
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُصَالَحِ عنه فَأَنْوَاعٌ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ حَقَّ الْعَبْدِ لاحق اللَّهِ عز وجل سَوَاءً كان مَالًا عَيْنًا أو دَيْنًا أو حَقًّا ليس بِمَالٍ عَيْنٍ وَلَا دَيْنٍ حتى لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ من حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ بِأَنْ أَخَذَ زَانِيًا أو سَارِقًا من غَيْرِهِ أو شَارِبَ خَمْرٍ فَصَالَحَهُ على مَالٍ أَنْ لَا يَرْفَعَهُ إلَى وَلِي الْأَمْرِ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ
وَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ من حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ لِأَنَّ الْمُصَالِحَ بِالصُّلْحِ مُتَصَرِّفٌ في حَقِّ نَفْسِهِ إمَّا بِاسْتِيفَاءِ كل حَقِّهِ أو بِاسْتِيفَاءِ الْبَعْضِ وَإِسْقَاطِ الْبَاقِي أو بِالْمُعَاوَضَةِ وَكُلُّ ذلك لَا يَجُوزُ في غَيْرِ حَقِّهِ
وَكَذَا إذَا صَالَحَ من حَدِّ الْقَذْفِ بِأَنْ قَذَفَ رَجُلًا فَصَالَحَهُ على مَالٍ على أَنْ يَعْفُوَ عنه لِأَنَّهُ وَإِنْ كان لِلْعَبْدِ فيه حَقٌّ فَالْمُغَلَّبُ فيه حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَغْلُوبُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ شَرْعًا فَكَانَ في حُكْمِ الْحُقُوقِ الْمُتَمَحِّضَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عز وجل وإنها لَا تَحْتَمِلُ الصُّلْحَ كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ لو صَالَحَ شَاهِدًا يُرِيدُ أَنْ يَشْهَدَ عليه على مَالٍ على أَنْ لَا يَشْهَدَ عليه فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الشَّاهِدَ في إقَامَةِ الشَّهَادَةِ مُحْتَسِبٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } وَالصُّلْحُ عن حُقُوقِ اللَّهِ عز وجل بَاطِلٌ وَيَجِبُ عليه رَدُّ ما أَخَذَ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَلَوْ عَلِمَ الْقَاضِي بِهِ أَبْطَلَ شَهَادَتَهُ لِأَنَّهُ فِسْقٌ إلَّا أَنْ يُحْدِثَ تَوْبَةً فَتُقْبَلُ وَيَجُوزُ الصُّلْحُ عن التَّعْزِيرِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَكَذَا يَصِحُّ عن الْقِصَاصِ في النَّفْسِ وما دُونَهُ لِأَنَّ الْقِصَاصَ من حَقِّ الْعَبْدِ سَوَاءٌ كان البدن ( ( ( البدل ) ) ) عَيْنًا أو دَيْنًا إلَّا إذَا كان دَيْنًا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ في الْمَجْلِسِ احْتِرَازًا عن الِافْتِرَاقِ عن دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَسَوَاءٌ كان مَعْلُومًا أو مَجْهُولًا جَهَالَةً غير مُتَفَاحِشَةٍ حتى لو صَالَحَ من الْقِصَاصِ على عَبْدٍ أو ثَوْبٍ هَرَوِيٌّ جَازَ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ قَلَّتْ بِبَيَانِ النَّوْعِ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَبْدِ يَقَعُ على عَبْدٍ وَسَطٍ وَمُطْلَقُ الثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ يَقَعُ على الْوَسَطِ منه فَتَقِلُّ الْجَهَالَةُ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَعْطَى الْوَسَطَ من ذلك وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى قِيمَتَهُ كما في النِّكَاحِ فَأَمَّا إذَا صَالَحَ على ثَوْبٍ أو دَابَّةٍ أو دَارٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الثِّيَابَ وَالدَّوَابَّ أَجْنَاسٌ تَحْتَهَا أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ وَجَهَالَةُ النَّوْعِ مُتَفَاحِشَةٌ فَتَمْنَعُ الْجَوَازَ
وَكَذَا جَهَالَةُ الدُّورِ لِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ مُلْحَقَةٌ بِجَهَالَةِ الثَّوْبِ وَالدَّابَّةِ فَتَمْنَعُ الْجَوَازَ كما في بَابِ النِّكَاحِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ جَهَالَةٍ تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ في بَابِ النِّكَاحِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الصُّلْحِ من الْقِصَاصِ وما لَا فَلَا لِأَنَّ ما وَقَعَ عليه الصُّلْحُ وَالْمَهْرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجِبُ بَدَلًا عَمَّا ليس بِمَالٍ وَالْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ من الصِّحَّةِ لَعَيْنِهَا
أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعِ وَرَدَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ في بَابِ النِّكَاحِ مع أَنَّهُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ وَإِنَّمَا يُمْنَعُ منها لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ وَمَبْنَى النِّكَاحِ وَالصُّلْحِ من الْقِصَاصِ على الْمُسَامَحَةِ كَالْإِنْسَانِ يُسَامِحُ بِنَفْسِهِ ما لَا يُسَامِحُ بِمَالِهِ عَادَةً فَلَا يَكُونُ الْقَلِيلُ من الْجَهَالَةِ مُفْضِيًا إلَى الْمُنَازَعَةِ فَلَا يَمْنَعُ من الْجَوَازِ بِخِلَافِ بَابِ الْبَيْعِ لِأَنَّ مَبْنَاهُ على المماكسة ( ( ( المعاكسة ) ) ) وَالْمُضَايَقَةِ لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةَ مَالٍ بِمَالٍ وَالْإِنْسَانُ يُضَايِقُ بِمَالِهِ ما لَا يُضَايِقُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
وإذا لم يَصِحَّ الصُّلْحُ لِتَفَاحُشِ جَهَالَةِ الْبَدَلِ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ وفي النِّكَاحِ
____________________

(6/48)


يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ إلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا من وَجْهٍ فإنه لو صَالَحَ عن الْقِصَاصِ على خَمْرٍ أو خِنْزِيرٍ لَا يَصِحُّ وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً على خَمْرٍ أو خِنْزِيرٍ لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ
وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْخَمْرَ إذَا لم تَصْلُحْ بَدَلَ الصُّلْحِ بَطَلَتْ تَسْمِيَتُهُ وَجُعِلَ لَفْظَةُ الصُّلْحِ كِنَايَةً عن الْعَفْوِ وَذَلِكَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْعَفْوَ الْفَضْلُ وفي الصُّلْحِ مَعْنَى الْفَضْلِ فَأَمْكَنَ جَعْلُهُ كِنَايَةً عنه وَبَعْدَ الْعَفْوِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ فَأَمَّا لَفْظُ النِّكَاحِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ
وَلَوْ احْتَمَلَهُ فَالْعَفْوُ عن حَقِّ الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ فَيَبْقَى النِّكَاحُ من غَيْرِ تَسْمِيَةٍ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ كما إذَا سَكَتَ عن الْمَهْرِ أَصْلًا فَهُوَ الْفَرْقُ وَسَوَاءٌ كان الْبَدَلُ قَدْرَ الدِّيَةِ أو أَقَلَّ أو أَكْثَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ له من أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } وقوله عز وجل { فَمَنْ عُفِيَ له } أَيْ أعطى له كَذَا رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما
وَقَوْلُهُ عز شَأْنُهُ { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } أَيْ فَلْيَتَّبِعْ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْوَلِيَّ بِالِاتِّبَاعِ بِالْمَعْرُوفِ إذَا أعطى له شَيْءٌ وَاسْمُ الشَّيْءِ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ فَدَلَّتْ الْآيَةُ على جَوَازِ الصُّلْحِ من الْقِصَاصِ على الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَتْلِ الخطأ وَشِبْهِ الْعَمْدِ أَنَّهُ إذَا صَالَحَ على أَكْثَرَ من الدِّيَةِ لَا يَجُوزُ
وَالْفَرْقُ أَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ في بَابِ الخطأ وَشِبْهِ الْعَمْدِ عِوَضٌ عن الدِّيَةِ وأنها مُقَدَّرَةٌ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ لَا تَزِيدُ عليه فَالزِّيَادَةُ على الْمُقَدَّرِ تَكُونُ رِبًا فَأَمَّا بَدَلُ الصُّلْحِ عن الْقِصَاصِ فَعِوَضٌ عن الْقِصَاصِ وَالْقِصَاصُ ليس من جِنْسِ الْمَالِ حتى يَكُونَ الْبَدَلُ عنه زِيَادَةً على الْمَالِ الْمُقَدَّرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا فَهُوَ الْفَرْقُ
وَأَمَّا كَوْنُ الْمُصَالَحِ عنه مَعْلُومًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الصُّلْحِ حتى أن من ادَّعَى على آخَرَ حَقًّا في عَيْنٍ فَأَقَرَّ بِهِ الْمُدَّعَى عليه أو أَنْكَرَ فَصَالَحَ على مَالٍ مَعْلُومٍ جَازَ لِأَنَّ الصُّلْحَ كما يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ هُنَا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ لِجَهَالَةِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فَيُصَحَّحُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ من التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ وَالْقَبْضِ لِأَنَّ السَّاقِطَ لَا يَحْتَمِلُ ذلك وقد مَرَّ أَنَّ الْجَهَالَةَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّسْلِيمَ وَالْقَبْضَ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الصُّلْحِ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْمُصَالِحِ
وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا ثَابِتًا له في الْمَحَلِّ فما لَا يَكُونُ حَقًّا له أو لَا يَكُونُ حَقًّا ثَابِتًا له في الْمَحَلِّ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عنه حتى لو أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ادَّعَتْ عليه صَبِيًّا في يَدِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ منها وَجَحَدَ الرَّجُلُ فَصَالَحَتْ عن النَّسَبِ على شَيْءٍ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ لِأَنَّ النَّسَبَ حَقُّ الصَّبِيِّ لَا حَقُّهَا فَلَا تَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ عن حَقِّ غَيْرِهَا وَلِأَنَّ الصُّلْحَ إمَّا إسْقَاطٌ أو مُعَاوَضَةٌ وَالنَّسَبُ لَا يَحْتَمِلُهُمَا
وَلَوْ صَالَحَ الشَّفِيعُ من الشُّفْعَةِ التي وَجَبَتْ له على شَيْءٍ على أَنْ يُسَلِّمَ الدَّارَ لِلْمُشْتَرِي فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلشَّفِيعِ في الْمَحَلِّ إنَّمَا الثَّابِتُ له حَقُّ التَّمْلِيكِ وهو ليس لِمَعْنًى في الْمَحَلِّ بَلْ هو عِبَارَةٌ عن الْوِلَايَةِ وَأَنَّهَا صِفَةُ الْوَالِي فَلَا يُحْتَمَلُ الصُّلْحُ عنه بِخِلَافِ الصُّلْحِ عن الْقِصَاصِ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَحَلَّ يَصِيرُ مَمْلُوكًا في حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ فَكَانَ الْحَقُّ ثَابِتًا في الْمَحَلِّ فَمَلَكَ الِاعْتِيَاضَ عنه بِالصُّلْحِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ إذَا صَالَحَ على مَالٍ أَنْ يُبَرِّئَهُ من الْكَفَالَةِ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلطَّالِبِ قبل الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عن وِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ وإنها صِفَةُ الْوَالِي فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عنها فَأَشْبَهَ الشُّفْعَةَ وَهَلْ تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ فيه رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ لَا تَبْطُلُ لِأَنَّهُ ما رضي بِسُقُوطِ حَقِّهِ إلَّا بِعِوَضٍ ولم يُسَلَّمْ له فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ وفي رِوَايَةٍ يَسْقُطُ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا تَقِفُ صِحَّتُهُ على الْعِوَضِ فَيَصِحُّ وَإِنْ لم يُسَلِّمْ الْعِوَضَ فإذا صَحَّ أَنَّهُ إسْقَاطٌ فَالسَّاقِطُ لَا يَحْتَمِلُ الْعُودَ
وَعَلَى هذا إذَا كان لِرَجُلٍ ظُلَّةً على طَرِيقٍ أو كتيف ( ( ( كنيف ) ) ) شَارِعِهِ أو مِيزَابِهِ فَخَاصَمَهُ رَجُلٌ وَأَرَادَ أَنْ يَطْرَحَهُ فَصَالَحَهُ على مَالٍ فَهَذَا لَا يَخْلُو من وَجْهَيْنِ
إمَّا أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ نَافِذًا وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ نَافِذًا فإذا كان نَافِذًا فَخَاصَمَهُ رَجُلٌ من الْمُسْلِمِينَ وَأَرَادَ طَرْحَهُ فَصَالَحَهُ على مَالٍ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ لِأَنَّ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ النَّافِذِ لَا تَكُونُ مِلْكًا لِأَحَدٍ من الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا لهم حَقُّ الْمُرُورِ وأنه ليس بِحَقٍّ ثَابِتٍ في رَقَبَةِ الطَّرِيقِ بَلْ هو عِبَارَةٌ عن وِلَايَةِ الْمُرُورِ وأنه صِفَةُ الْمَارِّ فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عنه مع أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ في هذا الصُّلْحِ لِأَنَّهُ إنْ سَقَطَ حَقُّ هذا الْوَاحِدِ بِالصُّلْحِ فَلِلْبَاقِينَ حَقُّ الْقَلْعِ وَكَذَا لو صَالَحَ الثَّانِيَ مع هذا الْمُتَقَدَّمِ إلَيْهِ على مَالٍ يأخذ ( ( ( يؤخذ ) ) ) من الْمُتَقَدَّمِ إلَيْهِ الطَّرْحُ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الطَّرْحَ وَاجِبٌ عليه فَأَخْذُ الْمَالِ عليه يَكُونُ رِشْوَةً
هذا إذَا كان الطَّرِيقُ نَافِذًا فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ نَافِذًا فَصَالَحَهُ رَجُلٌ من أَهْلِ الطَّرِيقِ على مَالٍ لِلتَّرْكِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ لِأَنَّ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ هُنَا مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِ السِّكَّةِ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم فيها
____________________

(6/49)


مِلْكًا فَجَازَ الصُّلْحُ عنه
وَكَذَا إسْقَاطُ حَقِّ كل وَاحِدٍ منهم بِالصُّلْحِ مُفِيدٌ لِاحْتِمَالِ تَحْصِيلِ رِضَا الْبَاقِينَ وَلَا يُحْتَمَلُ ذلك في الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصُونَ وَكَذَا لو صَالَحَ الثَّانِي مع وَاحِدٍ منهم على مَالٍ لِلتَّرْكِ جَازَ وَيَطِيبُ له الْمَالُ لِأَنَّ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ مَمْلُوكَةٌ لهم على الشَّرِكَةِ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم فيها نَصِيبٌ فَكَانَ الصُّلْحُ اعْتِيَاضًا عن مِلْكِهِ فَصَحَّ فَأَمَّا في طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فيها وَلَا حَقَّ ثَابِتٌ في الْمَحَلِّ فلم يَكُنْ الصُّلْحُ اعْتِيَاضًا عن مِلْكٍ وَلَا حَقَّ ثَابِتٌ في الْمَحَلِّ فَبَطَلَ
وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ جَوَازَ الصُّلْحِ في طَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذٍ مَحْمُولٌ على ما إذَا بَنَى على الطَّرِيقِ فَأَمَّا إذَا شَرَعَ إلَى الْهَوَاءِ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عن الْهَوَاءِ
وَلَوْ ادَّعَى على رَجُلٍ مَالًا وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عليه وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي فَطَلَبَ منه الْيَمِينَ فَصَالَحَ عن الْيَمِينِ على أَنْ لَا يَسْتَحْلِفُهُ جَازَ الصُّلْحُ وبرىء من الْيَمِينِ وَكَذَا إذَا قال الْمُدَّعَى عليه صالحك ( ( ( صالحتك ) ) ) من الْيَمِينِ التي وَجَبَتْ لك عَلَيَّ أو قال افْتَدَيْتُ مِنْكَ يَمِينَكَ بِكَذَا وَكَذَا صَحَّ الصُّلْحُ لِأَنَّ هذا صُلْحٌ عن حَقٍّ ثَابِتٍ لِلْمُدَّعِي لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي قِبَلَ الْمُدَّعَى عليه
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في قِصَّةِ الْحَضْرَمِيِّ وَالْكِنْدِيِّ أَلَكَ بَيِّنَةٌ قال لَا قال إذًا لك يَمِينُهُ جَعَلَ الْيَمِينَ حَقَّ الْمُدَّعِي فَكَانَ هذا صُلْحًا عن حَقٍّ ثَابِتٍ شَرْعًا لِلْمُدَّعِي وَكَذَا الْمِلْكُ في المدعي ثَابِتٌ في زَعْمِهِ فَكَانَ الصُّلْحُ عن حَقٍّ ثَابِتٍ في حَقِّهِ وفي حَقِّ الْمُدَّعَى عليه وهو بَدَلُ الْمَالِ لِإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ وَالِافْتِدَاءِ عن الْيَمِينِ
وَلَوْ قال الْمُدَّعَى عليه اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْيَمِينَ على كَذَا وقال الْمُدَّعِي بِعْتُ مِنْكَ الْيَمِينَ على كَذَا لَا يَصِحُّ فَقَدْ خَالَفَ الصُّلْحُ الْبَيْعَ حَيْثُ جَازَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ وَالِافْتِدَاءِ ولم يَجُزْ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ
وَلَوْ ادَّعَى على رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَأَنْكَرَ فَصَالَحَهُ على مِائَةِ دِرْهَمٍ جَازَ لِأَنَّ هذا صُلْحٌ عن حَقٍّ ثَابِتٍ في حَقِّ المدعي لِأَنَّ الرِّقَّ ثَابِتٌ في حَقِّهِ فَكَانَ الصُّلْحُ في حَقِّهِ إعْتَاقًا على مَالٍ فَيَصِحُّ إلَّا أَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَكُونُ له لِإِنْكَارِ الْمُدَّعَى عليه الرِّقَّ فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَعْدَ ذلك بَيِّنَةً لَا تُقْبَلُ إلَّا في حَقِّ إثْبَاتِ الْوَلَاءِ
وَكَذَلِكَ لو صَالَحَهُ على حَيَوَانٍ في الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ كان جَائِزًا لِأَنَّ الرِّقَّ ثَابِتٌ في حَقِّ المدعي فَكَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ بَدَلًا عن الْعِتْقِ في حَقِّهِ فَأَشْبَهَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَيَجُوزُ على حَيَوَانٍ في الذِّمَّةِ
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ على امْرَأَةٍ نِكَاحًا فَجَحَدَتْهُ فَصَالَحَتْهُ على مَالٍ بَذَلَتْهُ حتى يَتْرُكَ الدَّعْوَى جَازَ لِأَنَّ النِّكَاحَ حَقٌّ ثَابِتٌ في حَقِّ المدعي فَكَانَ الصُّلْحُ على حَقٍّ ثَابِتٍ فَكَانَ في مَعْنَى الْخُلْعِ إذْ هو أَخْذُ الْمَالِ بِالْبُضْعِ وقد وُجِدَ فَكَانَ جَائِزًا وفي حَقِّهَا بَدَلُ مَالٍ لِإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ وأنه جَائِزٌ أَيْضًا لِلنَّصِّ
وَلَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ على رَجُلٍ نِكَاحًا فَجَحَدَ الرَّجُلُ فَصَالَحَهَا على مَالٍ بَذَلَهُ لها لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ ثَابِتًا أو لم يَكُنْ ثَابِتًا فَإِنْ لم يَكُنْ ثَابِتًا كان دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهَا من الرَّجُلِ في مَعْنَى الرِّشْوَةِ وَإِنْ كان ثَابِتًا لَا تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ بهذا الصُّلْحِ لِأَنَّ الْعِوَضَ في الْفُرْقَةِ تُعْطِيهِ الْمَرْأَةُ لَا الزَّوْجُ فَلَا يَكُونُ الْمَالُ الذي تَأْخُذُهُ الْمَرْأَةُ عِوَضًا عن شَيْءٍ فَلَا يَجُوزُ
وَلَوْ ادَّعَى على إنْسَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَأَنْكَرَ المدعي عليه فَتَصَالَحَا على أَنَّهُ إنْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عليه فَهُوَ بَرِيءٌ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ والمدعى على دَعْوَاهُ حتى لو أَقَامَ بَيِّنَةً أَخَذَهُ بها لِأَنَّ قَوْلَهُ على أَنَّهُ إنْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عليه فَهُوَ بَرِيءٌ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ بِالشَّرْطِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ في الْإِبْرَاءِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ
وَالْأَصْلُ في التَّمْلِيكِ أَنْ لَا يَحْتَمِلَ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَإِنْ لم تَكُنْ له بَيِّنَةٌ وَأَرَادَ اسْتِحْلَافَهُ فَهُوَ على وَجْهَيْنِ إنْ كان ذلك الْحَلِفُ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي فَلَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ عِنْدَ الْقَاضِي مَرَّةً أُخْرَى لِأَنَّ تِلْكَ الْيَمِينَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَلَا تَنْقَطِعُ بها خُصُومَةٌ فلم يَكُنْ مُعْتَدًّا بها
وَإِنْ كان عِنْدَ الْقَاضِي لم يَسْتَحْلِفْهُ ثَانِيًا لِأَنَّ الْحَلِفَ عِنْدَ الْقَاضِي مُعْتَدٌّ بِهِ فَقَدْ اسْتَوْفَى الْمُدَّعِي حَقَّهُ مَرَّةً فَلَا يَجِبُ الْإِيفَاءُ ثَانِيًا
وَلَوْ تَصَالَحَا على أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعَى عليه فإذا حَلَفَ فَالْمَالُ وَاجِبٌ على الْمُدَّعَى عليه فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ هذا تَعْلِيقُ وُجُوبِ الْمَالِ بِالشَّرْطِ وإنه بَاطِلٌ لِكَوْنِهِ قِمَارًا وَلَوْ أُودَعَ إنْسَانًا وَدِيعَةً ثُمَّ طَلَبَهَا منه فقال الْمُودَعُ هَلَكَتْ أو قال رَدَدْتُهَا وَكَذَّبَهُ الْمُودِعُ وقال اسْتَهْلَكْتَهَا فَتَصَالَحَا على شَيْءٍ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ صَحِيحٌ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هذا صُلْحٌ وَقَعَ عن دَعْوَى صَحِيحَةٍ وَيَمِينٍ مُتَوَجِّهَةٍ فَيَصِحُّ كما في سَائِرِ الْمَوَاضِعِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمُدَّعِي مُنَاقَضٌ في هذه الدَّعْوَى لِأَنَّ الْمُودَعَ أَمِينُ الْمَالِكِ وَقَوْلُ الْأَمِينِ قَوْلُ الْمُؤْتَمَنِ فَكَانَ أخباره بِالرَّدِّ وَالْهَلَاكِ إقْرَارًا من الْمُودِعِ فَكَانَ مُنَاقِضًا في دَعْوَى الِاسْتِهْلَاكِ وَالتَّنَاقُضُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ لَكِنْ لَا لِدَفْعِ الدَّعْوَى لِأَنَّهَا مُنْدَفِعَةٌ لِبُطْلَانِهَا بَلْ لِلتُّهْمَةِ وإذا لم تَصِحَّ الدَّعْوَى لَا يَصِحُّ
____________________

(6/50)


الصُّلْحُ
وَلَوْ ادَّعَى الْمُودِعُ الِاسْتِهْلَاكَ ولم يَقُلْ الْمُودَعُ إنَّهَا هَلَكَتْ أو رَدَدْتُهَا فَتَصَالَحَا على شَيْءٍ جَازَ لِأَنَّ دَعْوَى الِاسْتِهْلَاكِ صَحِيحَةٌ وَالْيَمِينُ مُتَوَجِّهَةٌ عليه فَصَحَّ الصُّلْحُ وَلَوْ طَلَبَ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ فَجَحَدَهَا الْمُودَعُ وقال لم تُودِعْنِي شيئا ثُمَّ قال هَلَكَتْ أو رَدَدْتُهَا وقال الْمُودِعُ بَلْ اسْتَهْلَكْتَهَا فَتَصَالَحَا جَازَ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَدَّعِي عليه ضَمَانَ الْغَصْبِ بِالْجُحُودِ إذْ هو سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ في الْوَدِيعَةِ فَهُوَ الْجَوَابُ في الْعَارِيَّةِ وَالْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ كُلَّ ذلك أَمَانَةٌ
وَلَوْ اشْتَرَى من رَجُلٍ عَبْدًا فَطَعَنَ فيه بِعَيْبٍ وَخَاصَمَهُ فيه ثُمَّ صَالَحَهُ على شَيْءٍ أو حَطَّ من ثَمَنِهِ شيئا فَإِنْ كان الْعَبْدُ مِمَّا يَجُوزُ رَدُّهُ على الْبَائِعِ وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ دُونَ الرَّدِّ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ لِأَنَّ الصُّلْحَ عن الْعَيْبِ صُلْحٌ عن حَقٍّ ثَابِتٍ في الْمَحَلِّ وهو صِفَةُ سَلَامَةِ الْمَبِيعِ عن عَيْبٍ وإنها من قَبِيلِ الْأَمْوَالِ فَكَانَ عن الْعَيْبِ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ فَصَحَّ
وَكَذَا الصُّلْحُ عن الإرش مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ لَا شَكَّ فيه وإذا صَارَ الْمَبِيعُ بِحَالٍ لَا يَمْلِكُ رَدَّهُ على الْبَائِعِ وَلَا الْمُطَالَبَةَ بِأَرْشِهِ بِأَنْ بَاعَ الْعَبْدَ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ لِأَنَّ حَقَّ الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ فِيهِمَا قبل الْبَيْعِ قد بَطَلَ بِالْبَيْعِ فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ
وَلَوْ صَالَحَ من الْعَيْبِ ثُمَّ زَالَ الْعَيْبُ بِأَنْ كان بَيَاضًا في عَيْنِ الْعَبْدِ فَانْجَلَى بَطَلَ الصُّلْحُ وَيَرُدُّ ما أَخَذَ لِأَنَّ الْمُعَوَّضَ وَهِيَ صِفَةُ السَّلَامَةِ قد عَادَتْ فَيَعُودُ الْعِوَضُ فَبَطَلَ الصُّلْحُ
وَلَوْ طَعَنَ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ فَصَالَحَهُ الْبَائِعُ على أَنْ يبريه ( ( ( يبرئه ) ) ) من ذلك الْعَيْبِ وَمِنْ كل عَيْبٍ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عن الْعَيْبِ إبْرَاءٌ عن صِفَةِ السَّلَامَةِ وَإِسْقَاطٍ لها وَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ على الْبَائِعِ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ عنها وَالْإِبْرَاءُ عن كل عَيْبٍ
وَإِنْ كان إبْرَاءً عن الْمَجْهُولِ لَكِنَّ جَهَالَةَ الْمُصَالِحِ عنه لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الصُّلْحِ فَلَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِبْرَاءِ لِلْفِقْهِ الذي مَرَّ قبل هذا
إن الْجَهَالَةَ لَعَيْنِهَا غَيْرُ مَانِعَةٍ بَلْ لأفضائها إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ من التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ وَاَلَّذِي وَقَعَ الصُّلْحُ وَالْإِبْرَاءُ عنه لَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ فَلَا تَضُرُّهُ الْجَهَالَةُ
وَكَذَلِكَ لو لم يَطْعَنْ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ فَصَالَحَهُ الْبَائِعُ من كل عَيْبٍ على شَيْءٍ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ وَإِنْ لم يَطْعَنْ بِعَيْبٍ فَلَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ فَيُصَالِحُهُ لِإِبْطَالِ هذا الْحَقِّ
وَلَوْ خَاصَمَهُ في ضَرْبٍ من الْعُيُوبِ نحو الشِّجَاجِ وَالْقُرُوحِ فَصَالَحَهُ على ذلك ثُمَّ ظَهَرَ عَيْبٌ غَيْرُهُ كان له أَنْ يُخَاصِمَهُ فيه لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عن نَوْعٍ خَاصٍّ فَكَانَ له حَقُّ الْخُصُومَةِ في غَيْرِهِ
وَلَوْ اشْتَرَى شيئا من امْرَأَةٍ فَظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ فَصَالَحَتْهُ على أَنْ تَتَزَوَّجَهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَهَذَا إقْرَارٌ منها بِالْعَيْبِ فَإِنْ كان يَبْلُغُ أَرْشُ الْعَيْبِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَهُوَ مَهْرُهَا وَإِنْ كان أَقَلَّ من ذلك يُكَمَّلُ لها عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ أَرْشَ الْعَيْبِ لَمَّا صَارَ مَهْرُهَا وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَهْرِ فإذا نَكَحَتْ نَفْسَهَا فَقَدْ أَقَرَّتْ بِالْعَيْبِ
وَكَذَلِكَ لو اشْتَرَى شيئا بِأَرْشِ عَيْبٍ كان إقْرَارًا بِالْعَيْبِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مُعَاوَضَةٌ فَالْإِقْدَامُ عليه يَكُونُ إقْرَارًا بِالْعَيْبِ بِخِلَافِ الصُّلْحِ حَيْثُ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْعَيْبِ لِأَنَّ الصُّلْحَ مَرَّةً يَصِحُّ مُعَاوَضَةً وَمَرَّةً يَصِحُّ إسْقَاطًا فَلَا يَصِحُّ دَلِيلًا على الْإِقْرَارِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ
وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ كُلَّ وَاحِدٍ بِعَشَرَةٍ فَقَبَضَهُمَا ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا فَصَالَحَ على أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ على أَنْ يَزِيدَهُ في ثَمَنِ الْآخَرِ دِرْهَمًا فَالرَّدُّ جَائِزٌ وَزِيَادَةُ الدِّرْهَمِ بَاطِلٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ شَيْءٌ من ذلك
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فَسْخٌ وَالْفَسْخَ بَيْعٌ جَدِيدٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ وَالْبَيْعُ تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن هذا تَعْلِيقُ الزِّيَادَةِ في الثَّمَنِ بِالشَّرْطِ وإنه بَاطِلٌ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَلْحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَأَصْلُ الثَّمَنِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لِأَنَّهُ في مَعْنَى الْقِمَارِ فَكَذَا الزِّيَادَةُ عليه فَأَمَّا الرَّدُّ فَفَسْخُ الْعَقْدِ وإنه يَحْتَمِلُ الشَّرْطَ فَجَائِزٌ
وَلَوْ ادَّعَى عل امْرَأَةٍ نِكَاحًا فَجَحَدَتْ فَصَالَحَهَا على مِائَةِ دِرْهَمٍ على أَنْ تُقِرَّ له بِالنِّكَاحِ فَأَقَرَّتْ فَهُوَ جَائِزٌ وَتُجْعَلُ الْمِائَةُ من الزَّوْجِ زِيَادَةً في مَهْرِهَا لِأَنَّ إقْرَارَهَا بِالنِّكَاحِ مَحْمُولٌ على الصِّحَّةِ
وَلَوْ ادَّعَى على إنْسَانٍ أَلْفًا وَأَنْكَرَ الْمُدَّعِي فَصَالَحَهُ على مِائَةِ دِرْهَمٍ على أَنْ يُقِرَّ له بِالْأَلْفِ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ صَادِقًا في دَعْوَاهُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فيها فَإِنْ كان صَادِقًا فيها فَالْأَلْفُ وَاجِبَةٌ على الْمُدَّعَى عليه وَيَكُونُ أَخْذُ الْعِوَضُ عليه في مَعْنَى الرِّشْوَةِ وإنه حَرَامٌ وَإِنْ كان كَاذِبًا في دَعْوَاهُ فَإِقْرَارُ الْمُدَّعَى عليه بِالْأَلْفِ الْتِزَامُ الْمَالِ ابْتِدَاءً وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلَوْ قال لِامْرَأَةٍ أَعْطَيْتُكِ مِائَةَ دِرْهَمٍ على أَنْ تَكُونِي امْرَأَتِي فَفَعَلَتْ ذلك فَهُوَ جَائِزٌ إذَا كان بِمَحْضَرٍ من الشُّهُودِ وَيُجْعَلُ كِنَايَةً عن إنْشَاءِ النِّكَاحِ وَكَذَا لو قال تَزَوَّجْتُكِ أَمْسِ على أَلْفِ دِرْهَمٍ فَجَحَدَتْ فقال أَزِيدُكِ مِائَةَ على أَنْ تُقْرِي لي بِالنِّكَاحِ فَأَقَرَّتْ جَازَ وَلَهَا أَلْفٌ وَمِائَةٌ وَيُحْمَلُ إقْرَارُهَا على الصِّحَّةِ وَاَللَّهُ عز وجل
____________________

(6/51)


أَعْلَمُ هذا الذي ذَكَرْنَا إذَا كان الصُّلْحُ بين الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عليه
وَأَمَّا إذَا كان بين الْمُدَّعِي وَالْأَجْنَبِيِّ الْمُتَوَسِّطِ أو الْمُتَبَرِّعِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كان ذلك بِأَمْرِ الْمُدَّعَى عليه أو بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنْ كان بِأَمْرِهِ يَصِحُّ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ عنه وَالصُّلْحُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّوْكِيلَ بِهِ وَإِنْ كان بغيره ( ( ( بغير ) ) ) أَمْرِهِ فَهُوَ صُلْحُ الْفُضُولِيِّ وَإِنَّهُ على خَمْسَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنْ يُضِيفَ الضَّمَانَ إلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُدَّعِي صَالَحْتُكَ أو أُصَالِحُكَ من دَعْوَاكِ هذه على فُلَانٍ على أَلْفِ دِرْهَمٍ على أَنِّي ضَامِنٌ لَكِ الْأَلْفَ أو على أَنَّ عَلَيَّ الْأَلْفَ
وَالثَّانِي أَنْ يُضِيفَ الْمَالَ إلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَقُولَ على أَلْفِي هذه أو على عَبْدِي هذا
وَالثَّالِثُ أَنْ يُعَيِّنَ الْبَدَلَ وَإِنْ كان لَا يَنْسُبُهُ إلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَقُولَ علي هذه الْأَلْفِ أو علي هذا الْعَبْدِ
وَالرَّابِعُ أَنْ يُسَلِّمَ الْبَدَلَ وَإِنْ لم يُعَيِّنْ ولم يُنْسِبْ بِأَنْ قال صَالَحْتُكَ على أَلْفٍ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ
وَالْخَامِسُ أَنْ لَا يَفْعَلَ شيئا من ذلك بِأَنْ يَقُولَ صَالَحْتُكِ على أَلْفِ دِرْهَمٍ أو على عَبْدٍ وَسَطٌ ولم يَزِدْ عليه فَفِي الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ يَصِحُّ الصُّلْحُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بين أَخَوَيْكُمْ } وَهَذَا خَاصٌّ في صُلْحِ الْمُتَوَسِّطِ
وَقَوْلُهُ عز شَأْنُهُ { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } وَهَذَا عَامٌّ في جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصُّلْحِ لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ على الصُّلْحِ وإنهما لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ وَلِأَنَّهُ بِالصُّلْحِ في هذه الْوُجُوهِ مُتَصَرِّفٌ على نَفْسِهِ بِالتَّبَرُّعِ بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ على الْغَيْرِ بِالْقَضَاءِ من مَالِ نَفْسِهِ إنْ كان الصُّلْحُ عن إقْرَارٍ وَإِنْ كان عن إنْكَارٍ بِإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ فَيَصِحُّ تَبَرُّعُهُ كما إذَا تَبَرَّعَ بِقَضَاءِ دَيْنِ غَيْرِهِ من مَالِ نَفْسِهِ ابْتِدَاءً وَمَتَى صَحَّ صُلْحُهُ يُجِبْ عليه تَسْلِيمُ الْبَدَلِ في الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ وَلَيْسَ له أَنْ يَرْجِعَ على الْمُدَّعَى عليه لِأَنَّ التَّبَرُّعَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ لَا يُطْلِقُ الرُّجُوعَ على ما نَذْكُرُهُ في فَصْلِ الْحُكْمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا في الْوَجْهِ الْخَامِسِ فَمَوْقُوفٌ على إجَازَةِ الْمُدَّعَى عليه لِأَنَّ عِنْدَ انْعِدَامِ الضَّمَانِ وَالنِّسْبَةِ وَتَعْيِينِ الْبَدَلِ وَالتَّمْكِينِ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ على التَّبَرُّعِ بِقَضَاءِ دَيْنِ غَيْرِهِ من مَالِ نَفْسِهِ فَلَا يكون ( ( ( يكن ) ) ) مُتَصَرِّفًا على نَفْسِهِ بَلْ على الْمُدَّعَى عليه فَيَقِفُ على إجَازَتِهِ فَإِنْ أَجَازَ نَفَذَ وَيَجِبُ الْبَدَلُ عليه دُونَ الْمُصَالِحِ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ اللَّاحِقَةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ
وَلَوْ كان وَكِيلًا من الِابْتِدَاءِ لَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ على مُوَكِّلِهِ فَكَذَلِكَ إذَا الْتَحَقَ التَّوْكِيلُ بِالْإِجَازَةِ وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ على الْإِنْسَانِ لَا يَصِحُّ من غَيْرِ إذْنِهِ وَإِجَازَتِهِ ثُمَّ إنَّمَا يَصِحُّ صُلْحُ الْفُضُولِيِّ إذَا كان حُرًّا بَالِغًا فَلَا يَصِحُّ صُلْحُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالصَّبِيّ لِأَنَّهُمَا ليس ( ( ( ليسا ) ) ) من أَهْلِ التَّبَرُّعِ وَكَذَا الْخُلْعُ من الْأَجْنَبِيِّ على هذه الْفُصُولِ التي ذَكَرْنَا بِأَنْ كان بِإِذْنِ الزَّوْجِ أو الْمَرْأَةِ يَصِيرُ وَكِيلًا وَيَجِبُ الْمَالُ على الْمَرْأَةِ دُونَ الْوَكِيلِ
وَإِنْ كان بِغَيْرِ إذْنِهِمَا فَهُوَ على الْفُصُولِ التي ذَكَرْنَا في الصُّلْحِ وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ في الثَّمَنِ من الْأَجْنَبِيِّ على هذا التَّفْصِيلِ إنْ كان بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي يَكُونُ وَكِيلًا وَيَجِبُ على الْمُشْتَرِي وَإِنْ كان بِغَيْرِ إذْنِهِ فَعَلَى ما ذَكَرْنَا من الْفُصُولِ
وَكَذَلِكَ الْعَفْوُ وَالصُّلْحُ عن دَمِ الْعَمْدِ من الْأَجْنَبِيِّ على هذه الْفُصُولِ
ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا أن صَالَحَ على الْمَفْرُوضِ أو على غَيْرِ الْمَفْرُوضِ بِمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ أو بِأَكْثَرَ منه قبل تَعْيِينِ الْقَاضِي أو بَعْدَهُ على ما تَقَدَّمَ
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّهُ يَجُوزُ من صُلْحِ الْأَجْنَبِيِّ ما يَجُوزُ من صُلْحِ الْقَاتِلِ وما لَا فَلَا
وَبَيَانُ ذلك أَنَّهُ إذَا صَالَحَ الْفُضُولِيَّ على خَمْسَةِ عَشَرَ أَلْفًا أو على أَلْفَيْ دِينَارٍ وَضَمِنَ قبل تَعْيِينِ الْقَاضِي الْوَاجِبَ على الْعَاقِلَةِ جَازَ الصُّلْحُ على عشر آلَافِ دِرْهَمٍ وَعَلَى أَلْفِ دِينَارٍ وَتَبْطُلُ الزِّيَادَةُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفُضُولِيَّ بِالصُّلْحِ في مِثْلِ هذا الْمَوْضِعِ مُتَبَرِّعٌ بِقَضَاءِ دَيْنٍ على الْمُتَبَرَّعِ عليه وَلَيْسَ عليه إلَّا هذا الْقَدْرُ فَلَا يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ عليه بِالزِّيَادَةِ كَمَنْ كان له على آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ فَقَضَى عنه أَلْفَيْنِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ له أَنْ يَسْتَرِدَّ الزِّيَادَةَ
هذا إذَا صَالَحَ على الْمَفْرُوضِ فَإِنْ صَالَحَ على جِنْسٍ آخَرَ جَازَ لِأَنَّ الْمَانِعَ من الْجَوَازِ هو الرِّبَا وَلَا يَجْرِي في مُخْتَلِفِي الْجِنْسِ
وَكَذَلِكَ لو صَالَحَ على مِائَتَيْ بَعِيرٍ بِعَيْنِهَا أو بِغَيْرِ عَيْنِهَا جَازَ صُلْحُهُ على الْمِائَةِ لِمَا أَنَّ الْقَاتِلَ لو فَعَلَ ذلك بِنَفْسِهِ لَمَا جَازَ إلَّا على الْمِائَةِ فَكَذَا الْفُضُولِيُّ لِمَا ذَكَرْنَا
ثُمَّ إنْ كانت بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا فَالْوَاجِبُ عليه مِائَةٌ من الْإِبِلِ على الْأَسْنَانِ الْوَاجِبَةِ في بَابِ الدِّيَةِ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِبِلِ في هذا الْبَابِ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَاجِبِ
وَإِنْ كانت بِأَعْيَانِهَا فَالْوَاجِبُ مِائَةٌ منها وَالْخِيَارُ إلَى الطَّالِبِ لِأَنَّ الرِّضَا بِالْكُلِّ يَكُونُ رِضًا بِالْبَعْضِ
فَإِنْ كان في أَسْنَانِ الْإِبِلِ نُقْصَانٌ عن أَسْنَانِ الْإِبِلِ الْوَاجِبَةِ في بَابِ الدِّيَةِ فَلِلطَّالِبِ أَنْ يَرُدَّ الصُّلْحَ لِأَنَّ صُلْحَ الطَّالِبِ على الزِّيَادَةِ على الْمَفْرُوضِ مَحْمُولٌ على أَنَّ غَرَضَهُ أَنَّهُ لو ظَهَرَ نُقْصَانٌ في السِّنِّ لَا يُجْبَرُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ فإذا لم تَحْصُلْ له الزِّيَادَةُ لم يَحْصُلْ غَرَضُهُ فَاخْتَلَّ رِضَاهُ بِالنُّقْصَانِ فَأَوْجَبَ حَقَّ النَّقْصِ
وَلَوْ صَالَحَ على مِائَةٍ على
____________________

(6/52)


أَسْنَانِ الدِّيَةِ وَضَمِنَهَا فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا خِيَارَ لِلطَّالِبِ لِأَنَّ الصُّلْحَ على مِائَةٍ على أَسْنَانِ الدِّيَةِ اسْتِيفَاءُ عَيْنِ الْحَقِّ وَإِنْ كان الْقَاضِي عَيَّنَ الْوَاجِبَ فقضي عليه بِالدَّرَاهِمَ فَصَالَحَ الْمُتَوَسِّطَ على أَلْفَيْ دِينَارٍ جَازَ وَلَا بُدَّ من الْقَبْضِ في الْمَجْلِسِ كما فَعَلَهُ الْقَاتِلُ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ صَرْفٌ فَيُرَاعَى شَرَائِطُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الصُّلْحِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إنَّ لِلصُّلْحِ أَحْكَامًا بَعْضُهَا أَصْلِيٌّ لَا يَنْفَصِلُ عنه جِنْسُ الصُّلْحِ الْمَشْرُوعِ وَبَعْضُهَا دَخِيلٌ يَدْخُلُ في بَعْضِ أَنْوَاعِ الصُّلْحِ دُونَ الْبَعْضِ
أَمَّا الْأَصْلُ فَهُوَ انْقِطَاعُ الْخُصُومَةِ وَالْمُنَازَعَةِ بين الْمُتَدَاعِيَيْنِ شَرْعًا حتى لَا تُسْمَعَ دَعْوَاهُمَا بَعْدَ ذلك وَهَذَا حُكْمٌ لَازَمَ جِنْسَ الصُّلْحِ
فَأَمَّا الدَّخِيلُ فَأَنْوَاعٌ منها حَقُّ الشُّفْعَةِ لِلشَّفِيعِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ المدعي لو كان دَارًا وَبَدَلُ الصُّلْحِ سِوَى الدَّارِ من الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَغَيْرِهِمَا فَإِنْ كان الصُّلْحُ عن إقْرَارِ الْمُدَّعَى عليه يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ فيها حَقُّ الشُّفْعَةِ لِأَنَّهُ في مَعْنَى الْبَيْعِ من الْجَانِبَيْنِ فَيَجِبُ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَإِنْ كان الصُّلْحُ عن إنْكَارٍ لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ ليس في مَعْنَى الْبَيْعِ من جَانِبِ الْمُدَّعَى عليه بَلْ هو بَذْلُ الْمَالِ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ وَالْيَمِينِ لَكِنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ الْمُدَّعِي فَيُدْلِيَ بِحُجَّتِهِ على الْمُدَّعَى عليه فَإِنْ كانت لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ أَقَامَهَا الشَّفِيعُ عليه وَأَخَذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ تَبَيَّنَ له أَنَّ الصُّلْحَ كان في مَعْنَى الْبَيْعِ
وَكَذَلِكَ إنْ لم تَكُنْ له بَيِّنَةٌ فَحَلَّفَ الْمُدَّعَى عليه فَنَكَلَ وَإِنْ كان بَدَلُ الصُّلْحِ دَارًا وَالصُّلْحُ عن إقْرَارِ الْمُدَّعَى عليه يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ في الدَّارَيْنِ جميعا لِمَا مَرَّ أَنَّ الصُّلْحَ هُنَا في مَعْنَى الْبَيْعِ من الْجَانِبَيْنِ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا تَبَايَعَا دَارًا بِدَارٍ فَيَأْخُذُ شَفِيعُ كل دَارٍ الدَّارَ الْمَشْفُوعَةَ بِقِيمَةِ الدَّارِ الْأُخْرَى
وَإِنْ تَصَالَحَا على أَنْ يَأْخُذَ الْمُدَّعِي الدَّارَ الْمُدَّعَاةَ وَيُعْطِيَ الْمُدَّعَى عليه دَارًا أُخْرَى فَإِنْ كان الصُّلْحُ عن إنْكَارٍ وَجَبَتْ فِيهِمَا الشُّفْعَةُ بِقِيمَةِ كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ هذا الصُّلْحَ في مَعْنَى الْبَيْعِ من الْجَانِبَيْنِ وَإِنْ كان الصُّلْحُ عن إقْرَارٍ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الدَّارَيْنِ جميعا مِلْكُ الْمُدَّعِي لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ مِلْكُهُ بَدَلًا عن مِلْكِهِ وإذا لم يَصِحَّ الصُّلْحُ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ
وَلَوْ صَالَحَ عن الدَّارِ على مَنَافِعَ لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ وَإِنْ كان الصُّلْحُ عن إقْرَارٍ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ بِعَيْنِ مَالٍ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الشُّفْعَةِ بها وَإِنْ كان الصُّلْحُ عن إنْكَارٍ يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ في الدَّارِ التي هِيَ بَدَلُ الصُّلْحِ وَلَا يَثْبُتُ في الدَّارِ الْمُدَّعَاةِ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ يَسْتَدْعِي كَوْنَ الْمَأْخُوذِ مَبِيعًا في حَقِّ من يَأْخُذُ منه
لِأَنَّ الصُّلْحَ عن إنْكَارٍ في جَانِبِ الْمُدَّعِي مُعَاوَضَةٌ فَكَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ بِمَعْنَى الْبَيْعِ في حَقِّهِ إذَا كان عَيْنًا فَكَانَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الْأَخْذِ منه بِالشُّفْعَةِ وفي جَانِبِ الْمُدَّعَى عليه ليس بِمُعَاوَضَةٍ بَلْ هو إسْقَاطُ الْخُصُومَةِ وَدَفْعُ الْيَمِينِ عن نَفْسِهِ فلم يَكُنْ لِلدَّارِ الْمُدَّعَاةِ حُكْمُ الْمَبِيعِ في حَقِّهِ فلم يَكُنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ إلَّا أَنْ يُدْلِيَ بِحُجَّةِ الْمُدَّعِي فَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أو يَحْلِفَ الْمُدَّعَى عليه فَيَنْكُلَ على ما ذَكَرْنَا
وَمِنْهَا حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وإنه يَثْبُتُ من الْجَانِبَيْنِ جميعا إنْ كان الصُّلْحُ عن إقْرَارٍ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ
وَإِنْ كان عن إنْكَارٍ يَثْبُتُ في جَانِبِ الْمُدَّعِي وَلَا يَثْبُتُ في جَانِبِ الْمُدَّعَى عليه لِأَنَّ هذا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ في حَقِّهِ لَا في حَقِّ الْمُدَّعَى عليه وَالْعَيْبُ على الْمُدَّعَى عليه في دَعْوَاهُ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَخَذَ حِصَّةَ الْعَيْبِ وَإِنْ لم يَثْبُتْ المدعى ( ( ( للمدعى ) ) ) عليه حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ لم يَرْجِعْ في شَيْءٍ
وَكَذَا لو اسْتَحَقَّ عليه الدَّارَ وقد بَنَى فيها بِنَاءً فَنُقِضَ لَا يَرْجِعُ على الْمُدَّعِي بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَكَذَا لو كان المدعي جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا لم يَكُنْ مَغْرُورًا وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ لِأَنَّ ما أَخَذَهُ الْمُدَّعِي ليس بَدَلَ المدعي في حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ الْمُدَّعَاةُ يَرْجِعُ على الْمُدَّعِي بِمَا أَدَّى إلَيْهِ لِأَنَّ المؤدي بَدَلُ الْخُصُومَةِ في حَقِّهِ وقد تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا خُصُومَةَ له فيه فَكَانَ له حَقُّ الرُّجُوعِ بالمؤدي وَلَوْ وُجِدَ بِبَدَلِ الصُّلْحِ عَيْبًا فلم يَقْدِرْ على رَدِّهِ لِلْهَلَاكِ أو لِلزِّيَادَةِ أو لِلنُّقْصَانِ في يَدِ الْمُدَّعِي فَإِنْ كان الصُّلْحُ عن إقْرَارٍ يَرْجِعُ على الْمُدَّعَى عليه بِحِصَّةِ الْعَيْبِ في المدعي وَإِنْ كان عن إنْكَارٍ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ على الْمُدَّعَى عليه في دَعْوَاهُ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَخَذَ حِصَّةَ الْعَيْبِ وَكَذَا إذَا حَلَّفَهُ فَنَكَلَ وَإِنْ حَلَفَ فَلَا شَيْءَ عليه
وَمِنْهَا الرَّدُّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ في نَوْعَيْ الصُّلْحِ
وَفَرَّقَ الطَّحَاوِيُّ بَيْنَهُمَا والحق الرَّدَّ في الصُّلْحِ عن إنْكَارٍ بِبَدَلِ الصُّلْحِ عن الْقِصَاصِ وَبِالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالرَّدُّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ في تِلْكَ الْعُقُودِ فَكَذَا هَهُنَا
وفي كِتَابِ الصُّلْحِ أَثْبَتَ حَقَّ الرَّدِّ في النَّوْعَيْنِ جميعا من غَيْرِ فَصْلٍ هو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْخِيَارَ ثَبَتَ لِلْمُدَّعِي فَيَسْتَدْعِي كَوْنَهُ مُعَاوَضَةً عن حَقِّهِ وقد وُجِدَ وَكَذَلِكَ الْأَحْكَامُ تَشْهَدُ بِصِحَّةِ هذا
____________________

(6/53)


على ما نَذْكُرُ
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ في بَدَلِ الصُّلْحِ قبل الْقَبْضِ إذَا كان مَنْقُولًا في نَوْعَيْ الصُّلْحِ فَلَا يَجُوزُ لِلْمُدَّعِي بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَنَحْوُ ذلك وَإِنْ كان عَقَارًا يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ وَيَجُوزُ ذلك في الصُّلْحِ عن الْقِصَاصِ لِلْمُصَالِحِ أَنْ يَبِيعَهُ ويبرىء ( ( ( ويبرأ ) ) ) عنه قبل الْقَبْضِ
وَكَذَلِكَ الْمَهْرُ وَالْخُلْعُ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَانِعَ من الْجَوَازِ في سَائِرِ الْمَوَاضِعِ التَّحَرُّزُ عن انْفِسَاخِ الْعَقْدِ على تَقْدِيرِ الْهَلَاكِ ولم يُوجَدْ هُنَا لِأَنَّ الصُّلْحَ عن الْقِصَاصِ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ فَلَا حَاجَةَ إلَى الصِّيَانَةِ بِالْمَنْعِ كَالْمَوْرُوثِ
وَبِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ إلْحَاقَ الْعَقْدِ بِالْعُقُودِ التي هِيَ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ على ما ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ غَيْرُ سَدِيدٍ
وَلَوْ صَالَحَ عن الْقِصَاصِ على عَيْنٍ فَهَلَكَتْ قبل التَّسْلِيمِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا لِأَنَّ الصُّلْحَ لم يَنْفَسِخْ فَبَقِيَ وُجُوبُ التَّسْلِيمِ وهو عَاجِزٌ عن تَسْلِيمِ الْعَيْنِ لِلْمُصْلِحِ فَيَجِبُ تَسْلِيمُ الْقِيمَةِ
وَمِنْهَا إن الْوَكِيلَ بِالصُّلْحِ إذَا صَالَحَ بِبَدَلِ الصُّلْحِ يَلْزَمُهُ أو يَلْزَمُ الْمُدَّعَى عليه فَهَذَا في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو من وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ الصُّلْحُ في مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ في مَعْنَى اسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ فَإِنْ كان في مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ يَلْزَمُهُ دُونَ الْمُدَّعَى عليه لِأَنَّهُ يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى الْبَيْعِ وَحُقُوقُ الْبَيْعِ رَاجِعَةٌ إلَى الْوَكِيلِ وَإِنْ كان في مَعْنَى اسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ فَهَذَا على وَجْهَيْنِ أَيْضًا إمَّا أن ضَمِنَ بَدَلَ الصُّلْحِ وأما إنْ لم يَضْمَنْ فَإِنْ لم يَضْمَنْ لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ يَكُونُ سَفِيرًا بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ فَلَا تَرْجِعُ إلَيْهِ الْحُقُوقُ وَإِنْ ضَمِنَ لَزِمَهُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ لَا بِحُكْمِ الْعَقْدِ
وَأَمَّا الْفُضُولِيُّ فَإِنْ نَفَذَ صُلْحُهُ فَالْبَدَلُ عليه وَلَا يَرْجِعُ بِهِ على الْمُدَّعَى عليه لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ وَإِنْ وَقْفَ صُلْحُهُ فَإِنْ رَدَّهُ الْمُدَّعَى عليه بَطَلَ وَلَا شَيْءَ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ وَالْبَدَلُ عليه دُونَ الْفُضُولِيِّ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَبْطُلُ بِهِ الصُّلْحُ بَعْدَ وُجُودِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ ما يَبْطُلُ بِهِ الصُّلْحُ أَشْيَاءُ منها الْإِقَالَةُ فِيمَا سِوَى الْقِصَاصِ لأن ما سوى القصاص لِأَنَّ ما سِوَى الْقِصَاصِ لَا يَخْلُو عن مَعْنَى مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ
فَأَمَّا في الْقِصَاصِ فَالصُّلْحُ فيه إسْقَاطٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ عَفْوٌ وَالْعَفْوُ إسْقَاطٌ فَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ
وَمِنْهَا لِحَاقُ الْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ أو مَوْتُهُ على الرِّدَّةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ بِنَاءً على أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ على الْإِسْلَامِ أو اللُّحُوقِ بِدَارِ الْحَرْبِ وَالْمَوْتِ فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَ وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَى الْقَاضِي بِهِ أو قُتِلَ أو مَاتَ على الرِّدَّةِ تَبْطُلُ وَعِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ وَالْمُرْتَدَّةُ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ يَبْطُلُ من صُلْحِهَا ما يَبْطُلُ من صُلْحِ الْحَرْبِيَّةِ لِأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْحَرْبِيَّةِ وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ في مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا الرَّدُّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ يُفْسَخُ الْعَقْدُ لِمَا عُلِمَ
وَمِنْهَا الِاسْتِحْقَاقُ وَأَنَّهُ ليس إبْطَالًا حَقِيقَةً بَلْ هو بَيَانُ أَنَّ الصُّلْحَ لم يَصِحَّ أَصْلًا لَا أَنَّهُ بَطَلَ بَعْدَ الصِّحَّةِ إلَّا أَنَّهُ إبْطَالٌ من حَيْثُ الظَّاهِرُ لِنَفَاذِ الصُّلْحِ ظَاهِرًا فَيَجُوزُ إلْحَاقُهُ بهذا الْقِسْمِ لَكِنَّهُ ليس بِإِبْطَالٍ حَقِيقَةً فَكَانَ إلْحَاقُهُ بِأَقْسَامِ الشَّرَائِطِ على ما ذَكَرْنَا أَوْلَى وَأَقْرَبُ إلَى الصِّنَاعَةِ وَالْفِقْهِ فَكَانَ أَوْلَى
وَمِنْهَا هَلَاكُ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ في الصُّلْحِ على الْمَنَافِعِ قبل انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْإِجَازَةِ وأنها ( ( ( وإنما ) ) ) تَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَأَمَّا هَلَاكُ ما وَقَعَ الصُّلْحُ على مَنْفَعَتِهِ هل يُوجِبُ بُطْلَانَ الصُّلْحِ فَلَا يَخْلُو إمَّا كان حَيَوَانًا كَالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ أو غير حَيَوَانٍ كَالدَّارِ وَالْبَيْتِ فَإِنْ كان حَيَوَانًا لَا يَخْلُو إمَّا إن هَلَكَ بِنَفْسِهِ أو بِاسْتِهْلَاكٍ فَإِنْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ يَبْطُلُ الصُّلْحُ إجْمَاعًا وَإِنْ هَلَكَ بِاسْتِهْلَاكٍ فَلَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أن اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ وأما إنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُدَّعَى عليه وأما إنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُدَّعِي فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ بَطَلَ الصُّلْحُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وقال أبو يُوسُفَ لَا يَبْطُلُ وَلَكِنْ لِلْمُدَّعِي الْخِيَارُ إنْ شَاءَ نَقْضَ الصُّلْحَ وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى له بِقِيمَتِهِ عَبْدًا يَخْدُمُهُ إلَى الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الصُّلْحَ على الْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ وقد وُجِدَ وَلِهَذَا مِلْكُ إجَارَةِ الْعَبْدِ من غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْجِرِ في بَابِ الْإِجَارَةِ وَالْإِجَارَةُ تَبْطُلُ بِهَلَاكِ الْمُسْتَأْجِرِ سَوَاءٌ هَلَكَ بِنَفْسِهِ أو باستهلاكه ( ( ( باستهلاك ) ) ) كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ إنَّ هذا صُلْحٌ فيه مَعْنَى الْإِجَارَةِ وَكَمَا أَنَّ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ لَازِمٌ في الْإِجَارَةِ فَمَعْنَى اسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ أَصْلٌ في الصُّلْحِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُمَا جميعا ما أَمْكَنَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ من الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ من جِنْسِ المدعي فَيَجِبُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الِاسْتِيفَاءِ من مَحَلِّ الْمَنْفَعَةِ وهو الرَّقَبَةُ وَلَا يُمْكِنُ ذلك إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ له فيها فَتُجْعَلُ كَأَنَّهَا مِلْكُهُ في حَقِّ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ منها وَبَعْدَ الْقَتْلِ أن تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ من عَيْنِهَا يُمْكِنُ من بَدَلِهَا فَكَانَ له أَنْ يَسْتَوْفِيَ من الْبَدَلِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ له عَبْدًا فَيَخْدُمَهُ إلَى
____________________

(6/54)


الْمُدَّةِ الْمَشْرُوطَةِ وَلَهُ حَقُّ النَّقْضِ أَيْضًا لِتَعَذُّرِ مَحَلِّ الِاسْتِيفَاءِ وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُدَّعَى عليه بِأَنْ قَتَلَهُ أو كان عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ يَبْطُلُ الصُّلْحُ أَيْضًا وَقِيلَ هذا قَوْلُ مُحَمَّدٍ
فَأَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ فَلَا يَبْطُلُ وَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ لِيَشْتَرِيَ له به ( ( ( بها ) ) ) عَبْدًا آخَرَ يَخْدُمُهُ إلَى الْمُدَّةِ الْمَشْرُوطَةِ كما إذَا قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ وَكَالرَّاهِنِ إذَا قَتَلَ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ أو أَعْتَقَهُ وَهَذَا لِأَنَّ رَقَبَةَ الْعَبْدِ وَإِنْ كانت مَمْلُوكَةً للمدعي عليه لَكِنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِحَقِّ الْغَيْرِ وهو الْمُدَّعِي لَتَعَلُّقِ حَقِّهِ بها فَتَجِبُ رِعَايَتُهُمَا جميعا بِتَنْفِيذِ الْعِتْقِ وَيَضْمَنُ الْقِيمَةَ كما في الرَّهْنِ
وَكَذَا لو اسْتَهْلَكَهُ الْمُدَّعِي بَطَلَ الصُّلْحُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَبْطُلُ وَتُؤْخَذُ من الْمُدَّعِي قِيمَةُ الْعَبْدِ ويشتري عبدا آخَرُ يَخْدُمُهُ وَهَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُدَّعِي في نَقْضِ الصُّلْحِ على مَذْهَبِهِ فيه نَظَرٌ
هذا إذَا كان الصُّلْحُ على مَنَافِعِ الْحَيَوَانِ
فَأَمَّا إذَا كان على سُكْنَى بَيْتٍ فَهَلَكَ بِنَفْسِهِ بِأَنْ انْهَدَمَ أو بِاسْتِهْلَاكٍ بِأَنْ هَدَمَهُ غَيْرُهُ لَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ وَلَكِنْ لِصَاحِبِ السُّكْنَى وهو الْمُدَّعِي الْخِيَارُ إنْ شَاءَ بَنَاهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ بَيْتًا آخَرَ يَسْكُنُهُ إلَى الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الصُّلْحَ وَلَا يَتَعَذَّرُ هُنَا خِلَافُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ إجَارَةَ الْعَبْدِ تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِجَارَةَ الدَّارِ لَا تَبْطُلُ بإنهدامها وَلِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَبْنِيَهَا مَرَّةً أُخْرَى في بَعْضِ إشَارَاتِ الرِّوَايَاتِ عن أَصْحَابِنَا على ما مَرَّ في الْإِجَارَاتِ
وَلَوْ تَصَالَحَا عن إنْكَارِ الْمُدَّعَى عليه على مَالٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عليه بَعْدَ الصُّلْحِ لَا يَنْفَسِخُ الصُّلْحُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُبَيِّنٌ إن الصُّلْحَ وَقَعَ مُعَاوَضَةً من الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ مُقِرًّا لِلصُّلْحِ لَا مُبْطِلًا له وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الصُّلْحِ لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ إلَّا إذَا ظَهَرَ بِبَدَلِ الصُّلْحِ عَيْبٌ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عليه فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لِيَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ فَتُسْمَعَ بَيِّنَتُهُ وَتَبَيَّنَ إن لِلصُّلْحِ الْمَاضِي حُكْمَ الصُّلْحِ عن إقْرَارِ الْمُدَّعَى عليه فَكُلُّ حُكْمٍ ثَبَتَ في ذلك ثَبَتَ في هذا
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الصُّلْحِ إذَا بَطَلَ بَعْدَ صِحَّتِهِ أو لم يَصِحَّ أَصْلًا فَهُوَ أَنْ يَرْجِعَ الْمُدَّعِي إلَى أَصْلِ دَعْوَاهُ إنْ كان الصُّلْحُ عن إنْكَارٍ وَإِنْ كان عن إقْرَارٍ فَيَرْجِعُ على الْمُدَّعَى عليه بالمدعي لَا غَيْرُهُ
إلَّا أَنَّ في الصُّلْحِ عن قِصَاصٍ إذَا لم يَصِحَّ كان له أَنْ يَرْجِعَ على الْقَاتِلِ بِالدِّيَةِ دُونَ الْقِصَاصِ إلَّا أَنْ يَصِيرَ مَغْرُورًا من جِهَةِ الْمُدَّعَى عليه فَيَرْجِعَ عليه بِضَمَانِ الْغُرُورِ أَيْضًا
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ أَنَّهُمَا إذَا تَقَايَلَا الصُّلْحَ فِيمَا سِوَى الْقِصَاصِ أو رَدَّ الْبَدَلَ بِالْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ يَرْجِعُ الْمُدَّعِي بِالْمُدَّعَى إنْ كان عن إقْرَارٍ وَإِنْ كان عن إنْكَارٍ يَرْجِعُ إلَى دَعْوَاهُ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ وَالرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارَ الرُّؤْيَةِ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ وإذا فُسِخَ جُعِلَ كَأَنْ لم يَكُنْ فَعَادَ الْأَمْرُ على ما كان من قَبْلُ
وَكَذَا إذَا اُسْتُحِقَّ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ ظَهَرَ أَنَّهُ لم يَصِحَّ لِفَوَاتِ شَرْطِ الصِّحَّةِ فَكَأَنَّهُ لم يُوجَدْ أَصْلًا فَكَانَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا أَنَّ في الصُّلْحِ عن الْقِصَاصِ عن إقْرَارٍ لَا يَرْجِعُ بالمدعي وَإِنْ فَاتَ شَرْطُ الصِّحَّةِ لِأَنَّ صُورَةَ الصُّلْحِ أَوْرَثَتْ شُبْهَةً في دَرْءِ الْقَصَّاصِ وَالْقِصَاصُ لَا يستوفي مع الشُّبْهَةِ فَسَقَطَ لَكِنْ إلَى بَدَلٍ وهو الدِّيَةُ
فَأَمَّا الْمَالُ وما سِوَى الْقِصَاصِ من الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ فِيمَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مع الشُّبْهَةِ فَأَمْكَنَ الرُّجُوعُ بالمدعي وَلَا يُرْجَعُ بِشَيْءٍ آخَرَ إلَّا إذَا صَارَ مَغْرُورًا من جِهَةِ الْمُدَّعَى عليه بِأَنْ كان بَدَلُ الصُّلْحِ جَارِيَةً فَقَبَضَهَا وَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ جاء مُسْتَحِقٌّ فَاسْتَحَقَّهَا وَأَخَذَهَا وَأَخَذَ عُقْرَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا وَقْتَ الْخُصُومَةِ فإنه يَرْجِعُ على الْمُدَّعَى عليه بالمدعي وَبِمَا ضَمِنَ من قِيمَةِ الْوَلَدِ إنْ كان الصُّلْحُ عن إقْرَارٍ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا من جِهَتِهِ
وَإِنْ كان الصُّلْحُ عن إنْكَارٍ يَرْجِعُ إلَى دَعْوَاهُ لَا غير فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على صِحَّةِ دَعْوَاهُ أو حَلَّفَ الْمُدَّعَى عليه فَنَكَلَ حِينَئِذٍ يَرْجِعُ بِمَا ادَّعَى وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كان مَغْرُورًا فَيَرْجِعُ عليه بِضَمَانِ الْغُرُورِ وَلَا يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ في نَوْعَيْ الصُّلْحِ لِأَنَّ الْعُقْرَ بَدَلٌ المنفعة ( ( ( لمنفعة ) ) ) المستوفي فَكَانَ عليه الْعُقْرُ
وَإِنْ كان الصُّلْحُ عن الْقِصَاصِ في النَّفْسِ أو ما دُونَهَا فَصَالَحَ على جَارِيَةٍ فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ فإنه يَرْجِعُ على الْمُدَّعَى عليه بِقِيمَةِ الْجَارِيَة وَبِمَا ضَمِنَ من قِيمَةِ الْوَلَدِ إنْ كان الصُّلْحُ عن إقْرَارٍ وَلَا يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَإِنْ كان الصُّلْحُ عن إنْكَارٍ يَرْجِعُ إلَى دَعْوَاهُ لَا غير فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أو حَلَّفَ الْمُدَّعَى عليه فَنَكَلَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَبِمَا ضَمِنَ من قِيمَةِ الْوَلَدِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ أو صَالَحَ الْمُتَوَسِّطَ على عَبْدٍ مُعَيَّنٍ فَاسْتُحِقَّ الْعَبْدُ أو وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ حتى بَطَلَ الصُّلْحُ لَا سَبِيلَ لِلْمُدَّعِي على الْمُتَوَسِّطِ وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ بالمدعي إنْ كان الصُّلْحُ عن إقْرَارٍ وَإِنْ كان عن إنْكَارٍ يَرْجِعُ إلَى دَعْوَاهُ لِأَنَّ الْمُتَوَسِّطَ بهذا الصُّلْحِ لَا يَضْمَنُ سِوَى تَسْلِيمِ الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ
وَلَوْ صَالَحَ على دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ وَضَمِنَهَا
____________________

(6/55)


وَدَفَعَهَا إلَيْهِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ أو وَجَدَهَا زُيُوفًا له أَنْ يَرْجِعَ على الْمُصَالِحِ الْمُتَوَسِّطِ لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ الْجَارِيَةِ وَسَلَامَةَ الْمَضْمُونِ وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ الْمُدَّعَاةُ بَعْدَ الصُّلْحِ عن إقْرَارٍ أو عن إنْكَارٍ كان لِلْمُدَّعَى عليه أَنْ يَرْجِعَ بِمَا دَفَعَ
أَمَّا في مَوْضِعِ الْإِقْرَارِ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ عِوَضٌ في حَقِّهِمَا جميعا
وَأَمَّا في مَوْضِعِ الْإِنْكَارِ فَلِأَنَّ الْمَأْخُوذَ عِوَضٌ في حَقِّ الْمُدَّعِي عن الْمُدَّعَى عليه وقد فَاتَ بِالِاسْتِحْقَاقِ فَيَجِبُ عليه رَدُّ عِوَضِهِ
وهذا إذَا اسْتَحَقَّ كُلَّ الدَّارِ فَأَمَّا إذَا اسْتَحَقَّ بَعْضَهَا فَإِنْ كان ادَّعَى جَمِيعَ الدَّارِ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ ما اُسْتُحِقَّ لِفَوَاتِ بَعْضِ ما هو عِوَضٌ عن الْمُسْتَحَقِّ وَإِنْ كان ادَّعَى فيها حَقًّا لم يَرْجِعْ بِشَيْءٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ المدعي ما وَرَاءَ الْمُسْتَحَقِّ
وإذا بَطَلَ الصُّلْحُ على الْمَنَافِعِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِ ذلك في أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ فَإِنْ كان الصُّلْحُ عن إقْرَارٍ رَجَعَ بالمدعي بِقَدْرِ ما لم يَسْتَوْفِ من الْمَنْفَعَةِ وَإِنْ كان عن إنْكَارٍ رَجَعَ إلَى الدَّعْوَى في قَدْرِ ما لم يَسْتَوْفِ من الْمَنْفَعَةِ
وَلَوْ صَالَحَ عن الْقِصَاصِ على دَنٍّ من خَمْرٍ فإذا هو خَلٌّ أو على عَبْدٍ فإذا هو حُرٌّ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ الذي عُرِفَ في بَابِ النِّكَاحِ إلَّا أَنَّ فِيمَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ هُنَاكَ تَجِبُ الدِّيَةُ هُنَا وَفِيمَا تَجِبُ الْقِيمَةُ لِرَجُلٍ مِثْلِهِ هُنَاكَ يَجِبُ ذَاكَ هُنَا وَلَا يُشْبِهُ هذا ما إذَا صَالَحَ عن الْقِصَاصِ على خَمْرٍ وهو يَعْلَمُ بِأَنَّهُ خَمْرٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ وَهَهُنَا يَجِبُ شَيْءٌ لِأَنَّ هُنَاكَ صَارَ مَغْرُورًا من جِهَةِ الْمُدَّعَى عليه بِتَسْمِيَةِ الْعَبْدِ وَالْخَلِّ وَكُلُّ من غَرَّ غَيْرَهُ في شَيْءٍ يَكُونُ مُلْتَزِمًا ما يَلْحَقُهُ من الْعُهْدَةِ فيه فإذا ظَهَرَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ كان له حَقُّ الرُّجُوعِ عليه بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ وَمَعْنَى الْغُرُورِ لَا يَتَقَدَّرُ عنه عِلْمِهِ بِحَالِ الْمُسَمَّى فَتَبْقَى لَفْظَةُ الصُّلْحِ كِنَايَةً عن الْعَفْوِ وَأَنَّهُ مُسْقِطٌ لِلْحَقِّ أَصْلًا فَهُوَ الْفَرْقُ بين الْأَمْرَيْنِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
كِتَابُ الشَّرِكَة الشَّرِكَةُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ شَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ وَشَرِكَةُ الْعُقُودِ وَشَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَثْبُتُ بِفِعْلِ الشَّرِيكَيْنِ وَنَوْعٌ يَثْبُتُ بِغَيْرِ فِعْلِهِمَا
أَمَّا الذي يَثْبُتُ بِفِعْلِهِمَا فَنَحْوُ أَنْ يَشْتَرِيَا شيئا أو يُوهَبَ لَهُمَا أو يُوصَى لَهُمَا أو يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِمَا فَيَقْبَلَا فَيَصِيرَ المشتري وَالْمَوْهُوبُ وَالْمُوصَى بِهِ وَالْمُتَصَدَّقَ بِهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ مِلْكٍ
وَأَمَّا الذي يَثْبُتُ بِغَيْرِ فِعْلِهِمَا فَالْمِيرَاثُ بِأَنْ وَرِثَا شيئا فَيَكُونَ الْمَوْرُوثُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ مِلْكٍ
وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعُقُودِ فَالْكَلَامُ فيها يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنْوَاعِهَا وَكَيْفِيَّةِ كل نَوْعٍ منها وَرُكْنِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ رُكْنِهِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الشَّرِكَةِ وفي بَيَانِ صِفَةِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ وفي بَيَانِ ما يُبْطِلُ الْعَقْدَ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَشَرِكَةُ الْعُقُودِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ شَرِكَةٌ بِالْأَمْوَالِ وَشَرِكَةٌ بِالْأَعْمَالِ وَتُسَمَّى شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ وَشَرِكَةَ الصَّانِعِ وَشَرِكَةٌ بِالتَّقَبُّلِ وَشَرِكَةٌ بِالْوُجُوهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ وهو الشَّرِكَةُ بِالْأَمْوَالِ فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ اثْنَانِ في رَأْسِ مَالٍ فَيَقُولَانِ اشْتَرَكْنَا فيه على أَنْ نَشْتَرِيَ وَنَبِيعَ مَعًا أو شَتَّى أو أَطْلَقَا على أَنَّ ما رَزَقَ اللَّهُ عز وجل من رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَنَا على شَرْطِ كَذَا أو يَقُولَ أَحَدُهُمَا ذلك وَيَقُولُ الْآخَرُ نعم وَلَوْ ذَكَرَا الشِّرَاءَ دُونَ الْبَيْعِ فَإِنْ ذَكَرَا ما يَدُلُّ على شَرِكَةِ الْعُقُودِ بِأَنْ قَالَا ما اشْتَرَيْنَا فَهُوَ بَيْنَنَا أو ما اشْتَرَى أَحَدُنَا من تِجَارَةٍ فَهُوَ بَيْنَنَا يَكُونُ شَرِكَةً لِأَنَّهُمَا لَمَّا جَعَلَا ما اشْتَرَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ بَيْنَهُمَا عَلِمَ أَنَّهُمَا أَرَادَا بِهِ الشَّرِكَةَ لَا الْوَكَالَةَ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يُوَكِّلُ مُوَكَّلَهُ عَادَةً
وإذا لم يَكُنْ وَكَالَةً لَا تَقِفُ صِحَّتُهُ على ما تَقِفُ عليه صِحَّةُ الْوَكَالَةِ وهو التَّخْصِيصُ بِبَيَانِ الْجِنْسِ أو النَّوْعِ أو قَدْرِ الثَّمَنِ بَلْ يَصِحُّ من غَيْرِ بَيَانِ شَيْءٍ من ذلك إنْ لم يَذْكُرَا الشِّرَاءَ والبيع وَلَا ما يَدُلُّ على شَرِكَةِ الْعُقُودِ بِأَنْ قال رَجُلٌ لِغَيْرِهِ ما اشْتَرَيْتُ من شَيْءٍ فَبَيْنِي وَبَيْنَكَ أو قال فَبَيْنَنَا وقال الْآخَرُ نعم فَإِنْ أراد ( ( ( أرادا ) ) ) بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَا بِمَعْنَى شَرِيكَيْ التِّجَارَةِ كان شَرِكَةً حتى تَصِحَّ من غَيْرِ بَيَانِ جِنْسِ المشتري وَنَوْعِهِ وَقَدْرِ الثَّمَنِ كما إذَا نَصَّا على الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَإِنْ أَرَادَا بِهِ أَنْ يَكُونَ المشتري بَيْنَهُمَا خَاصَّةً بِعَيْنِهِ وَلَا يَكُونَا فيه كَشَرِيكَيْ التِّجَارَةِ بَلْ يَكُونُ المشتري بَيْنَهُمَا بِعَيْنِهِ كما إذَا أُورِثَا أو وُهِبَ لَهُمَا كان وَكَالَةً لَا شَرِكَةً فَإِنْ وُجِدَ شَرْطُ صِحَّةِ الْوَكَالَةِ جَازَتْ الْوَكَالَةُ وَإِلَّا فَلَا وهو بَيَانُ جِنْسِ المشتري وَبَيَانُ نَوْعِهِ أو مِقْدَارِ الثَّمَنِ في الْوَكَالَةِ الْخَاصَّةِ وَهِيَ أَنْ لَا يُفَوِّضَ الْمُوَكِّلُ الرَّأْيَ إلَى الْوَكِيلِ بِأَنْ يَقُولَ ما اشْتَرَيْتَ لي من عَبْدٍ تُرْكِيٍّ أو جَارِيَةٍ رُومِيَّةٍ فَهُوَ جَائِزٌ أو ما اشْتَرَيْتَ لي من عَبْدٍ أو جَارِيَةٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ أو بَيَانُ الْوَقْتِ أو قَدْرِ الثَّمَنِ أو جِنْسِ المشتري في الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ بِأَنْ يَقُولَ ما اشْتَرَيْتَ لي من شَيْءٍ الْيَوْمَ
____________________

(6/56)


أو شَهْرَ كَذَا أو سَنَةَ كَذَا فَهُوَ جَائِزٌ أو قال ما اشْتَرَيْتَ لي من شَيْءٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ أو ما اشْتَرَيْتَ لي من الْبَزِّ وَالْخَزِّ فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ مُطْلَقَ هذا اللَّفْظِ يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ وَيَحْتَمِلُ الْوَكَالَةَ فَلَا بُدَّ من النِّيَّةِ
فَإِنْ نَوَيَا بِهِ الشَّرِكَةَ كان شَرِكَةً في عُمُومِ التِّجَارَاتِ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الشَّرِكَةِ الْعُمُومُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منها تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِتَكْرَارِ التِّجَارَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَلَا يُشْتَرَطُ لها بَيَانُ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا لِأَنَّ ذلك ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الشَّرِكَةِ
وَإِنْ نَوَيَا بِهِ الْوَكَالَةِ كان وَكَالَةً وَيَقِفُ صِحَّتُهَا على شَرَائِطِهَا من الْخَاصَّةِ أو الْعَامَّةِ لِأَنَّ مَبْنَى الْوَكَالَةِ على الْخُصُوصِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منها تَمَلَّكُ الْعَيْنِ لَا تَحْصِيلُ الرِّبْحِ منها فَلَا بُدَّ فيها من التَّخْصِيصِ بِبَيَانِ ما ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّهُ يكتفي في الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ بِبَيَانِ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ التى وَصَفْنَا لِأَنَّهُ لَمَّا عَمَّمَهَا بِتَفْوِيضِ الرَّأْيِ فيها إلَى الْوَكِيلِ فَقَدْ شَبَّهَهَا بِالشَّرِكَةِ فَكَانَ في احْتِمَالِ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ كَالشَّرِكَةِ لَكِنَّهَا وَكَالَةٌ وَالْخُصُوصُ أَصْلٌ في الْوَكَالَةِ فَلَا بُدَّ فيها من ضَرْبِ تَخْصِيصٍ فَإِنْ أتى بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا جَازَتْ وَإِلَّا بَطَلَتْ قال بِشْرٌ سمعت أَبَا يُوسُفَ يقول في رَجُلٍ قال لِرَجُلٍ ما اشْتَرَيْتَ الْيَوْمَ من شَيْءٍ فَبَيْنِي وَبَيْنَكَ نِصْفَيْنِ فقال الرَّجُلُ نعم فإن أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قال هذا جَائِزٌ وَكَذَلِكَ قال أبو يُوسُفَ وَكَذَلِكَ إنْ وَقَّتَ مَالًا ولم يؤقت يَوْمًا وَكَذَا إنْ وَقَّتَ صِنْفًا من الثِّيَابِ وَسَمَّى عَدَدًا أو لم يُسَمِّ ثَمَنًا وَلَا يَوْمًا
وَإِنْ قال ما اشْتَرَيْتَ من شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ولم يُسَمِّ شيئا مِمَّا ذَكَرْنَا فإن أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قال لَا يَجُوزُ وَكَذَلِكَ قال أبو يُوسُفَ لَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا لم يذكر الْبَيْعَ وَلَا ما يَدُلُّ على شَرِكَةِ الْعُقُودِ عُلِمَ أنها وَكَالَةٌ فَلَا تَصِحُّ إلَّا بِضَرْبٍ من التَّخْصِيصِ على ما بَيَّنَّا
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ في رَجُلَيْنِ اشْتَرَكَا بِغَيْرِ مَالٍ على أَنَّ ما اشْتَرَيَا الْيَوْمَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا خَصَّا صِنْفًا من الْأَصْنَافِ أو عَمَّا لو ( ( ( ولم ) ) ) يَخُصَّا فَهُوَ جَائِزٌ
وَكَذَلِكَ إنْ لم يُوَقِّتَا لِلشَّرِكَةِ وَقْتًا كان هذا جَائِزًا لِأَنَّهُمَا لَمَّا جَعَلَا ما يَشْتَرِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ بَيْنَهُمَا دَلَّ على أنها شَرِكَةٌ وَلَيْسَتْ بِوَكَالَةٍ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَكُونُ من الْجَانِبَيْنِ عَادَةً وإذا كان شَرِكَةً فَالشَّرِكَةُ لَا تَحْتَاجُ إلَى التَّخْصِيصِ
قال وَإِنْ أَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ ما يَشْتَرِيهِ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ من صَاحِبِهِ فَكُلَّمَا اشْتَرَيَا شيئا فَهُوَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَمَّا صَحَّتْ كان كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلَ الْآخَرِ فِيمَا يَشْتَرِيهِ فَهُوَ بِالْإِشْهَادِ أَنَّهُ يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ يُرِيدُ إخْرَاجَ نَفْسِهِ من الْوَكَالَةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ من الْمُوَكِّلِ فَلَا يَمْلِكُ ذلك
وَأَمَّا الشَّرِكَةُ بِالْأَعْمَالِ فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَا على عَمَلٍ من الْخِيَاطَةِ أو الْقِصَارَةِ أو غَيْرِهِمَا فَيَقُولَا اشْتَرَكْنَا على أَنْ نَعْمَلَ فيه على أَنَّ ما رَزَقَ اللَّهُ عز وجل من أُجْرَةٍ فَهِيَ بَيْنَنَا على شَرْطِ كَذَا
وَأَمَّا الشَّرِكَةُ بِالْوُجُوهِ فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَا وَلَيْسَ لَهُمَا مَالٌ لَكِنْ لَهُمَا وَجَاهَةٌ عِنْدَ الناس فَيَقُولَا اشْتَرَكْنَا على أَنْ نَشْتَرِيَ بِالنَّسِيئَةِ وَنَبِيعَ بِالنَّقْدِ على أَنَّ ما رَزَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَنَا على شَرْطِ كَذَا وَسُمِّيَ هذا النَّوْعُ شَرِكَةَ الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ لَا يُبَاعُ بِالنَّسِيئَةِ إلَّا الْوَجِيهُ من الناس عَادَةً ويحتمل أَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوَاجِهُ صَاحِبَهُ يَنْتَظِرَانِ من يبيعهما ( ( ( يبيعها ) ) ) بِالنَّسِيئَةِ وَيَدْخُلُ في كل وَاحِدٍ من الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ الْعِنَانُ وَالْمُفَاوَضَةُ وَيُفْصَلُ بَيْنَهُمَا بِشَرَائِطَ تَخْتَصُّ بِالْمُفَاوَضَةِ نَذْكُرُهَا في مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ جَوَازِ هذه الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فَقَدْ قال أَصْحَابُنَا إنَّهَا جَائِزَةٌ عِنَانًا كانت أو مُفَاوَضَةً
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ شَرِكَةُ الْأَعْمَالِ وَالْوُجُوهِ لَا جَوَازَ لها أَصْلًا وَرَأْسًا
وَأَمَّا شَرِكَةُ الْأَمْوَالِ فَتَجُوزُ فيها الْعِنَانُ وَلَا تَجُوزُ فيها الْمُفَاوَضَةُ
وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا أَعْرِفُ الْمُفَاوَضَةَ وَقِيلَ في اشْتِقَاقِ الْعِنَانِ إنه مَأْخُوذٌ من الْعَنِّ وهو الْإِعْرَاضُ يُقَالُ عَنَّ لي أَيْ اعْتَرَضَ وَظَهَرَ
قال امْرُؤُ الْقِيسِ عن ( ( ( فعن ) ) ) لنا شرب ( ( ( سرب ) ) ) كَأَنَّ نِعَاجَهُ عَذَارَى دُوَارٍ في مُلَاءٍ مدبل ( ( ( مذيل ) ) ) سُمِّيَ هذا النَّوْعُ مِثْلَ الشَّرِكَةِ عِنَانًا لِأَنَّهُ يَقَعُ على حَسَبِ ما يَعِنُّ لَهُمَا في كل التِّجَارَاتِ أو في بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ وَعِنْدَ تَسَاوِي الْمَالَيْنِ أو تَفَاضُلِهِمَا وَقِيلَ هو مَأْخُوذٌ من عِنَانِ الْفَرَسِ أَنْ يَكُونَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ وَيَدُهُ الْأُخْرَى مُطْلَقَةٌ يَفْعَلُ بها ما يَشَاءُ فَسُمِّيَ هذا النَّوْعُ من الشَّرِكَةِ له عِنَانًا لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا في بَعْضِ الْأَمْوَالِ وَيَتَصَرَّفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في الْبَاقِي كَيْفَ يَشَاءُ أو لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَعَلَ عِنَانَ التَّصَرُّفِ في الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ لِصَاحِبِهِ
وكان أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَاطَوْنَ هذه الشَّرِكَةَ قال النَّابِغَةُ
____________________

(6/57)


وَشَارَكْنَا قُرَيْشًا في بقاها ( ( ( تقاها ) ) ) وفي أَحْسَابِهَا شِرْكَ الْعِنَانِ وَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ فَقَدْ قِيلَ إنَّهَا الْمُسَاوَاةُ في اللُّغَةِ
قال الْقَائِلُ وهو الْعَبْدِيُّ يهدي ( ( ( تهدى ) ) ) الْأُمُورُ بِأَهْلِ الرَّأْيِ ما صَلُحَتْ فَإِنْ تَوَلَّتْ فَبِالْأَشْرَارِ تَنْقَادُ لَا يَصْلُحُ الناس فَوْضَى لَا سَرَاةَ لهم وَلَا سَرَاةٌ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا سُمِّيَ هذا النَّوْعُ من الشَّرِكَةِ مُفَاوَضَةً لِاعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فيه في رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ وَالتَّصَرُّفِ وَغَيْرِ ذلك على ما نَذْكُرُ وَقِيلَ هِيَ من التَّفْوِيضِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُفَوِّضُ التَّصَرُّفَ إلَى صَاحِبِهِ على كل حَالٍ
وَأَمَّا الْكَلَامُ في شَرِكَةِ الْأَعْمَالِ وَالْوُجُوهِ فَوَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الشَّرِكَةَ تنبىء عن الِاخْتِلَاطِ وَلِهَذَا شَرَطَ الْخَلْطَ لِجَوَازِ الشَّرِكَةِ وَلَا يَقَعُ الِاخْتِلَاطُ إلَّا في الْأَمْوَالِ وَكَذَا ما وُضِعَ له الشَّرِكَةَ لَا يَتَحَقَّقُ في هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِاسْتِنْمَاءِ الْمَالِ بِالتِّجَارَةِ لِأَنَّ نَمَاءَ الْمَالِ بِالتِّجَارَةِ وَالنَّاسُ في الِاهْتِدَاءِ إلَى التِّجَارَةِ مُخْتَلِفُونَ بَعْضُهُمْ أَهْدَى من الْبَعْضِ فَشُرِعَتْ الشَّرِكَةُ لِتَحْصِيلِ غَرَضِ الِاسْتِنْمَاءِ وَلَا بُدَّ من أَصْلٍ يستنمي ولم يُوجَدْ في هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَلَا يَحْصُلُ ما وُضِعَ له الشَّرِكَةُ فَلَا يَجُوزُ
وَلَنَا إن الناس يَتَعَامَلُونَ بِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ في سَائِرِ الْأَعْصَارِ من غَيْرِ إنْكَارٍ عليهم من أَحَدٍ
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي على ضَلَالَةٍ وَلِأَنَّهُمَا يَشْتَمِلَانِ على الْوَكَالَةِ وَالْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ وَالْمُشْتَمِلُ على الْجَائِزِ جَائِزٌ
وَقَوْلُهُ إنَّ الشَّرِكَةَ شُرِعَتْ لِاسْتِنْمَاءِ الْمَالِ فَيَسْتَدْعِي أَصْلًا يستنمي فَنَقُولُ الشَّرِكَةُ بِالْأَمْوَالِ شُرِعَتْ لِتَنْمِيَةِ الْمَالِ وَأَمَّا الشَّرِكَةُ بِالْأَعْمَالِ أو بِالْوُجُوهِ فما شُرِعَتْ لِتَنْمِيَةِ الْمَالِ بَلْ لِتَحْصِيلِ أَصْلِ الْمَالِ
وَالْحَاجَةُ إلَى تَحْصِيلِ أَصْلِ الْمَالِ فَوْقَ الْحَاجَةِ إلَى تَنْمِيَتِهِ فلما شُرِعَتْ لِتَحْصِيلِ الْوَصْفِ فَلَأَنْ تُشْرَعَ لِتَحْصِيلِ الْأَصْلِ أَوْلَى
وَأَمَّا الْكَلَامُ في الشَّرِكَةِ بِالْأَمْوَالِ فَأَمَّا الْعِنَانُ فَجَائِزٌ بِإِجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَلِتَعَامُلِ الناس ذلك في كل عَصْرٍ من غَيْرِ نَكِيرٍ وما رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ أُسَامَةَ بن شَرِيكٍ جاء إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال أَتَعْرِفُنِي فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكَيْفَ لَا أَعْرِفُكَ وَكُنْتَ شَرِيكِي وَنِعْمَ الشَّرِيكُ لَا تُدَارِي وَلَا تُمَارِي وَأَدْنَى ما يُسْتَدَلُّ بِفِعْلِهِ عليه السلام الْجَوَازُ
وَكَذَا بُعِثَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهَذِهِ الشَّرِكَةِ فَقَرَّرَهُمْ على ذلك حَيْثُ لم يَنْهَهُمْ ولم يُنْكِرْ عليهم وَالتَّقْرِيرُ أَحَدُ وُجُوهِ السُّنَّةِ وَلِأَنَّ هذه الْعُقُودَ شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَحَاجَتُهُمْ إلَى اسْتِنْمَاءِ الْمَالِ مُتَحَقِّقَةٌ وَهَذَا النَّوْعُ طَرِيقٌ صَالِحٌ لِلِاسْتِنْمَاءِ فَكَانَ مَشْرُوعًا وَلِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ على الْوَكَالَةِ وَالْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ إجْمَاعًا
وَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ فَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا أَعْرِفُ ما الْمُفَاوَضَةَ فَإِنْ عَنَى بِهِ لَا أَعْرِفُ مَعْنَاهَا في اللُّغَةِ فَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهَا في اللُّغَةِ إنها عِبَارَةٌ عن الْمُسَاوَاةِ وَإِنْ عَنَى بِهِ لَا أَعْرِفُ جَوَازَهَا فَقَدْ عَرَّفَنَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْجَوَازَ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَفَاوَضُوا فإنه أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ وَلِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ على أَمْرَيْنِ جَائِزَيْنِ وَهُمَا الْوَكَالَةُ وَالْكَفَالَةُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَائِزَةٌ حَالَ الِانْفِرَادِ
وَكَذَا حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ كَالْعِنَانِ وَلِأَنَّهَا طَرِيقُ اسْتِنْمَاءِ الْمَالِ أو تَحْصِيلِهِ وَالْحَاجَةُ إلَى ذلك مُتَحَقِّقَةٌ فَكَانَتْ جَائِزَةٌ كَالْعِنَانِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ عِنْدَكُمْ وَالْكَفَالَةُ التي تَتَضَمَّنُهَا الْمُفَاوَضَةُ كَفَالَةٌ بِمَجْهُولٍ وإنها غَيْرُ صَحِيحَةٍ حَالَةَ الِانْفِرَادِ فَكَذَا التي تَتَضَمَّنُهَا الْمُفَاوَضَةُ
وَدَلِيلُنَا على الْجَوَازِ ما ذَكَرْنَا مع مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ الْمَكْفُولُ له مَجْهُولٌ فَنَعَمْ لَكِنْ هذا النَّوْعُ من الْجَهَالَةِ في عَقْدِ الشَّرِكَةِ عَفْوٌ وَإِنْ لم يَكُنْ عَفْوًا حَالَةَ الِانْفِرَادِ كما في شَرِكَةِ الْعِنَانِ فَإِنَّهَا تَشْتَمِلُ على الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ وَإِنْ كان لَا يَصِحُّ هذا التَّوْكِيلُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ وَكَذَا الْمُضَارَبَةُ تَتَضَمَّنُ وَكَالَةً عَامَّةً وإنها صَحِيحَةٌ
وَإِنْ كانت الْوَكَالَةُ الْعَامَّةُ لَا تَصِحُّ من غَيْرِ بَيَانِ حَالَةِ الِانْفِرَادِ فَكَذَا هذا
وكان الْمَعْنَى في ذلك الْوَكَالَةِ لَا تَثْبُتُ في هذا الْعَقْدِ مَقْصُودًا بَلْ ضِمْنًا لِلشَّرِكَةِ وقد يَثْبُتُ الشَّيْءُ ضِمْنًا وَإِنْ كان لَا يَثْبُتُ قَصْدًا وَيُشْتَرَطُ لِلثَّابِتِ مَقْصُودًا ما لَا يُشْتَرَطُ لِلثَّابِتِ ضِمْنًا وَتَبَعًا كَعَزْلِ الْوَكِيلِ وَنَحْوِ ذلك
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ شَرَائِطِ جَوَازِ هذه الْأَنْوَاعِ فَلِجَوَازِهَا شَرَائِطُ بَعْضُهَا يَعُمُّ الْأَنْوَاعَ كُلَّهَا وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ
أَمَّا الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ فَأَنْوَاعٌ منها أَهْلِيَّةُ الْوَكَالَةِ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَازِمَةٌ في الْكُلِّ وَهِيَ أَنْ يَصِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ
____________________

(6/58)


مِنْهُمَا وَكِيلَ صَاحِبِهِ في التَّصَرُّفِ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَتَقَبُّلِ الْأَعْمَالِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَذِنَ لِصَاحِبِهِ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَتَقَبُّلُ الْأَعْمَالِ مُقْتَضَى عَقْدِ الشَّرِكَةِ وَالْوَكِيلُ هو الْمُتَصَرِّفُ عن إذْنٍ فَيُشْتَرَطُ فيها أَهْلِيَّةُ الْوَكَالَةِ لِمَا عُلِمَ في كِتَابِ الْوَكَالَةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ فَإِنْ كان مَجْهُولًا تَفْسُدُ الشَّرِكَةُ لِأَنَّ الرِّبْحَ هو الْمَعْقُودُ عليه وَجَهَالَتُهُ تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ كما في الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ جُزْءًا شَائِعًا في الْجُمْلَةِ لَا مُعَيَّنًا فَإِنْ عَيَّنَا عَشَرَةً أو مِائَةً أو نحو ذلك كانت الشَّرِكَةُ فَاسِدَةً لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي تَحَقُّقَ الشَّرِكَةِ في الرِّبْحِ وَالتَّعْيِينُ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَحْصُلَ من الرِّبْحِ إلَّا الْقَدْرُ الْمُعَيَّنُ لِأَحَدِهِمَا فَلَا يَتَحَقَّقُ الشَّرِكَةُ في الرِّبْحِ
وَأَمَّا الذي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَيَخْتَلِفُ
أَمَّا الشَّرِكَةُ بِالْأَمْوَالِ فَلَهَا شُرُوطٌ
منها أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ من الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ وَهِيَ التي لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ في الْمُفَاوَضَاتِ على كل حَالٍ وَهِيَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ عِنَانًا كانت الشَّرِكَةُ أو مُفَاوَضَةً عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ فَلَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ في الْعُرُوضِ
وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هذا ليس بِشَرْطٍ وَتَصِحُّ الشَّرِكَةُ في الْعُرُوضِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ مَعْنَى الْوَكَالَةِ من لَوَازِمِ الشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةُ التي يَتَضَمَّنُهَا الشَّرِكَةُ لَا تَصِحُّ في الْعُرُوضِ وَتَصِحُّ في الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فإن من قال لِغَيْرِهِ بِعْ عَرْضَكَ على أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ بَيْنَنَا لَا يَجُوزُ وإذا لم تَجُزْ الْوَكَالَةُ التي هِيَ من ضَرُورَاتِ الشَّرِكَةِ لم تَجُزْ الشَّرِكَةُ
وَلَوْ قال له اشْتَرِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ من مَالِكَ على أَنْ يَكُونَ ما اشْتَرَيْتَهُ بَيْنَنَا جَازَ
وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ في الْعُرُوضِ تُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ يَكُونُ قِيمَةَ الْعُرُوضِ لَا عَيْنَهَا وَالْقِيمَةُ مَجْهُولَةٌ لِأَنَّهَا تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَيَصِيرُ الرِّبْحُ مَجْهُولًا فَيُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ في الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ من الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عِنْدَ الْقِسْمَةِ عَيْنُهَا فَلَا يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ وَلِأَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نهى عن رِبْحِ ما لم يَضْمَنْ وَالشَّرِكَةُ في الْعُرُوضِ تُؤَدِّي إلَى رِبْحِ ما لم يَضْمَنْ لِأَنَّ الْعُرُوضَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْهَلَاكِ فإن من اشْتَرَى شيئا بِعَرْضٍ بِعَيْنِهِ فَهَلَكَ الْعَرْضُ قبل التَّسْلِيمِ لَا يَضْمَنُ شيئا آخَرَ
لِأَنَّ الْعُرُوضَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فإذا لم تَكُنْ مَضْمُونَةً فَالشَّرِكَةُ فيها تُؤَدِّي إلَى رِبْحِ ما لم يَضْمَنْ وإنه مَنْهِيٌّ بِخِلَافِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْهَلَاكِ لِأَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَالشَّرِكَةُ فيها لَا تُؤَدِّي إلَى رِبْحِ ما لم يَضْمَنْ بَلْ يَكُونُ رِبْحُ ما ضَمِنَ
وَالْحِيلَةُ في جَوَازِ الشَّرِكَةِ في الْعُرُوضِ وَكُلِّ ما يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَنْ يَبِيعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ مَالِهِ بِنِصْفِ مَالِ صَاحِبِهِ حتى يَصِيرَ مَالُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَيْنِ وَتَحْصُلُ شَرِكَةُ مِلْكٍ بَيْنَهُمَا ثُمَّ يَعْقِدَانِ بَعْدَ ذلك عَقْدَ الشَّرِكَةِ فَتَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ
وَلَوْ كان من أَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ وَمِنْ الْآخَرِ عُرُوضٌ فَالْحِيلَةُ في جَوَازِهِ أَنْ يَبِيعَ صَاحِبُ الْعُرُوضِ نِصْفَ عَرْضِهِ بِنِصْفِ دَرَاهِمِ صَاحِبِهِ وَيَتَقَابَضَا وَيَخْلِطَا جميعا حتى تَصِيرَ الدَّرَاهِمُ بَيْنَهُمَا وَالْعُرُوضُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ يَعْقِدَانِ عَلَيْهِمَا عَقْدَ الشَّرِكَةِ فَيَجُوزُ
وَأَمَّا التِّبْرُ فَهَلْ يَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ ذُكِرَ في كِتَابِ الشَّرِكَةِ وَجَعَلَهُ كَالْعُرُوضِ وفي كِتَابِ الصَّرْفِ جَعَلَهُ كَالْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ لِأَنَّهُ قال فيه إذَا اشْتَرَى بِهِ فَهَلَكَ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَالْأَمْرُ فيه مَوْكُولٌ إلَى تَعَامُلِ الناس فَإِنْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ فَتَجُوزُ الشَّرِكَةُ بها وَإِنْ كَانُوا لَا يَتَعَامَلُونَ بها فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْعُرُوضِ وَلَا تَجُوزُ فيها الشَّرِكَةُ
وَأَمَّا الْفُلُوسُ فَإِنْ كانت كَاسِدَةً فَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ وَلَا الْمُضَارَبَةُ بها لِأَنَّهَا عُرُوضٌ وَإِنْ كانت نَافِقَةً فَكَذَلِكَ في الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عن أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَجُوزُ وَالْكَلَامُ فيها مَبْنِيٌّ على أَصْلٍ وهو أَنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ لَيْسَتْ أَثْمَانًا على كل حَالٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ في الْجُمْلَةِ وَتَصِيرُ مَبِيعًا بِإِصْلَاحِ الْعَاقِدَيْنِ حتى جَازَ بَيْعُ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهَا عِنْدَهُمَا
فَأَمَّا إذَا لم تَكُنْ أَثْمَانًا مُطْلَقَةً لِاحْتِمَالِهَا التَّعْيِينَ بِالتَّعْيِينِ في الْجُمْلَةِ في عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لم تَصْلُحْ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ كَسَائِرِ الْعُرُوضِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الثَّمَنِيَّةَ لَازِمَةٌ لِلْفُلُوسِ النَّافِقَةِ فَكَانَتْ من الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ وَلِهَذَا أَبَى جَوَازَ بَيْعِ الْوَاحِدِ منها بِاثْنَيْنِ فَتَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ كَسَائِرِ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ من الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِالْفُلُوسِ وَلَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَانِعَ من جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ جَهَالَةُ الرِّبْحِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ على تَقْدِيرِ الْكَسَادِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ من تَعْيِينِ رَأْسِ الْمَالِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ فإذا كَسَدَتْ صَارَ رَأْسُ الْمَالِ قِيمَةً وَالْقِيمَةُ مَجْهُولَةٌ لِأَنَّهَا تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ
____________________

(6/59)


في الشَّرِكَةِ لِأَنَّهُمَا عِنْدَ الْكَسَادِ يَأْخُذَانِ رَأْسَ الْمَالِ عَدَدًا لَا قِيمَةً فَكَانَ الرِّبْحُ مَعْلُومًا
وَأَمَّا الشَّرِكَةُ بِالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ التي لَيْسَتْ بِأَثْمَانٍ مُطْلَقَةٍ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ التي لَا تَتَفَاوَتُ فَلَا تَجُوزُ قبل الْخَلْطِ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهَا إنَّمَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ إذَا كانت عَيْنًا فَكَانَتْ كَالْعُرُوضِ وَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ التي تَتَضَمَّنُهَا الشَّرِكَةُ فيها لَا تَصِحُّ قبل الْخَلْطِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لو قال آخَرُ قبل الْخَلْطِ بِعْ حِنْطَتَكَ على أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهَا بَيْنَنَا لم يَجُزْ وَسَوَاءٌ كانت الشَّرِكَةُ من جِنْسَيْنِ أو من جِنْسٍ وَاحِدٍ
وَأَمَّا بَعْدَ الْخَلْطِ فَإِنْ كانت الشَّرِكَةُ في جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَا تَجُوزُ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّ الْحِنْطَةَ إذَا خُلِطَتْ بِالشَّعِيرِ خَرَجَتْ من أَنْ تَكُونَ ثَمَنًا بِدَلِيلِ أَنَّ مُسْتَهْلِكَهَا يَضْمَنُ قِيمَتَهَا لَا مِثْلَهَا
وَإِنْ كانت من جِنْسٍ وَاحِدٍ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا تَصِحُّ
وَإِنَّمَا تَصِيرُ شَرِكَةَ مِلْكٍ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَصِحُّ الشَّرِكَةُ فيها بَعْدَ الْخَلْطِ
وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا كان الْمَكِيلُ نِصْفَيْنِ وَشَرَطَا الرِّبْحَ أَثْلَاثًا فَخَلَطَاهُ وَاشْتَرَيَا بِهِ
فَعَلَى قَوْلِ أبي يُوسُفَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا على قَدْرِ الْمَالَيْنِ نِصْفَيْنِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ على ما شَرَطَا فَقَوْلُ أبي يُوسُفَ مُطَّرِدٌ على الْأَصْلِ الذي ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ لَيْسَتْ أَثْمَانًا على كل حَالٍ بَلْ تَكُونُ تَارَةً ثَمَنًا وَتَارَةً مَبِيعًا لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ في الْجُمْلَةِ فَكَانَتْ كَالْفُلُوسِ
وَوَجْهُ التَّخْرِيجِ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ مَعْنَى الْوَكَالَةِ التي تَتَضَمَّنُهَا الشَّرِكَةُ ثَابِتٌ بَعْدَ الْخَلْطِ فَأَشْبَهَتْ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ بِخِلَافِ ما قبل الْخَلْطِ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ التي من مُقْتَضَيَاتِ الشَّرِكَةِ لَا يَصِحُّ فيها قبل الْخَلْطِ وَالْحِيلَةُ في جَوَازِ الشَّرِكَةِ بِالْمَكِيلَاتِ وَسَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ على قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنْ يُخْلَطَا حتى تَصِيرَ شَرِكَةَ مِلْكٍ بَيْنَهُمَا ثُمَّ يَعْقِدَا عليها عَقْدَ الشَّرِكَةِ فَيَجُوزُ عِنْدَهُ أَيْضًا
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِ الشَّرِكَةِ عَيْنًا حَاضِرًا لَا دَيْنًا وَلَا مَالًا غَائِبًا فَإِنْ كان لَا تَجُوزُ عِنَانًا كانت أو مُفَاوَضَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الشَّرِكَةِ الرِّبْحُ وَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ التَّصَرُّفِ وَلَا يُمْكِنُ في الدَّيْنِ وَلَا الْمَالِ الْغَائِبِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ الْحُضُورُ عِنْدَ الشِّرَاءِ لَا عِنْدَ الْعَقْدِ لِأَنَّ عَقْدَ الشَّرِكَةِ يَتِمُّ بِالشِّرَاءِ فَيُعْتَبَرُ الْحُضُورُ عِنْدَهُ حتى لو دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فقال له اخرج مِثْلَهَا وَاشْتَرِ بِهِمَا وَبِعْ فما رَبِحْتَ يَكُونُ بَيْنَنَا فَأَقَامَ الْمَأْمُورُ الْبَيِّنَةَ إنه فَعَلَ ذلك جَازَ
وَإِنْ لم يَكُنِ الْمَالُ حَاضِرًا من الْجَانِبَيْنِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَمَّا كان حَاضِرًا عِنْدَ الشِّرَاءِ وَهَلْ يُشْتَرَطُ خَلْطُ الْمَالَيْنِ وهو خَلْطُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ أو الدَّنَانِيرِ بِالدَّرَاهِمِ قال أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ لَا يُشْتَرَطُ وقال زُفَرُ يُشْتَرَطُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يُبْنَى ما إذَا كان الْمَالَانِ من جِنْسَيْنِ بِأَنْ كان لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ وَالْآخَرِ دَنَانِيرُ أَنَّ الشَّرِكَةَ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُمَا وَكَذَلِكَ إذَا كَانَا من جِنْسٍ وَاحِدٍ لَكِنْ بِصِفَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ كَالصِّحَاحِ مع الْمُكَسَّرَةِ أو كانت دَرَاهِمُ أَحَدِهِمَا بَيْضَاءَ وَالْآخَرِ سَوْدَاءَ وعله ذلك في شَرِكَةِ الْعِنَانِ فَهُوَ على هذا الْخِلَافِ
وَرُوِيَ عن زُفَرَ أَنَّ الْخَلْطَ شَرْطٌ في الْمُفَاوَضَةِ لَا في الْعِنَانِ وَلَكِنَّ الطَّحَاوِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِمَا عِنْدَ زُفَرَ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الشَّرِكَةَ تنبىء عن الِاخْتِلَاطِ وَالِاخْتِلَاطُ لَا يَتَحَقَّقُ مع تَمَيُّزِ الْمَالَيْنِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الشَّرِكَةِ وَلِأَنَّ من أَحْكَامِ الشَّرِكَةِ إن الْهَلَاكَ يَكُونُ من الْمَالَيْنِ وما هَلَكَ قبل الْخَلْطِ من أَحَدِ الْمَالَيْنِ يَهْلَكُ من مَالِ صَاحِبِهِ خَاصَّةً وَهَذَا ليس من مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ
وَلَنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ تَشْتَمِلُ على الْوَكَالَةِ فما جَازَ التَّوْكِيلُ بِهِ جَازَتْ الشَّرِكَةُ فيه وَالتَّوْكِيلُ جَائِزٌ في الْمَالَيْنِ قبل الْخَلْطِ كَذَا الشَّرِكَةُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ الشَّرِكَةُ تنبىء عن الِاخْتِلَاطِ فَمُسَلَّمٌ لَكِنْ على اخْتِلَاطِ رَأْسَيْ الْمَالِ أو على اخْتِلَاطِ الرِّبْحِ فَهَذَا مِمَّا لَا يَتَعَرَّضُ له لَفْظُ الشَّرِكَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَسْمِيَتُهُ شَرِكَةً لِاخْتِلَاطِ الرِّبْحِ لَا لِاخْتِلَاطِ رَأْسِ الْمَالِ وَاخْتِلَاطُ الرِّبْحِ يُوجَدُ وَإِنْ اشْتَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَالِ نَفْسِهِ على حِدَةٍ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ وَهِيَ الرِّبْحُ تَحْدُثُ على الشَّرِكَةِ
وَأَمَّا ما هَلَكَ من أَحَدِ الْمَالَيْنِ قبل الْخَلْطِ فَإِنَّمَا كان من نَصِيبِ صَاحِبِهِ خَاصَّةً لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالشِّرَاءِ فما هَلَكَ قَبْلَهُ هَلَكَ قبل تَمَامِ الشَّرِكَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ حتى لو هَلَكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِأَحَدِهِمَا كان الْهَالِكُ من الْمَالَيْنِ جميعا لِأَنَّهُ هَلَكَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ
وَأَمَّا تَسْلِيمُ رَأْسِ مَالِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ وهو التَّخْلِيَةُ بين مَالِهِ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ في الْعِنَانِ وَالْمُفَاوَضَةِ جميعا وَأَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا يُذْكَرُ في كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ
وَمِنْهَا ما هو مُخْتَصٌّ بِالْمُفَاوَضَةِ وهو أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ من الشَّرِيكَيْنِ أَهْلِيَّةُ الْكَفَالَةِ بِأَنْ يَكُونَا حُرَّيْنِ عَاقِلَيْنِ لِأَنَّ من أَحْكَامِ الْمُفَاوَضَةِ أَنَّ كُلَّ ما يَلْزَمُ لِأَحَدِهِمَا من حُقُوقِ ما يَتَّجِرَانِ فيه يَلْزَمُ
____________________

(6/60)


الْآخَرَ وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا وَجَبَ على صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفِيلِ عنه لِمَا نَذْكُرُ فَلَا بُدَّ من أَهْلِيَّةِ الْكَفَالَةِ وَشَرَائِطُ أَهْلِيَّةِ الْكَفَالَةِ تُطْلَبُ من كِتَابِ الْكَفَالَةِ
وَمِنْهَا الْمُسَاوَاةُ في رَأْسِ الْمَالِ قَدْرًا وَهِيَ شَرْطُ صِحَّةِ الْمُفَاوَضَةِ بِلَا خِلَافٍ حتى لو كان الْمَالَانِ مُتَفَاضِلَيْنِ قَدْرًا لم تَكُنْ مُفَاوَضَةً لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تنبىء عن الْمُسَاوَاةِ فَلَا بُدَّ من اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فيها ما أَمْكَنَ وَكَذَا قِيمَةٍ في الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ حتى لو كان أَحَدُهُمَا صِحَاحًا وَالْآخَرُ مُكَسَّرَةً أو كان أَحَدُهُمَا أَلْفًا بَيْضَاءَ وَالْآخَرُ أَلْفًا سَوْدَاءَ وَبَيْنَهُمَا فَضْلُ قِيمَةٍ في الصَّرْفِ لم تَجُزْ الْمُفَاوَضَةُ في الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْقِيمَةِ بِمَنْزِلَةِ زِيَادَةِ الْوَزْنِ فَلَا تَثْبُتُ الْمُسَاوَاةُ التي هِيَ من مُقْتَضَى الْعَقْدِ
وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بن حَمَّادِ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ إحْدَى الْأَلْفَيْنِ إذَا كانت أَفْضَلَ من الْأُخْرَى جَازَ وَكَانَتْ مُفَاوَضَةً لِأَنَّ الْجَوْدَةَ في أَمْوَالِ الرِّبَا لَا قِيمَةَ لها شَرْعًا عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْجَوْدَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا على صِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَهَلْ تُشْتَرَطُ الْمُجَانَسَةُ في رَأْسِ الْمَالِ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَرَاهِمَ أو يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَنَانِيرَ
فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ لَا تُشْتَرَطُ حتى لو كان أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ وَالْآخَرُ دَنَانِيرَ جَازَتْ الْمُفَاوَضَةُ في الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ بَعْدَ أَنْ اسْتَوَيَا في الْقِيمَةِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُمَا إذَا لم يَسْتَوِيَا في الْقِيمَةِ لم تَكُنْ مُفَاوَضَةً
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّهُ لَا تَكُونُ مُفَاوَضَةً وَإِنْ اسْتَوَيَا في الْقِيمَةِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا تُعْرَفُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا في الْقِيمَةِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تُعْرَفُ بالجزر ( ( ( بالحزر ) ) ) وَالظَّنِّ وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ فَلَا تُعْرَفُ بِالْمُسَاوَاةِ وَالصَّحِيحُ هو الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ لِأَنَّهَا من جِنْسِ الْأَثْمَانِ فَكَانَتْ الْمُجَانَسَةُ ثَابِتَةً في الثَّمَنِيَّةِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضِينَ ما تَصِحُّ فيه الشَّرِكَةُ وَلَا يَدْخُلُ في الشَّرِكَةِ فَإِنْ كان لم تَكُنْ مُفَاوَضَةً لِأَنَّ ذلك يَمْنَعُ الْمُسَاوَاةَ وَإِنْ تَفَاضَلَا في الْأَمْوَالِ التي لَا تَصِحُّ فيها الشَّرِكَةُ كَالْعُرُوضِ وَالْعَقَارِ وَالدَّيْنِ جَازَتْ الْمُفَاوَضَةُ وَكَذَا الْمَالُ الْغَائِبُ لِأَنَّ ما لَا تَنْعَقِدُ عليه الشَّرِكَةُ كان وُجُودُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وكان التَّفَاضُلُ فيه كَالتَّفَاضُلِ في الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ
وَمِنْهَا الْمُسَاوَاةُ في الرِّبْحِ في الْمُفَاوَضَةِ فَإِنْ شَرَطَا التَّفَاضُلَ في الرِّبْحِ لم تَكُنْ مُفَاوَضَةً لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ
وَمِنْهَا الْعُمُومُ في الْمُفَاوَضَةِ وهو أَنْ يَكُونَ في جَمِيعِ التِّجَارَاتِ وَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِتِجَارَةٍ دُونَ شَرِيكِهِ لِمَا في الِاخْتِصَاصِ من إبْطَالِ مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ وهو الْمُسَاوَاةُ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ إنه لَا تَجُوزُ الْمُفَاوَضَةُ بين الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ الذِّمِّيِّ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ يَخْتَصُّ بِتِجَارَةٍ لَا يَجُوزُ ذلك لِلْمُسْلِمِ وَهِيَ التِّجَارَةُ في الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فلم يَسْتَوِيَا في التِّجَارَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَجُوزُ لِاسْتِوَائِهِمَا في أَهْلِيَّةِ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ وَتَجُوزُ مُفَاوَضَةُ الذِّمِّيِّينَ لِاسْتِوَائِهِمَا في التِّجَارَةِ
وَأَمَّا مُفَاوَضَةُ الْمُسْلِمِ وَالْمُرْتَدِّ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أنها غَيْرُ جَائِزَةٍ وَكَذَا رَوَى عِيسَى بن أَبَانَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مُتَوَقِّفَةٌ عِنْدَهُ لِوُقُوفِ أَمْلَاكِهِ فَلَا يُسَاوِي الْمُسْلِمَ في التَّصَرُّفِ فَلَا تَجُوزُ كما لَا تَجُوزُ بين الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ
وقال قِيَاسُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ يَعْنِي قِيَاسَ قَوْلِهِ في الذِّمِّيّ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا من حَيْثُ إنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ نَاقِصٌ لِكَوْنِهِ على شَرَفِ الزَّوَالِ
أَلَا تَرَى إن قَاضِيًا لو قَضَى بِبُطْلَانِ تَصَرُّفِهِ وَزَوَالِ مِلْكِهِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وإذا كان نَاقِصَ الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ نُزِّلَ بمنزلة ( ( ( منزلة ) ) ) الْمُكَاتَبِ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ
وَلَوْ فَاوَضَ مُسْلِمٌ مُرْتَدَّةً ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ إنها لَا تَجُوزُ
وقال الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وهو ظَاهِرٌ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْكُفْرَ عِنْدَهُمَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْمُفَاوَضَةِ بين الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ
وَأَمَّا أبو يُوسُفَ فَالْكُفْرُ عِنْدَهُ غَيْرُ مَانِعٍ وَإِنَّمَا الْمَانِعُ نُقْصَانُ الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ في الْمَرْأَةِ
وَأَمَّا مُفَاوَضَةُ الْمُرْتَدَّيْنِ أو شَرِكَتِهِمَا شَرِكَةَ الْعِنَانِ فَذَلِكَ مَوْقُوفٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ على ما أَصْلُهُ في عُقُودِ الْمُرْتَدِّ إنها مَوْقُوفَةٌ فَإِنْ أَسْلَمَا جَازَ عَقْدُهُمَا وَإِنْ قُتِلَا على رَدَّتِهِمَا أو مَاتَا أو لَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَ
وَأَمَّا على قَوْلِهِمَا فَشَرِكَةُ الْعِنَانِ جَائِزَةٌ لِأَنَّ عُقُودَهُمَا نَافِذَةٌ
وَأَمَّا مُفَاوَضَتُهُمَا فَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ
أَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَلِأَنَّ نُقْصَانَ الْمِلْكِ يَمْنَعُ الْمُفَاوَضَةَ كَالْمُكَاتَبِ وَمِلْكُهُمَا نَاقِصٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَصَارَا كَالْمُكَاتَبَيْنِ
وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ وَكَفَالَةُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ لَا تَصِحُّ إلَّا من الثُّلُثِ وَالْمُفَاوَضَةُ تَقْتَضِي جَوَازَ الْكَفَالَةِ على الْإِطْلَاقِ وَإِنْ شَارَكَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا فَإِنْ قُتِلَ أو مَاتَ أو لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ وَإِنْ رَجَعَ قبل ذلك فَهُمَا
____________________

(6/61)


على الشَّرِكَةِ لِأَنَّهُ إذَا قُتِلَ أو مَاتَ أو لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ زَالَتْ أَمْلَاكُهُ عِنْد أبي حَنِيفَةَ من حِينِ ارْتَدَّ فَكَأَنَّهُ مَاتَ فَبَطَلَتْ شَرِكَتُهُ وَإِنْ أَسْلَمَ فَقَدْ زَالَ التَّوَقُّفُ وَجُعِلَ كَأَنَّ الرِّدَّةَ لم تَكُنْ وَلِهَذَا قال أبو حَنِيفَةَ أن الْمُرْتَدَّ مِنْهُمَا إذَا أَقَرَّ ثُمَّ قُتِلَ لم يَلْزَمْ إقْرَارُهُ شَرِيكَهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ يُحْكَمُ بِزَوَالِهِ من وَقْتِ الرِّدَّةِ فَقَدْ أَقَرَّ بَعْدَ بُطْلَانِ الشَّرِكَةِ
وَأَمَّا على قَوْلِهِمَا فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ على شَرِيكِهِ وَكَذَا بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عِنْدَهُمَا إنَّمَا بَطَلَتْ بِالْقَتْلِ أو بِاللَّحَاقِ فَكَانَتْ بَاقِيَةً قبل ذلك فَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ وَإِقْرَارُهُ وَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُشَارِكَ الذِّمِّيَّ لِأَنَّهُ يُبَاشِرُ عُقُودًا لَا تَجُوزُ في الْإِسْلَامِ فَيَحْصُلُ كَسْبُهُ من مَحْظُورٍ فَيُكْرَهُ وَلِهَذَا كُرِهَ تَوْكِيلُ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ وَلَوْ شَارَكَهُ شَرِكَةَ عِنَانٍ جَازَ كما لو وَكَّلَهُ
وَمِنْهَا لَفْظُ الْمُفَاوَضَةِ في شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ إلَّا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ لِلْمُفَاوَضَةِ شَرَائِطَ لَا يَجْمَعُهَا ألا لَفْظُ الْمُفَاوَضَةِ أو عِبَارَةٌ أُخْرَى تَقُومُ مَقَامَهَا وَالْعَوَامُّ قَلَّمَا يَقِفُونَ على ذلك وَهَذِهِ الْعُقُودُ في الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ تجري بَيْنَهُمْ فَإِنْ كان الْعَاقِدُ مِمَّنْ يَقْدِرُ على اسْتِيفَاءِ شَرَائِطِهَا بِلَفْظٍ آخَرَ يَصِحُّ وَإِنْ لم يذكر لَفْظَهَا لِأَنَّ الْعِبْرَةَ في الْعُقُودِ لِمَعَانِيهَا لَا عَيْنِ الْأَلْفَاظِ وفي كل مَوْضِعٍ فُقِدَ شَرْطٌ من الشُّرُوطِ بِالْمُفَاوَضَةِ كانت الشَّرِكَةُ عِنَانًا لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَضَمَّنَتْ الْعِنَانَ وَزِيَادَةً فَبُطْلَانُ الْمُفَاوَضَةِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعِنَانِ وَلِأَنَّ فَقْدَ شَرْطٍ في عَقْدٍ إنَّمَا يُوجِبُ بُطْلَانَهُ إذَا كان الْعَقْدُ ما يَقِفُ صِحَّتُهُ عليه وَلَا يَقِفُ صِحَّةُ الْعِنَانِ على هذه الشَّرَائِطِ فَفُقْدَانُهَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَهُ
وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعِنَانِ فَلَا يراعي لها شَرَائِطُ الْمُفَاوَضَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ فيها أَهْلِيَّةُ الْكَفَالَةِ حتى تَصِحَّ مِمَّنْ لَا تَصِحُّ كَفَالَتُهُ من الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ وَلَا الْمُسَاوَاةُ بين رَأْسَيْ الْمَالِ فَيَجُوزُ مع تَفَاضُلِ الشَّرِيكَيْنِ في رَأْسِ الْمَالِ وَمَعَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا مَالٌ آخَرُ يَجُوزُ عَقْدُ الشَّرِكَةِ عليه سِوَى رَأْسِ مَالِهِ الذي شَارَكَهُ صَاحِبُهُ فيه وَلَا أَنْ يَكُونَ في عُمُومِ التِّجَارَاتِ بَلْ يَجُوزُ عَامًّا وهو أَنْ يَشْتَرِكَا في عُمُومِ التِّجَارَاتِ وَخَاصًّا وهو أَنْ يَشْتَرِكَا في شَيْءٍ خَاصٍّ كَالْبَزِّ وَالْخَزِّ وَالرَّقِيقِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ اعْتِبَارَ هذه الشَّرَائِطِ في الْمُفَاوَضَاتِ لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عليها وهو مَعْنَى الْمُسَاوَاةِ ولم يُوجَدْ في الْعِنَانِ وَلَا لَفْظَةِ الْمُفَاوَضَةِ لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا في الْمُفَاوَضَةِ لِدَلَالَتِهَا على شَرَائِطَ مُخْتَصَّةٍ بِالْمُفَاوَضَةِ ولم يُشْتَرَطْ في الْعِنَانِ فَلَا حَاجَةَ إلَى لَفْظَةِ الْمُفَاوَضَةِ وَلَا إلَى لَفْظَةِ الْعِنَانِ أَيْضًا لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقْدِرُ على لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ بِخِلَافِ الْمُفَاوَضَةِ وَلَا الْمُسَاوَاةِ في الرِّبْحِ فَيَجُوزُ مُتَفَاضِلًا وَمُتَسَاوِيًا لِمَا قُلْنَا
وَالْأَصْلُ أَنَّ الرِّبْحَ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ عِنْدَنَا إمَّا بِالْمَالِ وَإِمَّا بِالْعَمَلِ وَإِمَّا بِالضَّمَانِ أَمَّا ثُبُوتُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْمَالِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الرِّبْحَ نَمَاءُ رَأْسِ الْمَالِ فَيَكُونُ لِمَالِكِهِ وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ رَبُّ الْمَالِ الرِّبْحَ في الْمُضَارَبَةِ وَأَمَّا بالعلم ( ( ( بالعمل ) ) ) فإن الْمُضَارِبَ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِعَمَلِهِ فَكَذَا الشَّرِيكُ
وَأَمَّا بِالضَّمَانِ فإن الْمَالَ إذَا صَارَ مَضْمُونًا على الْمُضَارِبِ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الرِّبْحِ وَيَكُونُ ذلك بِمُقَابَلَةِ الضَّمَانِ خَرَاجًا بِضَمَانِ بِقَوْلِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ فإذا كان ضَمَانُهُ عليه كان خَرَاجُهُ له
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ صَانِعًا تَقَبَّلَ عَمَلًا بِأَجْرٍ ثُمَّ لم يَعْمَلْ بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ قَبِلَهُ لِغَيْرِهِ بِأَقَلَّ من ذلك طَابَ له الْفَضْلُ وَلَا سَبَبَ لِاسْتِحْقَاقِ الْفَضْلِ إلَّا الضَّمَانَ فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ صَالِحٌ لِاسْتِحْقَاقِ الرِّبْحِ فَإِنْ لم يُوجَدْ شَيْءٌ من ذلك لَا يَسْتَحِقُّ بِدَلِيلِ أَنَّ من قال لِغَيْرِهِ تَصَرَّفْ في مِلْكِكَ على أَنَّ لي بَعْضَ رِبْحِهِ لم يَجُزْ وَلَا يَسْتَحِقُّ شيئا من الرِّبْحِ لِأَنَّهُ لَا مَالَ وَلَا عَمَلَ وَلَا ضَمَانَ
إذَا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ إذَا شَرَطَا الرِّبْحَ على قَدْرِ الْمَالَيْنِ مُتَسَاوِيًا أو مُتَفَاضِلًا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجُوزُ وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ سَوَاءٌ شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَيْهِمَا أو على أَحَدِهِمَا وَالْوَضِيعَةُ على قَدْرِ الْمَالَيْنِ مُتَسَاوِيًا وَمُتَفَاضِلًا لِأَنَّ الْوَضِيعَةَ اسْمٌ لِجُزْءٍ هَالِكٍ من الْمَالِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمَالِ
وَإِنْ كان الْمَالَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ فَشَرَطَا لِأَحَدِهِمَا فَضْلًا على رِبْحٍ يُنْظَرُ إنْ شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَيْهِمَا جميعا جَازَ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ لِأَحَدِهِمَا أَكْثَرُ من رِبْحِ مَالِهِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا خِلَافَ في شَرِكَةِ الْمِلْكِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فيها تَكُونُ على قَدْرِ الْمَالِ حتى لو شَرَطَ الشَّرِيكَانِ في مِلْكِ مَاشِيَةٍ لِأَحَدِهِمَا فَضْلًا من أَوْلَادِهَا وَأَلْبَانِهَا لم تَجُزْ بِالْإِجْمَاعِ وَالْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ زُفَرَ بِنَاءً على أَصْلٍ وهو أَنَّ الرِّبْحَ عِنْدَهُ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِالْمَالِ لِأَنَّهُ نَمَاءُ الْمِلْكِ فَيَكُونُ على قَدْرِ الْمَالِ كَالْأَوْلَادِ وَالْأَلْبَانِ
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالرِّبْحُ تَارَةً يُسْتَحَقُّ بِالْمَالِ وَتَارَةً بِالْعَمَلِ وَتَارَةً بِالضَّمَانِ على ما بَيَّنَّا وَسَوَاءٌ عَمِلَا جميعا أو عَمِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا يَكُونُ على
____________________

(6/62)


الشَّرْطِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الرِّبْحِ في الشَّرِكَةِ بِالْأَعْمَالِ بِشَرْطِ الْعَمَلِ لَا بِوُجُودِ الْعَمَلِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا اسْتَعَانَ بِرَبِّ الْمَالِ اسْتَحَقَّ الرِّبْحَ وَإِنْ لم يُوجَدْ منه الْعَمَلُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعَمَلِ عليه وَالْوَضِيعَةُ على قَدْرِ الْمَالَيْنِ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ شَرَطَا الْعَمَلَ على أَحَدِهِمَا فَإِنْ شَرْطَاهُ على الذي شَرَطَا له فَضْلَ الرِّبْحِ جَازَ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ فَيَسْتَحِقُّ رِبْحَ رَأْسِ مَالِهِ بِمَالِهِ وَالْفَضْلَ بِعَمَلِهِ
وَإِنْ شَرْطَاهُ على أَقَلِّهِمَا رِبْحًا لم يَجُزْ لِأَنَّ الذي شَرَطَا له الزِّيَادَةَ ليس له في الزِّيَادَةِ مَالٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا ضَمَانٌ وقد بَيَّنَّا أَنَّ الرِّبْحَ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِأَحَدِ هذه الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ
وَإِنْ كان الْمَالَانِ مُتَفَاضِلَيْنِ وَشَرَطَا التَّسَاوِيَ في الرِّبْحِ فَهُوَ على هذا الْخِلَافِ أَنَّ ذلك جَائِزٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ إذَا شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَيْهِمَا وكان زِيَادَةُ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا على قَدْرِ رَأْسِ مَالِهِ بِعَمَلِهِ وإنه جَائِزٌ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا يَجُوزُ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الرِّبْحِ على قَدْرِ رَأْسِ الْمَالَيْنِ عِنْدَهُ
وَإِنْ شَرَطَا الْعَمَلَ على أَحَدِهِمَا فَإِنْ شَرَطَاهُ على الذي رَأْسُ مَالِهِ أَقَلُّ جَازَ وَيَسْتَحِقُّ قَدْرَ رِبْحِ مَالِهِ بِمَالِهِ وَالْفَضْلَ بِعَمَلِهِ وَإِنْ شَرَطَاهُ على صَاحِبِ الْأَكْثَرِ لم يَجُزْ لِأَنَّ زِيَادَةَ الرِّبْحِ في حَقِّ صَاحِبِ الْأَقَلِّ لَا يُقَابِلُهَا مَالٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا ضَمَانٌ وَأَمَّا الْعِلْمُ بِمِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ وَقْتَ الْعَقْدِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الشَّرِكَةِ بِالْأَمْوَالِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ شَرْطٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن جَهَالَةَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ تُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ وَالْعِلْمُ بِمِقْدَارِ الرِّبْحِ شَرْطُ جَوَازِ هذا الْعَقْدِ فَكَانَ الْعِلْمُ بِمِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ شَرْطًا
وَلَنَا أَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ لِعَيْنِهَا بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ وَجَهَالَةُ رَأْسِ الْمَالِ وَقْتَ الْعَقْدِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ مِقْدَارَهُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ تُوزَنَانِ وَقْتَ الشِّرَاءِ فَيَعْلَمُ مِقْدَارَهَا فَلَا يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ مِقْدَارِ الرِّبْحِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ
وَأَمَّا الشَّرِكَةُ بِالْأَعْمَالِ فَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ منها فَمِنْ شَرَائِطِهَا أَهْلِيَّةُ الْكَفَالَةِ وَمِنْهَا التَّسَاوِي في الْأَجْرِ
وَمِنْهَا مُرَاعَاةُ لَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ لِمَا ذَكَرْنَا في الشَّرِكَةِ بِالْأَمْوَالِ
أَمَّا الْعِنَانُ منها فَلَا يُشْتَرَطُ لها شَيْءٌ من ذلك وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ التَّوْكِيلِ فَقَطْ
كَذَا رَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ قال ما تَجُوزُ فيه الْوَكَالَةُ تَجُوزُ فيه الشَّرِكَةُ وما لَا تَجُوزُ فيه الْوَكَالَةُ لَا تَجُوزُ فيه الشَّرِكَةُ وَعَلَى هذا تَخْرُجُ الشَّرِكَةُ بِالْأَعْمَالِ في الْمُبَاحَاتِ من الصَّيْدِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ في الْبَرَارِي وما يَكُونُ في الْجِبَالِ من الثِّمَارِ وما يَكُونُ في الْأَرْضِ من الْمَعَادِنِ وما أَشْبَهَ ذلك بِأَنْ اشْتَرَكَا على أَنْ يَصِيدَا أو يَحْتَطِبَا أو يَحْتَشَّا أو يَسْتَقِيَا الْمَاءَ وَيَبِيعَانِهِ على أَنَّ ما أَصَابَ من ذلك فَهُوَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الشَّرِكَةَ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَنْعَقِدُ على هذا الْوَجْهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو وَكَّلَ رَجُلًا لِيَعْمَلَ له شيئا من ذلك لَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ
كَذَا الشَّرِكَةُ فَإِنْ تَشَارَكَا فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شيئا من ذلك مُنْفَرِدًا كان الْمَأْخُوذُ مِلْكًا له لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ في الْمُبَاحَاتِ الْأَخْذُ وَالِاسْتِيلَاءُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا انْفَرَدَ بِالْأَخْذِ وَالِاسْتِيلَاءِ فَيَنْفَرِدُ بِالْمِلْكِ وَإِنْ أَخَذَاهُ جميعا مَعًا كان الْمَأْخُوذُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا في سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَوِيَانِ في الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنْ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الِانْفِرَادِ ثُمَّ خَلَطَاهُ وَبَاعَاهُ فَإِنْ كان مِمَّا يُكَالُ أو يُوزَنُ يُقَسَّمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا على قَدْرِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَإِنْ كان مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ قُسِّمَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا بِالْقِيمَةِ يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقِيمَةِ الذي له لِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ من الْأَشْيَاءِ الْمُتَمَاثِلَةِ فَتُمْكِنُ قِسْمَةُ الثَّمَنِ بَيْنَهُمَا على قَدْرِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فَأَمَّا غَيْرُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ من الْأَشْيَاءِ الْمُتَفَاوِتَةِ فَلَا يُمْكِنُ قِسْمَةُ الثَّمَنِ على عَيْنِهَا فَيُقْسَمُ على قِيمَتِهَا وَإِنْ لم يَعْلَمْ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ وَالْقِيمَةَ يُصَدِّقُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَدَّعِيهِ إلَى النِّصْفِ من ذلك مع الْيَمِينِ على دَعْوَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ الشَّيْءَ في أَيْدِيهِمَا وَالْيَدُ دَلِيلُ الْمِلْكِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ وَالتَّسَاوِي في دَلِيلِ الْمِلْكِ يُوجِبُ التَّسَاوِي في الْمِلْكِ فَإِنْ ادَّعَى أَكْثَرَ من النِّصْفِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ فَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا وَأَعَانَهُ الْآخَرُ في عَمَلِهِ بِالْجَمْعِ وَالرَّبْطِ فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلْعَامِلِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُعِينِ لِوُجُودِ السَّبَبِ من الْعَامِلِ دُونَ الْمُعِينِ وَلِلْمُعِينِ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ قَدْرَ الْمُسَمَّى له من النِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَنَحْوِ ذلك في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وقال مُحَمَّدٌ له أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا ما بَلَغَ
أَمَّا وُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ لِلْمُعِينِ فَلِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وإنه يُوجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ
ثُمَّ قال أبو يُوسُفَ لَا يُجَاوِزُ بِهِ قِيمَةَ ما سَمَّى وَقَاسَهُ على سَائِرِ الْإِجَارَاتِ الْفَاسِدَةِ لِأَنَّهُ لَا يُزَادُ على الْمُسَمَّى هُنَاكَ كَذَا هذا هُنَا
وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ رضي بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ له زِيَادَةٌ على الْمُسَمَّى فَلَا يَسْتَحِقُّ وَصَارَ كَمَنْ قال لِرَجُلٍ بِعْ هذا الثَّوْبَ على أَنَّ لك نِصْفَ ثَمَنِهِ فَبَاعَهُ كان له أَجْرُ الْمِثْلِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ الثَّمَنِ كَذَا هذا
وَفَرَّقَ مُحَمَّدٌ بين هذا وَبَيْنَ سَائِرِ
____________________

(6/63)


الْإِجَارَاتِ الْفَاسِدَةِ بِأَنَّ الْمُسَمَّى هُنَاكَ قَدْرٌ مَعْلُومٌ من الْأُجْرَةِ فَكَانَ الرِّضَا بِهِ إسْقَاطًا لِمَا زَادَ عليه وَالْمُسَمَّى هُنَا ليس بِمَعْلُومٍ بَلْ هو مَعْدُومٌ لِأَنَّهُ ما سمي إلَّا نِصْفَ الْحَطَبِ أو ثُلُثَهُ وَالرِّضَا بِغَيْرِ الْمَعْلُومِ لَا يَتَحَقَّقُ فلم تَكُنْ هذه التَّسْمِيَةُ مُسْقِطَةَ الزِّيَادَةِ على الْمُسَمَّى من أَجْرِ مِثْلِهِ وَعَلَى هذا الِاخْتِلَافِ الْمُضَارَبَةُ الْفَاسِدَةُ إذَا رَبِحَ الْمُضَارِبُ فيها أَنَّ له أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يَتَجَاوَزُ بِهِ الْمُسَمَّى من الرِّبْحِ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَإِنْ لم يَكُنْ له رِبْحٌ فَلَا شَيْءَ له وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ له أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا ما بَلَغَ رَبِحَ أو لم يَرْبَحْ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ في كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَجْلَسَ في دُكَّانِهِ رَجُلًا يَطْرَحُ عليه الْعَمَلَ بِالنِّصْفِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ هذه الشَّرِكَةُ لِأَنَّهَا شَرِكَةُ الْعُرُوضِ لِأَنَّ من أَحَدِهِمَا الْعَمَلَ وَمِنْ الْآخَرِ الْحَانُوتَ وَالْحَانُوتُ من الْعُرُوضِ وَشَرِكَةُ الْعُرُوضِ غَيْرُ جَائِزَةٍ وفي الِاسْتِحْسَانِ جَائِزَةٌ لِأَنَّ هذه شَرِكَةُ الْأَعْمَالِ لِأَنَّهَا شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ وَتَقَبُّلُ الْعَمَلِ من صَاحِبِ الْحَانُوتِ عَمَلٌ وَشَرِكَةُ الْأَعْمَالِ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا لِأَنَّ مَبْنَاهَا على الْوَكَالَةِ وَالْوَكَالَةُ على هذا الْوَجْهِ جَائِزَةٌ بِأَنْ يُوَكِّلَ خَيَّاطٌ أو قَصَّارٌ وَكِيلًا يَتَقَبَّلُ له عَمَلَ الْخِيَاطَةِ وَالْقِصَارَةِ وَكَذَا يَجُوزُ لِكُلِّ صَانِعٍ يَعْمَلُ بِأَجْرٍ أَنْ يُوَكِّلَ وَكِيلًا يَتَقَبَّلُ الْعَمَلَ فَإِنْ كان لَهُمَا كَلْبٌ فَأَرْسَلَاهُ جميعا كان ما أَصَابَ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا في سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ
وَلَوْ كان الْكَلْبُ لِأَحَدِهِمَا وكان في يَدِهِ فَأَرْسَلَاهُ جميعا فما أَصَابَ الْكَلْبُ فَهُوَ لِصَاحِبِهِ خَاصَّةً لِأَنَّ إرْسَالَ الْأَجْنَبِيِّ لَا عِبْرَةَ بِهِ مع إرْسَالِ الْمَالِكِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ كَأَنَّ الْمَالِكُ أَرْسَلَهُ وَحْدَهُ
وَإِنْ كان لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَلْبٌ فَأَرْسَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَلْبَهُ فَأَصَابَا صَيْدًا وَاحِدًا كان بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا في سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ أَصَابَ كَلْبُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَيْدًا على حِدَةٍ كان له خَاصَّةً لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِفِعْلِهِ فَاخْتَصَّ بِهِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا اشْتَرَكَ رَجُلَانِ وَلِأَحَدِهِمَا بَغْلٌ وَلِلْآخِرِ بَعِيرٌ على أَنْ يُؤَاجِرَا ذلك فما رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى من شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا فَآجَرَاهُمَا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ في عَمَلٍ مَعْلُومٍ وَحِمْلٍ مَعْلُومٍ أن هذه الشَّرِكَةَ فَاسِدَةٌ وَيُقْسَمُ الْأَجْرُ بَيْنَهُمَا على مِثْلِ أَجْرِ الْبَغْلِ وَمِثْلِ أَجْرِ الْبَعِيرِ
أَمَّا فَسَادُ الشَّرِكَةِ فَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ على هذا الْوَجْهِ لَا تَصِحُّ
أَلَا تَرَى أَنَّ من قال لِآخَرَ أَجِّرْ بَعِيرَكَ على أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ بَيْنَنَا لَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ كَذَا الشَّرِكَةُ وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَصِحُّ في أَعْيَانِ الْحَيَوَانِ فَكَذَا في مَنَافِعِهَا
وَأَمَّا قِسْمَةُ الْأَجْرِ بَيْنَهُمَا على مِثْلِ أَجْرِ الْبَغْلِ وَمِثْلِ أَجْرِ الْبَعِيرِ فَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ إذَا فَسَدَتْ فَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ على مَنَافِعَ مَعْلُومَةٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ وَمِنْ حُكْمِ الْأُجْرَةِ أَنْ تُقَسَّمَ على قِيمَةِ الْمَنَافِعِ كما يُقَسَّمُ الثَّمَنُ على قِيمَةِ الْمَبِيعَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ وَإِنْ لم يُؤَاجِرَا الْبَغْلَ وَالْبَعِيرَ وَلَكِنَّهُمَا تَقَبَّلَا حُمُولَةً مَعْلُومَةً بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ فَحَمَلَا الْحُمُولَةَ على ذلك فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ
لِأَنَّ هذه شَرِكَةُ الْعَمَلِ لِأَنَّ الْحِمْلَ صَارَ مَضْمُونًا عليها ( ( ( عليهما ) ) ) بِالْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ عَمَلِ الْخِيَاطَةِ وَالْقِصَارَةِ فَكَانَ الْبَدَلُ بَيْنَهُمَا على قَدْرِ الضَّمَانِ وقد تَسَاوَيَا في الضَّمَانِ فَيَتَسَاوَيَا في الْأُجْرَةِ وَلَا عِبْرَةَ بِزِيَادَةِ حِمْلِ الْبَعِيرِ على الْبَغْلِ كما لَا عِبْرَةَ بِكَثْرَةِ عَمَلِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ في شَرِكَةِ الصَّنَائِعِ لِأَنَّ الْبَدَلَ يُقَابِلُ الضَّمَانَ وَالْبَغْلُ وَالْبَعِيرُ هُنَا آلَةُ إيفَاءِ الْعَمَلِ
وَلَوْ آجَرَ الْبَعِيرَ بِعَيْنِهِ كانت أُجْرَتُهُ لِصَاحِبِهِ لَا لِصَاحِبِ الْبَغْلِ وَكَذَا إذَا آجَرَ الْبَغْلَ بِعَيْنِهِ كانت الْأُجْرَةُ لِصَاحِبِ الْبَغْلِ لَا لِصَاحِبِ الْبَعِيرِ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ على مَنَافِعِ الْبَعِيرِ وَالْبَغْلِ بِإِذْنِ مَالِكِهِمَا فَكَانَتْ الإجرة له فَإِنْ كان الْآجِرُ أَعَانَهُ على الْحُمُولَةِ وَالنُّقْلَانِ كان لِلَّذِي أَعَانَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ شَرِيكِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ
ثُمَّ عِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ الْأَجْرِ الذي آجَرَ بِهِ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وقال مُحَمَّدٌ له أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا ما بَلَغَ على ما ذَكَرْنَا في شَرِكَةِ الِاحْتِطَابِ
قَصَّارَانِ لَأَحَدِهِمَا أَدَاةُ الْقِصَارَةِ وَلِلْآخَرِ بَيْتٌ اشْتَرَكَا على أَنْ يَعْمَلَا بِأَدَاةِ هذا في بَيْتِ هذا على أَنَّ الْكَسْبَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ كان ذلك جَائِزًا وَكَذَلِكَ الصَّاغَةُ وَالْخَيَّاطُونَ وَالصَّبَّاغُونَ لِأَنَّ الْأَجْرَ هُنَا بَدَلٌ عن الْعَمَلِ لَا عن الْآلَةِ وقد صَارَ الْعَمَلُ مَضْمُونًا عَلَيْهِمَا فَكَانَ بَدَلُهُ لَهُمَا وكان أَحَدُهُمَا مُعِينًا لِلْآخَرِ بِنِصْفِ الْآلَةِ وَالْآخَرُ مُعِينًا له بِنِصْفِ الدُّكَّانِ وهو نَظِيرُ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ أَنْ يَتَقَبَّلَا حُمُولَةً وَيَحْمِلَاهَا على دَابَّتِهِمَا
وَلَوْ اشْتَرَكَا وَلِأَحَدِهِمَا دَابَّةٌ وَلِلْآخَرِ إكَافٌ وَجُوَالِقَانِ على أَنْ يُؤَاجِرَا الدَّابَّةَ على أَنَّ أَجْرَهُمَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كانت الشَّرِكَةُ فَاسِدَةً وَأَجْرُ الدَّابَّةِ لِصَاحِبِهَا وَلِلْآخَرِ معه أَجْرُ مِثْلِهِ في قَوْلِهِمْ جميعا أَمَّا فَسَادُ الشَّرِكَةِ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَكَالَةَ على هذا الْوَجْهِ لَا تَصِحُّ كَذَا الشَّرِكَةُ وَأَمَّا الْأَجْرُ فَلِأَنَّهُ بَدَلُ مَنَافِعِ الدَّابَّةِ فَكَانَتْ لِصَاحِبِهَا وقد اسْتَوْفَى مَنَافِعَ آلَةِ الْآخَرِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَكَانَ عليه أَجْرُ مِثْلِهَا

____________________

(6/64)


وَلَوْ دَفَعَ دَابَّةً إلَى رَجُلٍ لِيُؤَاجِرَهَا على أَنَّ الْأَجْرَ بَيْنَهُمَا كان فَاسِدًا وَالْأَجْرُ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ وَلِلْآجِرِ أَجْرُ مِثْلِهِ
وَكَذَلِكَ السَّفِينَةُ وَالْبَيْتُ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ على هذا الْوَجْهِ لَا تَصِحُّ فَلَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ وَالْأَجْرُ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ لِأَنَّ الْعَاقِدَ عَقَدَ على مِلْكِ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ وَلِلرَّجُلِ أَجْرُ مِثْلِهِ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّابَّةِ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَلَوْ كان دَفَعَ إلَيْهِ الدَّابَّةَ لِيَبِيعَ عليها الطَّعَامَ على أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ كان فَاسِدًا وَالرِّبْحُ لِصَاحِبِ الْمَتَاعِ وَلِصَاحِبِ الدَّابَّةِ أَجْرُ مِثْلِهَا
وَكَذَا الْبَيْتُ لِأَنَّ الْكَسْبَ حَصَلَ بِعَمَلِهِ وقد اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ الدَّابَّةِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَكَانَ عليه أَجْرُهَا وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ هذه الشَّرِكَةِ اتِّفَاقُ الْعَمَلِ وَيَجُوزُ أن اتَّفَقَتْ أَعْمَالُهَا أو اخْتَلَفَتْ كَالْخَيَّاطِ مع الْقَصَّارِ وَنَحْوِ ذلك وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا
وقال زُفَرُ لَا تَجُوزُ هذه الشَّرِكَةُ إلَّا عِنْدَ اتِّفَاقِ الصَّنْعَةِ كَالْقَصَّارِينَ وَالْخَيَّاطِينَ بِنَاءً على أَنَّ الشَّرِكَةَ تَجُوزُ بِالْمَالَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ عِنْدَنَا كَذَا بِالْعَمَلَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ وَعِنْدَهُ لَا تَجُوزُ بِالْمَالَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فَكَذَا بِالْعَمَلَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ في هذه الشَّرِكَةِ بِضَمَانِ الْعَمَلِ وَالْعَمَلُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِمَا اتَّفَقَ الْعَمَلَانِ أو اخْتَلَفَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الشَّرِكَةُ بِالْوُجُوهِ فَشَرْطُ الْمُفَاوَضَةِ منها أَنْ يَكُونَا من أَهْلِ الْكَفَالَةِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ بِمُشْتَرَكٍ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَأَنْ يَكُونَ المشتري بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَأَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَمِنْهَا أَنْ يَتَلَفَّظَا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ لِمَا فَصَّلْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ
وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعِنَانِ منها فَلَا يُشْتَرَطُ لها أَهْلِيَّةُ الْكَفَالَةِ وَلَا الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا في مِلْكِ المشتري حتى لو اشْتَرَكَا بِوُجُوهِهِمَا على أَنْ يَكُونَ ما اشْتَرَيَا أو أَحَدُهُمَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أو أَثْلَاثًا أو أَرْبَاعًا وَكَيْفَ ما شَرَطَا على التَّسَاوِي وَالتَّفَاضُلِ كان جَائِزًا وَضَمَانُ ثَمَنِ المشتري بَيْنَهُمَا على قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا في المشتري وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا على قَدْرِ الضَّمَانِ فَإِنْ شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا فَضْلَ رِبْحٍ على حِصَّتِهِ من الضَّمَانِ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا على قَدْرِ ضَمَانِهِمَا ثَمَنَ المشتري لِأَنَّ الرِّبْحَ في هذه الشَّرِكَةِ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالضَّمَانِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّمَانِ فإذا شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا أَكْثَرُ من حِصَّتِهِ من الضَّمَانِ وَنَصِيبِهِ من الْمِلْكِ فَهُوَ شَرْطُ مِلْكٍ من غَيْرِ رِبْحٍ وَلَا ضَمَانَ فَلَا يَجُوزُ
فَإِنْ قِيلَ الرِّبْحُ كما يُسْتَحَقُّ بِالْمِلْكِ وَالضَّمَانُ يُسْتَحَقُّ بِالْعَمَلِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ زِيَادَةَ الرِّبْحِ بِزِيَادَةِ الْعَمَلِ كَالْمُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ شَرِكَةَ الْعِنَانِ فَالْجَوَابُ أَنَّ هذا مُسَلَّمٌ إذَا كان الْعَمَلُ في مَالٍ مَعْلُومٍ كما في الْمُضَارَبَةِ وَشَرِكَةِ الْعِنَانِ ولم يُوجَدْ هُنَا فَلَا يُسْتَحَقُّ كَمَنْ قال لِآخَرَ ادفع إلَيْكَ أَلْفًا مُضَارَبَةً على أَنْ تَعْمَلَ فيها بِالنِّصْفِ ولم يُعَيِّنْ الْأَلْفَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ لِأَنَّهُ لم يَشْتَرِطْ الْعَمَلَ في مَالٍ مُعَيَّنٍ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الشَّرِكَةِ فَأَمَّا شَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ فَحُكْمُهَا في النَّوْعَيْنِ جميعا وَاحِدٌ وهو أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الشَّرِيكَيْنِ كَأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ في نَصِيبِ صَاحِبِهِ لَا يَجُوزُ له التَّصَرُّفُ فيه بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّ الْمُطْلِقَ لِلتَّصَرُّفِ الْمِلْكُ أو الْوِلَايَةُ وَلَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في نَصِيبِ صَاحِبِهِ وِلَايَةٌ بِالْوَكَالَةِ أو الْقَرَابَةِ ولم يُوجَدْ شَيْءٌ من ذلك وَسَوَاءٌ كانت الشَّرِكَةُ في الْعَيْنِ أو الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كان بين رَجُلَيْنِ دَيْنٌ على رَجُلٍ من ثَمَنِ عَبْدٍ بَاعَاهُ أما بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أو أَلْفٍ بَيْنَهُمَا أَقْرَضَاهُ إيَّاهُ أو اسْتَهْلَكَ الرَّجُلُ عَلَيْهِمَا شيئا قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ أو وَرِثَا دَيْنًا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ عليه فَقَبَضَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ أو بَعْضَ نَصِيبِهِ فَلِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فَيَأْخُذَ منه نِصْفَ ما قَبَضَهُ
وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ الدَّيْنَ الْمُشْتَرَكَ الثَّابِتَ لِلشَّرِيكَيْنِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ إذَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا شيئا منه فَلِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ في الْمَقْبُوضِ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ مَقْبُوضٌ من النَّصِيبَيْنِ إذْ لو جُعِلَ لَأَحَدِهِمَا لَكَانَ ذلك قِسْمَةَ الدَّيْنِ قبل الْقَبْضِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ مَعْنَى الْقِسْمَةِ وهو التَّمْيِيزُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا في الذِّمَّةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فيه الْقِسْمَةُ وَلِهَذَا لم تَصِحَّ قِسْمَةُ الْعَيْنِ من غَيْرِ تَمْيِيزٍ كَصُبْرَةٍ من طَعَامٍ بين شَرِيكَيْنِ
قال أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ خُذْ منها لك هذا الْجَانِبُ وَلِيَ هذا الْجَانِبُ لَا يَجُوزُ لِانْعِدَامِ التَّمْيِيزِ فإذا لم يَصِحَّ في الْعَيْنِ من غَيْرِ تَمْيِيزٍ فَفِي الدَّيْنِ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْقِسْمَةَ فيها مَعْنَى التَّمْلِيكِ لِأَنَّ ما من جُزْأَيْنِ إلَّا وَأَحَدُهُمَا مِلْكُهُ وَالْآخَرُ مِلْكُ صَاحِبِهِ فَكَانَ نَصِيبُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ بَعْضَ مِلْكِهِ وَبَعْضُهُ عِوَضًا عن مِلْكِهِ فَكَانَ قِسْمَةُ الدَّيْنِ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ من غَيْرِ من عليه الدَّيْنُ وإنه غَيْرُ جَائِزٍ فعجل ( ( ( فجعل ) ) ) الْمَقْبُوضَ من النَّصِيبَيْنِ جميعا لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى ما قُلْنَا وكان له أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ ما قَبَضَهُ صَاحِبُهُ بِعَيْنِهِ ليس لِلْقَابِضِ أَنْ يَمْنَعَهُ عنه بِأَنْ يَقُولَ أنا أُعْطِيكَ مِثْلَ نِصْفِ الدَّيْنِ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَقْبُوضِ مَقْبُوضٌ عن نَصِيبِهِ فَكَانَ عَيْنَ حَقِّهِ فَلَا يَمْلِكُ الْقَابِضُ مَنْعَهُ وَسَوَاءٌ كان
____________________

(6/65)


الْمَقْبُوضُ مِثْلَ حَقِّهِ أو أَجْوَدَ أو أَرْدَأَ
أَمَّا إذَا كان أَجْوَدَ من حَقِّهِ فَلِأَنَّ الْجَوْدَةَ لَا عِبْرَةَ بها في الْجِنْسِ الْوَاحِدِ أَلَا تَرَى أَنَّ من عليه الرَّدِيءُ إذَا أَعْطَى الْجَيِّدَ يُجْبِرُ صَاحِبَ الدَّيْنِ على الْقَبُولِ فَكَانَ قَبْضُهُ قَبْضًا لِعَيْنِ الْحَقِّ وَإِنْ كان أَرْدَأَ فَقَبْضُ الرَّدِيءِ عن الْجَيِّدِ جَائِزٌ لِأَنَّهُ من جِنْسِ حَقِّهِ وما قَبَضَ الشَّرِيكُ من شَرِيكِهِ يَكُونُ قَدْرُ ذلك لِلْقَابِضِ دَيْنًا على الْغَرِيمِ وَيَكُونُ ما على الْغَرِيمِ بَيْنَهُمَا على قَدْرِ ذلك من الدَّيْنِ حتى لو كان الدَّيْنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ بَيْنَهُمَا فَقَبَضَ أَحَدُهُمَا خَمْسَمِائَةٍ فَجَاءَ الشَّرِيكُ فَأَخَذَ نِصْفَهَا كان لِلْقَابِضِ ما بَقِيَ له على الْغَرِيمِ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ وَتَكُونُ الشَّرِكَةُ بَاقِيَةً في الدَّيْنِ كما كانت لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ شَرِيكُهُ نِصْفَ الْمَقْبُوضِ انْتَقَضَ قَبْضُهُ في نِصْفِ ما قَبَضَ وَبَقِيَ الْبَاقِي من دَيْنِهِ على حَالِهِ
فَإِنْ أَخْرَجَهُ الْقَابِضُ عن يَدِهِ بِأَنْ وَهَبَهُ أو بَاعَهُ أو قَضَى دَيْنًا عليه أو اسْتَهْلَكَهُ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ فَلِشَرِيكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ نِصْفَ ما قَبَضَ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عليه ما قَبَضَهُ من نَصِيبِهِ فَكَانَ له أَنْ يُضَمِّنَهُ
فَإِنْ لم يَقْبِضْ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ شيئا وَلَكِنْ أَبْرَأَ الْغَرِيمَ من حِصَّتِهِ جَازَتْ الْبَرَاءَةُ وَلَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ شيئا لِأَنَّهُ لم يَقْبِضْ شيئا من الدَّيْنِ بَلْ أَتْلَفَ حِصَّتَهُ لَا غَيْرُ فَلَا يَضْمَنُ فَإِنْ أَبْرَأَهُ أَحَدُهُمَا عن مِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ خَرَجَ من الدَّيْنِ شَيْءٌ اقْتَسَمَاهُ بَيْنَهُمَا على قَدْرِ مَالِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الْغَرِيمِ فَيَكُونُ الْمَقْبُوضُ بَيْنَهُمَا على تِسْعَةِ أَسْهُمٍ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَمَّا أَبْرَأَ الْغَرِيمَ من مِائَةِ دِرْهَمٍ بَقِيَ له من الدَّيْنِ أَرْبَعُمِائَةٍ وَلِشَرِيكِهِ خَمْسُمِائَةٍ فَيَضْرِبَانِ في قَدْرِ الْمَقْبُوضِ بِتِسْعَةِ أَسْهُمٍ
وَكَذَلِكَ إذَا كانت الْبَرَاءَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ قبل أَنْ يَقْتَسِمَا لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَقَعُ على قَدْرِ حَقِّهِمَا فَإِنْ اقْتَسَمَا الْمَقْبُوضَ نِصْفَيْنِ ثُمَّ أَبْرَأَ أَحَدُهُمَا الْغَرِيمَ من مِائَةِ دِرْهَمٍ فَالْقِسْمَةُ مَاضِيَةٌ وَلَا يَنْقُضُ إبْرَاؤُهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ شيئا مِمَّا اقْتَسَمَاهُ لِأَنَّهُمَا اقْتَسَمَا وَمِلْكُهُمَا سَوَاءٌ فَزَوَالُ الْمُسَاوَاةِ بَعْدَ ذلك لَا يَقْدَحُ في الْقِسْمَةِ
وَلَوْ لم يَقْبِضْ أَحَدُهُمَا شيئا وَلَكِنْ اشْتَرَى بِنَصِيبِهِ ثَوْبًا من الْغَرِيمِ فَلِلشَّرِيكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ نِصْفَ ثَمَنِ الثَّوْبِ وَلَا سَبِيلَ له على الثَّوْبِ لِأَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَى الثَّوْبَ بِثَمَنٍ في ذِمَّةِ الْغَرِيمِ لَا بِمَا له في ذِمَّةِ الْغَرِيمِ لِأَنَّهُ كما اشْتَرَى وَجَبَ ثَمَنُ الثَّوْبِ في ذِمَّتِهِ وَلَهُ في ذِمَّةِ الْغَرِيمِ مِثْلُهُ فَصَارَ ما في ذِمَّتِهِ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَبَضَ نِصْفَ الدَّيْنِ فَلَا يَكُونُ له على الثَّوْبِ سَبِيلٌ
فَإِنْ اجْتَمَعَا جميعا على الشَّرِكَةِ في الثَّوْبِ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ قد وَجَبَ عليه نِصْفُ ثَمَنِهِ فإذا سَلَّمَ له نِصْفَهُ بِذَلِكَ وَرَضِيَ شَرِيكُهُ بِهِ صَارَ كَأَنَّهُ بَاعَ نِصْفَ الثَّوْبِ منه فَإِنْ لم يَشْتَرِ بِحِصَّتِهِ شيئا وَلَكِنْ صَالَحَهُ من حَقِّهِ على ثَوْبٍ وَقَبَضَهُ ثُمَّ طَالَبَهُ شَرِيكُهُ بِمَا قَبَضَ فإن الْقَابِضَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَلَّمَ إلَيْهِ نِصْفَ الثَّوْبِ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ مِثْلَ نِصْفِ حَقِّهِ من الدَّيْنِ وَالْخِيَارُ في ذلك إلَى الْقَابِضِ لِأَنَّ الصُّلْحَ لم يُوجِبْ شيئا على الْمَصَالِحِ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءُ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ إلَّا أَنَّهُ قَبَضَ ثَوْبًا عن الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ فَكَانَ له أَنْ يُسَلِّمَ نِصْفَهُ إلَى الشَّرِيكِ وَلَهُ أَنْ يَقُولَ أنا أُعْطِيكَ نِصْفَ حَقِّكَ من الدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لك فِيمَا زَادَ على ذلك وَلِلشَّرِيكِ في هذه الْوُجُوهِ كُلِّهَا أَنْ يسم ( ( ( يسلم ) ) ) لِلشَّرِيكِ ما قَبَضَهُ وَيَرْجِعَ بِدَيْنِهِ على الْغَرِيمِ لِأَنَّ من حُجَّتِهِ أَنْ يَقُولَ دَيْنِي قد ثَبَتَ عَلَيْكَ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ فَتَسْلِيمُكَ إلَى غَيْرِي لَا يُسْقِطُ مالي في ذِمَّتِكَ
فَإِنْ سَلَّمَ لِلشَّرِيكِ ما قَبَضَ ثُمَّ توى ( ( ( نوى ) ) ) الذي على الْغَرِيمِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ على الشَّرِيكِ وَيَكُونَ الْحُكْمُ في هذه الْوُجُوهِ كُلِّهَا كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا لم يُسَلِّمْ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وهو أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ من يَدِ صَاحِبِهِ بعدما قَبَضَ من الدَّرَاهِمِ بِعَيْنِهَا لم يَكُنْ له ذلك وَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ عنها وَيُعْطِيَهُ مِثْلَهَا لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ في الْأَصْلِ كان عن حَقٍّ مُشْتَرَكٍ وَإِنَّمَا مسلم ( ( ( سلم ) ) ) بِهِ الشَّرِيكُ الْمَقْبُوضَ لِلْقَابِضِ لِيُسَلِّمَ له ما في ذِمَّةِ الْغَرِيمِ فإذا لم يُسَلِّمْ بَقِيَ حَقُّهُ في الْمَقْبُوضِ كما كان إلَّا أَنَّهُ ليس له في هذا الْوَجْهِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى عَيْنِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ عن عَيْنِهَا بِالتَّسْلِيمِ حَيْثُ أَجَازَ تَمَلُّكَ الْقَابِضِ لها فَسَقَطَ حَقُّهُ عن عَيْنِهَا وَإِنَّمَا تَجَدَّدَ له ضَمَانٌ آخَرُ بِتَوَاءِ مَالِهِ فَثَبَتَ ذلك في ذِمَّةِ الْقَابِضِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ فَإِنْ أَخَّرَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ لم يَجُزْ تَأْخِيرُهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَجُوزُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ في نَصِيبِ شَرِيكِهِ لِأَنَّهُ لم يَمْلِكْهُ وَلَا تَوَلَّى هذا الْعَقْدَ فيه وَأَمَّا في نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَهُوَ على الْخِلَافِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن نَصِيبَهُ مِلْكُهُ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيه وَلِهَذَا مَلَكَ التَّصَرُّفَ فيه إسْقَاطًا بِالْإِبْرَاءِ فَالتَّأْخِيرُ أَوْلَى لِأَنَّهُ دُونَهُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إن تَأْخِيرَ نَصِيبِهِ قِسْمَةُ الدَّيْنِ قبل الْقَبْضِ وإنها غَيْرُ جَائِزَةٍ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ التَّأْخِيرَ قِسْمَةُ الدَّيْنِ أَنَّهُ وُجِدَ أَثَرُ الْقِسْمَةِ وهو انْفِرَادُ كل وَاحِدٍ من الشَّرِيكَيْنِ بِنَصِيبِهِ على وَجْهٍ لَا يَكُونُ لِلْآخَرِ فيه
____________________

(6/66)


حَقٌّ وَقِسْمَةُ الدَّيْنِ قبل الْقَبْضِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْقِسْمَةِ وهو التَّمْيِيزُ إذْ هو اسْمٌ لِلْفِعْلِ أو لِمَالٍ حُكْمِيٍّ في الذِّمَّةِ بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ فإنه ليس فيه أَثَرُ الْقِسْمَةِ وَمَعْنَاهَا بَلْ هو إتْلَافٌ لِنَصِيبِهِ
فَإِنْ قِيلَ قِسْمَةُ الدَّيْنِ تَصَرُّفٌ في الدَّيْنِ وَالتَّأْخِيرُ ليس تَصَرُّفًا في الدَّيْنِ بَلْ في الْمُطَالَبَةِ بِالْإِسْقَاطِ
فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّأْخِيرَ تَصَرُّفٌ في الدَّيْنِ وَالْمُطَالَبَةِ جميعا لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَغْيِيرَ الدَّيْنِ عَمَّا كان عليه لِأَنَّ الدَّيْنَ قَبْلَهُ كان على صِفَةٍ لو قَبَضَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ كان لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فيه وَبَعْدَ التَّأْخِيرِ لَا يَبْقَى له حَقُّ الْمُشَارَكَةِ ما دَامَ الْأَجَلُ قَائِمًا
ثُمَّ فُرِّعَ على قَوْلِهِمَا فقال إذَا قَبَضَ الشَّرِيكُ الذي لم يُؤَخِّرْ نَصِيبَهُ لم يَكُنْ لِلَّذِي أَخَّرَ أَنْ يُشْرِكَهُ فِيمَا قَبَضَ حتى يَحِلَّ دَيْنُهُ فَإِنْ حَلَّ دَيْنُهُ فَلَهُ أَنْ يُشْرِكَهُ إنْ كان قَائِمًا وَإِنْ كان مُسْتَهْلَكًا ضَمِنَهُ صَاحِبُهُ لِأَنَّ الْأَجَلَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمُطَالَبَةِ فَلَا يَكُونُ له حَقٌّ في الْمَقْبُوضِ فإذا حَلَّ صَارَ كَأَنَّهُ لم يَزَلْ حَالًّا فَتَثْبُتُ له الشَّرِكَةُ فَإِنْ لم يَقْبِضْ الْآخَرُ شيئا حتى حَلَّ دَيْنُ الذي أَخَّرَ عَادَ الْأَمْرُ إلَى ما كان فما قَبَضَ أَحَدُهُمَا من شَيْءٍ يُشْرِكُهُ الْآخَرُ فيه لِأَنَّ الدَّيْنَ لَمَّا حَلَّ فقط ( ( ( فقد ) ) ) سَقَطَ الأجر ( ( ( الأجل ) ) ) فَصَارَ كما كان قبل التَّأْجِيلِ
وَلَوْ كان الدَّيْنُ بين شَرِيكَيْنِ على امْرَأَةٍ فَتَزَوَّجَهَا أَحَدُهُمَا على نَصِيبِهِ من الدَّيْنِ فَقَدْ رَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ إن لِشَرِيكِهِ أَنْ يَرْجِعَ عليه بِنِصْفِ حَقِّهِ من ذلك وَرَوَى بِشْرٌ عنه أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ وهو رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عن أبي يُوسُفَ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ النِّكَاحَ أَوْجَبَ الْمَهْرَ في ذِمَّتِهِ وَلَهُ في ذِمَّتِهَا مِثْلُهُ فَصَارَ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَبَضَ نِصْفَ الدَّيْنِ فَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ حَقِّهِ كما لو اشْتَرَى منها ثَوْبًا بِنَصِيبِهِ من الدَّيْنِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ من شَرْطِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عليه لِشَرِيكِهِ أَنْ يُسَلِّمَ له ما يَحْتَمِلُ الْمُشَارَكَةَ ولم يُوجَدْ فَلَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ كما لو أَبْرَأَهَا عن نَصِيبِهِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْغَرِيمَ بِنَصِيبِهِ فإن شَرِيكَهُ يَرْجِعُ عليه في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّ الْأُجْرَةَ في مُقَابَلَتِهَا بَدَلٌ مَضْمُونٌ بِالْعَقْدِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَكَذَا الذي سَلَّمَ له وهو الْمَنْفَعَةُ قَابِلٌ لِلشَّرِكَةِ فَكَانَ له أَنْ يُضَمِّنَهُ
وَرَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ أَحَدَ الطَّالِبَيْنِ إذَا شَجَّ الْمَطْلُوبَ مُوضِحَةً عَمْدًا فَصَالَحَهُ على حِصَّتِهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِشَرِيكِهِ لِأَنَّهُ لم يُسَلِّمْ له ما تُمْكِنُ الْمُشَارَكَةُ فيه لِأَنَّ الصُّلْحَ عن جِنَايَةِ عَمْدٍ ليس في مُقَابِلَتِهِ بَدَلٌ مَضْمُونٌ فلم يُسَلِّمْ ما تَصِحُّ الْمُشَارَكَةُ فيه فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ
وَأَمَّا إذَا اسْتَهْلَكَ أَحَدُ الطَّالِبَيْنِ على الْمَطْلُوبِ مَالًا فَصَارَتْ قِيمَتُهُ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ أو اقْتَرَضَ منه شيئا بِقَدْرِ نَصِيبِهِ من الدَّيْنِ فَلِشَرِيكِهِ أَنْ يَرْجِعَ عليه لِأَنَّ قَدْرَ الْقَرْضِ وَقِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ صَارَ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ وَالِاقْتِصَاصُ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ من حَيْثُ الْمَعْنَى فَصَارَ كَأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ
وَلَوْ كان وَجَبَ لِلْمَطْلُوبِ على أَحَدِ الطَّالِبَيْنِ دَيْنٌ بِسَبَبٍ قبل أَنْ يَجِبَ لَهُمَا عليه الدَّيْنُ فَصَارَ ما عليه قِصَاصًا بِمَا لِأَحَدِ الطَّالِبَيْنِ فَلَا ضَمَانَ على الذي سَقَطَ عنه الدَّيْنُ بشريكه ( ( ( لشريكه ) ) ) لِأَنَّهُ ما اسْتَوْفَى الدَّيْنَ بَلْ قَضَى دَيْنًا كان عليه إذْ الْأَصْلُ في الدَّيْنَيْنِ إذَا الْتَقَيَا قِصَاصًا أَنْ يَصِيرَ الْأَوَّلُ مَقْضِيًّا بِالثَّانِي لِأَنَّهُ كان وَاجِبَ الْقَضَاءِ قبل الثَّانِي وإذا لم يَكُنْ مُسْتَوْفِيًا لِلدَّيْنِ لم يَكُنْ له الْمُشَارَكَةُ إذْ الْمُشَارَكَةُ تثبت في الْقَدْرِ المستوفي
وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ عن مُحَمَّدٍ لو أَنَّ أَحَدَ الْغَرِيمَيْنِ اللَّذَيْنِ لَهُمَا الْمَالُ قَتَلَ عَبْدَ الْمَطْلُوبِ فَوَجَبَ عليه الْقِصَاصُ فَصَالَحَهُ الْمَطْلُوبُ على خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ كان ذلك جَائِزًا أو بريء من حِصَّةِ الْقَاتِلِ من الدَّيْنِ وكان لِشَرِيكِ الْقَاتِلِ أَنْ يُشْرِكَهُ فَيَأْخُذَ منه نِصْفَ الْخَمْسَمِائَةِ وَكَذَلِكَ لو تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ الْغَرِيمَةَ على خَمْسِمِائَةٍ مُرْسَلَةٍ أو اسْتَأْجَرَ الْغَرِيمَ بِخَمْسِمِائَةٍ مُرْسَلَةٍ فَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ ما إذَا صَالَحَ على نَفْسِ الدَّيْنِ أو تَزَوَّجَ بِهِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْعَقْدَ هُنَا وهو الصُّلْحُ وَالنِّكَاحُ وَقَعَ على ما في الذِّمَّةِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْمُقَاصَّةَ فَكَانَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مَعْنًى بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً بِخِلَافِ الصُّلْحِ على نَفْسِ الدَّيْنِ وَالتَّزَوُّجِ بِهِ فإن الْعَقْدَ هُنَاكَ ما وَقَعَ على ما في الذِّمَّةِ مُطْلَقًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ أُضِيفَ إلَى نَفْسِ الدَّيْنِ فلم تَقَعْ الْمُقَاصَّةُ ولم يُسَلِّمْ له أَيْضًا ما يَحْتَمِلُ الِاشْتِرَاكَ فيه فَلَا يَرْجِعُ
وَذَكَرَ عَلِيُّ بن الْجَعْدِ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لو مَاتَ الْمَطْلُوبُ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَارِثُهُ وَتَرَك مَالًا ليس فيه وَفَاءٌ اشْتَرَكَا بِالْحِصَصِ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ إلَى الْوَرَثَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { من بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بها أو دَيْنٍ } رَتَّبَ الْمِيرَاثَ على الدَّيْنِ فلم يَنْتَقِلْ الْمِلْكُ إلَى الْوَارِثِ فَلَا يَسْقُطُ دَيْنُهُ وكان دَيْنُ الْوَارِثِ وَالْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ
وَلَوْ أعطى الْمَطْلُوبُ لِأَحَدِهِمَا رَهْنًا بِحِصَّتِهِ فَهَلَكَ الرَّهْنُ عِنْدَهُ فَلِشَرِيكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ وَبِهَلَاكِ الرَّهْنِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِلدَّيْنِ حُكْمًا فَكَانَ كَالِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً
وَلَوْ غَصَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ من
____________________

(6/67)


الْمَطْلُوبِ عَبْدًا فَمَاتَ عِنْدَهُ فَلِشَرِيكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ لِأَنَّهُ صَارَ ضَامِنًا لِقِيمَةِ الْعَبْدِ من وَقْتِ الْغَصْبِ فَهَلَكَ الْمَغْصُوبُ من ذلك الْوَقْتِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ وَالِاسْتِنَادِ
وَلَوْ ذَهَبَتْ إحْدَى عَيْنَيْ الْعَبْدِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ في ضَمَانِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهُ لم يَرْجِعْ شَرِيكُهُ عليه بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لم يُسَلِّمْ له ما يُمْكِنُ الْمُشَارَكَةُ فيه لِأَنَّهُ لم يَمْلِك الْمَضْمُونَ فَلَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ شيئا بِخِلَافِ نَفْسِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالضَّمَانِ فَسَلَّمَ له ما يُمْكِنُ الْمُشَارَكَةُ فيه فَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ إذَا ذَهَبَتْ إحْدَى عَيْنَيْهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَكَذَا لو اشْتَرَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ من الْغَرِيمِ عَبْدًا بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَهُ فَمَاتَ في يَدِهِ أو بَاعَهُ أو أَعْتَقَهُ أَنَّهُ يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ كما يَضْمَنُ في الغصب ( ( ( الغاصب ) ) )
وَلَوْ ذَهَبَتْ عَيْنُهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَرَدَّهُ لم يَضْمَنْ لِشَرِيكِهِ شيئا وَيَجِبُ ذلك عليه من حِصَّتِهِ من الدَّيْنِ خَاصَّةً وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعُقُودِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيها إنها لَا تَخْلُو من أَنْ تَكُونَ فَاسِدَةً أو صَحِيحَةً أَمَّا الصَّحِيحَةُ فَأَمَّا الشَّرِكَةُ بِالْأَمْوَالِ فَنُبَيِّنُ أَحْكَامَ الْعِنَانِ منها وَالْمُفَاوَضَةِ وما يَجُوزُ لِأَحَدِ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ وَالْمُفَاوَضَةِ أَنْ يَعْمَلَهُ في مَالِ الشَّرِكَةِ وما لَا يَجُوزُ أَمَّا الْعِنَانُ فَلِأَحَدِ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ أَنْ يَبِيعَ مَالَ الشَّرِكَةِ لِأَنَّهُمَا بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ إذن كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ بِبَيْعِ مَالِ الشَّرِكَةِ وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلَ صَاحِبِهِ بِالْبَيْعِ وَلِأَنَّ غَرَضَهُمَا من الشَّرِكَةِ الرِّبْحُ وَذَلِكَ بِالتِّجَارَةِ وما التِّجَارَةُ إلَّا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فَكَانَ إقادمهما ( ( ( إقدامهما ) ) ) على الْعَقْدِ إذْنًا من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ دَلَالَةً وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ مَالَ الشَّرِكَةِ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْبَيْعِ بِمُقْتَضَى الشَّرِكَةِ وُجِدَ مُطْلَقًا وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَنْعَقِدُ على عَادَةِ التُّجَّارِ وَمِنْ عَادَتِهِمْ الْبَيْعُ نَقْدًا وَنَسِيئَةً وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ بِقَلِيلِ الثَّمَنِ وَكَثِيرِهِ لِمَا قُلْنَا إلَّا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الْعَقْدِ وهو الِاسْتِرْبَاحُ لَا يَحْصُلُ بِهِ فَكَانَ مُسْتَثْنًى من الْعَقْدِ دَلَالَةً
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ وَجَعَلَهُ على الِاخْتِلَافِ في الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا إنه يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ
وَلَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا وَأَجَّلَ الْآخَرُ لم يَجُزْ تَأْجِيلُهُ في نَصِيبِ شَرِيكِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَهَلْ يَجُوزُ في نَصِيبِ نَفْسِهِ فَهُوَ على الْخِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ إذَا أَخَّرَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ
هذا إذَا عَقَدَ أَحَدُهُمَا وَأَجَّلَ الْآخَرُ فَأَمَّا إذَا عَقَدَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَجَّلَ الْعَاقِدُ فَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْجِيلُهُ في نَصِيبِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ مَالِكٌ وَعَاقِدٌ وَأَمَّا في نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَيَجُوزُ تَأْجِيلُهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وَالْكَلَامُ فيه بِنَاءً على مَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ أَنَّهُ يَمْلِكُ تَأْخِيرَ الثَّمَنِ وَالْإِبْرَاءُ عنه عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا يَمْلِكُ
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْعَاقِدَ في نَصِيبِ الشَّرِيكِ وَكِيلٌ عنه وَهِيَ من مَسَائِلِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ إذَا أَخَّرَ يَضْمَنُ من مَالِهِ لِلْمُوَكِّلِ عِنْدَهُمَا وَهُنَا لَا يَضْمَنُ الشَّرِيكُ الْعَاقِدُ لِأَنَّ الشَّرِيكَ الْعَاقِدَ يَمْلِكُ أَنْ يُقَايِلَ الْبَيْعَ ثُمَّ يَبِيعَهُ بِنَسِيئَةٍ وإذا لم يُقَايِلْ وآخر الدَّيْنَ جَازَ وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُقَايِلَ وَيَبِيعَ بِالنَّسِيئَةِ فإذا أَخَّرَ يَضْمَنُ وَلَهُ أن يَشْتَرِي بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ لِمَا قُلْنَا في الْبَيْعِ وَهَذَا إذَا كان في يَدِهِ مَالٌ نَاضٌّ لِلشَّرِكَةِ وهو الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فَاشْتَرَى بِالدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ شيئا نَسِيئَةً وكان عِنْدَهُ شَيْءٌ من الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَاشْتَرَى بِذَلِكَ الْجِنْسِ شيئا نَسِيئَةً
فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ في يَدِهِ دَرَاهِمُ وَلَا دَنَانِيرُ فَاشْتَرَى بِدَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ شيئا كان المشتري له خَاصَّةً دُونَ شَرِيكِهِ لِأَنَّا لو جَعَلْنَا شِرَاءَهُ على الشَّرِكَةِ لَصَارَ مُسْتَدِينًا على مَالِ الشَّرِكَةِ وَالشَّرِيكُ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِدَانَةَ على مَالِ الشَّرِكَةِ من غَيْرِ أَنْ يُؤْذَنَ له بِذَلِكَ كَالْمُضَارِبِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَالُ الشَّرِكَةِ أَكْثَرَ مِمَّا رضي الشَّرِيكُ بِالْمُشَارَكَةِ فيه فَلَا يَجُوزُ من غَيْرِ رِضَاهُ
وَكَذَلِكَ لو كان عِنْدَهُ عُرُوضٌ فَاشْتَرَى بِالدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ نَسِيئَةً لِأَنَّ الْعُرُوضَ لَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ فَكَانَ الشِّرَاءُ بِالْأَثْمَانِ اسْتِدَانَةً بِخِلَافِ ما إذَا اشْتَرَى بها وفي يَدِهِ مِثْلُهَا لِأَنَّ ذلك ليس بِاسْتِدَانَةٍ
وَحَكَى الْحَسَنُ بن زِيَادٍ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا كان في يَدِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ دَنَانِيرُ فَاشْتَرَى بِدَرَاهِمَ جَازَ
وقال زُفَرُ لَا يَجُوزُ بِنَاءً على أَنَّ زُفَرَ يَعْتَبِرُ الْمُجَانَسَةَ في رَأْسِ مَالِ الشَّرِكَةِ حَقِيقَةً حتى أَبَى انْعِقَادَ الشَّرِكَةِ في الدَّرَاهِمِ مع الدَّنَانِيرِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ حَقِيقَةً فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ اشْتَرَى بِجِنْسِ ما في يَدِهِ صُورَةً بِالدَّرَاهِمِ وَعِنْدَهُ عُرُوضٌ وَنَحْنُ نَعْتَبِرُ الْمُجَانَسَةَ مَعْنًى وهو الثَّمَنِيَّةُ وقد تَجَانَسَا في الثَّمَنِيَّةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى بِجِنْسِ ما في يَدِهِ صُورَةً وَمَعْنًى وَلَهُ أَنْ يُبْضِعَ مَالَ الشَّرِكَةِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَنْعَقِدُ على عَادَةِ التُّجَّارِ وَالْإِبْضَاعُ من عَادَاتِهِمْ وَلِأَنَّ له أَنْ يَسْتَأْجِرَ من يَعْمَلُ في الْبِضَاعَةِ بِعِوَضٍ فَالْإِبْضَاعُ أَوْلَى لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْبِضْعِ في الْبِضَاعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَهُ أَنْ يُودِعَ لِأَنَّ
____________________

(6/68)


الْإِيدَاعَ من عَادَةِ التُّجَّارِ
وَمِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلتَّاجِرِ منه لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذلك عِنْدَ اعْتِرَاضِ أَحْوَالٍ تَقَعُ عَادَةً لِأَنَّ له أَنْ يَسْتَحْفِظَ الْمُودَعَ بِأَجْرٍ فَبِغَيْرِ أَجْرٍ أَوْلَى وَلَيْسَ له أَنْ يُشَارِكَ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ له بِذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَسْتَتْبِعُ مثله فَإِنْ شَارَكَ رَجُلًا شَرِكَةَ عِنَانٍ فما اشْتَرَاهُ الشَّرِيكُ فَنِصْفُهُ له وَنِصْفُهُ لِلشَّرِيكَيْنِ لِأَنَّهُ إنْ كان لَا يَمْلِكُ الشَّرِكَةَ في حَقِّ الشَّرِيكِ يَمْلِكُ التَّوْكِيلَ وَعَقْدُ الشَّرِكَةِ يَتَضَمَّنُ التَّوْكِيلَ فَكَانَ نِصْفُ ما اشْتَرَاهُ بَيْنَهُمَا
وَإِنْ اشْتَرَى الشَّرِيكُ الذي لم يُشَارِكْ فما اشْتَرَاهُ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ نِصْفَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِلْأَجْنَبِيِّ فيه لِأَنَّهُ لم يُوَكِّلْهُ فَبَقِيَ ما اشْتَرَاهُ على حُكْمِ الشَّرِكَةِ
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ إذَا شَارَكَ أَحَدُ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ رَجُلًا شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ من شَرِيكِهِ لم تَكُنْ مُفَاوَضَةً وَكَانَتْ شَرِكَةَ عِنَانٍ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَقْتَضِي فَسْخَ شَرِكَةِ الْعِنَانِ لِأَنَّ الْمُفَاوِضَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَرِيكَهُ في كل الْمَالِ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ في حَقِّ شَرِيكِهِ فَكَانَ ذلك فَسْخًا لِلشَّرِكَةِ وهو لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ مع غِيبَتِهِ وَإِنْ كان بِمَحْضَرٍ من صَاحِبِهِ صَحَّتْ الْمُفَاوَضَةُ وَذَلِكَ إبْطَالٌ لِشَرِكَةِ الْعِنَانِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ فَسْخَ الشَّرِكَةِ مع حُضُورِ صَاحِبِهِ وَلَيْسَ له أَنْ يَخْلِطَ مَالَ الشَّرِكَةِ بِمَالٍ له خَاصَّةً لِأَنَّ الْخَلْطَ إيجَابُ حَقٍّ في الْمَالِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا في الْقَدْرِ الذي رضي بِهِ رَبُّ الْمَالِ وَهَلْ له أَنْ يَدْفَعَ مَالَ الشَّرِكَةِ مُضَارَبَةً ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ له ذلك وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ ليس له ذلك
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ نَوْعُ شَرِكَةٍ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ مع الْمُضَارِبِ يَشْتَرِكَانِ في الرِّبْحِ وهو لَا يَمْلِكُ الشَّرِكَةَ بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ فَلَا يَمْلِكُ الْمُضَارَبَةَ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَمْلِكُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ أَجِيرًا يَعْمَلُ في مَالِ الشَّرِكَةِ فَلَأَنْ يَمْلِكَ الدَّفْعَ مُضَارَبَةً أَوْلَى لِأَنَّ الْأَجِيرَ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ سَوَاءٌ حَصَلَ في الشَّرِكَةِ رِبْحٌ أو لم يَحْصُلْ وَالْمُضَارِبُ لَا يَسْتَحِقُّ شيئا بِعَمَلِهِ إلَّا إذَا كان في الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ فلما مَلَكَ الِاسْتِئْجَارَ فَلَأَنْ يَمْلِكَ الدَّفْعَ مُضَارَبَةً أَوْلَى
وَالِاسْتِدْلَالُ بِالشَّرِكَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فَوْقَ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الشَّرِكَةَ في الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَالْمُضَارَبَةُ تُوجِبُ الشَّرِكَةَ في الْفَرْعِ لَا في الْأَصْلِ وَالشَّيْءُ يَسْتَتْبِعُ ما هو دُونَهُ وَلَا يَسْتَتْبِعُ ما هو فَوْقَهُ أو مثله وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمُضَارِبُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ مِثْلُ الْمُضَارَبَةِ وَيَمْلِكُ التَّوْكِيلَ لِأَنَّهُ دُونَ الْمُضَارَبَةِ وَالْوَكِيلُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِإِطْلَاقِ الْوَكَالَةِ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ مِثْلُ الْوَكَالَةِ وَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ في مَالِ الشَّرِكَةِ كُلَّ ما لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَهُ في مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَسَنَذْكُرُهُ في كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ تَصَرُّفَ الشَّرِيكِ أَقْوَى من تَصَرُّفِ الْمُضَارِبِ وَأَعَمَّ منه فما كان لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَ فَالشَّرِيكُ أَوْلَى وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَالًا مُضَارَبَةً وَيَكُونَ رِبْحَهُ له خَاصَّةً لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِعَمَلِهِ فَيَخْتَصُّ بِهِ كما لو آجَرَ نَفْسَهُ وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّ شَرِيكَهُ رضي بِرَأْيِهِ ولم يَرْضَ بِرَأْيِ غَيْرِهِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ إن الشَّرِكَةَ تَنْعَقِدُ على عَادَةِ التُّجَّارِ وَالتَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ من عَادَاتِهِمْ وَلِأَنَّهُ من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ التَّاجِرَ لَا يُمْكِنُهُ مُبَاشَرَةَ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّوْكِيلِ فَكَانَ التَّوْكِيلُ من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ جَمِيعَ التَّصَرُّفَاتِ بَلْ لَا يَمْلِكُ إلَّا الشِّرَاءَ فَيُمْكِنُهُ مُبَاشَرَتُهُ بِنَفْسِهِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ أَعَمُّ من الْوَكَالَةِ وَالْوَكَالَةُ أَخَصُّ منها وَالشَّيْءُ يَسْتَتْبِعُ دُونَهُ وَلَا يَسْتَتْبِعُ مثله
وَبِخِلَافِ ما إذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ في خَادِمٍ أو ثَوْبٍ خَاصَّةً إنه ليس لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُوَكِّلَ رَجُلًا بِبَيْعِهِ وَإِنْ وَكَّلَ لم يَجُزْ في حِصَّةِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ ذلك شَرِكَةُ مِلْكٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ من الشَّرِيكَيْنِ في شَرِكَةِ الإملاك أَجْنَبِيٌّ عن صَاحِبِهِ مَحْجُورٌ عن التَّصَرُّفِ في نَصِيبِهِ لِانْعِدَامِ الْمُطْلِقِ لِلتَّصَرُّفِ وهو الْمِلْكُ وَالْوِلَايَةُ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ وَكِيلًا وَيَدْفَعَ إلَيْهِ مَالًا وَيَأْمُرَهُ أَنْ يُنْفِقَ على شَيْءٍ من تِجَارَتِهِمَا وَالْمَالُ من الشَّرِكَةِ لِمَا قُلْنَا إنَّ الشَّرِيكَ يَمْلِكَ التَّوْكِيلَ فَكَانَ تَصَرُّفُهُ كَتَصَرُّفِ الْمُوَكِّلِ
فَإِنْ أَخْرَجَ الشَّرِيكُ الْآخَرُ الْوَكِيلَ يَخْرُجُ من الْوَكَالَةِ إنْ كان في بَيْعٍ أو شِرَاءٍ أو إجَارَةٍ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَّا مَلَكَ التَّوْكِيلَ على صَاحِبِهِ مَلَكَ الْعَزْلَ عليه وَلِأَنَّ الْمُوَكِّلَ وَكِيلٌ لِشَرِيكِهِ فإذا وَكَّلَ كان لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ وَكِيلَهُ وَإِنْ كان وَكِيلًا في تَقَاضِي ما دَايَنَهُ فَلَيْسَ لِلْآخَرِ إخْرَاجُهُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ شَرِيكَهُ فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَعْزِلَ وَكِيلَهُ عنه وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ أَجِيرًا لِشَيْءٍ من تِجَارَتِهِمَا لِأَنَّ الْإِجَارَةَ من التِّجَارَةِ حتى يَمْلِكَهَا الْمَأْذُونُ في التِّجَارَةِ وهو من عَادَاتِ التُّجَّارِ
____________________

(6/69)


أَيْضًا وَمِنْ ضَرُورَات التِّجَارَةِ أَيْضًا لِأَنَّ التَّاجِرَ لَا يَجِدْ بُدًّا منه وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ عِنْدَ إيرَادِ الْعَقْدِ عليها تَجْرِي مَجْرَى الْأَعْيَانِ فَكَانَ الِاسْتِئْجَارُ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ وهو يَمْلِكُ الشِّرَاءَ فَيَمْلِكُ الِاسْتِئْجَارَ وَالْأَجْرُ يَكُونُ على الْمُسْتَأْجِرِ يُطَالَبُ بِهِ دُونَ شَرِيكِهِ لِأَنَّهُ الْعَاقِدُ لَا شَرِيكُهُ وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ وَيَرْجِعُ على شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الْأُجْرَةِ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُ في الْعَقْدِ وَلَهُ أَنْ يَرْهَنَ مَتَاعًا من الشَّرِكَةِ بِدَيْنٍ وَجَبَ بِعَقْدِهِ وهو الشِّرَاءُ وَأَنْ يَرْتَهِنَ بِمَا بَاعَهُ لِأَنَّ الرَّهْنَ إيفَاءُ الدَّيْنِ وَالِارْتِهَانَ اسْتِيفَاؤُهُ وإنه يَمْلِكُ الْإِيفَاءَ وَالِاسْتِيفَاءَ فَيَمْلِكُ الرَّهْنَ وَالِارْتِهَانَ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في كِتَابِ الرَّهْنِ إذَا رَهَنَ أَحَدُهُمَا مَتَاعًا من الشَّرِكَةِ بِدَيْنٍ عليها لم يَجُزْ وكان ضَامِنًا لِلرَّهْنِ
وَلَوْ ارْتَهَنَ بِدَيْنٍ لَهُمَا أدناه ( ( ( أداناه ) ) ) وَقَبَضَ لم يَجُزْ على شَرِيكِهِ وَذَلِكَ مَحْمُولٌ على ما إذَا رَهَنَ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ عَلَيْهِمَا وَجَبَ بِعَقْدِهِمَا لِأَنَّ الرَّهْنَ إيفَاءٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَفِّيَ دَيْنَ الْآخَرِ من مَالِهِ إلَّا بِأَمْرِهِ فَلَا يَمْلِكُ الرَّهْنَ وَالِارْتِهَانَ وَاسْتِيفَاءُ أَحَدِهِمَا لَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ ثَمَنِ ما عَقَدَهُ شَرِيكُهُ لِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ ارْتِهَانَهُ فَإِنْ هَلَكَ في يَدِهِ وَقِيمَتُهُ وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ ذَهَبَ بِحِصَّتِهِ لِأَنَّهُ قَبَضَ الرَّهْنَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَالرَّهْنُ الْفَاسِدُ يَكُونُ مَضْمُونًا كَالصَّحِيحِ فَكَانَ مُسْتَوْفِيًا حِصَّتَهُ من الدَّيْنِ لِأَنَّهُ كان يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ حِصَّتِهِ من الدَّيْنِ قبل الِارْتِهَانِ
وَإِنْ وَلِيَهُ غَيْرُهُ فإذا ارْتَهَنَهُ بِجَمِيعِ ذلك صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِجَمِيعِ الدَّيْنِ فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حِصَّتَهُ صُورَةً فَذَهَبَ الرَّهْنُ بِحِصَّتِهِ وَشَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَجَعَ بِحِصَّتِهِ على الْمَطْلُوبِ وَيَرْجِعُ الْمَطْلُوبُ بِنِصْفِ قِيمَةِ الرَّهْنِ على الْمُرْتَهِنِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ شَرِيكَهُ حِصَّتَهُ من الدَّيْنِ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ فإذا هَلَكَ في يَدِهِ تَقَرَّرَ اسْتِيفَاءُ كل الدَّيْنِ وَمَنْ اسْتَوْفَى كُلَّ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ كان لِشَرِيكِهِ أَنْ يَرْجِعَ على الْغَرِيمِ بِحِصَّتِهِ وَيَرْجِعَ الْغَرِيمُ على الْقَابِضِ بِمَا قَبَضَهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَلَّمَ إلَيْهِ لِيَمْلِكَ ما في ذِمَّتِهِ بِمَا سَلَّمَ ولم يَمْلِكْ فَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ كَذَا هُنَا لِلْمَطْلُوبِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ قِيمَةِ الرَّهْنِ على الْمُرْتَهِنِ وَإِنْ شَاءَ الشَّرِيكُ رَجَعَ عليه نصف ( ( ( بنصف ) ) ) دَيْنِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا اسْتَوْفَى الدَّيْنَ الْمُشْتَرَكَ كُلَّهُ كان لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عليه بِنَصِيبِهِ
وَطَرِيقُ ذلك أَنَّ نِصْفَ الْمَقْبُوضِ وَقَعَ لِلْقَابِضِ وَلِشَرِيكِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فيه وَمَتَى شَارَكَهُ فيه فَلِلْقَابِضِ أَنْ يَرْجِعَ على الْمَطْلُوبِ بِذَلِكَ ثُمَّ يُشَارِكَهُ في ذلك أَيْضًا هَكَذَا يَسْتَوْفِي هو وَيُشَارِكُهُ الْآخَرُ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَا الدَّيْنَ
طَعَنَ عِيسَى بن أَبَانَ في هذه الْمَسْأَلَةِ وقال يَجِبُ أَنْ لَا يَضْمَنَ الشَّرِيكُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ لِأَنَّ مُحَمَّدًا قال لو قال رَجُلٌ لِرَجُلٍ أَعْطِنِي رَهْنًا بِدَيْنِ فلأن الذي عَلَيْكَ فَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ وَإِنْ لم يُجِزْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيَّ فَأَعْطَاهُ وَهَلَكَ الرَّهْنُ في يَدِهِ لم يَضْمَنْ وَهَذَا الطَّعْنُ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ لِأَنَّ ذلك الرَّجُلَ جَعَلَ الرَّهْنَ في يَدِ الْعَدْلِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ رَهْنًا لِغَيْرِهِ وَشَرَطَ أَنْ لَا ضَمَانَ عليه فَقَدْ صَارَ عَدْلًا وَهَلَاكُ الرَّهْنِ في يَدِ الْعَدْلِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ لِأَنَّ قَبْضَهُ ليس بِقَبْضِ اسْتِيفَاءٍ وَهَهُنَا إنَّمَا قَبَضَهُ لِلِاسْتِيفَاءِ وَالرَّهْنُ الْمَقْبُوضُ لِلِاسْتِيفَاءِ مَضْمُونٌ فلم يَصِحَّ الطَّعْنُ
وَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ من أَعْمَالِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ التَّاجِرَ يَحْتَاجُ إلَيْهَا لِاخْتِلَافِ الناس في الْمُلَاءَةِ وَالْإِفْلَاسِ وَكَوْنِ بَعْضِهِمْ أَمْلَأَ من بَعْضٍ وفي الْعَادَةِ يَخْتَارُ الْأَمْلَأَ فَالْأَمْلَأَ فَكَانَتْ الْحَوَالَةُ وَسِيلَةً إلَى الِاسْتِيفَاءِ فَكَانَتْ في مَعْنَى الرَّهْنِ في التَّوَثُّقِ لِلِاسْتِيفَاءِ وَلِأَنَّ الِاحْتِيَالَ تَمْلِيكُ ما في الذِّمَّةِ بمثله فَيَجُوزُ كَالصَّرْفِ وَحُقُوقُ عَقْدٍ تَوَلَّاهُ أَحَدُهُمَا تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ حتى لو بَاعَ أَحَدُهُمَا لم يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَقْبِضَ شيئا من الثَّمَنِ
وَكَذَلِكَ كُلُّ دَيْنٍ لَزِمَ إنْسَانًا بِعَقْدٍ وَلِيَهُ أَحَدُهُمَا ليس لِلْآخَرِ قَبْضُهُ وَلِلْمَدْيُونِ أَنْ يَمْتَنِعَ من دَفْعِهِ إلَيْهِ كَالْمُشْتَرِي من الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ له أَنْ يَمْتَنِعَ عن دَفْعِ الثَّمَنِ إلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الْقَبْضَ من حُقُوقِ الْعَقْدِ تَعُودُ إلَى الْعَاقِدِ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ لم يَلْتَزِمْ الْحُقُوقَ لِلْمَالِكِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَهَا الْعَاقِدُ فَلَا يَلْزَمُهُ ما لم يَلْتَزِمْهُ إلَّا بِتَوْكِيلِ الْعَاقِدِ فَإِنْ دَفَعَ إلَى الشَّرِيكِ من غَيْرِ تَوْكِيلٍ برىء من حِصَّتِهِ ولم يَبْرَأْ من حِصَّةِ الداين ( ( ( الدائن ) ) ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبْرَأَ الدَّافِعُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْقَابِضِ بَلْ هو أَجْنَبِيٌّ عنها وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ فَكَانَ الدَّافِعُ إلَى الْقَابِضِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَا يَبْرَأُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ في نَقْضِ هذا الْقَبْضِ إذْ لو نَقَضْنَاهُ لَاحْتَجْنَا إلَى إعَادَتِهِ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ يَلْزَمُهُ دَفْعُهُ إلَى الْعَاقِدِ وَالْعَاقِدُ يَرُدُّ حِصَّةَ الشَّرِيكِ إلَيْهِ فَلَا يُفِيدُ الْقَبْضُ ثُمَّ الْإِعَادَةُ في الْحَالِ وَهَذَا على الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ في الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا دَفَعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إلَى الْمُوَكِّلِ من غَيْرِ إذْنِ الْوَكِيلِ لَا يُطَالِبُ الشَّرِيكَ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِمَا قُلْنَا وَلَيْسَ
____________________

(6/70)


لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُخَاصِمَ فِيمَا أَدَانَهُ الْآخَرُ أو بَاعَهُ وَالْخُصُومَةُ لِلَّذِي بَاعَ وَعَلَيْهِ ليس على الذي لم يَلِ من ذلك شَيْءٌ فَلَا يُسْمَعُ عليه بَيِّنَةٌ فيه وَلَا يُسْتَحْلَفُ وهو وَالْأَجْنَبِيُّ في هذا سَوَاءٌ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ من حُقُوقِ الْعَقْدِ وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ
وَلَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا شيئا لَا يُطَالَبُ الْآخَرُ بِالثَّمَنِ وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ قَبْضُ الْمَبِيعِ لِمَا قُلْنَا وَلِلْعَاقِدِ أَنْ يُوَكِّلَ وَكِيلًا بِقَبْضِ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ فِيمَا اشْتَرَى وَبَاعَ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلِأَحَدِهِمَا أَنْ يُقَايِلَ فِيمَا بَاعَهُ الْآخَرُ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فيها مَعْنَى الشِّرَاءِ وَأَنَّهُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ على الشَّرِكَةِ فَيَمْلِكُ الْإِقَالَةَ وما بَاعَهُ أَحَدُهُمَا أو اشْتَرَى فَظَهَرَ عَيْبٌ لَا يَرُدُّ الْآخَرُ بِالْعَيْبِ وَلَا يُرَدُّ عليه لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ من حُقُوقِ الْعَقْدِ وَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ وَالرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ على الْبَائِعِ لِأَنَّهُ الْعَاقِدُ فَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِعَيْبِهِ في مَتَاعٍ جَازَ إقْرَارُهُ عليه وَعَلَى صَاحِبِهِ
قال الْكَرْخِيُّ وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَفَرَّقَ بين هذا وَبَيْنَ الْوَكِيلِ إذَا أَقَرَّ بِالْعَيْبِ فَرَدَّ الْقَاضِي الْمَبِيعَ عليه أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ إقْرَارُهُ على الْمُوَكِّلِ حتى يَثْبُتَ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّ مُوجِبَ الْإِقْرَارِ بِالْعَيْبِ ثُبُوتُ حَقِّ الرَّدِّ عليه وَلِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يقابل ( ( ( يقايل ) ) ) فِيمَا بَاعَهُ الْآخَرُ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فيها مَعْنَى الشِّرَاءِ وَأَنَّهُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ إلَى أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ وَيَقْبَلَ الْعَقْدَ وَالْوَكِيلُ لَا يَمْلِكُ ذلك
فَإِنْ بَاعَ أَحَدُهُمَا مَتَاعًا من الشَّرِكَةِ فَرُدَّ عليه فَقَبِلَهُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي جَازَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ قَبُولَ الْمَبِيعِ بِالتَّرَاضِي من غَيْرِ قَضَاءٍ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءٍ مبتدأ بِالتَّعَاطِي وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ ما بَاعَهُ على الشَّرِكَةِ
وَكَذَا الْقَبُولُ من غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ وَإِقَالَةُ أَحَدِهِمَا تَنْفُذُ على الْآخَرِ وَكَذَا لو حَطَّ من ثَمَنِهِ أو أَخَّرَ ثَمَنَهُ لِأَجْلِ الْعَيْبِ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْعَيْبَ يُوجِبُ الرَّدَّ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الصُّلْحُ وَالْحَطُّ أَنْفَعَ من الرَّدِّ فَكَانَ له ذلك
وَإِنْ حَطَّ من غَيْرِ عِلَّةٍ أو أَمْرٍ يَخَافُ منه جَازَ في حِصَّتِهِ ولم يَجُزْ في حِصَّةِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ الْحَطَّ من غَيْرِ عَيْبٍ تَبَرُّعٌ وَالْإِنْسَانُ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ من مَالِ نَفْسِهِ لَا من مَالِ غَيْرِهِ
وَكَذَلِكَ لو وَهَبَ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَبَرُّعٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَ ما اشْتَرَاهُ وما اشْتَرَى صَاحِبُهُ مُرَابَحَةً على ما اشْتَرَيَاهُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلٌ صاحبه ( ( ( لصاحبه ) ) ) بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ يَمْلِكُ الْبَيْعَ مُرَابَحَةً
وَهَلْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَالِ من غَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ ليس له ذلك وَالصَّحِيحُ من قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ له ذلك وَكَذَا الْمُضَارِبُ وَالْمُبْضِعُ وَالْمُودَعُ لهم أَنْ يُسَافِرُوا
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ ليس لِلشَّرِيكِ وَالْمُضَارِبِ أَنْ يُسَافِرَ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ له الْمُسَافَرَةَ إلَى مَوْضِعٍ لَا يَبِيتُ عن مَنْزِلِهِ
وَرُوِيَ عنه يُسَافِرُ أَيْضًا بِمَا لَا حِمْلَ له وَلَا مُؤْنَةَ وَلَا يُسَافِرُ بِمَا له حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ
وَجْهُ ظَاهِرِ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ السَّفَرَ له خَطَرٌ فَلَا يَجُوزُ في مِلْكِ الْغَيْرِ إلَّا بِإِذْنِهِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ التي فَرَّقَ فيها بين الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ أَنَّهُ إذَا كان قَرِيبًا بِحَيْثُ لَا يَبِيتُ عن مَنْزِلِهِ كان في حُكْمِ الْمِصْرِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ التي فَرَّقَ فيها بين ما له حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ وما ليس له حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ إن ما له حِمْلٌ إذَا احْتَاجَ شَرِيكُهُ إلَى رَدِّهِ يَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَلَا مُؤْنَةَ تَلْزَمُهُ فِيمَا لَا حِمْلَ له
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إن الأذن بِالتَّصَرُّفِ يُثْبِتُ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ وَأَنَّهَا صَدَرَتْ مُطْلَقَةً عن الْمَكَانِ وَالْمُطْلَقُ يَجْرِي على إطْلَاقِهِ إلَّا لِدَلِيلٍ وَلِهَذَا جَازَ لِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ على أَنَّهُ في مَعْنَى الْمُودَعِ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ في مَالِ الشَّرِكَةِ كَالْمُودَعِ في مَالِ الْوَدِيعَةِ مع ما أَنَّ الشَّرِيكَ يَمْلِكُ أَمْرًا زَائِدًا لَا يَمْلِكُهُ الْمُودَعُ وهو التَّصَرُّفُ فلما مَلَكَ الْمُودَعُ السَّفَرَ فَلَأَنْ يَمْلِكَهُ الشَّرِيكُ أَوْلَى وَقَوْلُ أبي يُوسُفَ إنَّ الْمُسَافَرَةَ بِالْمَالِ مُخَاطَرَةٌ بِهِ مُسَلَّمٌ إذَا كان الطَّرِيقُ مَخُوفًا
فَأَمَّا إذَا كان أمنا فَلَا خَطَرَ فيه بَلْ هو مُبَاحٌ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ بِالِابْتِغَاءِ في الْأَرْضِ من فَضْلِ اللَّهِ وَرَفَعَ الْجُنَاحَ عنه بِقَوْلِهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ { فإذا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا في الْأَرْضِ وَابْتَغُوا من فَضْلِ اللَّهِ } وقال عز شَأْنُهُ { ليس عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا من رَبِّكُمْ } مُطْلَقًا من غَيْرِ فَصْلٍ وما ذَكَرَ من لُزُومِ مُؤْنَةِ الرَّدِّ فِيمَا له حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَلَا يُعَدُّ ذلك غَرَامَةً في عَادَةِ التُّجَّارِ لِأَنَّ كُلَّ مُؤْنَةٍ تَلْزَمُ تَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ
هذا إذَا لم يَقُلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ اعْمَلْ في ذلك بِرَأْيِكَ فَأَمَّا إذَا قال ذلك فإنه يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمُسَافَرَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْمُشَارَكَةُ وَخَلْطُ مَالِ الشَّرِكَةِ بِمَالٍ له خَاصَّةً وَالرَّهْنُ وَالِارْتِهَانُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ فَوَّضَ الرَّأْيَ إلَيْهِ في التَّصَرُّفِ الذي اشْتَمَلَتْ عليه الشَّرِكَةُ مُطْلَقًا
وإذا سَافَرَ أَحَدُهُمَا بِالْمَالِ وقد أُذِنَ له بِالسَّفَرِ أو قِيلَ له اعْمَلْ بِرَأْيِكَ أو عِنْدَ إطْلَاقِ الشَّرِكَةِ على الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ عن أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ من جُمْلَةِ الْمَالِ على نَفْسِهِ في
____________________

(6/71)


كِرَائِهِ وَنَفَقَتِهِ وَطَعَامِهِ وَإِدَامِهِ من رَأْسِ الْمَالِ رَوَى ذلك الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ وقال مُحَمَّدٌ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ له ذلك لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ من مَالِ الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِهِ نَصًّا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ لِأَنَّ عَادَةَ التُّجَّارِ الْإِنْفَاقُ من مَالِ الشَّرِكَةِ وَالْمَعْرُوفُ كَالْمَشْرُوطِ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ هو التَّرَاضِي بِذَلِكَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُسَافِرُ بِمَالِ الشَّرِكَةِ وَيَلْتَزِمُ النَّفَقَةَ من مَالِ نَفْسِهِ لِرِبْحٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَنَّهُ الْتِزَامُ ضَرَرٍ لِلْحَالِ لِنَفْعٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ فَكَانَ إقْدَامُهُمَا على عَقْدِ الشَّرِكَةِ دَلِيلًا على التَّرَاضِي بِالنَّفَقَةِ من مَالِ الشَّرِكَةِ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في مَالِ صَاحِبِهِ كَالْمُضَارِبِ لِأَنَّ ما يَحْصُلُ من الرِّبْحِ فَهُوَ فَرْعُ جَمِيعِ الْمَالِ وهو يَسْتَحِقُّ نِصْفَ الرِّبْحِ شَائِعًا كَالْمُضَارِبِ فَتَكُونُ النَّفَقَةُ من جَمِيعِ الْمَالِ كَالْمُضَارِبِ إذَا سَافَرَ بِمَالِ نَفْسِهِ وَبِمَالِ الْمُضَارَبَةِ كانت نَفَقَتُهُ في جَمِيعِ ذلك
كَذَا هذا
وقال مُحَمَّدٌ فَإِنْ رَبِحَتْ حُسِبَتْ النَّفَقَةُ من الرِّبْحِ وَإِنْ لم يَرْبَحْ كانت النَّفَقَةُ من رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ جُزْءٌ تَالِفٌ من الْمَالِ فَإِنْ كان هُنَاكَ رِبْحٌ فَهُوَ منه وَإِلَّا فَهُوَ من الْأَصْلِ كَالْمُضَارِبِ وما اشْتَرَاهُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ مَالِ الشَّرِكَةِ لَا يَلْزَمُ صَاحِبَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَدِينًا على مَالِ الشَّرِكَةِ وَصَاحِبُهُ لم يَأْذَنْ له بِالِاسْتِدَانَةِ وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَهَبَ وَلَا أَنْ يُقْرِضَ على شَرِيكِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَبَرَّعَ أَمَّا الْهِبَةُ فَلَا شَكَّ فيها وَأَمَّا الْقَرْضُ فَلِأَنَّهُ لَا عِوَضَ له في الْحَالِ فَكَانَ تَبَرُّعًا في الْحَالِ وهو لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ على شَرِيكِهِ وَسَوَاءٌ قال اعْمَلْ بِرَأْيِكَ أو لم يَقُلْ إلَّا أَنْ يَنُصَّ عليه بِعَيْنِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ تَفْوِيضُ الرَّأْيِ إلَيْهِ فِيمَا هو من التِّجَارَةِ وَهَذَا ليس من التِّجَارَةِ
وَلَوْ اسْتَقْرَضَ مَالًا لَزِمَهُمَا جميعا لِأَنَّهُ تَمَلُّكُ مَالٍ بِالْعَقْدِ فَكَانَ كَالصَّرْفِ فَيَثْبُتُ في حَقِّهِ وَحَقِّ شَرِيكِهِ وَلِأَنَّهُ إنْ كان الِاسْتِقْرَاضُ اسْتِعَارَةً في الْحَالِ فَهُوَ يَمْلِكُ الِاسْتِعَارَةَ وَإِنْ كان تَمَلُّكًا يَمْلِكْهُ أَيْضًا وَلَيْسَ له أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدًا من تِجَارَتِهِمَا وَلَا أَنْ يَعْتِقَ على مَالٍ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَنْعَقِدُ على التِّجَارَةِ وَالْكِتَابَةُ وَالْإِعْتَاقُ لَيْسَا من التِّجَارَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُمَا الْمَأْذُونُ في التِّجَارَةِ وَسَوَاءٌ قال اعْمَلْ بِرَأْيِكَ أو لَا لِمَا قُلْنَا
وَلَيْسَ له أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدًا من تِجَارَتِهِمَا في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهُ ليس من التِّجَارَة وهو ضَرَرٌ مَحْضٌ فَلَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِإِذْنٍ نَصًّا وَكَذَلِكَ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ ليس من التِّجَارَةِ وَيَجُوزُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَالْمَسْأَلَةُ تَقَدَّمَتْ في كِتَابِ النِّكَاحِ
وَلَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لم يَجُزْ على صَاحِبِهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ فَلَا يُصَدَّقُ في إيجَابِ الْحَقِّ على شَرِيكِهِ بِخِلَافِ الْمُفَاوَضَةِ لِأَنَّ الْجَوَازَ في الْمُفَاوَضَةِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ لَا بِالْإِقْرَارِ
وَهَذِهِ الشَّرِكَةُ لَا تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ
وَلَوْ أَقَرَّ بِجَارِيَةٍ في يَدِهِ من تِجَارَتِهِمَا إنها لِرَجُلٍ لم يَجُزْ إقْرَارُهُ في نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَجَازَ في نَصِيبِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ يَنْفُذُ على نَفْسِهِ لَا على غَيْرِهِ لِأَنَّهُ في حَقِّ غَيْرِهِ شَهَادَةٌ وَسَوَاءٌ كان قال له اعْمَلْ بِرَأْيِكَ أو لَا لِأَنَّ هذا الْقَوْلَ يُفِيدُ الْعُمُومَ فِيمَا تَتَضَمَّنُهُ الشَّرِكَةُ وَالشَّرِكَةُ لم تَتَضَمَّنْ الْإِقْرَارَ وما ضَاعَ من مَالِ الشَّرِيكِ في يَدِ أَحَدِهِمَا فَلَا ضَمَانَ عليه في نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُ كل وَاحِدٍ من الشَّرِيكَيْنِ على صَاحِبِهِ في ضَيَاعِ الْمَالِ مع يَمِينِهِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَاَللَّهُ سبحانه ( ( ( عز ) ) ) وتعالى ( ( ( وجل ) ) ) أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ فَجَمِيعُ ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَحَدِ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ أَنْ يَفْعَلَهُ وهو جَائِزٌ على شَرِيكِهِ إذَا فَعَلَهُ فَيَجُوزُ لِأَحَدِ شَرِيكَيْ الْمُفَاوَضَةِ أَنْ يَفْعَلَهُ وإذا فَعَلَهُ فَهُوَ جَائِزٌ على شَرِيكِهِ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ أَعَمُّ من الْعِنَانِ فلما جَازَ لِشَرِيكِ الْعِنَانِ فَجَوَازُهُ لِلْمُفَاوِضِ أَوْلَى وَكَذَا كُلُّ ما كان شَرْطًا لِصِحَّةِ شَرِكَةِ الْعَنَانِ فَهُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ لِأَنَّهَا لَمَّا كانت أَعَمَّ من الْعِنَانِ فَهُوَ يَقْتَضِي شُرُوطَ الْعِنَانِ وَزِيَادَةً
وَكَذَا ما فَسَدَتْ بِهِ شَرِكَةُ الْعِنَانِ تَفْسُدُ بِهِ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ يُفْسِدُهَا ما لَا يُفْسِدُ الْعِنَانَ لِاخْتِصَاصِهَا بِشَرَائِطَ لم تُشْتَرَطْ في الْعِنَانِ وقد بَيَّنَّا ذلك فِيمَا تَقَدَّمَ
وَالْآنَ نُبَيِّنُ الْأَحْكَامَ الْمُخْتَصَّةَ بِالْمُفَاوَضَةِ التي تَجُوزُ لِلْمُفَاوِضِ وَلَا تَجُوزُ لِلشَّرِيكِ شَرِكَةَ الْعِنَانِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
يَجُوزُ إقْرَارُ أَحَدِ شَرِيكَيْ الْمُفَاوَضَةِ بِالدَّيْنِ عليه وَعَلَى شَرِيكِهِ وَيُطَالِبُ الْمُقِرُّ له أَيَّهُمَا شَاءَ
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عن الْآخَرِ فَيَلْزَمُ الْمُقِرَّ بِإِقْرَارِهِ وَيَلْزَمُ شَرِيكَهُ بِكَفَالَتِهِ وَكَذَلِكَ ما وَجَبَ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من دَيْنِ التِّجَارَةِ كَثَمَنِ المشتري في الْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَقِيمَتِهِ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَأُجْرَةِ الْمُسْتَأْجَرِ أو ما هو في مَعْنَى التِّجَارَةِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْخِلَافِ في الْوَدَائِعِ وَالْعَوَارِيّ وَالْإِجَارَاتِ وَالِاسْتِهْلَاكَات وَصَاحِبُ الدَّيْنِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ هذا بِدَيْنِهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ شَرِيكَهُ بِحَقِّ الْكَفَالَةِ
أَمَّا دَيْنُ التِّجَارَةِ
____________________

(6/72)


فَلِأَنَّهُ دَيْنٌ لَزِمَهُ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ لِأَنَّ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ اشْتَمَلَ عليه عَقْدُ الشَّرِكَةِ لِأَنَّهُ تِجَارَةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عن صَاحِبِهِ فِيمَا يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ وَلِهَذَا قالوا إنَّ الْبَيِّنَةَ تُسْمَعُ في ذلك على الشَّرِيكِ الذي لم يَعْقِدْ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَزِمَهُ كما لَزِمَ شَرِيكَهُ لِأَنَّهُ كَفِيلٌ عن شَرِيكِهِ وَالْبَيِّنَةُ بِالدَّيْنِ تُسْمَعُ على الْكَفِيلِ كما تُسْمَعُ على الْمَكْفُولِ عنه وَكَذَا الْبَيْعُ الْفَاسِدُ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْبَيْعِ يَتَنَاوَلُ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ وَكَذَا الْأُجْرَةُ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تِجَارَةٌ
وَأَمَّا الْغَصْبُ فَلِأَنَّ ضَمَانَهُ في مَعْنَى التِّجَارَةِ لِأَنَّ تَقَرُّرَ الضَّمَانِ فيه يُفِيدُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ فَكَانَ في مَعْنَى ضَمَانِ الْبَيْعِ وَالْخِلَافُ في الْوَدَائِعِ وَالْعَوَارِيّ وَالْإِجَارَاتِ في مَعْنَى الْغَصْبِ لِأَنَّهُ من بَابِ التَّعَدِّي على مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ فَكَانَ في مَعْنَى الْغَصْبِ فَكَانَ ضَمَانُهُ ضَمَانَ الْغَصْبِ
وَأَمَّا أُرُوشُ الْجِنَايَاتِ وَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عن الْقِصَاصِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ شَرِيكُهُ لِأَنَّهُ ليس بِضَمَانِ التِّجَارَةِ وَلَا في مَعْنَى ضَمَانِ التِّجَارَةِ أَيْضًا لِانْعِدَامِ مَعْنَى مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ رَأْسًا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ لَا يَلْزَمُ إلَّا فَاعِلَهُ لِأَنَّهُ ضَمَانُ جِنَايَةٍ فَأَشْبَهَ ضَمَانَ الْجِنَايَةِ على بَنِي آدَمَ وَالْجَوَابُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ وَضَمَانَ الْإِتْلَافِ في غَيْرِ بَنِي آدَمَ ضَمَانُ مُعَاوَضَةٍ لِأَنَّهُ ضَمَانٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمَضْمُونَ عِوَضًا عنه بِخِلَافِ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ على بَنِي آدَمَ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِهِ الْمَضْمُونَ فلم يُوجَدْ فيه مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ أَصْلًا
وَلَوْ كَفَلَ أَحَدُهُمَا على إنْسَانٍ فَإِنْ كَفَلَ عنه بِمَالٍ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَلْزَمُ وَإِنْ كَفَلَ بِنَفْسٍ لَا يُؤْخَذْ بِذَلِكَ شَرِيكُهُ في قَوْلِهِمْ جميعا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ فَلَا تَلْزَمُ صَاحِبَهُ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالدَّلِيلُ على أنها تَبَرُّعٌ اخْتِصَاصُ جَوَازِهَا بِأَهْلِ التَّبَرُّعِ حتى لَا تَجُوزَ من الصَّبِيِّ وَالْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَكَذَا تُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ إذَا كان في حَالِ الْمَرَضِ وَالشَّرِكَةُ لَا تَنْعَقِدُ على التَّبَرُّعِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الْكَفَالَةَ تَقَعُ تَبَرُّعًا بِابْتِدَائِهَا ثُمَّ تَصِيرُ مُعَاوَضَةً بِانْتِهَائِهَا لِوُجُودِ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ حتى يَرْجِعَ الْكَفِيلُ على الْمَكْفُولِ عنه بِمَا كَفَلَ إذَا كانت الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عنه فَقُلْنَا لَا تَصِحُّ من الصَّبِيِّ وَالْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ وَيُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ عَمَلًا بِالِابْتِدَاءِ وَيَلْزَمُ شَرِيكَهُ عَمَلًا بِالِانْتِهَاءِ
وَحُقُوقُ عَقْدٍ تَوَلَّاهُ أَحَدُهُمَا تَرْجِعُ إلَيْهِمَا جميعا حتى لو بَاعَ أَحَدُهُمَا شيئا من مَالِ الشَّرِكَةِ يُطَالَبُ غَيْرُ الْبَائِعِ مِنْهُمَا بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ كما يُطَالَبُ الْبَائِعُ وَيُطَالِبُ غَيْرُ الْبَائِعِ مِنْهُمَا الْمُشْتَرِيَ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ وَيَجِبُ عليه تَسْلِيمُهُ كَالْبَائِعِ
وَلَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا شيئا يُطَالِبُ الْآخَرَ بِالثَّمَنِ كما يُطَالِبُ الْمُشْتَرِيَ وَلَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْمَبِيعَ كما لِلْمُشْتَرِي
وَلَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي مِنْهُمَا عَيْبًا بِالْمَبِيعِ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ كما لِلْمُشْتَرِي
وَلَهُ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ كَالْمُشْتَرِي
وَلَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا سِلْعَةً من شَرِكَتِهِمَا فَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بها عَيْبًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا على أَيِّهِمَا شَاءَ
وَلَوْ أَنْكَرَ الْعَيْبَ فَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْبَائِعَ على الْبَتَاتِ وَشَرِيكَهُ على الْعِلْمِ
وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا نَفَذَ إقْرَارُهُ على نَفْسِهِ وَشَرِيكِهِ
وَلَوْ بَاعَا سِلْعَةً من شَرِكَتِهِمَا ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بها عَيْبًا فَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على النِّصْفِ الذي بَاعَهُ على الْبَتَاتِ وَعَلَى النِّصْفِ الذي بَاعَهُ شَرِيكُهُ على الْعِلْمِ بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ على الْعِلْمِ في قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
وقال أبو يُوسُفَ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الْبَتَاتِ فِيمَا بَاعَ وَيَسْقُطُ عن كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْيَمِينُ على الْعِلْمِ وَهُمَا جميعا في خَرَاجِ التِّجَارَةِ وَضَمَانِهَا سَوَاءٌ فَفِعْلُ أَحَدِهِمَا فيها كَفِعْلِهِمَا وَقَوْلُ أَحَدِهِمَا كَقَوْلِهِمَا وَهُمَا في الْحَقِيقَةِ شَخْصَانِ وفي أَحْكَامِ التِّجَارَةِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ وَلِأَحَدِهِمَا أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَ التِّجَارَةِ أو يَأْذَنَ له بِالتِّجَارَةِ لِأَنَّ تَصَرُّفَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَعُودُ نَفْعُهُ إلَى مَالِ الشَّرِكَةِ عَامٌّ كَتَصَرُّفِ الْأَبِ في مَالِ الصَّغِيرِ كَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال كلما يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ الْإِنْسَانُ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ فَالْمُفَاوِضُ فيه أَجْوَزُ أَمْرًا وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَبَ يَمْلِكُ كِتَابَةَ عبد ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَإِذْنَهُ بِالتِّجَارَةِ مع أَنَّهُ لَا مِلْكَ له فيه رَأْسًا فَلَأَنْ يَمْلِكَ الْمُفَاوِضُ أَوْلَى وَلَا يَجُوزُ له أَنْ يُعْتِقَ شيئا من عَبِيدِ التِّجَارَةِ على مَالٍ لِأَنَّهُ في مَعْنَى التَّبَرُّعِ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ ويبقي الْبَدَلُ في ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ قد يُسَلَّمُ له وقد لَا يُسَلَّمُ فَكَانَ في مَعْنَى التَّبَرُّعِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ في مَالِ ابْنِهِ وَلَا يَجُوزُ له تَزْوِيجُ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ لِأَنَّ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ يَتَعَلَّقَانِ بِرَقَبَتِهِ وَتَنْقُصُ بِهِ قِيمَتُهُ وَيَكُونُ وَلَدُهُ لِغَيْرِهِ فَكَانَ التَّزْوِيجُ ضَرَرًا مَحْضًا فَلَا يُمْلِكُهُ في مِلْكِ غَيْرِهِ
وَيَجُوزُ له أَنْ يُزَوِّجَ الْأَمَةَ لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ نَفْعٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ وَالْوَلَدَ وَيَسْقُطُ عنه نَفَقَتُهَا وَتَصَرُّفُ الْمُفَاوِضِ نَافِذٌ في كل ما يَعُودُ نَفْعُهُ إلَى مَالِ الشَّرِكَةِ سَوَاءٌ
____________________

(6/73)


كان من بَابِ التِّجَارَةِ أو لَا بِخِلَافِ الشَّرِيكِ شَرِكَةَ الْعِنَانِ فإن نَفَاذَ تَصَرُّفِهِ يَخْتَصُّ بِالتِّجَارَةِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وَتَزْوِيجُ الْأَمَةِ ليس من التِّجَارَةِ لِأَنَّ التِّجَارَةَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ ولم يُوجَدْ فَلَا يَنْفُذُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَنْفُذُ كَتَصَرُّفِ الْمُفَاوِضِ لِوُجُودِ النَّفْعِ وَيَجُوزُ له أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً لِمَا ذَكَرْنَا في الشَّرِيكِ شَرِكَةَ عِنَانٍ أَنَّهُ يَجُوزُ له أَنْ يَسْتَأْجِرَ من يَعْمَلُ في مَالِ الشَّرِكَةِ بِمَالٍ يَسْتَحِقُّهُ الْأَجِيرُ بِيَقِينٍ فَالدَّفْعُ مُضَارَبَةً أَوْلَى لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ منها بِيَقِينٍ لِجَوَازِ أَنْ يَحْصُلَ وَأَنْ لَا يَحْصُلَ وَيَجُوزُ له أَنْ يُشَارِكَ شَرِكَةَ عِنَانٍ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ شَرِكَةَ الْعِنَانِ أَخَصُّ من شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ فَكَانَتْ دُونَهَا فَجَازَ أَنْ تَتَضَمَّنَهَا الْمُفَاوَضَةُ كما تَتَضَمَّنُ الْعِنَانُ الْمُضَارَبَةَ لِأَنَّهَا دُونَهَا فَتَتْبَعُهَا وَلِأَنَّ الْأَبَ يَمْلِكُ ذلك في مَالِ ابْنِهِ فَيَمْلِكُ الْمُفَاوِضُ على شَرِيكِهِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ له ذلك لِأَنَّهُ يُوجِبُ لِلشَّرِيكِ الثَّالِثِ حَقًّا في مَالِ شَرِيكِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِهِ
هذا إذَا شَارَكَ رَجُلًا شَرِكَةَ عِنَانٍ فَأَمَّا إذَا فَاوَضَ جَازَ عليه وَعَلَى شَرِيكِهِ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ
وقال أبو يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وَكَذَا في رِوَايَةِ الْحَسَنِ عن أبي حَنِيفَةَ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ عَقْدَ الْمُفَاوَضَةِ عَامٌّ فَيَصِيرُ تَصَرُّفُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَتَصَرُّفِ الْآخَرِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ المفاوضة ( ( ( شركة ) ) ) مِثْلُ الْمُفَاوَضَةِ وَالشَّيْءُ لَا يَسْتَتْبِعُ مثله وَيَجُوزُ له أَنْ يَرْهَنَ وَيَرْتَهِنَ على شَرِيكِهِ لِأَنَّ الرَّهْنَ هو إيفَاءٌ وَالِارْتِهَانَ اسْتِيفَاءٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُ الْإِيفَاءَ وَالِاسْتِيفَاءَ فِيمَا عَقَدَهُ صَاحِبُهُ وَيَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يقتضي ( ( ( يقضي ) ) ) ما أَدَانَاهُ أو أدانه صَاحِبُهُ أو ما وجب ( ( ( يوجب ) ) ) لَهُمَا من غَصْبٍ على رَجُلٍ أو كَفَالَةٍ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلُ الْآخَرِ فَيَمْلِكُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حُقُوقَهُ بِالْوَكَالَةِ وما وَجَبَ على أَحَدِهِمَا فَلِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عن الْآخَرِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ عن صَاحِبِهِ يُطَالَبُ بِمَا على صَاحِبِهِ وَيُقَامُ عليه الْبَيِّنَةُ
وَيُسْتَحْلَفُ على عِلْمِهِ فِيمَا هو من ضَمَانِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ الْكَفِيلَ خَصْمٌ فِيمَا يَدَّعِي على الْمَكْفُولِ عنه وَيُسْتَحْلَفُ على عِلْمِهِ لِأَنَّهُ يَمِينٌ على فِعْلِ الْغَيْرِ وما اشْتَرَاهُ أَحَدُهُمَا من طَعَامٍ لِأَهْلِهِ أو كِسْوَةٍ أو ما لَا بُدَّ له منه فَذَلِكَ جَائِزٌ وهو له خَاصَّةً دُونَ صَاحِبِهِ
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ المشتري مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا لِأَنَّ هذا مِمَّا يَصِحُّ الِاشْتِرَاكُ فيه كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ لَكِنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا أَنْ يَكُونَ له خَاصَّةً لِلضَّرُورَةِ لِأَنَّ ذلك مِمَّا لَا بُدَّ منه فَكَانَ مُسْتَثْنَى من الْمُفَاوَضَةِ فَاخْتَصَّ بِهِ الْمُشْتَرِي لَكِنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يُطَالِبَ بِالثَّمَنِ أَيَّهُمَا شَاءَ
وَإِنْ وَقَعَ المشتري لِلَّذِي اشْتَرَاهُ خَاصَّةً لِأَنَّ هذا مِمَّا يَجُوزُ فيه الِاشْتِرَاكُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عن الْآخَرِ بِبَدَلِ ما يَجُوزُ فيه الِاشْتِرَاكُ إلَّا أَنَّهُمْ قالوا إنَّ الشَّرِيكَ يَرْجِعُ على شَرِيكِهِ بِنِصْفِ ثَمَنِ ذلك لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنًا عليه من مَالِهِ لَا على وَجْهِ التَّبَرُّعِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ ذلك فَيَرْجِعُ عليه وَلَيْسَ له أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً لِلْوَطْءِ أو لِلْخِدْمَةِ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ مِمَّا يَصِحُّ فيه الِاشْتِرَاكُ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى الِانْفِرَادِ بِمِلْكِهَا فَصَارَتْ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ بِخِلَافِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ فإن ثَمَّةَ ضَرُورَةً فَأُخْرِجَا عن عُمُومِ الشَّرِكَةِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضرورة ( ( ( ضرر ) ) ) في الْجَارِيَةِ فَبَقِيَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ الْعُمُومِ فَإِنْ اشْتَرَى ليس له أَنْ يَطَأَهَا لا لِشَرِيكِهِ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ في الشَّرِكَةِ فَكَانَتْ بَيْنَهُمَا فَهَذِهِ جَارِيَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بين اثْنَيْنِ فَلَا يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَطَأَهَا
فَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا جَارِيَةً لِيَطَأَهَا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فَهِيَ له خَاصَّةً ولم يذكر في كِتَابِ الشَّرِكَةِ إن الشَّرِيكَ يَرْجِعُ عليه بِشَيْءٍ أو لَا يَرْجِعُ
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْخِلَافَ فقال عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يَرْجِعُ عليه بِشَيْءٍ من الثَّمَنِ وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ عليه بِنِصْفِ الثَّمَنِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن الْحَاجَةَ إلَى الْوَطْءِ مُتَحَقِّقَةٌ فَتُلْحَقُ بِالْحَاجَةِ إلَى الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ فإذا اشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ خَاصَّةً وَقَعَتْ له خَاصَّةً وَصَارَتْ مُسْتَثْنَاةً عن عَقْدِ الشَّرِكَةِ فَقَدْ نَقَدَ ما ليس بِمُشْتَرَكٍ من مَالِ الشَّرِكَةِ فَيَرْجِعُ عليه شَرِيكُهُ بِالنِّصْفِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَصْلَ في كل ما يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ إذَا اشْتَرَاهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَقَعَ المشتري مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا من غَيْرِ إذْنٍ جَدِيدٍ من الشَّرِيكِ بِالشِّرَاءِ إلَّا فِيمَا فيه ضَرُورَةٌ وهو ما لَا بُدَّ له منه من الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَلَا ضَرُورَةَ في الْوَطْءِ فَوَقَعَ المشتري على الشَّرِكَةِ بِالْإِذْنِ الثَّابِتِ بِأَصْلِ العقل ( ( ( العقد ) ) ) من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى إذْنٍ آخَرَ فلم يَكُنْ الْإِذْنُ الْجَدِيدُ من الشَّرِيكِ لِوُقُوعِ المشتري على الشَّرِكَةِ لِأَنَّهُ وَقَعَ على الشَّرِكَةِ بِدُونِهِ فَكَانَ لِلتَّمْلِيكِ كَأَنَّهُ قال اشْتَرِ جَارِيَةً بَيْنَنَا وقد مَلَّكْتُكَ نَصِيبِي منها فَكَانَتْ الْهِبَةُ مُتَعَلِّقَةً بِالشِّرَاءِ فإذا اشْتَرَى وَقَبَضَ صَحَّتْ الْهِبَةُ كما لو قال إنْ قَبَضْتَ ما لي على فُلَانٍ فَقَدْ وَهَبْتُهُ لك فَقَبَضَهُ يَمْلِكُهُ

____________________

(6/74)


كَذَا هذا
وإذا كان كَذَلِكَ فَقَدْ نَقَدَ ثَمَنَ الْوَاقِعِ على الشَّرِكَةِ من مَالِ الشَّرِكَةِ فَلَا يَرْجِعُ على شَرِيكِهِ بِشَيْءٍ فَإِنْ اشْتَرَى جَارِيَةً لِلْوَطْءِ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ فَعَلَى الواطىء الْعُقْرُ يَأْخُذُ الْمُسْتَحِقُّ بِالْعُقْرِ أَيَّهُمَا شَاءَ
أما وُجُوبُ الْعُقْرِ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّ وَطْءَ مِلْكِ الْغَيْرِ في دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو عن أَحَدِ الْغَرَامَتَيْنِ إمَّا الْحَدُّ وَإِمَّا الْعُقْرُ وقد تَعَذَّرَ إيجَابُ الْحَدِّ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ صُورَةُ الْبَيْعِ فَيَجِبُ الْعُقْرُ
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْأَخْذِ من أَيِّهِمَا شَاءَ فَلِأَنَّ هذا ضَمَانٌ وَجَبَ بِسَبَبِ الشِّرَاءِ وَالضَّمَانُ الْوَاجِبُ بِسَبَبِ الشِّرَاءِ يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالثَّمَنِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ من التِّجَارَةِ فَكَانَ هذا ضَمَانَ التِّجَارَةِ بِخِلَافِ الْمَهْرِ في النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ
لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَالنِّكَاحُ ليس من التِّجَارَةِ فَلَا يَدْخُلُ في الشَّرِكَةِ وَلَوْ أَقَالَ أَحَدُهُمَا في بَيْعِ ما بَاعَهُ الْآخَرُ جَازَتْ الْإِقَالَةُ عَلَيْهِمَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِقَالَةَ في مَعْنَى الشِّرَاءِ وهو يَمْلِكُ الشِّرَاءَ على الشَّرِكَةِ فَيَمْلِكُ الْإِقَالَةَ وَلِأَنَّ الشَّرِيكَ شَرِكَةَ الْعِنَانِ يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ فَالْمُفَاوِضُ أَوْلَى
وإذا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أو تَفَرَّقَا لم يَكُنْ لِلَّذِي لم يلي ( ( ( يل ) ) ) الْمُدَايَنَةَ أَنْ يَقْبِضَ الدَّيْنَ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ بَطَلَتْ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّهَا وَكَالَةٌ وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ لِبُطْلَانِ أَمْرِهِ بِمَوْتِهِ وَتَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَكِيلِ لِتَعَذُّرِ تَصَرُّفِهِ فَتَبْطُلُ الشَّرِكَةُ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَقْبِضَ نَصِيبَ الْآخَرِ إذَا لم يَكُنْ هو الذي تَوَلَّى الْعَقْدَ وَيَجُوزُ قَبْضُهُ في نَصِيبِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ مُوَكَّلٌ فيه وَقَبْضُ الْوَكِيلِ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا
أما الذي ولى الْمُدَايَنَةَ فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْجَمِيعَ لِأَنَّهُ مَلَكَ ذلك بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ لِكَوْنِهِ من حُقُوقِ الْعَقْدِ فَلَا يَبْطُلُ بِانْفِسَاخِ الشَّرِكَةِ بِمَوْتِ الشَّرِيكِ كما لَا يَبْطُلُ بِالْعَزْلِ وَلَوْ آجَرَ أَحَدُهُمَا نَفْسَهُ في الْخِيَاطَةِ أو عَمَلٍ من الْأَعْمَالِ فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَإِنْ أجر نَفْسَهُ لِلْخِدْمَةِ فَالْأَجْرُ له خَاصَّةً لِأَنَّ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ آجَرَ نَفْسَهُ في عَمَلٍ يَمْلِكُ أَنْ يَتَقَبَّلَ على نَفْسِهِ وَعَلَى صَاحِبِهِ فإذا عَمِلَ فَقَدْ أَوْفَى ما عَلَيْهِمَا فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ بَيْنَهُمَا وفي الثَّانِي لَا يَمْلِكُ التَّقَبُّلَ على صَاحِبِهِ بَلْ على نَفْسِهِ خَاصَّةً فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ له خَاصَّةً
وقال أبو حَنِيفَةَ إذَا قَضَى أَحَدُهُمَا دَيْنًا كان عليه قبل الْمُفَاوَضَةِ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ إذَا قَضَى فَقَدْ صَارَ الْمَقْضِيُّ دَيْنًا على الْقَاضِي أَوَّلًا ثُمَّ يَصِيرُ قِصَاصًا بما له على الْقَاضِي فَكَانَ هذا تَمْلِيكًا بِعِوَضٍ فَتَنَاوَلَهُ عَقْدُ الشَّرِكَةِ فَمَلَكَهُ فَجَازَ الْقَضَاءُ وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ سَبِيلٌ على الذي قَبَضَ الدَّيْنَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَبْضَهُ قَبْضٌ مَضْمُونٌ لِأَنَّهُ قَبَضَ ما لِلشَّرِيكِ أَنْ يُمَلِّكَهُ إيَّاهُ وَيَرْجِعَ شَرِيكُهُ عليه بِحِصَّتِهِ منه لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ نَفْسِهِ من مَالِ غَيْرِهِ وَلَا تَنْتَقِضُ الْمُفَاوَضَةُ وَإِنْ ازْدَادَ مَالُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ دَيْنٌ وَزِيَادَةُ مَالِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إذَا كانت دَيْنًا لَا تُوجِبُ بُطْلَانَ الْمُفَاوَضَةِ كما لَا تَمْنَعُ انْعِقَادَهَا لِمَا مَرَّ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ فإذا اسْتَرْجَعَ ذلك بَطَلَتْ الْمُفَاوَضَةُ لِأَنَّهُ ازْدَادَ له مَالٌ صَالِحٌ لِلشَّرِكَةِ على مَالِ شَرِيكِهِ
وَلَوْ رَهَنَ أَمَةً من مَالِ الْمُفَاوَضَةِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ فَمَاتَتْ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ ذَهَبَتْ بِخَمْسِمِائَةٍ وَلَا يَضْمَنُ ما بَقِيَ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ أَمَانَةٌ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَكَانَ مُودَعًا في قَدْرِ الْأَمَانَةِ من الرَّهْنِ وَلِلْمُودَعِ وَالْمُفَاوِضِ أَنْ يُودِعَ وَكَذَلِكَ وصى أَيْتَامٍ رَهَنَ أَمَةً لهم بِأَرْبَعِمِائَةٍ عليه وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ فَمَاتَتْ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ ذَهَبَتْ بِأَرْبَعِمِائَةٍ وَذَلِكَ يَكُونُ دَيْنًا لِلْوَرَثَةِ على الْوَصِيِّ وهو أَمِينٌ في الْفَضْلِ
وَكَذَلِكَ الْأَبُ يَرْهَنُ أَمَةَ ابْنٍ له صَغِيرٍ بِدَيْنٍ عليه لِأَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ يَمْلِكَانِ الْإِيدَاعَ وَالزِّيَادَةُ على قَدْرِ الدَّيْنِ من الرَّهْنِ أَمَانَةٌ فَكَانَتْ وَدِيعَةً
قال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لو أَقْرَضَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مَالًا فَأَعْطَاهُ رَجُلًا ثُمَّ أَخَذَ بِهِ سفنجة ( ( ( سفتجة ) ) ) كان ذلك جَائِزًا عَلَيْهِمَا وَلَا يَضْمَنُ تَوَى الْمَالُ أو لم يَتْوِ
وفي قِيَاسِ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الذي أَقْرَضَ وَأَخَذَ السفنجة ( ( ( السفتجة ) ) ) يَضْمَنُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ من ذلك وَهَذَا فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ في الْكَفَالَةِ أَنَّ الْكَفِيلَ في حُكْمِ الْمُقْرِضِ فإذا جَازَتْ الْكَفَالَةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ جَازَ الْقَرْضُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ لِمَا فيها من مَعْنَى التَّبَرُّعِ فَكَذَلِكَ الْقَرْضُ
وَقَالُوا في أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إذَا اسْتَأْجَرَ إبِلًا إلَى مَكَّةَ لِيَحُجَّ وَيَحْمِلَ عليها مَتَاعَ بَيْتِهِ فَلِلْمُؤَاجِرِ أَنْ يُطَالِبَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالْأَجْرِ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه وهو الْمَنْفَعَةُ مِمَّا يَجُوزُ دُخُولُهُ في الشَّرِكَةِ
أَلَا تَرَى لو أَبْدَلَهُ من حَمْلِ مَتَاعِهِ فَحَمَلَ عليها ( ( ( عليهما ) ) ) مَتَاعَ الشَّرِكَةِ جَازَ وإذا دخل في الشَّرِكَةِ كان الْبَدَلُ عَلَيْهِمَا فَيُطَالِبُ بِهِ شَرِيكَهُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ
وَإِنْ وَقَعَ ذلك له خَاصَّةً كما لو اشْتَرَى طَعَامًا لِنَفْسِهِ إن المشتري يَقَعُ له وَيُطَالَبُ الشَّرِيكُ بِالثَّمَنِ كَذَا هذا
وَلَوْ آجَرَ أَحَدُهُمَا عَبْدًا له وَرِثَهُ لم يَكُنْ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَقْبِضَ الْإِجَارَةَ لِأَنَّهَا بَدَلُ مَالٍ لم يَدْخُلْ في الشَّرِكَةِ فَلَا يَمْلِكُ قَبْضَهُ كَالدَّيْنِ الذي وَجَبَ له بِالْمِيرَاثِ وَاَللَّهُ
____________________

(6/75)


عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الشَّرِكَةُ بِالْأَعْمَالِ فَأَمَّا الْعِنَانُ منها فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَقَبَّلَ الْعَمَلَ وَمَتَى تَقَبَّلَ يَجِبُ عليه وَعَلَى شَرِيكِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ أَذِنَ لِصَاحِبِهِ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ عليه فَصَارَ وَكِيلُهُ فيه كَأَنَّهُ تَقَبَّلَ الْعَمَلَ بِنَفْسِهِ وَلِصَاحِبِ الْعَمَلِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْعَمَلِ أَيَّهُمَا شَاءَ لِوُجُوبِهِ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُطَالِبَ صَاحِبَ الْعَمَلِ بِكُلِّ الْأُجْرَةِ لِأَنَّهُ قد لَزِمَهُ كُلُّ الْعَمَلِ فَكَانَ له الْمُطَالَبَةُ بِكُلِّ الْأُجْرَةِ وَإِلَى أَيِّهِمَا دَفَعَ صَاحِبُ الْعَمَلِ برىء لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَى من أُمِرَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَعَلَى أَيِّهِمَا وَجَبَ ضَمَانُ الْعَمَلِ وهو جِنَايَةُ يَدِهِ كان لِصَاحِبِ الْعَمَلِ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ بِهِ اسْتِحْسَانًا كَذَا رَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ قال إذَا جَنَتْ يَدُ أَحَدِهِمَا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا جميعا يَأْخُذُ صَاحِبُ الْعَمَلِ أَيَّهُمَا شَاءَ بِجَمِيعِ ذلك وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ له ذلك
وَجْهُ الْقِيَاسِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ هذه شَرِكَةُ عِنَانٍ لَا شَرِكَةُ مُفَاوَضَةٍ وَحُكْمُ الشَّرْعِ في شَرِكَةِ الْعِنَانِ أَنَّ ما يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدِهِ لَا يُطَالَبُ بِهِ الْآخَرُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هذه شَرِكَةُ ضَمَانٍ في حَقِّ وُجُوبِ الْعَمَلِ لِأَنَّ الْعَمَلَ الذي يَتَقَبَّلُهُ أَحَدُهُمَا يَجِبُ على الأخر حتى يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ بِهِ فإذا كانت هذه الشَّرِكَةُ مُقْتَضِيَةً وُجُوبَ الْعَمَلِ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا كانت مُقْتَضِيَةً وُجُوبَ ضَمَانِ الْعَمَلِ فَكَانَتْ في مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ في حَقِّ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَإِنْ لم تَكُنْ مُفَاوَضَةً حَقِيقَةً حتى قالوا في الدَّيْنِ إذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِثَمَنِ صَابُونٍ أو اشنان أو غَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ على صَاحِبِهِ إذَا كان الْمَبِيعُ مُسْتَهْلَكًا إلَّا بِإِقْرَارِهِ أو بِالْبَيِّنَةِ كَذَا إذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَجْرِ أَجِيرٍ أو حَانُوتٍ بَعْدَ مُضِيِّ هذه الْإِجَارَةِ
وَإِنْ كان الْمَبِيعُ لم يُسْتَهْلَكْ وَمُدَّةُ الْإِجَارَةِ لم تَمْضِ لَزِمَهُمَا جميعا بِإِقْرَارِهِ وَإِنْ جَحَدَهُ شَرِيكُهُ كما في شَرِكَةِ الْعِنَانِ فَدَلَّ أَنَّهُ ليس لها حُكْمُ الْمُفَاوَضَةِ من جَمِيعِ الْوُجُوهِ بَلْ من الْوَجْهِ الذي بَيَّنَّا خَاصَّةً
وقال أبو يُوسُفَ إذَا ادَّعَى على أَحَدِهِمَا ثَوْبًا عِنْدَهُمَا فَأَقَرَّ بِهِ أَحَدُهُمَا وَجَحَدَ الْآخَرُ جَازَ الْإِقْرَارُ على الْآخَرِ وَيَدْفَعُ الثَّوْبَ وَيَأْخُذُ الْأُجْرَةَ قال وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمُتَفَاوِضَيْنِ حتى يُصَدَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على صَاحِبِهِ بَلْ هُمَا شَرِيكَانِ شَرِكَةَ عِنَانٍ فَلَا يَنْفُذُ إقْرَارُهُ على صَاحِبِهِ فِيمَا في يَدِ صَاحِبِهِ كَشَرِيكَيْ الْعِنَانِ في الْمَالِ إذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِثَوْبٍ من شِرْكَتِهِمَا وَجَحَدَ الْآخَرُ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ إقْرَارَهُ على صَاحِبِهِ في نَصِيبِهِ كَذَا هذا
وقد رَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ في هذه الْمَسْأَلَةِ وقال يَنْفُذُ إقْرَارُهُ في النِّصْفِ الذي في يَدِهِ وَلَا يَنْفُذُ في النِّصْفِ الذي في يَدِ الشَّرِيكِ
وَوَجْهُهُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّيْءَ في أَيْدِيهِمَا وَالشَّرِكَةُ شَرِكَةُ عِنَانٍ وَأَحَدُ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ إذَا أَقَرَّ بِثَوْبٍ في أَيْدِيهِمَا لَا يَنْفُذُ على صَاحِبِهِ وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَّا وَأَلْحَقْنَاهَا بالفاوضة ( ( ( بالمفاوضة ) ) ) في حَقِّ وُجُوبِ الْعَمَلِ وَالْمُطَالَبَةِ بِالْأُجْرَةِ في حَقِّ وُجُوبِ ضَمَانِ الْعَمَلِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيمَا وَرَاءَ ذلك على أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ حُكْمُ الْمُفَاوَضَةِ في هذه الشَّرِكَةِ في حَقِّ ضَمَانِ الْعَمَلِ وهو وُجُوبُهُ حتى لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كُلُّ الْعَمَلِ وَجَبَ له الْمُطَالَبَةُ بِكُلِّ الْأُجْرَةِ وَعَلَيْهِ بِكُلِّ الْعَمَلِ وَلَزِمَهُ ضَمَانُ ما حَدَثَ على شَرِيكِهِ يَظْهَرُ في مَحَلِّ الْعَمَلِ أَيْضًا فَيَنْفُذُ أقراره بِمَحَلِّ الْعَمَلِ على صَاحِبِهِ
وَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ بِأَنْ مَرِضَ أو سَافَرَ أو بَطَلَ فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا على ما شَرَطَا لِأَنَّ الْأَجْرَ في هذه الشَّرِكَةِ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِضَمَانِ الْعَمَلِ لَا بِالْعَمَلِ لِأَنَّ الْعَمَلَ قد يَكُونُ منه وقد يَكُونُ من غَيْرِهِ كَالْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ إذَا اسْتَعَانَ بِرَجُلٍ على الْقِصَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ
وَإِنْ لم يَعْمَلْ لِوُجُودِ ضَمَانِ الْعَمَلِ منه
وَهَهُنَا شَرْطُ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا فإذا عَمِلَ أَحَدُهُمَا يَصِيرُ الشَّرِيكُ الْقَابِلُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ في النِّصْفِ وَلِشَرِيكِهِ في النِّصْفِ الْآخَرِ وَيَجُوزُ شَرْطُ التَّفَاضُلِ في الْكَسْبِ إذَا شَرَطَ التَّفَاضُلَ في الضَّمَانِ بِأَنْ شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَيْ الْكَسْبِ وهو الْأَجْرُ وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ وَشَرَطَا الْعَمَلَ عَلَيْهِمَا كَذَلِكَ سَوَاءٌ عَمِلَ الذي شَرَطَ له الْفَضْلَ أو لم يَعْمَلْ بَعْدَ أَنْ شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ في هذه الشَّرِكَةِ بِالضَّمَانِ لَا بِالْعَمَلِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو عَمِلَ أَحَدُهُمَا اسْتَحَقَّ الْآخَرُ الْأَجْرَ
وإذا كان اسْتِحْقَاقُ أَصْلِ الْأَجْرِ بِأَصْلِ ضَمَانِ الْعَمَلِ لَا بِالْعَمَلِ كان اسْتِحْقَاقُ زِيَادَةِ الْأَجْرِ بِزِيَادَةِ الضَّمَانِ لَا بِزِيَادَةِ الْعَمَلِ
وحكى عن الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ عَلَّلَ في هذه الْمَسْأَلَةِ فقال الْمَنَافِعُ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ وَالشَّرِيكُ قد قَوَّمَهَا بِمِقْدَارِ ما شَرَطَ لِنَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ عليه وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْعَمَلِ وَرَدَّ عليه الْجَصَّاصُ وقال هذا لَا يَصِحُّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو شَرَطَ فَضْلَ الْأَجْرِ لِأَقَلِّهِمَا عَمَلًا بِأَنْ شرط ( ( ( شرطا ) ) ) ثُلُثَا الْأُجْرَةِ له جَازَ فَدَلَّ
____________________

(6/76)


أَنَّ اسْتِحْقَاقَ فَضْلِ الْأُجْرَةِ بِفَضْلِ الضَّمَانِ لَا بِفَضْلِ الْعَمَلِ
وَلَوْ شَرَطَا التَّفَاضُلَ في الْأُجْرَةِ فَجَعَلَاهَا أَثْلَاثًا ولم يَنْسِبَا الْعَمَلَ إلَى نِصْفَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُمَا لَمَّا شَرَطَا التَّفَاضُلَ في الْكَسْبِ وَلَا يَصِحُّ ذلك إلَّا بِشَرْطِ التَّفَاضُلِ في الْعَمَلِ كان ذلك اشْتِرَاطًا لِلتَّفَاضُلِ في الْعَمَلِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِمَا عِنْدَ إمْكَانِ التَّصْحِيحِ وَلَوْ شَرَطَا الْكَسْبَ أَثْلَاثًا وَشَرَطَا الْعَمَلَ نِصْفَيْنِ لم يَجُزْ لِأَنَّ فَضْلَ لأجرة ( ( ( الأجرة ) ) ) لَا يُقَابِلُهَا مَالٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا ضَمَانٌ وَالرِّبْحُ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِأَحَدِ هذه الْأَشْيَاءِ
وَأَمَّا الْوَضِيعَةُ فَلَا تَكُونُ بَيْنَهُمَا إلَّا على قَدْرِ الضَّمَانِ حتى لو شَرَطَا أَنَّ ما يَتَقَبَّلَانِهِ فَثُلُثَاهُ على أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ وَثُلُثُهُ على الْآخَرِ وَالْوَضِيعَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ كانت الْوَضِيعَةُ بَاطِلَةً وَالْقِبَالَةُ بَيْنَهُمَا على ما شَرَطَا على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الرِّبْحَ إذَا انْقَسَمَ على قَدْرِ الضَّمَانِ كانت الْوَضِيعَةُ على قَدْرِ الضَّمَانِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ زِيَادَةِ الضَّمَانِ في الْوَضِيعَةِ في مَوْضِعٍ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ زِيَادَةِ الرِّبْحِ فيه لِأَحَدِهِمَا وهو الشَّرِكَةُ بِالْأَمْوَالِ حتى لَا تَكُونَ الْوَضِيعَةُ فيها إلَّا بِقَدْرِ الْمَالِ ففي مَوْضِعٍ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ زِيَادَةِ الرِّبْحِ فيه لِأَحَدِهِمَا فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ أَنْ تَكُونَ الْوَضِيعَةُ فيه إلَّا على قَدْرِ الضَّمَانِ أَوْلَى
وَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ مِنْهُمَا فما لَزِمَ أَحَدَهُمَا بِسَبَبِ هذه الشَّرِكَةِ يَلْزَمُ صَاحِبَهُ وَيُطَالَبُ بِهِ من ثَمَنِ صَابُونٍ أو أُشْنَانٍ أو أَجْرِ أَجِيرٍ أو حَانُوتٍ وَيَجُوزُ إقْرَارُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عليه وَعَلَى شَرِيكِهِ بِالدَّيْنِ وَلِلْمُقَرِّ له أَنْ يُطَالِبَ بِهِ أَيَّهُمَا شَاءَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عن صَاحِبِهِ فَيَلْزَمُ الْمُقِرَّ بِإِقْرَارِهِ وَالشَّرِيكَ بِكَفَالَتِهِ
وَلَوْ ادَّعَى على أحدها ( ( ( أحدهما ) ) ) بِثَوْبٍ في أَيْدِيهِمَا فَأَقَرَّ بِهِ أَحَدُهُمَا وَجَحَدَ صَاحِبُهُ يُصَدَّقُ على صَاحِبِهِ وَيَنْفُذُ إقْرَارُهُ عليه
وَأَمَّا الشَّرِكَةُ بِالْوُجُوهِ فَالْعِنَانُ منها وَالْمُفَاوَضَةُ في جَمِيعِ ما يَجِبُ لَهُمَا وما يَجِبُ عَلَيْهِمَا وما يَجُوزُ فيه فِعْلُ أَحَدِهِمَا على شَرِيكِهِ وما لَا يَجُوزُ بِمَنْزِلَةِ شَرِيكِ الْعِنَانِ وَالْمُفَاوَضَةِ في الْأَمْوَالِ
وَأَمَّا الشَّرِكَةُ الْفَاسِدَةُ وَهِيَ التي فَاتَهَا شَرْطٌ من شَرَائِطِ الصِّحَّةِ فَلَا تُفِيدُ شيئا مِمَّا ذَكَرْنَا لِأَنَّ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَعْمَلَهُ بِالشَّرِكَةِ الصَّحِيحَةِ وَالرِّبْحُ فيها على قَدْرِ الْمَالَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِحْقَاقُ فيها بِالشَّرْطِ لِأَنَّ الشَّرْطَ لم يَصِحَّ فَأُلْحِقَ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْمَالِ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمَالِ وَلَا أَجْرَ لِأَحَدِهِمَا على صَاحِبِهِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ له أجره فِيمَا عَمِلَ لِصَاحِبِهِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ إلَّا أَنَّهُ اسْتَحَقَّ الرِّبْحَ بِعَمَلِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ عَقْدِ الشَّرِكَةِ فَهِيَ أنها عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ حتى يَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْفَسْخِ إلَّا أَنَّ من شَرْطِ جَوَازِ الْفَسْخِ أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ أَيْ بِعِلْمِهِ حتى لو فُسِخَ بِمَحْضَرٍ من صَاحِبِهِ جَازَ الْفَسْخُ وَكَذَا لو كان صَاحِبُهُ غَائِبًا وَعَلِمَ بِالْفَسْخِ وَإِنْ كان غَائِبًا ولم يَبْلُغْهُ الْفَسْخُ لم يَجُزْ الْفَسْخُ ولم يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْفَسْخَ من غَيْرِ عِلْمِ صَاحِبِهِ إضْرَارٌ بِصَاحِبِهِ وَلِهَذَا لم يَصِحَّ عَزْلُ الْوَكِيلِ من غَيْرِ عِلْمِهِ مع ما أَنَّ الشَّرِكَةَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ وَعِلْمُ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ شَرْطُ جَوَازِ الْعَزْلِ فَكَذَا في الْوَكَالَةِ التي تَضَمَّنَتْهُ الشَّرِكَةُ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ قال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ إذَا شَارَكَ أَحَدُ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ رَجُلًا شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ إنه إنْ كان بِغَيْرِ مَحْضَرٍ من شَرِيكِهِ لم تَكُنْ مُفَاوَضَةً وَإِنْ كان بِمَحْضَرٍ منه صَحَّتْ الْمُفَاوَضَةُ
لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ مع غَيْرِهِ تَتَضَمَّنُ فَسْخَ الْعِنَانِ وهو لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ عِنْدَ غَيْبَتِهِ وَيَمْلِكُ عِنْدَ حَضْرَتِهِ
وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَالُ الشَّرِكَةِ عَيْنًا وَقْتَ الشَّرِكَةِ لِصِحَّةِ الْفَسْخِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ شَرْطٌ حتى لو كان مَالُ الشَّرِكَةِ عُرُوضًا وَقْتَ الْفَسْخِ لَا يَصِحُّ الْفَسْخُ وَلَا تَنْفَسِخُ الشَّرِكَةُ وَلَا رِوَايَةَ عن أَصْحَابِنَا في الشَّرِكَة وفي الْمُضَارَبَةِ رِوَايَةٌ وَهِيَ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ إذَا نهى الْمُضَارِبَ عن التَّصَرُّفِ فإنه يَنْظُرُ إنْ كان مَالُ الْمُضَارَبَةِ وَقْتَ النَّهْيِ دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ صَحَّ النَّهْيُ لَكِنْ له أَنْ يَصْرِفَ الدَّرَاهِمَ إلَى الدَّنَانِيرَ وَالدَّنَانِيرَ إلَى الدَّرَاهِمَ لِأَنَّهُمَا في الثَّمَنِيَّةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَكَأَنَّهُ لم يَشْتَرِ بها شيئا وَلَيْسَ له أَنْ يَشْتَرِيَ بها عُرُوضًا
وَإِنْ كان رَأْسُ الْمَالِ وَقْتَ النَّهْيِ عُرُوضًا فَلَا يَصِحُّ نَهْيُهُ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهَا لِيَظْهَرَ الرِّبْحُ فَكَانَ الْفَسْخُ إبْطَالًا لِحَقِّهِ في التَّصَرُّفِ فَجَعَلَ الطَّحَاوِيُّ في الشَّرِكَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُضَارَبَةِ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا فَرَّقَ بين الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ فقال يَجُوزُ فَسْخُ الشَّرِكَةِ وَإِنْ كان رَأْسُ الْمَالِ عُرُوضًا وَلَا يَجُوزُ فَسْخُ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ مَالَ الشَّرِكَةِ في يَدِ الشَّرِيكَيْنِ جميعا وَلَهُمَا جميعا وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فَيَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَهْيَ صَاحِبِهِ عَيْنًا كان الْمَالُ أو عُرُوضًا
فَأَمَّا مَالُ الْمُضَارَبَةِ فَفِي يَدِ الْمُضَارِبِ وَوِلَايَةُ التَّصَرُّفِ له لَا لِرَبِّ الْمَالِ
فَلَا يَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ نَهْيَهُ بعدما صَارَ الْمَالُ عُرُوضًا

____________________

(6/77)


فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ الشَّرِكَةِ فما يَبْطُلُ بِهِ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا يَعُمُّ الشَّرِكَاتِ كُلَّهَا
وَالثَّانِي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ
أَمَّا الذي يَعُمُّ الْكُلَّ فَأَنْوَاعٌ منها الْفَسْخُ من أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ فإذا فَسَخَهُ أَحَدُهُمَا عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ الْفَسْخِ يَنْفَسِخُ
وَمِنْهَا مَوْتُ أَحَدِهِمَا أَيُّهُمَا مَاتَ انْفَسَخَتْ الشَّرِكَةُ لِبُطْلَانِ الْمِلْكِ وَأَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ بِالْمَوْتِ سَوَاءٌ عَلِمَ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ أو لم يَعْلَمْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ صَاحِبِهِ وَمَوْتُ الْمُوَكِّلِ يَكُونُ عَزْلًا لِلْوَكِيلِ عَلِمَ بِهِ أو لم يَعْلَمْ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَقِفُ على الْعِلْمِ
وَمِنْهَا رِدَّةُ أَحَدِهِمَا مع اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ
وَمِنْهَا جُنُونُهُ جُنُونًا مُطْبَقًا لِأَنَّ بِهِ يَخْرُجُ الْوَكِيلُ عن الْوَكَالَةِ وَجَمِيعُ ما يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عن الْوَكَالَةِ يَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ الشَّرِكَة لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ على نَحْوِ ما فَصَّلْنَا في كِتَابِ الْوَكَالَةِ
وَأَمَّا الذي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَأَنْوَاعٌ منها هَلَاكُ الْمَالَيْنِ أو أَحَدِهِمَا قبل الشِّرَاءِ في الشَّرِكَةِ بِالْأَمْوَالِ سَوَاءٌ كان الْمَالَانِ من جِنْسَيْنِ أو من جِنْسٍ وَاحِدٍ قبل الْخَلْطِ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ يَتَعَيَّنَانِ في الشَّرِكَاتِ فإذا هَلَكَتْ فَقَدْ هَلَكَ ما تَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِعَيْنِهِ قبل انْبِرَامِ الْعَقْدِ وَحُصُولِ الْمَعْقُودِ بِهِ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِخِلَافِ ما إذَا اشْتَرَى شيئا بِدَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ ثُمَّ هَلَكَتْ الدَّرَاهِمُ قبل الْقَبْضِ أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَبْطُلُ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ في الْمُعَاوَضَاتِ وَيَتَعَيَّنَانِ في الشَّرِكَاتِ ثُمَّ إنَّمَا لم تَتَعَيَّنْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ في الْمُعَاوَضَاتِ وَتَتَعَيَّنُ في الشَّرِكَاتِ لِأَنَّهُمَا جُعِلَا ثَمَنَيْنِ شَرْعًا فَلَوْ تَعَيَّنَا في الْمُعَاوَضَاتِ لَانْقَلَبَا مُثْمَنَيْنِ إذْ الْمُثْمَنُ اسْمٌ لِعَيْنٍ يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فَلَوْ تَعَيَّنَتْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ في الْمُعَاوَضَاتِ لَكَانَ عَيْنًا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فَكَانَ مُثْمَنًا فَلَا يَكُونُ ثَمَنًا وَفِيهِ تَغْيِيرُ حُكْمِ الشَّرْعِ فلم يَتَعَيَّنْ وَلَيْسَ في تعينها ( ( ( تعيينها ) ) ) في بَابِ الشَّرِكَةِ تَغْيِيرُ حُكْمِ الشَّرْعِ لِأَنَّهَا لَا يُقَابِلُهَا عِنْدَ انْعِقَادِ الشَّرِكَةِ عَلَيْهِمَا عِوَضٌ وَلِهَذَا يَتَعَيَّنَانِ في الْهِبَاتِ وَالْوَصَايَا بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ الْمُفْرَدَةِ عن الشَّرِكَةِ أَنَّهُمَا لَا يَتَعَيَّنَانِ في هَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ وَإِنْ لم يَكُنْ التَّعْيِينُ فِيهِمَا تَغْيِيرًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ وهو جَعْلُهُمَا مُثْمَنَيْنِ لِمَا لَا عِوَضَ لِلْحَالِ يُقَابِلهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الْعَقْدَيْنِ وُضِعَ وَسِيلَةً إلَى الشَّرِكَةِ وَالْوَسِيلَةُ إلَى الشَّيْءِ حُكْمُهُ حُكْمُ ذلك الشَّيْءِ فَجُعِلَ حُكْمُهُمَا في حَقِّ الْمَنْعِ من تَعَيُّنِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ حُكْمَ الشِّرَاءِ فلم يَتَعَيَّنَا بِالْعَقْدِ وَالْإِشَارَةِ بَلْ يَتَعَيَّنَانِ بِالْقَبْضِ كما في الشِّرَاءِ بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ فَإِنَّهَا وَإِنْ وَقَعَتْ وَسِيلَةً إلَى الشِّرَاءِ لَكِنْ لَا بُدَّ مع هذا من سَبَبٍ يُوجِبُ تَعَيُّنَ رَأْسِ الْمَالِ لِمَا مَرَّ وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْقَبْضِ مُعَيِّنًا لِرَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْقَبْضِ فِيهِمَا لِيَتَعَيَّنَ رَأْسُ الْمَالِ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهِمَا مَشْرُوطٌ من الشَّرِيكَيْنِ وَكَوْنُ الْعَمَلِ مَشْرُوطًا من رَبِّ الْمَالِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ في يَدِهِ لِيُمْكِنَهُ الْعَمَلَ وَكَوْنُ عَمَلِ الْآخَرِ مَشْرُوطًا يُوجِبُ التَّسْلِيمَ إلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ من الْعَمَلِ فَلَا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لِلتَّعَارُضِ وَلَا بُدَّ من سَبَبٍ يُوجِبُ تَعَيُّنَ ما تَعَلَّقَ بِهِ الْعَقْدُ وَلَيْسَ وَرَاءَ الْقَبْضِ إلَّا الْعَقْدُ فإذا لم يُمْكِنْ إيجَابُ الْقَبْضِ جُعِلَ الْعَقْدُ مُوجِبًا تَعَيُّنَهُمَا وَإِنْ كان وَسِيلَةً إلَى الشِّرَاءِ لَكِنْ هذه الضَّرُورَةُ أَوْجَبَتْ اسْتِدْرَاكَهُ بِحُكْمٍ غَيْرِ حُكْمِ ما جُعِلَ هو وَسِيلَةً له
فَأَمَّا في الْوَكَالَةِ الْمُفْرَدَةِ وَالْمُضَارَبَةِ فَعَمَلُ رَبِّ الْمَالِ ليس بِمَشْرُوطٍ بَلْ لو شُرِطَ ذلك في الْمُضَارَبَةِ لَأَوْجَبَ فَسَادَهَا فَأَمْكَنَ جَعْلُ الْقَبْضِ سَبَبًا لِلتَّعْيِينِ فَلَا حَاجَةَ إلَى جَعْلِ الْعَقْدِ سَبَبًا فلم يُوجِبْ الْعَقْدُ التعين ( ( ( التعيين ) ) ) إلْحَاقًا له بِالشِّرَاءِ ثُمَّ إذَا هَلَكَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ قبل الشِّرَاءِ هَلَكَ من مَالِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ الْهَالِكَ مَالٌ مَلَكَهُ أَحَدُهُمَا بِيَقِينٍ وَأَنَّهُ أمانه في يَدِ صَاحِبِهِ فَيَهْلَكُ على صَاحِبِهِ خَاصَّةً بِخِلَافِ ما إذَا كان رَأْسُ الْمَالَيْنِ من جِنْسٍ وَاحِدٍ وَخُلِطَا ثُمَّ هَلَكَ إنه يَهْلَكُ مُشْتَرَكًا لِأَنَّا لَا نَتَيَقَّنُ إن الْهَالِكَ مَالُ أَحَدِهِمَا وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
وَمِنْهَا فَوَاتُ الْمُسَاوَاةِ بين رَأْسَيْ الْمَالِ في شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ بِالْمَالِ بَعْدَ وُجُودِهَا في ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لِأَنَّ وُجُودَ الْمُسَاوَاةِ بين الْمَالَيْنِ في ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ كما هو شَرْطُ انْعِقَادِ هذا الْعَقْدِ على الصِّحَّةِ فَبَقَاؤُهَا شَرْطُ بَقَائِهَا مُنْعَقِدَةً لِأَنَّهَا مُفَاوَضَةٌ في الْحَالَيْنِ فَلَا بُدَّ من مَعْنَاهَا في الْحَالَيْنِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا تَفَاوَضَا وَالْمَالُ مستوي ( ( ( مستو ) ) ) ثُمَّ وَرِثَ أَحَدُهُمَا ما لَا تَصِحُّ فيه الشَّرِكَةُ من الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَصَارَ ذلك في يَدِهِ أَنَّهُ تَبْطُلُ الْمُفَاوَضَةُ لِبُطْلَانِ الْمُسَاوَاةِ التي هِيَ مَعْنَى الْعَقْدِ وَإِنْ وَرِثَ عُرُوضًا لَا تَبْطُلُ
وَكَذَا لو وَرِثَ دُيُونًا لَا تَبْطُلُ ما لم يَقْبِضْ الدُّيُونَ لِأَنَّهَا قبل الْقَبْضِ لَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ وَكَذَا لو ازْدَادَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ على الْآخَرِ قبل الشِّرَاءِ بِأَنْ كان
____________________

(6/78)


أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ وَالْآخَرُ دَنَانِيرَ فَإِنْ زَادَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا قبل الشِّرَاءِ بَطَلَتْ الْمُفَاوَضَةُ لِمَا قُلْنَا لِأَنَّ عَقْدَ الشَّرِكَةِ يَقِفُ تَمَامُهُ على الشِّرَاءِ فَكَانَ الْمَوْجُودُ قبل الشِّرَاءِ كَالْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ كَالْبَيْعِ لَمَّا كان تَمَامُهُ بِالْقَبْضِ كان هَلَاكُ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ كَهَلَاكِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَالزِّيَادَةُ وَقْتَ الْعَقْدِ تَمْنَعُ من الِانْعِقَادِ فإذا طَرَأَ عليه يُبْطِلُهُ
قال مُحَمَّدٌ وَكَذَلِكَ لو اشْتَرَى بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ ثُمَّ ازْدَادَ الْآخَرُ لِأَنَّ الشَّرِكَة لَا تَتِمُّ ما لم يَشْتَرِ بِالْمَالِ فَصَارَ كَأَنَّ الزِّيَادَةَ كانت وَقْتَ الْعَقْدِ فَإِنْ زَادَ الْمَالُ المشتري في قِيمَتِهِ كانت الْمُفَاوَضَةُ بِحَالِهَا لِأَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ تَحْدُثُ على مِلْكِهَا لِأَنَّهَا رِبْحٌ في الْمَالِ المشتري فَلَا يَفْضُلُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ
قال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقِيَاسُ إذَا اشْتَرَى بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ قبل صَاحِبِهِ أَنَّهُ تُنْتَقَضُ الْمُفَاوَضَةُ لِأَنَّ الْأَلْفَ التي لم يَشْتَرِ بها بَقِيَتْ على مِلْكِ صَاحِبِهَا وقد مَلَكَ صَاحِبُهَا نِصْفَ ما اشْتَرَاهُ الْآخَرُ فَصَارَ مَالُهُ أَكْثَرَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَبْطُلَ الْمُفَاوَضَةُ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَقَالُوا لَا تَبْطُلُ لِأَنَّ الذي اشْتَرَى وَجَبَ له على شَرِيكِهِ نِصْفُ الثَّمَنِ دَيْنًا فلم يَفْضُلْ الْمَالُ فَلَا تَبْطُلُ الْمُفَاوَضَةُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
كِتَابُ الْمُضَارَبَةِ يُحْتَاجُ في هذا الْكِتَابِ إلَى مَعْرِفَةِ جَوَازِ هذا الْعَقْدِ وَإِلَى مَعْرِفَةِ رُكْنِهِ وَإِلَى مَعْرِفَةِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَإِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ وَإِلَى مَعْرِفَةِ صِفَةِ الْعَقْدِ وَإِلَى مَعْرِفَةِ ما يَبْطُلُ بِهِ وَمَعْرِفَةِ حُكْمِهِ إذَا بَطَلَ وَإِلَى بَيَانِ حُكْمِ اخْتِلَافِ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ بِأَجْرٍ مَجْهُولٍ بَلْ بِأَجْرٍ مَعْدُومٍ وَلِعَمَلٍ مَجْهُولٍ لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ
أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ عز شَأْنُهُ { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ من فَضْلِ اللَّهِ } وَالْمُضَارِبُ يَضْرِبُ في الْأَرْضِ يَبْتَغِي من فَضْلِ اللَّهِ عز وجل وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فإذا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا في الْأَرْضِ وَابْتَغُوا من فَضْلِ اللَّهِ } وقَوْله تَعَالَى { ليس عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا من رَبِّكُمْ }
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال كان سَيِّدُنَا الْعَبَّاسُ بن عبد الْمُطَّلِبِ إذَا دَفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً اشْتَرَطَ على صَاحِبِهِ أَنْ لَا يَسْلُكَ بِهِ بَحْرًا وَلَا يَنْزِلَ بِهِ وَادِيًا وَلَا يَشْتَرِيَ بِهِ دَابَّةً ذَاتَ كَبِدٍ رَطْبَةٍ فَإِنْ فَعَلَ ذلك ضَمِنَ فَبَلَغَ شَرْطُهُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَأَجَازَ شَرْطَهُ وَكَذَا بُعِثَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالنَّاسُ يَتَعَاقَدُونَ الْمُضَارَبَةَ فلم يُنْكِرْ عليهم وَذَلِكَ تَقْرِيرٌ لهم على ذلك وَالتَّقْرِيرُ أَحَدُ وُجُوهِ السُّنَّةِ
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فإنه رُوِيَ عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ دَفَعُوا مَالَ الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً منهم سَيِّدُنَا عُمَرُ وَسَيِّدُنَا عُثْمَانُ وَسَيِّدُنَا عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بن عُمَرَ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بن عمرو ( ( ( عمر ) ) ) وَسَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ رضي اللَّهُ تعالى عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليهم من أَقْرَانِهِمْ أَحَدٌ وَمِثْلُهُ يَكُونُ إجْمَاعًا
وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَعُبَيْدَ اللَّهِ ابْنَيْ سَيِّدِنَا عُمَرَ قَدِمَا الْعِرَاقَ وأبو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَمِيرٌ بها فقال لَهُمَا لو كان عِنْدِي فَضْلٌ لَأَكْرَمَتْكُمَا وَلَكِنْ عِنْدِي مَالٌ لِبَيْتِ الْمَالِ أَدْفَعُهُ إلَيْكُمَا فَابْتَاعَا بِهِ مَتَاعًا وَاحْمِلَاهُ إلَى الْمَدِينَةِ وَبِيعَاهُ وَادْفَعَا ثَمَنَهُ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فلما قَدِمَا الْمَدِينَةَ قال لَهُمَا سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه هذا مَالُ الْمُسْلِمِينَ فَاجْعَلَا رِبْحَهُ لهم فَسَكَتَ عبد اللَّهِ وقال عُبَيْدُ اللَّهِ ليس لَك ذلك لو هَلَكَ مِنَّا لَضَمِنَّا فقال بَعْضُ الصَّحَابَةِ يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اجْعَلْهُمَا كَالْمُضَارِبَيْنِ في الْمَالِ لَهُمَا النِّصْفُ وَلِبَيْتِ الْمَالِ النِّصْفُ فَرَضِيَ بِهِ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه
وَعَلَى هذا تَعَامَلَ الناس من لَدُنْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا في سَائِرِ الْأَعْصَارِ من غَيْرِ إنْكَارٍ من أَحَدٍ
وَإِجْمَاعُ أَهْلِ كل عَصْرٍ حُجَّةٌ فَتُرِكَ بِهِ الْقِيَاسُ وَنَوْعٌ من الْقِيَاسِ يَدُلُّ على الْجَوَازِ أَيْضًا وهو أَنَّ الناس يَحْتَاجُونَ إلَى عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قد يَكُونُ له مَالٌ لَكِنَّهُ لَا يَهْتَدِي إلَى التِّجَارَةِ وقد يَهْتَدِي إلَى التِّجَارَةِ لَكِنَّهُ لَا مَالَ له فَكَانَ في شَرْعِ هذا الْعَقْدِ دَفْعُ الْحَاجَتَيْنِ وَاَللَّهُ تَعَالَى ما شَرَعَ الْعُقُودَ إلَّا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَدَفْعِ حَوَائِجِهِمْ
فَصْلٌ وَأَمَّا رُكْنُ الْعَقْدِ فَالْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَذَلِكَ بِأَلْفَاظٍ تَدُلُّ عَلَيْهِمَا فَالْإِيجَابُ هو لَفْظُ الْمُضَارَبَةِ وَالْمُقَارَضَةِ وَالْمُعَامَلَةِ وما يُؤَدِّي مَعَانِيَ هذه الْأَلْفَاظِ بِأَنْ يَقُولَ رَبُّ الْمَالِ خُذْ هذا الْمَالَ مُضَارَبَةً على أَنَّ ما رَزَقَ اللَّهُ عز وجل
____________________

(6/79)


أو أَطْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى منه من رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَنَا على كَذَا من نِصْفٍ أو رُبْعٍ أو ثُلُثٍ أو غَيْرِ ذلك من الْأَجْزَاءِ الْمَعْلُومَةِ وَكَذَا إذَا قال مُقَارَضَةً أو مُعَامَلَةً وَيَقُولُ الْمُضَارِبُ أَخَذْتُ أو رَضِيتُ أو قَبِلْتُ وَنَحْوُ ذلك فَيَتِمُّ الرُّكْنُ بَيْنَهُمَا
أَمَّا لَفْظُ الْمُضَارَبَةِ فَصَرِيحٌ مَأْخُوذٌ من الضَّرْبِ في الْأَرْضِ وهو السَّيْرُ فيها سُمِّيَ هذا الْعَقْدُ مُضَارَبَةً لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَسِيرُ في الْأَرْضِ وَيَسْعَى فيها لِابْتِغَاءِ الْفَضْلِ وَكَذَا لَفْظُ الْمُقَارَضَةِ صَرِيحٌ في عُرْفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِأَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الْمُضَارَبَةَ مُقَارَضَةً كما يُسَمُّونَ الْإِجَارَةَ بَيْعًا وَلِأَنَّ الْمُقَارَضَةَ مَأْخُوذَةٌ من الْقَرْضِ وهو الْقَطْعُ سُمِّيَتْ الْمُضَارَبَةُ مُقَارَضَةً لِمَا أَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَقْطَعُ يَدَهُ عن رَأْسَ الْمَالِ وَيَجْعَلُهُ في يَدِ الْمُضَارِبِ وَالْمُعَامَلَةُ لَفْظٌ يَشْتَمِلُ على الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَهَذَا مَعْنَى هذا الْعَقْدِ
وَلَوْ قال خُذْ هذا الْمَالَ وَاعْمَلْ بِهِ على أَنَّ ما رَزَقَ اللَّهُ عز وجل من شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا على كَذَا ولم يَزِدْ على هذا فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ أتى بِلَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَى هذا الْعَقْدِ وَالْعِبْرَةُ في الْعُقُودِ لِمَعَانِيهَا لَا لِصُوَرِ الْأَلْفَاظِ حتى يَنْعَقِدَ الْبَيْعُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ بِلَا خِلَافٍ وَيَنْعَقِدَ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ عِنْدَنَا
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ لو قال خُذْ هذه الْأَلْفَ فَابْتَعْ بها مَتَاعًا فما كان من فَضْلٍ فَلَكَ النِّصْفُ ولم يَزِدْ على هذا فَقَبِلَ هذا كان مُضَارَبَةً اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ مُضَارَبَةً
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ ذَكَرَ الشِّرَاءَ ولم يذكر الْبَيْعَ وَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ إلَّا بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْفَضْلَ وَلَا يَحْصُلُ الْفَضْلُ إلَّا بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فَكَانَ ذِكْرُ الِابْتِيَاعِ ذِكْرًا لِلْبَيْعِ وَهَذَا مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ
وَلَوْ قال خُذْ هذه الْأَلْفَ بِالنِّصْفِ ولم يَزِدْ عليه كان مُضَارَبَةً اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَنَّهُ لم يذكر الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْأَخْذَ وَالْأَخْذُ ليس عَمَلًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِوَضَ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالْعَمَلِ في الْمَأْخُوذِ وهو الشِّرَاءُ وَالْبَيْعُ فَتَضَمَّنَ ذِكْرُهُ ذِكْرَ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ
وَلَوْ قال خُذْ هذا الْمَالَ فَاشْتَرِ بِهِ هَرَوِيًّا بِالنِّصْفِ أو رَقِيقًا بِالنِّصْفِ ولم يَزِدْ على هذا شيئا فَاشْتَرَى كما أَمَرَهُ فَهَذَا فَاسِدٌ وَلِلْمُشْتَرِي أَجْرٌ مِثْلُ عَمَلِهِ فِيمَا اشْتَرَى وَلَيْسَ له أَنْ يَبِيعَ ما اشْتَرَى إلَّا بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الشِّرَاءَ ولم يذكر الْبَيْعَ وَلَا ذَكَرَ ما يُوجِبُ ذِكْرَ الْبَيْعِ لِيُحْمَلَ على الْمُضَارَبَةِ فَحُمِلَ على الِاسْتِئْجَارِ على الشِّرَاءِ بِأَجْرٍ مَجْهُولٍ وَذَلِكَ فَاسِدٌ فإذا اشْتَرَى كما أَمَرَهُ فَالْمُسْتَأْجِرُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَاسْتَحَقَّ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ وَلَيْسَ له أَنْ يَبِيعَ ما اشْتَرَى من غَيْرِ إذْنِ الْآمِرِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ لَا بِالْبَيْعِ فَكَانَ المشتري له فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ من غَيْرِ إذْنِهِ فَإِنْ بَاعَ منه شيئا لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ من غَيْرِ إجَازَةِ رَبِّ الْمَالِ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ إنْ لم يَقْدِرْ على عَيْنِهِ لِأَنَّهُ صَارَ مُتْلِفًا مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَإِنْ أَجَازَ رَبُّ الْمَالِ الْبَيْعَ وَالْمَتَاعُ قَائِمٌ جَازَ وَالثَّمَنُ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ لَحِقَهُ فإذا أَجَازَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ
وَكَذَلِكَ لو كان لَا يَدْرِي حاله أَنَّهُ قَائِمٌ أو هَالِكٌ فَأَجَازَ لِأَنَّ الْأَصْلَ هو بَقَاءُ الْمَبِيعِ حتى يَعْلَمَ هَلَاكَهُ وَإِنَّمَا شَرَطَ قِيَامَ الْمَبِيعِ لِأَنَّهُ شَرَطَ صِحَّةَ الْإِجَازَةِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ ما لَا يَكُونُ مَحِلًّا لِإِنْشَاءِ الْعَقْدِ عليه لَا يَكُونُ مَحِلًّا لِإِجَازَةِ الْعَقْدِ فيه وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ هَلَكَ فَالْإِجَازَةُ بَاطِلَةٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ
وَرَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ في رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِيَشْتَرِيَ بها وَيَبِيعَ فما رَبِحَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ وَلَا ضَمَانَ على الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ الْمَالَ ما لم يُخَالِفْ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ فَقَدْ أتى بِمَعْنَى الْمُضَارَبَةِ
وَكَذَلِكَ لو شَرَطَ عليه أَنَّ الْوَضِيعَةَ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا وَالْوَضِيعَةُ على رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ شَرْطَ الْوَضِيعَةِ على الْمُضَارِبِ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَتَبْقَى الْمُضَارَبَةُ
وَرُوِيَ عن عَلِيِّ بن الْجَعْدِ عن أبي يُوسُفَ لو أَنَّ رَجُلًا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ ولم يَقُلْ مُضَارَبَةً وَلَا بِضَاعَةً وَلَا قَرْضًا وَلَا شَرِكَةً وقال ما رَبِحَتْ فَهُوَ بَيْنَنَا فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فَكَانَ ذِكْرُ الرِّبْحِ ذِكْرًا لِلشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَهَذَا مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ
وَلَوْ قال خُذْ هذه الْأَلْفَ على أَنَّ لك نِصْفُ الرِّبْحِ أو ثُلُثُهُ ولم يَزِدْ على هذا فَالْمُضَارَبَةُ جَائِزَةٌ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا وَلِلْمُضَارِبِ ما شَرَطَ وما بَقِيَ فَلِرَبِّ الْمَالِ وَالْأَصْلُ في جِنْسِ هذه الْمَسَائِلِ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مَالِهِ لَا بِالشَّرْطِ فَلَا يَفْتَقِرُ اسْتِحْقَاقُهُ إلَى الشَّرْطِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا فَسَدَ الشَّرْطُ كان جَمِيعُ الرِّبْحِ له وَالْمُضَارِبُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِالشَّرْطِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ وَالْعَمَلُ لَا يُتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ
إذَا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ في هذه الْمَسْأَلَةِ إذَا سمى لِلْمُضَارِبِ جزأ مَعْلُومًا من الرِّبْحِ فَقَدْ وَجَدَ في حَقِّهِ ما يَفْتَقِرُ إلَى اسْتِحْقَاقِهِ الرِّبْحَ فَيَسْتَحِقُّهُ وَالْبَاقِي يَسْتَحِقُّهُ رَبُّ الْمَالِ بِمَالِهِ
وَلَوْ قال خُذْ هذا الْمَالَ
____________________

(6/80)


مُضَارَبَةً على أَنَّ لِيَّ نِصْفَ الرِّبْحِ ولم يَزِدْ على هذا فَالْقِيَاسُ أَنْ تَكُونَ الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَكِنَّهَا جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا وَيَكُونُ لِلْمُضَارِبِ النِّصْفُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لم يَجْعَلْ لِلْمُضَارِبِ شيئا مَعْلُومًا من الرِّبْحِ وَإِنَّمَا سَمَّى لِنَفْسِهِ النِّصْفَ فَقَطْ وَتَسْمِيَتُهُ لِنَفْسِهِ لَغْوٌ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا فَكَانَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عنه بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى التَّسْمِيَةِ في حَقِّ المضارب ( ( ( المضاربة ) ) ) ولم يُوجَدْ فَلَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَقْتَضِي الشَّرِكَةَ في الرِّبْحِ فَكَانَ تَسْمِيَةُ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ لِنَفْسِهِ تَسْمِيَةَ الْبَاقِي لِلْمُضَارِبِ كَأَنَّهُ قال خُذْ هذا الْمَالَ مُضَارَبَةً على أَنَّ لك النِّصْفَ كما في مِيرَاثِ الْأَبَوَيْنِ في قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَإِنْ لم يَكُنْ له وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } لَمَّا كان مِيرَاثُ الْمَيِّتِ لِأَبَوَيْهِ وقد جَعَلَ اللَّهُ عز وجل لِلْأُمِّ منه الثُّلُثَ كان ذلك جَعَلَ الْبَاقِي لِلْأَبِ
كَذَا هذا
وَلَوْ قال على أَنَّ لي نِصْفَ الرِّبْحِ وَلَكَ ثُلُثُهُ ولم يَزِدْ على هذا فَالثُّلُثُ لِلْمُضَارِبِ وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُضَارِبِ الرِّبْحَ بِالشَّرْطِ وَاسْتِحْقَاقَ رَبِّ الْمَالِ لِكَوْنِهِ من نَمَاءِ مَالِهِ فإذا سَلَّمَ الْمَشْرُوطَ لِلْمُضَارِبِ بِالشَّرْطِ يُسَلِّمُ الْمَسْكُوتَ عنه وهو الْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ لِكَوْنِهِ من نَمَاءِ مَالِهِ
وَلَوْ قال رَبُّ الْمَالِ على أَنَّ ما رَزَقَ اللَّهُ عز وجل فَهُوَ بَيْنَنَا جَازَ ذلك وكان الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ الْبَيْنَ كَلِمَةُ قِسْمَةٍ وَالْقِسْمَةُ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ إذَا لم يُبَيَّنْ فيها مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ قال اللَّهُ عز شَأْنُهُ { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ }
وقد فُهِمَ منها التَّسَاوِي في الشِّرْبِ قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { هذه نَاقَةٌ لها شِرْبٌ وَلِكَمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } هذا إذَا شُرِطَ جُزْءٌ من الرِّبْحِ في عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ لِأَحَدِهِمَا إمَّا الْمُضَارِبُ وَإِمَّا رَبُّ الْمَالِ وَسَكَتَ عن الْآخَرِ
فَأَمَّا إذَا شَرَطَ لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا بِأَنْ شَرَطَ فيه الثُّلُثَ لِلْمُضَارِبِ وَالثُّلُثَ لِرَبِّ الْمَالِ وَالثُّلُثَ لِثَالِثٍ سِوَاهُمَا فَإِنْ كان الثَّالِثُ أَجْنَبِيًّا أو كان ابْنَ الْمُضَارِبِ وَشَرَطَ عليه الْعَمَلَ جَازَ وكان الرِّبْحُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَإِنْ لم يَشْرِطْ عليه الْعَمَلَ لم يَجُزْ وما شَرَطَ له يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يُسْتَحَقُّ في الْمُضَارَبَةِ من غَيْرِ عَمَلٍ وَلَا مَالٍ وَصَارَ الْمَشْرُوطُ له كَالْمَسْكُوتِ عنه
وَإِنْ كان الثَّالِثُ عَبْدَ الْمُضَارِبِ فَإِنْ كان عليه دَيْنٌ فَكَذَلِكَ عِنْد أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أن شَرَطَ عَمَلَهُ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ فَكَانَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَإِنْ لم يَشْتَرِطْ عَمَلَهُ فما شَرَطَهُ فَهُوَ لِرَبِّ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْأَجْنَبِيِّ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْمَشْرُوطُ له يَكُونُ لِلْمُضَارِبِ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ كَسْبَهُ عِنْدَهُمَا كما يَمْلِكُ لو لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ
وَإِنْ كان الثَّالِثُ عَبْدَ رَبِّ الْمَالِ فَهُوَ على هذا التَّفْصِيلِ أَيْضًا أَنَّهُ إنْ كان عليه دَيْنٌ فَإِنْ شَرَطَ عَمَلَهُ فَهُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ أكسابه وَإِنْ لم يَشْتَرِطْ عَمَلَهُ فما شَرَطَ له فَهُوَ لِرَبِّ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا وَعِنْدَهُمَا ما شُرِطَ له فَهُوَ مَشْرُوطٌ لِمَوْلَاهُ عَمِلَ أو لم يَعْمَلْ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ كان عليه دَيْنٌ أو لَا فَإِنْ لم يَكُنْ على الْعَبْدِ دَيْنٌ فَفِي عبد الْمُضَارِبِ الثُّلُثَانِ لِلْمُضَارِبِ وَالثُّلُثُ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى فَكَانَ الْمَشْرُوطُ له مَشْرُوطًا لِلْمَوْلَى وَصَارَ كَأَنَّهُ شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ الثُّلُثَيْنِ وفي عبد رَبِّ الْمَالِ الثُّلُثُ لِلْمُضَارِبِ وَالثُّلُثَانِ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ له يَكُونُ مَشْرُوطًا لِمَوْلَاهُ إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَصَارَ كَأَنَّ رَبَّ الْمَالِ شَرَطَ لِنَفْسِهِ الثُّلُثَيْنِ
وَعَلَى هذا قالوا لو شَرَطَ ثُلُثَ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ وَالثُّلُثَ لِقَضَاءِ دَيْنِ الْمُضَارِبِ وَالثُّلُثَ لِرَبِّ الْمَالِ أن الثُّلُثَيْنِ لِلْمُضَارِبِ وَالثُّلُثَ لِرَبِّ الْمَالِ
وَكَذَا لو شَرَطَ ثُلُثَ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ وَالثُّلُثَ لِرَبِّ الْمَالِ وَالثُّلُثَ لِقَضَاءِ دَيْنِ رَبِّ الْمَالِ أن الثُّلُثَيْنِ لِرَبِّ الْمَالِ وَالثُّلُثَ لِلْمُضَارِبِ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ لِقَضَاءِ دَيْنِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَشْرُوطٌ له
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدَيْنِ وَهُمَا رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الرِّبْحِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدَيْنِ وَهُمَا رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ فَأَهْلِيَّةُ التَّوْكِيلِ وَالْوَكَالَةِ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ وَهَذَا مَعْنَى التَّوْكِيلِ
وقد ذَكَرَ شَرَائِطَ أَهْلِيَّةِ التَّوْكِيلِ وَالْوَكَالَةِ في كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ إسْلَامُهُمَا فَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بَيْن أَهْلِ الذِّمَّةِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ حتى لو دخل حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَدَفَعَ مَالَهُ إلَى مُسْلِمٍ مُضَارَبَةً أو دَفَعَ إلَيْهِ مُسْلِمٌ مَالَهُ مُضَارَبَةً فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ في دَارِنَا بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ وَالْمُضَارَبَةُ مع الذِّمِّيِّ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ فَكَذَلِكَ مع الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فَإِنْ كان الْمُضَارِبُ هو الْمُسْلِمُ فَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَعَمِلَ بِالْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ دخل دَارَ رَبِّ الْمَالِ فلم يُوجَدْ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا في دَارٍ وَاحِدَةٍ
وَإِنْ
____________________

(6/81)


كان الْمُضَارِبُ هو الْحَرْبِيَّ فَرَجَعَ إلَى دَارِهِ الْحَرْبِيُّ فَإِنْ كان بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّ الْمَالِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ وَإِنْ كان بِإِذْنِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَيَكُونُ على الْمُضَارَبَةِ وكون ( ( ( ويكون ) ) ) الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا على ما شَرَطَا إنْ رَجَعَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا أو مُعَاهِدًا أو بِأَمَانٍ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْمُضَارَبَةُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَمَّا عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بَطَلَ أَمَانُهُ وَعَادَ إلَى حُكْمِ الْحَرْبِ كما كان فَبَطَلَ أَمْرُ رَبِّ الْمَالِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فإذا تَصَرَّفَ فيه فَقَدْ تَعَدَّى بِالتَّصَرُّفِ فَمَلَكَ ما تَصَرَّفَ فيه
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ صَارَ كَأَنَّ رَبَّ الْمَالِ دخل معه وَلَوْ دخل رَبُّ الْمَالِ معه إلَى دَارِ الْحَرْبِ لم تَبْطُلْ الْمُضَارَبَةُ فَكَذَا إذَا دخل بِأَمْرِهِ بِخِلَافِ ما إذَا دخل بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا لم يَأْذَنْ له بِالدُّخُولِ انْقَطَعَ حُكْمُ رَبِّ الْمَالِ عنه فَصَارَ تَصَرُّفُهُ لِنَفْسِهِ فَمَلَكَ الْأَمْرَ بِهِ
وقد قالوا في الْمُسْلِمِ إذَا دخل دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَدَفَعَ إلَيْهِ حَرْبِيٌّ مَالًا مُضَارَبَةً مِائَةَ دِرْهَمٍ أَنَّهُ على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ جَائِزٌ فَإِنْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ على هذا وَرَبِحَ أو وُضِعَ فَالْوَضِيعَةُ على رَبِّ الْمَالِ وَالرِّبْحُ على ما اشْتَرَطَ وَيَسْتَوْفِي الْمُضَارِبُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ وَإِنْ لم يَكُنْ في الْمَالِ رِبْحٌ إلَّا مِائَةً فَهِيَ كُلُّهَا لِلْمُضَارِبِ وَإِنْ كان أَقَلَّ من مِائَةٍ فَذَلِكَ لِلْمُضَارِبِ أَيْضًا وَلَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ على رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لم يَشْتَرِطْ الْمِائَةَ إلَّا من الرِّبْحِ
فَأَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفَ فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ وَهَذَا فَرَّعَ اخْتِلَافَهُمْ في جَوَازِ الرِّبَا في دَارِ الْحَرْبِ لِمَا عُلِمَ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ من الدَّرَاهِمِ أو الدَّنَانِيرِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ فَلَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ وَعِنْدَ مَالِكٍ هذا ليس بِشَرْطٍ وَتَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا في كِتَابِ الشَّرِكَةِ أَنَّ رِبْحَ ما يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ رِبْحٌ ما لم يُضْمَنْ
لِأَنَّ الْعُرُوضَ تَتَعَيَّنُ عِنْدَ الشِّرَاءِ بها وَالْمُعَيَّنُ غَيْرُ مَضْمُونٍ حتى لو هَلَكَتْ قبل التَّسْلِيمِ لَا شَيْءَ على الْمُضَارِبِ فَالرِّبْحُ عليها يَكُونُ رِبْحَ ما لم يُضْمَنْ وَنَهَى رسول اللَّهِ عن رِبْحِ ما لم يُضْمَنْ وما لَا يُتَعَيَّنُ يَكُونُ مَضْمُونًا عِنْدَ الشِّرَاءِ بِهِ حتى لو هَلَكَتْ الْعَيْنُ قبل التَّسْلِيمِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي بِهِ ضَمَانُهُ فَكَانَ الرِّبْحُ على ما في الذِّمَّةِ فَيَكُونُ رِبْحَ الْمَضْمُونِ وَلِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالْعُرُوضِ تُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ لِأَنَّ قِيمَةَ الْعُرُوضِ تُعْرَفُ بالحزر ( ( ( بالحرز ) ) ) وَالظَّنِّ وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ وَالْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَالْمُنَازَعَةُ تُفْضِي إلَى الْفَسَادِ
وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وقد قالوا إنَّهُ لو دَفَعَ إلَيْهِ عُرُوضًا فقال له بِعْهَا وَاعْمَلْ بِثَمَنِهَا مُضَارَبَةً فَبَاعَهَا بِدَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ وَتَصَرَّفَ فيها جَازَ لِأَنَّهُ لم يُضِفْ الْمُضَارَبَةَ إلَى الْعُرُوضِ وَإِنَّمَا أَضَافَهَا إلَى الثَّمَنِ وَالثَّمَنُ تَصِحُّ بِهِ الْمُضَارَبَةُ فَإِنْ بَاعَهَا بِمَكِيلٍ أو مَوْزُونٍ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ بِنَاءً على أَصْلِهِ في الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا أَنَّهُ يَبِيعُ بِالْأَثْمَانِ وَغَيْرِهَا إلَّا أَنَّ الْمُضَارَبَةَ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُضَافَةً إلَى ما لَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِهِ وهو الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَالْبَيْعُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِغَيْرِ الْأَثْمَانِ وَلَا تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ لِأَنَّهَا لم تَصِرْ مُضَافَةً إلَى ما لَا يَصْلُحُ بِهِ رَأْسُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ
وَأَمَّا تِبْرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَقَدْ جَعَلَهُ في هذا الْكِتَابِ بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ وَجَعَلَهُ في كِتَابِ الصَّرْفِ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَالْأَمْرُ فيه مَوْكُولٌ إلَى التَّعَامُلِ فَإِنْ كان الناس يَتَعَامَلُونَ بِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فَتَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَتَعَامَلُونَ بِهِ فَهُوَ كَالْعُرُوضِ فَلَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ
وَأَمَّا الزُّيُوفُ وَالنَّبَهْرَجَةِ فَتَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بها ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ كَالْجِيَادِ
وَأَمَّا السَّتُّوقَةُ فَإِنْ كانت لَا تُرَوَّجُ فَهِيَ كَالْعُرُوضِ وَإِنْ كانت تُرَوَّجُ فَهِيَ كَالْفُلُوسِ وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ في الدَّرَاهِمِ التِّجَارِيَّةِ لَا يَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بها لِأَنَّهَا كَسَدَتْ عِنْدَهُمْ وَصَارَتْ سِلْعَةً قال وَلَوْ أَجَزْتُ الْمُضَارَبَةَ بها أَجَزْتُهَا بِمَكَّةَ بِالطَّعَامِ لِأَنَّهُمْ يَتَبَايَعُونَ بِالْحِنْطَةِ كما يَتَبَايَعُ غَيْرُهُمْ بِالْفُلُوسِ
وَأَمَّا الْفُلُوسُ فَقَدْ ذَكَرْنَا الْكَلَامَ فيها في كِتَابِ الشَّرِكَةِ
فَالْحَاصِلُ أَنَّ في جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ بها رِوَايَتَيْنِ عن أبي حَنِيفَةَ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْمُضَارَبَةِ الْكَبِيرَةِ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وقال لَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ إلَّا بِالدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَرَوَى الْحَسَنُ عنه أنها تَجُوزُ
وَالصَّحِيحُ من مَذْهَبِ أبي يُوسُفَ أنها لَا تَجُوزُ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَجُوزُ بِنَاءً على أَنَّ الْفُلُوسَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ عِنْدَهُ فَكَانَتْ أَثْمَانًا كَالدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ تَتَعَيَّنُ فَكَانَتْ كَالْعُرُوضِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا فَإِنْ كان مَجْهُولًا لَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ لِأَنَّ جَهَالَةَ رَأْسِ الْمَالِ تُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ وَكَوْنُ الرِّبْحِ مَعْلُومًا شَرْطَ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ
وَمِنْهَا
____________________

(6/82)


أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا لَا دَيْنًا فَإِنْ كان دَيْنًا فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا كان لِرَبِّ الْمَالِ على رَجُلٍ دَيْنٌ فقال له اعْمَلْ بِدَيْنِي الذي في ذِمَّتِكَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ أن الْمُضَارَبَةَ فَاسِدَةٌ بِلَا خِلَافٍ فَإِنْ اشْتَرَى هذا الْمُضَارِبُ وَبَاعَ له رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ وَالدَّيْنُ في ذِمَّتِهِ بِحَالٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا ما اشْتَرَى وَبَاعَ لِرَبِّ الْمَالِ له رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضَيْعَتُهُ بِنَاءً على أَنَّ من وَكَّلَ رَجُلًا يَشْتَرِي له بِالدَّيْنِ الذي في ذِمَّتِهِ لم يَصِحَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ حتى لو اشْتَرَى لَا يَبْرَأُ عَمَّا في ذِمَّتِهِ عِنْدَهُ وإذا لم يَصِحَّ الْأَمْرُ بِالشِّرَاءِ بِمَا في الذِّمَّةِ لم تَصِحَّ إضَافَةُ الْمُضَارَبَةِ إلَى ما في الذِّمَّةِ وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ وَلَكِنْ لَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ فَتَصِيرُ الْمُضَارَبَةُ بَعْدَ ذلك مُضَارَبَةً بِالْعُرُوضِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ في التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ الْعُرُوضِ ثُمَّ دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً فَتَصِيرُ مُضَارَبَةً بِالْعُرُوضِ فَلَا تَصِحُّ
وَلَوْ قال لِرَجُلٍ اقْبِضْ مَالِي على فُلَانٍ من الدَّيْنِ وَاعْمَلْ بِهِ مُضَارَبَةً جَازَ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ هُنَا أُضِيفَتْ إلَى الْمَقْبُوضِ فَكَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا لَا دَيْنًا وَلَوْ أَضَافَ الْمُضَارَبَةَ إلَى عَيْنٍ هِيَ أَمَانَةٌ في يَدِ الْمُضَارِبِ من الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ بِأَنْ قال لِلْمُودَعِ أو الْمُسْتَبْضَعِ اعْمَلْ بِمَا في يَدكَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ جَازَ ذلك بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ أَضَافَهَا إلَى مَضْمُونَةٍ في يَدِهِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَغْصُوبَةِ فقال لِلْغَاصِبِ اعْمَلْ بِمَا في يَدِكِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ جَازَ ذلك عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ بن زِيَادٍ وقال زُفَرُ لَا يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَقْتَضِي كَوْنَ الْمَالِ أَمَانَةً في يَدِ الْمُضَارِبِ وَالْمَغْصُوبُ مَغْصُوبٌ في يَدِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّصَرُّفُ لِلْمُضَارَبَةِ فَلَا يَصِحُّ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ ما في يَدِهِ مَضْمُونٌ إلَى أَنْ يَأْخُذَ في الْعَمَلِ فإذا أَخَذَ في الْعَمَلِ وهو الشِّرَاءُ تَصِيرُ أَمَانَةً في يَدِهِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ فَتَصِحُّ وَسَوَاءٌ كان رَأْسُ الْمَالِ مَفْرُوزًا أو مُشَاعًا بِأَنْ دَفَعَ مَالًا إلَى رَجُلٍ بَعْضُهُ مُضَارَبَةً وَبَعْضُهُ غَيْرِ مُضَارَبَةٍ مُشَاعًا في الْمَالِ فَالْمُضَارَبَةُ جَائِزَةٌ لِأَنَّ الْإِشَاعَةَ لَا تَمْنَعُ من التَّصَرُّفِ في الْمَالِ فإن الْمُضَارِبَ يَتَمَكَّنُ من التَّصَرُّفِ في الْمُشَاعِ وَكَذَا الشَّرِكَةُ لَا تَمْنَعُ الْمُضَارَبَةَ فإن الْمُضَارِبَ إذَا رَبِحَ يَصِيرُ شَرِيكًا في الْمَالِ وَيَجُوزُ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ ذلك على الْمُضَارَبَةِ فإذا لم يُمْنَعْ الْبَقَاءُ لَا يُمْنَعُ الِابْتِدَاءُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فقال نِصْفُهَا عَلَيْكَ قَرْضٌ وَنِصْفُهَا مُضَارَبَةٌ أن ذلك جَائِزٌ
أَمَّا جَوَازُ الْمُضَارَبَةِ فَلِمَا قُلْنَا وَأَمَّا جَوَازُ الْقَرْضِ في الْمُشَاعِ وَإِنْ كان الْقَرْضُ تَبَرُّعًا وَالشِّيَاعُ يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّبَرُّعِ كَالْهِبَةِ فَلِأَنَّ الْقَرْضَ ليس بِتَبَرُّعٍ مُطْلَقٍ لِأَنَّهُ وَإِنْ كان في الْحَالِ تَبَرُّعًا لِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ لِلْحَالِ فَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِعِوَضٍ في الثَّانِي أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاجِبَ فيه رَدُّ الْمِثْلِ لَا رَدُّ الْعَيْنِ فلم يَكُنْ تَبَرُّعًا من كل وَجْهٍ فَلَا يَعْمَلُ فيه الشُّيُوعُ بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَإِنَّهَا تَبَرُّعٌ مَحْضٌ فَعَمِلَ الشُّيُوعُ فيها وإذا جَازَ الْقَرْضُ وَالْمُضَارَبَةُ كان نِصْفُ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ لِأَنَّهُ رِبْحٌ مَلَكَهُ وهو الْقَرْضُ وَوَضِيعَتُهُ عليه وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ على ما شَرَطَا لِأَنَّهُ رِبْحٌ مُسْتَفَادٌ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَوَضِيعَتُهُ على رَبِّ الْمَالِ وَلَا تَجُوزُ قِسْمَةُ أَحَدِهِمَا دُونَ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ مَالٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِقِسْمَتِهِ
قالوا وَلَوْ كان قال له خُذْ هذه الْأَلْفَ على أَنَّ نِصْفَهَا قَرْضٌ عَلَيْكَ على أَنْ تَعْمَلَ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ مُضَارَبَةً على أَنَّ الرِّبْحَ لي فَهَذَا مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةً في مُقَابَلَةِ الْقَرْضِ وقد نهى رسول اللَّهِ عن قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا فَإِنْ عَمِلَ على هذا فَرَبِحَ أو وُضِعَ فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَكَذَا الْوَضِيعَةُ
أَمَّا الرِّبْحُ فَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ مَلَكَ نِصْفَ الْمَالِ بِالْقَرْضِ فَكَانَ نِصْفُ الرِّبْحِ له وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بِضَاعَةً في يَدِهِ فَكَانَ رِبْحُهُ لِرَبِّ الْمَالِ
وَأَمَّا الْوَضِيعَةُ فَلِأَنَّهَا جُزْءٌ هَالِكٌ من الْمَالِ وَالْمَالُ مُشْتَرَكٌ فَكَانَتْ الْوَضِيعَةُ على قَدْرِهِ وَلَوْ قال خُذْ هذه الْأَلْفَ على أَنَّ نِصْفَهَا مُضَارَبَةٌ بِالنِّصْفِ وَنِصْفَهَا هِبَةٌ فَقَبَضَهَا الْمُضَارِبُ على ذلك غير مَقْسُومٍ فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهَا هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَإِنْ عَمِلَ في الْمَالِ فَرَبِحَ كان نِصْفُ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ حِصَّةَ الْهِبَةِ وَنِصْفُ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا على ما شَرَطَا وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِمَا
أَمَّا نِصْفُ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ حِصَّةُ الْهِبَةِ فَلِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ له فيه إذَا قَبَضَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَكَانَ رِبْحُهُ له وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ فَإِنَّمَا يَكُونُ رِبْحُهُ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ لِأَنَّهُ اُسْتُفِيدَ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ مُضَارَبَةً صَحِيحَةً
وَأَمَّا كَوْنُ الْوَضِيعَةِ عَلَيْهِمَا فَلِأَنَّهَا جُزْءٌ هَالِكٌ من الْمَالِ وَالْمَالُ مُشْتَرَكٌ فَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ في يَدِ الْمُضَارِبِ قبل أَنْ يَعْمَلَ أو بَعْدَ ما عَمِلَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ الْمَالِ وهو الْهِبَةُ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَكَانَ مَضْمُونًا عليه كَالْمَقْبُوضِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ وَلَوْ كان دَفَعَ نِصْفَ الْمَالِ بِضَاعَةً وَنِصْفَهُ مُضَارَبَةً
____________________

(6/83)


فَقَبَضَهُ الْمُضَارِبُ على ذلك فَهُوَ جَائِزٌ وَالْمَالُ على ما سَمَّيَا من الْمُضَارَبَةِ وَالْبِضَاعَةُ وَالْوَضِيعَةُ على رَبِّ الْمَالِ وَنِصْفُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ وَنِصْفُهُ على ما شَرَطَا لِأَنَّ الْإِشَاعَةَ لَا تَمْنَعُ من الْعَمَلِ في الْمَالِ مُضَارَبَةً وَبِضَاعَةً وَجَازَتْ الْمُضَارَبَةُ وَالْبِضَاعَةُ
وَإِنَّمَا كانت الْوَضِيعَةُ على رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ على الْمُبْضِعِ وَالْمُضَارِبِ في الْبِضَاعَةِ وَالْمُضَارَبَةُ وَحِصَّةُ الْبِضَاعَةِ من الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ خَاصَّةً لِأَنَّ الْمُبْضِعَ لَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ وَحِصَّةُ الْمُضَارَبَةِ بَيْنَهُمَا على ما شَرَطَا لِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ من مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالْمُضَارَبَةُ قد صَحَّتْ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ
وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ على أَنَّ نِصْفَهَا وَدِيعَةٌ في يَدِ الْمُضَارِبِ وَنِصْفُهَا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَالْمَالُ في يَدِ الْمُضَارِبِ على ما سَمَّيَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعْنِي الْوَدِيعَةَ وَالْمُضَارَبَةَ أَمَانَةٌ فَلَا يَتَنَافَيَانِ فَكَانَ نِصْفُ الْمَالِ في يَدِ الْمُضَارِبِ وَدِيعَةً وَنِصْفُهُ مُضَارَبَةً إلَّا أَنَّ التَّصَرُّفَ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ من الْمَالِ بَعْضُهُ مُضَارَبَةٌ وَبَعْضُهُ وَدِيعَةٌ وَالتَّصَرُّفُ في الْوَدِيعَةِ لَا يَجُوزُ
فَإِنْ قَسَمَ الْمُضَارِبُ الْمَالَ نِصْفَيْنِ ثُمَّ عَمِلَ بِأَحَدِ النِّصْفَيْنِ على الْمُضَارَبَةِ فَرَبِحَ أو وُضِعَ فَالْوَضِيعَةُ عليه وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ نِصْفَانِ وَنِصْفُ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ وَنِصْفُهُ على ما شَرَطَا لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمُضَارِبِ الْمَالَ لم تَصِحَّ لِأَنَّ الْمَالِكَ لم يَأْذَنْ له فيها فإذا أُفْرِزَ بَعْضُهُ فَقَدْ تَصَرَّفَ في مَالِ الْوَدِيعَةِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ فما كان في حِصَّةِ الْوَدِيعَةِ فَهُوَ غَصْبٌ فَيَكُونُ رِبْحُهُ لِلْغَاصِبِ وما كان في حِصَّةِ الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ على الشَّرْطِ
وَمِنْ هذا الْجِنْسِ ما إذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَتَاعًا فَبَاعَ نِصْفَهُ من الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ بِخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ النِّصْفَ الْبَاقِي وَيَعْمَلَ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ مُضَارَبَةً على أَنَّ ما رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى من شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ فَبَاعَ الْمُضَارِبُ نِصْفَ الْمَتَاعِ بِخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ عَمِلَ بها وَبِالْخَمْسِمِائَةِ التي عليه فَرَبِحَ في ذلك أو وُضِعَ فَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ في قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ من مَذْهَبِهِ أَنَّ من كان له على رَجُلٍ دَيْنٌ فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ له بِذَلِكَ الدَّيْنِ شيئا لَا يَصِحُّ والمشتري يَكُونُ لِلْمَأْمُورِ لَا لِلْآمِرِ وَيَكُونُ الدَّيْنُ على الْمَأْمُورِ حاله
وإذا كان كَذَلِكَ فهنا ( ( ( فههنا ) ) ) أَمْرٌ أَنْ يَعْمَلَ بِالدَّيْنِ وَبِنِصْفِ ثَمَنِ الْمُبَاعِ فما رَبِحَ في حِصَّةِ الدَّيْنِ فَهُوَ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ رِبْحُهُ له وما رَبِحَ في نَصِيبِ الدَّافِعِ فَهُوَ لِلدَّافِعِ وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْمَالَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَكَانَ الْهَالِكُ بَيْنَهُمَا
وَأَمَّا في قِيَاسِ قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَمِقْدَارُ ما رَبِحَ في الْخَمْسِمِائَةِ التي أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ نِصْفَ الْمَتَاعِ بها فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ على ما شَرَطَا وما رَبِحَ في النِّصْفِ الذي عليه من الدَّيْنِ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ من أَصْلِهِمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالشِّرَاءِ بِالدَّيْنِ يَصِحُّ وَتَكُونُ الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةً لِأَنَّهُ إذَا اشْتَرَى صَارَ عُرُوضًا وَالْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ لَا تَصِحُّ فَصَارَتْ الْمُضَارَبَةُ هُنَا جَائِزَةً في النِّصْفِ فَاسِدَةً في النِّصْفِ فَالرِّبْحُ في الصَّحِيحَةِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ وفي الْفَاسِدَةِ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ
وَلَوْ شَرَطَ الدَّافِعُ لِنَفْسِهِ الثُّلُثَ وَلِلْمُضَارِبِ الثُّلُثَيْنِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فإن في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ ثُلُثَا الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ على ما اشْتَرَطَا نِصْفُ الرِّبْحِ من نَصِيبِ الْمُضَارِبِ خَاصَّةً وَالسُّدُسُ من نَصِيبِ الدَّافِعِ كَأَنَّهُ قال له اعْمَلْ في نَصِيبِكَ على أَنَّ الرِّبْحَ لك وَاعْمَلْ في نَصِيبِي على أَنَّ لك ثُلُثَ الرِّبْحِ من نَصِيبِي
وَأَمَّا على قِيَاسِ قَوْلِهِمَا فَقَدْ دَفَعَ إلَيْهِ نِصْفَهُ مُضَارَبَةً جَائِزَةً وَنِصْفَهُ مُضَارَبَةً فَاسِدَةً فما رَبِحَ في النِّصْفِ الذي كان دَيْنًا فَهُوَ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ وما رَبِحَ في النِّصْفِ الذي هو ثَمَنُ الْمَتَاعِ فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا على ما شَرَطَا فَصَارَ لِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثَا الرِّبْحِ وَلِلْمُضَارِبِ الثُّلُثُ
وَإِنْ كان شَرَطَ لِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثَيْ الرِّبْحِ وَلِلْمُضَارِبِ الثُّلُثُ فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ شَرَطَ النِّصْفَ من نَصِيبِ نَفْسِهِ وَالزِّيَادَةَ من نَصِيبِ الْمُضَارِبِ وَشَرْطُ الزِّيَادَةِ من غَيْرِ عَمَلٍ وَلَا رَأْسِ مَالٍ بَاطِلٌ فَيَكُونُ الرِّبْحُ على قَدْرِ الْمَالِ
وفي قِيَاسِ قَوْلِهِمَا نِصْفُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ خَاصَّةً لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ فيه فَاسِدَةٌ وَلِلْمُضَارِبِ ثُلُثُ رِبْحِ النِّصْفِ الْآخَرِ
وَمِنْهَا تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ إلَى الْمُضَارِبِ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ وهو التَّخْلِيَةُ كَالْوَدِيعَةِ وَلَا يَصِحُّ مع بَقَاءِ يَدِ الدَّافِعِ على الْمَالِ لِعَدَمِ التَّسْلِيمِ مع بَقَاءِ يَدِهِ حتى لو شَرَطَ بَقَاءَ يَدِ الْمَالِكِ على الْمَالِ فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ لِمَا قُلْنَا
فَرِّقْ بين هذا وَبَيْنَ الشَّرِكَةِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ مع بَقَاءِ يَدِ رَبِّ الْمَالِ على مَالِهِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ انْعَقَدَتْ على رَأْسِ مَالٍ من أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَعَلَى الْعَمَلِ من الْجَانِبِ الْآخَرِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَمَلُ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِهِ من يَدِ رَبِّ الْمَالِ فَكَانَ هذا شَرْطًا مُوَافِقًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ لِأَنَّهَا انْعَقَدَتْ على الْعَمَلِ من الْجَانِبَيْنِ فَشَرْطُ زَوَالِ يَدِ رَبِّ الْمَالِ عن الْعَمَلِ يُنَاقِضُ
____________________

(6/84)


مُقْتَضَى الْعَقْدِ
وَكَذَا لو شَرَطَ في الْمُضَارَبَةِ عَمَلَ رَبِّ الْمَالِ فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ سَوَاءٌ عَمِلَ رَبُّ الْمَالِ معه أو لم يَعْمَلْ لِأَنَّ شَرْطَ عَمَلِهِ معه شَرْطُ بَقَاءِ يَدِهِ على الْمَالِ وأنه شَرْطٌ فَاسِدٌ
وَلَوْ سَلَّمَ رَأْسَ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ ولم يَشْتَرِطْ عَمَلَهُ ثُمَّ اسْتَعَانَ بِهِ على الْعَمَلِ أو دَفَعَ إلَيْهِ الْمَالَ بِضَاعَةً جَازَ لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ لَا تُوجِبُ خُرُوجَ الْمَالِ عن يَدِهِ وَسَوَاءٌ كان الْمَالِكُ عَاقِدًا أو غير عَاقِدٍ لَا بُدَّ من زَوَالِ يَدِ رَبِّ الْمَالِ عن مَالِهِ لِتَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ حتى إنَّ الْأَبَ أو الْوَصِيَّ إذَا دَفَعَ مَالَ الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً وَشَرَطَ عَمَلَ الصَّغِيرِ لم تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ لِأَنَّ يَدَ الصَّغِيرِ بَاقِيَةٌ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ فَتَمْنَعُ التَّسْلِيمَ
وَكَذَلِكَ أَحَدُ شَرِيكَيْ الْمُفَاوَضَةِ أو الْعِنَانِ إذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً وَشَرَطَ عَمَلَ شَرِيكِهِ مع الْمُضَارِبِ لِأَنَّ لِشَرِيكِهِ فيه مِلْكًا فَيُمْنَعُ التَّسْلِيمُ
فَأَمَّا الْعَاقِدُ إذَا لم يَكُنْ مَالِكًا لِلْمَالِ فَشَرَطَ أَنْ يَتَصَرَّفَ في الْمَالِ مع الْمُضَارِبِ فَإِنْ كان مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ الْمَالِكِ مُضَارَبَةً لم تَفْسُدْ الْمُضَارَبَةُ كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ إذَا دَفَعَا مَالَ الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً وَشَرَطَا أَنْ يَعْمَلَا مع الْمُضَارِبِ بِجُزْءٍ من الرِّبْحِ لِأَنَّهُمَا لو أَخَذَا مَالَ الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً بِأَنْفُسِهِمَا جَازَ فَكَذَا إذَا شَرَطَا عَمَلَهُمَا مع الْمُضَارِبِ وَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ
وَإِنْ كان الْعَاقِدُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ الْمَالِكِ مُضَارَبَةً فَشَرَطَ عَمَلَهُ فَسَدَ الْعَقْدُ كَالْمَأْذُونِ إذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً وَشَرَطَ عَمَلَهُ مع الْمُضَارِبِ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ وَإِنْ لم يَكُنْ مَالِكًا رَقَبَةَ الْمَالِ فَيَدُ التَّصَرُّفِ ثَابِتَةٌ له عليه فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى التَّصَرُّفِ فَكَانَ قِيَامُ يَدِهِ مَانِعًا من التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْمُضَارَبَةِ
وَإِنْ شَرَطَ الْمَأْذُونُ عَمَلَ مَوْلَاهُ مع الْمُضَارِبِ وَلَا دَيْنَ عليه فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ الْمَوْلَى هو الْمَالِكُ لِلْمَالِ حَقِيقَةً فإذا حَصَلَ الْمَالُ في يَدِهِ فَقَدْ وَجَدَ يَدَ الْمَالِكِ فَيَمْنَعُ التَّسْلِيمَ وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ فَالْمُضَارَبَةُ جَائِزَةٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ هذا الْمَالِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ إذَا شَرَطَ عَمَلَ مَوْلَاهُ لم تَفْسُدْ الْمُضَارَبَةُ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ أكساب مُكَاتَبِهِ وهو فيها كَالْأَجْنَبِيِّ
وَلَوْ دَفَعَ إلَى إنْسَانٍ مَالًا مُضَارَبَةً وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ وَدَفَعَهُ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً على أَنْ يَعْمَلَ الْمُضَارِبُ معه أو يَعْمَلَ معه رَبُّ الْمَالِ فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ الْيَدَ لِلْمُضَارِبِ وَالْمِلْكَ لِلْمَوْلَى وَكُلُّ ذلك يَمْنَعُ من التَّسْلِيمِ
وقد قالوا في الْمُضَارِبِ إذَا دَفَعَ الْمَالَ إلَى رَبِّ الْمَالِ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ فَالْمُضَارَبَةُ الثَّانِيَةُ فَاسِدَةٌ وَالْمُضَارَبَةُ الْأُولَى على حَالِهَا جَائِزَةٌ وَالرِّبْحُ بين رَبِّ الْمَالِ وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ على ما شَرَطَا في الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى وَلَا أَجْرَ لِرَبِّ الْمَالِ
أما فَسَادُ الْمُضَارَبَةِ الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّ يَدَ رَبِّ الْمَالِ يَدُ مِلْكٍ وَيَدُ الْمِلْكِ مع يَدِ الْمُضَارِبِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَلَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ الثَّانِيَةُ وَبَقِيَتْ الْمُضَارَبَةُ الْأُولَى على حَالِهَا ولم يذكر الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيُّ خِلَافًا وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ هذا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَنْفَسِخُ الْمُضَارَبَةُ الْأُولَى بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ وَالرَّدِّ عليه
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ زَوَالَ يَدِ رَبِّ الْمَالِ شَرْطُ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ فَكَانَتْ إعَادَةُ يَدِهِ إلَيْهِ مُفْسِدَةً لها
وَلَنَا أَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَصِيرُ مُعِينًا لِلْمُضَارِبِ وَالْإِعَانَةُ لَا تُوجِبُ إخْرَاجَ الْمَالِ عن يَدِهِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ الْأَوَّلُ وَلَا أَجْرَ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ عَمِلَ في مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الرِّبْحِ فَأَنْوَاعٌ منها إعْلَامُ مِقْدَارِ الرِّبْحِ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه هو الرِّبْحُ وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عليه تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ عن أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ في الرِّبْحِ ولم يُبَيِّنْ مِقْدَارَ الرِّبْحِ جَازَ ذلك وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ قال اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ { فَهُمْ شُرَكَاءُ في الثُّلُثِ } وَلَوْ قال على أَنَّ لِلْمُضَارِبِ شِرْكًا في الرِّبْحِ جَازَ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وقال مُحَمَّدٌ الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الشَّرِكَةَ هِيَ النَّصِيبُ
قال اللَّهُ تَعَالَى { أَمْ لهم شِرْكٌ في السماوات ( ( ( السموات ) ) ) } أَيْ نَصِيبٌ
وقال تَعَالَى { وما لهم فِيهِمَا من شِرْكٍ } أَيْ نَصِيبٍ فَقَدْ جَعَلَ له نَصِيبًا من الرِّبْحِ وَالنَّصِيبُ مَجْهُولٌ فَصَارَ الرِّبْحُ مَجْهُولًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الشِّرْكَ بِمَعْنَى الشَّرِكَةِ يُقَالُ شَرَكْتُهُ في هذا الْأَمْرِ أَشْرَكُهُ شِرْكَةً وَشِرْكًا قال الْقَائِلُ وَشَارَكْنَا قُرَيْشًا في بَقَاهَا وفي أَحْسَابِهَا شِرْكَ الْعِنَانِ وَيُذْكَرُ بِمَعْنَى النَّصِيبِ أَيْضًا لَكِنْ في الْحَمْلِ على الشَّرِكَةِ تَصْحِيحٌ لِلْعَقْدِ فَيُحْمَلُ عليها وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا من الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ من الرِّبْحِ جُزْءًا شَائِعًا نِصْفًا أو ثُلُثًا أو رُبْعًا فَإِنْ شَرَطَا عَدَدًا مُقَدَّرًا بِأَنْ
____________________

(6/85)


شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا مِائَةُ دِرْهَمٍ من الرِّبْحِ أو أَقَلُّ أو أَكْثَرُ وَالْبَاقِي لِلْآخَرِ لَا يَجُوزُ وَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ نَوْعٌ من الشَّرِكَةِ وَهِيَ الشَّرِكَةُ في الرِّبْحِ وَهَذَا شَرْطٌ يُوجِبُ قَطْعَ الشَّرِكَةِ في الرِّبْحِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَرْبَحَ الْمُضَارِبُ إلَّا هذا الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ فَيَكُونُ ذلك لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الشَّرِكَةُ فَلَا يَكُونُ التَّصَرُّفُ مُضَارَبَةً
وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا النِّصْفُ أو الثُّلُثُ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ أو قَالَا إلَّا مِائَةَ دِرْهَمٍ فإنه لَا يَجُوزُ كما ذَكَرْنَا أَنَّهُ شَرْطٌ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ في الرِّبْحِ لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا النِّصْفَ وَمِائَةً فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مِائَتَيْنِ فَيَكُونَ كُلُّ الرِّبْحِ لِلْمَشْرُوطِ له وإذا شرط ( ( ( شرطا ) ) ) له النِّصْفَ إلَّا مِائَةً فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الرِّبْحِ مِائَةً فَلَا يَكُونُ له شَيْءٌ من الرِّبْحِ
وَلَوْ شَرَطَا في الْعَقْدِ أَنْ تَكُونَ الْوَضِيعَةُ عَلَيْهِمَا بَطَلَ الشَّرْطُ وَالْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةٌ وَالْأَصْلُ في الشَّرْطِ الْفَاسِدِ إذَا دخل في هذا الْعَقْدِ أَنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كان يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ لِأَنَّ الرِّبْحَ هو الْمَعْقُودُ عليه وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عليه تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ
وَإِنْ كان لَا يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ وَشَرْطُ الْوَضِيعَةِ عَلَيْهِمَا شَرْطٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْوَضِيعَةَ جُزْءٌ هَالِكٌ من الْمَالِ فَلَا يَكُونُ إلَّا على رَبِّ الْمَالِ لَا أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ فَلَا يُؤَثِّرُ في الْعَقْدِ فَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ وَلِأَنَّ هذا عَقْدٌ تَقِفُ صِحَّتُهُ على الْقَبْضِ فَلَا يُفْسِدُهُ الشَّرْطُ الزَّائِدُ الذي لَا يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عليه كَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ وَلِأَنَّهَا وَكَالَةٌ وَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ لَا يَعْمَلُ في الْوَكَالَةِ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْمُضَارَبَةِ إذَا قال رَبُّ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ لك ثُلُثُ الرِّبْحِ وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ في كل شَهْرٍ ما عَمِلْتَ في الْمُضَارَبَةِ صَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ من الثُّلُثِ وَبَطَلَ الشَّرْطُ وَذَكَرَ في الْمُزَارَعَةِ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضَهُ بِثُلُثِ الْخَارِجِ وَجَعَلَ له عَشَرَةَ دَرَاهِمَ في كل شَهْرٍ فَالْمُزَارَعَةُ بَاطِلَةٌ
من أَصْحَابِنَا من قال في الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ رِوَايَةُ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ تَقْتَضِي فَسَادَ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ لِلْمُضَارِبِ من الْمُشَاهَرَةِ مَعْقُودٌ عليه وهو قَطَعَ عنه الشَّرِكَةَ وَهَذَا يُفْسِدُ الْمُضَارَبَةَ وفي رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ يَقْتَضِي أَنْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ لِأَنَّهُ عَقْدٌ على رِبْحٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ أَلْحَقَ بِهِ شَرْطًا فَاسِدًا فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ وَالصَّحِيحُ هو الْفَرْقُ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ لِأَنَّ مَعْنَى الإجازة ( ( ( الإجارة ) ) ) في الْمُزَارَعَةِ أَظْهَرُ منه في الْمُضَارَبَةِ بِدَلِيلِ أنها لَا تَصِحُّ إلَّا بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ وَالْمُضَارَبَةُ لَا تَفْتَقِرُ صِحَّتُهَا إلَى ذِكْرِ الْمُدَّةِ فَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ جَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ في الْمُزَارَعَةِ وَلَا يُؤَثِّرُ في الْمُضَارَبَةِ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ قال مُحَمَّدٌ فِيمَنْ دَفَعَ أَلْفًا مُضَارَبَةً على أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ على أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ أَرْضَهُ لِيَزْرَعَهَا سَنَةً أو دَارًا لِيَسْكُنَهَا سَنَةً فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَالْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّهُ أَلْحَقَ بها شَرْطًا فَاسِدًا لَا تَقْتَضِيه فَبَطَلَ الشَّرْطُ
وَلَوْ كان الْمُضَارِبُ هو الذي شَرَطَ عليه أَنْ يَدْفَعَ أَرْضَهُ لِيَزْرَعَهَا رَبُّ الْمَالِ سَنَةً أو يَدْفَعَ دَارِهِ إلَى رَبِّ الْمَالِ لِيَسْكُنَهَا سَنَةً فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ لِأَنَّهُ جَعَلَ نِصْفَ الرِّبْحِ عِوَضًا عن عَمَلِهِ وَعَنْ أُجْرَةِ الدَّارِ وَالْأَرْضِ فَصَارَتْ حِصَّةُ الْعَمَلِ مَجْهُولَةً العقد ( ( ( بالعقد ) ) ) فلم يَصِحُّ الْعَقْدُ
وَرَوَى الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ في رَجُلٍ دَفَعَ مَالًا إلَى رَجُلٍ مُضَارَبَةً على أَنْ يَبِيعَ في دَارِ رَبِّ الْمَالِ أو على أَنْ يَبِيعَ في دَارِ الْمُضَارِبِ كان جَائِزًا وَلَوْ شَرَطَا أَنْ يَسْكُنَ الْمُضَارِبُ دَارَ رَبِّ الْمَالِ أو رَبُّ الْمَالِ دَارَ الْمُضَارِبِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ
لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ الْبَيْعَ في أَحَدِ الدَّارَيْنِ فَإِنَّمَا خُصَّ الْبَيْعُ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان ولم يُعْقَدْ على مَنَافِعِ الدَّارِ
وإذا شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ السُّكْنَى فَقَدْ جَعَلَ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ أُجْرَةً له وَأَطْلَقَ أبو يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ولم يذكر أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الشَّرْطُ أو لَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْفَسَادُ في الشَّرْطِ لَا في في الْمُضَارَبَةِ
وَلَوْ شَرَطَ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ فَهُوَ قَرْضٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هِيَ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ وَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِ ما إذَا عَمِلَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ عَقْدُ شَرِكَةٍ في الرِّبْحِ فَشَرْطُ قَطْعِ الشَّرِكَةِ فيها يَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا
وَلَنَا أَنَّهُ إذَا لم يُمْكِنْ تَصْحِيحُهَا مُضَارَبَةً تُصَحَّحُ قَرْضًا لِأَنَّهُ أتى بِمَعْنَى الْقَرْضِ وَالْعِبْرَةُ في الْعُقُودِ لِمَعَانِيهَا وَعَلَى هذا إذَا شَرَطَ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ فَهُوَ أبضاع عِنْدَنَا لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِبْضَاعِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ فَالْمُضَارَبَةُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً أو فَاسِدَةً وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحْكَامٌ أَمَّا أَحْكَامُ الصَّحِيحَةِ فَكَثِيرَةٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالِ الْمُضَارِبِ في عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى عَمَلِ الْمُضَارِبِ ما لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَعْمَلَهُ وما ليس له أَنْ يَعْمَلَهُ وبعضه ( ( ( وبعضها ) ) ) يَرْجِعُ إلَى ما يَسْتَحِقُّهُ الْمُضَارِبُ بِالْعَمَلِ وما يَسْتَحِقُّهُ رَبُّ
____________________

(6/86)


الْمَالِ بِالْمَالِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى حَالِ الْمُضَارِبِ في عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ قبل أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُضَارِبُ بِهِ شيئا أَمَانَةٌ في يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لَا على وَجْهِ الْبَدَلِ وَالْوَثِيقَةِ فإذا اشْتَرَى بِهِ شيئا صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ في مَالِ الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ وهو مَعْنَى الْوَكِيلِ فَيَكُونُ شِرَاؤُهُ على الْمَعْرُوفِ وهو أَنْ يَكُونَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أو بِمَا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ وَبَيْعِهِ على الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ في الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ
وَلَوْ اشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا يَمْلِكُ إذَا قَبَضَ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا وَيَكُونُ الشِّرَاءُ على الْمُضَارَبَةِ وَكَذَا إذَا بَاعَ شيئا من مَالِ الْمُضَارَبَةِ بَيْعًا فَاسِدًا لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا وَلَا يَضْمَنُ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَوْكِيلٌ وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ مُطْلَقًا يَمْلِكُ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ فَلَا يَصِيرُ مُخَالِفًا فإذا ظَهَرَ في الْمَالِ ربع ( ( ( ربح ) ) ) صَارَ شَرِيكًا فيه بِقَدْرِ حِصَّتِهِ من الرِّبْحِ لِأَنَّهُ مَلَكَ جُزْءًا من الْمَالِ الْمَشْرُوطِ بِعَمَلِهِ وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ
لِأَنَّهُ نَمَاءُ مَالِهِ فإذا فَسَدَتْ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ لِرَبِّ الْمَالِ فإذا خَالَفَ شَرْطَ رَبِّ الْمَالِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ وَيَصِيرُ الْمَالُ مَضْمُونًا عليه وَيَكُونُ رِبْحُ الْمَالِ كُلُّهُ بعدما صَارَ مَضْمُونًا عليه له لِأَنَّ الرِّبْحَ بِالضَّمَانِ لَكِنَّهُ لَا يَطِيبُ له في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَطِيبُ له
وهو على اخْتِلَافِهِمْ في الْغَاصِبِ وَالْمُودَعِ إذَا تَصَرَّفَا في الْمَغْصُوبِ والوديعة وَرَبِحَا
وَلَوْ أَرَادَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَجْعَلَ الْمَالَ مَضْمُونًا على الْمُضَارِبِ فَالْحِيلَةُ في ذلك أَنْ يُقْرِضَ الْمَالَ من الْمُضَارِبِ وَيُشْهِدَ عليه وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ ثُمَّ يَأْخُذَ منه مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ أو بِالثُّلُثِ ثُمَّ يَدْفَعَهُ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ فَيَسْتَعِينَ بِهِ في الْعَمَلِ حتى لو هَلَكَ في يَدِهِ كان الْقَرْضُ عليه وإذا لم يَهْلِكْ وَرَبِحَ يَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ
وَحِيلَةٌ أُخْرَى أَنْ يُقْرِضَ رَبُّ الْمَالِ جَمِيعَ الْمَالِ من الْمُضَارِبِ إلَّا دِرْهَمًا وَاحِدًا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ وَيُشْهِدَ على ذلك ثُمَّ إنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ في ذلك شَرِكَةَ عِنَانٍ على أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِ الْمُقْرِضِ دِرْهَمًا وَرَأْسُ مَالِ الْمُسْتَقْرِضِ جَمِيعَ ما اسْتَقْرَضَ على أَنْ يَعْمَلَا جميعا وَشَرَطَا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ بَعْدَ ذلك يَعْمَلُ الْمُسْتَقْرِضُ خَاصَّةً في الْمَالِ فَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ في يَدِهِ كان الْقَرْضُ على حَالِهِ وَلَوْ رَبِحَ كان الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى عَمَلِ الْمُضَارِبِ مِمَّا له أَنْ يَعْمَلَهُ بِالْعَقْدِ وما ليس له أَنْ يَعْمَلَ بِهِ
فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمُضَارَبَةَ نَوْعَانِ مُطْلَقَةٌ وَمُقَيَّدَةٌ فَالْمُطْلَقَةُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً من غَيْرِ تَعْيِينِ الْعَمَلِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَصِفَةِ الْعَمَلِ وَمَنْ يُعَامِلُهُ وَالْمُقَيَّدَةُ أَنْ يُعَيِّنَ شيئا من ذلك وَتَصَرُّفُ الْمُضَارِبِ في كل وَاحِدٍ من النَّوْعَيْنِ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ قِسْمٌ منه لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَهُ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى التَّنْصِيصِ عليه وَلَا إلَى قَوْلِ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ فيه
وَقِسْمٌ منه ما ليس له أَنْ يَعْمَلَ وَلَوْ قِيلَ له اعْمَلْ فيه بِرَأْيِكَ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عليه وَقِسْمٌ منه ما له أَنْ يَعْمَلَهُ إذَا قِيلَ له اعْمَلْ فيه بِرَأْيِكَ وَإِنْ لم يَنُصَّ عليه
وَقِسْمٌ منه ما ليس له أَنْ يَعْمَلَهُ رَأْسًا وَإِنْ نَصَّ عليه
وَأَمَّا الْقِسْمُ الذي لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَهُ من غَيْرِ التَّنْصِيصِ عليه وَلَا قَوْلِ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ كَالْمُضَارَبَةِ الْمُطْلَقَةِ عن الشَّرْطِ وَالْقَيْدِ
وَهِيَ ما إذَا قال له خُذْ هذا الْمَالَ وَاعْمَلْ بِهِ على أَنَّ ما رَزَقَ اللَّهُ من رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَنَا على كَذَا أو قال خُذْ هذا الْمَال مُضَارَبَةً على كَذَا فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ وَيَبِيعَ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِعَمَلٍ هو سَبَبُ حُصُولِ الرِّبْحِ وهو الشِّرَاءُ وَالْبَيْعُ وَكَذَا الْمَقْصُودُ من عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ هو الرِّبْحُ وَالرِّبْحُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ إلَّا أَنَّ شِرَاءَهُ يَقَعُ على الْمَعْرُوفِ وهو أَنْ يَكُونَ بِمِثْلِ قِيمَةِ الْمُشْتَرَى أو بِأَقَلَّ من ذلك مِمَّا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ وَشِرَاءُ الْوَكِيلِ يَقَعُ على الْمَعْرُوفِ
فَإِنْ اشْتَرَى بِمَا لَا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ كان مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لَا على الْمُضَارَبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ
وَأَمَّا بَيْعُهُ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ بين أبي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ في التَّوْكِيلِ بِمُطْلَقِ الْبَيْعِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ نَقْدًا وَنَسِيئَةً وَبِغَبْنٍ فَاحِشٍ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَالْمُضَارِبُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ أَعَمُّ من الْوَكَالَةِ
وَعِنْدَهُمَا لَا يُمْلَكُ الْبَيْعُ بِالنَّسِيئَةِ وَلَا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ وَهِيَ من مَسَائِلِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ ما بَدَا له من سَائِرِ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ في سَائِرِ الْأَمْكِنَةِ مع سَائِرِ الناس لِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ
وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ بِضَاعَةً لِأَنَّ الْإِبْضَاعَ من عَادَةِ التُّجَّارِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ من هذا الْعَقْدِ هو الرِّبْحُ وَالْإِبْضَاعُ طَرِيقٌ إلَى ذلك وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الِاسْتِئْجَارَ فَالْإِبْضَاعُ أَوْلَى لِأَنَّ الِاسْتِئْجَارَ اسْتِعْمَالٌ في الْمَالِ بِعِوَضٍ وَالْإِبْضَاعُ اسْتِعْمَالٌ فيه بِغَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ أَوْلَى
وَلَهُ أَنْ يُودِعَ لِأَنَّ الْإِيدَاعَ من عَادَةِ التُّجَّارِ وَمِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ
وَلَهُ أَنْ
____________________

(6/87)


يَسْتَأْجِرَ من يَعْمَلُ في الْمَالِ لِأَنَّهُ من عَادَةِ التُّجَّارِ وَضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قد لَا يَتَمَكَّنُ من جَمِيعِ الْأَعْمَالِ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْأَجِيرِ
وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْبُيُوتَ لِيَجْعَلَ الْمَالَ فيها لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ على حِفْظِ الْمَالِ إلَّا بِهِ وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ السُّفُنَ وَالدَّوَابَّ لِلْحَمْلِ لِأَنَّ الْحَمْلَ من مَكَان إلَى مَكَان طَرِيقٌ يُحَصِّلُ الرِّبْحَ وَلَا يُمْكِنُهُ النَّقْلَ بِنَفْسِهِ
وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ من عَادَةِ التُّجَّارِ وَلِأَنَّهُ طَرِيقُ الْوُصُولِ إلَى الْمَقْصُودِ وهو الرِّبْحُ فَكَانَ بِسَبِيلٍ منه كَالشَّرِيكِ وَلِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ أَعَمُّ من الْوَكَالَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَفَادَ بِالشَّيْءِ ما هو دُونَهُ بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ الْمُفْرَدَةِ أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِمُطْلَقِ الْوَكَالَةِ إلَّا إذَا قِيلَ له اعْمَلْ بِرَأْيِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من ذلك ليس هو التِّجَارَةُ وَحُصُولُ الرِّبْحِ بَلْ إدْخَالُ الْمَبِيعِ في مِلْكِهِ وَكَذَا الْوَكَالَةُ الثَّانِيَةُ مِثْلُ الْأُولَى وَالشَّيْءُ لَا يَسْتَتْبِعُ مثله وَكُلُّ ما لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فيه غَيْرَهُ وَكُلُّ ما لَا يَكُونُ له أَنْ يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ لَا يَجُوزُ فيه وَكَالَتُهُ على رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَمَّا لم يَمْلِكْ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ فَبِوَكِيلِهِ أَوْلَى
وَلَهُ أَنْ يَرْهَنَ بِدَيْنٍ عليه في الْمُضَارَبَةِ من مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَأَنْ يَرْتَهِنَ بِدَيْنٍ له منها على رَجُلٍ لِأَنَّ الرَّهْنَ بِالدَّيْنِ وَالِارْتِهَانَ من بَابِ الْإِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ وهو يَمْلِكُ ذلك فَيَمْلِكُ الرَّهْنَ وَالِارْتِهَانَ
وَلَيْسَ له أَنْ يَرْهَنَ بَعْدَ نَهْيِ رَبِّ الْمَالِ عن الْعَمَلِ وَلَا بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَبْطُلُ بِالنَّهْيِ وَالْمَوْتِ إلَّا في تَصَرُّفٍ يَنْضَرُّ بِهِ رَأْسُ الْمَالِ وَالرَّهْنُ ليس تَصَرُّفًا يَنْضَرُّ بِهِ رَأْسُ الْمَالِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمُضَارِبُ
وَلَوْ بَاعَ شيئا وَأَخَّرَ الثَّمَنَ جَازَ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ لِلثَّمَنِ عَادَةَ التُّجَّارِ وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ فَلِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ يَمْلِكُ تَأْخِيرَ الثَّمَنِ فَالْمُضَارِبُ أَوْلَى لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ أَعَمُّ من تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ إلَّا أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ إذَا أَخَّرَ الثَّمَنَ يَضْمَنُ عِنْدَهُمَا وَالْمُضَارِبُ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَمْلِكُ أَنْ يستقبل ( ( ( يستقيل ) ) ) ثُمَّ يَبِيعَ نَسِيئَةً فَيَمْلِكُ التَّأْخِيرَ ابْتِدَاءً فلم يَضْمَنْ
فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَلَا يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ ثُمَّ الْبَيْعُ بِالنَّسِيئَةِ فإذا أَخَّرَ ضَمِنَ
وَأَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَإِنَّمَا جَازَ تَأْخِيرُ الْمُضَارِبِ دُونَ الْوَكِيلِ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا وهو أَنَّ الْمُضَارِبَ يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ أو يستقبل ( ( ( يستقيل ) ) ) فيها ثُمَّ يَبِيعَهَا نَسَاءً فَيَمْلِكُ تَأْخِيرَ ثَمَنِهَا وَالْوَكِيلُ لَا يَمْلِكُ ذلك وَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ بِالثَّمَنِ على رَجُلٍ مُوسِرًا كان الْمُحْتَالُ عليه أو مُعْسِرًا لِأَنَّ الْحَوَالَةَ من عَادَةِ التُّجَّارِ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى الدَّيْنِ قد يَكُونُ أَيْسَرَ من ذِمَّةِ الْمُحَالِ عليه منه من ذِمَّةِ الْمُحِيلِ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ إذَا احْتَالَ بِمَالِ الْيَتِيمِ إنَّ ذلك إنْ كان أَصْلَحَ جَازَ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَصِيِّ في مَالِ الْيَتِيمِ مَبْنِيٌّ على النَّظَرِ وَتَصَرُّفَ الْمُضَارِبِ مَبْنِيٌّ على عَادَةِ التُّجَّارِ قال مُحَمَّدٌ وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ أَرْضًا بَيْضَاءَ وَيَشْتَرِيَ بِبَعْضِ الْمَالِ طَعَامًا فَيَزْرَعَهُ فيها وَكَذَلِكَ له أَنْ يُقَلِّبَهَا لِيَغْرِسَ فيها نَخْلًا أو شَجَرًا أو رُطَبًا فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ وَالرِّبْحُ على ما شَرَطَا لِأَنَّ الِاسْتِئْجَارَ من التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ طَرِيقُ حُصُولِ الرِّبْحِ وَكَذَا هو من عَادَةِ التُّجَّارِ فَيَمْلِكُهُ الْمُضَارِبُ
وَلِلْمُضَارِبِ أَنْ لَا يُسَافِرَ بِالْمَالِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من هذا الْعَقْدِ اسْتِنْمَاءُ الْمَالِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ بِالسَّفَرِ أَوْفَرُ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ صَدَرَ مُطْلَقًا عن الْمَكَانِ فَيَجْرِي على إطْلَاقِهِ وَلِأَنَّ مَأْخَذَ الِاسْمِ دَلِيلٌ عليه لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ مُشْتَقَّةٌ من الضَّرْبِ في الْأَرْضِ وهو السَّيْرُ قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ من فَضْلِ اللَّهِ } وَلِأَنَّهُ طَلَبُ الْفَضْلِ
وقد قال اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنَهُ { وَابْتَغُوا من فَضْلِ اللَّهِ } وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ في رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عنه وفي رِوَايَةِ أَصْحَابِ الْإِمْلَاءِ عنه ليس له أَنْ يُسَافِرَ
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ فَرَّقَ بين الذي يَثْبُتُ في وَطَنِهِ وَبَيْنَ الذي لَا يَثْبُتُ وَبَيْنَ ما له حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ وَبَيْنَ ما لَا حِمْلَ له وَلَا مُؤْنَةَ في الشَّرِكَةِ فَالْمُضَارِبُ على ذلك وقد ذَكَرْنَا وَجْهَ كل وَاحِدٍ من ذلك في كِتَابِ الشَّرِكَةِ وقد قال أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّهُ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ الْمَالَ بِالْكُوفَةِ وَهُمَا من أَهْلِيهَا فإن أَبَا حَنِيفَةَ قال ليس له أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَالِ
وَلَوْ كان الدَّفْعُ في مِصْرٍ آخَرَ غَيْرِ الْكُوفَةِ فَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ حَيْثُ شَاءَ وقد ذَكَرْنَا وَجْهَ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ في كِتَابِ الشَّرِكَةِ
وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ عنه فَهُوَ أَنَّ الْمُسَافَرَةَ بِالْمَالِ مُخَاطَرَةٌ بِهِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ نَصًّا أو دَلَالَةً فإذا دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ في بَلَدِهِمَا فلم يَأْذَنْ له بِالسَّفَرِ نَصًّا ودلالة لم يَكُنْ له أَنْ يُسَافِرَ
وإذا دَفَعَ إلَيْهِ في غَيْرِ بَلَدِهِمَا فَقَدْ وَجَدَ دَلَالَةَ الْإِذْنِ بِالرُّجُوعِ إلَى الْوَطَنِ
لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَأْخُذُ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَيَتْرُكُ بَلَدَهُ
فَكَانَ دَفْعُ الْمَالِ في غَيْرِ بَلَدِهِمَا رِضًا بِالرُّجُوعِ إلَى الْوَطَنِ فَكَانَ إذْنًا دَلَالَةً وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبِيدِ الْمُضَارَبَةِ بِالتِّجَارَةِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ
____________________

(6/88)


من التِّجَارَةِ وَمِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ أَيْضًا
وَرَوَى ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ذلك بِإِطْلَاقِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ أَعَمُّ من الْمُضَارَبَةِ فَلَا يَسْتَتْبِعُ ما هو فَوْقَهُ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُمْ إذَا لَحِقَهُمْ دَيْنٌ سَوَاءٌ كان الْمَوْلَى حَاضِرًا أو غَائِبًا لِأَنَّ الْبَيْعَ في الدَّيْنِ من التِّجَارَةِ فَلَا يَقِفُ على حُضُورِ الْمَوْلَى
وَلَوْ جَنَى عبد الْمُضَارَبَةِ بِأَنْ قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً وَقِيمَتُهُ مِثْلُ مَالِ الْمُضَارِبِ بِأَنْ كان رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى بها عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفٌ فَقَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً لَا يُخَاطَبُ الْمُضَارِبُ بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ لِأَنَّ الدَّفْعَ أو الْفِدَاءَ ليس من التِّجَارَةِ وَلَا مِلْكَ أَيْضًا لِلْمُضَارِبِ في رَقَبَتِهِ لِانْعِدَامِ الْفِعْلِ وَالتَّدْبِيرِ في جِنَايَتِهِ إلَى رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ خَالِصُ مِلْكِهِ وَلَا مِلْكَ لِلْمُضَارِبِ فيها بِخِلَافِ عبد الْمَأْذُونِ إذَا جَنَى أَنَّهُ يُخَاطَبُ الْمَأْذُونُ بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ مع غَيْبَةِ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ في التَّصَرُّفِ كَالْحُرِّ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ كَالْحُرِّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِالْعُهْدَةِ على الْمَوْلَى وَلَوْ كان مُتَصَرِّفًا لِلْمَوْلَى لَرَجَعَ بِالْعُهْدَةِ عليه فلما لم يَرْجِعْ دَلَّ أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ حَقُّ الْمَوْلَى في كَسْبِهِ عِنْدَ فَرَاغِهِ عن حَاجَتِهِ فإذا تَعَلَّقَتْ الْجِنَايَةُ بِرَقَبَتِهِ صَارَتْ مَشْغُولَةً فَلَا يَظْهَرُ حَقُّ الْمَوْلَى فَيُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ كَالْحُرِّ
فَأَمَّا الْمُضَارِبُ فإنه وَكِيلُ رَبِّ الْمَالِ في التَّصَرُّفِ حتى يَرْجِعَ بِالْعُهْدَةِ عليه وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَا يُخَاطَبُ بِحُكْمِ الْجِنَايَةِ فَهُوَ الْفَرْقُ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ فَإِنْ اخْتَارَ رَبُّ الْمَالِ الدَّفْعَ وَاخْتَارَ الْمُضَارِبُ الْفِدَاءَ فَلَهُ ذلك لأن بِالْفِدَاءِ يَسْتَبْقِي مَالَ الْمُضَارَبَةِ وَلَهُ فيه فَائِدَةٌ في الْجُمْلَةِ لِتَوَهُّمِ الرِّبْحِ
وَلَوْ دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ أو فَدَى خَرَجَ الْعَبْدُ من الْمُضَارَبَةِ
أَمَّا إذَا دَفَعَ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّ بِالدَّفْعِ زَالَ مِلْكُهُ لَا إلَى بَدَلٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ هَلَكَ وإذا فَدَى فَقَدْ لَزِمَهُ ضَمَانٌ ليس من مُقْتَضَيَاتِ الْمُضَارَبَةِ
وَلِأَنَّ اخْتِيَارَ الْفِدَاءِ دَلِيلُ رَغْبَتِهِ في عَيْنِ الْعَبْدِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ من الْعَقْدِ وهو الرِّبْحُ لِأَنَّ ذلك بِالْبَيْعِ
وَلَوْ كان قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَيْنِ فَجَنَى جِنَايَةً خَطَأً لَا يُخَاطَبُ الْمُضَارِبُ بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ إذَا كان رَبُّ الْمَالِ غَائِبًا لِمَا قُلْنَا وَلَيْسَ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ على الْمُضَارِبِ وَلَا على الْغُلَامِ سَبِيلٌ إلَّا أَنَّ لهم أَنْ يَسْتَوْثِقُوا من الْغُلَامِ بِكَفِيلٍ إلَى أَنْ يَقْدَمَ الْمَوْلَى وَكَذَا لَا يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ إذَا كان الْمُضَارِبُ غَائِبًا وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَفْدِيَ حتى يَحْضُرَا جميعا فَإِنْ فَدَى كان مُتَطَوِّعًا بِالْفِدَاءِ فإذا حَضَرَا دَفَعَا أو فَدَيَا فَإِنْ دَفَعَا فَلَيْسَ لَهُمَا شَيْءٌ وَإِنْ فَدَيَا كان الْفِدَاءُ عَلَيْهِمَا أَرْبَاعًا وَخَرَجَ الْعَبْدُ من الْمُضَارَبَةِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وقال أبو يُوسُفَ حُضُورُ الْمُضَارِبِ ليس بِشَرْطٍ وَيُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِحُكْمِ الْجِنَايَة
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ نَصِيبَ الْمُضَارِبِ لم يَتَعَيَّنْ في الرِّبْحِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّ التَّعْيِينَ بِالْقِسْمَةِ ولم تُوجَدْ فَبَقِيَ الْمَالُ على حُكْمِ مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ فَكَانَ هو الْمُخَاطَبُ بِحُكْمِ الْجِنَايَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمُضَارِبِ
وَلَهُمَا أَنَّهُ إذَا كان في الْمُضَارَبَةِ فَضْلٌ كان لِلْمُضَارِبِ مِلْكٌ في الْعَبْدِ وَلِهَذَا لو أَعْتَقَهُ نَفَذَ إعْتَاقُهُ في نَصِيبِهِ وإذا كان له نَصِيبٌ في الْعَبْدِ كان فِدَاءُ نَصِيبِهِ عليه فَلَا بُدَّ من حُضُورِهِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أَنَّ حَقَّهُ لم يَتَعَيَّنْ في الرِّبْحِ لِعَدَمِ تَعْيِينِ رَأْسِ الْمَالِ فَمَمْنُوعٌ بَلْ تَعَيَّنَ ضَرُورَةُ لُزُومِ الْفِدَاءِ في نَصِيبِهِ وَلَا يَلْزَمُ إلَّا بِتَعْيِينِ حَقِّهِ وَلَا يَتَعَيَّنُ حَقُّهُ إلَّا بِتَعْيِينِ رَأْسِ الْمَالِ وَلَا يَتَعَيَّنُ رَأْسُ الْمَالِ إلَّا بِالْقِسْمَةِ فَثَبَتَتْ الْقِسْمَةُ ضَرُورَةً فَإِنْ اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الدَّفْعَ وَالْآخَرُ الْفِدَاءَ فَلَهُمَا ذلك لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالِكٌ لِنَصِيبِهِ فَصَارَ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ غير أَنَّ في الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إذَا حَضَرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَغَابَ الْآخَرُ يُخَاطَبُ الْآخَرُ بِحُكْمِ الْجِنَايَةِ من الدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ وَهَهُنَا لَا يُخَاطَبُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ما لم يَحْضُرَا جميعا لِأَنَّ تَصَرُّفَ أَحَدِهِمَا يَتَضَمَّنُ قِسْمَهُ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَبْقَى على الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ الدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ
وَالْقِسْمَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا بِحَضْرَتِهِمَا
وَالدَّفْعُ أو الْفِدَاءُ من أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَتَضَمَّنُ قِسْمَةً وَلَا حُكْمًا في حَقِّ الشَّرِيكِ الْآخَرِ فَلَا يَقِفُ على حُضُورِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إذَا كانت قِيمَتُهُ أَكْثَرَ من الدَّيْنِ فَجَنَى جِنَايَةً خَطَأً أَنَّهُ يُخَاطَبُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ بِحُكْمِ الْجِنَايَةِ فَإِنْ اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الدَّفْعَ وَالْآخَرُ الْفِدَاءَ لم يَكُنْ لَهُمَا ذلك وَيَلْزَمُهُمَا أَنْ يَجْتَمِعَا على أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ وَاحِدٌ فَاخْتِلَافُ اخْتِيَارِهِمَا يُوجِبُ تَبْعِيضَ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ في حَقِّ مال ( ( ( مالك ) ) ) وَاحِدٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ كَالْعَبْدِ الذي ليس بِرَهْنٍ
وَهُنَا مَالِكُ الْعَبْدِ اثْنَانِ فَلَوْ اخْتَلَفَ اخْتِيَارُهُمَا لَا يُوجِبُ ذلك تَبْعِيضَ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ في حَقِّ مَالِكٍ وَاحِدٍ
وقد قالوا إذَا غَابَ أَحَدُهُمَا وَادُّعِيَتْ الْجِنَايَةُ على الْعَبْدِ لم تُسْمَعْ الْبَيِّنَةُ حتى يَحْضُرَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا له حَقُّ الْعَبْدِ فَكَانَ التَّدْبِيرُ في الْجِنَايَةِ إلَيْهِمَا فَلَا يَجُوزُ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ على أَحَدِهِمَا مع غَيْبَةِ الْآخَرِ وَإِنَّمَا أَخَذَ بِالْعَبْدِ كَفِيلٌ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عليه أَنْ يَغِيبَ فَيَسْقُطَ
____________________

(6/89)


حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ حَقَّهُ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ فَكَانَ له أَنْ يَسْتَوْثِقَ حَقَّهُ بِكَفِيلٍ
وَحُقُوقُ الْعَقْدِ في الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ تَرْجِعُ إلَى الْمُضَارِبِ لَا إلَى رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ هو الْعَاقِدُ فَهُوَ الذي يُطَالَبُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَيُطَالِبُ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ وَيَقْبِضُ الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ وَيَرُدُّ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ عليه وَيُخَاصِمُ وَيُخَاصَمُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا مَعِيبًا قد عَلِمَ رَبُّ الْمَالِ بِعَيْبِهِ ولم يَعْلَمْ بِهِ الْمُضَارِبُ فَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّهُ وَلَوْ كان عَلِمَ بِالْعَيْبِ ولم يَعْلَمْ بِهِ رَبُّ الْمَالِ لم يَكُنْ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّهُ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُضَارِبِ لَا بِرَبِّ الْمَالِ فَيُعْتَبَرُ عِلْمُ الْمُضَارِبِ لَا عِلْمَ رَبِّ الْمَالِ
وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ فقال رَبُّ الْمَالِ بَعْدَ الشِّرَاءِ رَضِيتُ بهذا الْعَبْدِ بَطَلَ الرَّدُّ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِرَبِّ الْمَالِ فإذا رضي بِهِ فَقَدْ أَبْطَلَ حَقَّ نَفْسِهِ وَلَوْ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً على أَنْ يَشْتَرِيَ بها عَبْدَ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ يَبِيعُهُ فَاشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ ولم يَرَهُ فَلَيْسَ له أَنْ يَرُدَّهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَلَا بِخِيَارِ الْعَيْبِ
لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالشِّرَاءِ بَعْدَ الْعِلْمِ رِضًا منه بِذَلِكَ الْعَيْبِ فَكَأَنَّهُ قال بَعْدَ الشِّرَاءِ قد رَضِيتُ بِخِلَافِ ما إذَا أَمَرَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَشْتَرِي الْعَبْدَ الْمَعِيبَ لَا مَحَالَةَ حتى يَكُونَ عِلْمُهُ دَلَالَةَ الرِّضَا بِهِ وَهَلْ له أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ في دَارٍ اشْتَرَاهَا أَجْنَبِيٌّ إلَى جَنْبِ دَارِ الْمُضَارِبِ أو بَاعَ رَبُّ الْمَالِ دَارًا لِنَفْسِهِ وَالْمُضَارِبُ شَفِيعُهَا بِدَارٍ أُخْرَى من الْمُضَارَبَةِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ دَفَعَ الْمَالَ إلَى رَجُلَيْنِ مُضَارَبَةً فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وَلَا يَعْمَلُ أَحَدُهُمَا شيئا مِمَّا لِلْمُضَارِبِ الْوَاحِدِ أَنْ يَعْمَلَهُ سَوَاءٌ قال لَهُمَا اعْمَلَا بِرَأْيِكُمَا أو لم يَقُلْ لِأَنَّهُ رضي بِرَأْيِهِمَا ولم يَرْضَ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا فَصَارَا كَالْوَكِيلَيْنِ وأذن ( ( ( وإذا ) ) ) له الشَّرِيكُ في شَيْءٍ من ذلك جَازَ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ له فَقَدْ اجْتَمَعَ رَأْيُهُمَا فَصَارَ كَأَنَّهُمَا عَقَدَا جميعا
وَأَمَّا الْقِسْمُ الذي ليس لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَهُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عليه في الْمُضَارَبَةِ الْمُطْلَقَةِ فَلَيْسَ له أَنْ يَسْتَدِينَ على مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَلَوْ اسْتَدَانَ لم يَجُزْ على رَبِّ الْمَالِ وَيَكُونُ دَيْنًا على الْمُضَارِبِ في مَالِهِ لِأَنَّ الِاسْتِدَانَةَ إثْبَاتُ زِيَادَةٍ في رَأْسِ الْمَالِ من غَيْرِ رِضَا رَبِّ الْمَالِ بَلْ فيه إثْبَاتُ زِيَادَةِ ضَمَانٍ على رَبِّ الْمَالِ من غَيْرِ رِضَاهُ لِأَنَّ ثَمَنَ المشتري بِرَأْسِ الْمَالِ في بَابِ الْمُضَارَبَةِ مَضْمُونٌ على رَبِّ الْمَالِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُضَارِبَ لو اشْتَرَى بِرَأْسِ الْمَالِ ثُمَّ هَلَكَ المشتري قبل التَّسْلِيمِ فإن الْمُضَارِبَ يَرْجِعُ إلَى رَبِّ الْمَالِ بمثله فَلَوْ جَوَّزْنَا الِاسْتِدَانَةَ على الْمُضَارَبَةِ لَأَلْزَمْنَاهُ زِيَادَةَ ضَمَانٍ لم يَرْضَ بِهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
ثُمَّ الِاسْتِدَانَةُ هِيَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُضَارِبُ شيئا بِثَمَنِ دَيْنٍ ليس في يَدِهِ من جِنْسِهِ حتى إنَّهُ لو لم يَكُنْ في يَدِهِ شَيْءٌ من رَأْسِ الْمَالِ من الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ بِأَنْ كان اشْتَرَى بِرَأْسِ الْمَالِ سِلْعَةً ثُمَّ اشْتَرَى شيئا بِالدَّرَاهِمَ أو الدَّنَانِيرَ لم يَجُزْ على الْمُضَارَبَةِ وكان المشتري له عليه ثَمَنُهُ من مَالِهِ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِثَمَنٍ ليس في يَدِهِ من جِنْسِهِ فَكَانَ مُسْتَدِينًا على الْمُضَارَبَةِ فلم تَجُزْ على رَبِّ الْمَالِ وَجَازَ عليه لِأَنَّ الشِّرَاءَ وَجَدَ نَفَاذًا عليه كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا خَالَفَ وَسَوَاءٌ كان اشْتَرَى بِثَمَنٍ حَالٍّ أو مُؤَجَّلٍ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى بِمَا ليس في يَدِهِ من جِنْسِهِ صَارَ مُسْتَدِينًا على الْمُضَارَبَةِ وهو لَا يَمْلِكُ ذلك
وَلَوْ كان ما في يَدِ الْمُضَارِبِ من الْعَبْدِ أو الْعَرْضِ يُسَاوِي رَأْسَ الْمَالِ أو أَكْثَرَ فَاشْتَرَى شيئا لِلْمُضَارَبَةِ بِالدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لبيع ( ( ( ليبيع ) ) ) الْعَرْضَ وَيُؤَدِّيَ ثَمَنَهُ منها لم يَجُزْ سَوَاءٌ كان الثَّمَنُ حَالًا أو مُؤَجَّلًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ اسْتِدَانَةٌ
وَلَوْ بَاعَ ما في يَدِهِ من الْعَرْضِ بِالدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَحَصَلَ ذلك في يَدِهِ قبل حَلِّ الْأَجَلِ لم يَنْتَفِعْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ في حَالَةِ الشِّرَاءِ لَزِمَهُ الثَّمَنُ وَصَارَتْ السِّلْعَةُ له لِأَنَّهُ لم يَمْلِكْ الشِّرَاءَ لِلْمُضَارَبَةِ فَوَقَعَ الْعَقْدُ له فَلَا يَصِيرُ بَعْدَ ذلك لِلْمُضَارَبَةِ
وَكَذَا إذَا قَبَضَ الْمُضَارِبُ مَالَ الْمُضَارَبَةِ ليس له أَنْ يَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ من رَأْسِ الْمَالِ الذي في يَدِهِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَكُونُ دَيْنًا وَلَيْسَ في يَدِهِ من مَالِ الْمُضَارَبَةِ ما يُؤَدِّيهِ حتى لو اشْتَرَى سِلْعَةً بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ أَلْفٌ كانت حِصَّةُ الْأَلْفِ من السِّلْعَةِ الْمُشْتَرَاةِ لِلْمُضَارَبَةِ وَحِصَّةُ ما زَادَ على الْأَلْفِ لِلْمُضَارِبِ خَاصَّةً
له رِبْحُ ذلك وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ وَالزِّيَادَةُ دَيْنٌ عليه في مَالِهِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ بِالْأَلْفِ وَلَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ بِمَا زَادَ عليها لِلْمُضَارَبَةِ وَيَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ فَوَقَعَ له وَكَذَا إذَا قَبَضَ الْمُضَارِبُ رَأْسَ الْمَالِ وهو قَائِمٌ في يَدِهِ فَلَيْسَ له أَنْ يَشْتَرِيَ لِلْمُضَارَبَةِ بِغَيْرِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ من الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ وَالثَّوْبِ الْمَوْصُوفِ الْمُؤَجَّلِ إذَا لم يَكُنْ في يَدِهِ شَيْءٌ من ذلك لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِغَيْرِ الْمَالِ يَكُونُ اسْتِدَانَةٌ على الْمَالِ
وَلَوْ كان في يَدِهِ من مَالِ الْمُضَارَبَةِ مَكِيلٌ أو مَوْزُونٌ فاشتري ثَوْبًا أو عَبْدًا بِمَكِيلٍ أو
____________________

(6/90)


مَوْزُونٍ مَوْصُوفٍ في الذِّمَّةِ كان المشتري لِلْمُضَارِبِ لِأَنَّ في يَدِهِ من جِنْسِهِ فلم يَكُنْ اسْتِدَانَةً
وَلَوْ كان في يَدِهِ دَرَاهِمُ فَاشْتَرَى سِلْعَةً بِدَرَاهِمَ نَسِيئَةً لم يَكُنْ اسْتِدَانَةٌ لِأَنَّ في يَدِهِ من جِنْسِهِ وَلَوْ كان في يَدِهِ دَرَاهِمُ فاشتري بِدَنَانِيرَ
أو كان في يَدِهِ دَنَانِيرُ فَاشْتَرَى بِدَرَاهِمَ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ على رَبِّ الْمَالِ وهو قَوْلُ زُفَرَ وفي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً فَقَدْ اشْتَرَى بِمَا ليس في يَدِهِ من جِنْسِهِ فَيَكُونُ اسْتِدَانَةً كما لو اشْتَرَى بِالْعُرُوضِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عِنْدَ التُّجَّارِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُمَا أَثْمَانُ الْأَشْيَاءِ بِهِمَا تُقَدَّرُ النَّفَقَاتُ وَأُرُوشُ الْجِنَايَاتِ وَقِيمَةُ الْمُتْلَفَاتِ وَلَا يَتَعَذَّرُ نَقْلُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَكَانَ مُشْتَرِيًا بِثَمَنٍ في يَدِهِ من جِنْسِهِ
وَكَذَلِكَ لو اشْتَرَى بِثَمَنٍ هو من جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ لَكِنَّهُ يُخَالِفُهُ في الصِّفَةِ بِأَنْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ بِيضٍ وَرَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمُ سُودٍ أو اشْتَرَى بِصِحَاحٍ وَرَأْسُ الْمَالِ غَلَّةٌ أو اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ سُودٍ وَرَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمُ بِيضٍ أو اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ غَلَّةً وَرَأْسُ الْمَالِ صِحَاحٌ فَذَلِكَ جَائِزٌ على الْمُضَارَبَةِ
وقال زُفَرُ لَا يَجُوزُ شَيْءٌ من ذلك على الْمُضَارَبَةِ وَيَكُونُ اسْتِدَانَةً وَيُجْعَلُ اخْتِلَافُ الصِّفَةِ كَاخْتِلَافِ الْجِنْسِ
وقال مُحَمَّدٌ إنْ اشْتَرَى بِمَا صِفَتُهُ أَنْقَصُ من صِفَةِ رَأْسِ الْمَالِ جَازَ وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لو اشْتَرَى بِمَا صِفَتُهُ أَزْيَدُ من صِفَةِ رَأْسِ الْمَالِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ على الْمُضَارَبَةِ
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى بِمَا صِفَتُهُ أَنْقَصُ من صِفَةِ رَأْسِ الْمَالِ كان في يَدِهِ ذلك الْقَدْرُ الذي اشْتَرَى بِهِ ذلك الْقَدْرَ وَزِيَادَةً فَجَازَ
وإذا اشْتَرَى بِمَا صِفَتُهُ أَكْمَلُ لم يَكُنْ في يَدِهِ الْقَدْرُ الذي اشْتَرَى بِهِ فَلَا يَجُوزُ على الْمُضَارِبِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَلَأَنْ يَجُوزَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الصِّفَةِ أَوْلَى لِأَنَّ تَفَاوُتَ الصِّفَةِ دُونَ تَفَاوُتِ الْجِنْسِ
وَلَوْ كان رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى سِلْعَةً بِأَلْفٍ أو بِدَنَانِيرَ أو بِفُلُوسٍ قِيمَةُ ذلك أَلْفٌ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ بَعْدَ ذلك على أَلْفِ الْمُضَارَبَةِ شيئا بِأَلْفٍ أُخْرَى أو غَيْرِ ذلك لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارَبَةِ كان مُسْتَحَقًّا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ
فَلَوْ اشْتَرَى بَعْدَ ذلك لَصَارَ مُسْتَدِينًا على مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَلَا يَمْلِكُ ذلك فَإِنْ اشْتَرَى عليها أَوَّلًا عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ لَا يَمْلِكُ بَعْدَ ذلك أَنْ يَشْتَرِيَ إلَّا بِقَدْرِ خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّ الْخَمْسَمِائَةِ خَرَجَتْ من الْمُضَارَبَةِ وَكَذَلِكَ كُلُّ دَيْنٍ يَلْحَقُ رَأْسَ الْمَالِ لِأَنَّ ذلك صَارَ مُسْتَحَقًّا من رَأْسِ الْمَالِ فَيَخْرُجُ الْقَدْرُ الْمُسْتَحَقُّ من الْمُضَارَبَةِ فإذا اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِمَّا بَقِيَ صَارَ مُسْتَدِينًا على مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَلَا يَصِحُّ
وَلَوْ بَاعَ الْمُضَارِبُ وَاشْتَرَى وَتَصَرَّفَ في مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَحَصَلَ في يَدِهِ صُنُوفٌ من الْأَمْوَالِ من الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ وَغَيْرِ ذلك من سَائِرِ الْأَمْوَالِ ولم يَكُنْ في يَدِهِ دَرَاهِمُ وَلَا دَنَانِيرُ وَلَا فُلُوسٌ فَلَيْسَ له أَنْ يَشْتَرِيَ مَتَاعًا بِثَمَنٍ ليس في يَدِهِ مِثْلُهُ من جِنْسِهِ وَصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ بِأَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِكُرِّ حِنْطَةٍ مَوْصُوفَةٍ فَإِنْ اشْتَرَى بِكُرِّ حِنْطَةٍ وَسَطٍ وفي يَدِهِ الْوَسَطُ أو بِكُرِّ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ وفي يَدِهِ جَازَ وَإِنْ كان في يَدِهِ أَجْوَدَ مِمَّا اشْتَرَى بِهِ أو أَدْوَنَ لم يَكُنْ لِلْمُضَارَبَةِ وكان لِلْمُضَارِبِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ في يَدِهِ مِثْلُ الثَّمَنِ صَارَ مُسْتَدِينًا على الْمُضَارَبَةِ فَلَا يَجُوزُ وَلَيْسَ اخْتِلَافُ الصِّفَةِ هُنَا كَاخْتِلَافِ الصِّفَةِ في الدَّرَاهِمَ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ هُنَاكَ بين الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ فَاخْتِلَافُ الصِّفَةِ أَوْلَى لِأَنَّهُ دُونَهُ وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ هُنَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ فَكَذَا اخْتِلَافُ الصِّفَةِ
ثُمَّ في جَمِيعِ ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ من الْمُضَارِبِ الِاسْتِدَانَةُ على رَبِّ الْمَالِ يَسْتَوِي فيه ما إذَا قال رَبُّ الْمَالِ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ أو لم يَقُلْ لِأَنَّ قَوْلَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ تَفْوِيضٌ إلَيْهِ فِيمَا هم من الْمُضَارَبَةِ وَالِاسْتِدَانَةُ لم تَدْخُلْ في عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ فَلَا يَمْلِكُهَا الْمُضَارِبُ إلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ بها نَصًّا
ثُمَّ كما لَا يَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ الِاسْتِدَانَةُ على مَالِ الْمُضَارَبَةِ لَا يَجُوزُ له الِاسْتِدَانَةُ على إصْلَاحِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ حتى لو اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِجَمِيعِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ثِيَابًا ثُمَّ اسْتَأْجَرَ على حَمْلِهَا أو على قِصَارَتِهَا أو نَقْلِهَا كان مُتَطَوِّعًا في ذلك كُلِّهِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَبْقَ في يَدِهِ شَيْءٌ من رَأْسِ الْمَالِ صَارَ بِالِاسْتِئْجَارِ مُسْتَدِينًا على الْمُضَارَبَةِ فلم يَجُزْ عليها فَصَارَ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ مُتَطَوِّعًا في مَالِ الْغَيْرِ كما لو حَمَلَ مَتَاعًا لِغَيْرِهِ أو قَصَّرَ ثِيَابًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ
وقال مُحَمَّدٌ وَكَذَلِكَ إذَا صَبَغَهَا سُودًا من مَالِهِ فَنَقَصَهَا ذلك لِأَنَّ الِاسْتِدَانَةَ لَا تَجُوزُ وَلَا يَصِيرُ شَرِيكًا بِالسَّوَادِ لِأَنَّهُ لم يُوجِبْ في الْعَيْنِ زِيَادَةً بَلْ أَوْجَبَ نُقْصَانًا فيها وَلَا يَضْمَنُ بِفِعْلِهِ
سَوَاءٌ قال له اعْمَلْ بِرَأْيِكَ أو لم يَقُلْ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فيه بِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو كان في يَدِهِ فَضْلٌ فَصَبَغَ الثِّيَابَ بِهِ سُودًا
____________________

(6/91)


فَنَقَصَهَا ذلك لم يَضْمَنْ وَكَذَلِكَ إذَا صَبَغَهَا بِمَالِ نَفْسِهِ
وَلَوْ صَبَغَ الْمَتَاعَ بِعُصْفُرٍ أو زَعْفَرَانٍ أو صِبْغٍ يَزِيدُ فيها وَلَيْسَ في يَدِهِ من مَالِ الْمُضَارَبَةِ شَيْءٌ
فَإِنْ كان لم يَقُلْ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ وَرَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ مَتَاعِهِ يوم صَبَغَهُ وسلم إلَيْهِ الْمَتَاعَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الْمَتَاعَ حتى يُبَاعَ فَيَتَصَرَّفَ فيه رَبُّ الْمَالِ بِقِيمَتِهِ أَبْيَضَ وَتَصَرَّفَ الْمُضَارِبُ بِمَا زَادَ الصِّبْغُ فيه لِأَنَّ الصِّبْغَ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ فما أَصَابَ الْمَتَاعَ فَهُوَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ وما زَادَ الصِّبْغُ فَلِلْمُضَارِبِ خَاصَّةً لِأَنَّ الصِّبْغَ اسْتِدَانَةٌ على الْمَالِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَصَارَ الصِّبْغُ من غَيْرِ الْمُضَارَبَةِ وَالْمُضَارِبُ إذَا خَلَطَ مَالَ نَفْسِهِ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ ولم يَقُلْ له اعْمَلْ بِرَأْيِكَ يَضْمَنُ وَصَارَ كَأَجْنَبِيٍّ خَلَطَ الْمَالَ
وَلَوْ صَبَغَ الثِّيَابَ أَجْنَبِيٌّ كان لِلْمَالِكِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا على الشَّرِكَةِ وَتَضَارَبَا بِثَمَنِهَا على الشَّرِكَةِ
كَذَا هذا
وَإِنْ كان قال له اعْمَلْ بِرَأْيِكَ فَلَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّهُ إذَا قال ذلك فَلَهُ أَنْ يَخْلِطَ مَالَ نَفْسِهِ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالصِّبْغُ على مِلْكِهِ فَلَا يَضْمَنُ بِخَلْطِهِ وَصَارَ الْمَتَاعُ بَيْنَهُمَا فإذا بِيعَ الْمَتَاعُ قُسِّمَ الثَّمَنُ على قِيمَةِ الثَّوْبِ أَبْيَضَ فما أَصَابَ ذلك كان في الْمُضَارَبَةِ وما أَصَابَ الصِّبْغُ كان لِلْمُضَارِبِ
وإذا أَذِنَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَسْتَدِينَ على مَالِ الْمُضَارَبَةِ جَازَ له الِاسْتِدَانَةُ وما يَسْتَدِينُهُ يَكُونُ شَرِكَةً بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ وُجُوهٍ وكان الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُشْتَرَى بِالدَّيْنِ مُضَارَبَةً لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا في مَالِ عَيْنٍ فَتُجْعَلَ شَرِكَةَ وُجُوهٍ وَيَكُونَ المشتري بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ مُطْلَقَ الشَّرِكَةِ يَقْتَضِي التَّسَاوِيَ وَسَوَاءٌ كان الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا في الْمُضَارَبَةِ نِصْفَيْنِ أو أَثْلَاثًا لِأَنَّ هذه شَرِكَةٌ على حِدَةٍ فَلَا يُبْنَى على حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ وقد بَيَّنَّا في كِتَابِ الشَّرِكَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ في الرِّبْحِ في شَرِكَةِ الْوُجُوهِ إلَّا بِشَرْطِ التَّفَاضُلِ في الضَّمَانِ فَإِنْ شَرَطَا التَّفَاضُلَ في الضَّمَانِ كان الرِّبْحُ كَذَلِكَ وَإِنْ أَطْلَقَا كان الْمُشْتَرَى نِصْفَيْنِ لَا يَجُوزُ فيه التَّفَاضُلُ في الرِّبْحِ وإذا صَارَتْ هذه شَرِكَةَ وُجُوهٍ صَارَ الثَّمَنُ دَيْنًا عَلَيْهِمَا من غيره مُضَارَبَةٍ فَلَا يَمْلِكُ الْمُضَارِبُ أَنْ يَرْهَنَ بِهِ مَالَ الْمُضَارَبَةِ إلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ فَإِنْ أَذِنَ له أَنْ يَرْهَنَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَقَدْ أَعَارَهُ نِصْفَ الرَّهْنِ لِيَرْهَنَ بِدَيْنِهِ وَإِنْ هَلَكَ صَارَ مَضْمُونًا عليه وَلَيْسَ له أَنْ يُقْرِضَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ الْقَرْضَ تَبَرُّعٌ في الْحَالِ إذْ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ لِلْحَالِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُبَادَلَةً في الثَّانِي وَمَالُ الْغَيْرِ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَرُّعَ
وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَبَرُّعٌ وَلَا يأخد ( ( ( يأخذ ) ) ) سَفْتَجَةً لِأَنَّ أَخْذَهَا اسْتِدَانَةٌ وهو لَا يَمْلِكُ الِاسْتِدَانَةَ
وَكَذَا لَا يُعْطَى سَفْتَجَةً لِأَنَّ إعْطَاءَ السَّفْتَجَةِ إقْرَاضٌ وهو لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَاضَ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عليه هَكَذَا قال مُحَمَّدٌ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال ليس له أَنْ يُقْرِضَ وَلَا أَنْ يَأْخُذَ سَفْتَجَةً حتى يَأْمُرَهُ بِذَلِكَ بِعَيْنِهِ فَيَقُولَ له خُذْ السَّفَاتِجَ وَأَقْرِضْ إنْ أَحْبَبْتَ
فَأَمَّا إذَا قال له اعْمَلْ في ذلك بِرَأْيِكَ فَإِنَّمَا هذا على الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَخَلْطِ الْمَالِ وَهَذَا قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَقَوْلُنَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ اعْمَلْ في ذلك بِرَأْيِكَ تَفْوِيضُ الرَّأْيِ إلَيْهِ في الْمُضَارَبَةِ وَالتَّبَرُّعُ ليس من عَمَلِ الْمُضَارَبَةِ وَكَذَا الِاسْتِدَانَةُ بَلْ هِيَ عِنْدَ الْإِذْنِ شَرِكَةُ وُجُوهٍ وَهِيَ عَقْدٌ آخَرُ وَرَاءَ الْمُضَارَبَةِ وهو إنَّمَا فَوَّضَ إلَيْهِ الرَّأْيَ في الْمُفَاوَضَةِ خَاصَّةً لَا في عَقْدٍ آخَرَ لَا تَعَلُّقَ له بها فَلَا يَدْخُلُ في ذلك وَلَيْسَ له أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ وَإِنْ قال له اعْمَلْ بِرَأْيِكَ وَلَوْ اشْتَرَى يَصِيرُ مُخَالِفًا لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَوْكِيلٌ بِالشِّرَاءِ وَالتَّوْكِيلُ بِالشِّرَاءِ مُطْلَقًا يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وهو أَنْ يَكُونَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أو بِمَا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ
وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ في مِثْلِهِ مُحَابَاةٌ وَالْمُحَابَاةُ تَبَرُّعٌ وَالتَّبَرُّعُ لَا يَدْخُلُ في عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ وَلَيْسَ له أَنْ يَعْتِقَ على مَالٍ لِأَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ عن الرَّقَبَةِ بِدَيْنٍ في ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ فَكَانَ في مَعْنَى التَّبَرُّعِ وَلِأَنَّهُ ليس بِتِجَارَةٍ إذْ التِّجَارَةُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَهَذَا مُبَادَلَةُ الْعِتْقِ بِالْمَالِ وَلَيْسَ له أَنْ يُكَاتِبَ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ لِانْعِدَامِ مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ لِهَذَا لَا يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ له في التِّجَارَةِ وَلَيْسَ له أَنْ يُعْتِقَ عَبْدًا من الْمُضَارَبَةِ إذَا لم يَكُنْ في نَفْسِ الْعَبْدِ فَضْلٌ عن رَأْسِ الْمَالِ فَإِنْ أَعْتَقَ لم يَنْفُذْ لِأَنَّ الْعَقْدَ السَّابِقَ لَا يُفِيدُهُ وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ على مَالٍ وَفِيهِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فَالْإِعْتَاقُ بِغَيْرِ مَالٍ أَوْلَى وَلَا مِلْكَ لِلْمُضَارِبِ في الْعَبْدِ مِمَّا لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ وَسَوَاءٌ كان في يَدِ الْمُضَارِبِ مَالٌ آخَرُ سِوَى الْعَبْدِ أو لم يَكُنْ
لِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا كان بِقَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ لَا فَضْلَ فيه لم يَتَعَيَّنْ لِلْمُضَارِبِ فيه حَقٌّ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِرَأْسِ الْمَالِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو هَلَكَ ذلك الْمَالُ يَصِيرُ الْعَبْدُ رَأْسَ الْمَالِ
وَإِنْ كان في نَفْسِ الْعَبْدِ الْمُعْتَقِ فَضْلٌ عن رَأْسِ الْمَالِ جَازَ إعْتَاقُهُ في قَدْرِ حِصَّتِهِ من الرِّبْحِ لِأَنَّهُ إذَا كان قِيمَتُهُ أَكْثَرَ من رَأْسِ
____________________

(6/92)


الْمَالِ فَقَدْ تَعَيَّنَ لِلْمُضَارِبِ فيه مِلْكٌ فَيَنْفُذُ إعْتَاقُهُ في قَدْرِ نَصِيبِهِ كَعَبْدٍ بين شَرِيكَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَكَذَلِكَ إنْ كَاتَبَ عَبْدًا من الْمُضَارَبَةِ أو أَعْتَقَهُ على مَالٍ ولم يَكُنْ فيه فَضْلٌ أَنَّهُ لم يَجُزْ وَإِنْ كان فيه فَضْلٌ كان كَعَبْدٍ بين شَرِيكَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا على مَالٍ فإذا قَبِلَ الْعَبْدُ عَتَقَ عليه نَصِيبُهُ وكان رَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ وَلِرَبِّ الْمَالِ فَسْخُ الْكِتَابَةِ قبل الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ في الْحَالِ وفي الثَّانِي أَمَّا في الْحَالِ فَلَا يَمْتَنِعُ عليه بَيْعُ نَصِيبِهِ وَهِبَتِهِ ما دَامَ شَيْءٌ منه فَكَذَا هذا
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لو أَدَّى وَعَتَقَ نَفْسُهُ يَفْسُدُ الْبَاقِي على رَبِّ الْمَالِ فَأَكَّدَ دَفْعَ هذا الضَّرَرِ بِالْفَسْخِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ قَابِلَةٌ لِلْفَسْخِ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ كَأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إذَا بَاعَ حِصَّتَهُ من بَيْتٍ مُعَيَّنٍ من دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُمَا كان لِشَرِيكِهِ نَقْضُ بَيْعِهِ وَإِنْ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ لِمَا أَنَّ الشَّرِيكَ يَتَضَرَّرُ بِنَفَاذِ هذا الْبَيْعِ فإنه مَتَى أَرَادَ أَنْ يَقْسِمَ الدَّارَ يَحْتَاجُ إلَى قِسْمَيْنِ قِسْمَةِ الْبَيْتِ مع الْمُشْتَرِي وَقِسْمَةِ بَقِيَّةِ الدَّارِ مع الشَّرِيكِ الْأَوَّلِ وَيَتَضَرَّرُ فَكَانَ له نَقْضُ الْبَيْعِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عنه فَكَذَا هذا بِخِلَافِ ما إذَا دَبَّرَ الْمُضَارِبُ نَصِيبَهُ أو أَعْتَقَ أنه يَنْفُذُ
وَإِنْ كان يَتَضَرَّرُ بِهِ رَبُّ الْمَالِ لِأَنَّ الضَّرَرَ إنَّمَا يُدْفَعُ إذَا أَمْكَنَ وَهُنَاكَ لَا يُمْكِنُ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَالْإِعْتَاقَ تَصَرُّفَانِ لَا يَحْتَمِلَانِ الْفَسْخَ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ فَإِنْ أَدَّى الْكِتَابَةَ قبل الْفَسْخِ عَتَقَ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ وهو الْأَدَاءُ إلَّا أَنَّ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَ مِمَّا أَدَّاهُ الْمُكَاتَبُ قَدْرَ حِصَّتِهِ من الْمُؤَدَّى لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا
وَكَذَلِكَ إذَا كان رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى بها الْمُضَارِبُ عَبْدَيْنِ قِيمَةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ فَأَعْتَقَ أَحَدَهُمَا أنه لَا يَجُوزُ إعْتَاقُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ إعْتَاقُهُ في نَصِيبِهِ مِنْهُمَا لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ ليس إلَّا الْأَلْفَ فما زَادَ على ذلك يَكُونُ رِبْحًا وَيَكُونُ لِلْمُضَارِبِ فيه نَصِيبٌ فَيَنْفُذُ إعْتَاقُهُ في نَصِيبِهِ
وَلَنَا أَنَّهُ لم يَتَعَيَّنْ لِلْمُضَارِبِ مِلْكٌ في أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ الْمَالِ وَالْآخَرُ رِبْحًا فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَنْ يُجْعَلَ رَأْسَ الْمَالِ وَالْآخَرُ رِبْحًا أَوْلَى من الْقَلْبِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنْ ليس معه غَيْرُهُ وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُضَارِبِ لَا يَتَعَيَّنُ في الرِّبْحِ قبل تَعَيُّنِ رَأْسِ الْمَالِ وَرَأْسُ الْمَالِ لم يَتَعَيَّنْ إلَّا بِتَعْيِينِ مِلْكِ الْمُضَارِبِ في الرِّبْحِ
وَكَذَلِكَ لو كان في يَدِ الْمُضَارِبِ عِشْرُونَ عَبْدًا قِيمَةُ كل وَاحِدٍ منهم أَلْفُ دِرْهَمٍ وَرَأْسُ الْمَالِ أَلْفُ دِرْهَمٍ أنه لَا يَجُوزُ عِتْقُهُ في وَاحِدٍ منهم لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لِلْمُضَارِبِ في وَاحِدٍ منهم مِلْكٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منهم يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ هو رَأْسَ الْمَالِ فإذا لم يَمْلِكْ شيئا منهم لا يَنْفُذْ إعْتَاقُهُ
من مَشَايِخِنَا من قال هذا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَبِيدَ وَالْجَوَارِيَ لَا يُقْسَمُونَ قِسْمَةً وَاحِدَةً بَلْ كُلُّ شَخْصٍ يُقْسَمُ على حِدَةٍ لِأَنَّ الْعَبِيدَ وَالْجَوَارِيَ بِمَنْزِلَةِ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ من سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَلَا يَتَعَيَّنُ لِلْمُضَارِبِ مِلْكٌ في الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ من الْعُرُوضِ وَنَحْوِهَا
فَأَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ يُقْسَمُونَ قِسْمَةً وَاحِدَةً بِمَنْزِلَةِ الدَّوَابِّ فَظَهَرَ الرِّبْحُ فَيَنْفُذُ إعْتَاقُهُ في قَدْرِ نَصِيبِهِ من الرِّبْحِ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ هذا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا إنَّمَا يَقْسِمُ الْقَاضِي قِسْمَةً وَاحِدَةً إذَا رَأَى الْقَاضِي ذلك فَأَمَّا قبل ذلك فَلَا بَلْ الْعَبِيدُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ لِهَذَا لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِدُونِ بَيَانِ الثَّمَنِ بِالِاتِّفَاقِ كَالتَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ ثَوْبٍ لِهَذَا لو كانت الْعَبِيدُ لِلْخِدْمَةِ بين اثْنَيْنِ لَا تَجِبُ على أَحَدِهِمَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ بِسَبَبِهِمْ في عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ مَالَ الْمُضَارَبَةِ إذَا كان من جِنْسٍ وَاحِدٍ وَفِيهِ فَضْلٌ عن رَأْسِ الْمَالِ أنه يُضَمُّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ وَيَتَعَيَّنُ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ فِيمَا زَادَ على رَأْسِ الْمَالِ وإذا كان من جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلُ رَأْسِ الْمَالِ لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فَلَا يَتَعَيَّنُ لِلْمُضَارِبِ في أَحَدِهِمَا مِلْكٌ لِاشْتِغَالِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِرَأْسِ الْمَالِ
وقد قالوا في هذه الْمَسْأَلَةِ إنَّ رَبَّ الْمَالِ لو أَعْتَقَ الْعَبِيدَ نَفَذَ إعْتَاقُهُ في جَمِيعِهِمْ لِأَنَّهُ إذَا لم يَتَعَيَّنْ لِلْمُضَارِبِ في وَاحِدٍ منهم مِلْكٌ نَفَذَ على رَبِّ الْمَالِ فإذا أَعْتَقَهُمْ بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ عَتَقُوا وَيَضْمَنُ حِصَّةَ الْمُضَارِبِ فِيهِمْ سَوَاءٌ كان مُوسِرًا أو مُعْسِرًا
أَمَّا الضَّمَانُ فَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ وَإِنْ لم يَمْلِكْ شيئا من الْعَبِيدِ فَقَدْ كان له حَقٌّ أَنْ يَتَمَلَّكَ وقد أَفْسَدَهُ عليه رَبُّ الْمَالِ فَيَضْمَنُ وَإِنَّمَا اسْتَوَى فيه الْيَسَارُ وَالْإِعْسَارُ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ الْكُلَّ مُبَاشَرَةً وَنَفَذَ إعْتَاقُهُ في الْكُلِّ فَصَارَ مُتْلِفًا الْمَالَ عليه بِخِلَافِ ضَمَانِ الْعِتْقِ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ نَصِيبُ الْمُعْتَقِ ابْتِدَاءً ثُمَّ يَسْرِي إلَى نَصِيبِ الشَّرِيكِ على أَصْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِذَلِكَ اخْتَلَفَ فيه الْيَسَارُ وَالْإِعْسَارُ
وَكَذَلِكَ لو اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا من مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ إنَّهُ إنْ لم يَكُنْ فيه فَضْلٌ لم تَجُزْ دَعْوَتُهُ وَإِنْ
____________________

(6/93)


كان فيه فَضْلٌ جَازَتْ دَعْوَتُهُ وَعَتَقَ لِأَنَّ هذه دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ وَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ على الْمِلْكِ فإذا لم يَكُنْ فيه فَضْلٌ فَازْدَادَتْ قِيمَةُ رَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ ذلك فَظَهَرَ فيه فَضْلٌ جَازَتْ دَعْوَتُهُ وَعَتَقَ عليه وكان كَعَبْدٍ بين اثْنَيْنِ عَتَقَ على أَحَدِهِمَا نَصِيبُهُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ بِأَنْ وَرِثَ نَصِيبَهُ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى النَّسَبَ وَلَا مِلْكَ له في الْحَالِ كانت دَعْوَتُهُ مَوْقُوفَةً على الْمِلْكِ فإذا ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ فَقَدْ مَلَكَ جزأ منه فَنَفَذَتْ دَعْوَتُهُ فيه كَمَنْ ادَّعَى النَّسَبَ في مِلْكِ غَيْرِهِ ثُمَّ مَلَكَ أنه تَنْفُذُ دَعْوَتُهُ بِخِلَافِ ما إذَا أَعْتَقَهُ ثُمَّ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ أنه لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ لِأَنَّ إنْشَاءَ الْإِعْتَاقِ في مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَتَوَقَّفُ كَمَنْ أَعْتَقَ مِلْكَ غَيْرِهِ ثُمَّ مَلَكَهُ
وَلَا ضَمَانَ على الْمُضَارِبِ في ذلك لِأَنَّ الْعَبْدَ عَتَقَ من غَيْرِ صُنْعِهِ لِأَنَّهُ عَتَقَ بِزِيَادَةِ الْقِيمَةِ وَالْعَبْدُ الْمُشْتَرَكُ إذَا عَتَقَ على أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ لَا يَضْمَنُ لِلشَّرِيكِ شيئا
وَلَوْ اشْتَرَى أَمَةً قِيمَتُهَا أَلْفٌ وَرَأْسُ الْمَالِ أَلْفٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَادَّعَى الْوَلَدَ لَا يَكُونُ وَلَدُهُ وَلَا تَكُونُ الْأُمُّ أَمَّ وَلَدٍ له لِأَنَّهُ ليس لِأَحَدِهِمَا فَضْلٌ على رَأْسِ الْمَالِ
هَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هذا مَحْمُولٌ على أنها عَلِقَتْ قبل أَنْ يَشْتَرِيَهَا فَأَمَّا إذَا كان الْعُلُوقُ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَحُكْمُ الْمَسْأَلَةِ يَتَغَيَّرُ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَغْرَمُ الْعُقْرَ مِائَةً فإذا اسْتَوْفَاهَا رَبُّ الْمَالِ منه جَعَلَ الْمُسْتَوْفَى من رَأْسِ الْمَالِ فَيُنْتَقَصُ رَأْسُ الْمَالِ وَصَارَ تِسْعَمِائَةٍ فَيَتَعَيَّنُ لِلْمُضَارِبِ مِلْكٌ فِيهِمَا جميعا فَنَفَذَتْ دَعْوَتُهُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ وإذا ثَبَتَ النَّسَبُ ضَمِنَ الْمُضَارِبُ من قِيمَةِ الْأُمِّ سَبْعَمِائَةٍ حتى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَالِ تَمَامَ رَأْسِ مَالِهِ ثُمَّ يَغْرَمُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا وهو تَمَامُ ما بَقِيَ من الْأُمِّ فَظَهَرَ أَنَّ الْوَلَدَ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا فَيَعْتِقُ نِصْفُ الْوَلَدِ من الْمُضَارَبَةِ وَيَسْعَى في النِّصْفِ لِرَبِّ الْمَالِ
قال عِيسَى بن أَبَانَ أن هذا الْجَوَابَ هو الصَّحِيحُ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ مَسْأَلَةً أُخْرَى طَعَنَ فيها عِيسَى وهو ما إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ تُسَاوِي أَلْفًا فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَادَّعَاهُ الْمُضَارِبُ لم يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَيَغْرَمُ الْعُقْرَ فَإِنْ زَادَتْ قِيمَةُ الْوَلَدِ حتى صَارَتْ أَلْفَيْنِ يَثْبُتُ النَّسَبُ من الْمُضَارِبِ لِأَنَّهُ مَلَكَ بَعْضَهُ لِظُهُورِ الرِّبْحِ في الْوَلَدِ بِزِيَادَةِ قِيمَتِهِ فَيَعْتِقُ رُبْعَهُ عليه وَلَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّهُ عِتْقٌ بِزِيَادَةِ الْقِيمَةِ وَلَا صُنْعَ له فيها وَيَسْعَى الْعَبْدُ في ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ لِرَبِّ الْمَالِ وَالْجَارِيَةُ على حَالِهَا لم تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُضَارِبِ ما لم يَسْتَوْفِ رَبُّ الْمَالِ الْعُقْرَ وَالسِّعَايَةَ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَظْهَرُ له الرِّبْحُ في الْجَارِيَةِ حتى يَصِلَ إلَى رَبِّ الْمَالِ شَيْءٌ من الْمَالِ فَلَا يَمْلِكُ شيئا منها وَلَا صِحَّةَ لِلِاسْتِيلَادِ بِدُونِ الْمِلْكِ
وَلَوْ لم تَزِدْ قِيمَةُ الْوَلَدِ وَلَكِنْ زَادَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ فَصَارَتْ أَلْفَيْنِ فإن الْجَارِيَةَ أُمُّ وَلَدٍ له لِظُهُورِ الرِّبْحِ فيها بِزِيَادَةِ قِيمَتِهَا وَعَلَى الْمُضَارِبِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ قِيمَتِهَا لِرَبِّ الْمَالِ وَإِنْ لم يَكُنْ له صُنْعٌ فيها لِأَنَّ ضَمَانَهَا ضَمَانُ تَمَلُّكٍ لِهَذَا اسْتَوَى فيه الْيَسَارُ وَالْإِعْسَارُ فَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ بِفِعْلِهِ أو من طَرِيقِ الْحُكْمِ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ من الْمُضَارِبِ لِأَنَّهُ لم يَمْلِكْ من الْوَلَدِ شيئا ما لم يَأْخُذْ رَبُّ الْمَالِ شيئا من رَأْسِ مَالِهِ
وَلَوْ زَادَتْ قيمتها ( ( ( قيمتهما ) ) ) جميعا فَصَارَتْ قِيمَةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له لِأَنَّهُ مِلْكُ بَعْضِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
لِأَنَّهُ ظَهَرَ الْفَضْلُ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِزِيَادَةِ قِيمَتِهِ وَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ تَمَامَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَعُقْرَ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَظَهَرَ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ اسْتَوْفَى رَأْسَ مَالِهِ وَاسْتَوْفَى من الرِّبْحِ أَلْفًا وَمِائَةً وَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ من رِبْحِ الْوَلَدِ مِقْدَارَ أَلْفٍ وَمِائَةٍ فَعَتَقَ الْوَلَدُ منه بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ وَبَقِيَ من الْوَلَدِ مِقْدَارُ تِسْعِمِائَةٍ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعَمِائَةٍ وخمسون ( ( ( وخمسين ) ) ) فما أَصَابَ الْمُضَارِبَ عَتَقَ وما أَصَابَ رَبَّ الْمَالِ سَعَى فيه الْوَلَدُ
قال عِيسَى هذا الْجَوَابُ خَطَأٌ وَالصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ يَضْمَنُ الْمُضَارِبُ من الْأُمِّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ قِيمَتِهَا وَنِصْفَ الْعُقْرِ وَبَقِيَ الْوَلَدُ رِبْحًا بَيْنَهُمَا يَسْعَى في نِصْفِ قِيمَتِهِ لِرَبِّ الْمَالِ وَيَسْقُطُ عنه النِّصْفُ بِحِصَّةِ الْمُضَارِبِ
قال الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هذا الذي ذَكَرَهُ عِيسَى هو جَوَابُ مُحَمَّدٍ في الْمَسْأَلَةِ التي قَدَّمْنَاهَا إذَا لم تَزِدْ قِيمَةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
وَعَلَى قِيَاسِ ما قال مُحَمَّدٌ في الْمَسْأَلَةِ الزِّيَادَةُ تَجِبُ أَنْ يَقُولَ إذَا لم تَزِدْ قِيمَتُهَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْرَمَ الْمُضَارِبُ أَلْفًا وَمِائَةً ثُمَّ يَسْتَوْفِي الْمُضَارِبُ من الْوَلَدِ مِائَةً وَبَقِيَ تِسْعُمِائَةٍ بَيْنَهُمَا فَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال الْقِيَاسُ ما أَجَابَ بِهِ في الْمَسْأَلَةِ التي لم تَزِدْ الْقِيمَةُ فيها
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَغْرَمُ بعدما غَرِمَ تَمَامَ رَأْسِ مَالِهِ إلَّا نِصْفَ ما بَقِيَ من الْأُمِّ لِأَنَّ نِصْفَ ما بَقِيَ من الْأُمِّ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَغْرَمَ الْكُلَّ وَاَلَّذِي أَجَابَ بِهِ في مَسْأَلَةِ الزِّيَادَةِ هو الِاسْتِحْسَانُ لِأَنَّ في غُرْمِ تَمَامِ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ تَكْثِيرُ الْعِتْقِ وَالْعِتْقُ وَالرِّقُّ إذَا اجْتَمَعَا غَلَبَتْ الْحُرِّيَّةُ
____________________

(6/94)


الرِّقَّ
وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال إنَّمَا افْتَرَقَتْ الْمَسْأَلَتَانِ لِوَصْفِهِمَا لِأَنَّ سَبَبَ الْعِتْقِ في مَسْأَلَةِ الزِّيَادَةِ زِيَادَةُ قِيمَةِ الْوَلَدِ
وفي الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى سَبَبُ الْعِتْقِ قَبْضُ رَبِّ الْمَالِ الْعُقْرَ
فلما شَارَكَ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ في سَبَبِ عِتْقِهِ أَنْ يَجْتَمِعَ رِبْحُهُ في الْجَارِيَةِ
وَأَمَّا في الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى لَمَّا كان عِتْقُهُ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ صَرَفَ نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ إلَى الْجَارِيَةِ
لِأَنَّ الْمُضَارِبَ قد مكلها ( ( ( ملكها ) ) ) وقد قِيلَ أَيْضًا إنَّ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا قَصَدَ تَكْثِيرَ الْعِتْقِ وفي الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى إذَا لم تَزِدْ الْقِيمَةُ لَا يَتَبَيَّنُ تَكْثِيرُ الْعِتْقِ لِأَنَّ الْفَضْلَ فِيمَا بَيْنَهُمَا مِقْدَارُ نِصْفِ الْعُشْرِ فَلَا يَتَبَيَّنُ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ تَكْثِيرُ الْعِتْقِ
وقد قالوا في الْمُضَارِبِ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفٍ فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَادَّعَاهُ رَبُّ الْمَالِ ثَبَتَ النَّسَبُ وَعَتَقَ الْوَلَدُ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَانْتَقَضَتْ الْمُضَارَبَةُ وَلَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّ دَعْوَتَهُ صَادَفَتْ مِلْكَهُ فَثَبَتَ النَّسَبُ وَاسْتَنَدَتْ الدَّعْوَةُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَلَا قِيمَةَ لِلْوَلَدِ في ذلك الْوَقْتِ وَلَا فَضْلَ في الْمَالِ فَلَا تَجِبُ عليه الْقِيمَةُ وَلَا الْعُقْرُ لِأَنَّهُ وطىء مِلْكَ نَفْسِهِ وَلَيْسَ له أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدًا وَلَا أَمَةً من مَالِ الْمُضَارَبَةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُزَوِّجُ الْأَمَةَ وَلَا يُزَوِّجُ الْعَبْدَ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في مَوْضِعٍ آخَرَ
وَرَوَى ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ ليس له أَنْ يُزَوِّجَ أَمَةً من الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ شيئا من مَالِ الْمُضَارَبَةِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَعْقِدَ على جَارِيَةِ الْمُضَارَبَةِ لِنَفْسِهِ فَإِنْ تَزَوَّجَ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ إذَا لم يَكُنْ في الْمَالِ رِبْحٌ وقد خَرَجَتْ من الْمُضَارَبَةِ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ في الْمَالِ رِبْحٌ لم يَكُنْ لِلْمُضَارِبِ فيها مِلْكٌ وَإِنَّمَا له حَقُّ التَّصَرُّفِ وإنه لَا يَمْنَعُ النِّكَاحَ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ
وَأَمَّا خُرُوجُ الْأَمَةِ عن الْمُضَارَبَةِ فَلِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ من تَزَوَّجَ أَمَةً حَصَّنَهَا وَمَنَعَهَا من الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ وَالْمُضَارَبَةُ تَقْتَضِي الْعَرْضَ على الْبَيْعِ وَإِبْرَازَهَا لِلْمُشْتَرِي وكان اتِّفَاقُهُمَا على التَّزْوِيجِ إخْرَاجًا إيَّاهَا عن الْمُضَارَبَةِ وَيَحْسِبُ مِقْدَارَ قِيمَتِهَا من رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَهَا من الْمُضَارَبَةِ صَارَ كَأَنَّهُ اسْتَرَدَّ ذلك الْقَدْرَ من رَأْسِ الْمَالِ
وقد قال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ عن أبي حَنِيفَةَ إنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَةً من الْمُضَارَبَةِ لِعَبْدٍ من الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمُضَارِبِ يَخْتَصُّ بِالتِّجَارَةِ وَالتَّزْوِيجُ ليس من التِّجَارَةِ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هذا قَوْلَهُمْ لِأَنَّ عِنْدَ أبي يُوسُفَ إنْ كان يَمْلِكُ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ لَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ
وَلَوْ أَخَذَ الْمُضَارِبُ نَخْلًا أو شَجَرًا أو رَطْبَةً مُعَامَلَةً على أَنْ يُنْفِقَ من الْمَالَ لم يَجُزْ على رَبِّ الْمَالِ وَإِنْ كان قال له رَبُّ الْمَالِ حين دَفَعَ إلَيْهِ اعْمَلْ فيه بِرَأْيِكَ لِأَنَّ الْأَخْذَ منه مُعَامَلَةً عَقْدٌ على مَنَافِعِ نَفْسِهِ وَمَنَافِعُ نَفْسِ الْمُضَارِبِ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ فَصَارَ كما لو آجر نَفْسَهُ لِلْخِدْمَةِ وَلَا يُعْتَبَرُ ما شَرَطَ من الْإِنْفَاقِ لِأَنَّ ذلك ليس بِمَعْقُودٍ عليه بَلْ هو تَابِعٌ لِلْعَمَلِ كَالْخَيْطِ في إجَارَةِ الْخَيَّاطِ وَالصِّبْغِ في الصِّبَاغَةِ
وَكَذَا لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذلك يُفِيدُ تَفْوِيضَ الرَّأْيِ إلَيْهِ في الْمُضَارَبَةِ وَالْمُضَارَبَةُ تَصَرُّفٌ في الْمَالِ وَهَذَا عَقْدٌ على مَنَافِعِ نَفْسِهِ وَمَنَافِعُ نَفْسِ الْمُضَارِبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بَدَلَهَا رَبُّ الْمَالِ
وَلَوْ أَخَذَ أَرْضًا مُزَارَعَةً على أَنْ يَزْرَعَهَا فما خَرَجَ من ذلك كان نِصْفَيْنِ فَاشْتَرَى طَعَامًا بِبَعْضِ الْمُزَارَعَةِ فَزَرَعَهُ
قال مُحَمَّدٌ هذا يَجُوزُ إنْ قال له اعْمَلْ بِرَأْيِكَ
وَإِنْ لم يَكُنْ قال له اعْمَلْ بِرَأْيِكَ لم يَجُزْ لِأَنَّهُ يُوجِبُ حَقًّا لِرَبِّ الْأَرْضِ في مَالِ رَبِّ الْمَالِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ شَارَكَهُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِشْرَاكَ بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ ما لم يَقُلْ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ فإذا قال مَلَكَ
كَذَا هذا
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ إنَّ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ وَالْبَقَرَ إذَا كان من قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْعَمَلُ على الْمُضَارِبِ لم يَكُنْ ذلك على الْمُضَارَبَةِ بَلْ يَكُونُ لِلْمُضَارِبِ خَاصَّةً لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَقْدٌ على مَنَافِعِ نَفْسِهِ فَكَانَ له بَدَلُ مَنَافِعِ نَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ رَبُّ الْمَالِ وَكَذَلِكَ إذَا شَرَطَ الْبَقَرَ على الْمُضَارِبِ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ على مَنْفَعَتِهِ وَإِنَّمَا الْبَقَرُ آلَةُ الْعَمَلِ وَالْآلَةُ تَبَعٌ ما لم يَقَعْ عليها الْعَقْدُ
وَلَوْ دَفَعَ الْمُضَارِبُ أَيْضًا بِغَيْرِ بَذْرٍ مُزَارَعَةً جَازَتْ سَوَاءٌ قال اعْمَلْ بِرَأْيِكَ أو لم يَقُلْ لِأَنَّهُ لم يُوجِبْ شَرِكَةً في مَالِ رَبِّ الْمَالِ إنَّمَا آجر أَرْضَهُ وَالْإِجَارَةُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْقِسْمُ الذي لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَهُ إذَا قِيلَ له اعْمَلْ بِرَأْيِكَ وَإِنْ لم يَنُصَّ عليه فَالْمُضَارَبَةُ وَالشَّرِكَةُ وَالْخَلْطُ فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ مُضَارَبَةً إلَى غَيْرِهِ وَأَنْ يُشَارِكَ غَيْرَهُ في مَالِ الْمُضَارَبَةِ شَرِكَةَ عِنَانٍ وَأَنْ يَخْلِطَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ بِمَالِ نَفْسِهِ إذَا قال له رَبُّ الْمَالِ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ وَلَيْسَ له أَنْ يَعْمَلَ شيئا من ذلك إذَا لم يَقُلْ له ذلك
أَمَّا الْمُضَارَبَةُ فَلِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ مِثْلُ الْمُضَارَبَةِ
____________________

(6/95)


وَالشَّيْءُ لَا يَسْتَتْبِعُ مثله فَلَا يُسْتَفَادُ بِمُطْلَقِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ مِثْلُهُ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ التَّوْكِيلَ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ
كَذَا هذا
وَأَمَّا الشَّرِكَةُ فَهِيَ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْلِكَهَا بمطلق الْعَقْدُ لِأَنَّهَا أَعَمُّ من الْمُضَارَبَةِ وَالشَّيْءُ لَا يَسْتَتْبِعُ مثله فما فَوْقَهُ أَوْلَى
وَأَمَّا الْخَلْطُ فَلِأَنَّهُ يُوجِبُ في مَالِ رَبِّ الْمَالِ حَقًّا لِغَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِهِ وَإِنْ لم يَقُلْ له ذلك فَدَفَعَ الْمُضَارِبُ مَالَ الْمُضَارَبَةِ مُضَارَبَةً إلَى غَيْرِهِ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو من وُجُوهٍ إمَّا إن كان الْمُضَارَبَتَانِ صَحِيحَتَيْنِ وَإِمَّا إن كَانَتَا فَاسِدَتَيْنِ وأما إن كانت إحْدَاهُمَا صَحِيحَةً وَالْأُخْرَى فَاسِدَةً فَإِنْ كَانَتَا صَحِيحَتَيْنِ فإن الْمَالَ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا على الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ بِمُجَرَّدِ الدَّفْعِ إلَى الثَّانِي حتى لو هَلَكَ الْمَالُ في يَدِ الثَّانِي قبل أَنْ يَعْمَلَ يَهْلَكُ أَمَانَةً وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ يَصِيرُ مَضْمُونًا بِنَفْسِ الدَّفْعِ عَمِلَ الثَّانِي أو لم يَعْمَلْ وإذا هَلَكَ قبل الْعَمَلِ يَضْمَنُ وهو رِوَايَةٌ عن أبي يُوسُفَ أَيْضًا
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ إذَا لم يَقُلْ لِلْمُضَارِبِ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ لم يَمْلِكْ دَفْعَ الْمَالِ مُضَارَبَةً إلَى غَيْرِهِ فإذا دَفَعَ صَارَ بِالدَّفْعِ مُخَالِفًا فَصَارَ ضَامِنًا كَالْمُودَعِ إذَا أُودِعَ
وَلَنَا أَنَّ مُجَرَّدَ الدَّفْعِ إيدَاعٌ منه وهو يَمْلِكُ إيدَاعَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَلَا يَضْمَنُ بِالدَّفْعِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ على الْأَوَّلِ حتى يَعْمَلَ به الثَّانِي وربح ( ( ( ويربح ) ) ) فإذا عَمِلَ بِهِ وَرَبِحَ كان ضَامِنًا حين رَبِحَ
وَإِنْ عَمِلَ في الْمَالِ فلم يَرْبَحْ حتى ضَاعَ من يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ عليه
وَرَوَى مُحَمَّدٌ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عليه حتى يَعْمَلَ الثَّانِي فإذا عَمِلَ ضَمِنَ رَبِحَ الثَّانِي أو لم يَرْبَحْ
وَهَكَذَا رَوَى ابن سِمَاعَةَ وَالْفَضْلُ بن غَانِمٍ عن أبي يُوسُفَ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ هذا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عن أبي حَنِيفَةَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا عَمِلَ فَقَدْ تَصَرَّفَ في الْمَالِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ فَيَتَعَيَّنُ بِهِ الضَّمَانُ سَوَاءٌ رَبِحَ أو لم يَرْبَحْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ لَا سَبِيلَ إلَى التَّضْمِينِ بِالدَّفْعِ لِأَنَّهُ إيدَاعٌ وإيضاع ( ( ( وإبضاع ) ) ) وَلَا بِالْعَمَلِ لِأَنَّهُ ما لم يَرْبَحْ فَهُوَ في حُكْمِ الْمُبْضَعِ وَالْمُبْضِعُ لَا يَضْمَنُ بِالْعَمَلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ بِالشَّرْطِ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ قَوْلٍ وَمُجَرَّدُ الْقَوْلِ في مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ لَكِنَّهُ إذَا رَبِحَ فَقَدْ ثَبَتَ له شَرِكَةً في الْمَالِ بِإِثْبَاتِ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ فَصَارَ الْأَوَّلُ مُخَالِفًا فَيَضْمَنُ كما لو خَلَطَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ بِغَيْرِهِ أو شَارَكَ بِهِ وإذا وَجَبَ الضَّمَانُ بِالْعَمَلِ وَالرِّبْحِ أو بِنَفْسِ الْعَمَلِ على اخْتِلَافِهِمْ في ذلك فَرَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِي
أَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ في الْمُودِعِ إذَا أَوْدَعَ فَظَاهِرٌ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَعَدَّى بِالدَّفْعِ وَالثَّانِي تَعَدَّى بِالْقَبْضِ فَصَارَ عِنْدَهُمَا كَالْمُودِعِ إذَا أَوْدَعَ
وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ في مَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ لِأَنَّ الضَّمَانَ عِنْدَهُ على الْمُودِعِ الْأَوَّلِ لَا على الثَّانِي وفي مَسْأَلَةِ الْمُضَارَبَةِ أَثْبَتَ له خِيَارَ تَضْمِينِ الثَّانِي لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الثَّانِي يَعْمَلُ في الْمَالِ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ وَهِيَ الرِّبْحُ فَكَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَجَازَ أَنْ يَضْمَنَ وَالْمُودِعُ الثَّانِي لم يَقْبِضْ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ بَلْ لِمَنْفَعَةِ الْأَوَّلِ لِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ فلم يَضْمَنْ فَإِنْ ضَمِنَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ لَا يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ على الثَّانِي وَصَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ بين الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالرِّبْحُ على ما شَرَطَا لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ الضَّمَانُ على الْأَوَّلِ فَقَدْ مَلَكَ الْمَضْمُونَ وَصَارَ كَأَنَّهُ دَفَعَ مَالَ نَفْسِهِ مُضَارَبَةً إلَى الثَّانِي فَكَانَ الرِّبْحُ على ما شَرَطَا لِأَنَّ الشَّرْطَ قد صَحَّ وَإِنْ ضَمِنَ الثَّانِي رَجَعَ بِمَا ضَمِنَ على الْأَوَّلِ وَصَارَ حَاصِلُ الضَّمَانِ على الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ غَرَّهُ بِالْعَقْدِ فَصَارَ مَغْرُورًا من جِهَتِهِ
فَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ عليه بِمَا ضَمِنَ كَمُودِعِ الْغَاصِبِ وهو ضَمَانُ كَفَالَةٍ في الْحَقِيقَةِ
لِأَنَّ الْأَوَّلَ الْتَزَمَ له سَلَامَةَ الْمَقْبُوضِ عن الضَّمَانِ ولم يُسَلِّمْ له بِخِلَافِ الرَّهْنِ
وهو ما إذَا غَصَبَ رَجُلٌ شيئا فَرَهَنَهُ فملك ( ( ( فهلك ) ) ) في يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَاخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَ الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ يَرْجِعُ على الرَّاهِنِ بِمَا ضَمِنَ وَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الرَّهْنِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ قَبْضَ الْمَرْهُونِ شَرْطُ صِحَّةِ الرَّهْنِ وَلَمَّا ضَمِنَ الْمُرْتَهِنُ تَبَيَّنَ أَنَّ قَبْضَهُ لم يَصِحَّ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الرَّهْنَ لم يَصِحَّ إذْ لَا صِحَّةَ له بِدُونِ الْقَبْضِ فَأَمَّا في الْمُضَارَبَةِ فَيَضْمَنُ الثَّانِي إبْطَالَ الْقَبْضِ بَعْدَ وُجُودِهِ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ عَقْدٌ جَائِزٌ فَكَانَ لِبَقَائِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ كَأَنَّهُ ابْتَدَأَ الْعَقْدَ بَعْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ فَكَانَ التَّضْمِينُ إبْطَالَ الْقَبْضِ بَعْدَ وُجُودِهِ وَذَلِكَ لَا يُبْطِلُ الْمُضَارَبَةَ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَارِبَ لو بَاعَ الْمَالَ من رَبِّ الْمَالِ لَا تَبْطُلُ الْمُضَارَبَةُ وَإِنْ بَطَلَ قَبَضَهُ وَلَوْ رَدَّ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ على الرَّاهِنِ يَبْطُلُ الرَّهْنُ لِذَلِكَ افْتَرَقَا
وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَطِيبُ الرِّبْحُ لِلْأَسْفَلِ وَلَا يَطِيبُ لِلْأَعْلَى على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَسْفَلِ بِعَمَلِهِ وَلَا خَطَرَ في عَمَلِهِ فَيَطِيبُ له الرِّبْحُ
فَأَمَّا الْأَعْلَى
____________________

(6/96)


فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِرَأْسِ الْمَالِ وَالْمِلْكُ في رَأْسِ الْمَالِ إنَّمَا حَصَلَ له بِالضَّمَانِ فَلَا يَخْلُو عن نَوْعِ خُبْثٍ فَلَا يَطِيبُ له وَإِنْ كَانَتَا فَاسِدَتَيْنِ فَلَا ضَمَانَ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَجِيرٌ في مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالثَّانِي أَجِيرُ الْأَوَّلِ فَصَارَ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَعْمَلُ في مَالِهِ فَاسْتَأْجَرَ الْأَجِيرُ رَجُلًا
وَإِنْ كانت إحْدَاهُمَا صَحِيحَةً وَالْأُخْرَى فَاسِدَةً فَإِنْ كانت الْأُولَى صَحِيحَةً وَالْأُخْرَى فَاسِدَةً فَكَذَلِكَ لَا ضَمَانَ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ عَمِلَ الْمُضَارِبُ الثَّانِي في الْمَالِ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الثَّانِي أَجِيرُ الْأَوَّلِ وَالْأَجِيرُ لَا يَسْتَحِقُّ شيئا من الرِّبْحِ فلم يَثْبُتْ له شَرِكَةٌ في رَأْسِ الْمَالِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ على الْأَوَّلِ وَلَا على الثَّانِي لِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ على الْأَجِيرِ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ على الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ وَلِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ ما شَرَطَ له من الرِّبْحِ لِوُقُوعِ الْمُضَارَبَةِ صَحِيحَةً وَإِنْ كانت الْأُولَى فَاسِدَةً والثاني ( ( ( والثانية ) ) ) صَحِيحَةً فَكَذَلِكَ
لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَجِيرٌ في مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَلَا حَقَّ له في الرِّبْحِ فلم يَنْفُذْ شَرْطُهُ فيه فَلَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ إذْ الضَّمَانُ إنَّمَا يَجِبُ بِإِثْبَاتِ الشَّرِكَةِ وَيَكُونُ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ
لِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ في مُضَارَبَةٍ فَاسِدَةٍ وَلِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ أَجْرُ مِثْلِهِ لِأَنَّ عَمَلَ الثَّانِي وَقَعَ له فَكَأَنَّهُ عَمِلَ بِنَفْسِهِ وَلِلثَّانِي على الْأَوَّلِ مِثْلُ ما شَرَطَ له من الرِّبْحِ لِأَنَّهُ عَمَلُ مُضَارَبَةٍ صَحِيحَةٍ وقد سمي له أَشْيَاءَ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْغَيْرِ فَيَضْمَنُ هذا إذَا لم يَقُلْ له رَبُّ الْمَالِ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ فَأَمَّا إذَا قال له اعْمَلْ بِرَأْيِكَ فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ مُضَارَبَةً إلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الرَّأْيَ إلَيْهِ وقد رَأَى أَنْ يَدْفَعَهُ مُضَارَبَةً فَكَانَ له ذلك
ثُمَّ إذَا عَمِلَ الثَّانِي وَرَبِحَ كَيْفَ يَقْسِمُ الرِّبْحَ فَنَقُولُ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ كان أَطْلَقَ الرِّبْحَ في عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ ولم يُضِفْهُ إلَى الْمُضَارِبِ بِأَنْ قال على أَنَّ ما رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى من الرِّبْحِ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ أو قال ما أَطْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى من رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ
وأما إن أَضَافَهُ إلَى الْمُضَارِبِ بِأَنْ قال على أَنَّ ما رَزَقَكَ اللَّهُ تَعَالَى من الرِّبْحِ أو ما أَطْعَمَكَ اللَّهُ عز وجل من رِبْحٍ أو على أَنَّ ما رَبِحْتَ من شَيْءٍ أو ما أَصَبْتَ من رِبْحٍ فَإِنْ أَطْلَقَ الرِّبْحَ ولم يُضِفْهُ إلَى الْمُضَارِبِ ثُمَّ دَفَعَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ الْمَالَ إلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ فَرَبِحَ الثَّانِي فَثُلُثُ جَمِيعِ الرِّبْحِ لِلثَّانِي لِأَنَّ شَرْطَ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي قد صَحَّ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نِصْفَ الرِّبْحِ فَكَانَ ثُلُثُ جَمِيعِ الرِّبْحِ بَعْضَ ما يَسْتَحِقُّهُ الْأَوَّلُ فَجَازَ شَرْطُهُ لِلثَّانِي فَكَانَ ثُلُثُ جَمِيعِ الرِّبْحِ لِلثَّانِي وَنِصْفُهُ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَمْلِكُ من نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ شيئا فَانْصَرَفَ شَرْطُهُ إلَى نَصِيبِهِ لَا إلَى نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ
فَبَقِيَ نَصِيبُ رَبِّ الْمَالِ على حَالِهِ وهو النِّصْفُ وَسُدُسُ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لم يَجْعَلْهُ لِلثَّانِي فَبَقِيَ له بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ وَيَطِيبُ له ذلك لِأَنَّ عَمَلَ الْمُضَارِبِ الثَّانِي وَقَعَ له فَكَأَنَّهُ عَمِلَ بِنَفْسِهِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا على خِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ فَاسْتَأْجَرَ الْأَجِيرُ من خَاطَهُ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ طَابَ له الْفَضْلُ لِأَنَّ عَمَلَ أَجِيرِهِ وَقَعَ له فَكَأَنَّهُ عَمِلَ بِنَفْسِهِ كَذَا هذا وَلَوْ دَفَعَ إلَى الثَّانِي مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَنِصْفُ الرِّبْحِ لِلثَّانِي وَنِصْفُهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ جَعَلَ جَمِيعَ ما يَسْتَحِقُّهُ وهو نِصْفُ الرِّبْحِ لِلثَّانِي وَصَحَّ جَعْلُهُ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلنِّصْفِ وَالنِّصْفُ لِرَبِّ الْمَالِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ وَصَارَ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا على خِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ فَاسْتَأْجَرَ الْأَجِيرُ من خَاطَهُ بِدِرْهَمٍ
وَلَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثَيْنِ فَنِصْفُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ وَنِصْفُهُ لِلْمُضَارِبِ الثَّانِي وَيَرْجِعُ الثَّانِي على الْأَوَّلِ بِمِثْلِ سُدُسِ الرِّبْحِ الذي شَرَطَهُ له لِأَنَّ شَرْطَ الزِّيَادَةِ إنْ لم يَنْفُذْ في حَقِّ رَبِّ الْمَالِ لَمَّا لم يَرْضَ لِنَفْسِهِ بِأَقَلَّ من نِصْفِ الرِّبْحِ فَقَدْ صَحَّ فِيمَا بين الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِأَنَّ الْأَوَّلَ غَرَّ الثَّانِي بِتَسْمِيَةِ الزِّيَادَةِ وَالْغُرُورُ في الْعُقُودِ من أَسْبَابِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وهو في الْحَقِيقَةِ ضَمَانُ الْكَفَالَةِ وهو أَنَّ الْأَوَّل صَارَ مُلْتَزِمًا سَلَامَةَ هذا الْقَدْرِ لِلثَّانِي ولم يُسَلِّمْ له فَيَغْرَمُ لِلثَّانِي مِثْلَ سُدُسِ الرِّبْحِ وَلَا يَصِيرُ بِذَلِكَ مُخَالِفًا لِأَنَّ شَرْطَهُ لم يَنْفُذْ في حَقِّ رَبِّ الْمَالِ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ في حَقِّهِ فَلَا يَضْمَنُ وَصَارَ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ فَاسْتَأْجَرَ الْأَجِيرُ من يَخِيطُهُ بِدِرْهَمٍ وَنِصْفٍ أنه يَضْمَنُ زِيَادَةَ الْأُجْرَةِ كَذَا هذا
وَلَوْ أَضَافَهُ إلَى الْمُضَارِبِ فَدَفَعَهُ الْأَوَّلُ مُضَارَبَةً إلَى غَيْرِهِ بِالثُّلُثِ أو بِالنِّصْفِ أو بِالثُّلُثَيْنِ فَجَمِيعُ ما شَرَطَ لِلثَّانِي من الرِّبْحِ يُسَلَّمُ له وما شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ من الرِّبْحِ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ نِصْفَيْنِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ هُنَا شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ نِصْفَ ما رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُضَارِبِ أو نِصْفَ ما رَبِحَ الْمُضَارِبُ فإذا دَفَعَ إلَى الثَّانِي مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ كان الذي رَزَقَ اللَّهُ عز وجل الْمُضَارِبَ الْأَوَّلَ الثُّلُثَيْنِ فَكَانَ الثُّلُثُ لِلثَّانِي وَالثُّلُثَانِ بين رَبِّ الْمَالِ وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الثُّلُثُ
____________________

(6/97)


وإذا دَفَعَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ كان ما رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ النِّصْفَ فَكَانَ النِّصْفُ لِلثَّانِي وَالنِّصْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وإذا دَفَعَهُ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثَيْنِ كان الذي رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى الثلث وَالثُّلُثَانِ لِلثَّانِي وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ وفي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ رَبُّ الْمَالِ إنَّمَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ جَمِيعِ ما رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى وَنِصْفَ جَمِيعِ الرِّبْحِ وَذَلِكَ يَنْصَرِفُ إلَى كل الرِّبْحِ
وَكَذَا له أَنْ يَخْلِطَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ بِمَالِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ فرض ( ( ( فوض ) ) ) الرَّأْيَ إلَيْهِ وقد رَأَى الْخَلْطَ
وإذا رَبِحَ قَسَّمَ الرِّبْحَ على الْمَالَيْنِ فَرِبْحُ مَالِهِ يَكُونُ له خَاصَّةً وَرِبْحُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ
وَكَذَا له أَنْ يُشَارِكَ غَيْرَهُ شَرِكَةَ عِنَانٍ لِمَا قُلْنَا وَيَقْسِمُ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ لِأَنَّ الشَّرْطَ قد صَحَّ وإذا قَسَمَ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا يَكُونُ مَالُ الْمُضَارَبَةِ مع حِصَّةِ الْمُضَارِبِ من الرِّبْحِ فَيَسْتَوْفِي منها رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ وما فَضَلَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ
وَأَمَّا الْقِسْمُ الذي ليس لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَهُ أَصْلًا وَرَأْسًا فَشِرَاءُ ما لَا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ وما لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فيه إذَا قَبَضَهُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوُ شِرَاءِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وأما ( ( ( وأم ) ) ) الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَتَضَمَّنُ الْإِذْنَ بِالتَّصَرُّفِ الذي يَحْصُلُ بِهِ الرِّبْحُ وَالرِّبْحُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فما لَا يُمْلَكُ بِالشِّرَاءِ لَا يَحْصُلُ فيه الرِّبْحُ وما يُمْلَكُ بِالشِّرَاءِ لَكِنْ لَا يَقْدِرُ على بَيْعِهِ لَا يَحْصُلُ فيه الرِّبْحُ أَيْضًا فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِذْنِ فَإِنْ اشْتَرَى شيئا من ذلك كان مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لَا لِلْمُضَارَبَةِ فَإِنْ دَفَعَ فيه شيئا من مَالِ الْمُضَارَبَةِ يَضْمَنُ وَإِنْ اشْتَرَى ثَوْبًا أو عَبْدًا أو عَرْضًا من الْعُرُوضِ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا سِوَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَالشِّرَاءُ على الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ هُنَا مِمَّا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ فَكَانَ هذا شِرَاءً فَاسِدًا وَالْإِذْنُ بِالشِّرَاءِ الْمُسْتَفَادِ بِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ يَتَنَاوَلُ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ
وَأَمَّا إذَا كان الثَّمَنُ مَيْتَةً أو دَمًا فما اشْتَرَى بِهِ لَا يَكُونُ على الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ لَا تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ أَصْلًا
أما الثَّانِي فَنَحْوُ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَا رَحِم مَحْرَمٍ من رَبِّ الْمَالِ فَلَا يَكُونُ المشتري لِلْمُضَارَبَةِ بَلْ يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لو وَقَعَ شِرَاؤُهُ لِلْمُضَارَبَةِ لَعَتَقَ على رَبِّ الْمَالِ فَلَا يَقْدِرُ على بَيْعِهِ بَعْدَ ذلك وَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ من الْإِذْنِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِذْنِ
وَلَوْ اشْتَرَى ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ من نَفْسِهِ فَإِنْ لم يَكُنْ في الْمَالِ رِبْحٌ فَالشِّرَاءُ على الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ له فيه فَيَقْدِرُ على بَيْعِهِ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَإِنْ كان في الْمَالِ رِبْحٌ لم يَكُنْ الشِّرَاءُ على الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهُ إذَا كان في الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ يَمْلِكُ قَدْرَ نَصِيبِهِ من الرِّبْحِ فَيَعْتِقُ ذلك الْقَدْرُ عليه فَلَا يَقْدِرُ على بَيْعِهِ وَلَا على بَيْعِ الْبَاقِي لِأَنَّهُ مُعْتَقُ الْبَعْضِ وما لَا يَقْدِرُ على بَيْعِهِ لَا يَكُونُ لِلْمُضَارَبَةِ لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ الْمُقَيَّدَةُ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ الْمُطْلَقَةِ في جَمِيعِ ما وَصَفْنَا لَا تُفَارِقُهَا إلَّا في قَدْرِ الْقَيْدِ وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الْقَيْدَ إنْ كان مُفِيدًا يَثْبُتُ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الشُّرُوطِ اعْتِبَارُهَا ما أَمْكَنَ وإذا كان الْقَيْدُ مُفِيدًا كان يُمْكِنُ الِاعْتِبَارُ فَيُعْتَبَرُ لِقَوْلِ النبي عليه أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ فَيَتَقَيَّدُ بِالْمَذْكُورِ وَيَبْقَى مُطْلَقًا فِيمَا وَرَاءَهُ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ في الْمُطْلَقِ إذَا قُيِّدَ بِبَعْضِ الْمَذْكُورِ إنَّهُ يَبْقَى مُطْلَقًا فِيمَا وَرَاءَهُ كَالْعَامِّ إذَا خُصَّ منه بَعْضُهُ إنَّهُ يَبْقَى عَامًّا فِيمَا وَرَاءَهُ وَإِنْ لم يَكُنْ مُفِيدًا لَا يَثْبُتُ بَلْ يَبْقَى مُطْلَقًا لِأَنَّ ما لَا فَائِدَةَ فيه يَلْغُو وَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ
إذَا عَرَفْنَا هذا فَنَقُولُ إذَا دَفَعَ رَجُلٌ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً على أَنْ يَعْمَلَ بِهِ في الْكُوفَةِ فَلَيْسَ له أَنْ يَعْمَلَ في غَيْرِ الْكُوفَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ على أَنْ من أَلْفَاظِ الشَّرْطِ وإنه شَرْطٌ مُفِيدٌ لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ تَخْتَلِفُ بِالرُّخْصِ وَالْغَلَاءِ وَكَذَا في السَّفَرِ خَطَرٌ فَيُعْتَبَرُ
وَحَقِيقَةُ الْفِقْهِ في ذلك أَنَّ الأذى ( ( ( الإذن ) ) ) كان عَدَمًا وَإِنَّمَا يَحْدُثُ بِالْعَقْدِ فَيَبْقَى فِيمَا وَرَاءِ ما تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ على أَصْلِ الْعَدَمِ وَكَذَا لَا يُعْطِيهَا بِضَاعَةً لِمَنْ يَخْرُجُ بها من الْكُوفَةِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَمْلِكْ الْإِخْرَاجَ بِنَفْسِهِ فَلَأَنْ لَا يَمْلِكَ الْأَمْرَ بِذَلِكَ أَوْلَى وَإِنْ أَخْرَجَهَا من الْكُوفَةِ فَإِنْ اشْتَرَى بها وَبَاعَ ضَمِنَ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ لَا على الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فَصَارَ فيه مُخَالِفًا فَيَضْمَنُ وكأن المشتري لِنَفْسِهِ له رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضَيْعَتُهُ لَكِنْ لَا يَطِيبُ له الرِّبْحُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَطِيبُ وَإِنْ لم يَشْتَرِ بها شيئا حتى رَدَّهَا إلَى الْكُوفَةِ برىء من الضَّمَانِ وَرَجَعَ الْمَالُ مُضَارَبَةً على حَالِهِ لِأَنَّهُ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ قبل تَقَرُّرِ الْخِلَافِ فَيَبْرَأُ عن الضَّمَانِ كَالْمُودَعِ إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ
وَلَوْ لم يَرُدَّهُ حتى هَلَكَ قبل التَّصَرُّفِ لَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّهُ لَمَّا لم يَتَصَرَّفْ لم يَتَقَرَّرْ الْخِلَافُ فَلَا يَضْمَنُ
وَلَوْ اشْتَرَى بِبَعْضِهِ وَرَدَّ بَعْضَهُ فما اشْتَرَاهُ فَهُوَ له وما رَدَّ رَجَعَ على الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ الْخِلَافُ في الْقَدْرِ الْمُشْتَرَى وَزَالَ عن الْقَدْرِ الْمَرْدُودِ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ على أَنْ يَعْمَلَ في سُوقِ الْكُوفَةِ فَعَمِلَ في الْكُوفَةِ في غَيْرِ
____________________

(6/98)


سُوقِهَا فَهُوَ جَائِزٌ على الْمُضَارَبَةِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ شَرَطَ عليه الْعَمَلَ في مَكَان مُعَيَّنٍ فَلَا يَجُوزُ في غَيْرِهِ كما لو شَرَطَ ذلك في بَلَدٍ مُعَيَّنٍ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِسُوقِ الْكُوفَةِ غَيْرُ مُفِيدٍ لِأَنَّ الْبَلَدَ الْوَاحِدَ بِمَنْزِلَةِ بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا فَائِدَةَ في التَّعْلِيقِ بهذا الشَّرْطِ فَيَلْغُو الشَّرْطُ
وَلَوْ قال له اعْمَلْ بِهِ في سُوقِ الْكُوفَةِ أو لَا تَعْمَلْ بِهِ إلَّا في سُوقِ الْكُوفَةِ فَعَمِلَ في غَيْرِ سُوقِ الْكُوفَةِ يَضْمَنُ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا تَعْمَلْ إلَّا في سُوقِ الْكُوفَةِ حَجْرٌ له فَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ الْحَجْرِ وفي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ما حَجَرَ عليه بَلْ شَرَطَ عليه أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ في السُّوقِ وَالشَّرْطُ غَيْرُ مُفِيدٍ فَلَغَا
وَلَوْ قال له خُذْ هذا الْمَالَ تَعْمَلْ بِهِ في الْكُوفَةِ لم يَجُزْ له الْعَمَلُ في غَيْرِهَا لِأَنَّ في كَلِمَةُ ظَرْفٍ فَقَدْ جَعَلَ الْكُوفَةَ ظَرْفًا لِلتَّصَرُّفِ الذي أَذِنَ له فيه فَلَوْ جَازَ في غَيْرِهَا لم تَكُنْ الْكُوفَةُ ظَرْفًا لِتَصَرُّفِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قال له فَاعْمَلْ بِهِ في الْكُوفَةِ لِمَا قُلْنَا
وَلِأَنَّ الْفَاءَ من حُرُوفِ التَّعْلِيقِ فَتُوجِبُ تَعَلُّقَ ما قَبْلَهَا بِمَا بَعْدَهَا وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ إذَا لم يَجُزْ التَّصَرُّفُ في غَيْرِهَا
وَكَذَلِكَ إذَا قال خُذْ هذا الْمَالَ بِالتَّصَرُّفِ بِالْكُوفَةِ لِأَنَّ الْبَاءَ حَرْفُ إلْصَاقٍ فَتَقْتَضِي الْتِصَاقَ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ وَهَذَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّصَرُّفِ في غَيْرِهَا
وَلَوْ قال خُذْ هذا الْمَالَ مُضَارَبَةً وَاعْمَلْ بِهِ في الْكُوفَةِ فَلَهُ أَنْ يُعْمِلَهُ بِالْكُوفَةِ وَحَيْثُ ما بَدَا له لِأَنَّ قَوْلَهُ خُذْ هذا الْمَالَ مُضَارَبَةً إذْنٌ له في التَّصَرُّفِ مُطْلَقًا وَقَوْلَهُ وَاعْمَلْ بِهِ في الْكُوفَةِ إذْنٌ له بِالْعَمَلِ في الْكُوفَةِ فَكَانَ له أَنْ يَعْمَلَ في أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ كَمَنْ قال لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدًا من عَبِيدِي ثُمَّ قال له أَعْتِقْ عَبْدِي سَالِمًا أن له أَنْ يُعْتِقَ أَيَّ عَبْدٍ شَاءَ وَلَا يَتَقَيَّدُ التَّوْكِيلُ بِإِعْتَاقِ سَالِمٍ
كَذَا هذا إذْ الْمُضَارَبَةُ تَوْكِيلٌ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ
وَلَوْ قال خُذْ هذا الْمَالَ مُضَارَبَةً إلَى سَنَةٍ جَازَتْ الْمُضَارَبَةُ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ إذَا وَقَّتَ لِلْمُضَارَبَةِ وَقْتًا فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَوْنُهَا في الْوَقْتِ فَلَا يُفِيدُ الْعَقْدُ فَائِدَةً
وَلَنَا أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَوْكِيلٌ وَالتَّوْكِيلُ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ وقال لم يَجُزْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا تَوْقِيتُ الْمُضَارَبَةِ وَقِيَاسُ قَوْلِهِمْ في الْوَكَالَةِ إنها لَا تَخْتَصُّ بِالْوَقْتِ لِأَنَّهُمْ قالوا لو وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ الْيَوْمَ فَبَاعَهُ غَدًا جَازَ كَالْوَكَالَةِ الْمُطْلَقَةِ وما قَالَهُ ليس بِسَدِيدٍ لِأَنَّهُمْ قالوا في الْوَكِيلِ إذَا قِيلَ له بِعْهُ الْيَوْمَ وَلَا تَبِعْهُ غَدًا جَازَ ذلك ولم يَكُنْ له أَنْ يَبِيعَهُ غَدًا وَكَذَا إذَا قِيلَ له على أَنْ تَبِيعَهُ الْيَوْمَ دُونَ غَدٍ
وَلَوْ قال خُذْ هذا الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ على أَنْ تَشْتَرِيَ بِهِ الطَّعَامَ أو قال فاشتري ( ( ( فاشتر ) ) ) بِهِ الطَّعَامَ أو قال تَشْتَرِي بِهِ الطَّعَامَ أو قال خُذْ هذا الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ في الطَّعَامِ فَذَلِكَ كُلُّهُ سَوَاءٌ وَلَيْسَ له أَنْ يَشْتَرِيَ سِوَى الطَّعَامِ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا ذَكَرْنَا على أَنَّ أن لِلشَّرْطِ وَالْأَصْلُ في الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ في الْكَلَامِ اعْتِبَارُهُ وَالْفَاءُ لِتَعْلِيقِ ما قَبْلَهَا بِمَا بَعْدَهَا
وَقَوْلُهُ يَشْتَرِي بِهِ الطَّعَامَ تَفْسِيرُ التَّصَرُّفِ الْمَأْذُونِ بِهِ وَقَوْلُهُ في الطَّعَامِ فَفِي كَلِمَةُ ظَرْفٍ فإذا دَخَلَتْ على ما لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا تَصِيرُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ وَكُلُّ ذلك يَقْتَضِي التَّقْيِيدَ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ وإنه شَرْطٌ مُفِيدٌ لِأَنَّ بَعْضَ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْمَقْصُودِ من بَعْضٍ وَكَذَا الناس مُخْتَلِفُونَ في ذلك فَقَدْ يهدى ( ( ( يهتدي ) ) ) الْإِنْسَانُ إلَى بَعْضِ التِّجَارَةِ دُونَ بَعْضٍ فَكَانَ الشَّرْطُ مُفِيدًا فَيَتَقَيَّدُ بِهِ وَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ غير الطَّعَامِ وَالطَّعَامُ هو الْحِنْطَةُ وَدَقِيقُهَا إذْ لَا يُرَادُ بِهِ كُلُّ ما يُتَطَعَّمُ بَلْ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ وَالْأَمْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَادَةِ الْبُلْدَانِ فَاسْمُ الطَّعَامِ في عُرْفِهِمْ لَا يَنْطَلِقُ إلَّا على الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا وَكَذَلِكَ لو ذَكَرَ جِنْسًا آخَرَ بِأَنْ قال له خُذْ هذا الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ على أَنْ تَشْتَرِيَ بِهِ الدَّقِيقَ أو الْخُبْزَ أو الْبُرَّ أو غير ذلك ليس له أَنْ يَعْمَلَ من غَيْرِ ذلك الْجِنْسِ بِلَا خِلَافٍ لَكِنْ له أَنْ يَشْتَرِيَ ذلك الْجِنْسَ في الْمِصْرِ وَغَيْرِهِ وَأَنْ يُبْضِعَ فيه وَأَنْ يَعْمَلَ فيه جَمِيعَ ما يَعْمَلُهُ الْمُضَارِبُ في الْمُضَارَبَةِ الْمُطْلَقَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّفْظَ الْمُطْلَقَ إذَا قُيِّدَ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ يَبْقَى على إطْلَاقِهِ فِيمَا وَرَاءَهُ
وقال ابن سِمَاعَةَ سمعت مُحَمَّدًا قال في رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً فقال له إنْ اشْتَرَيْتَ بِهِ الْحِنْطَةَ فَلَكَ من الرِّبْحِ النِّصْفُ وَلِيَ النِّصْفُ وَإِنْ اشْتَرَيْتَ بِهِ الدَّقِيقَ فَلَكَ الثُّلُثُ وَلِيَ الثُّلُثَانِ فقال هذا جَائِزٌ وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ أَيَّ ذلك شَاءَ على ما سَمَّى له رَبُّ الْمَالِ لِأَنَّهُ خَيَّرَهُ بين عَمَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَيَجُوزُ كما لو خَيَّرَ الْخَيَّاطَ بين الْخِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ
وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ على أَنَّهُ إنْ عَمِلَ في الْمِصْرِ فَلَهُ ثُلُثُ الرِّبْحِ وَإِنْ سَافَرَ فَلَهُ النِّصْفُ جَازَ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا على ما شَرَطَا إنْ عَمِلَ في الْمِصْرِ فَلَهُ الثُّلُثُ وَإِنْ سَافَرَ فَلَهُ النِّصْفُ وَلَوْ اشْتَرَى في الْمِصْرِ وَبَاعَ في السَّفَرِ أو اشْتَرَى في السَّفَرِ وَبَاعَ في الْمِصْرِ فَقَدْ رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال الْمُضَارَبَةُ في هذا على الشِّرَاءِ فَإِنْ اشْتَرَى في الْمِصْرِ فما رَبِحَ في ذلك الْمَتَاعِ فَهُوَ على ما شُرِطَ في الْمِصْرِ سَوَاءٌ
____________________

(6/99)


بَاعَهُ في الْمِصْرِ أو في غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِالْعَمَلِ وَالْعَمَلُ يَحْصُلُ بِالشِّرَاءِ فإذا اشْتَرَى في الْمِصْرِ تَعَيَّنَ أَحَدُ الْعَمَلَيْنِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِالسَّفَرِ وَإِنْ عَمِلَ بِبَعْضِ الْمَالِ في السَّفَرِ وَبِالْبَعْضِ في الْحَضَرِ فَرِبْحُ كل وَاحِدٍ من الْمَالَيْنِ على ما شَرَطَ
وَلَوْ قال له على أَنْ تَشْتَرِيَ من فُلَانٍ وَتَبِيعَ منه جَازَ عِنْدَنَا وهو على فُلَانٍ خَاصَّةً ليس له أَنْ يَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ من غَيْرِهِ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ في تَعْيِينِ الشَّخْصِ تَضْيِيقَ طَرِيقِ الْوُصُولِ إلَى الْمَقْصُودِ من التَّصَرُّفِ وهو الرِّبْحُ وَتَغْيِيرَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ التَّصَرُّفُ مع من شَاءَ
وَلَنَا أَنَّ هذا شَرْطٌ مُفِيدٌ لِاخْتِلَافِ الناس في الثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ من بَعْضِ الناس قد يَكُونُ أَرْبَحَ لِكَوْنِهِ أَسْهَلَ في الْبَيْعِ وقد يَكُونُ أَوْثَقَ على الْمَالِ فَكَانَ التَّقْيِيدُ مُفِيدًا كَالتَّقْيِيدِ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ
وَقَوْلُهُ التَّعْيِينُ يُغَيِّرُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ
قُلْنَا ليس كَذَلِكَ بَلْ هو مُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ مُفِيدًا من الِابْتِدَاءِ وَإِنَّهُ قَيْدٌ مُفِيدٌ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ
وَلَوْ قال على أَنْ تَشْتَرِيَ بها من أَهْلِ الْكُوفَةِ وَتَبِيعَ فَاشْتَرَى وَبَاعَ من رِجَالٍ بِالْكُوفَةِ من غَيْرِ أَهْلِهَا فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ هذا الشَّرْطَ لَا يُفِيدُ إلَّا تَرْكَ السَّفَرِ كَأَنَّهُ قال على أَنْ تَشْتَرِيَ مِمَّنْ بِالْكُوفَةِ وَكَذَلِكَ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا مُضَارَبَةً في الصَّرْفِ على أَنْ يَشْتَرِيَ من الصَّيَارِفَةِ وَيَبِيعَ كان له أَنْ يَشْتَرِيَ من غَيْرِ الصَّيَارِفَةِ ما بَدَا له من الصَّرْفِ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِالصَّيَارِفَةِ لَا يُفِيدُ إلَّا تَخْصِيصَ الْبَلَدِ أو النَّوْعِ فإذا حَصَلَ ذلك من صَيْرَفِيٍّ أو غَيْرِهِ فَهُوَ سَوَاءٌ
وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا مُضَارَبَةً ثُمَّ قال له بَعْدَ ذلك اشْتَرِ بِهِ الْبَزَّ وَبِعْ فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْبَزَّ وَغَيْرَهُ لِأَنَّهُ أَذِنَ بِالشِّرَاءِ مُطْلَقًا ثُمَّ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ الْبَزِّ فَكَانَ له أَنْ يَشْتَرِيَ ما شَاءَ وَهَذَا كَقَوْلِهِ خُذْ هذا الْمَالَ مُضَارَبَةً وَاعْمَلْ بِهِ بِالْكُوفَةِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ الْقَيْدَ مُقَارَنٌ وَهَهُنَا مُتَرَاخٍ وقد ذَكَرْنَاهُ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إن هذا مَحْمُولٌ على أَنَّهُ نَهَاهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَالْحُكْمُ في التَّقْيِيدِ الطارىء على مُطْلَقِ الْعَقْدِ أَنَّهُ إنْ كان ذلك قبل الشِّرَاءِ يَعْمَلُ وَإِنْ كان بعدما اشْتَرَى بِهِ لَا يَعْمَلُ إلَى أَنْ يَبِيعَهُ بِمَالِ عَيْنٍ فَيَعْمَلُ التَّقْيِيدُ عِنْدَ ذلك حتى لَا يَجُوزَ أَنْ يَشْتَرِيَ إلَّا ما قال
وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا مُضَارَبَةً على أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِالنَّقْدِ فَلَيْسَ له أَنْ يَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ إلَّا بِالنَّقْدِ لِأَنَّ هذا التَّقْيِيدَ مُفِيدٌ فَيَتَقَيَّدُ بِالْمَذْكُورِ
وَلَوْ قال له بِعْ بِنَسِيئَةٍ وَلَا تَبِعْ بِالنَّقْدِ فَبَاعَ بِالنَّقْدِ جَازَ
لِأَنَّ النَّقْدَ أَنْفَعُ من النَّسِيئَةِ فلم يَكُنِ التَّقْيِيدُ بها مُفِيدًا فَلَا يَثْبُتُ الْقَيْدُ وَصَارَ كما لو قال لِلْوَكِيلِ بِعْ بِعَشَرَةٍ فَبَاعَ بِأَكْثَرَ منها جَازَ
كذا هذا
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى عَمَلِ رَبِّ الْمَالِ مِمَّا له أَنْ يَعْمَلَهُ وما ليس له أَنْ يَعْمَلَهُ فَقَدْ قال أَصْحَابُنَا إذَا بَاعَ رَبُّ الْمَالِ مَالَ الْمُضَارَبَةِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أو أَكْثَرَ جَازَ بَيْعُهُ وإذا بَاعَ بِأَقَلَّ من قِيمَتِهِ لم يَجُزْ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْمُضَارِبُ سَوَاءٌ بَاعَ بِأَقَلَّ من قِيمَتِهِ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ الناس فيه أو مِمَّا يَتَغَابَنُ الناس فيه لِأَنَّ جَوَازَ بَيْعِ رَبِّ الْمَالِ من طَرِيقِ الْإِعَانَةِ لِلْمُضَارِبِ وَلَيْسَ من الْإِعَانَةِ إدْخَالُ النَّقْصِ عليه بَلْ هو اسْتِهْلَاكٌ فَلَا يَتَحَمَّلُ قَلَّ أو كَثُرَ وَعَلَى هذا لو كان الْمُضَارِبُ اثْنَيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ لم يَجُزْ أَنْ يَبِيعَهُ إلَّا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أو أَكْثَرَ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ لِأَنَّ أَحَدَ الْمُضَارِبَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ بَلْ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ وهو لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِنَفْسِهِ إذَا كان فيه غَبْنٌ فَلَا يَمْلِكُ الْأَمْرَ بِهِ وإذا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ مَتَاعًا وَفِيهِ فَضْلٌ أو لَا فَضْلَ فيه فَأَرَادَ رَبُّ الْمَالِ بَيْعَ ذلك فَأَبَى الْمُضَارِبُ وَأَرَادَ إمْسَاكَهُ حتى يَجِدَ رِبْحًا فإن الْمُضَارِبَ يُجْبَرُ على بَيْعِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ مَنْعَ الْمَالِكِ عن تَنْفِيذِ إرَادَتِهِ في مِلْكِهِ لِحَقٍ يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ وَالْعَدَمَ وهو الرِّبْحُ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَلَكِنْ يُقَالُ له إنْ أَرَدْتَ الْإِمْسَاكَ فَرُدَّ عليه مَالَهُ وَإِنْ كان فيه رِبْحٌ يُقَالُ له ادْفَعْ إلَيْهِ رَأْسَ الْمَالِ وَحِصَّتَهُ من الرِّبْحِ وَيُسَلِّمُ الْمَتَاعَ إلَيْكَ
وَلَوْ أَخَذَ رَجُلٌ مَالًا لِيَعْمَلَ لِأَجْلِ ابْنِهِ مُضَارَبَةً فَإِنْ كان الِابْنُ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ الْبَيْعَ فَالْمُضَارَبَةُ لِلْأَبِ وَلَا شَيْءَ لِلِابْنِ من الرِّبْحِ لِأَنَّ الرِّبْحَ في بَابِ الْمُضَارَبَةِ يُسْتَحَقُّ بِالْمَالِ أو بِالْعَمَلِ وَلَيْسَ لِلِابْنِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَإِنْ كان الِابْنُ يَقْدِرُ على الْعَمَلِ فَالْمُضَارَبَةُ لِلِابْنِ وَالرِّبْحُ له إنْ عَمِلَ فَإِنْ عَمِلَ الْأَبُ بِأَمْرِ الِابْنِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ وَإِنْ عَمِلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ ليس له أَنْ يَعْمَلَ فيه بِغَيْرِ إذْنِهِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ
وقد قالوا في الْمُضَارِبِ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَطَأَهَا سَوَاءٌ كان فيه رِبْحٌ أو لم يَكُنْ
أَمَّا إذَا كان فيه رِبْحٌ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّ لِلْمُضَارِبِ فيه مِلْكًا وَلَا يَجُوزُ وَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ فيها رِبْحٌ فَلِلْمُضَارِبِ فيها حَقٌّ يُشْبِهُ الْمِلْكَ بِدَلِيلِ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَا يَمْلِكُ مَنْعَهُ من التَّصَرُّفِ
وَلَوْ مَاتَ كان لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَهَا
____________________

(6/100)


فَصَارَتْ كَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ
وَيَجُوزُ شِرَاءُ رَبِّ الْمَالِ من المضارب ( ( ( المضاربة ) ) ) وَشِرَاءُ الْمُضَارِبِ من رَبِّ الْمَالِ وَإِنْ لم يَكُنْ في الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ بَيْنَهُمَا في مَالِ الْمُضَارَبَةِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ هذا بَيْعُ مَالِهِ بِمَالِهِ وَشِرَاءُ مَالهِ بِمَالِهِ إذْ الْمَالَانِ جميعا لِرَبِّ الْمَالِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ كَالْوَكِيلِ مع الْمُوَكِّلِ
وَلَنَا أَنَّ لِرَبِّ الْمَالِ في مَالِ الْمُضَارَبَةِ مِلْكَ رَقَبَةٍ لَا مِلْكَ تَصَرُّفٍ وَمِلْكُهُ في حَقِّ التَّصَرُّفِ كَمِلْكِ الْأَجْنَبِيِّ
وَلِلْمُضَارِبِ فيه مِلْكُ التَّصَرُّفِ لَا الرَّقَبَةِ فَكَانَ في حَقِّ مِلْكِ الرَّقَبَةِ كَمِلْكِ الْأَجْنَبِيِّ حتى لَا يَمْلِكَ رَبُّ الْمَالِ مَنْعَهُ عن التَّصَرُّفِ فَكَانَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ في حَقِّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَالِ الْأَجْنَبِيِّ لِذَلِكَ جَازَ الشِّرَاءُ بَيْنَهُمَا وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ دَارًا وَرَبُّ الْمَالِ شَفِيعُهَا بِدَارٍ أُخْرَى بِجَنْبِهَا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ وَإِنْ كان له في الْحَقِيقَةِ لَكِنَّهُ في الْحُكْمِ كَأَنَّهُ ليس له بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ انْتِزَاعَهُ من يَدِ الْمُضَارِبِ وَلِهَذَا جَازَ شِرَاؤُهُ من الْمُضَارِبِ وَلَوْ بَاعَ الْمُضَارِبُ دَارًا من الْمُضَارَبَةِ وَرَبُّ الْمَالِ شَفِيعُهَا فَلَا شُفْعَةَ له سَوَاءٌ كان في الدَّارِ الْمَبِيعَةِ رِبْحٌ وَقْتَ الْبَيْعِ أو لم يَكُنْ أَمَّا إذَا لم يَكُنْ فيها رِبْحٌ فَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ وَكِيلُهُ بِالْبَيْعِ وَالْوَكِيلُ بِبَيْعِ الدَّارِ إذَا بَاعَ لَا يَكُونُ لِلْمُوَكِّلِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ وَإِنْ كان فيها رِبْحٌ
فَأَمَّا حِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ فَكَذَلِكَ وهو وَكِيلُ بَيْعِهَا وَأَمَّا حِصَّةُ الْمُضَارِبِ فَلِأَنَّا لو أَوْجَبْنَا فيها الشُّفْعَةَ لَتَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ على الْمُشْتَرِي وَلِأَنَّ الرِّبْحَ تَابِعٌ لِرَأْسِ الْمَالِ فإذا لم تَجِبْ الشُّفْعَةُ في الْمَتْبُوعِ لَا تَجِبُ في التَّابِعِ
وَلَوْ بَاعَ رَبُّ الْمَالِ دَارًا لِنَفْسِهِ وَالْمُضَارِبُ شَفِيعُهَا بِدَارٍ أُخْرَى من الْمُضَارَبَةِ فَإِنْ كان في يَدِهِ من مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَفَاءٌ بِثَمَنِ الدَّارِ لم تَجِبْ الشُّفْعَةُ لِأَنَّهُ لو أَخَذَ بِالشُّفْعَةِ لَوَقَعَ لِرَبِّ الْمَالِ وَالشُّفْعَةُ لَا تَجِبُ لَبَائِعِ الدَّارِ وَإِنْ لم يَكُنْ في يَدِهِ وَفَاءٌ فَإِنْ لم يَكُنْ في الدَّارِ رِبْحٌ فَلَا شُفْعَةَ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا لِرَبِّ الْمَالِ وَإِنْ كان فيه رِبْحٌ فَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّ له نَصِيبًا في ذلك فَجَازَ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ
وَلَوْ أَنَّ أَجْنَبِيًّا اشْتَرَى دَارًا إلَى جَانِبِ دَارِ الْمُضَارَبَةِ فَإِنْ كان في يَدِ الْمُضَارِبِ وَفَاءٌ بِالثَّمَنِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ لِلْمُضَارَبَةِ وَإِنْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ بَطَلَتْ وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ وَجَبَتْ لِلْمُضَارَبَةِ وَمِلْكُ التَّصَرُّفِ في الْمُضَارَبَةِ لِلْمُضَارِبِ فإذا سَلَّمَ جَازَ بِتَسْلِيمِهِ على نَفْسِهِ وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ وَإِنْ لم يَكُنْ في يَدِهِ وَفَاءٌ فَإِنْ كان في الدَّارِ رِبْحٌ فَالشُّفْعَةُ لِلْمُضَارِبِ وَلِرَبِّ الْمَالِ جميعا فَإِنْ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا فَلِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَهَا جميعا لِنَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ كَدَارٍ بين اثْنَيْنِ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لَهُمَا وَإِنْ لم يَكُنْ في الدَّارِ رِبْحٌ فَالشُّفْعَةُ لِرَبِّ الْمَالِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ لَا نَصِيبَ لِلْمُضَارِبِ فيه
قال أبو يُوسُفَ إذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ أَجِيرًا كُلَّ شَهْرٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لِيَشْتَرِيَ له وَيَبِيعَ ثُمَّ دَفَعَ الْمُسْتَأْجِرُ إلَى الْأَجِيرِ دَرَاهِمَ مُضَارَبَةً فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِلدَّافِعِ وَلَا شَيْءَ لِلْأَجِيرِ سِوَى الْأُجْرَةِ وقال مُحَمَّدٌ الْمُضَارَبَةُ جَائِزَةٌ وَلَا شَيْءَ لِلْأَجِيرِ في الْوَقْتِ الذي يَكُونُ مَشْغُولًا بِعَمَلِ الْمُضَارَبَةِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنه لَمَّا دَفَعَ إلَيْهِ الْمُضَارَبَةَ فَقَدْ اتَّفَقَا على تَرْكِ الْإِجَارَةِ وَنَقْضِهَا فما دَامَ يَعْمَلُ بِالْمُضَارَبَةِ فَلَا أَجْرَ له وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ شَرِكَةٌ لِهَذَا لَا تَقْبَلُ التَّوْقِيتَ وَلَوْ شَارَكَهُ بعدما اسْتَأْجَرَهُ جَازَتْ الشَّرِكَةُ فَكَذَا الْمُضَارَبَةُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَأْجَرَهُ فَقَدْ مَلَكَ عَمَلَهُ فإذا دَفَعَ إلَيْهِ مُضَارَبَةً فَقَدْ شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ رِبْحًا بِعَمَلٍ قد مَلَكَهُ رَبُّ الْمَالِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْجِبَ الرِّبْحَ وَالْأَجْرَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ بِالْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ أَقْوَى من الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ وَالْمُضَارَبَةُ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ وَالشَّيْءُ لَا يَنْتَقِضُ بِمَا هو أَضْعَفُ منه
وما ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ شَرِكَةٌ فَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّرِيكَ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِالْمَالِ وَالْمُضَارِبَ بِالْعَمَلِ وَرَبُّ الْمَالِ قد مَلَكَ الْعَمَلَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمُضَارِبُ الرِّبْحَ وَلِأَنَّ الشَّرِيكَ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ فَكَأَنَّهُ امْتَنَعَ من عَمَلِ الْإِجَارَةِ فَيَسْقُطُ عنه الْأُجْرَةُ بِحِصَّتِهِ وَالْمُضَارِبُ يَعْمَلُ لِرَبِّ الْمَالِ فَبَقِيَ عَمَلُهُ على الْإِجَارَةِ
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ وهو أَلْفٌ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفٌ فَقُتِلَ عَمْدًا فَلِرَبِّ الْمَالِ الْقِصَاصُ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِلْكُهُ على الْخُصُوصِ لَا حَقَّ لِلْمُضَارِبِ فيه وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَلْفَيْنِ لم يَكُنْ فيه قِصَاصٌ وَإِنْ اجْتَمَعَا لِأَنَّ مِلْكَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لم يَتَعَيَّنْ أَمَّا رَبُّ الْمَالِ فَلِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ ليس هو الْعَبْدُ وَإِنَّمَا هو الدَّرَاهِمُ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُعَيِّنَ رَأْسَ مَالِهِ في الْعَبْدِ كان لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَمْنَعَهُ عن ذلك حتى يَبِيعَ وَيَدْفَعَ إلَيْهِ من الثَّمَنِ وإذا لم يَتَعَيَّنْ مِلْكُ رَبِّ الْمَالِ لم يَتَعَيَّنْ مِلْكُ الْمُضَارِبِ قبل اسْتِيفَاءِ رَأْسِ الْمَالِ وإذا لم يَتَعَيَّنْ مِلْكُهُمَا في الْعَبْدِ لم يَجِبْ الْقِصَاصُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ اجْتَمَعَا وَتُؤْخَذُ قِيمَةُ الْعَبْدِ
____________________

(6/101)


من الْقَاتِلِ في مَالِهِ في ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّ الْقِصَاصَ سَقَطَ في الْقَتْلِ الْعَمْدِ لِمَانِعٍ مع وُجُودِ السَّبَبِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ في مَالِهِ وَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ على الْمُضَارَبَةِ يَشْتَرِي بِهِ الْمُضَارِبُ وَيَبِيعُ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَيَكُونُ على الْمُضَارَبَةِ كَالثَّمَنِ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في النَّوَادِرِ إذَا كان في يَدِ الْمُضَارِبِ عَبْدَانِ قِيمَةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ فَقَتَلَ رَجُلٌ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ عَمْدًا لم يَكُنْ لِرَبِّ الْمَالِ عليه قِصَاصٌ لِأَنَّ مِلْكَ رَبِّ الْمَالِ لم يَتَعَيَّنْ في الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ على ما بَيَّنَّا وَعَلَى الْقَاتِلِ قِيمَتُهُ في مَالِهِ وَيَكُونُ في الْمُضَارَبَةِ لِمَا قُلْنَا
وَالْأَصْلُ أَنَّ في كل مَوْضِعٍ وَجَبَ بِالْقَتْلِ الْقِصَاصُ خَرَجَ الْعَبْدُ عن الْمُضَارَبَةِ وفي كل مَوْضِعٍ وَجَبَ بِالْقَتْلِ مَالٌ فَالْمَالُ على الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إذَا استوفى فَقَدْ هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ وَهَلَاكُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْمُضَارَبَةِ وَالْقِيمَةُ بَدَلُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَكَانَتْ على الْمُضَارَبَةِ كَالثَّمَنِ
وقال مُحَمَّدٌ وإذا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِبَعْضِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَقَتَلَهُ رَجُلٌ عَمْدًا فَلَا قِصَاصَ فيه لَا لِرَبِّ الْمَالِ وَلَا لِلْمُضَارِبِ وَلَا لَهُمَا إذَا اجْتَمَعَا أَمَّا رَبُّ الْمَالِ فَلِأَنَّهُ لو اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِرَأْسِ الْمَالِ بِالْقِصَاصِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ ليس بِمَالٍ وَلِهَذَا لو عَفَا الْمَرِيضُ عن الْقِصَاصِ كان من جَمِيعِ الْمَالِ وإذا لم يَصِرْ بِهِ مُسْتَوْفِيًا رَأْسَ مَالِهِ يَسْتَوْفِي رَأْسَ الْمَالِ من بَقِيَّةِ الْمَالِ وإذا اسْتَوْفَى تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَبْدَ كان رِبْحًا فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ انْفَرَدَ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ عن عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ
وَأَمَّا الْمُضَارِبُ فَلِأَنَّهُ لم يَتَعَيَّنْ له فيه مِلْكٌ وَلَا يَجُوزُ لَهُمَا الاجتماع ( ( ( الإجماع ) ) ) على الِاسْتِيفَاءِ لِهَذَا الْمَعْنَى وهو أَنَّ حَقَّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في الْقَتْلِ الْعَمْدِ إذَا ادعى على عبد الْمُضَارَبَةِ إنه هل يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْوَلِيِّ لِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ
قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ يُشْتَرَطُ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُشْتَرَطُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْعَبْدَ في بَابِ الْقِصَاصِ مُبْقًى على أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو أَقَرَّ بِهِ يَجُوزُ إقْرَارُهُ وَإِنْ كَذَّبَهُ الْوَلِيُّ فَلَا يَقِفُ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عليه على حُضُورِ الْمَوْلَى كَالْحُرِّ
وَلَهُمَا إن هذه الْبَيِّنَةَ يَتَعَلَّقُ بها اسْتِحْقَاقُ رَقَبَةِ الْعَبْدِ فَلَا تُسْمَعُ مع غَيْبَةِ الْمَوْلَى كَالْبَيِّنَةِ الْقَائِمَةِ على اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ وَالْبَيِّنَةُ الْقَائِمَةُ على جِنَايَةِ الخطأ وقد قالوا جميعا لو أَقَرَّ الْعَبْدُ بِقَتْلٍ عَمْدًا فَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى وَالْمُضَارِبُ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ
لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقِصَاصِ مِمَّا لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى من عَبْدِهِ وهو مِمَّا يُمْلَكُ فَيَمْلِكُهُ الْعَبْدُ كَالطَّلَاقِ فَإِنْ كان الدَّمُ بين شَرِيكَيْنِ وقد أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ فَعَفَا أَحَدُهُمَا فَلَا شَيْءَ لِلْآخَرِ لِأَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ انْقَلَبَ مَالًا وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ غَيْرُ مَقْبُولٍ في حَقِّ الْمَالِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَقَرَّ بِجِنَايَةِ الخطأ فَإِنْ كان رَبُّ الْمَالِ صَدَّقَهُ في إقْرَارِهِ وَكَذَّبَهُ الْمُضَارِبُ قِيلَ لِرَبِّ الْمَالِ ادْفَعْ نِصْفَ نَصِيبِكَ أو افْدِهِ وَإِنْ كان الْمُضَارِبُ صَدَّقَهُ وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَالِ قِيلَ لِلْمُضَارِبِ ادْفَعْ نَصِيبَكَ أو افْدِهِ وَصَارَ كَأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَقَرَّ في الْعَبْدِ بِجِنَايَةٍ وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ
وَأَمَّا وُجُوبُ الْقِصَاصِ على عبد الْمُضَارَبَةِ وَإِنْ لم يَجِبْ بِقَتْلِهِ الْقِصَاصُ لِأَنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ بِقَتْلِهِ لِكَوْنِ مُسْتَحِقِّ الدَّمِ غير مُتَعَيِّنٍ فإذا كان هو الْقَاتِلُ فَالْمُسْتَحِقُّ لِلْقِصَاصِ هو وَلِيُّ الْقَتِيلِ وَإِنَّهُ مُتَعَيِّنٌ وَتَجُوزُ الْمُرَابَحَةُ بين رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ وهو أَنْ يَشْتَرِيَ رَبُّ الْمَالِ من مضاربة فَيَبِيعَهُ مُرَابَحَةً أو يَشْتَرِيَ الْمُضَارِبُ من رَبِّ الْمَالِ فَيَبِيعَهُ مُرَابَحَةً لَكِنْ يَبِيعُهُ على أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ إلَّا إذَا بَيَّنَ الْأَمْرَ على وَجْهِهِ فَيَبِيعُهُ كَيْفَ شَاءَ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ جَوَازَ شِرَاءِ رَبِّ الْمَالِ من الْمُضَارِبِ وَالْمُضَارِبِ من رَبِّ الْمَالِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عن الْقِيَاسِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ رَبَّ الْمَالِ اشْتَرَى مَالَ نَفْسِهِ بِمَالِ نَفْسِهِ وَالْمُضَارِبُ يَبِيعُ مَالَ رَبِّ الْمَالِ من رَبِّ الْمَالِ إذْ الْمَالَانِ مَالُهُ وَالْقِيَاسُ يَأْبَى ذلك إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُضَارِبِ بِالْمَالِ وهو مِلْكُ التَّصَرُّفِ فَجُعِلَ ذلك بَيْعًا في حَقِّهِمَا لَا في حَقِّ غَيْرِهِمَا بَلْ جُعِلَ في حَقِّ غَيْرِهِمَا مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ
وَلِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ يُجْرِيهِ الْبَائِعُ من غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَاسْتِخْلَافٍ فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ عن الْجِنَايَةِ وَعَنْ شِبْهِ الْجِنَايَةِ ما أَمْكَنَ وقد تَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ في الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا لِجَوَازِ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ بَاعَهُ من الْمُضَارِبِ أكثر ( ( ( بأكثر ) ) ) من قِيمَتِهِ وَرَضِيَ بِهِ الْمُضَارِبُ لِأَنَّ الْجُودَ بِمَالِ الْغَيْرِ أَمْرٌ سَهْلٌ فكأن تُهْمَةُ الْجِنَايَةِ ثَابِتَةً وَالتُّهْمَةُ في هذا الْبَابِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فَلَا يَبِيعُ مُرَابَحَةً إلَّا على أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ بَيَانُ ذلك في مَسَائِلَ إذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ فَبَاعَهُ من الْمُضَارِبِ بِأَلْفٍ فإن الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ إلَّا إذَا بَيَّنَ الْأَمْرَ على وَجْهِهِ فَيَبِيعُهُ كَيْفَ شَاءَ لِأَنَّ الْمَانِعَ هو التُّهْمَةُ وقد زَالَتْ
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفٍ من الْمُضَارَبَةِ فَبَاعَهُ من رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ مُرَابَحَةً بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ إن كانت
____________________

(6/102)


الْمُضَارَبَةُ بِالنِّصْفِ لِأَنَّ الرِّبْحَ يَنْقَسِمُ بين رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ وَلَا شُبْهَةَ في حِصَّةِ الْمُضَارِبِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ فيه لِرَبِّ الْمَالِ فَصَارَ كَأَنَّ رَبَّ الْمَالِ اشْتَرَى ذلك من أَجْنَبِيٍّ وَتَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ في حِصَّةِ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ مَالُهُ بِعَيْنِهِ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى من نَفْسِهِ فَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ من الرِّبْحِ إلَّا إذَا بَيَّنَ الْأَمْرَ على وَجْهِهِ فَيَبِيعُهُ كَيْفَ شَاءَ
وَلَوْ اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ سِلْعَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ تُسَاوِي أَلْفًا وَخَمْسِمِائَةٍ فَبَاعَهَا من الْمُضَارِبِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فإن الْمُضَارِبَ يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ إلَّا إذَا بَيَّنَ الْأَمْرَ على وَجْهِهِ لِمَا ذَكَرْنَا
قال ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ عن مُحَمَّدٍ سمعت أَبَا يُوسُفَ يقول في مَسْأَلَةِ الْمُضَارَبَةِ وهو آخِرُ ما قال إذَا اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ عَبْدًا بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ من الْمُضَارِبِ بِمِائَةٍ وَرَأْسُ الْمَالِ أَلْفٌ في يَدِ الْمُضَارِبِ فإن الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ على مِائَةٍ وَكَذَا لو اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ من رَبِّ الْمَالِ بِمِائَةٍ بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ بِمِائَةٍ يَبِيعُهُ أَبَدًا على أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ في الْأَقَلِّ وَإِنَّمَا التُّهْمَةُ في الزِّيَادَةِ فَيَثْبُتُ ما لَا تُهْمَةَ فيه وَيَسْقُطُ ما فيه تُهْمَةٌ
وَلَوْ اشْتَرَاهُ رَبُّ الْمَالِ بِخَمْسِمِائَةٍ فَبَاعَهُ من الْمُضَارِبِ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ فإنه يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على خَمْسِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ لِأَنَّ الْمِائَةَ الزائدة الزِّيَادَةَ على الْأَلْفِ رِبْحٌ فَنِصْفُهَا لِلْمُضَارِبِ وما اشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ من رَبِّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ لَا تُهْمَةَ فيه فَيَضُمُّ حِصَّتَهُ من الرِّبْحِ إلَى الْقَدْرِ الذي اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ بِهِ وَيُسْقِطُ خَمْسَمِائَةٍ لِأَنَّهَا نَصِيبُ رَبِّ الْمَالِ وَيَسْقُطُ خَمْسُونَ لِأَنَّهَا حَقُّ رَبِّ الْمَالِ من الرِّبْحِ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على خَمْسِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ
وَلَوْ اشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ بِسِتِّمِائَةٍ بَاعَهُ مُرَابَحَةً بِخَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ في ثَمَنِهِ عن رَأْسِ الْمَالِ فَيَسْقُطُ كُلُّ الرِّبْحِ وَيُبَاعُ على أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَحْتَسِبُ شيئا من حِصَّةِ نَفْسِهِ حتى يَكُونَ ما نَقَدَ أَكْثَرَ من أَلْفٍ فَيَجِبُ من حِصَّتِهِ نِصْفُ ما زَادَ على الْأَلْفِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَزِدْ على أَلْفٍ بِأَنْ اشْتَرَى بِمِثْلِ رَأْسِ الْمَالِ أو بِأَقَلَّ منه وَلَهُ في الْمَالِ رِبْحٌ لم يَتَعَيَّنْ له في الْمُشْتَرَى حَقٌّ لِكَوْنِهِ مَشْغُولًا بِرَأْسِ الْمَالِ فَلَا يُظْهِرُ له الرِّبْحَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى وَلَا رِبْحَ في يَدِهِ
وَعَلَى هذا الْقِيَاسِ تجري الْمَسَائِلُ فَمَتَى كان شِرَاءُ الْمُضَارِبِ بِأَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ فَإِنْ كان لِلْمُضَارِبِ حِصَّةٌ ضَمَّهَا إلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ وإذا اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ من الْمُضَارِبِ يَبِيعُهُ على أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ وَيَضُمُّ إلَيْهِ حِصَّةَ الْمُضَارِبِ
وَلَوْ كان رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ من الْمُضَارِبِ بِأَلْفَيْنِ فإن الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ بِأَلْفٍ خَمْسُمِائَةٍ رَأْسُ الْمَالِ وَخَمْسُمِائَةٍ حِصَّةُ الْمُضَارِبِ من الْأَلْفَيْنِ لِأَنَّ نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ من الثَّمَنِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فَتَسْقُطُ الزِّيَادَةُ فيها على رَأْسِ الْمَالِ وهو أَلْفٌ وَيَبْقَى من نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ خَمْسُمِائَةٍ وَنَصِيبُ الْمُضَارِبِ خَمْسُمِائَةٍ وَرَبُّ الْمَالِ فيها كَالْأَجْنَبِيِّ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على أَلْفٍ
وَلَوْ كان الْمُضَارِبُ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ ثُمَّ بَاعَهُ من رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفَيْنِ بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّ الْأَلْفَ رَأْسُ مَالِ رَبِّ الْمَالِ وَخَمْسَمِائَةٍ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ وَرَبُّ الْمَالِ فيها كَالْأَجْنَبِيِّ وَخَمْسُمِائَةٍ نَصِيبُ رَبِّ الْمَالِ فَيَجِبُ إسْقَاطُهَا
قال ابن سِمَاعَةَ وروي عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال وهو قَوْلُهُ الْآخَرُ إنَّ رَبَّ الْمَالِ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِعَشْرَةِ آلَافٍ ثُمَّ بَاعَهُ من الْمُضَارِبِ بِمِائَةٍ بَاعَهُ الْمُضَارِبُ مُرَابَحَةً على مِائَةٍ وَكَذَلِكَ لو اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِعَشْرَةِ آلَافٍ فَبَاعَهُ من رَبِّ الْمَالِ بِمِائَةٍ بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ مُرَابَحَةً على مِائَةٍ لِأَنَّ الْبَيْعَ على أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ لَا تُهْمَةَ فيه
وَلِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ على الثَّمَنِ الذي اشْتَرَاهُ
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ الْحَطُّ على قَوْلِ أبي يُوسُفَ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ له حَطُّهُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِحَقِّ رَبِّ الْمَالِ
فإذا بَاعَهُ من رَبِّ الْمَالِ وَحَطَّ فَقَدْ رضي رَبُّ الْمَالِ بِذَلِكَ فَجَازَ
وَأَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلِ الذي أَشَارَ إلَيْهِ ابن سِمَاعَةَ فَهُوَ أَنَّ الحظ ( ( ( الحط ) ) ) لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ قال إذَا كان رَأْسُ الْمَالِ أَلْفًا فَرَبِحَ فيه أَلْفًا ثُمَّ اشْتَرَى بِأَلْفَيْنِ جَارِيَةً ثُمَّ بَاعَهَا من رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فإن رَبَّ الْمَالِ يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً على أَلْفٍ وَسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ حَطَّ من الثَّمَنِ خَمْسَمِائَةٍ نِصْفُهَا من نَصِيبِهِ وَنِصْفُهَا من مَالِ الْمُضَارَبَةِ وهو يَمْلِكُ الْحَطَّ في حَقِّ نَصِيبِهِ وَلَا يَمْلِكُ ذلك في مَالِ الْمُضَارَبَةِ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فلم يَصِحَّ حَطُّ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ فَلِذَلِكَ بَاعَ مُرَابَحَةً على أَلْفٍ وَسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَيَنْبَغِي على هذا الْقَوْلِ إذَا بَاعَ مُرَابَحَةً أَنْ يَقُولَ قام عَلَيَّ بِكَذَا وَلَا يَقُولَ اشْتَرَيْتُهُ بِكَذَا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَحِقَتْ بِالثَّمَنِ حُكْمًا وَالشِّرَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى ما وَقَعَ الْعَقْدُ بِهِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُ الْأَخِيرُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ الْحَطِّ في مَالِ الْمُضَارَبَةِ لِحَقِّ رَبِّ الْمَالِ فإذا اشْتَرَى هو فَقَدْ رضي بِذَلِكَ فَكَأَنَّهُ أَذِنَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَهُ بِنُقْصَانٍ لِأَجْنَبِيٍّ

____________________

(6/103)


وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ لو اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ عَبْدًا بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ من الْمُضَارِبِ بِأَلْفَيْنِ أَلْفٌ رَأْسُ الْمَالِ وَأَلْفٌ رِبْحٌ فإن الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ يَسْقُطُ من ذلك رِبْحُ رَبِّ الْمَالِ وَيَبِيعُ على رَأْسِ الْمَالِ وَرِبْحُ الْمُضَارِبِ لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ كان رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَى الْعَبْدَ بِخَمْسِمِائَةٍ وَالْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَبَاعَهُ من الْمُضَارِبِ بِأَلْفَيْنِ فإن الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على أَلْفٍ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ خَمْسُمِائَةٍ وَنَصِيبُ الْمُضَارِبِ من الْمَالِ خَمْسُمِائَةٍ وما سِوَى ذلك رِبْحُ رَبِّ الْمَالِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْأَمْرَ على وَجْهِهِ فَيَبِيعُهُ كَيْفَ شَاءَ لِأَنَّ الْمَانِعَ من الْبَيْعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ التُّهْمَةُ فإذا بَيَّنَ فَقَدْ زَالَتْ التُّهْمَةُ فَيَجُوزُ الْبَيْعُ
وَلَوْ اشْتَرَاهُ رَبُّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَبَاعَهُ من الْمُضَارِبِ بِأَلْفَيْنِ أَلْفٌ مُضَارَبَةٌ وَأَلْفٌ رِبْحٌ فإن الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على الْأَلْفِ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى ما قِيمَتُهُ أَلْفُ ذَهَبٍ رَبِحَهُ فلم يَبْقَ له في الْمَالِ حِصَّةٌ وَصَارَ كَأَنَّهُ مَالُ رَبِّ الْمَالِ فَبَاعَهُ على رَأْسِ مَالِهِ
وَلَوْ كان رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِمِائَةٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فإن الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ لم يَبْقَ لِلْمُضَارِبِ حِصَّةٌ فصارا ( ( ( فصار ) ) ) شِرَاءُ مَالِ رَبِّ الْمَالِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ فَيَبِيعُهُ على رَأْسِ الْمَالِ الْأَوَّلِ وَلَوْ كان رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَبَاعَهُ من الْمُضَارِبِ بِأَلْفَيْنِ فإن الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ بِأَلْفٍ وَلَا يَبِيعُهُ على أَكْثَرَ من ذلك لِأَنَّ قِيمَتَهُ أَلْفٌ فَلَيْسَ فيه رِبْحٌ لِلْمُضَارِبِ يَبِيعُهُ عليه وَلِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمَّا بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ ما يُسَاوِي أَلْفًا وَهُمَا مُتَّهَمَانِ في حَقِّ الْغَيْرِ في الْعَقْدِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَخَذَ أَلْفًا لَا على طَرِيقِ الْبَيْعِ وَبَاعَهُ الْعَبْدَ بِأَلْفٍ فَلَا يَبِيعُهُ بِأَكْثَرَ من ذلك وَلَوْ كان الْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفًا وخمسماية ( ( ( وخمسمائة ) ) ) وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وقد اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ وَأَرَادَ الْمُضَارِبُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً بَاعَهُ مُرَابَحَةً على أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ لِأَنَّ في الْعَبْدِ رِبْحًا لِلْمُضَارِبِ وَنَصِيبُهُ من الرِّبْحِ هو مع رَبِّ الْمَالِ فيه كَالْأَجْنَبِيِّ فَيَبِيعُهُ على أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ مع حِصَّةِ الْمُضَارِبِ من الرِّبْحِ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ إذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَبَاعَهُ من رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ إنَّ رَبَّ الْمَالِ بَاعَهُ من أَجْنَبِيٍّ مُسَاوَمَةً بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ من الْأَجْنَبِيِّ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً لم يَجُزْ له ذلك في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْأَمْرَ على وَجْهِهِ وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَبِيعُهُ مراحبة ( ( ( مرابحة ) ) ) على أَلْفَيْنِ
وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ مَسْأَلَةٍ أُخْرَى مَذْكُورَةٍ في الْبُيُوعِ وَهِيَ ما إذَا اشْتَرَى شيئا فَرَبِحَ فيه ثُمَّ مَلَكَهُ بِشِرَاءٍ آخَرَ فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً فإن عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يَسْقُطُ الرِّبْحُ وَيُعْتَبَرُ ما مَضَى من الْعُقُودِ وفي مَسْأَلَتِنَا قد رَبِحَ فيه رَبُّ الْمَالِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَمَّا اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ وَبَاعَهُ من رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفَيْنِ فَنِصْفُ ذلك الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ وهو خَمْسُمِائَةٍ فلما بَاعَهُ من رَبُّ الْمَالِ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ فَقَدْ رَبِحَ فيه أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ لِأَنَّهُ قام عليه بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ وَنَصِيبُ الْمُضَارِبِ من الرِّبْحِ إذَا ضُمَّ إلَى ذلك فَقَدْ رَبِحَ أَلْفَيْنِ فإذا اشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ بِأَلْفَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَطْرَحَ الْأَلْفَيْنِ من رَأْسِ الْمَالِ فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ وَلِهَذَا لم يَجُزْ الْبَيْعُ مُرَابَحَةً إلَّا بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ
وَأَمَّا على قَوْلِهِمَا فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْعَقْدُ الْأَخِيرُ خَاصَّةً فَالرِّبْحُ في الْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَا يَحُطُّ عن الثَّانِي فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على جَمِيعِ الْأَلْفَيْنِ
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ من رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ من أَجْنَبِيٍّ بِأَلْفٍ وستماية ( ( ( وستمائة ) ) ) ثُمَّ إنَّ الْمُضَارِبَ اشْتَرَاهُ من الْأَجْنَبِيِّ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً بَاعَهُ على أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ قد رَبِحَ فيه ستماية ( ( ( ستمائة ) ) )
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَارِبَ لَمَّا اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ بَاعَهُ من رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَنَصِيبُ رَبُّ الْمَالِ من الرِّبْحِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ وكان رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَى بِأَلْفٍ ومايتين ( ( ( ومائتين ) ) ) وَخَمْسِينَ رَأْسَ الْمَالِ وَحِصَّةَ الْمُضَارِبِ فلما بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَسِتِّمِائَةٍ فَقَدْ رَبِحَ ثلثماية وَخَمْسِينَ وقد كان رَبِحَ مايتين ( ( ( مائتين ) ) ) وَخَمْسِينَ بِرِبْحِ الْمُضَارِبِ فَوَجَبَ أَنْ يَحُطَّ ذلك الْمُضَارِبُ من الثَّمَنِ فَيَبْقَى أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفٍ فَوَلَّاهُ رَبَّ الْمَالِ ثُمَّ إنَّ رَبَّ الْمَالِ بَاعَهُ من أَجْنَبِيٍّ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ إنَّ الْمُضَارِبَ اشْتَرَاهُ من الْأَجْنَبِيِّ مُرَابَحَةً بِأَلْفَيْنِ
ثُمَّ إنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمَّا حَطَّ من الْأَجْنَبِيِّ ثلثماية فإن الْأَجْنَبِيَّ يَحُطُّ من الْمُضَارِبِ أَرْبَعَمِائَةٍ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمَّا حَطَّ من الْأَجْنَبِيِّ ثلثماية اسْتَنَدَ ذلك الْحَطُّ إلَى الْعَقْدِ فَكَأَنَّ ذلك الْمِقْدَارَ لم يَكُنْ فَيُطْرَحُ من رَأْسِ الْمَالِ وَتُطْرَحُ حِصَّتُهُ من الرِّبْحِ وقد كان الْأَجْنَبِيُّ رَبِحَ مِثْلَ ثُلُثِ الثَّمَنِ فَيَطْرَحُ مع الثلثماية ( ( ( الثلاثمائة ) ) ) ثُلُثَهَا فَيَصِيرُ الْحَطُّ عن الْمُضَارِبِ أَرْبَعَمِائَةٍ فَإِنْ أَرَادَ الْمُضَارِبُ أَنْ يَبِيعَ هذا الْعَبْدَ مُرَابَحَةً بَاعَهُ على أَلْفٍ ومايتين ( ( ( ومائتين ) ) ) لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ رَبِحَ أَرْبَعَمِائَةٍ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو بَاعَهُ من
____________________

(6/104)


الْأَجْنَبِيِّ فَرَبِحَ خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ حَطَّ عنه ثلثماية وَهَذَا الْحَطُّ من رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ جميعا مايتين ( ( ( مائتين ) ) ) من رَأْسِ الْمَالِ وماية ( ( ( ومائة ) ) ) من الرِّبْحِ فلما سَقَطَ من الرِّبْحِ ماية ( ( ( مائة ) ) ) يَبْقَى الرِّبْحُ أربعماية ( ( ( أربعمائة ) ) ) فلما اشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ حَطَّ عنه أَرْبَعَمِائَةٍ صَارَ شِرَاؤُهُ بِأَلْفٍ وَسِتِّمِائَةٍ فَيَطْرَحُ عنه مِقْدَارَ ما رَبِحَ فيه رَبُّ الْمَالِ وهو أَرْبَعُمِائَةٍ فَيَبِيعُهُ على ما بَقِيَ وَتَجُوزُ الْمُرَابَحَةُ بين الْمُضَارِبَيْنِ كما تَجُوزُ بين الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ
قال مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ إذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَدَفَعَ إلَى رَجُلٍ آخَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى أَحَدُ الْمُضَارِبَيْنِ عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ من الْمُضَارَبَةِ فَبَاعَهُ من الْمُضَارِبِ الْآخَرِ بِأَلْفٍ فَأَرَادَ الثَّانِي أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً بَاعَهُ على خَمْسِمِائَةٍ وهو أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارِبَيْنِ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ فَصَارَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا من الْآخَرِ في حَقِّ الْأَجَانِبِ كَبَيْعِ الْإِنْسَانِ مِلْكَهُ بِمَالِهِ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ
وَلَوْ بَاعَهُ الْأَوَّلُ من الثَّانِي بِأَلْفَيْنِ أَلْفٌ من الْمُضَارَبَةِ وَأَلْفٌ من مَالِ نَفْسِهِ فإن الثَّانِي يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على أَلْفٍ ومايتين ( ( ( ومائتين ) ) ) وَخَمْسِينَ لِأَنَّ الثَّانِيَ اشْتَرَى نِصْفَهُ لِنَفْسِهِ وقد كان الْأَوَّلُ اشْتَرَى ذلك النِّصْفَ بمايتين ( ( ( بمائتين ) ) ) وَخَمْسِينَ فَيَبِيعُهُ الثَّانِي مُرَابَحَةً على أَلْفٍ لِأَنَّهُ لَا نَصِيبَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا في شِرَاءِ صَاحِبِهِ فَصَارَا كَالْأَجْنَبِيَّيْنِ فَأَمَّا النِّصْفُ الذي اشْتَرَى الثَّانِي بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ فَقَدْ كان الْأَوَّلُ اشْتَرَاهُ بمايتين ( ( ( بمائتين ) ) ) وَخَمْسِينَ وهو مَالٌ وَاحِدٌ فَيَبِيعُهُ على أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ
وَلَوْ كان الْأَوَّلُ اشْتَرَاهُ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ فَبَاعَهُ من الثَّانِي بِأَلْفَيْنِ لِلْمُضَارَبَةِ أَلْفٌ رَأْسُ الْمَالِ وَأَلْفٌ رِبْحٌ فإن الثَّانِيَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ يَبِيعُهُ على أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ وَعَلَى حِصَّتِهِ من الرِّبْحِ وَأَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ أَلْفٌ وَحِصَّةُ الْمُضَارِبِ خَمْسُمِائَةٍ وَلَوْ كان الْأَوَّلُ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِمِائَةٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا بَاعَهُ الثَّانِي على أَلْفٍ لِأَنَّ أَقَلَّ الثَّمَنَيْنِ خَمْسُمِائَةٍ وَحِصَّةُ الْمُضَارِبِ خَمْسُمِائَةٍ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ وَحِصَّةٍ من الرِّبْحِ وَالرِّبْحُ في الْمُضَارَبَةِ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ وَالْوَضِيعَةُ على رَبِّ الْمَالِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ في دَعْوَى الْهَلَاكِ لِأَنَّ الْمَالَ أَمَانَةٌ في يَدِهِ
وَأَمَّا الذي يَسْتَحِقُّهُ الْمُضَارِبُ بِالْعَمَلِ فَاَلَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِعَمَلِهِ في مَالِ الْمُضَارَبَةِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا النَّفَقَةُ وَالْكَلَامُ في النَّفَقَةِ في مَوَاضِعَ في وُجُوبِهَا وفي شَرْطِ الْوُجُوبِ وَفِيمَا فيه النَّفَقَةُ وفي تَفْسِيرِ النَّفَقَةِ وفي قَدْرِهَا وَفِيمَا تُحْتَسَبُ النَّفَقَةُ منه
أَمَّا الْوُجُوبُ فَلِأَنَّ الرِّبْحَ في بَابِ الْمُضَارَبَةِ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَالْعَاقِلُ لَا يُسَافِرُ بِمَالِ غَيْرِهِ لِفَائِدَةٍ تَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ مع تَعْجِيلِ النَّفَقَةِ من مَالِ نَفْسِهِ فَلَوْ لم تُجْعَلْ نَفَقَتُهُ من مَالِ الْمُضَارَبَةِ لَامْتَنَعَ الناس من قَبُولِ الْمُضَارَبَاتِ مع مِسَاسِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا فَكَانَ إقْدَامُهُمَا على هذا الْعَقْدِ وَالْحَالُ ما وَصَفْنَا إذْنًا من رَبِّ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ بِالْإِنْفَاقِ من مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَكَانَ مَأْذُونًا في الْإِنْفَاقِ دَلَالَةً فَصَارَ كما لو أَذِنَ له بِهِ نَصًّا وَلِأَنَّهُ يُسَافِرُ لِأَجْلِ الْمَالِ لا على سَبِيلِ التَّبَرُّعِ وَلَا بِبَدَلٍ وَاجِبٍ له لَا مَحَالَةَ فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ في الْمَالِ بِخِلَافِ الْمُبْضِعِ لَا يُسَافِرُ بِمَالِ الْغَيْرِ على وَجْهِ التَّبَرُّعِ وَبِخِلَافِ الْأَجِيرِ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِبَدَلٍ لَازِمٍ في ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا مَحَالَة فَلَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ
وَهَكَذَا رَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في الشَّرِيكِ إذَا سَافَرَ بِالْمَالِ أَنَّهُ يُنْفِقُ من الْمَالِ كَالْمُضَارِبِ
وَأَمَّا شَرْطُ الْوُجُوبِ فَخُرُوجُ الْمُضَارِبِ بِالْمَالِ من الْمِصْرِ الذي أَخَذَ الْمَالَ منه مُضَارَبَةً سَوَاءٌ كان الْمِصْرُ مِصْرَهُ أو لم يَكُنْ فما دَامَ يَعْمَلُ بِهِ في ذلك الْمِصْرِ فإن نَفَقَتَهُ في مَالِ نَفْسِهِ لَا في مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَإِنْ أَنْفَقَ شيئا منه ضَمِنَ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْإِذْنِ لَا تَثْبُتُ في الْمِصْرِ
وَكَذَا إقَامَتُهُ في الْحَضَرِ لَا تَكُونُ لِأَجْلِ الْمَالِ لِأَنَّهُ كان مُقِيمًا قبل ذلك فَلَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ ما لم يَخْرُجْ من ذلك الْمِصْرِ سَوَاءٌ كان خُرُوجُهُ بِالْمَالِ مُدَّةَ سَفَرٍ أو أَقَلَّ من ذلك حتى لو خَرَجَ من الْمِصْرِ يَوْمًا أو يَوْمَيْنِ فَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ من مَالِ الْمُضَارَبَةِ
كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ عن نَفْسِهِ وَعَنْ أبي يُوسُفَ من مَكَانِ الْمُضَارَبَةِ لِوُجُودِ الْخُرُوجِ من الْمِصْرِ لِأَجْلِ الْمَالِ وإذا انْتَهَى إلَى الْمِصْرِ الذي قَصْدَهُ فَإِنْ كان ذلك مِصْرُ نَفْسِهِ أو كان له في ذلك الْمِصْرِ أَهْلٌ سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ حين دخل لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُقِيمًا بِدُخُولِهِ فيه لَا لِأَجْلِ الْمَالِ وَإِنْ لم يَكُنْ ذلك مِصْرَهُ وَلَا له فيه أَهْلٌ لَكِنَّهُ أَقَامَ فيه لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهُ ما أَقَامَ فيه وَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا ما لم يَتَّخِذْ ذلك الْمِصْرَ الذي هو فيه دَارَ إقَامَةٍ لِأَنَّهُ إذَا لم يَتَّخِذْهُ دَارَ إقَامَةٍ كانت إقَامَتُهُ فيه لِأَجْلِ الْمَالِ وَإِنْ اتَّخَذَهُ وَطَنًا كانت إقَامَتُهُ لِلْوَطَنِ لَا لِلْمَالِ فَصَارَ كَالْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ
فَنَقُولُ الْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ نَفَقَةُ الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ إلَّا بِالْإِقَامَةِ في مِصْرِهِ أو في مِصْرٍ يَتَّخِذُهُ دَارَ إقَامَةٍ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ خَرَجَ من الْمِصْرِ الذي دَخَلَهُ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِنِيَّةِ الْعَوْدِ إلَى الْمِصْرِ
____________________

(6/105)


الذي أَخَذَ الْمَالَ فيه مُضَارَبَةً فإن نَفَقَتَهُ من مَالِ الْمُضَارَبَةِ حتى يَدْخُلَهُ فإذا دَخَلَهُ فَإِنْ كان ذلك مِصْرَهُ أو كان له فيه أَهْلٌ سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ وَإِلَّا فَلَا حتي لو أَخَذَ الْمُضَارِبُ مَالًا بِالْكُوفَةِ وهو من أَهْلِ الْبَصْرَةِ وكان قد قَدِمَ الْكُوفَةَ مُسَافِرًا فَلَا نَفَقَةَ له في الْمَالِ ما دَامَ بِالْكُوفَةِ لِمَا قُلْنَا فإذا خَرَجَ منها مُسَافِرًا فَلَهُ النَّفَقَةُ حتى يَأْتِيَ الْبَصْرَةَ لِأَنَّ خُرُوجَهُ لِأَجْلِ الْمَالِ وَلَا يُنْفِقُ من الْمَالِ ما دَامَ بِالْبَصْرَةِ لِأَنَّ الْبَصْرَةَ وَطَنٌ أَصْلِيٌّ له فَكَانَ إقَامَتُهُ فيها لِأَجْلِ الْوَطَنِ لَا لِأَجْلِ الْمَالِ فإذا خَرَجَ من الْبَصْرَةِ له أَنْ يُنْفِقَ من الْمَالِ حتى يَأْتِيَ الْكُوفَةَ لِأَنَّ خُرُوجَهُ من الْبَصْرَةِ لِأَجْلِ الْمَالِ
وَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ أَيْضًا ما أَقَامَ بِالْكُوفَةِ حتى يَعُودَ إلَى الْبَصْرَةِ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ كان وَطَنَ إقَامَةٍ وَأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالسَّفَرِ فإذا عَادَ إلَيْهَا وَلَيْسَ له وَطَنٌ فَكَانَ إقَامَتُهُ فيها لِأَجْلِ الْمَالِ فَكَانَ نَفَقَتُهُ فيه وَكُلُّ من كان مع الْمُضَارِبِ مِمَّنْ يُعِينُهُ على الْعَمَلِ فَنَفَقَتُهُ من مَالِ الْمُضَارَبَةِ حُرًّا كان أو عَبْدًا أو أَجِيرًا يَخْدُمُهُ أو يَخْدُمُ دَابَّتَهُ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ كَنَفَقَةِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا يَتَهَيَّأُ له السَّفَرُ إلَّا بِهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ معه عَبِيدٌ لِرَبِّ الْمَالِ بَعَثَهُمْ لِيُعَاوِنُوهُ فَلَا نَفَقَةَ لهم في مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَنَفَقَتُهُمْ على رَبِّ الْمَالِ خَاصَّةً لِأَنَّ إعَانَةَ عبد رَبِّ الْمَالِ كَإِعَانَةِ رَبِّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ وَرَبُّ الْمَالِ لو أَعَانَ الْمُضَارِبَ بِنَفْسِهِ في الْعَمَلِ لم تَكُنْ نَفَقَتُهُ في مَالِ الْمُضَارَبَةِ كَذَا عَبِيدُهُ
فَأَمَّا عبد الْمُضَارِبِ فَهُوَ كَالْمُضَارِبِ وَالْمُضَارِبُ إذَا عَمِلَ بِنَفْسِهِ في الْمَالِ أَنْفَقَ عليه منه كَذَا عَبْدُهُ
وَأَمَّا ما فيه النَّفَقَةُ فَالنَّفَقَةُ في مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ من مَالِ نَفْسِهِ ما له أَنْ يُنْفِقَ من مَالِ الْمُضَارَبَةِ على نَفْسِهِ وَيَكُونُ دَيْنًا في الْمُضَارَبَةِ حتى كان له أَنْ يَرْجِعَ فيها لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ من الْمَالِ وَتَدْبِيرَهُ إلَيْهِ فَكَانَ له أَنْ يُنْفِقَ من مَالِهِ وَيَرْجِعَ بِهِ على مَالِ الْمُضَارَبَةِ كَالْوَصِيِّ إذَا أَنْفَقَ على الصَّغِيرِ من مَالِ نَفْسِهِ أن له أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَنْفَقَ على مَالِ الصَّغِيرِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا له أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَنْفَقَ في مَالِ الْمُضَارَبَةِ لَكِنْ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْمَالِ حتى لو هَلَكَ الْمَالُ لم يَرْجِعْ على رَبِّ الْمَالِ بِشَيْءٍ
كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْمُضَارِبِ من مَالِ الْمُضَارَبَةِ فإذا هَلَكَ هَلَكَ بِمَا فيه كَالدَّيْنِ يَسْقُطُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ وَالزَّكَاةِ تَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ وَحُكْمِ الْجِنَايَةِ يَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْعَبْدِ الْجَانِي
وَأَمَّا تَفْسِيرُ النَّفَقَةِ التي في مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَالْكِسْوَةُ وَالطَّعَامُ وَالْإِدَامُ وَالشَّرَابُ وَأَجْرُ الْأَجِيرِ وفرا ( ( ( وفراش ) ) ) يَنَامُ عليه وَعَلَفُ دَابَّتِهِ التي يَرْكَبُهَا في سَفَرِهِ وَيَتَصَرَّفُ عليها حَوَائِجِهِ وَغَسْلِ ثِيَابِهِ وَدُهْنِ السِّرَاجِ وَالْحَطَبِ وَنَحْوِ ذلك وَلَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا في هذه الْجُمْلَةِ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَا بُدَّ له منها فَكَانَ الْإِذْنُ ثَابِتًا من رَبِّ الْمَالِ دَلَالَةً
وَأَمَّا ثَمَنُ الدَّوَاءِ وَالْحِجَامَةِ وَالْفَصْدِ وَالتَّنَوُّرِ وَالْأَدْهَانِ وما يَرْجِعُ إلَى التَّدَاوِي وَصَلَاحِ الْبَدَنِ فَفِي مَالِهِ خَاصَّةً لَا في مَالِ الْمُضَارَبَةِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في مُخْتَصَرِهِ في الدُّهْنِ خِلَافَ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ في مَالِ الْمُضَارَبَةِ عِنْدَهُ وَذَكَرَ في الْحِجَامَةِ وَالْإِطْلَاءِ بِالنُّورَةِ وَالْخِضَابِ قَوْلَ الْحَسَنِ بن زِيَادٍ أَنَّهُ قال على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ يَكُونُ في مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَكُونُ في مَالِهِ خَاصَّةً لِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ لِلْمُضَارِبِ في الْمَالِ لِدَلَالَةِ الأذن الثَّابِتِ عَادَةً وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ
هذا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ يَقْضِي بِالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَلَا يَقْضِي بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ
وَأَمَّا الْفَاكِهَةُ فَالْمُعْتَادُ منها يَجْرِي مَجْرَى الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ وقال بِشْرٌ في نَوَادِرِهِ سَأَلْتُ أَبَا يُوسُفَ عن اللَّحْمِ فقال يَأْكُلُ كما كان يَأْكُلُ لِأَنَّهُ من الْمَأْكُولِ الْمُعْتَادِ وَأَمَّا قَدْرُ النَّفَقَةِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِالْمَعْرُوفِ عِنْدَ التُّجَّارِ من غَيْرِ إسْرَافٍ فَإِنْ جَاوَزَ ذلك ضَمِنَ الْفَضْلَ لِأَنَّ الْإِذْنَ ثَابِتٌ بِالْعَادَةِ فَيُعْتَبَرُ الْقَدْرُ الْمُعْتَادُ وَسَوَاءٌ سَافَرَ بِرَأْسِ الْمَالِ أو بِمَتَاعٍ عن الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ سَفَرَهُ في الْحَالَيْنِ لِأَجْلِ الْمَالِ وَكَذَا لو سَافَرَ فلم يَتَّفِقْ له شِرَاءُ مَتَاعٍ من حَيْثُ قَصَدَ وَعَادَ بِالْمَالِ فَنَفَقَتُهُ ما دَامَ مُسَافِرًا في مَالِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ عَمَلَ التِّجَارَةِ على هذا وهو أَنْ يَتَّفِقَ الشِّرَاءُ في وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَمَكَانٍ دُونَ مَكَان وَسَوَاءٌ سَافَرَ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَحْدَهُ أو بِمَالِهِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ لِرَجُلٍ أو رَجُلَيْنِ فَلَهُ النَّفَقَةُ غير أَنَّهُ إن سَافَرَ بِمَالِهِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ أو بِمَالَيْنِ لِرَجُلَيْنِ كانت النَّفَقَةُ من الْمَالَيْنِ بِالْحِصَصِ لِأَنَّ السَّفَرَ لِأَجْلِ الْمَالَيْنِ فَتَكُونُ النَّفَقَةُ فِيهِمَا
وَإِنْ كان أَخَذَ الْمَالَيْنِ مُضَارَبَةً لِرَجُلٍ وَالْآخَرُ بِضَاعَةً لِرَجُلٍ آخَرَ فَنَفَقَتُهُ في مَالِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ سَفَرَهُ لِأَجْلِهِ لَا لِأَجْلِ الْبِضَاعَةِ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالْعَمَلِ بها إلَّا أَنْ يَتَبَرَّعَ بِعَمَلِ الْبِضَاعَةِ فَيُنْفِقُ من مَالِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْعَمَلِ في الْمُضَارَبَةِ وَلَيْسَ على رَبِّ الْبِضَاعَةِ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَذِنَ له في النَّفَقَةِ منها لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِأَخْذِ الْبِضَاعَةِ فَلَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ كَالْمُودَعِ
وَلَوْ خَلَطَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ بِمَالِهِ وقد أَذِنَ له في ذلك فَالنَّفَقَةُ
____________________

(6/106)


بِالْحِصَصِ لِأَنَّ سَفَرَهُ لِأَجْلِ الْمَالَيْنِ
وَأَمَّا ما تُحْتَسَبُ النَّفَقَةُ منه فَالنَّفَقَةُ تُحْتَسَبُ من الرِّبْحِ أَوَّلًا إنْ كان في الْمَال رِبْحٌ فَإِنْ لم يَكُنْ فَهِيَ من رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ جُزْءٌ هَالِكٌ من الْمَالِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْهَلَاكَ يَنْصَرِفُ إلَى الرِّبْحِ
وَلِأَنَّا لو جَعَلْنَاهَا من رَأْسِ الْمَالِ خَاصَّةً أو في نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ من الرِّبْحِ لَازْدَادَ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ في الرِّبْحِ على نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ فإذا رَجَعَ الْمُضَارِبُ إلَى مِصْرِهِ فما فَضَلَ عِنْدَهُ من الْكِسْوَةِ وَالطَّعَامِ رَدَّهُ إلَى الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ الْإِذْنَ له بِالنَّفَقَةِ كان لِأَجْلِ السَّفَرِ فإذا انْقَطَعَ السَّفَرُ لم يَبْقَ الْإِذْنُ فَيَجِبُ رَدُّ ما بَقِيَ إلَى الْمُضَارَبَةِ
وَرَوَى الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ إذَا كان مع الرَّجُلِ أَلْفُ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفَيْنِ فَأَنْفَقَ عليه فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ في النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ لم يَبْقَ في يَدِهِ شَيْءٌ من رَأْسِ الْمَالِ فَالنَّفَقَةُ تَكُونُ اسْتِدَانَةً على الْمَالِ وهو لَا يَمْلِكُ ذلك فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ إذَا أَنْفَقَ على عبد غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَإِنْ رَفَعَهُ إلَى الْقَاضِي فَأَمَرَهُ الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ عليه فما أَنْفَقَ فَهُوَ عَلَيْهِمَا على قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ
قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذِهِ قِسْمَةٌ من الْقَاضِي بين الْمُضَارِبِ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ إذَا قَضَى بِالنَّفَقَةِ وَإِنَّمَا صَارَتْ النَّفَقَةُ دَيْنًا بِأَمْرِ الْقَاضِي لِأَنَّ له وِلَايَةً على الْغَائِبِ في حِفْظِ مَالِهِ وَهَذَا من بَابِ الْحِفْظِ فَيَمْلِكُ الْأَمْرَ بِالِاسْتِدَانَةِ عليه وَإِنَّمَا صَارَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ قِسْمَةً لِوُجُودِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ وهو التَّعْيِينُ لِأَنَّ الْقَاضِي لَمَّا أَلْزَمَ الْمُضَارِبَ النَّفَقَةَ لِأَجْلِ نَصِيبِهِ فَقَدْ عَيَّنَ نَصِيبَهُ وَلَا يَتَحَقَّقُ تَعْيِينُ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ إلَّا بَعْدَ تَعْيِينِ رَأْسِ الْمَالِ وَهَذَا مَعْنَى الْقِسْمَةِ
وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى بها جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفَانِ فَالنَّفَقَةُ على الْمُضَارِبِ وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ النَّفَقَةُ على رَبِّ الْمَالِ كَذَا حَقَّقَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاخْتِلَافَ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُضَارِبَ لم يَتَعَيَّنْ له مِلْكٌ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فَكَانَتْ الْجَارِيَةُ على حُكْمِ رَبِّ الْمَالِ فَكَانَتْ نَفَقَتُهَا عليه وَيَحْتَسِبُ بها في رَأْسِ مَالِهِ في رِوَايَةٍ عنه
وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى عنه يُقَالُ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْفِقْ إنْ شِئْتَ
وَلَهُمَا أَنَّ نَصِيبَ الْمُضَارِبِ من الْعَبْدِ على مِلْكِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ إعْتَاقَهُ يَنْفُذُ منه فَلَا يَجُوزُ إلْزَامُ رَبِّ الْمَالِ الْإِنْفَاقَ على مِلْكِ غَيْرِهِ فإذا قَضَى على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَفَقَةِ نَصِيبِهِ فَقَدْ تَعَيَّنَ الرِّبْحُ وَرَأْسُ الْمَالِ فَيَكُونُ قِسْمَةً لِوُجُودِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ وَعَلَى هذاالخلاف الْعَبْدُ الْآبِقُ من الْمُضَارَبَةِ إذَا جاء بِهِ رَجُلٌ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَلَيْسَ في يَدِهِ من الْمُضَارَبَةِ غَيْرُ الْعَبْدِ أن الْجَعْلَ عَلَيْهِمَا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْعَبْدَ على مِلْكِهِمَا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْجَعْلُ على رَبِّ الْمَالِ يُحْسَبُ في رَأْسِ مَالِهِ إذْ هو زِيَادَةٌ في رَأْسِ الْمَالِ فإذا بِيعَ اسْتَوْفَى رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ وَالْجَعْلَ وما بَقِيَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا على ما اشترطا ( ( ( اشترط ) ) ) من الرِّبْحِ
قال بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ إنَّ الْجَعْلَ لَا يُحْتَسَبُ بِهِ في مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَيُحْتَسَبُ بِهِ فِيمَا بين الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ فَإِنْ كان هُنَاكَ رِبْحٌ فَالْجَعْلُ منه وَإِلَّا فَهُوَ وَضِيعَةٌ من رَأْسِ الْمَالِ وَإِنَّمَا لم يَلْحَقْ الْجَعْلُ بِرَأْسِ الْمَالِ في بَابِ الْمُرَابَحَةِ
لِأَنَّ الذي يَلْحَقُ رَأْسَ الْمَالِ في الْمُرَابَحَةِ ما جَرَتْ عَادَةُ التُّجَّارِ بِإِلْحَاقِهِ بِهِ وما جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِإِلْحَاقِ الْجَعْلِ وَلِأَنَّهُ نَادِرٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ فَلَا يَلْحَقُ بِالْعَادَةِ ما ليس بِمُعْتَادٍ وَإِنَّمَا اُحْتُسِبَ بِهِ فِيمَا بين الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ غُرْمٌ لَزِمَ لِأَجْلِ الْمَالِ وَيَجُوزُ أَنْ يُحْتَسَبَ بِالشَّيْءِ فِيمَا بين الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ وَلَا يَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ في الْمُضَارَبَةِ كَنَفَقَةِ الْمُضَارِبِ على نَفْسِهِ
وَالثَّانِي ما يَسْتَحِقُّهُ الْمُضَارِبُ بِعَمَلِهِ في الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ هو الرِّبْحُ الْمُسَمَّى إنْ كان في الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ بِالْقِسْمَةِ وَشَرْطُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ فَلَا تَصِحُّ قِسْمَةُ الرِّبْحِ قبل قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ حتى لو دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَرَبِحَ أَلْفًا فَاقْتَسَمَا الرِّبْحَ وَرَأْسُ الْمَالِ في يَدِ الْمُضَارِبِ لم يَقْبِضْهُ رَبُّ الْمَالِ فَهَلَكَتْ الْأَلْفُ التي في يَدِ الْمُضَارِبِ بَعْدَ قِسْمَتِهِمَا الرِّبْحَ فإن الْقِسْمَةَ الْأُولَى لم تَصِحَّ وماقبض رَبُّ الْمَالِ فَهُوَ مَحْسُوبٌ عليه من رَأْسِ مَالِهِ وما قَبَضَهُ الْمُضَارِبُ دَيْنٌ عليه يَرُدُّهُ إلَى رَبِّ الْمَالِ حتى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ وَلَا تَصِحُّ قِسْمَةُ الرِّبْحِ حتى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ الْمَالِ وَالْأَصْلُ في اعْتِبَارِ هذا الشَّرْطِ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ التَّاجِرِ لَا يَسْلَمُ له رِبْحُهُ حتى يَسْلَمَ له رَأْسُ مَالِهِ كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ لَا تَسْلَمُ له نَوَافِلُهُ حتى تَسْلَمَ له عَزَائِمُهُ فَدَلَّ الْحَدِيثُ على أَنَّ قِسْمَةَ الرِّبْحِ قبل قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ لَا تَصِحُّ وَلِأَنَّ الرِّبْحَ زِيَادَةٌ وَالزِّيَادَةُ على الشَّيْءِ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ سَلَامَةِ الْأَصْلِ وَلِأَنَّ الْمَالَ إذَا بَقِيَ في يَدِ الْمُضَارِبِ فَحُكْمُ الْمُضَارَبَةِ بِحَالِهَا فَلَوْ صَحَّحْنَا قِسْمَةَ الرِّبْحِ لَثَبَتَتْ قِسْمَةُ الْفَرْعِ قبل الْأَصْلِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ
وإذا لم تَصِحَّ
____________________

(6/107)


الْقِسْمَةُ فإذا هَلَكَ ما في يَدِ الْمُضَارِبِ صَارَ الذي اقْتَسَمَاهُ هو رَأْسُ الْمَالِ فَوَجَبَ على الْمُضَارِبِ أَنْ يُرَدَّ منه تَمَامَ رَأْسِ الْمَالِ فَإِنْ قَبَضَ رَبُّ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ رَأْسُ مَالِهِ أَوَّلًا ثُمَّ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ ثُمَّ رَدَّ الْأَلْفَ التي قَبَضَهَا بِعَيْنِهَا إلَى يَدِ الْمُضَارِبِ على أَنْ يَعْمَلَ بها بِالنِّصْفِ فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ فَإِنْ هَلَكَتْ في يَدِهِ لم تُنْتَقَضْ الْقِسْمَةُ الْأُولَى لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمَّا استوفي رَأْسَ الْمَالِ فَقَدْ انْتَهَتْ الْمُضَارَبَةُ وَصَحَّتْ الْقِسْمَةُ فإذا رَدَّ الْمَالَ فَهَذَا عَقْدٌ آخَرُ فَهَلَاكُ الْمَالِ فيه لَا يُبْطِلُ الْقِسْمَةَ في غَيْرِهِ
وَلَوْ كان الرِّبْحُ في الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى أَلْفَيْنِ وَاقْتَسَمَا الرِّبْحَ فَأَخَذَ رَبُّ الْمَالِ أَلْفًا وَالْمُضَارِبُ أَلْفًا ثُمَّ هَلَكَ ما في يَدِ الْمُضَارِبِ فإن الْقِسْمَةَ بَاطِلَةٌ وما قَبَضَهُ رَبُّ الْمَالِ مَحْسُوبٌ من رَأْسِ الْمَالِ وَرَدَّ الْمُضَارِبُ نِصْفَ الْأَلْفِ الذي قَبَضَ لِأَنَّهُ لَمَّا هَلَكَ ما في يَدِ الْمُضَارِبِ من رَأْسِ الْمَالِ قبل صِحَّةِ الْقِسْمَةِ صَارَ ما قَبَضَهُ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ وإذا صَارَ ذلك رَأْسَ الْمَالِ تَعَيَّنَ الرِّبْحُ فِيمَا قَبَضَهُ الْمُضَارِبُ بِالْقِسْمَةِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ فَيَجِبُ عليه أَنْ يَرُدَّ نِصْفَهُ وَكَذَلِكَ إنْ كان قد هَلَكَ ما قَبَضَهُ الْمُضَارِبُ من الرِّبْحِ يَجِبُ عليه أَنْ يَرُدَّ نِصْفَهُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَبَضَ نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ من الرِّبْحِ لِنَفْسِهِ فَصَارَ ذلك مَضْمُونًا عليه
وَلَوْ هَلَكَ ما قَبَضَ رَبُّ الْمَالِ لم يَتَعَيَّنْ بِهَلَاكِهِ شَيْءٌ لِأَنَّ ما هَلَكَ بَعْدَ الْقَبْضِ يَهْلَكُ في ضَمَانِ الْقَابِضِ فَبَقَاؤُهُ وَهَلَاكُهُ سَوَاءٌ
قالوا وَلَوْ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ ثُمَّ اخْتَلَفَا فقال الْمُضَارِبُ قد كنت دَفَعْتُ إلَيْكَ رَأْسَ الْمَالِ قبل الْقِسْمَةِ وقال رَبُّ الْمَالِ لم أَقْبِضْ رَأْسَ الْمَالِ قبل ذلك فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ وَيَرُدُّ الْمُضَارِبُ ما قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ تَمَامَ رَأْسِ الْمَالِ يَحْتَسِبُ على رَأْسِ رَبِّ الْمَالِ بِمَا قَبَضَ من رَأْسِ مَالِهِ وَيُتِمُّ له رَأْسَ الْمَالِ بِمَا يَرُدُّهُ الْمُضَارِبُ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ بَعْدَ ذلك مِمَّا قَبَضَهُ الْمُضَارِبُ كان بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي أنها رَأْسُ الْمَالِ وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذلك وَالْمُضَارِبُ وَإِنْ كان أَمِينًا لَكِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْأَمِينِ في إسْقَاطِ الضَّمَانِ عن نَفْسِهِ لَا في التَّسْلِيمِ إلَى غَيْرِهِ وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي خُلُوصَ ما بَقِيَ من الْمَالِ وَالرِّبْحِ وَرَبُّ الْمَالِ يَجْحَدُ ذلك فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ في الِاسْتِحْقَاقِ
فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ إيفَاءَ رَأْسِ الْمَالِ وَلَا يُقَالُ الظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِلْمُضَارِبِ فِيمَا ادَّعَاهُ من إيفَاءِ رَأْسِ الْمَالِ إذْ الرِّبْحُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْإِيفَاءِ إذْ هو شَرْطُ صِحَّةِ قِسْمَةِ الرِّبْحِ لِأَنَّا نَقُولُ قد جَرَتْ عَادَةُ التُّجَّارِ بِالْمُقَاسَمَةِ مع بَقَاءِ رَأْسِ الْمَالِ في يَدِ الْمُضَارِبِ فلم يَكُنْ الظَّاهِرُ شاهد ( ( ( شاهدا ) ) ) لِلْمُضَارِبِ
وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ عن أبي يُوسُفَ في رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً صَحِيحَةً ثُمَّ جَعَلَ رَبُّ الْمَالِ يَأْخُذُ الْخَمْسِينَ وَالْعِشْرِينَ لِنَفَقَتِهِ وَالْمُضَارِبُ يَعْمَلُ بِالنَّفَقَةِ وَيَتَرَبَّحُ فِيمَا يَشْتَرِي وَيَبِيعُ ثُمَّ احْتَسَبَا فَإِنَّهُمَا يَحْتَسِبَانِ بِرَأْسِ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ يوم يَحْتَسِبَانِ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَلَا يَكُونُ ما أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ من النَّفَقَةِ نُقْصَانًا من رَأْسِ الْمَالِ وَلَكِنَّهُمَا يَحْتَسِبَا رَأْسَ الْمَالِ أَلْفًا من جَمِيعِ الْمَالِ وما بَقِيَ من ذلك فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِأَنَّا لو جَعَلْنَا الْمَقْبُوضَ من رَأْسِ الْمَالِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ لِأَنَّ اسْتِرْجَاعَ رَبِّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْمُضَارَبَةِ وَهُمَا لم يَقْصِدَا إبْطَالَهَا فَيُجْعَلُ رَأْسُ الْمَالِ فِيمَا بَقِيَ لِئَلَّا يَبْطُلَ هذا إذَا كان في الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ فَإِنْ لم يَكُنْ فيها رِبْحٌ فَلَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ لِأَنَّ الشَّرْطَ قد صَحَّ فَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا ما شَرَطَ وهو الرِّبْحُ ولم يُوجَدْ
وَأَمَّا الذي يَسْتَحِقُّهُ رَبُّ الْمَالِ فَالرِّبْحُ الْمُسَمَّى إذَا كان في المال رِبْحٌ وَإِنْ لم يَكُنْ فَلَا شَيْءَ له على الْمُضَارِبِ هذا كُلُّهُ حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ
وَأَمَّا حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ فَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَ شيئا مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ له أَنْ يَعْمَلَ في الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ وَلَا يَثْبُتُ بها شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا عن أَحْكَامِ الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ وَلَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَلَا الرِّبْحَ الْمُسَمَّى وَإِنَّمَا له أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ سَوَاءٌ كان في الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ أو لم يَكُنْ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ الْفَاسِدَةَ في مَعْنَى الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَجِيرُ لَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَلَا الْمُسَمَّى في الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ أَجْرَ الْمِثْلِ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الرِّبْحَ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ شَطْرًا منه بِالشَّرْطِ ولم يَصِحَّ الشَّرْطُ فَكَانَ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَالْخُسْرَانُ عليه وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ في دَعْوَى الْهَلَاكِ وَالضَّيَاعُ وَالْهَلَاكُ في الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ مع يَمِينِهِ هَكَذَا ذَكَرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَجَعَلَ الْمَالَ في يَدِهِ أَمَانَةً كما في الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فيه اخْتِلَافًا وقال لَا ضَمَانَ عليه في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ كما في الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ إذَا هَلَكَ الْمَالُ في يَدِهِ

____________________

(6/108)


فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ هذا الْعَقْدِ فَهُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعْنِي رَبَّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبَ الْفَسْخُ لَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ وهو عِلْمُ صَاحِبِهِ لِمَا ذَكَرْنَا في كِتَابِ الشَّرِكَةِ
وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا وَقْتَ الْفَسْخِ دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ حتى لو نهى رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ عن التَّصَرُّفِ وَرَأْسُ الْمَالِ عُرُوضٌ وَقْتَ النَّهْيِ لم يَصِحَّ نَهْيُهُ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهَا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِيَظْهَرَ الرِّبْحُ فَكَانَ النَّهْيُ وَالْفَسْخُ إبْطَالًا لَحَقِّهِ في التَّصَرُّفِ فَلَا يَمْلِكُ ذلك وَإِنْ كان رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ وَقْتَ الْفَسْخِ وَالنَّهْيِ صَحَّ الْفَسْخُ وَالنَّهْيُ لَكِنْ له أَنْ يَصْرِفَ الدَّرَاهِمَ إلَى الدَّنَانِيرِ وَالدَّنَانِيرَ إلَى الدَّرَاهِمِ لِأَنَّ ذلك لَا يُعَدُّ بَيْعًا لِاتِّحَادِهِمَا في الثَّمَنِيَّةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ اخْتِلَافِ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ فَإِنْ اخْتَلَفَا في الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ من يَدَّعِي الْعُمُومَ بِأَنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْمُضَارَبَةَ في عُمُومِ التِّجَارَاتِ أو في عُمُومِ الْأَمْكِنَةِ أو مع عُمُومٍ من الْأَشْخَاصِ وَادَّعَى الْآخَرُ نَوْعًا دُونَ نَوْعٍ وَمَكَانًا دُونَ مَكَان وَشَخْصًا دُونَ شَخْصٍ لِأَنَّ قول من يَدَّعِي الْعُمُومَ مُوَافِقٌ لِلْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ إذْ الْمَقْصُودُ من الْعَقْدِ هو الرِّبْحُ وَهَذَا الْمَقْصُودُ في الْعُمُومِ أَوْفَرُ وَكَذَلِكَ لو اخْتَلَفَا في الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ من يَدَّعِي الْإِطْلَاقَ حتى لو قال رَبُّ الْمَالِ أَذِنْتُ لك أَنْ تَتَّجِرَ في الْحِنْطَةِ دُونَ ما سِوَاهَا وقال الْمُضَارِبُ ما سَمَّيْتَ لي تِجَارَةً بِعَيْنِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ مع يَمِينِهِ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ أَقْرَبُ إلَى الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ على ما بَيَّنَّا
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ في الْفَصْلَيْنِ جميعا
وَقِيلَ إنَّهُ قَوْلُ زُفَرَ
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْإِذْنَ يُسْتَفَادُ من رَبِّ الْمَالِ فَكَانَ الْقَوْلُ في ذلك قَوْلَهُ فَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مُدَّعِي الْعُمُومَ في دَعْوَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً وفي دَعْوَى التَّقْيِيدِ وَالْإِطْلَاقِ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مُدَّعِي التَّقْيِيدَ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً فيه وَبَيِّنَةُ الْإِطْلَاقِ سَاكِتَةٌ
وَلَوْ اتَّفَقَا على الْخُصُوصِ لَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا في ذلك الْخَاصِّ
فقال رَبُّ الْمَالِ دَفَعْتُ الْمَالَ إلَيْكَ مُضَارَبَةً في الْبَزِّ
وقال الْمُضَارِبُ في الطَّعَامِ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّرْجِيحُ هُنَا بِالْمَقْصُودِ من الْعَقْدِ لِاسْتِوَائِهِمَا في ذلك فَتُرَجَّحُ بِالْإِذْنِ وَإِنَّهُ يُسْتَفَادُ من رَبِّ الْمَالِ فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ لِأَنَّ بَيَّنْتَهُ مُثْبِتَةٌ وَبَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ نَافِيَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِثْبَاتِ وَالْمُضَارِبُ يَحْتَاجُ إلَى الْإِثْبَاتِ لِدَفْعِ الضَّمَانِ عن نَفْسِهِ فَالْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ أَوْلَى وقد قالوا في الْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا في صِفَةِ الْإِذْنِ وقد وُقِّتَتَا إنَّ الْوَقْتَ الْأَخِيرَ أَوْلَى لِأَنَّ الشَّرْطَ الثَّانِي يَنْقُضُ الْأَوَّلَ فَكَانَ الرُّجُوعُ إلَيْهِ أَوْلَى
وَإِنْ اخْتَلَفَا في قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ فقال رَبُّ الْمَالِ كان رَأْسُ مَالِي أَلْفَيْنِ وَشَرَطْتُ لك ثُلُثَ الرِّبْحِ وقال الْمُضَارِبُ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفٌ وَشَرَطْتَ لي نِصْفَ الرِّبْحِ فَإِنْ كان في يَدِ الْمُضَارِبِ أَلْفُ دِرْهَمٍ يُقِرُّ أنها مَالُ الْمُضَارَبَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ في أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ أَلْفٌ
وَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ أَنَّهُ شَرَطَ ثُلُثَ الرِّبْحِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ الأخر وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وكان قَوْلُهُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ في الْأَمْرَيْنِ جميعا وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الرِّبْحَ يُسْتَفَادُ من أَصْلِ الْمَالِ وقد اتَّفَقَا على أَنَّ جُمْلَةَ الْمَالِ مُضَارَبَةٌ وَادَّعَى الْمُضَارِبُ اسْتِحْقَاقًا فيها وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذلك فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ بِخِلَافِ ما إذَا قال الْمُضَارِبُ بَعْضُ هذه الْأَلْفَيْنِ خَلَطْتُهُ بها أو بِضَاعَةٌ في يَدِي لِأَنَّهُمَا ما اتَّفَقَا على أَنَّ الْجَمِيعَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ وَمَنْ كان في يَدِهِ شَيْءٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْقَوْلَ في مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ قَوْلُ الْمُضَارِبِ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا في مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْقَابِضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو أَنْكَرَ الْقَبْضَ أَصْلًا وقال لم أَقْبِضْ مِنْكَ شيئا كان الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَا إذَا أَنْكَرَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ وَإِنَّمَا كان الْقَوْلُ قَوْلَ رَبِّ الْمَالِ في مِقْدَارِ الرِّبْحِ لِأَنَّ شَرْطَ الرِّبْحِ يُسْتَفَادُ من قِبَلِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ في مِقْدَارِ الْمَشْرُوطِ قَوْلَهُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو أَنْكَرَ الشَّرْطَ رَأْسًا فقال لم أَشْرُطْ لك رِبْحًا وَإِنَّمَا دَفَعْتُ إلَيْكَ بِضَاعَةً كان الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَا إذَا أَقَرَّ بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ وإذا كان الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُضَارِبِ في قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ في قَوْلِهِ الْأَخِيرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ في مِقْدَارِ الرِّبْحِ في قَوْلِهِمْ يَجْعَلُ رَأْسَ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَيَجْعَلُ لِلْمُضَارِبِ ثُلُثَ الْأَلْفِ الْأُخْرَى فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ في زِيَادَةِ رَأْسِ الْمَالِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ في زِيَادَةِ شَرْطِ الرِّبْحِ وَعَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ يَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ الْأَلْفَيْنِ جميعا
وَإِنْ كان في يَدِهِ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ على قَوْلِهِ الْأَخِيرِ
____________________

(6/109)


وَاقْتَسَمَا ما بَقِيَ من الْمَالِ أَثْلَاثًا وَعَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ يَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَيَأْخُذُ ثُلُثَيْ الْأَلْفِ الْأُخْرَى لِمَا بَيَّنَّا
وَإِنْ كان في يَدِ الْمُضَارِبِ قَدْرَ ما ذَكَرَ أَنَّهُ قَبَضَ من رَأْسِ الْمَالِ أو أَقَلَّ ولم يَكُنْ في يَدِهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ عِنْدَهُمْ جميعا لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى قَبُولِ قَوْلِ رَبِّ الْمَالِ في إيجَابِ الضَّمَانِ على الْمُضَارِبِ فَإِنْ جاء الْمُضَارِبُ بِثَلَاثَةِ آلَافِ فقال أَلْفٌ رَأْسُ الْمَالِ وَأَلْفٌ رِبْحٌ وَأَلْفٌ وَدِيعَةٌ لِآخَرَ أو مُضَارَبَةٌ لِآخَرَ أو بِضَاعَةٌ لِآخَرَ أو شَرِكَةٌ لِآخَرَ أو على أَلْفٌ دَيْنٌ فَالْقَوْلُ في الْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْبِضَاعَةِ وَالدَّيْنِ قَوْلُ الْمُضَارِبِ في الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا لِأَنَّ من في يَدِهِ شَيْءٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ له إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ لِغَيْرِهِ ولم يَعْتَرِفْ لِرَبِّ الْمَالِ بِهَذِهِ الْأَلْفِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فيها وَكُلُّ من جَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ في هذا الْبَابِ فَهُوَ مع يَمِينِهِ وَمَنْ أَقَامَ مِنْهُمَا بَيِّنَةً على ما يَدَّعِي من فَضْلٍ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا تُثْبِتُ زِيَادَةً فَبَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ تُثْبِتُ زِيَادَةً في رَأْسِ الْمَالِ وَبَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ تُثْبِتُ زِيَادَةً في الرِّبْحِ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا قال رَبُّ الْمَالِ شَرَطْتُ لك ثُلُثَ الرِّبْحِ وَزِيَادَةً عَشَرَةَ دَرَاهِمَ
وقال الْمُضَارِبُ بَلْ شَرَطْتَ لي الثُّلُثَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا على شَرْطِ الثُّلُثِ وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ زِيَادَةً لَا مَنْفَعَةَ له فيها إلَّا فَسَادُ الْعَقْدِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ شَرْطٍ وَلَوْ قال رَبُّ الْمَالِ شَرَطْتُ لك الثُّلُثَ إلَّا عَشَرَةً
وقال الْمُضَارِبُ بَلْ شَرَطْتَ لي الثُّلُثَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ له بِبَعْضِ الثُّلُثِ وَالْمُضَارِبُ يَدَّعِي تَمَامَ الثُّلُثِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ في زِيَادَةِ شَرْطِ الرِّبْحِ وفي هذا نَوْعُ إشْكَالٌ وهو أَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي صِحَّةَ الْعَقْدِ وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي فَسَادَهُ
فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُضَارِبِ
وَالْجَوَابُ أَنَّ دَعْوَى رَبِّ الْمَالِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ فَسَادُ الْعَقْدِ لَكِنَّهُ مُنْكِرٌ لِزِيَادَةٍ يَدَّعِيهَا الْمُضَارِبُ فَيُعْتَبَرُ إنْكَارُهُ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ في الْجُمْلَةِ
وَلَوْ قال رَبُّ الْمَالِ شَرَطْتُ لك نِصْفَ الرِّبْحِ وقال الْمُضَارِبُ شَرَطْتَ لي مِائَةَ دِرْهَمٍ أو لم تَشْتَرِطْ لي شيئا وَلِيَ أَجْرُ الْمِثْلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي أَجْرًا وَاجِبًا في ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذلك فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
فَإِنْ أَقَامَ رَبُّ الْمَالِ الْبَيِّنَةَ على شَرْطِ النِّصْفِ وَأَقَامَ الْمُضَارِبُ الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ لم يَشْتَرِطْ له شيئا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ لِلشَّرْطِ وَبَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ نَافِيَةٌ وَالْمُثْبِتَةُ أَوْلَى
وَلَوْ أَقَامَ الْمُضَارِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ شَرَطَ له مِائَةَ دِرْهَمٍ فَبَيِّنَتُهُ أَوْلَى لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ اسْتَوَيَا في إثْبَاتِ الشَّرْطِ وَبَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ أَوْجَبَتْ حُكْمًا زَائِدًا وهو إيجَابُ الْأَجْرِ على رَبِّ الْمَالِ فَكَانَتْ أَوْلَى
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا حُكْمَ الْمُزَارَعَةِ في هذا الْبَابِ حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ إلَّا في هذا الْفَصْلِ خَاصَّةً وهو أَنَّهُ إذَا أَقَامَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ شَرَطَ لِلْعَامِلِ نِصْفَ الْخَارِجِ وقال الْعَامِلُ شَرَطْتَ لي مِائَةَ قَفِيزٍ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الدَّافِعِ وفي الْمُضَارَبَةِ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُزَارَعَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ في جَانِبِ الْعَامِلِ بِدَلِيلِ أَنَّ من لَا بَذْرَ له من جِهَتِهِ لو امْتَنَعَ من الْعَمَلِ يُجْبَرُ عليه فَرَجَّحْنَا بَيِّنَةَ من يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَالْمُضَارَبَةُ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ فإن الْمُضَارِبَ لو امْتَنَعَ من الْعَمَلِ لَا يُجْبَرُ عليه فلم يَقَعْ التَّرْجِيحُ بِالتَّصْحِيحِ فَرَجَّحْنَا بِإِيجَابِ الضَّمَانِ وهو الْأَجْرُ
وَلَوْ قال رَبُّ الْمَالِ دَفَعْتُ إلَيْكَ بِضَاعَةً
وقال الْمُضَارِبُ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ أو مِائَةَ دِرْهَمٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَسْتَفِيدُ الرِّبْحَ بِشَرْطِهِ وهو مُنْكِرٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ إنه لم يُشْتَرَطْ وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقًا في مَالَ الْغَيْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْمَالِ
وَلَوْ قال الْمُضَارِبُ أَقْرَضْتَنِي الْمَالَ وَالرِّبْحُ لي
وقال رَبُّ الْمَالِ دَفَعْتُ إلَيْكَ مُضَارَبَةً أو بِضَاعَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عليه التَّمْلِيكَ وهو مُنْكِرٌ فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ التَّمْلِيكَ وَلِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بين الْبَيِّنَتَيْنِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ بِضَاعَةً أو مُضَارَبَةً ثُمَّ أَقْرَضَهُ
وَلَوْ قال الْمُضَارِبُ دَفَعْتَ إلَيَّ مُضَارَبَةً وقال رَبُّ الْمَالِ أَقْرَضْتُكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا على أَنَّ الْأَخْذَ كان بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي على الْمُضَارِبِ الضَّمَانَ وهو يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَصْلَ الضَّمَانِ
وَلَوْ جَحَدَ الْمُضَارِبُ الْمُضَارَبَةَ أَصْلًا وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ مُضَارَبَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَدَّعِي عليه قَبْضَ مَالِهِ وهو يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
وَلَوْ جَحَدَ ثُمَّ أَقَرَّ فَقَدْ قال ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ سمعت أَبَا يُوسُفَ قال في رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً ثُمَّ طَلَبَهُ منه فقال لم تَدْفَعْ إلَيَّ شيئا ثُمَّ قال بَلَى أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ قد دَفَعْتَ إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فهو ضَامِنٌ لِلْمَالِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَالْأَمِينُ إذَا جَحَدَ الْأَمَانَةَ ضَمِنَ كَالْمُودَعِ وَهَذَا لِأَنَّ عَقْدَ
____________________

(6/110)


الْمُضَارَبَةِ ليس بِعَقْدٍ لَازِمٍ بَلْ هو عَقْدٌ جَائِزٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ فَكَانَ جُحُودُهُ فَسْخًا له أو رَفْعًا له وإذا ارْتَفَعَ الْعَقْدُ صَارَ الْمَالُ مَضْمُونًا عليه كَالْوَدِيعَةِ فَإِنْ اشْتَرَى بها مع الْجُحُودِ كان مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ فَلَا يَبْقَى حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ من حُكْمِ الْمُضَارِبِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ أَمَانَةً في يَدِهِ فإذا صَارَ ضمينا ( ( ( ضمنيا ) ) ) لم يَبْقَ أَمِينًا فَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ الْجُحُودِ لَا يَرْتَفِعُ الضَّمَانُ لِأَنَّ الْعَقْدَ قد ارْتَفَعَ بِالْجُحُودِ فَلَا يَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ فَإِنْ اشْتَرَى بها بَعْدَ الْإِقْرَارِ
فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ ما اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ قد ضَمِنَ الْمَالَ بِجُحُودِهِ فَلَا يَبْرَأُ منه بِفِعْلِهِ وفي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ ما اشْتَرَاهُ على الْمُضَارَبَةِ وَيَبْرَأُ من الضَّمَانِ
لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشِّرَاءِ لم يَرْتَفِعْ بالجحود ( ( ( مع ) ) ) بَلْ هو قَائِمٌ مع الْجُحُودِ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يُنَافِي الْأَمْرَ بِالشِّرَاءِ
بِدَلِيلِ أَنَّ من غَصَبَ من آخَرَ شيئا فَأَمَرَ الْمَغْصُوبُ منه الْغَاصِبَ بِبَيْعِ الْمَغْصُوبِ أو بِالشِّرَاءِ بِهِ صَحَّ الْأَمْرُ وَإِنْ كان الْمَغْصُوبُ مَضْمُونًا على الْغَاصِبِ وإذا بَقِيَ الْأَمْرُ بَعْدَ الْجُحُودِ فإذا اشْتَرَى بِمُوجَبِ الْأَمْرِ وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْآمِرِ وَلَنْ يَقَعَ الشِّرَاءُ له إلَّا بَعْدَ انْتِفَاءِ الضَّمَانِ وَصَارَ كَالْغَاصِبِ إذَا بَاعَ الْمَغْصُوبَ بِأَمْرِ الْمَالِك وسلم أَنَّهُ يَبْرَأُ من الضَّمَانِ
كَذَا هذا
وَقَوْلُهُ الْمَالُ صَارَ مَضْمُونًا عليه فَلَا يَبْرَأُ من الضَّمَانِ بِفِعْلِهِ قُلْنَا الْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ يَجُوزُ أَنْ يَبْرَأَ الضَّامِنُ منها بِفِعْلِهِ كَالْمَغْصُوبِ منه إذَا أَمْرَ الْغَاصِبَ أَنْ يَجْعَلَ الْمَغْصُوبَ في مَوْضِعِ كَذَا أو يُسَلِّمَهُ إلَى فُلَانٍ أنه يَبْرَأُ بِذَلِكَ من الضَّمَانِ وَكَذَلِكَ رَجُلٌ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فأمر ( ( ( فأمره ) ) ) أَنْ يَشْتَرِيَ بها عَبْدًا فَجَحَدَهُ الْأَلْفَ ثُمَّ أَقَرَّ بها ثُمَّ اشْتَرَى جَازَ الشِّرَاءُ وَيَكُونُ لِلْآمِرِ وبرىء الْجَاحِدُ من الضَّمَانِ وَلَوْ اشْتَرَى بها عَبْدًا ثُمَّ أَقَرَّ لم يَبْرَأْ عن الضَّمَانِ وكان الشِّرَاءُ له لِمَا ذَكَرْنَا في الْمُضَارِبِ
وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بها عَبْدًا بِعَيْنِهِ ثُمَّ جَحَدَ الْأَلْفَ ثُمَّ اشْتَرَى بها الْعَبْدَ ثُمَّ أَقَرَّ بِالْأَلْفِ فإن الْعَبْدَ لِلْآمِرِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ لِلْآمِرِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَقَرَّ ثُمَّ اشْتَرَى بِخِلَافِ الْمُضَارِبِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ فَلَا يُحْمَلُ على الشِّرَاءِ لِرَبِّ الْمَالِ إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِالْمَالِ قبل الشِّرَاءِ
وقال أبو يُوسُفَ في الْمَأْمُورِ بِبَيْعِ الْعَبْدِ إذَا جَحَدَهُ إيَّاهُ فَادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ أَقَرَّ له بِهِ أن الْبَيْعَ جَائِزٌ وهو بَرِيءٌ من ضَمَانِهِ وَكَذَلِكَ لو دَفَعَ إلَيْهِ عَبْدًا فَأَمَرَهُ أَنْ يَهَبَهُ لِفُلَانٍ فَجَحَدَهُ وَادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ أَقَرَّ له بِهِ فَبَاعَهُ أن الْبَيْعَ جَائِزٌ وهو بَرِيءٌ من ضَمَانِهِ وَكَذَلِكَ أن أَمَرَهُ بِعِتْقِهِ فَجَحَدَهُ وَادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ أَقَرَّ له بِهِ فَأَعْتَقَهُ جَازَ عِتْقُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ الْجُحُودِ قَائِمٌ فإذا جَحَدَ ثُمَّ أَقَرَّ فَقَدْ تَصَرَّفَ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ فَيَبْرَأُ من الضَّمَانِ
وَلَوْ بَاعَ الْعَبْدَ أو وَهَبَهُ أو أَعْتَقَهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِذَلِكَ بَعْدَ الْبَيْعِ قال ابن سِمَاعَةَ يَنْبَغِي في قِيَاسِ ما إذَا دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بها عَبْدًا بِعَيْنِهِ أنه يَجُوزُ وَيَلْزَمُ الْآمِرَ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ لِنَفْسِهِ
وقال هِشَامٌ سمعت مُحَمَّدًا قال في رَجُلٍ دَفَعَ إلي رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَجَاءَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فقال هذه الْأَلْفُ رَأْسُ الْمَالِ وَهَذِهِ الْخَمْسُمِائَةِ رِبْحٌ وَسَكَتَ ثُمَّ قال عَلَيَّ دَيْنٌ فيه لِفُلَانٍ كَذَا كَذَا قال مُحَمَّدٌ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ إذَا أَقَرَّ الْمُضَارِبُ أَنَّهُ عَمِلَ بِالْمَالِ وإن في يَدِهِ عَشْرَةَ آلَافٍ وَعَلَيَّ فيها دَيْنٌ أَلْفٌ أو أَلْفَانِ فقال ذلك في كَلَامٍ مُتَّصِلٍ كان الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ يَدْفَعُ الدَّيْنَ منه سَمَّى صَاحِبَهُ أو لم يُسَمِّهِ وَإِنْ سَكَتَ سَكْتَةً ثُمَّ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَسَمَّى صَاحِبَهُ أو لم يُسَمِّهِ لم يُصَدَّقْ قال وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَهَذَا الذي ذَكَرَهُ الْحَسَنُ يُخَالِفُ ما قال مُحَمَّدٌ
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ إذا قال في يَدِي عَشْرَةُ آلَافٍ وَسَكَتَ فَقَدْ أَقَرَّ بِالرِّبْحِ فإذا قال عَلَيَّ دَيْنٌ أَلْفٌ فَقَدْ رَجَعَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَالْإِقْرَارُ إذَا صَحَّ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ عنه بِخِلَافِ ما إذَا قال ذلك مُتَّصِلًا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لم يَسْتَقِرَّ بَعْدُ وكان بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أن أَقَرَّ بِالدَّيْنِ في حَالٍ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ فَيَنْفُذُ إقْرَارُهُ كما إذَا قال هذا رِبْحٌ وَعَلَيَّ دَيْنٌ
وَقَوْلُهُ أن قَوْلَهُ عَلَيَّ دَيْنٌ بعدما سَكَتَ يَكُونُ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ من الرِّبْحِ مَمْنُوعٌ فإنه يَجُوزُ أَنَّهُ رَبِحَ ثُمَّ لَزِمَهُ الدَّيْنُ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يقول قد رَبِحْت وَلَزِمَنِي دَيْنٌ وهو يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ فإذا أَقَرَّ بِهِ صَحَّ
وَلَوْ جاء الْمُضَارِبُ بِأَلْفَيْنِ فقال أَلْفٌ رَأْسُ الْمَالِ وَأَلْفٌ رِبْحٌ ثُمَّ قال ما أَرْبَحُ إلَّا خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ كُلُّهُ في يَدِ الْمُضَارِبِ فإن الْمُضَارِبَ يَضْمَنُ الْخَمْسَمِائَةِ التي جَحَدَهَا وَلَا ضَمَانَ عليه في بَاقِي الْمَالِ لِأَنَّ الرِّبْحَ أَمَانَةٌ في يَدِهِ فإذا جَحَدَهُ فقد صَارَ غَاصِبًا بِالْجُحُودِ فَيَضْمَنُ إذَا هَلَكَ
وَلَوْ قال الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ قد دَفَعْتُ إلَيْكَ رَأْسَ مَالِكَ وَاَلَّذِي بَقِيَ في يَدِي رِبْحٌ ثُمَّ رَجَعَ فقال لم أَدْفَعْهُ إلَيْكَ وَلَكِنْ هَلَكَ فإنه يَضْمَنُ ما ادَّعَى دَفْعَهُ إلَى رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ صَارَ
____________________

(6/111)


جَاحِدًا بِدَعْوَى الدَّفْعِ فَيَضْمَنُ بِالْجُحُودِ وَكَذَلِكَ لو اخْتَلَفَا في الرِّبْحِ ثُمَّ رَجَعَ فقال لم أَدْفَعْهُ إلَيْكَ وَلَكِنَّهُ هَلَكَ فإنه يَضْمَنُ ما ادَّعَى دَفْعَهُ إلَى رَبِّ الْمَالِ لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ اخْتَلَفَا في الرِّبْحِ فقال رَبُّ الْمَالِ شَرَطْتُ لك الثُّلُثَ وقال الْمُضَارِبُ شَرَطْتَ لي النِّصْفَ ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ في يَدِ الْمُضَارِبِ قال مُحَمَّدٌ يَضْمَنُ الْمُضَارِبُ السُّدُسَ من الرِّبْحِ يُؤَدِّيهِ إلَى رَبِّ الْمَالِ من مَالِهِ خَاصَّةً وَلَا ضَمَانَ عليه فِيمَا سِوَى ذلك لِأَنَّا قد بَيَّنَّا أَنَّ الْقَوْلَ في شَرْطِ الرِّبْحِ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ وإذا كان كَذَلِكَ فَنَصِيبُ الْمُضَارِبِ الثُّلُثُ وقد ادَّعَى النِّصْفَ وَمَنْ ادَّعَى أَمَانَةً في يَدِهِ ضَمِنَهَا لِذَلِكَ يَضْمَنُ سُدُسَ الرِّبْحِ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ فَعَقْدُ الْمُضَارَبَةِ يَبْطُلُ بِالْفَسْخِ وَبِالنَّهْيِ عن التَّصَرُّفِ لَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ الْفَسْخِ وَالنَّهْيِ وهو عِلْمُ صَاحِبِهِ بِالْفَسْخِ وَالنَّهْيِ وَأَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا وَقْتَ الْفَسْخِ وَالنَّهْيِ فَإِنْ كان مَتَاعًا لم يَصِحَّ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ حتى يَنِضَّ كما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ كان عَيْنًا صَحَّ لَكِنْ له صَرْفُ الدَّرَاهِمِ إلَى الدَّنَانِيرِ وَالدَّنَانِيرِ إلَى الدَّرَاهِمِ بِالْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذلك لَا يُعَدُّ بَيْعًا لِتَجَانُسِهِمَا في مَعْنَى الثَّمَنِيَّةِ وَتَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَشْتَمِلُ على الْوَكَالَةِ وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ وَسَوَاءٌ عَلِمَ الْمُضَارِبِ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ أو لم يَعْلَمْ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَقِفُ على الْعِلْمِ كما في الْوَكَالَةِ إلَّا أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ إذَا صَارَ مَتَاعًا فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَ حتى يَصِيرَ نَاضًّا لِمَا بَيَّنَّا وَتَبْطُلُ بِجُنُونِ أَحَدِهِمَا إذَا كان مُطْبِقًا لِأَنَّهُ يُبْطِلُ أَهْلِيَّةَ الْأَمْرِ لِلْآمِرِ وَأَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ لِلْمَأْمُورِ وَكُلُّ ما تَبْطُلُ بِهِ الْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِهِ الْمُضَارَبَةُ وقد تَقَدَّمَ في كِتَابِ الْوَكَالَةِ تَفْصِيلُهُ
وَلَوْ ارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ فَبَاعَ الْمُضَارِبُ وَاشْتَرَى بِالْمَالِ بَعْدَ الرِّدَّةِ فَذَلِكَ كُلُّهُ مَوْقُوفٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ إنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ ذلك نَفَذَ كُلُّهُ وَالْتَحَقَتْ رِدَّتُهُ بِالْعَدَمِ في جَمِيعِ أَحْكَامِ الْمُضَارَبَةِ وَصَارَ كَأَنَّهُ لم يَرْتَدَّ أَصْلًا وَكَذَلِكَ إنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا قبل أَنْ يُحْكَمَ بِلِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ على الرِّوَايَةِ التي يَشْتَرِطُ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِلِحَاقِهِ لِلْحُكْمِ بِمَوْتِهِ وَصَيْرُورَةِ أَمْوَالِهِ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ فَإِنْ مَاتَ أو قُتِلَ على الرِّدَّةِ أو لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَى الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ من يَوْمِ ارْتَدَّ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفٌ إنْ مَاتَ أو قُتِلَ أو لَحِقَ فَحُكِمَ بِاللُّحُوقِ يَزُولُ مِلْكُهُ من وَقْتِ الرِّدَّةِ إلَى وَرَثَتِهِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مَاتَ في ذلك الْوَقْتِ فَيَبْطُلُ تَصَرُّفُ الْمُضَارِبِ بِأَمْرِهِ لَبُطْلَانِ أَهْلِيَّةِ الأمر وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ تَصَرَّفَ في مِلْكِ الْوَرَثَةِ فَإِنْ كان رَأْسُ الْمَالِ يَوْمَئِذٍ قَائِمًا في يَدِهِ لم يَتَصَرَّفْ فيه ثُمَّ اشْتَرَى بَعْدَ ذلك فالمشتري وَرِبْحُهُ يَكُونُ له لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُ رَبِّ الْمَالِ عن الْمَالِ فَيَنْعَزِلُ الْمُضَارِبُ عن الْمُضَارَبَةِ فَصَارَ مُتَصَرِّفًا في مِلْكِ الْوَرَثَةِ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ
وَإِنْ كان صَارَ رَأْسُ الْمَالِ مَتَاعًا فَبَيْعُ الْمُضَارِبِ فيه وَشِرَاؤُهُ جَائِزٌ حتى يَنِضَّ رَأْسُ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا في هذه الْحَالَةِ لَا يَنْعَزِلُ بِالْعَزْلِ وَالنَّهْيِ وَلَا بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ فَكَذَلِكَ رِدَّتُهُ فَإِنْ حَصَلَ في يَدِ الْمُضَارِبِ دَنَانِيرُ وَرَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمُ أو حَصَلَ في يَدِهِ دَرَاهِمُ وَرَأْسُ الْمَالِ دَنَانِيرُ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ له التَّصَرُّفُ لِأَنَّ الذي حَصَلَ في يَدِهِ من جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ مَعْنًى لِاتِّحَادِهِمَا في الثَّمَنِيَّةِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ عَيْنَ الْمَالِ قَائِمٌ في يَدِهِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فَقَالُوا إنْ باعه ( ( ( باع ) ) ) بِجِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ جَازَ لِأَنَّ على الْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ رَأْسِ الْمَالِ فَكَانَ له أَنْ يَبِيعَ ما في يَدِهِ كَالْعُرُوضِ
وَأَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَالرِّدَّةُ لَا تَقْدَحُ في مِلْكِ الْمُرْتَدِّ فَيَجُوزُ تَصَرُّفُ الْمُضَارِبِ بَعْدَ رِدَّةِ رَبِّ الْمَالِ كما يَجُوزُ تَصَرُّفُ رَبِّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ عِنْدَهُمَا فَإِنْ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ أو قُتِلَ كان مَوْتُهُ كَمَوْتِ الْمُسْلِمِ في بُطْلَانِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ
وَكَذَلِكَ إنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحُكِمَ بِلِحَاقِهِ لِأَنَّ ذلك بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَالَهُ يَصِيرُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ فَبَطَلَ أَمْرُهُ في الْمَالِ فَإِنْ لم يَرْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ وَلَكِنْ الْمُضَارِبُ ارْتَدَّ فَالْمُضَارَبَةُ على حَالِهَا في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّ وُقُوفَ تَصَرُّفِ رَبِّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ لِوُقُوفِ مِلْكِهِ وَلَا مِلْكَ لِلْمُضَارِبِ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فيه بَلْ الْمِلْكُ لِرَبِّ الْمَالِ ولم تُوجَدْ منه الرِّدَّةُ فَبَقِيَتْ الْمُضَارَبَةُ إلَّا أَنَّهُ لَا عُهْدَةَ على الْمُضَارِبِ وَإِنَّمَا الْعُهْدَةُ على رَبِّ الْمَالِ في قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْعُهْدَةَ تَلْزَمُ بِسَبَبِ الْمَالِ فَتَكُونُ على رَبِّ الْمَالِ وَصَارَ كما لو وَكَّلَ صَبِيًّا مَحْجُورًا أو عَبْدًا مَحْجُورًا فَأَمَّا على قَوْلِهِمَا فَالْعُهْدَةُ عليه لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ كَتَصَرُّفِ الْمُسْلِمِ
وَإِنْ مَاتَ الْمُضَارِبُ أو قُتِلَ على الرِّدَّةِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ لِأَنَّ مَوْتَهُ في الرِّدَّةِ كَمَوْتِهِ قبل الرِّدَّةِ
وَكَذَا إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقُضِيَ بِلُحُوقِهِ لِأَنَّ رِدَّتَهُ مع اللَّحَاقِ وَالْحُكْمُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ في بُطْلَانِ تَصَرُّفِهِ
فَإِنْ لَحِقَ الْمُضَارِبُ
____________________

(6/112)


بِدَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ رِدَّتِهِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى هُنَاكَ ثُمَّ رَجَعَ مُسْلِمًا فَجَمِيعُ ما اشْتَرَى وَبَاعَ في دَارِ الْحَرْبِ يَكُونُ له وَلَا ضَمَانَ عليه في شَيْءٍ من ذلك لِأَنَّهُ لَمَّا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ صَارَ كَالْحَرْبِيِّ إذَا اسْتَوْلَى على مَالِ إنْسَانٍ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أنه يَمْلِكُهُ فَكَذَا الْمُرْتَدُّ
وَأَمَّا ارْتِدَادُ الْمَرْأَةِ وعدم ارْتِدَادِهَا سَوَاءٌ في قَوْلِهِمْ جميعا سَوَاءٌ كان الْمَالُ لها أو كانت مُضَارَبَةً لِأَنَّ رِدَّتَهَا لَا تُؤَثِّرُ في مِلْكِهَا إلَّا أَنْ تَمُوتَ فَتَبْطُلُ الْمُضَارَبَةُ كما لو مَاتَتْ قبل الرِّدَّةِ أو لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحُكِمَ بِلِحَاقِهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذلك بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ
وَتَبْطُلُ بِهَلَاكِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ في يَدِ الْمُضَارِبِ قبل أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ شيئا في قَوْلِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ بِالْقَبْضِ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهِ كَالْوَدِيعَةِ
وَكَذَلِكَ لو اسْتَهْلَكَهُ الْمُضَارِبُ أو أَنْفَقَهُ أو دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ فَاسْتَهْلَكَهُ لِمَا قُلْنَا حتى لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ شيئا لِلْمُضَارَبَةِ فَإِنْ أَخَذَ مثله من الذي اسْتَهْلَكَهُ كان له أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ على الْمُضَارَبَةِ
كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ أَخَذَ عِوَضَ رَأْسِ الْمَالِ فَكَانَ أَخْذُ عِوَضِهِ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ ثَمَنِهِ فَيَكُونُ على الْمُضَارَبَةِ
وَرَوَى ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لو أَقْرَضَهَا الْمُضَارِبُ رَجُلًا فَإِنْ رَجَّعَ إلَيْهِ الدَّرَاهِمَ بِعَيْنِهَا رَجَعَتْ على الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَعَدَّى يَضْمَنُ لَكِنْ زَالَ التَّعَدِّي فَيَزُولُ الضَّمَانُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ وَإِنْ أَخَذَ مِثْلَهَا لم يَرْجِعْ في الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ الضَّمَانَ قد اسْتَقَرَّ بِهَلَاكِ الْعَيْنِ وَحُكْمُ الْمُضَارَبَةِ مع الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلِهَذَا يُخَالِفُ ما رَوَاهُ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ عن أبي حَنِيفَةَ في الِاسْتِهْلَاكِ
هذا إذَا هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ قبل أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُضَارِبُ شيئا فَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِأَنْ كان مَالُ الْمُضَارَبَةِ أَلْفًا فَاشْتَرَى بها جَارِيَةً ولم يَنْقُدْ الثَّمَنَ الْبَائِعَ حتى هَلَكَتْ الْأَلْفُ فَقَدْ قال أَصْحَابُنَا الْجَارِيَةُ على الْمُضَارَبَةِ وَيَرْجِعُ على رَبِّ الْمَالِ بِالْأَلْفِ فَيُسَلِّمُهَا إلَى الْبَائِعِ وَكَذَلِكَ إنْ هَلَكَتْ الثَّانِيَةُ التي قَبَضَ يَرْجِعُ بِمِثْلِهَا على رَبِّ الْمَالِ
وَكَذَلِكَ سَبِيلُ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وما بَعْدَ ذلك أَبَدًا حتى يُسَلِّمَ إلَى الْبَائِعِ وَيَكُونَ ما دَفَعَهُ أَوَّلًا رَبُّ الْمَالِ وما غَرِمَ كُلُّهُ من رَأْسِ الْمَالِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ مُتَصَرِّفٌ لِرَبِّ الْمَالِ فَيَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ من الضَّمَانِ بِتَصَرُّفِهِ له كَالْوَكِيلِ
غير أَنَّ الْفَرْقَ بين الْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا هَلَكَ الثَّمَنُ في يَدِهِ فَرَجَعَ بمثله إلَى الْمُوَكِّلِ ثُمَّ هَلَكَ الثَّانِي لم يَرْجِعْ على الْمُوَكِّلِ
وَالْمُضَارِبُ يَرْجِعُ في كل مَرَّةٍ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْوَكَالَةَ قد انْتَهَتْ بِشِرَاءِ الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الْوَكَالَةِ بِالشِّرَاءِ اسْتِفَادَةُ مِلْكِ الْمَبِيعِ لَا الرِّبْحِ فإذا اشْتَرَى فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَانْتَهَى عَقْدُ الْوَكَالَةِ بِانْتِهَائِهِ وَوَجَبَ على الْوَكِيلِ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ فإذا هَلَكَ في يَدِهِ قبل أَنْ يَنْقُدَهُ الْبَائِعَ وَجَبَ لِلْوَكِيلِ على الْمُوَكِّلِ مِثْلُ ما وَجَبَ لِلْبَائِعِ عليه فإذا قَبَضَهُ مَرَّةً فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فَلَا يَجِبُ له عليه شَيْءٌ آخَرُ
فَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ فَإِنَّهَا لَا تَنْتَهِي بِالشِّرَاءِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منها الرِّبْحُ وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فإذا بَقِيَ الْعَقْدُ فَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ ثَانِيًا وَثَالِثًا وما غَرِمَ رَبُّ الْمَالِ مع الْأَوَّلِ يَصِيرُ كُلُّهُ رَأْسَ الْمَالِ لِأَنَّهُ غَرِمَ لِرَبِّ الْمَالِ بِسَبَبِ الْمُضَارَبَةِ فَيَكُونُ كُلُّهُ من مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ من هذا الْعَقْدِ هو الرِّبْحُ فَلَوْ لم يَصِرْ ما غَرِمَ رَبُّ الْمَالِ من رَأْسِ الْمَالِ وَيَهْلَكُ مَجَّانًا يَتَضَرَّرُ بِهِ رَبُّ الْمَالِ لِأَنَّهُ يُخَسِّرُ وَيُرَبِّحُ الْمُضَارِبَ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلَوْ قَبَضَ الْمُضَارِبُ الْأَلْفَ الْأُولَى فَتَصَرَّفَ فيها حتى صَارَتْ أَلْفَيْنِ ثُمَّ اشْتَرَى بها جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفَانِ فَهَلَكَتْ الْأَلْفَانِ قبل أَنْ يَنْقُدَهَا الْبَائِعُ فإنه يَرْجِعُ على رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَيَغْرَمُ الْمُضَارِبُ من مَالِهِ خَمْسَمِائَةٍ وَهِيَ حِصَّتُهُ من الرِّبْحِ فَيَكُونُ رُبْعُ الْجَارِيَةِ لِلْمُضَارِبِ خَاصَّةً وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا على الْمُضَارَبَةِ وَرَأْسُ الْمَالِ في هذه الثَّلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى الْجَارِيَةَ بِأَلْفَيْنِ فَقَدْ اشْتَرَاهَا أَرْبَاعًا رُبْعُهَا لِلْمُضَارِبِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهَا بعدما ظَهَرَ مِلْكُ الْمُضَارِبِ في الرِّبْحِ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِأَلْفَيْنِ وَرَأْسُ الْمَالِ أَلْفٌ فَحِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ من الرِّبْحِ خَمْسُمِائَةٍ وَحِصَّةُ الْمُضَارِبِ خَمْسُمِائَةٍ فما اشْتَرَاهُ لِرَبِّ الْمَالِ رَجَعَ عليه وما اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ فَضَمَانُهُ عليه وَإِنَّمَا خَرَجَ ربع ( ( ( ربح ) ) ) الْجَارِيَةِ من الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا أَلْزَمَهُ ضَمَانَ حِصَّتِهِ من الرِّبْحِ فَقَدْ عَيَّنَهُ وَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالْقِيمَةِ فَخَرَجَ الرِّبْحُ من الْمُضَارَبَةِ وَبَقِيَ الْبَاقِي على ما كان عليه وقد لَزِمَ رَبَّ الْمَالِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ بِسَبَبِ الْمُضَارَبَةِ فَصَارَ ذلك زِيَادَةً في رَأْسِ الْمَالِ فَصَارَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ
فَإِنْ بِيعَتْ هذه الْجَارِيَةُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ منها لِلْمُضَارِبِ أَلْفٌ لِأَنَّ ذلك حِصَّتُهُ من الرِّبْحِ فَكَانَ مِلْكُهُ وَبَقِيَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ على الْمُضَارَبَةِ لِرَبِّ الْمَالِ منها أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ رَأْسُ مَالِهِ يَبْقَى رِبْحٌ خَمْسُمِائَةٍ
____________________

(6/113)


فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ على الشَّرْطِ
وَلَوْ كانت الْجَارِيَةُ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ وَالشِّرَاءُ بِأَلْفٍ وَهِيَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ فَضَاعَتْ غَرِمَهَا رَبُّ الْمَالِ كُلُّهَا لِأَنَّ الشِّرَاءَ إذَا وَقَعَ بِأَلْفٍ فَقَدْ وَقَعَ بِثَمَنٍ كُلِّهِ رَأْسُ الْمَالِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الربع ( ( ( الربح ) ) ) في الثَّانِي فَيَكُونُ الضَّمَانُ على رَبِّ الْمَالِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فإن هُنَاكَ الشِّرَاءَ وَقَعَ بِأَلْفَيْنِ فَظَهَرَ رِبْحُ الْمُضَارِبِ وَهَلَكَ رُبْعُ الْجَارِيَةِ فَيَغْرَمُ حِصَّةَ ذلك الرُّبْعِ من الثَّمَنِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في الْمُضَارِبِ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ أَلْفٌ رِبْحٌ وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ فَضَاعَتْ الْأَلْفَانِ قبل أَنْ يَنْقُدَهَا الْبَائِعَ أنه على الْمُضَارِبِ الرُّبْعَ وهو خَمْسُمِائَةٍ وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ
وَهَذَا على ما بَيَّنَّا
قال مُحَمَّدٌ وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْنِ بِأَمَةٍ تُسَاوِي أَلْفًا وَقَبَضَ التي اشْتَرَاهَا ولم يَدْفَعْ أَمَتَهُ حتى مَاتَتَا جميعا في يَدِهِ فإنه يَغْرَمُ قِيمَةَ التي اشْتَرَى وَهِيَ أَلْفٌ يَرْجِعُ بِذَلِكَ على رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عليه قِيمَةُ الْجَارِيَةِ التي اشْتَرَاهَا وَلَا فَضْلَ في ذلك عن رَأْسِ الْمَالِ
وَهَذَا إنَّمَا يَجُوزُ وهو أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُضَارِبُ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفٌ بِأَلْفَيْنِ إذَا كان رَبُّ الْمَالِ قال له اشْتَرِ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَإِلَّا فَشِرَاءُ الْمُضَارِبِ على هذا الْوَجْهِ لَا يَصِحُّ في قَوْلِهِمْ جميعا
وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في مَوْضِعٍ آخَرَ في نَوَادِرِهِ في رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى الْمُضَارِبُ وَبَاعَ حتى صَارَ الْمَالُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ فَاشْتَرَى بِثَلَاثَةِ آلَافٍ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ قِيمَةُ كل وَاحِدٍ أَلْفٌ ولم يَنْقُدْ الْمَالَ حتى ضَاعَ قال يَغْرَمُ ذلك كُلَّهُ على رَبِّ الْمَالِ وَيَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لم يَتَعَيَّنْ له مِلْكٌ في وَاحِدٍ من الْعَبِيدِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منهم يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ الْمَالِ
لِهَذَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِمْ فَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ ثَمَنِهِمْ
وقد عَلَّلَ مُحَمَّدٌ لِهَذَا فقال من قَبْلُ أن الْمُضَارِبَ لم يَكُنْ يَجُوزُ عِتْقُهُ في شَيْءٍ من الْعَبِيدِ وَهَذَا يُخَالِفُ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فإنه قال إنَّ مُحَمَّدًا يَعْتَبِرُ الْمَضْمُونَ على الْمُضَارِبِ الذي يَغْرَمُهُ دُونَ ما وَجَبَ عليه من الثَّمَنِ
وَمَعْنَى هذا الْكَلَامِ أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا قَبَضَ ولم يَنْقُدْ الثَّمَنَ حتى هَلَكَ كان الْمُعْتَبَرُ ما يَجِبُ عليه ضَمَانُهُ فَإِنْ كان ما يَضْمَنُهُ زَائِدًا على رَأْسِ الْمَالِ كان على الْمُضَارِب حِصَّةُ ذلك وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّا إذَا اعْتَبَرْنَا الضَّمَانَ فَقَدْ ضَمِنَ أَكْثَرَ من رَأْسِ الْمَالِ
فَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَ عن مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ أو يَكُونَ الشَّرْطُ فِيمَا صَارَ مَضْمُونًا على الْمُضَارِبِ أَنْ يَتَعَيَّنَ حَقُّهُ فيه وَهُنَا وَإِنْ ضَمِنَ فإنه لم يَتَعَيَّنْ حَقُّهُ فيه وَأَمَّا تَعْلِيلُهُ بِعَدَمِ نَفَاذِ الْعِتْقِ فَلَا يَطَّرِدُ لِأَنَّهُ لو اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفًا يَضْمَنُ وَإِنْ لم يَنْفُذْ عِتْقُهُ فيه إلَّا أَنْ يَكُونَ جَعَلَ نُفُوذَ الْعِتْقِ في الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ بِأَلْفَيْنِ وَقِيمَتُهَا أَلْفَانِ عليه لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عليه فما لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فيه يَكُونُ عَكْسَ الْعِلَّةِ فَلَا يَلْزَمُهُ طَرْدُهُ في جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ
وقال مُحَمَّدٌ إذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ فَفَقَدَ الْمَالَ فقال رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَيْتُهُ على الْمُضَارَبَةِ ثُمَّ ضَاعَ الْمَالُ وقال الْمُضَارِبُ اشْتَرَيْتُهُ بعدما ضَاعَ وأنا أَرَى أَنَّ الْمَالَ عِنْدِي فإذا قد ضَاعَ قبل ذلك فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ لِأَنَّ الْأَصْلَ في كل من يَشْتَرِي شيئا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَلِأَنَّ الْحَالَ يَشْهَدُ بِهِ أَيْضًا وهو هَلَاكُ الْمَالِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُضَارِبِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْمُضَارَبَةِ الْكَبِيرَةِ إذَا اخْتَلَفَا وقال رَبُّ الْمَالِ ضَاعَ قبل أَنْ تَشْتَرِيَ الْجَارِيَةَ وَإِنَّمَا اشْتَرَيْتهَا لِنَفْسِكَ وقال الْمُضَارِبُ ضَاعَ الْمَالُ بَعْدَ ما اشْتَرَيْتُهَا وأنا أُرِيدُ أَنْ آخُذَكَ بِالثَّمَنِ وَلَا أَعْلَمُ مَتَى ضَاعَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مع يَمِينِهِ وَعَلَى الْمُضَارِبِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ اشْتَرَى وَالْمَالُ عِنْدَهُ إنَّمَا ضَاعَ بَعْدَ الشِّرَاءِ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَنْفِي الضَّمَانَ عن نَفْسِهِ وَالْمُضَارِبُ يَدَّعِي عليه الضَّمَانَ لِيَرْجِعَ عليه بِالثَّمَنِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي وُقُوعَ الْعَقْدِ له وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذلك فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلِأَنَّ الْحَالَ وهو الْهَلَاكُ شَهِدَ لِرَبِّ الْمَالِ فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الضَّمَانَ فَكَانَتْ أَوْلَى
وإذا انْفَسَخَتْ الْمُضَارَبَةُ وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ دُيُونٌ على الناس وَامْتَنَعَ عن التَّقَاضِي وَالْقَبْضِ فَإِنْ كان في الْمَالِ رِبْحٌ أُجْبِرَ على التَّقَاضِي وَالْقَبْضِ وَإِنْ لم يَكُنْ فيه رِبْحٌ لم يُجْبَرْ عَلَيْهِمَا وَقِيلَ له أَحِلَّ رَبَّ الْمَالِ بِالْمَالِ على الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ إذَا كان هُنَاكَ رِبْحٌ كان له فيه نَصِيبٌ فَيَكُونُ عَمَلُهُ عَمَلَ الْأَجِيرِ وَالْأَجِيرُ مَجْبُورٌ على الْعَمَلِ فِيمَا الْتَزَمَ وَإِنْ لم يَكُنْ هُنَاكَ رِبْحٌ لم تُسَلَّمْ له مَنْفَعَةٌ فَكَانَ عَمَلُهُ عَمَلَ الْوُكَلَاءِ فَلَا يُجْبَرُ على إتْمَامِ الْعَمَلِ كما لَا يُجْبَرُ الْوَكِيلُ على قَبْضِ الثَّمَنِ غير أَنَّهُ يُؤْمَرُ الْمُضَارِبُ أو الْوَكِيلُ أَنْ يُحِيلَ رَبَّ الْمَالِ على الذي عليه الدَّيْنُ حتى يُمْكِنَهُ قَبْضُهُ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ رَاجِعَةٌ إلَى الْعَاقِدِ فَلَا تثبت ( ( ( يثبت ) ) ) وِلَايَةَ الْقَبْضِ لِلْآمِرِ إلَّا بِالْحَوَالَةِ من الْعَاقِدِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُحِيلَهُ بِالْمَالِ حتى لَا يتوي حَقُّهُ
وَلَوْ ضَمِنَ الْعَاقِدُ  لِرَبِّ الْمَالِ هذا الدَّيْنَ الذي عليه لم يَجُزْ ضَمَانُهُ لِأَنَّ الْعَاقِدَ قد جَعَلَهُ أَمِينًا فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ ضَمِينًا فِيمَا جَعَلَهُ الْعَاقِدُ أَمِينًا
وَلَوْ مَاتَ الْمُضَارِبُ ولم يُوجَدْ مَالُ الْمُضَارَبَةِ فِيمَا خَلَفَ فإنه يَعُودُ دَيْنًا فِيمَا خَلَفَ الْمُضَارِبُ وَكَذَا الْمُودِعُ وَالْمُسْتَعِيرُ وَالْمُسْتَبْضِعُ وَكُلُّ من كان الْمَالُ في يَدِهِ أَمَانَةً إذَا مَاتَ قبل الْبَيَانِ وَلَا تُعْرَفُ الْأَمَانَةُ بِعَيْنِهَا فإنه يَكُونُ عليه دَيْنًا في تَرِكَتِهِ لِأَنَّهُ صَارَ بِالتَّجْهِيلِ مُسْتَهْلِكًا لِلْوَدِيعَةِ وَلَا تُصَدَّقُ وَرَثَتُهُ على الْهَلَاكِ وَالتَّسْلِيمِ إلَى رَبِّ الْمَالِ
وَلَوْ عَيَّنَ الْمَيِّتُ الْمَالَ في حَالِ حَيَاتِهِ أو عُلِمَ ذلك يَكُونُ ذلك أَمَانَةً في يد وصيه أو في يَدِ وَارِثِهِ كما كان في يَدِهِ وَيُصَدِّقُونَ على الْهَلَاكِ وَالدَّفْعِ إلَى صَاحِبِهِ كما يُصَدِّقُ الْمَيِّتُ في حَالِ حَيَاتِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
كِتَابُ الْهِبَةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في الْأَصْلِ في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِ الْهِبَةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْهِبَةِ
أَمَّا رُكْنُ الْهِبَةِ فَهُوَ الْإِيجَابُ من الْوَاهِبِ فَأَمَّا الْقَبُولُ من الْمَوْهُوبِ له فَلَيْسَ بِرُكْنٍ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا وهو قَوْلُ زُفَرَ وفي قَوْلٍ قال الْقَبْضُ أَيْضًا رُكْنٌ وَفَائِدَةُ هذا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَهَبُ هذا الشَّيْءِ لِفُلَانٍ فَوَهَبَهُ منه فلم يَقْبَلْ
أَنَّهُ يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَحْنَثُ ما لم يَقْبَلْ وفي قَوْلٍ ما لم يَقْبَلْ وَيَقْبِضْ وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ هذا الشَّيْءَ لِفُلَانٍ فَبَاعَهُ فلم يَقْبَلْ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا قال رَجُلٌ لِآخَرَ وَهَبْتُ هذا الشَّيْءَ مِنْكَ فلم يَقْبَلْ فقال الْمُقِرُّ له لَا بَلْ قَبِلْتُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ له وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لو قال بِعْتُ هذا الشَّيْءَ مِنْكَ فلم تُقْبَلْ فقال الْمُقَرُّ له لَا بَلْ قَبِلْتُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقَرِّ له
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْهِبَةَ تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ وَالتَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ وُجُودُهُ شَرْعًا بِاعْتِبَارِهِ وهو انْعِقَادُهُ في حَقِّ الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِيجَابِ فَلَا يَكُونُ نَفْسُ الْإِيجَابِ هِبَةً شَرْعًا لِهَذَا أَمْكَنَ الْإِيجَابُ بِدُونِ الْقَبُولِ تَبَعًا
كَذَا هذا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْهِبَةَ في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن مُجَرَّدِ إيجَابِ الْمَالِكِ من غَيْرِ شَرِيطَةِ الْقَبُولِ وَإِنَّمَا الْقَبُولُ وَالْقَبْضُ لِثُبُوتِ حُكْمِهَا لَا لِوُجُودِهَا في نَفْسِهَا فإذا أَوْجَبَ فَقَدْ أتى بِالْهِبَةِ فَتَرَتَّبَ عليها الْأَحْكَامُ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ وُقُوعَ التَّصَرُّفِ هِبَةٌ لَا يَقِفُ على الْقَبُولِ ما رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً مَحُوزَةً أَطْلَقَ اسْمَ الْهِبَةِ بِدُونِ الْقَبْضِ وَالْحِيَازَةِ
وَرُوِيَ أَنَّ الصَّعْبَ بن جَثَّامَةَ أَهْدَى إلَى النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِمَارَ وَحْشٍ وهو بِالْأَبْوَاءِ
وفي رِوَايَةٍ بِوَدَّانِ فَرَدَّهُ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وقال لَوْلَا أَنَّا حَرَامٌ وَإِلَّا لَقَبِلْنَا فَقَدْ أَطْلَقَ الرَّاوِي اسْمَ الْإِهْدَاءِ بِدُونِ الْقَبُولِ وَالْإِهْدَاءُ من أَلْفَاظِ الْهِبَةِ
وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي اللَّهُ عنه دَعَى سَيِّدَتَنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها في مَرَضِ مَوْتِهِ فقال لها إنِّي كنت نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا من مَالِي بِالْعَالِيَةِ وَإِنَّكَ لم تَكُونِي قَبَضْتِيهِ وَلَا حَرَزْتِيهِ وَإِنَّمَا هو الْيَوْمُ مَالُ الْوَارِثِ أَطْلَقَ الصِّدِّيقُ رضي اللَّهُ عنه اسْمَ النحل ( ( ( النحلى ) ) ) بِدُونِ الْقَبْضِ
والنحل ( ( ( والنحلى ) ) ) من أَلْفَاظِ الْهِبَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْهِبَةَ في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن نَفْسِ إيجَابِ الْمِلْكِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ مَعْنَى التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيُّ هو ما دَلَّ عليه اللَّفْظُ لُغَةً بِخِلَافِ الْبَيْعِ فإنه اسْمُ الْإِيجَابِ مع الْقَبُولِ فَلَا يُطْلَقُ اسْمُ الْبَيْعِ لُغَةً وَشَرِيعَةً على أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فما لم يُوجَدَا لَا يَتَّسِمُ التَّصَرُّفُ بِسِمَةِ الْبَيْعِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الْهِبَةِ هو اكْتِسَابُ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ بِإِظْهَارِ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ وَهَذَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْقَبُولِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ
وَكَذَا الْغَرَضُ من الْحَلِفِ هو مَنْعُ النَّفْسِ عن مُبَاشَرَةِ الْمَحْلُوفِ عليه وَذَلِكَ هو الْإِيجَابُ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْوَاهِبِ فَيَقْدِرُ على مَنْعِ نَفْسِهِ عنه
فَأَمَّا الْقَبُولُ وَالْقَبْضُ فَفِعْلُ الْمَوْهُوبِ له فَلَا يَكُونُ مَقْدُورَ الْوَاهِبِ وَالْمِلْكُ مَحْكُومٌ شَرْعِيٌّ ثَبَتَ جَبْرًا من اللَّهِ تَعَالَى شَاءَ الْعَبْدُ أو أَبَى فَلَا يُتَصَوَّرُ مَنْعَ النَّفْسِ عنه أَيْضًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فإنه وَإِنْ مَنَعَ نَفْسَهُ عن فِعْلِهِ وهو الْإِيجَابُ إلَّا أَنَّ الْإِيجَابَ هُنَاكَ لَا يَصِيرُ تَبَعًا بِدُونِ الْقَبُولِ فَشَرَطَ الْقَبُولَ لِيَصِيرَ تَبَعًا فَالْإِيجَابُ هو أَنْ يَقُولَ الْوَاهِبُ وَهَبْتُ هذا الشَّيْءَ لك أو مَلَّكْتُهُ مِنْكَ أو جَعَلْتُهُ لك أو هو لك أو أَعْطَيْتُهُ أو نَحَلْتُهُ أو أَهْدَيْتُهُ إلَيْكَ أو أَطْعَمْتُكَ هذا الطَّعَامَ أو حَمَلْتُكَ على هذه الدَّابَّةِ وَنَوَى بِهِ الْهِبَةَ
أَمَّا قَوْلُهُ وَهَبْتُ لك فَصَرِيحٌ في الْبَابِ
وَقَوْلُهُ مَلَّكْتُكَ يجري مَجْرَى الصَّرِيحِ أَيْضًا لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ لِلْحَالِ من
____________________

(6/115)


غَيْرِ عِوَضٍ هو تَفْسِيرُ الْهِبَةِ وَكَذَا قَوْلُهُ جَعَلْتُ هذا الشَّيْءَ لك
وَقَوْلُهُ هو لك لِأَنَّ اللَّامَ الْمُضَافَ إلَى من هو أَهْلٌ لِلْمِلْكِ لِلتَّمْلِيكِ فَكَانَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ في الْحَالِ من غَيْرِ عِوَضٍ وهو مَعْنَى الْهِبَةِ وَكَذَا قَوْلُهُ أَعْطَيْتُكَ لِأَنَّ الْعَطِيَّةَ الْمُضَافَةَ إلَى الْعَيْنِ في عُرْفِ الناس هو تَمْلِيكُهَا لِلْحَالِ من غَيْرِ عِوَضٍ وَهَذَا مَعْنَى الْهِبَةِ وَكَذَا يُسْتَعْمَلُ الْإِعْطَاءُ اسْتِعْمَالَ الْهِبَةِ يُقَالُ أَعْطَاكَ اللَّهُ كَذَا وَوَهَبَكَ بِمَعْنَى وَالنِّحْلَةُ هِيَ الْعَطِيَّةُ يُقَالُ فُلَانٌ نَحَلَ وَلَدَهُ نِحْلَى أَيْ أَعْطَاهُ عَطِيَّةً وَالْهِبَةُ بِمَعْنَى الْعَطِيَّةِ
وَقَوْلُهُ أَطْعَمْتُكَ هذا الطَّعَامَ في مَعْنَى أَعْطَيْتُكَ وَقَوْلُهُ حَمَلْتُكَ على هذه الدَّابَّةِ فإنه يَحْتَمِلُ الْهِبَةَ وَيَحْتَمِلُ الْعَارِيَّةَ فإنه رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي اللَّهُ عنهما حَمَلَ رَجُلًا على دَابَّةٍ ثُمَّ رَآهَا تُبَاعُ في السُّوقِ فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّه عن ذلك فقال لَا تَرْجِعْ في صَدَقَتِكَ فَاحْتَمَلَ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ وَاحْتَمَلَ تملك ( ( ( تمليك ) ) ) الْمَنَافِعِ فَلَا بُدَّ من النِّيَّةِ لِلتَّعْيِينِ
وَلَوْ قال مَنَحْتُكَ هذا الشَّيْءَ أو قال هذا الشَّيْءُ لك مِنْحَةً فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ ذلك الشَّيْءُ مِمَّا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ من غَيْرِ اسْتِهْلَاكٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهِ فَإِنْ كان مِمَّا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ من غَيْرِ اسْتِهْلَاكٍ كَالدَّارِ وَالثَّوْبِ وَالدَّابَّةِ وَالْأَرْضِ بِأَنْ قال هذه الدَّارُ لك مِنْحَةً أو هذاالثوب أو هذه الدَّابَّةُ أو هذه الْأَرْضُ فَهُوَ عَارِيَّةٌ لِأَنَّ الْمِنْحَةَ في الْأَصْلِ عِبَارَةٌ عن هِبَةِ الْمَنْفَعَةِ أو ما له حُكْمُ الْمَنْفَعَةِ وقد أُضِيفَ إلَى ما يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ من غَيْرِ اسْتِهْلَاكِهِ من السُّكْنَى وَاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ وَالزِّرَاعَةِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ زِرَاعَتُهَا فَكَانَ هذا تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ من غَيْرِ عِوَضٍ وهو تَفْسِيرُ الْإِعَارَةِ وَكَذَا إذَا قال لِأَرْضٍ بَيْضَاءَ هذه الْأَرْضُ لك طُعْمَةً كان عَارِيَّةً لِأَنَّ عَيْنَ الْأَرْضِ مِمَّا لَا يُطْعَمُ وَإِنَّمَا يُطْعَمُ ما يَخْرُجُ منها فَكَانَ طُعْمَةُ الْأَرْضِ زِرَاعَتَهَا فَكَانَ ذلك حِينَئِذٍ إعَارَةً وَلِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهَا إذَا لم يَكُنْ فيها زَرْعٌ وَإِنْ كان فيها زَرْعٌ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ له وِلَايَةُ الْقَلْعِ كَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وفي الِاسْتِحْسَان يُتْرَكُ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ وَسَنَذْكُرُ وَجْهَيْهَا في كِتَابِ الْعَارِيَّةِ وَلَوْ مَنَحَهُ شَاةً حَلُوبًا أو نَاقَةً حَلُوبًا أو بَقَرَةً حَلُوبًا وقال هذه الشَّاةُ لك مِنْحَةٌ أو هذه النَّاقَةُ أو هذه الْبَقَرَةُ كان عَارِيَّةً وَجَازَ له الِانْتِفَاعُ بِلَبَنِهَا لِأَنَّ اللَّبَنَ وَإِنْ كان عَيْنًا حَقِيقَةً فَهُوَ مَعْدُودٌ من الْمَنَافِعِ عُرْفًا وَعَادَةً فأعطي له حُكْمَ الْمَنْفَعَةِ كَأَنَّهُ أَبَاحَ له شُرْبَ اللَّبَنَ فَيَجُوزُ له الِانْتِفَاعُ بِلَبَنِهَا
وَكَذَلِكَ لو مَنَحَهُ جَدْيًا أو عَنَاقًا كان له عَارِيَّةً لِأَنَّ الْجَدْيَ بِعَرَضِ أَنْ يَصِيرَ فَحْلًا وَالْعَنَاقَ حَلُوبًا وَإِنْ عَنَى بِالْمِنْحَةِ الْهِبَةَ في هذه الْمَوَاضِعَ فَهُوَ على ما عَنَى لِأَنَّهُ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ على نَفْسِهِ وَإِنْ كان مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِالِاسْتِهْلَاكِ كَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بِأَنْ قال هذا الطَّعَامُ لك مِنْحَةٌ أو هذا اللَّبَنُ أو هذه الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ كان هِبَةً لِأَنَّ الْمِنْحَةَ الْمُضَافَةَ إلَى ما لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِالِاسْتِهْلَاكِ لَا يُمْكِنُ حَمْلَهَا على هِبَةِ الْمَنْفَعَةِ فَيُحْمَلُ على هِبَةِ الْعَيْنِ وَهِيَ تَمْلِيكُهَا وَتَمْلِيكُ الْعَيْنِ لِلْحَالِ من غَيْرِ عِوَضٍ هو تَغْيِيرُ الْهِبَةِ هذا إذَا كان الْإِيجَابُ مُطْلَقًا عن الْقَرِينَةِ فَأَمَّا إذَا كان مَقْرُونًا بِقَرِينَةٍ فَالْقَرِينَةُ لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كان وَقْتًا وَإِمَّا إنْ كان شَرْطًا وَإِمَّا إنْ كان مَنْفَعَةً فَإِنْ كان وَقْتًا بِأَنْ قال أَعْمَرْتُك هذه الدَّارَ أو صَرَّحَ فقال جَعَلْتُ هذه الدَّارَ لَك عمري أو قال جَعَلْتُهَا لَك عُمُرَكَ أو قال هِيَ لَك عُمُرَكَ أو حَيَاتَكَ فإذا مِتَّ أنت فَهِيَ رَدٌّ عَلَيَّ أو قال جَعَلْتُهَا لك عُمْرِي أو حَيَاتِي فإذا مِتَّ أنا فَهِيَ رَدٌّ على وَرَثَتِي فَهَذَا كُلُّهُ هِبَةٌ وَهِيَ لِلْمُعَمَّرِ له في حَيَاتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَالتَّوْقِيتُ بَاطِلٌ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ لَا تَعْمُرُوهَا فإن من أَعْمَرَ شيئا فإنه لِمَنْ أَعْمَرَهُ
وَرَوَى جَابِرُ بن عبد اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قال أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى له وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِلَّذِي يُعْطَاهَا لَا يَرْجِعُ إلَى الذي أَعْطَاهَا لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فيه الْمَوَارِيثُ
وَعَنْ جَابِرٍ قال قال رسول اللَّهِ من أُعْمِرَ عمري حَيَاتَهُ فَهِيَ له وَلِعَقِبِهِ يَرِثُهَا من يَرِثُهُ بَعْدَهُ فَدَلَّتْ هذه النُّصُوصُ على جَوَازِ الْهِبَةِ وَبُطْلَانِ التَّوْقِيتِ لِأَنَّ قَوْلَهُ جَعَلْتُ هذه الدَّارَ لك أو هِيَ لَك تَمْلِيكُ الْعَيْنِ لِلْحَالِ مُطْلَقًا
ثُمَّ قَوْلُهُ عمري تَوْقِيتُ التَّمْلِيكِ وَإِنَّهُ تَغْيِيرٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَكَذَا تَمْلِيكُ الْأَعْيَانِ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ نَصًّا كَالْبَيْعِ فَكَانَ التَّوْقِيتُ تَصَرُّفًا مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَالشَّرْعِ فَبَطَلَ وَبَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا
وَإِنْ كانت الْقَرِينَةُ شَرْطًا نَظَرَ إلَى الشَّرْطِ الْمَقْرُونِ فَإِنْ كان مِمَّا يَمْنَعُ وُقُوعَ التَّصَرُّفِ تَمْلِيكًا لِلْحَالِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْهِبَةِ وَإِلَّا فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَتَصِحُّ الْهِبَةُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قال أَرْقَبْتُكَ هذه الدَّارَ أو صَرَّحَ فقال =ج18.=

ج18. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة
587

جَعَلْتُ هذه الدَّارَ لك رقبي أو قال هذه الدَّارُ لك رقبي وَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَهِيَ عَارِيَّةٌ في يَدِهِ له أَنْ يَأْخُذَهَا منه مَتَى شَاءَ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وقال أبو يُوسُفَ هذا هِبَةٌ
وَقَوْلُهُ رُقْبَى بَاطِلٌ
احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَجَازَ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى وَلِأَنَّ قَوْلَهُ دَارِي لك تَمْلِيكُ الْعَيْنِ لَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَلَمَّا قال رُقْبَى فَقَدْ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ فَبَطَلَ الشَّرْطُ وَبَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا وَلِهَذَا لو قال دَارِي لك عُمْرَى أَنَّهُ تَصِحُّ الْهِبَةُ وَيَبْطُلُ شَرْطُ الْمُعَمَّرِ
كَذَا هذا وَاحْتَجَّا بِمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ عن شُرَيْحٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَجَازَ الْعُمْرَى وَأَبْطَلَ الرُّقْبَى وَمِثْلُهُمَا لَا يَكْذِبُ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ دَارِي لك رُقْبَى تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ لِأَنَّ مَعْنَى الرُّقْبَى أَنَّهُ يقول إنْ مِتَّ أنا قَبْلَكَ فَهِيَ لَك وَإِنْ مِتَّ أنت قَبْلِي فَهِيَ لي
سَمَّى الرُّقْبَى من الرُّقُوبِ وَالِارْتِقَابِ وَالتَّرَقُّبُ وهو الِانْتِظَارُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْتَظِرُ مَوْتَ صَاحِبِهِ قبل مَوْتِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَكَانَتْ الرُّقْبَى تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِأَمْرٍ له خَطَرُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَالتَّمْلِيكَاتُ مِمَّا لَا تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالْخَطَرِ فلم تَصِحَّ هِبَةً وَصَحَّتْ عَارِيَّةً لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ وَأَطْلَقَ له الِانْتِفَاعَ بِهِ وَهَذَا مَعْنَى الْعَارِيَّةِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعُمْرَى لِأَنَّ هُنَاكَ وَقَعَ التَّصَرُّفُ تَمْلِيكًا لِلْحَالِ فَهُوَ بِقَوْلِهِ عُمْرَى وَقْتَ التَّمْلِيكِ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ فيبطل ( ( ( فبطل ) ) ) وَبَقِيَ الْعَقْدُ على الصِّحَّةِ وَلَا حُجَّةَ له في الحديث لِأَنَّ الرُّقْبَى تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ من الْمُرَاقَبَةِ وَهِيَ الِانْتِظَارُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ من الأرقاب ( ( ( الرقاب ) ) ) وهو هِبَةُ الرَّقَبَةِ فَإِنْ أُرِيدَ بها الْأَوَّلُ كان حُجَّةً له وَإِنْ أُرِيدَ بها الثَّانِي لَا يَكُونُ حُجَّةً لِأَنَّ ذلك جَائِزٌ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ أو يُحْمَلُ على الثَّانِي تَوْفِيقًا بين الْحَدِيثَيْنِ صِيَانَةً لِكَلَامِ من يَسْتَحِيلُ عليه التَّنَاقُضُ عنه
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنْ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ في الْحَقِيقَة إنْ كان الرُّقْبَى والأرقاب مستعملان ( ( ( مستعملين ) ) ) في اللُّغَةِ في هِبَةِ الرَّقَبَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ فَإِنْ عَنَى بِهِ هِبَةَ الرَّقَبَةِ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ عَنَى بِهِ مُرَاقَبَةَ الْمَوْتِ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ
وَلَوْ قال لِرَجُلَيْنِ دَارِي لِأَطْوَلِكُمَا حَيَاةً فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَطْوَلُ حَيَاةً فَكَانَ هذا تَعْلِيقَ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ فَبَطَلَ وَلَوْ قال دَارِي لك حَبِيسٌ فَهَذَا عَارِيَّةٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ هو هِبَةٌ وَقَوْلُهُ حَبِيسٌ بَاطِلٌ بِمَنْزِلَةِ الرُّقْبَى
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ قَوْلَهُ دَارِي لك تَمْلِيكٌ وَقَوْلُهُ حَبِيسٌ نفي الْمِلْكَ فلم يَصِحَّ النَّفْيُ وَبَقِيَ التَّمْلِيكُ على حَالِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَهُ حَبِيسٌ خَرَجَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ لك فَصَارَ كَأَنَّهُ ابْتَدَأَ بِالْحَبِيسِ فقال دَارِي حَبِيسٌ لك وَلَوْ قال ذلك كان عَارِيَّةً بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هذا
وَلَوْ قال دَارِي رُقْبَى لك كان عَارِيَّةً إجْمَاعًا ذَكَرَهُ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ وَلَوْ وَهَبَ جَارِيَةً على أَنْ بيعها ( ( ( يبيعها ) ) ) أو على أَنْ يَتَّخِذَهَا أُمَّ وَلَدٍ أو على أَنْ يَبِيعَهَا لِفُلَانٍ أو على أَنْ يَرُدَّهَا عليه بَعْدَ شَهْرٍ جَازَتْ الْهِبَةُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ لِأَنَّ هذه الشُّرُوطَ مِمَّا لم تَمْنَعْ وُقُوعَ التَّصَرُّفِ تَمْلِيكًا لِلْحَالِ وَهِيَ شُرُوطٌ تُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَتَبْطُلُ وَيَبْقَى الْعَقْدُ على الصِّحَّةِ بِخِلَافِ شُرُوطِ الرُّقْبَى على ما بَيَّنَّا وَبِخِلَافِ الْبَيْع فإنه تُبْطِلُهُ هذه الشُّرُوطُ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَكُونَ قِرَانُ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ لِعَقْدٍ ما مُفَسِّرًا له لِأَنَّ ذِكْرَهُ في الْعَقْد لم يَصِحَّ فَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ وَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا إلَّا أَنَّ الْفَسَادَ في الْبَيْعِ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فيه وَلَا نَهْيَ في الْهِبَةِ فَيَبْقَى الْحُكْمُ فيه على الْأَصْلِ وَلِأَنَّ دَلَائِلَ شَرْعِيَّةِ الْهِبَةِ عَامَّةٌ مُطْلَقَةٌ من نَحْوِ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عن شَيْءٍ منه نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّرْغِيبِ في أَكْلِ الْمَهْرِ
وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَهَادَوْا تَحَابُّوا وَهَذَا نَدْبٌ إلَى التَّهَادِي وَالْهَدِيَّةُ هِبَةٌ
وَرَوَيْنَا عن الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لِسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها إنِّي كنت نَحَلْتُكِ كَذَا وَكَذَا وَعَنْ سَيِّدنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال من وَهَبَ هِبَةً لِصِلَةِ رَحِمٍ أو على وَجْهِ صَدَقَةٍ فإنه لَا يَرْجِعُ فيها وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً يَرَى أَنَّهُ أَرَادَ بها الثَّوَابَ فَهُوَ على هِبَتِهِ يَرْجِعُ فيها إنْ لم يَرْضَ عنها
وَنَحْوِهِ من الدَّلَائِلِ الْمُقْتَضِيَةِ لِشَرْعِيَّةِ الْهِبَةِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين ما قَرَنَ بها شرط ( ( ( شرطا ) ) ) فاسد ( ( ( فاسدا ) ) ) أو لم يَقْرِنْ
وَعَلَى هذا يَخْرُج ما إذَا وَهَبَ جَارِيَةً وَاسْتَثْنَى ما في بَطْنِهَا أو وَهَبَ حَيَوَانًا وَاسْتَثْنَى ما في بَطْنِهِ أَنَّ الْهِبَة جَائِزَةٌ في الْأُمِّ وَالْوَلَدِ جميعا وَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ وَالْكُلُّ لِلْمَوْهُوبِ له
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في الْعُقُودِ التي فيها اسْتِثْنَاءُ الْحَمْلِ أنها أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ قِسْمٌ منها يَبْطُلُ وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ جميعا وَقِسْمٌ منها يَصِحُّ وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ وَقِسْمٌ منها يَصِحُّ وَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالرَّهْنُ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِمَا في الْبَطْنِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ فَاسِدٍ وَهَذِهِ الْعُقُودُ تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عن دَمِ الْعَمْدِ لِأَنَّ هذه الْعُقُودَ
____________________

(6/117)


لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَدْخُلُ الْأُمُّ وَالْوَلَدُ جميعا في الْعَقْد لِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ وهو الِاسْتِثْنَاءُ فيها إذَا لم يصح ( ( ( يصلح ) ) ) الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لم يَسْتَثْنِ وَكَذَا الْعِتْقُ بِأَنْ أَعْتَقَ جَارِيَةً وَاسْتَثْنَى ما في بَطْنِهَا أَنَّهُ يَصِحُّ الْعِتْقُ وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ حتى يَعْتِقَ الْأُمَّ وَالْوَلَدَ جميعا لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَالْوَصِيَّةُ بِأَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِجَارِيَةٍ وَاسْتَثْنَى ما في بَطْنِهَا لِأَنَّهُ لَمَا جَعَلَ الْجَارِيَةَ وَصِيَّةً له وَاسْتَثْنَى ما في بَطْنِهَا فَقَدْ أَبْقَى ما في بَطْنِهَا مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ وَالْمِيرَاثُ يجري فِيمَا في الْبَطْنِ وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا أَوْصَى بِجَارِيَةٍ لِرَجُلٍ وَاسْتَثْنَى خِدْمَتَهَا وَغَلَّتَهَا لِوَرَثَتِهِ أَنَّهُ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّ الْغَلَّةَ وَالْخِدْمَةَ لَا يجري فِيهِمَا الْمِيرَاثُ بِانْفِرَادِهِمَا بِدُونِ الْأَصْلِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو أَوْصَى بِخِدْمَتِهَا وَغَلَّتِهَا لِإِنْسَانٍ وَمَاتَ الْمُوصِي ثُمَّ مَاتَ الْمُوصَى له بَعْدَ الْقَبُولِ لَا تَصِيرُ الْغَلَّةُ وَالْخِدْمَةُ مِيرَاثًا لِوَرَثَةِ الْمُوصَى له بَلْ تَعُودُ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي وَبِمِثْلِهِ لو أَوْصَى بِمَا في بَطْنِ جَارِيَتِهِ لِإِنْسَانٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فإن الْوَلَدَ يَصِيرُ مِيرَاثًا لِوَرَثَةِ الْمُوصَى له وما افْتَرَقَا إلَّا لِمَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَإِنْ كانت الْقَرِينَةُ مَنْفَعَةً بِأَنْ قال دَارِي لَك سُكْنَى أو عُمْرَى سُكْنَى أو صَدَقَةً سُكْنَى أو هِبَةً سُكْنَى أو سُكْنَى هِبَةً أو هِيَ لك عُمْرَى عَارِيَّةً وَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَهَذَا كُلُّهُ عَارِيَّةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ السُّكْنَى في قَوْلِهِ دَارِي لك سُكْنَى أو عمري سُكْنَى أو صَدَقَةً سُكْنَى دَلَّ على أَنَّهُ أَرَادَ تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ لِأَنَّ قَوْلَهُ هذا لك ظاهرة وَإِنْ كان لتملك ( ( ( لتمليك ) ) ) الْعَيْنِ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ مَنْفَعَةٌ عُرْفًا وَشَرْعًا
وَقَوْلُهُ سُكْنَى مَوْضُوعٌ لِلْمَنْفَعَةِ لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا لها فَكَانَ مُحْكَمًا فَجُعِلَ تَفْسِيرًا لِلْمُحْتَمِلِ وَبَيَانًا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ وَتَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ هو تَفْسِيرُ الْعَارِيَّةِ وَكَذَا قَوْلُهُ سُكْنَى بَعْدَ ذِكْرِ الْهِبَةِ يَكُونُ تَفْسِيرًا لِلْهِبَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ هِبَةٌ يَحْتَمِلُ هِبَةَ الْعَيْنِ وَيَحْتَمِلُ هِبَةَ الْمَنَافِعِ فإذا قال سُكْنَى فَقَدْ عَيَّنَ هِبَةَ الْمَنَافِعِ فَكَانَ بَيَانًا لِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ أَنَّهُ أَرَادَ هِبَةَ الْمَنَافِعِ وَهِبَةُ الْمَنْفَعَةِ تَمْلِيكُهَا من غَيْرِ عِوَضٍ وهو مَعْنَى الْعَارِيَّةِ
وإذا قال سُكْنَى هِبَةً فَمَعْنَاهَا أَنَّ سُكْنَى الدَّارِ هِبَةٌ لك فَكَانَ هِبَةُ الْمَنْفَعَةِ وهو تَفْسِيرُ الْعَارِيَّةِ
وَلَوْ قال هِيَ لك عمري تَسْكُنُهَا أو هِبَةً تَسْكُنُهَا أو صَدَقَةً تَسْكُنُهَا وَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَهُوَ هِبَةٌ لِأَنَّهُ ما فَسَّرَ الْهِبَةَ بِالسُّكْنَى لِأَنَّهُ لم يَجْعَلْهُ نَعْتًا فَيَكُونُ بَيَانًا لِلْمُحْتَمِلِ بَلْ وَهَبَ الدَّارَ منه ثُمَّ شَاوَرَهُ فِيمَا يَعْمَلُ بِمِلْكِهِ وَالْمَشُورَةُ في مِلْكِ الْغَيْرِ بَاطِلَةٌ فَتَعَلَّقَتْ الْهِبَةُ بِالْعَيْنِ
وَقَوْلُهُ تَسْكُنُهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لِتَسْكُنَهَا كما إذَا قال وَهَبْتُهَا لك لِتُؤَاجِرَهَا وَلَوْ قال هِيَ لك تَسْكُنُهَا كانت هِبَةً أَيْضًا لِأَنَّ الْإِضَافَةَ بِحَرْفِ اللَّامِ إلَى من هو أَهْلُ الْمِلْكِ لِلتَّمْلِيكِ وَقَوْلُهُ تَسْكُنُهَا مَشُورَةٌ على ما بَيَّنَّا
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْوَاهِبِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْهُوبِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْهُوبِ له
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مُعَلَّقًا بِمَا له خَطَرُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ من دُخُول زَيْدٍ وَقُدُومِ خَالِدٍ وَالرُّقْبَى وَنَحْوِ ذلك وَلَا مُضَافًا إلَى وَقْتٍ بِأَنْ يَقُولَ وَهَبْتُ هذا الشَّيْءَ مِنْكَ غَدًا أو رَأْسَ شَهْرِ كَذَا لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ لِلْحَالِ وإنه لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالْخَطَرِ وَالْإِضَافَةُ إلَى الْوَقْتِ كَالْبَيْعِ
وَأَمَّا ما يَرْجِعُ إلَى الْوَاهِبِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ لأن الْهِبَةَ تَبَرُّعٌ فَلَا يَمْلِكُهَا من لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ التَّبَرُّعَ لِكَوْنِهِ ضَرَرًا مَحْضًا لَا يُقَابِلُهُ نَفْعٌ دُنْيَوِيٌّ فَلَا يَمْلِكُهَا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ
وَكَذَا الْأَبُ لَا يَمْلِكُ هِبَةَ مَالِ الصَّغِيرِ من غَيْرِ شَرْطِ الْعِوَضِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الْمُتَبَرِّعَ بِمَالِ الصَّغِيرِ قُرْبَانِ مَالِهِ لَا على وَجْهِ الْأَحْسَنِ وَلِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ نفه ( ( ( نفع ) ) ) دُنْيَوِيٌّ وقد قال اللَّهُ تعالى عز شَأْنَهُ { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وَلِأَنَّهُ إذَا لم يُقَابِلْهُ عِوَضٌ دُنْيَوِيٌّ كان التَّبَرُّعُ ضَرَرًا مَحْضًا وَتَرَكَ الْمَرْحَمَةِ في حَقِّ الصَّغِيرِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا ضَرَرَ وَلَا إضرار ( ( ( ضرار ) ) ) في الْإِسْلَامِ وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من لَا يَرْحَمُ صَغِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا وَلِهَذَا لم يَمْلِكْ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ وَإِعْتَاقَ عَبْدِهِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ
وَإِنْ شَرَطَ الْأَبُ الْعِوَضَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ وَعَلَى هذا هِبَةُ الْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا سَوَاءٌ كان بِعِوَضٍ أو بِغَيْرِ عِوَضٍ وَعِنْدَهُ يَجُوزُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ
وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ كُلَّ من لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ لَا بِعِوَضٍ وَلَا بِغَيْرِ عِوَضٍ
وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ كُلَّ من يَمْلِكُ الْبَيْعَ يَمْلِكُ الْهِبَةَ بِعِوَضٍ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ فإذا شَرَطَ فيها الْعِوَضَ كانت تَمْلِيكًا بِعِوَضٍ وَهَذَا
____________________

(6/118)


تَفْسِيرُ الْبَيْعِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَةُ وَلَا عِبْرَةَ بِاخْتِلَافِهَا بَعْدَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى كَلَفْظِ الْبَيْعِ مع لَفْظَةِ التَّمْلِيكِ
وَلَهُمَا أَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ تَقَعُ تَبَرُّعًا ابْتِدَاءً ثُمَّ تَصِيرُ بَيْعًا في الِانْتِهَاءِ بِدَلِيلِ أنها تُفِيدُ الْمِلْكَ قبل الْقَبْضِ وَلَوْ وَقَعَتْ بَيْعًا من حِينِ وُجُودِهَا لَمَا تَوَقَّفَ الْمِلْكُ فيه على الْقَبْضِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُفِيدَ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ دَلَّ أنها وَقَعَتْ تَبَرُّعًا ابْتِدَاءً وَهَؤُلَاءِ لَا يَمْلِكُونَ التَّبَرُّعَ فلم تَصِحَّ الْهِبَةُ حين وُجُودِهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَصِيرَ بَيْعًا بَعْدَ ذلك
وَأَمَّا ما يَرْجِعُ إلَى الْمَوْهُوبِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْهِبَةِ فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ ما ليس بِمَوْجُودٍ وَقْتَ الْعَقْدِ بِأَنْ وَهَبَ ما يُثْمِرُ نخلة الْعَامَ وما تَلِدُ أَغْنَامُهُ السَّنَةَ وَنَحْوِ ذلك بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ لِلْحَالِ وَتَمْلِيكُ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ وَالْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِضَافَةُ لَا تَمْنَعُ جَوَازَهَا
وَكَذَلِكَ لو وَهَبَ ما في بَطْنِ هذه الْجَارِيَةِ أو ما في بَطْنِ هذه الشَّاةِ أو ما في ضَرْعِهَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ سَلَّطَهُ على الْقَبْضِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَالْحَلْبِ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ لِلْحَالِ لِاحْتِمَالِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ لِأَنَّ انْتِفَاخَ الْبَطْنِ قد يَكُونُ لِلْحَمْلِ وقد يَكُونُ لِدَاءٍ في الْبَطْنِ وَغَيْرِهِ وَكَذَا انْتِفَاخُ الضَّرْعِ قد يَكُونُ بِاللَّبَنِ وقد يَكُونُ بِغَيْرِهِ فَكَانَ له خَطَرُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَلَا سَبِيلَ لِتَصْحِيحِهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى ما بَعْدَ زَمَانِ الْحُدُوثِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ بِالْهِبَةِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ فَبَطَلَ وَلِهَذَا لايجوز بَيْعُهُ بِخِلَافِ ما إذَا وَهَبَ الدَّيْنَ من غَيْرِ من عليه الدَّيْنُ وَسَلَّطَهُ على الْقَبْضِ أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ لِلْحَالِ لِكَوْنِ الْمَوْهُوبِ مَوْجُودًا مَمْلُوكًا لِلْحَالِ مَقْدُورَ الْقَبْضِ بِطَرِيقِهِ على ما سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَكَذَلِكَ لو وَهَبَ زيدا ( ( ( زبدا ) ) ) في لَبَنٍ أو دُهْنًا في سِمْسِمٍ أو دَقِيقًا في حِنْطَةٍ لَا يَجُوزُ وَإِنْ سَلَّطَهُ على قَبْضِهِ عِنْد حُدُوثِهِ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ لِلْحَالِ فلم يُوجَدْ مَحَلُّ حُكْمِ الْعَقْدِ لِلْحَالِ فلم يَنْعَقِدْ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِضَافَةِ إلَى وَقْتِ الْحُدُوثِ فَبَطَلَ أَصْلًا بِخِلَافِ ما إذَا وَهَبَ صُوفًا على ظَهْرِ الْغَنَمِ وَجَزَّهُ وَسَلَّمَهُ أَنَّهُ يَجُوز لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مَوْجُودٌ مَمْلُوكٌ لِلْحَالِ إلَّا أَنَّهُ لم يَنْفُذْ لِلْحَالِ لِمَانِعٍ وهو كَوْنُ الْمَوْهُوبِ مَشْغُولًا بِمَا ليس بِمَوْهُوبٍ فإذا جَزَّهُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ لِزَوَالِ الشُّغْلِ فَيَنْفُذُ عِنْدَ وُجُودِ الْقَبْضِ كما لو وَهَبَ شِقْصًا مُشَاعًا ثُمَّ قَسَّمَهُ وَسَلَّمَهُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ ما ليس بِمَالٍ أَصْلًا كَالْحُرِّ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَصَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ وَالْخِنْزِيرِ وَغَيْرِ ذلك على ما ذَكَرْنَا في الْبُيُوعِ وَلَا هِبَةُ ما ليس بِمَالٍ مُطْلَقٍ كَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ وَالْمُكَاتَبِ لِكَوْنِهِمْ أَحْرَارًا من وَجْهٍ وَلِهَذَا لم يَجُزْ بَيْعُ هَؤُلَاءِ وَلَا هِبَةُ ما ليس بِمُتَقَوِّمٍ كَالْخَمْرِ وَلِهَذَا لم يَجُزْ بَيْعُهَا
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا في نَفْسِهِ فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ الْمُبَاحَاتِ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ وَتَمْلِيكُ ما ليس بِمَمْلُوكٍ مُحَالٌ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْوَاهِبِ فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِاسْتِحَالَةِ تَمْلِيكِ ما ليس بِمَمْلُوكٍ وَإِنْ شِئْتَ رَدَدْتَ هذا الشَّرْطَ إلَى الْوَاهِبِ وَكُلُّ ذلك صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمَالِكَ وَالْمَمْلُوكَ من الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ وَالْعَلَقَةُ التي تَدُورُ عليها الْإِضَافَةُ هِيَ الْمِلْكُ فَيَجُوزُ رَدُّ هذا الشَّرْطِ إلَى الْمَوْهُوبِ وَيَجُوزُ رَدُّهُ إلَى الْوَاهِبِ في صِنَاعَةِ التَّرْتِيبِ فَافْهَمْ وَسَوَاءٌ كان الْمَمْلُوكُ عَيْنًا أو دَيْنًا فَتَجُوزُ هِبَةُ الدَّيْنِ لِمَنْ عليه الدَّيْنُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا
وَأَمَّا هِبَةُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ من عليه الدَّيْنُ فَجَائِزٌ أَيْضًا إذَا أَذِنَ له بِالْقَبْضِ وَقَبَضَهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَإِنْ أَذِنَ له بِالْقَبْضِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ جَوَازِ الْهِبَةِ وما في الذِّمَّةِ لَا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ بِخِلَافِ ما إذَا وَهَبَ لِمَنْ عليه لِأَنَّ الدَّيْنَ في ذِمَّتِهِ وَذِمَّتُهُ في قَبْضِهِ فَكَانَ الدَّيْنُ في قَبْضِهِ بِوَاسِطَةِ قَبْضِ الذِّمَّةِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ ما في الذِّمَّةِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَدْيُونَ يُجْبَرُ على تَسْلِيمِهِ إلَّا أَنَّ قَبْضَهُ بِقَبْضِ الْعَيْنِ فإذا قَبَضَ الْعَيْنَ قام قَبْضُهَا مَقَامَ قَبْضِ عَيْنِ ما في الذِّمَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ من الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ صَرِيحًا وَلَا يكتفي فيه بِالْقَبْضِ بِحَضْرَةِ الْوَاهِبِ بِخِلَافِ هِبَةِ الْعَيْنِ لِمَا نَذْكُرهُ في مَوْضِعِهِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَحُوزًا فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقَسَّمُ وَتَجُوزُ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ كَالْعَبْدِ وَالْحَمَّامِ وَالدِّنِّ وَنَحْوِهَا وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس بِشَرْطٍ وَتَجُوزُ هِبَة الْمُشَاعِ فِيمَا يُقَسَّمُ وَفِيمَا لَا يُقَسَّمُ عِنْدَهُ وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عز وجل { فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ } أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نِصْفَ الْمَفْرُوضِ في الطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ إلَّا أَنْ يُوجَدَ الْحَطُّ من الزَّوْجَاتِ عن النِّصْفِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ وَالْمُشَاعِ وَالْمَقْسُومِ فَيَدُلُّ على جَوَازِ هِبَةِ الْمُشَاعِ في الْجُمْلَةِ
وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَنَّهُ لَمَّا شَدَّدَ في الْغُلُولِ في الْغَنِيمَةِ في بَعْضِ الْغَزَوَاتِ فَقَامَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى سَنَامِ بَعِيرٍ وَأَخَذَ منه
____________________

(6/119)


وَبَرَةً ثُمَّ قال أَمَا إنِّي لَا يَحِلُّ لي من غَنِيمَتِكُمْ وَلَوْ بِمِثْلِ هذه الْوَبَرَةِ إلَّا الْخُمُسَ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ رُدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ فإن الْغُلُولَ عَارٌ وَشَنَارٌ على صَاحِبِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ بِكُبَّةٍ من شَعْرٍ فقال أَخَذْتُهَا لِأُصْلِحَ بها بَرْدَعَةَ بَعِيرِي يا رَسُولَ اللَّهِ فقال أَمَّا نَصِيبِي فَهُوَ لك وَسَأُسَلِّمُكَ الْبَاقِيَ وَهَذَا هِبَةُ الْمَشَاعِ فِيمَا يُقَسَّمُ وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَزَلَ على أبي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رضي اللَّهُ عنه فَنَظَرَ إلَى مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ فَوَجَدَهُ بين أَسْعَدَ بن زُرَارَةَ وَبَيْنَ رَجُلَيْنِ من قَوْمِهِ فَاسْتَبَاعَ أَسْعَدُ نَصِيبَهُمَا لِيَهَبَ الْكُلَّ من رسول اللَّهِ فَأَبَيَا ذلك فَوَهَبَ أَسْعَدُ نَصِيبَهُ من النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَوَهَبَا أَيْضًا نَصِيبَهُمَا من رسول اللَّهِ فَقَدْ قَبِلَ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْهِبَةَ في نَصِيبِ أَسْعَدَ وَقَبِلَ في نَصِيبِ الرَّجُلَيْنِ أَيْضًا وَلَوْ لم يَكُنْ جَائِزًا لَمَا قَبِلَ لِأَنَّ أَدْنَى حَالِ فِعْلِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجَوَازُ وَلِأَنَّ الشِّيَاعَ لَا يَمْنَعُ حُكْمَ هذا التَّصَرُّفِ وَلَا شَرْطَهُ لِأَنَّ حُكْمَ الْهِبَةِ الْمِلْكُ وَالشِّيَاعُ لَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشَاعِ وَكَذَا هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ وَشَرْطُهُ هو الْقَبْضُ وَالشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ الْقَبْضَ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ قَابِضًا لِلنِّصْفِ الْمُشَاعِ بِتَخْلِيَةِ الْكُلِّ وَلِهَذَا جَازَتْ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ وَإِنْ كان الْقَبْضُ فيها شَرْطًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ
كَذَا هذا
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه قال في مَرَضِ مَوْتِهِ لِسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها إنَّ أَحَبَّ الناس إلَيَّ غِنًى أَنْتِ وَأَعَزَّهُمْ عَلَيَّ فَقْرًا أَنْتِ وَإِنِّي كنت نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا من مَالِي بِالْعَالِيَةِ وَإِنَّكِ لم تَكُونِي قَبَضْتِيهِ وَلَا جَذَيْتِيهِ وَإِنَّمَا هو الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ
اعْتَبَرَ سَيِّدُنَا الصِّدِّيقُ رضي اللَّهُ عنه الْقَبْضَ وَالْقِيمَةَ في الْهِبَةِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْحِيَازَةَ في اللُّغَةِ جَمْعُ الشَّيْءِ الْمُفَرَّقِ في حَيِّزٍ وَهَذَا مَعْنَى الْقِسْمَةِ لِأَنَّ الْأَنْصِبَاءَ الشَّائِعَةَ قبل الْقِسْمَةِ كانت مُتَفَرِّقَةً وَالْقِسْمَةُ تَجْمَعُ كُلَّ نَصِيبٍ في حَيِّزٍ
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه قال ما بَالُ أَحَدِكُمْ يَنْحَلُ وَلَدَهُ نُحْلًا لَا يَحُوزُهَا وَلَا يَقْسِمُهَا وَيَقُولُ إنْ مِتُّ فَهُوَ له وَإِنْ مَاتَ رَجَعَتْ إلَيَّ وَأَيْمُ اللَّهِ لَا يَنْحَلُ أحدكم وَلَدَهُ نُحْلَى لَا يجوزها ( ( ( يحوزها ) ) ) وَلَا يَقْسِمُهَا فَيَمُوتُ إلَّا جَعَلْتُهَا مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ وَالْمُرَادُ من الْحِيَازَةِ الْقَبْضُ هُنَا لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا بِمُقَابَلَةِ الْقِسْمَةِ حتى لَا يُؤَدِّيَ إلَى التَّكْرَارِ أَخْرَجَ الْهِبَةَ من أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِلْمِلْكِ بِدُونِ الْقَبْضِ وَالْقِسْمَةِ
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال من وَهَبَ ثُلُثَ كَذَا أو رُبْعَ كَذَا لَا يَجُوزُ ما لم يُقَاسِمْ وَكُلُّ ذلك بِمَحْضَرٍ من أَصْحَابِ رسول اللَّهِ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليهم مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا
وَلِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ جَوَازِ هذا الْعَقْدِ وَالشُّيُوعُ يَمْنَعُ من الْقَبْضِ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَبْضِ هو التَّمَكُّنُ من التَّصَرُّفِ في الْمَقْبُوضِ وَالتَّصَرُّفُ في النِّصْفِ الشَّائِعِ وَحْدَهُ لَا يُتَصَوَّرُ فإن سُكْنَى نِصْفَ الدَّارِ شَائِعًا وَلُبْسَ نِصْفِ الثَّوْبِ شَائِعًا مُحَالٌ وَلَا يَتَمَكَّنُ من التَّصَرُّفِ فيه بِالتَّصَرُّفِ في الْكُلِّ لِأَنَّ الْعَقْدَ لم يَتَنَاوَلْ الْكُلَّ
وَهَكَذَا نَقُولُ في الْمُشَاعِ الذي لَا يُقَسَّمُ أَنَّ مَعْنَى الْقَبْضِ هُنَاكَ لم يُوجَدْ لِمَا قُلْنَا إلَّا أَنَّ هُنَاكَ ضَرُورَةٌ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى هِبَةِ بَعْضِهِ وَلَا حُكْمَ لِلْهِبَةِ بِدُونِ الْقَبْضِ وَالشِّيَاعُ مَانِعٌ من الْقَبْضِ الْمُمَكِّنِ لِلتَّصَرُّفِ وَلَا سَبِيلَ إلَى إزَالَةِ الْمَانِعِ بِالْقِسْمَةِ لِعَدَمِ احْتِمَالِ الْقِسْمَةِ فَمَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْجَوَازِ وَإِقَامَةِ صُورَةِ التَّخْلِيَةِ مَقَامَ الْقَبْضِ الْمُمَكِّنِ من التَّصَرُّفِ وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا لِأَنَّ الْمَحَلَّ مُحْتَمِلٌ لِلْقِسْمَةِ فَيُمْكِنُ إزَالَةَ الْمَانِعِ من الْقَبْض الْمُمَكِّنِ بِالْقِسْمَةِ
أو نَقُولَ الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ شَرَطُوا الْقَبْضَ الْمُطْلَقَ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَقَبْضُ الْمُشَاعِ قَبْضٌ قَاصِرٌ لِوُجُودِهِ من حَيْثُ الصُّورَةِ دُونَ الْمَعْنَى على ما بَيَّنَّا إلَّا أَنَّهُ اكتفي بِالصُّورَةِ في الْمُشَاع الذي لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لِلضَّرُورَةِ التي ذَكَرْنَا وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا فَلَزِمَ اعْتِبَارُ الْكَمَالِ في الْقَبْضِ وَلَا يُوجَدُ في الْمُشَاعِ وَلِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَوْ صَحَّتْ في مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَصَارَ عَقْدُ ضَمَانٍ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ له يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ الْوَاهِبِ بِالْقِسْمَةِ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْقِسْمَةِ فَيُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ الْمَشْرُوعِ وَلِهَذَا تَوَقَّفَ الْمِلْكُ في الْهِبَةِ على الْقَبْضِ لِمَا أَنَّهُ لو مَلَكَهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَثَبَتَتْ له وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّسْلِيمِ فَيُؤَدِّي إلَى إيجَابِ الضَّمَانِ في عَقْدِ التَّبَرُّعِ وَفِيهِ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ كذا هذا بِخِلَافِ مُشَاعٍ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُتَصَوَّرُ إيجَابُ الضَّمَانِ على الْمُتَبَرِّعِ لِأَنَّ الضَّمَانَ ضَمَانُ الْقِسْمَةِ وَالْمَحِلُّ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا حُجَّةَ له فيها لِأَنَّ الْمُرَادَ من الْمَفْرُوضِ الدَّيْنُ لَا الْعَيْنِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قال { إلَّا أَنْ يَعْفُونَ } وَالْعَفْوُ إسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ الْأَعْيَانِ لَا يُعْقَلُ وَكَذَا الْغَالِبُ في الْمَهْرِ أَنْ يَكُونَ
____________________

(6/120)


دَيْنًا وَهِبَةُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عليه الدَّيْنُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الدَّيْنِ عنه وإنه جَائِزٌ في الْمُشَاعِ
وَأَمَّا حَدِيثُ الْكُبَّةِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ النبي وَهَبَ نَصِيبَهُ منه وَاسْتَوْهَبَ الْبَقِيَّةَ من أَصْحَابِ الْحُقُوقِ فَوَهَبُوا وَسَلَّمُوا الْكُلَّ جُمْلَةً وفي الحديث ما يَدُلُّ عليه فإنه قال قال رسول اللَّهِ وَسَأُسَلِّمُكَ الْبَاقِي وما كان هو عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِيَخْلِفَ في وَعْدِهِ وَهِبَةُ الْمُشَاعِ على هذا السَّبِيلِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا على أَنَّ ذلك كان هِبَةٍ مُشَاعٍ لَا يَنْقَسِمُ من حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ كُبَّةً وَاحِدَةً لو قُسِمَتْ على الْجَمِّ الْغَفِيرِ لَا يُصِيبُ كُلًّا منهم إلَّا نَزْرٌ حَقِيرٌ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فَكَانَ في مَعْنَى مُشَاعٍ لَا يَنْقَسِمُ
وَأَمَّا حَدِيثُ أَسْعَدَ بن زُرَارَةَ فَحِكَايَةُ حَالٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَهَبَ نَصِيبَهُ وَشَرِيكَاهُ وَهَبَا نَصِيبَهُمَا منه وَسَلَّمُوا الْكُلَّ جُمْلَةً وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْأَنْصِبَاءَ كانت مَقْسُومَةً مُفْرَزَةً وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ في مِثْلِ هذا بَيْنَهُمْ إذَا كانت الْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةً بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَقَرْيَةٍ بين جَمَاعَةٍ أنها تُضَافُ إلَيْهِمْ وَإِنْ كانت أَنْصِبَاؤُهُمْ مَقْسُومَةً وَاحْتَمَلَ بِخِلَافِهِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ لِأَنَّ حِكَايَةَ الْحَالِ لَا عُمُومَ له
وَلَوْ قَسَمَ ما وَهَبَ وَأَفْرَزَهُ ثُمَّ سَلَّمَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ له جَازَ لِأَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ عِنْدَنَا مُنْعَقِدٌ مَوْقُوفٌ نَفَاذُهُ على الْقِسْمَةِ وَالْقَبْضُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ هو الصَّحِيحُ إذْ الشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ رُكْنَ الْعَقْدِ وَلَا حُكْمَهُ وهو الْمِلْكُ وَلَا سَائِرِ الشَّرَائِطِ إلَّا الْقَبْضُ الْمُمَكَّنُ من التَّصَرُّفِ فإذا قَسَمَ وَقَبَضَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ من النَّفَاذِ فَيَنْفُذُ وَحَدِيثُ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه لَا يَدُلُّ عليه فإنه قال لَسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها إنِّي كنت نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا من مَالِي وكان ذلك هِبَةَ الْمُشَاعِ فِيمَا يَنْقَسِمُ لِأَنَّ النَّحْلَ من أَلْفَاظِ الْهِبَةِ وَلَوْ لم يَنْعَقِدْ لَمَا فَعَلَهُ الصِّدِّيقُ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّهُ ما كان لِيَعْقِدَ عَقْدًا بَاطِلًا فَدَلَّ قَوْلُ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه على انْعِقَادِ الْعَقْدِ في نَفْسِهِ وَتَوَقُّفِ حُكْمِهِ على الْقِسْمَةِ وَالْقَبْضِ وهو عَيْنُ مَذْهَبِنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ لو وَهَبَ نِصْفَ دَارِهِ من رَجُلٍ ولم يُسَلِّمْ إلَيْهِ ثُمَّ وَهَبَ منه النِّصْفَ الْآخَرَ وسلم إلَيْهِ جُمْلَةً جَازَ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ وَهَبَ منه نِصْفَ الدَّارِ وسلم إلَيْهِ بتخلية ( ( ( بنحلة ) ) ) الْكُلِّ ثُمَّ وَهَبَ منه النِّصْفَ الْآخَرَ وسلم لم تَجُزْ الْهِبَةُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هِبَةُ الْمُشَاعِ وَهِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقْسَمُ لَا تَنْفُذُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ وَالتَّسْلِيمِ وَيَسْتَوِي فيه الْجَوَابُ في هِبَةِ الْمُشَاعِ بين أَنْ يَكُونَ من أَجْنَبِيٍّ أو شركة شَرِيكِهِ كُلُّ ذلك يَجُوزُ لِقَوْلِ جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً مَحُوزَةً من غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّ الْمَانِعَ هو الشِّيَاعُ عِنْدَ الْقَبْضِ وقد وُجِدَ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ صَدَقَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يَنْقَسِمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الشِّيَاعَ لَا يَمْنَعُ حُكْمَ التَّصَرُّفِ وهو الْمِلْكُ وَلَا شَرْطَهُ وهو الْقَبْضُ وَلَا يَمْنَعُ جَوَازَهُ كَالْمَفْرُوضِ
وَلَنَا أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ جَوَازِ الصَّدَقَةِ وَمَعْنَى الْقَبْضِ لَا يَتَحَقَّقُ في الشَّائِعِ أو لَا يَتَكَامَلُ فيه لِمَا بَيَّنَّا في الْهِبَةِ
وَلِأَنَّ التَّصَدُّقَ تَبَرُّعٌ كَالْهِبَةِ وَتَصْحِيحُهُ في الْمُشَاعِ يُصَيِّرُهَا عَقْدَ ضَمَانٍ فَيَتَغَيَّرُ الْمَشْرُوعُ على ما بينا ( ( ( ينافي ) ) ) في الْهِبَةَ
وَلَوْ وَهَبَ شيئا يَنْقَسِمُ من رَجُلَيْنِ كَالدَّارِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَنَحْوِهَا وَقَبَضَاهُ لم يَجُزْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَجَازَ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لو وَهَبَ رَجُلَانِ من وَاحِدٍ شيئا يَنْقَسِمُ وَقَبَضَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ الشُّيُوعَ عِنْدَ الْقَبْضِ وَهُمَا يَعْتَبِرَانِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ جميعا فلم يُجَوِّزُ أبو حَنِيفَةَ هِبَةَ الْوَاحِدِ من اثْنَيْنِ لِوُجُودِ الشِّيَاعِ وَقْتَ الْقَبْضِ وَهُمَا جوازها ( ( ( جوزاها ) ) ) لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ الشِّيَاعُ في الْحَالَيْنِ بَلْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ وَجَوَّزُوا هِبَةَ الِاثْنَيْنِ من وَاحِدٍ
أَمَّا أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِعَدَمِ الشُّيُوعِ في وَقْتِ الْقَبْضِ وَأَمَّا هُمَا فَلِانْعِدَامِهِ في الْحَالَيْنِ لِأَنَّهُ وُجِدَ عِنْدَ الْعَقْدِ ولم يُوجَدْ عِنْدَ الْقَبْضِ
وَمَدَارُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ على حَرْفٍ وهو أَنَّ هِبَةَ الدَّارِ من رَجُلَيْنِ تَمْلِيكُ كل الدَّارِ جُمْلَةً أو تَمْلِيكٌ من أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفُ من الْآخَرِ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ تَمْلِيكُ النِّصْفِ من أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفِ من الْآخَرِ فَيَكُونُ هِبَةَ الْمُشَاعِ فِيمَا يَنْقَسِمُ كَأَنَّهُ أَفْرَدَ تَمْلِيكَ كل نِصْفٍ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ على حِدَةٍ وَعِنْدَهُمَا هِيَ تَمْلِيكُ الْكُلِّ مِنْهُمَا لا تَمْلِيكَ النِّصْفِ من هذا وَالنِّصْفِ من ذلك فَلَا يَكُونُ تَمْلِيكَ الشَّائِعِ فَيَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَمَلَ بِمُوجَبِ الصِّيغَةِ هو الْأَصْلُ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا لِأَنَّ قَوْلَهُ وَهَبْتُ هذه الدَّارَ كُلَّهَا هِبَةُ كل الدَّارِ جُمْلَةً مِنْهُمَا لا هِبَةَ النِّصْفِ من أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفِ من الْآخَرِ لِأَنَّ ذلك تَوْزِيعٌ وَتَفْرِيقٌ وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عليه وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عن مُوجَبِ اللَّفْظِ لُغَةً إلَّا لِضَرُورَةِ الصِّحَّةِ وفي الْعُدُولِ عن ظَاهِرِ الصِّيغَةِ هَهُنَا فَسَادُ الْعَقْدِ بِسَبَبِ الشُّيُوعِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الصِّيغَةِ وهو تَمْلِيكُ الْكُلِّ مِنْهُمَا وَمُوجِبُ التَّمْلِيكِ
____________________

(6/121)


منها ثُبُوتُ الْمِلْكِ لَهُمَا في الْكُلِّ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في النِّصْفِ عِنْدَ الِانْقِسَامِ ضَرُورَةُ الْمُزَاحِمَةِ وَاسْتِوَائِهِمَا في الِاسْتِحْقَاقِ إذْ ليس كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْلَى من الآخرة ( ( ( الآخر ) ) ) لِدُخُولِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا في الْعَقْدِ على السَّوَاءِ كَالْأَخَوَيْنِ في الْمِيرَاثِ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ في الدَّرَجَةِ إن الْمِيرَاثَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِنْ كان سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ في حَقِّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الْكَمَالِ حتى لو انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا يَسْتَحِقُّ كُلَّ الْمَالِ وإذا جَاءَتْ الْمُزَاحَمَةُ مع الْمُسَاوَاةِ في الِاسْتِحْقَاقِ يَثْبُتُ عِنْدَ انْقِسَامِ الْمِيرَاثِ في النِّصْفِ
وَكَذَا الشَّفِيعَانِ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَخْذَ نِصْفِ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ لِضَرُورَةِ الْمُزَاحَمَةِ وَالِاسْتِوَاءِ في الِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ كان السَّبَبُ في حَقِّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالِحًا لِإِثْبَاتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ في الْكُلِّ حتى لو سَلَّمَ أَحَدُهُمَا يَكُونُ الْكُلُّ لِلْآخَرِ
وَعَلَى هذا مَسَائِلَ فلم يَكُنْ الِانْقِسَامُ على التَّنَاصُفِ مُوجِبَ الصِّيغَةِ بَلْ لَتَضَايُقِ الْمَحَلِّ لِهَذَا جَازَ الرَّهْنُ من رجلين ( ( ( رجل ) ) ) فَكَانَ ذلك رَهْنًا من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الْكَمَالِ إذْ لو كان رَهَنَ النِّصْفَ من هذا وَالنِّصْفَ من ذلك لَمَا جَازَ لِأَنَّهُ يَكُونُ رَهَنَ الْمُشَاعِ لِهَذَا لو قَضَى الرَّاهِنُ دَيْنَ أَحَدِهِمَا كان لِلْآخَرِ حَبْسُ الْكُلِّ دَلَّ أَنَّ ذلك رَهْنُ الْكُلِّ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هذا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى الشَّائِعِ فَلَا يَجُوزُ كما إذَا مَلَكَ نِصْفَ الدَّارِ من أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفَ من الْآخَرِ بِعَقْدٍ على حِدَةٍ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ هذا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى الشَّائِعِ أَنَّ قَوْلَهُ وَهَبْتُ هذه الدَّارَ مِنْكُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ تَمْلِيكَ كل الدَّارِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَمْلِيكَ النِّصْفِ من أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفِ من الْآخَرِ
لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الدَّارَ الْوَاحِدَةَ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الْكَمَالِ وَالْمُحَالُ لَا يَكُونُ مُوجِبَ الْعَقْدِ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي وهو أَنْ يَكُونَ تَمْلِيكَ النِّصْفِ من أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفِ من الْآخَرِ لِهَذَا لم يَمْلِكْ كُلُّ مِنْهُمَا التَّصَرُّفَ في كل الدَّارِ بَلْ في نِصْفِهَا
وَلَوْ كان كُلُّ الدَّارِ مَمْلُوكًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَلَكَ وَكَذَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ صَاحِبِهِ بِالتَّهَايُؤِ أو بِالْقِسْمَةِ وَهَذَا آيَةُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ له في النِّصْفِ
وإذا كان هذا تَمْلِيكَ الدَّارِ لَهُمَا على التَّنَاصُفِ كان تَمْلِيكًا مُضَافًا إلَى الشَّائِعِ كَأَنَّهُ أَفْرَدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَقْدَ في النِّصْفِ وَالشُّيُوعُ يُؤَثِّرُ في الْقَبْضِ الْمُمَكِّنِ من التَّصَرُّفِ على ما مَرَّ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِمَا إن مُوجِبَ الصِّيغَةِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ في كل الدَّارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الْكَمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هذا مُحَالٌ وَالْمُحَالُ لَا يَكُونُ مُوجِبَ الْعَقْدِ وَلَا الْعَاقِدُ بِعَقْدِهِ يَقْصِدُ أَمْرًا مُحَالًا أَيْضًا فَكَانَ مُوجِبُ الْعَقْدِ التَّمْلِيكَ مِنْهُمَا على التَّنَاصُفِ لِأَنَّ هذا تَمْلِيكُ الدَّارِ مِنْهُمَا فَكَانَ عَمَلًا بِمُوجِبِ الصِّيغَةِ من غَيْرِ إحَالَةٍ فَكَانَ أَوْلَى بِخِلَافِ الرَّهْنِ فإن الدَّارَ الْوَاحِدَةَ تَصْلُحُ مَرْهُونَةً عِنْدَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الرَّهْنَ هو الْحَبْسُ وَاجْتِمَاعُهُمَا على الْحَبْسِ مُتَصَوَّرٌ بِأَنْ يَحْبِسَاهُ مَعًا أو يَضَعَاهُ جميعا على يَدَيْ عَدْلٍ فَتَكُونَ الدَّارُ مَحْبُوسَةً كُلُّهَا عِنْدَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ في الْمِلْكِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا وَهَبَ من رَجُلَيْنِ فَقَسَمَ ذلك وسلم إلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَازَ لِأَنَّ الْمَانِعَ هو الشُّيُوعُ عِنْدَ الْقَبْضِ وقد زَالَ
هذا إذَا وَهَبَ من رَجُلَيْنِ شيئا مِمَّا يُقْسَمُ فَإِنْ كان مِمَّا لَا يُقْسَمُ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
ثُمَّ على أَصْلِهِمَا إذَا قال لِرَجُلَيْنِ وَهَبْتُ لَكُمَا هذه الدَّارَ لِهَذَا نِصْفُهَا وَلِهَذَا نِصْفُهَا جَازَ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِهَذَا نِصْفُهَا وَلِهَذَا نِصْفُهَا خَرَجَ تَفْسِيرًا لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْعَقْدِ إذْ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَفْسِيرًا لِنَفْسِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ تَمْلِيكُ الدَّارِ جُمْلَةً مِنْهُمَا على ما بَيَّنَّا فَجُعِلَ تَفْسِيرًا لِحُكْمِهِ فَلَا يُوجِبُ ذلك إشَاعَةً في الْعَقْدِ
وَلَوْ قال وَهَبْتُ لَك نِصْفَهَا وَلِهَذَا نِصْفَهَا لم يَجُزْ لِأَنَّ الشُّيُوعَ دخل على نَفْسِ الْعَقْدِ فَمَنَعَ الْجَوَازَ
وَلَوْ قال وَهَبْتُ لَكُمَا هذه الدَّارَ ثُلُثُهَا لِهَذَا وَثُلُثَاهَا لِهَذَا لم يَجُزْ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَجَازَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ
وَجْهُ قوله ( ( ( قول ) ) ) مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَقْدَ مَتَى جَازَ لِاثْنَيْنِ يَسْتَوِي فيه التَّسَاوِي وَالتَّفَاضُلُ كَعَقْدِ الْبَيْعِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْجَوَازَ عِنْد التَّسَاوِي بِطَرِيقِ التَّفْسِيرِ لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْعَقْدِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ شُيُوعًا في الْعَقْدِ وَلَمَّا فَضَّلَ أَحَدَ النَّصِيبَيْنِ عن الْآخَرِ تَعَذَّرَ جَعْلُهُ تَفْسِيرًا لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ لَا يَحْتَمِلُ التَّفَاضُلَ فَكَانَ تَفْضِيلُ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ في مَعْنَى إفْرَادِ الْعَقْدِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَكَانَ هِبَةَ الْمُشَاعِ وَالشُّيُوعُ يُؤَثِّرُ في الْهِبَةِ وَلَا يُؤَثِّرُ في الْبَيْعِ
وَلَوْ رَهَنَ من رَجُلَيْنِ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثُهُ وَلِلْآخِرِ ثُلُثَاهُ أو نِصْفُهُ لِهَذَا وَنِصْفُهُ لِذَلِكَ على التَّفَاضُلِ وَالتَّنَاصُفِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ ما إذَا أَبْهَمَ بِأَنْ قال وَهَبْتُ مِنْكُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ
وَلَوْ وَهَبَ من فَقِيرَيْنِ شيئا يَنْقَسِمُ فَالْهِبَةُ من فَقِيرَيْنِ بِمَنْزِلَةِ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ
____________________

(6/122)


الْهِبَةَ من الْفَقِيرِ صَدَقَةٌ لِأَنَّهُ يبتغي بها وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَسَنَذْكُرُ حُكْمَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ هِبَةَ الشَّجَرِ دُونَ الثَّمَرِ وَالثَّمَرِ دُونَ الشَّجَرِ وَالْأَرْضِ دُونَ الزَّرْعِ وَالزَّرْعِ دُونَ الْأَرْضِ إنها غَيْرُ جَائِزَةٍ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مُتَّصِلٌ بِمَا ليس بِمَوْهُوبٍ اتِّصَالَ جُزْءٍ بِجُزْءٍ فَكَانَ كَهِبَةِ الْمُشَاعِ وَلَوْ فضل ( ( ( فصل ) ) ) وَسُلِّمَ جَازَ كما في هِبَةِ الْمُشَاعِ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ على رَجُلَيْنِ فَإِنْ كَانَا غَنِيَّيْنِ لم يَجُزْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ التَّصَدُّقَ على الْغَنِيِّ ميتة ( ( ( هبة ) ) ) في الْحَقِيقَةِ وَالْهِبَةُ من اثْنَيْنِ لَا تَجُوزُ وَعِنْدَهُمَا جائز ( ( ( جائزة ) ) ) وَإِنْ كَانَا فَقِيرَيْنِ فَعِنْدَهُمَا تَجُوزُ كما تَجُوزُ في الْهِبَةِ من رَجُلَيْنِ وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فيه رِوَايَتَانِ في كِتَاب الْهِبَةِ لَا يَجُوزُ وفي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَجُوزُ
وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْهِبَةِ أَنَّ الشِّيَاعَ كما يَمْنَعُ جَوَازَ الْهِبَةِ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّدَقَةِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَهَهُنَا يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ في الْقَبْضِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ وَهِيَ الصَّحِيحَةُ أَنَّ مَعْنَى الشُّيُوعِ في الْقَبْضِ لَا يَتَحَقَّقُ في الصَّدَقَةِ على فَقِيرَيْنِ لِأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَتَقَرَّبُ بِالصَّدَقَةِ إلَى اللَّهِ عز وجل ثُمَّ الْفَقِيرُ يَقْبِضُ من اللَّهِ تَعَالَى قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هو يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عن عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الصَّدَقَةُ تَقَعُ في يَدِ الرحمن قبل أَنْ تَقَعَ في يَدِ الْفَقِيرِ وَاَللَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ له فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الشُّيُوعِ كما لو تَصَدَّقَ على فَقِيرٍ وَاحِدٍ ثُمَّ وَكَّلَ بِقَبْضِهَا وَكِيلَيْنِ بِخِلَافِ التَّصَدُّقِ على غَنِيَّيْنِ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ على الْغَنِيِّ يُبْتَغَى بها وَجْهُ الْغَنِيِّ فَكَانَتْ هَدِيَّةً لَا صَدَقَةً قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الصَّدَقَةُ يُبْتَغَى بها وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّارُ الْآخِرَةُ وَالْهَدِيَّةُ يُبْتَغَى بها وَجْهُ الرَّسُولِ وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ وَالْهَدِيَّةُ هِبَةٌ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الشُّيُوعِ في الْقَبْضِ وَأَنَّهُ مَانِعُ من الْجَوَازِ عِنْدَهُ
وَمِنْهَا الْقَبْضُ وهو أَنْ يَكُونَ الْمَوْهُوبُ مَقْبُوضًا وَإِنْ شِئْت رَدَدْتَ هذا الشَّرْطَ إلَى الْمَوْهُوبِ له لِأَنَّ الْقَابِضَ وَالْمَقْبُوضَ من الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ وَالْعَلَقَةُ التي تَدُورُ عليها الْإِضَافَةُ من الْجَانِبَيْنِ هِيَ الْقَبْضُ فَيَصِحُّ رَدُّهُ إلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا في صِنَاعَةِ التَّرْتِيبِ فَتَأَمَّلْ
وَالْكَلَامُ في هذا الشَّرْطِ في مَوْضِعَيْنِ في بَيَانِ أَصْلِ الْقَبْضِ أَنَّهُ شَرْطٌ أَمْ لَا وفي بَيَان شَرَائِطِ صِحَّةِ الْقَبْضِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ شَرْطٌ وَالْمَوْهُوبُ قبل الْقَبْضِ على مِلْكِ الْوَاهِبِ يَتَصَرَّفُ فيه كَيْفَ شَاءَ
وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس بِشَرْطٍ وَيَمْلِكُهُ الْمَوْهُوبُ له من غَيْرِ قَبْضٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا عَقْدُ تَبَرُّعٍ بِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ قبل الْقَبْضِ كَالْوَصِيَّةِ
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وهو ما رَوَيْنَا أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ وَسَيِّدَنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما اعْتَبَرَا الْقِسْمَةَ وَالْقَبْضَ لِجَوَازِ النُّحْلَى بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمَا مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا أبي بَكْرٍ وَسَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً مَحُوزَةً ولم يَرِدْ عن غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ وَلِأَنَّهَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَوْ صَحَّتْ بِدُونِ الْقَبْضِ لَثَبَتَ لِلْمَوْهُوبِ له وِلَايَةُ مُطَالَبَةِ الْوَاهِبِ بِالتَّسْلِيمِ فَتَصِيرُ عَقْدَ ضَمَانٍ وَهَذَا تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ ليس في إيجَابِ الْمِلْكِ فيها قبل الْقَبْضِ تَغْيِيرُهَا عن مَوْضِعهَا إذْ لَا مُطَالَبَةَ قِبَلَ الْمُتَبَرِّعِ وهو الْمُوصِي لِأَنَّهُ مَيِّتٌ وَكَذَلِكَ الْقَبْضُ شَرْطُ جَوَازِ الصَّدَقَةِ لَا يُمْلَكُ قبل الْقَبْضِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال ابن أبي لَيْلَى وَغَيْرُهُ من أَهْلِ الْكُوفَةِ ليس بِشَرْطٍ وَتَجُوزُ الصَّدَقَةُ إذَا أُعْلِمَتْ وَإِنْ لم تُقْبَضْ وَلَا تَجُوزُ الْهِبَةُ وَلَا النَّحْلَى إلَّا مَقْبُوضَةً وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عن سَيِّدنَا عُمَرَ وَسَيِّدنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنهما قَالَا إذَا أعلمت ( ( ( علمت ) ) ) الصَّدَقَةُ جَازَتْ من غَيْرِ شَرْطِ الْقَبْضِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال خَبَرًا عن اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يا ابْنَ آدَمَ تَقُولُ مالي مَالِي وَلَيْسَ لك من مَالِكَ إلَّا ما أَكَلْت فَأَفْنَيْتَ أو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أو تَصَدَّقْتَ فَأَبْقَيْتَ اعْتَبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِمْضَاءَ في الصَّدَقَةِ وَالْإِمْضَاءُ هو التَّسْلِيمُ دَلَّ أَنَّهُ شَرْطٌ
وَرُوِيَ عن سَيِّدنَا أبي بَكْرٍ وَسَيِّدنَا عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذِ بن جَبَلٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا لَا تَتِمُّ الصَّدَقَةُ إلَّا بِالْقَبْضِ وَلِأَنَّ التَّصَدُّقَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ كَالْهِبَةِ
وما رُوِيَ عن سَيِّدنَا عُمَرَ وَسَيِّدنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنهما مَحْمُولٌ على صَدَقَةِ الْأَبِ على ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَبِهِ نَقُولُ لَا حَاجَةَ هُنَاكَ إلَى الْقَبْضِ حَمَلْنَاهُ على هذا تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لها عن التَّنَاقُضِ
وَالثَّانِي شَرَائِطُ صِحَّةِ الْقَبْضِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْقَبْضِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ في بَابِ الْبَيْعِ حتى لو قَبَضَ الْمُشْتَرِي من غَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ كان لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ
____________________

(6/123)


فَلَأَنْ يَكُونَ في الْهِبَةِ أَوْلَى لِأَنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ بِدُونِ الْقَبْضِ وَالْهِبَةُ لَا صِحَّةَ لها بِدُونِ الْقَبْضِ فلما كان الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ شَرْطًا لَصِحَّتِهِ فِيمَا لَا يَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ على الْقَبْضِ فَلَأَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِيمَا يَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ على الْقَبْضِ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْقَبْضَ في بَابِ الْهِبَةِ يُشْبِهُ الرُّكْنَ وَإِنْ لم يَكُنْ رُكْنًا على الْحَقِيقَةِ فَيُشْبِهُ الْقَبُولَ في بَابِ الْبَيْعِ وَلَا يَجُوزُ الْقَبُولُ من غَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ وَرِضَاهُ فَلَا يَجُوزُ الْقَبْضُ من غَيْرِ إذْن الْوَاهِبِ أَيْضًا وَالْإِذْنُ نَوْعَانِ صَرِيحٌ وَدَلَالَةٌ
أَمَّا الصَّرِيحُ فَنَحْوِ أَنْ يَقُولَ اقْبِضْ أو أَذِنْتُ لك بِالْقَبْضِ أو رَضِيتُ وما يجري هذا الْمَجْرَى فَيَجُوزُ قَبْضُهُ سَوَاءٌ قَبَضَهُ بِحَضْرَةِ الْوَاهِبِ أو بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ قَبْضُهُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عن الْمَجْلِسِ
وهو قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْقَبْضَ عِنْدَهُ رُكْنٌ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ على أَحَدِ قَوْلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عن الْمَجْلِسِ كما لَا يَصِحُّ الْقَبُولُ عِنْدَهُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَإِنْ كان بِإِذْنِ الْوَاهِبِ كَالْقَبُولِ في بَابِ الْبَيْعِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ حُمِلَ إلَيْهِ سِتُّ بَدَنَاتٍ فَجَعَلْنَ يَزْدَلِفْنَ إلَيْهِ فَقَامَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَنَحَرَهُنَّ بيده الشَّرِيفَةِ وقال من شَاءَ فَلِيَقْطَعَ وَانْصَرَفَ فَقَدْ أَذِنَ لهم رسول اللَّهِ بِالْقَبْضِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ حَيْثُ أَذِنَ لهم بِالْقَطْعِ
فَدَلَّ على جَوَازِ الْقَبْضِ وَاعْتِبَارُهُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ
وَلِأَنَّ الْإِذْنَ بِقَبْضِ الْوَاهِبِ صَرِيحًا بِمَنْزِلَةِ إذْنِ الْبَائِعِ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ وَذَلِكَ يَعْمَلُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ
كَذَا هذا
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَقْبِضَ الْمَوْهُوبُ له الْعَيْنَ في الْمَجْلِسِ وَلَا يَنْهَاهُ الْوَاهِبُ فَيَجُوزُ قَبْضُهُ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ كما لَا يَجُوزَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ
وهو قَوْلُ زُفَرَ وقد ذَكَرْنَا الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ في الزِّيَادَاتِ
وَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بَيْعًا جَائِزًا بِحَضْرَةِ الْبَائِعِ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ لم يَجُزْ قَبْضُهُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا حتى كان له أَنْ يُسْتَرَدَّ وفي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ اخْتِلَافُ رِوَايَتَيْ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ذَكَرْنَاهُمَا في الْبُيُوعِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْقَبْضَ رُكْنٌ في الْهِبَةِ كَالْقَبُولِ فيها فَلَا يَجُوزُ من غَيْرِ إذْنٍ كَالْقَبُولِ من بَابِ الْبَيْعِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِذْنَ بِالْقَبْضِ وُجِدَ من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ على إيجَابِ الْهِبَةِ إذْنٌ بِالْقَبْضِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ قَصْدِ التَّمْلِيكِ وَلَا ثُبُوتَ لِلْمِلْكِ إلَّا بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْإِقْدَامُ على الْإِيجَابِ إذْنًا بِالْقَبْضِ دَلَالَةً وَالثَّابِتُ دَلَالَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا بِخِلَافِ ما بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ دَلَالَةُ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ في الْمَجْلِسِ لَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَلِأَنَّ لِلْقَبْضِ في بَابِ الْهِبَةِ شَبَهًا بِالرُّكْنِ فَيُشْبِهُ الْقَبُولَ في بَابِ الْبَيْعِ وَإِيجَابُ الْبَيْعِ يَكُونُ إذْنًا بِالْقَبُولِ في الْمَجْلِسِ لَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَكَذَا إيجَابُ الْهِبَةِ يَكُونُ إذْنًا بِالْقَبْضِ لَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ
وَلَوْ وَهَبَ شيئا مُتَّصِلًا بِغَيْرِهِ مِمَّا لَا تَقَعُ عليه الْهِبَةُ كَالثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ على الشَّجَرِ دُونَ الشَّجَرِ أو الشَّجَرِ دُونَ الْأَرْضِ أو حِلْيَةِ السَّيْفِ دُونَ السَّيْفِ أو الْقَفِيزِ من الصُّبْرَةِ أو الصُّوفِ على ظَهْرِ الْغَنَمِ وَغَيْرُ ذلك مِمَّا لَا جَوَازَ لِلْهِبَةِ فيه إلَّا بِالْفَصْلِ وَالْقَبْضِ فَفَصَلَ وَقَبَضَ
فَإِنْ قَبَضَ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَاهِبِ لم يَجُزْ الْقَبْضُ سَوَاءٌ كان الْفَصْلُ وَالْقَبْضُ بِحَضْرَةِ الْوَاهِبِ أو بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ وَلِأَنَّ الْجَوَازَ في الْمُنْفَصِلِ عِنْدَ حَضْرَةِ الْوَاهِبِ لِلْإِذْنِ الثَّابِتِ دَلَالَةَ الْإِيجَابِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا لِأَنَّ الْإِيجَابَ لم يَقَعْ صَحِيحًا حين وُجُودِهِ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال على الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ وَإِنْ قَبَضَ بِإِذْنِهِ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وهو قَوْلُ زُفَرَ بِنَاءً على أَنَّ الْعَقْدَ إذَا وَقَعَ فَاسِدًا من حِينِ وُجُودِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ عِنْدَهُ بِحَالٍ لِاسْتِحَالَةِ انْقِلَابِ الْفَاسِدِ جَائِزًا وَعِنْدَنَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِإِسْقَاطِ الْمُفْسِدِ مَقْصُورًا على الْحَالِ أو من حِينِ وُجُودِ الْعَقْدِ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ على اخْتِلَافِ الطَّرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا في كِتَابِ الْبَيْعِ
وَكَذَلِكَ إذَا وَهَبَ دَيْنًا له على إنْسَانٍ لِآخَرَ إنه إنَّ قَبَضَ الْمَوْهُوبُ له بِإِذْنِ الْوَاهِبِ صَرِيحًا جَازَ قَبْضُهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وقد ذَكَرْنَا وَجْهَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ قَبَضَهُ بِحَضْرَتِهِ ولم يَنْهَهُ عن ذلك لَا يَجُوزُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا فَرَّقَ بين الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْجَوَازَ في هِبَةِ الْعَيْنِ عِنْدَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ لِكَوْنِ الْإِيجَابِ فيها دَلَالَةَ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ لِكَوْنِ دَلَالَةِ قَصْدِهِ تَمْلِيكُ ما هو مِلْكَهُ من الْمَوْهُوبِ له وَإِيجَابُ الْهِبَةِ في الدَّيْنِ لِغَيْرِ من عليه الدَّيْنُ لَا تَصِحُّ دَلَالَةُ الْإِذْنِ بِقَبْضِهِ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ بِوَاسِطَةِ دَلَالَةِ قَصْدِ التَّمْلِيكِ وَتَمْلِيكُ الدَّيْنِ من غَيْرِ من عليه الدَّيْنُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالتَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ بِالْقَبْضِ لِأَنَّهُ إذَا أَذِنَ له بِالْقَبْضِ صَرِيحًا قام قَبْضُهُ مَقَامَ قَبْضِ الْوَاهِبِ فَيَصِيرُ بِقَبْضِ الْعَيْنِ قَابِضًا لِلْوَاهِبِ أَوَّلًا وَيَصِيرُ الْمَقْبُوضُ مِلْكًا له أَوَّلًا ثُمَّ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ من الْوَاهِبِ فَيَصِيرُ الْوَاهِبُ على هذا التَّقْدِيرِ الذي
____________________

(6/124)


ذَكَرْنَا وَاهِبًا مِلْكَ نَفْسِهِ وَالْمَوْهُوبُ له قَابِضًا مِلْكَ الْوَاهِبِ فَصَحَّتْ الْهِبَةُ وَالْقَبْضُ وإذا لم يُصَرِّحْ بِالْإِذْنِ بِالْقَبْضِ بَقِيَ الْمَقْبُوضُ من الْمَالِ الْعَيْن على مِلْكِ من عليه فلم تَصِحَّ الْهِبَةُ فيه فَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْمَوْهُوبِ له فَهُوَ الْفَرْقُ بين الْفَصْلَيْنِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَوْهُوبُ مَشْغُولًا بِمَا ليس بِمَوْهُوبٍ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَبْضِ وهو التَّمَكُّنُ من التَّصَرُّفِ في الْمَقْبُوضِ لَا يَتَحَقَّقُ مع الشَّغْلِ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا وَهَبَ دَارًا فيها مَتَاعَ الْوَاهِبِ وسلم الدَّارَ إلَيْهِ أو سَلَّمَ الدَّارَ مع ما فيها من الْمَتَاعِ فإنه لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْفَرَاغَ شَرْطُ صِحَّةِ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ ولم يُوجَدْ قِيلَ الْحِيلَةُ في صِحَّةِ التَّسْلِيمِ أَنْ يُودِعَ الْوَاهِبُ الْمَتَاعَ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ له أَوَّلًا ويخلي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَتَاعِ ثُمَّ يُسَلِّمُ الدَّارَ إلَيْهِ فَتَجُوزُ الْهِبَةُ فيها لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِمَتَاعٍ هو في يَدِ الْمَوْهُوبِ له وفي هذه الْحِيلَةِ إشْكَالٌ وهو أَنَّ يَدَ الْمُودِع يَدُ الْمُودَعِ مَعْنَى فَكَانَتْ يَدُهُ قَائِمَةً على الْمَتَاعِ فَتَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيمِ
وَلَوْ أَخْرَجَ الْمَتَاعَ من الدَّارِ ثُمَّ سَلَّمَ فَارِغًا جَازَ وَيَنْظُرُ إلَى حَالِ الْقَبْضِ لَا إلَى حَالِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْمَانِعَ من النَّفَاذِ قد زَالَ فَيَنْفُذُ كما في هِبَةِ الْمُشَاعِ
وَلَوْ وَهَبَ ما فيها من الْمَتَاعِ دُونَ الدَّارِ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَتَاعِ جَازَتْ الْهِبَةُ لِأَنَّ الْمَتَاعَ لَا يَكُونُ مَشْغُولًا بِالدَّارِ وَالدَّارُ تَكُونُ مَشْغُولَةً بِالْمَتَاعِ لِهَذَا افْتَرَقَا فَيَصِحُّ تَسْلِيمُ الْمَتَاعِ وَلَا يَصِحُّ تَسْلِيمُ الدَّارِ
وَلَوْ جَمَعَ في الْهِبَةِ بين الْمَتَاعِ وَبَيْنَ الدَّارِ الذي فيها فَوَهَبَهُمَا جميعا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِمَا جميعا لِأَنَّ التَّسْلِيمَ قد صَحَّ فِيهِمَا جميعا فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا في الْهِبَةِ بِأَنْ وَهَبَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ وَهَبَ الْآخَرَ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا في التَّسْلِيمِ وإما إنْ فَرَّقَ فَإِنْ جَمَعَ جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِمَا جميعا وَإِنْ فَرَّقَ بِأَنْ وَهَبَ أَحَدَهُمَا وسلم ثُمَّ وَهَبَ الْآخَرَ وسلم نَظَرَ في ذلك وَرُوعِيَ فيه التَّرْتِيبُ إنْ قَدَّمَ هِبَةَ الدَّارِ فَالْهِبَةُ في الدَّارِ لم تَجُزْ لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْمَتَاعِ فلم يَصِحَّ تَسْلِيمُ الدَّارِ وَجَازَتْ في الْمَتَاعِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْغُولٍ بِالدَّارِ فَيَصِحُّ تَسْلِيمُهُ
وَلَوْ قَدَّمَ هِبَةَ الْمَتَاعِ جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِمَا جميعا
أَمَّا في الْمَتَاعِ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْغُولٍ بِالدَّارِ فَيَصِحُّ تَسْلِيمُهُ وَأَمَّا في الدَّارِ فَلِأَنَّهَا وَقْتَ التَّسْلِيمِ كانت مَشْغُولَةً بِمَتَاعٍ هو مِلْكُ الْمَوْهُوبِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ أَيْضًا يَخْرُجُ ما إذَا وَهَبَ جَارِيَةً وَاسْتَثْنَى ما في بَطْنِهَا أو حَيَوَانًا وَاسْتَثْنَى ما في بَطْنِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لو جَازَ لَكَانَ ذلك هِبَةَ ما هو مَشْغُولٌ بِغَيْرِهِ وَإِنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ لِأَنَّهُ لَا جَوَازَ لها بِدُونِ الْقَبْضِ
وَكَوْنُ الْمَوْهُوبِ مَشْغُولًا بِغَيْرِهِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ
وَلَوْ أَعْتَقَ ما في بَطْنِ جَارِيَتِهِ ثُمَّ وَهَبَ الْأُمَّ يَجُوزُ وَذَكَرَ في الْعَتَاقِ أَنَّهُ لو دَبَّرَ ما في بَطْنِ جَارِيَتِهِ لَا يَجُوزُ منهم من قال في الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ وَجْهُ رِوَايَةِ عَدَمِ الْجَوَازِ أَنَّ الْمَوْهُوبَ مَشْغُولٌ بِمَا ليس بِمَوْهُوبٍ فَأَشْبَهَ هِبَةَ دَارٍ فيها مَتَاعُ الْوَاهِبِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَوَازِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْكَرْخِيِّ إن حُرِّيَّةَ الْجَنِينِ تَجْعَلُهُ مُسْتَثْنَى من الْعَقْدِ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ لم يَثْبُتْ فيه مع تَنَاوُلِهِ إيَّاهُ ظَاهِرًا وَهَذَا مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءُ وَلَوْ اسْتَثْنَاهُ لَفْظًا جَازَتْ الْهِبَةُ في الْأُمِّ فَكَذَا إذَا كان مُسْتَثْنَى في الْمَعْنَى وَمِنْهُمْ من قال في الْمَسْأَلَةِ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ وَفَرَّقَ بين الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمُدَبَّرَ مَالُ الْمَوْلَى فإذا وَهَبَ الْأُمَّ فَقَدْ وَهَبَ ما هو مَشْغُولٌ بِمَالِ الْوَاهِبِ فلم يَجُزْ كَهِبَةِ دَارٍ فيها مَتَاعُ الْوَاهِبِ
وَأَمَّا الْحُرُّ فَلَيْسَ بِمَالٍ فَصَارَ كما لو وَهَبَ دَارًا فيها حُرٌّ جَالِسٌ وَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْهِبَةِ كَذَا هذا
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَوْهُوبُ مُتَّصِلًا بِمَا ليس بِمَوْهُوبِ اتِّصَالِ الْأَجْزَاءِ لِأَنَّ قَبْضَ الْمَوْهُوبِ وَحْدَهُ لَا يُتَصَوَّرُ وَغَيْرُهُ ليس بِمَوْهُوبٍ فَكَانَ هذا في مَعْنَى الْمُشَاعِ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا وَهَبَ أَرْضًا فيها زَرْعٌ دُونَ الزَّرْعِ أو شَجَرًا عليها ثَمَرٌ دُونَ الثَّمَرِ أو وَهَبَ الزَّرْعَ دُونَ الْأَرْضِ أو الثَّمَرَ دُونَ الشَّجَرِ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْهُوبِ له أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مُتَّصِلٌ بِمَا ليس بِمَوْهُوبِ اتِّصَالِ جُزْءٍ بِجُزْءٍ فَمَنَعَ صِحَّةَ الْقَبْضِ
وَلَوْ جَذَّ الثَّمَرَ وَحَصَدَ الزَّرْعَ ثُمَّ سَلَّمَهُ فَارِغًا جَازَ لِأَنَّ الْمَانِعَ من النَّفَاذِ وهو ثُبُوتُ الْمِلْكِ قد زَالَ
وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا في الْهِبَةِ فَوَهَبَهُمَا جميعا وسلم مُتَفَرِّقًا جَازَ وَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا في الْهِبَةِ فَوَهَبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ على حِدَةٍ بِأَنْ وَهَبَ الْأَرْضَ ثُمَّ الزَّرْعَ أو الزَّرْعَ ثُمَّ الْأَرْضَ فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا في التَّسْلِيمِ جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِمَا جميعا وَإِنْ فَرَّقَ لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِيهِمَا جميعا قَدَّمَ أو أَخَّرَ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَانِعَ من صِحَّةِ الْقَبْضِ هُنَا الِاتِّصَالُ وإنه لَا يَخْتَلِفُ وَالْمَانِعُ هُنَاكَ الشَّغْلُ وإنه يَخْتَلِفُ نَظِيرَ هذا ما إذَا وَهَبَ نِصْفَ الدَّارِ مُشَاعًا من رَجُلٍ ولم يُسَلِّمْ إلَيْهِ حتى وَهَبَ النِّصْفَ الْبَاقِي منه وسلم الْكُلَّ أَنَّهُ يَجُوزُ
وَلَوْ وَهَبَ النِّصْفَ وسلم ثُمَّ وَهَبَ الْبَاقِي وسلم لَا يَجُوزُ كَذَا هذا وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا وَهَبَ صُوفًا على ظَهْرِ غَنَمٍ إنه لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مُتَّصِلٌ بِمَا ليس بِمَوْهُوبٍ وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ
____________________

(6/125)


الْقَبْضِ وَلَوْ جَزَّهُ وَسَلَّمَهُ جَازَ لِزَوَالِ الْمَانِعِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا إذَا وَهَبَ دَابَّةً وَعَلَيْهَا حِمْلٌ بِدُونِ الْحِمْلِ لَا تَجُوزُ وَلَوْ رَفَعَ الْحَمْلَ عنها وَسَلَّمَهَا فَارِغًا جَازَ لِمَا قُلْنَا بِخِلَافِ هِبَةِ ما في بَطْنِ جَارِيَتِهِ أو ما في بَطْنِ غَنَمِهِ أو ما في ضَرْعِهَا أو هِبَةِ سَمْنٍ في لَبَنٍ أو دُهْنٍ في سِمْسِمٍ أو زَيْتٍ في زَيْتُونٍ أو دَقِيقٍ في حِنْطَةٍ أَنَّهُ يَبْطُلُ
وَإِنْ سَلَّطَهُ على قَبْضِهِ عِنْدَ الولادة ( ( ( الولاة ) ) ) أو عِنْدَ اسْتِخْرَاجِ ذلك لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ هُنَاكَ ليس مَحَلَّ الْعَقْدِ لِكَوْنِهِ مَعْدُومًا لِهَذَا لم يَجُزْ بَيْعُهَا فَلَا تَجُوزُ هِبَتُهَا وَهُنَا بِخِلَافِهِ على ما تَقَدَّمَ
وَمِنْهَا أَهْلِيَّةُ الْقَبْضِ وَهِيَ الْعَقْلُ فَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ اسْتِحْسَانًا فَيَجُوزُ قَبْضُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ ما وَهَبَ له وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الصَّبِيِّ وَإِنْ كان عَاقِلًا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْقَبْضَ من بَابِ الْوِلَايَةِ وَلَا وِلَايَةَ له على نَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ قَبْضُهُ في الْهِبَةِ كما لَا يَجُوزُ في الْبَيْعِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ من التَّصَرُّفَاتِ النَّافِعَةِ الْمَحْضَةِ فَيَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ كما يَمْلِكُ وَلِيُّهُ وَمَنْ هو في عِيَالِهِ وَكَذَا الصَّبِيَّةُ إذَا عَقَلَتْ جَازَ قَبْضُهَا لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ الْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَيَجُوزُ قَبْضُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عليه إذَا وُهِبَ له هِبَةٌ وَلَا يَجُوز قَبْضُ الْمَوْلَى عنه سَوَاءٌ كان على الْعَبْدِ دَيْنٌ أو لا فَالْقَبْضُ إلَى الْعَبْدِ وَالْمِلْكُ لِلْمَوْلَى في الْمَقْبُوضِ لِأَنَّ الْقَبْضَ من حُقُوقِ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ وَقَعَ لِلْعَبْدِ فَكَانَ الْقَبْضُ إلَيْهِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في بَنِي آدَمَ الْحُرِّيَّةُ
وَالرِّقُّ لِعَارِضٍ فَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِمْ إطْلَاقَ التَّصَرُّفِ لهم وَالِانْحِجَارَ لِعَارِضِ الرِّقِّ عن التَّصَرُّفِ يَتَضَمَّنُ الضَّرَرَ بِالْمَوْلَى ولم يُوجَدْ فَبَقِيَ فيه على أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَقْبُوضُ كَسْبُ الْعَبْدِ وَكَسْبُ الْعَبْدِ الْقِنِّ لِلْمَوْلَى وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ إذَا وُهِبَ له هِبَةٌ فَالْقَبْضُ إلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْمَوْلَى عنه لِمَا قُلْنَا في الْقِنِّ فإذا قَبَضَ الْمُكَاتَبُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْهِبَةَ كَسْبُهُ وَالْمُكَاتَبُ أَحَقُّ بِاكْتِسَابِهِ وَمِنْهَا الْوِلَايَةُ في أَحَدِ نَوْعَيْ الْقَبْضِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْقَبْضَ نَوْعَانِ قَبْضٌ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَقَبْضٌ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ
أَمَّا الْقَبْضُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فَهُوَ أَنْ يَقْبِضَ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَشَرْطُ جَوَازِهِ الْعَقْلَ فَقَطْ على ما بَيَّنَّا
وَأَمَّا الْقَبْضُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ فَالنِّيَابَةُ في الْقَبْضِ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْقَابِضِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَبْضِ
أَمَّا الْأَوَّلُ الذي يَرْجِعُ إلَى الْقَابِضِ فَهُوَ الْقَبْضُ لِلصَّبِيِّ وَشَرْطُ جَوَازِهِ الْوِلَايَةِ بِالْحَجْرِ وَالْعَيْلَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْوِلَايَةِ فَيَقْبِضُ لِلصَّبِيِّ وَلِيُّهُ أو من كان الصَّبِيُّ في حِجْرِهِ وَعِيَالِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلِيِّ فَيَقْبِضُ له أَبُوهُ ثُمَّ وَصِيُّ أبيه بَعْدَهُ ثُمَّ جَدُّهُ أبو أبيه بَعْدَ أبيه وَوَصِيُّهُ ثُمَّ وَصِيُّ جَدِّهِ بَعْدَهُ سَوَاءٌ كان الصَّبِيُّ في عِيَالِ هَؤُلَاءِ أو لم يَكُنْ فَيَجُوزُ قَبْضُهُمْ على هذا التَّرْتِيبِ حَالَ حَضْرَتِهِمْ لِأَنَّ لهؤلاء ( ( ( هؤلاء ) ) ) وِلَايَةٌ عليهم فَيَجُوزُ قَبْضُهُمْ له
وإذا غَابَ أَحَدُهُمْ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً جَازَ قَبْضُ الذي يَتْلُوهُ في الْوِلَايَةِ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إلَى قُدُومِ الْغَائِبِ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ على الصَّغِيرِ فَتَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إلَى من يَتْلُوهُ وَإِنْ كان دُونَهُ كما في وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ مع وُجُودِ وَاحِدٌ منهم سَوَاءٌ كان الصَّبِيُّ في عِيَالِ الْقَابِضِ أو لم يَكُنْ وَسَوَاءٌ كان ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْأُمِّ وَنَحْوِهِمْ أو أَجْنَبِيًّا لِأَنَّهُ ليس لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ في مَالِ الصَّبِيِّ فَقِيَامُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ لهم تَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّ الْقَبْضِ لِغَيْرِهِمْ فَإِنْ لم يَكُنْ أَحَدٌ من هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ جَازَ قَبْضُ من كان الصَّبِيُّ في حِجْرِهِ وَعِيَالِهِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ
وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ من لم يَكُنْ في عِيَالِهِ أَجْنَبِيًّا كان أو ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الذي في عِيَالِهِ له عليه ضَرْبُ وِلَايَةٍ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤَدِّبُهُ وَيُسَلِّمُهُ في الصَّنَائِعِ التي لِلصَّبِيِّ فيها مَنْفَعَةٌ وَلِلصَّبِيِّ في قَبْضِ الْهِبَةِ مَنْفَعَةٌ مَحْضَةٌ فَقِيَامُ هذا الْقَدْرِ من الْوِلَايَةِ يَكْفِي لِتَصَرُّفٍ فيه مَنْفَعَةٌ مَحْضَةٌ لِلصَّبِيِّ
وَأَمَّا من ليس في عِيَالِهِ فَلَا وِلَايَةَ له عليه أَصْلًا فَلَا يَجُوزُ قَبْضُهُ له كَالْأَجْنَبِيِّ وَالْقَبْضُ لِلصَّبِيَّةِ إذَا عَقَلَتْ وَلَهَا زَوْجٌ قد دخل بها زَوْجهَا أَيْضًا اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهَا في عِيَالِهِ لَكِنْ هذا إذَا لم يَكُنْ أَحَدٌ من هَؤُلَاءِ فَأَمَّا عِنْدَ وُجُودٍ وَاحِدٍ منهم فَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الزَّوْجِ كَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ في مُخْتَصَرِهِ
وَأَمَّا الثَّانِي الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَبْضِ فَهُوَ أَنَّ الْقَبْضَ الْمَوْجُودَ في الْهِبَةِ يَنُوبُ عن قَبْضِ الْهِبَةِ سَوَاءٌ كان الْمَوْجُودُ وَقْتَ الْعَقْدِ مِثْلَ قَبْضِ الْهِبَةِ أو أَقْوَى منه لِأَنَّهُ إذَا كان مِثْلُهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقَ التَّنَاوُبِ إذْ الْمُتَمَاثِلَانِ غير أن يَنُوبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ صَاحِبِهِ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ فَتُثْبِتُ الْمُنَاوَبَةُ مُقْتَضَى الْمُمَاثَلَةِ
وإذا كان أَقْوَى منه يُوجَدُ فيه الْمُسْتَحَقُّ وَزِيَادَةٌ
وَبَيَانُ هذا في مَسَائِلَ إذَا كان الْمَوْهُوبُ في يَدِ الْمَوْهُوبِ له وَدِيعَةً أو عَارِيَّةً
____________________

(6/126)


فَوَهَبَ منه جَازَتْ الْهِبَةُ وَصَارَ قَابِضًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَوَقَعَ الْعَقْدُ وَالْقَبْضُ مَعًا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ بَعْدَ الْعَقْدِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِيرَ قَابِضًا ما لم يُجَدِّدْ الْقَبْضَ وهو أَنْ يُخَلِّيَ بين نَفْسِهِ وَبَيْنَ الْمَوْهُوبِ بَعْدَ الْعَقْدِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ يَدَ الْمُودِعِ إنْ كانت يَدُهُ صُورَةً فَهِيَ يَدُ الْمُودَعِ مَعْنَى فَكَانَ الْمَالُ في يَدِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ وَهَبَ له ما في يَدِهِ فَلَا بُدَّ من الْقَبْضِ بِالتَّخْلِيَةِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَبْضَيْنِ مُتَمَاثِلَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبْضٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ إذْ الْهِبَةُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ وَكَذَا عَقْدُ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ فَتَمَاثَلَ القبضان ( ( ( القابضان ) ) ) فَيَتَنَاوَبَانِ ضَرُورَةً بِخِلَافِ بَيْعِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ من الْمُودِعِ وَالْمُسْتَعِيرِ لِأَنَّ قَبَضَهُمَا لَا يَنُوبُ عن قَبْضِ الْبَيْعِ لأنه قَبْضَ أَمَانَةٌ وَقَبْضَ الْبَيْعِ قَبْضُ ضَمَانٍ فلم يَتَمَاثَلْ الْقَبْضَانِ بَلْ الْمَوْجُودُ أَدْنَى من الْمُسْتَحَقِّ فلم يَتَنَاوَبَا
وَلَوْ كان الْمَوْهُوبُ في يَدِهِ مَغْصُوبًا أو مَقْبُوضًا بِبَيْعِ فَاسِدٍ أو مَقْبُوضًا على سَوْمِ الشِّرَاءِ فَكَذَا يَنُوبُ ذلك عن قَبْضِ الْهِبَةِ لِوُجُودِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وهو أَصْلُ الْقَبْضِ وَزِيَادَةُ ضَمَانٍ
وَلَوْ كان الْمَوْهُوبُ مَرْهُونًا في يَدِهِ ذَكَرَ في الْجَامِعِ أَنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا وَيَنُوبُ قَبْضُ الرَّهْنِ عن قَبْضِ الْهِبَةِ لِأَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ قَبْضُ أَمَانَةٍ وَقَبْضَ الرَّهْنِ في حَقّ الْعَيْنِ قَبْضُ أَمَانَةٍ أَيْضًا فَيَتَمَاثَلَانِ فَنَابَ أَحَدُهُمَا عن الْآخَرِ وَلَئِنْ كان قَبْضُ الرَّهْنِ قَبْضَ ضَمَانٍ فَقَبْضُ الضَّمَانِ أَقْوَى من قَبْضِ الْأَمَانَةِ وَالْأَقْوَى يَنُوبُ عن الْأَدْنَى لِوُجُودِ الْأَدْنَى فيه وَزِيَادَةٌ وإذا صَحَّتْ الْهِبَةُ بِالْقَبْضِ بَطَلَ الرَّهْنُ وَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ بِدَيْنِهِ على الرَّاهِنِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ قَابِضًا حتى يُجَدِّدَ الْقَبْضَ بَعْدَ عَقْدِ الْهِبَةِ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ وَإِنْ كان قَبْضُ ضَمَانٍ لَكِنْ هذا ضَمَانٌ لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ منه فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِبْرَاءَ بِالْهِبَةِ لِيَصِيرَ قَبْضَ أَمَانَةٍ فَيَتَجَانَسُ الْقَبْضَانِ فَيَبْقَى قَبْضُ ضَمَانٍ فَاخْتَلَفَ الْقَبْضَانِ فَلَا يَتَنَاوَبَانِ بِخِلَافِ الْمَغْصُوبِ وَالْمَقْبُوضِ على سَوْمِ الشِّرَاءِ لِأَنَّ ذلك الضَّمَانَ مِمَّا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ عنه فَيَبْرَأُ عنه بِالْهِبَةِ وَيَبْقَى قَبْضٌ بِغَيْرِ ضَمَانٍ فَتَمَاثَلَ القبضان ( ( ( القابضان ) ) ) فَيَتَنَاوَبَانِ
وَلَوْ كان مَبِيعًا قبل الْقَبْضِ فَوَهَبَ من الْبَائِعِ جَازَ وَلَكِنْ لَا يَكُونُ هِبَةً بَلْ يَكُونُ إقَالَةً حتى لَا تَصِحَّ بِدُونِ قَبُولِ الْبَائِعِ
وَلَوْ بَاعَهُ من الْبَائِعِ قبل الْقَبْضِ لَا يُجْعَلُ إقَالَةً بَلْ يَبْطُلُ أَصْلًا وَرَأْسًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْبُيُوعِ
وَلَوْ نَحَلَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ شيئا جَازَ وَيَصِيرُ قَابِضًا له مع الْعَقْدِ كما إذَا بَاعَ مَالَهُ منه حتى لو هَلَكَ عَقِيبَ الْبَيْعِ يَهْلَكُ من مَالِ الِابْنِ لِصَيْرُورَتِهِ قَابِضًا لِلصَّغِيرِ مع الْعَقْدِ وَيَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْدِلَ بين أَوْلَادِهِ في النَّحْلَى لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ }
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ فَقَدْ قال أبو يُوسُفَ الْعَدْلُ في ذلك أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ في الْعَطِيَّةِ وَلَا يُفَضِّلَ الذَّكَرَ على الْأُنْثَى
وقال مُحَمَّدٌ الْعَدْلُ بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطِيَهُمْ على سَبِيلِ التَّرْتِيبِ في الْمَوَارِيثِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا في شَرْحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الموطأ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُسَوِّيَ بين وَلَدِهِ في النحلى ( ( ( النحل ) ) ) وَلَا يُفَضِّلَ بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَظَاهِرُ هذا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مع قَوْلِ أبي يُوسُفَ وهو الصَّحِيحُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ بَشِيرًا أَبَا النُّعْمَانِ أتى بِالنُّعْمَانِ إلَى رسول اللَّهِ فقال إنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هذا غُلَامًا كان لي فقال له رسول اللَّهِ كُلُّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هذا فقال لَا فقال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَرْجِعهُ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى الْعَدْلِ بين الْأَوْلَادِ في النِّحْلَةِ وهو التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ وَلِأَنَّ في التَّسْوِيَةِ تَأْلِيفَ الْقُلُوبِ وَالتَّفْضِيلُ يُورِثُ الْوَحْشَةِ بَيْنَهُمْ فَكَانَتْ التَّسْوِيَةُ أَوْلَى
وَلَوْ نَحَلَ بَعْضًا وَحَرَمَ بَعْضًا جَازَ من طَرِيقِ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ في خَالِصِ مِلْكِهِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فيه إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَدْلًا سَوَاءٌ كان الْمَحْرُومُ فَقِيهًا تَقِيًّا أو جَاهِلًا فَاسِقًا على قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ من مَشَايِخِنَا
وَأَمَّا على قَوْلِ الْمُتَأَخِّرِينَ منهم لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الْمُتَأَدِّبِينَ وَالْمُتَفَقِّهِينَ دُونَ الْفَسَقَةِ الْفَجَرَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْهِبَةِ فَالْكَلَامُ فيه في ثَلَاثِ مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ وفي بَيَانِ صِفَتِهِ وفي بَيَانِ ما يَرْفَعُ الْحُكْمَ
أَمَّا أَصْلُ الْحُكْمِ فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ له في الْمَوْهُوبِ من غَيْرِ عِوَضٍ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ من غَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ حُكْمُهَا مِلْكَ الْمَوْهُوبِ من غَيْرِ عِوَضٍ
وَأَمَّا صِفَتُهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ فيها قال أَصْحَابُنَا هِيَ ثُبُوتُ مِلْكٍ غَيْرِ لَازِمٍ في الْأَصْلِ وَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ في هِبَتِهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ اللُّزُومُ وَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ بِأَسْبَابِ عَارِضَةٍ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الثَّابِتُ بِالْهِبَةِ مِلْكٌ لَازِمٌ في الْأَصْلِ وَلَا يَثْبُتُ الرُّجُوعُ إلَّا في هِبَةِ الْوَلَدِ خَاصَّةً وَهِيَ هِبَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ فَنَقُولُ يَقَعُ
____________________

(6/127)


الْكَلَامُ في هذا الْفَصْلِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ في الْهِبَةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ وفي بَيَانِ الْعَوَارِضِ الْمَانِعَةِ من الرُّجُوعِ وفي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الرُّجُوعِ وَحُكْمِهِ شَرْعًا
أَمَّا ثُبُوتُ حَقِّ الرُّجُوعِ فَحَقُّ الرُّجُوعِ في الْهِبَةِ ثَابِتٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ في هِبَتِهِ إلَّا فِيمَا يَهَبُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ وَهَذَا نَصٌّ في مَسْأَلَةِ هِبَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَالْوَالِدِ
وَرُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال الْعَائِدُ في هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ في قَيْئِهِ وَالْعَوْدُ في الْقَيْءِ حَرَامٌ كَذَا في الْهِبَةِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في الْعُقُودِ هو اللُّزُومُ وَالِامْتِنَاعُ بِعَارِضِ خَلَلٍ في الْمَقْصُودِ ولم يُوجَدْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الْهِبَةِ اكْتِسَابُ الصِّيتِ بِإِظْهَارِ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ لَا طَلَبُ الْعِوَضِ فَمَنْ طَلَبَ مِنْهُمَا الْعِوَضَ فَقَدْ طَلَبَ من الْعَقْدِ ما لم يُوضَعْ له فَلَا يُعْتَبَرُ طَلَبُهُ أَصْلًا
وَلَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
أَمَّا الْكِتَابُ العزيز ( ( ( العزير ) ) ) فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ منها أو رُدُّوهَا } وَالتَّحِيَّةُ وَإِنْ كانت تُسْتَعْمَلُ في مَعَانٍ من السَّلَامِ وَالثَّنَاءِ وَالْهَدِيَّةِ بِالْمَالِ قال الْقَائِلُ تَحِيَّتُهُمْ بِيضُ الْوَلَاءِ بِدِينِهِمْ لَكِنْ الثَّالِثُ تَفْسِيرٌ مُرَادٌ بِقَرِينَةٍ من نَفْسِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { أو رُدُّوهَا } لِأَنَّ الرَّدَّ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ في الْأَعْيَانِ لَا في الْأَعْرَاضِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عن إعَادَةِ الشَّيْءِ وَذَا لَا يُتَصَوَّرُ في الْأَعْرَاضِ وَالْمُشْتَرَكِ يَتَعَيَّنُ أَحَدُ وُجُوهِهِ بِالدَّلِيلِ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال قال رسول اللَّهِ الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ ما لم يُثِبْ منها أَيْ يعوض ( ( ( بعوض ) ) ) جَعَلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْوَاهِبَ أَحَقَّ بِهِبَتِهِ ما لم يَصِلْ إلَيْهِ الْعِوَضُ
وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
وَأَمَّا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فإنه رُوِيَ عن سَيِّدنَا عُمَرَ وَسَيِّدنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدنَا عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بن سَيِّدنَا عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَفَضَالَةَ بن عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا مِثْلَ مَذْهَبِنَا ولم يَرِدْ عن غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ فَيَكُونَ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ الْعِوَضَ الْمَالِيَّ قد يَكُونُ مَقْصُودًا من هِبَةِ الْأَجَانِبِ فإن الْإِنْسَانَ قد يَهَبُ من الْأَجْنَبِيِّ إحْسَانًا إلَيْهِ وَإِنْعَامًا عليه وقد يَهَبُ له طَمَعًا في الْمُكَافَأَةِ وَالْمُجَازَاةِ عُرْفًا وَعَادَةً فَالْمَوْهُوبُ له مَنْدُوبٌ إلَى ذلك شَرْعًا قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { هل جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ }
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من اصْطَنَعَ إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لم تَجِدُوا ما تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا له حتى يَعْلَمَ أَنَّكُمْ قد كَافَأْتُمُوهُ وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَهَادَوْا تَحَابُّوا وَالتَّهَادِي تَفَاعُلٌ من الْهَدِيَّةِ فَيَقْتَضِي الْفِعْلَ من اثْنَيْنِ وقد لَا يَحْصُلُ هذا الْمَقْصُودُ من الْأَجْنَبِيِّ وَفَوَاتُ الْمَقْصُودِ من عَقْدٍ مُحْتَمِلٍ لِلْفَسْخِ يُمْنَعُ لُزُومُهُ كَالْبَيْعِ لِأَنَّهُ يَعْدَمُ الرِّضَا وَالرِّضَا في هذا الْبَابِ كما هو شَرْطُ الصِّحَّةِ فَهُوَ شَرْطُ اللُّزُومِ كما في الْبَيْعِ إذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ عَيْبًا لم يَلْزَمْهُ الْعَقْدُ لِعَدَمِ الرِّضَا عِنْدَ عَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ وهو السَّلَامَةُ
كَذَا هذا
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَلَهُ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ على الرُّجُوعِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضَاءٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إلَّا فِيمَا وَهَبَ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ فإنه يَحِلُّ له أَخْذُهُ من غَيْرِ رِضَا الْوَلَدِ وَلَا قَضَاءِ الْقَاضِي إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ لِلْإِنْفَاقِ على نَفْسِهِ
الثَّانِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ على نَفْيِ الْحِلِّ من حَيْثُ الْمُرُوءَةِ وَالْخَلْفِ لَا من حَيْثُ الْحُكْمِ لِأَنَّ نَفْيَ الْحِلِّ يَحْتَمِلُ ذلك قال اللَّهُ عز وجل في رَسُولِنَا عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَحِلُّ لك النِّسَاءُ من بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ من أَزْوَاجٍ } قِيلَ في بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ لَا يَحِلُّ لك من حَيْثُ الْمُرُوءَةِ وَالْخَلْفِ أَنْ تَتَزَوَّجَ عَلَيْهِنَّ بعدما اخْتَرْنَ إيَّاكَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ على الدُّنْيَا وما فيها من الزِّينَةِ لَا من حَيْثُ الْحُكْمِ إذ كان يَحِلُّ له التَّزَوُّجُ بِغَيْرِهِنَّ وَهَذَا تَأْوِيلُ الحديث وَالْآخَرُ أَنَّ الْمُرَادَ منه التَّشْبِيهُ من حَيْثُ ظَاهِرِ الْقُبْحِ مُرُوءَةً وَطَبِيعَةً لَا شَرِيعَةً
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في رِوَايَةٍ أُخْرَى الْعَائِدُ في هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ في قَيْئِهِ وَفِعْلُ الْكَلْبِ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ الشَّرْعِيَّةِ لَكِنَّهُ يُوصَفُ بِالْقُبْحِ الطَّبِيعِيِّ
كَذَا هذا
وَقَوْلُهُ فِيمَا يَهَبُهُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ مَحْمُولٌ على أخذ ( ( ( أخذه ) ) ) مَالِ ابْنِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لَكِنَّهُ سَمَّاهُ رُجُوعًا لِتَصَوُّرِهِ بِصُورَةِ الرُّجُوعِ مَجَازًا وَإِنْ لم يَكُنْ رُجُوعًا حَقِيقَةً على ما نَذْكُرُهُ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّجُوعِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ حتى لَا يَصِحَّ بِدُونِ الْقَضَاءِ وَالرِّضَا لِأَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخُ الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِهِ وَفَسْخُ الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِهِ يَصِحُّ بِدُونِ الْقَضَاءِ وَالرِّضَا كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ في الْبَيْعِ بَعْدَ الْقَبْضِ
وَأَمَّا الْعَوَارِضُ الْمَانِعَةُ من الرُّجُوعِ فَأَنْوَاعٌ منها هَلَاكُ الْمَوْهُوبِ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الرُّجُوعِ في الْهَالِكِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الرُّجُوعِ في قِيمَتِهِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ
____________________

(6/128)


بِمَوْهُوبَةٍ لِانْعِدَامِ وُرُودِ الْعَقْدِ عليها
وَمِنْهَا خُرُوجُ الْمَوْهُوبِ من مِلْكِ الْوَاهِبِ بِأَيِّ سَبَبٍ كان من الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْمَوْتِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ الْمِلْكَ يَخْتَلِفُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ أما بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهِمَا فَظَاهِرٌ وَكَذَا بِالْمَوْتِ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْوَارِثِ غَيْرُ ما كان ثَابِتًا لِلْمُوَرِّثِ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْمِلْكَ عَرَضٌ يَتَجَدَّدُ في كل زَمَانٍ إلَّا أَنَّهُ مع تَجَدُّدِهِ حَقِيقَةً جُعِلَ مُتَجَدِّدًا تَقْدِيرًا في حَقِّ الْمَحَلِّ حتى يَرُدَّ الْوَارِثُ بِالْعَيْبِ وَيُرَدَّ عليه فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ في حَقِّ الْمَالِكِ فَاخْتَلَفَ الْمِلْكَانِ وَاخْتِلَافُ الْمِلْكَيْنِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْعَيْنَيْنِ ثُمَّ لو وَهَبَ عَيْنًا لم يَكُنْ له أَنْ يَرْجِعَ في عَيْنٍ أُخْرَى فَكَذَا إذَا أَوْجَبَهُ مِلْكًا لم يَكُنْ له أَنْ يَفْسَخَ مِلْكًا آخَرَ بِخِلَافِ ما إذَا وَهَبَ لِعَبْدِ رَجُلٍ هِبَةً فَقَبَضَهَا الْعَبْدُ أَنَّ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فيها لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ لم يَخْتَلِفْ لِأَنَّ الْهِبَةَ انْعَقَدَتْ مُوجِبَة لِلْمِلْكِ لِلْمَوْلَى ابْتِدَاء فلم يَخْتَلِف الْمِلْك وَكَذَا الْمُكَاتَبُ إذَا وَهَبَ له هِبَةً وَقَبَضَهَا فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ إنْ أَعْتَقَ الْمُكَاتَبَ لِأَنَّ الْمِلْك الذي أَوْجَبَهُ بِالْهِبَةِ قد اسْتَقَرَّ بِالْعِتْقِ فَكَأَنَّهُ وَهَبَ له بَعْد الْعِتْق فَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَرُدَّ في الرِّقّ فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِع عِنْد أبي يُوسُفَ وَعِنْد مُحَمَّدٍ ليس له أَنْ يَرْجِع وَهَذَا بِنَاء على أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا عَجَزَ عن أَدَاء بَدَل الْكِتَابَة فَالْمَوْلَى يَمْلِك أَكْسَابه بِحُكْمِ الْمِلْك الْأَوَّل أو يَمْلِكهَا مِلْكًا مُبْتَدَأ فَعِنْد أبو ( ( ( أبي ) ) ) يُوسُفَ يَمْلِكهَا بِحُكْمِ الْمِلْك الْأَوَّل فلم يَخْتَلِف الْمِلْك فَكَانَ له أَنْ يَرْجِع وَعِنْد مُحَمَّدٍ يَمْلِكهَا مِلْكًا مُبْتَدَأ فَاخْتَلَفَ الْمِلْكُ فَمَنَعَ الرُّجُوع
وَجْه قَوْل مُحَمَّدٍ أَنَّ مِلْك الْكَسْب لِلْمَوْلَى قد بَطَلَ بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ صَارَ أَحَقّ بِأَكْسَابِهِ بِالْكِتَابَةِ فَبَطَلَ مِلْك الْمَوْلَى بِالْكَسْبِ وَالْبَاطِل لَا يَحْتَمِل الْعَوْد فَكَانَ هذا مِلْكًا مُبْتَدَأ فَيُمْنَع الرُّجُوع كَمِلْكِ الْوَارِث
وَجْه قَوْل أبي يُوسُفَ أَنَّ سَبَب ثُبُوت مِلْك الْكَسْب هو مِلْك الرَّقَبَة وَمِلْك الرَّقَبَة قَائِم بَعْد الْكِتَابَة إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ ظُهُورُ مِلْك الْكَسْب لِلْمَوْلَى لِضَرُورَةِ التَّوَصُّل إلَى الْمَقْصُود من الْكِتَابَة في جَانِب الْمُكَاتَبِ وهو شَرَف الْحُرِّيَّة بِأَدَاءِ بَدَل الْكِتَابَة فإذا عَجَزَ زَالَتْ الضَّرُورَة وَظَهَرَ مِلْك الْكَسْب تَبَعًا لِمِلْكِ الرَّقَبَة فلم يَكُنْ هذا مِلْكًا مُبْتَدَأ
ومنها مَوْت الْوَاهِب لِأَنَّ الْوَارِث لم يُوجِب الْمِلْك لِلْمَوْهُوبِ له فَكَيْفَ يَرْجِع في مِلْك لم يُوجِبهُ
وَمِنْهَا الزِّيَادَة في الْمَوْهُوب زِيَادَة مُتَّصِلَة فَنَقُول جُمْلَة الْكَلَام في زِيَادَة الْهِبَة أنها لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كانت مُتَّصِلَة بِالْأَصْلِ وَإِمَّا إنْ كانت مُنْفَصِلَة عنه فَإِنْ كانت مُتَّصِلَة بِالْأَصْلِ فَإِنَّهَا تَمْنَع الرُّجُوع سَوَاء كانت الزِّيَادَة بِفِعْلِ الْمَوْهُوب له أو لَا بِفِعْلِهِ وَسَوَاء كانت مُتَوَلِّدَةً أو غَيْر مُتَوَلِّدَةٍ نَحْو ما إذَا كان الْمَوْهُوب جَارِيَة هَزِيلَة فَسَمِنَتْ أو دَارًا فَبَنَى فيها أو أَرْضًا فَغَرَسَ فيها غَرْسًا أو نَصَبَ دُولَابًا وَغَيْر ذلك مِمَّا يُسْتَقَى بِهِ وهو مُثَبَّت في الْأَرْضِ مَبْنِيٌّ عليها على وَجْه يَدْخُل في بَيْعِ الْأَرْض من غَيْر تَسْمِيَة قَلِيلًا كان أو كَثِيرًا أو كان الْمَوْهُوب ثَوْبًا فَصَبَغَهُ بِعُصْفُرٍ أو زَعْفَرَان أو قَطَّعَهُ قَمِيصًا وَخَاطَهُ أو جُبَّةً وَحَشَاهُ أو قَبَاءً لِأَنَّهُ لَا سَبِيل إلَى الرُّجُوع في الْأَصْل مع الزيادة ( ( ( زيادة ) ) ) لِأَنَّ الزِّيَادَة لَيْسَتْ بِمَوْهُوبَةٍ إذ لم يَرِد عليها الْعَقْد فَلَا يَجُوز أَنْ يَرِد عليها الْفَسْخ وَلَا سَبِيل إلَى الرُّجُوع في الْأَصْل بِدُونِ الزِّيَادَة لِأَنَّهُ غَيْر مُمْكِن فَامْتَنَعَ الرُّجُوع أَصْلًا
وَإِنْ صَبَغَ الثَّوْب بِصِبْغٍ لَا يَزِيد فيه أو يَنْقُصهُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ لِأَنَّ الْمَانِع من الرُّجُوع هو الزِّيَادَة فإذا لم يَزِدْهُ الصِّبْغ في الْقِيمَة اُلْتُحِقَتْ الزِّيَادَة بِالْعَدَمِ وَإِنْ كانت الزِّيَادَة مُنْفَصِلَة فَإِنَّهَا لَا تَمْنَع الرُّجُوع سَوَاء كانت مُتَوَلِّدَة من الْأَصْل كَالْوَلَدِ وَاللَّبَن والتمر ( ( ( والثمر ) ) ) أو غَيْر مُتَوَلِّدَة كَالْأَرْشِ وَالْعُقْر وَالْكَسْب وَالْغَلَّة لِأَنَّ هذه الزَّوَائِد لم يَرِد عليها الْعَقْد فَلَا يَرِد عليها الْفَسْخ وَإِنَّمَا وَرَدَ على الْأَصْل وَيُمْكِن فَسْخ الْعَقْد في الْأَصْل دُون الزِّيَادَة بِخِلَافِ الْمُتَّصِلَة وَبِخِلَافِ وَلَد الْمَبِيع أَنَّهُ يَمْنَعُ الرَّدّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ الْمَانِع هُنَاكَ هو الرِّبَا لِأَنَّهُ يَبْقَى الْوَلَد بَعْد رَدَّ الْأُمّ بِكُلِّ الثَّمَن مَبِيعًا مَقْصُودًا لَا يُقَابِلهُ عِوَض وَهَذَا تَفْسِير الرِّبَا
وَمَعْنَى الرِّبَا لَا يُتَصَوَّر في الْهِبَة لِأَنَّ جَرَيَان الرِّبَا يَخْتَصُّ بِالْمُعَاوَضَاتِ فَجَازَ أَنْ يَبْقَى الْوَلَد مَوْهُوبًا مَقْصُودًا بِلَا عِوَض بِخِلَافِ الْمَبِيع وَكَذَا الزِّيَادَة في سِعْر لَا تَمْنَع الرُّجُوع لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لها بِالْمَوْهُوبِ وَإِنَّمَا هِيَ رَغْبَة يُحْدِثُهَا اللَّه تَعَالَى في الْقُلُوب فَلَا تَمْنَع الرُّجُوع وَلِهَذَا لم تُعْتَبَر هذه الزِّيَادَة في أُصُول الشَّرْع فَلَا تُغَيِّر ضَمَان الرَّهْن وَلَا الْغَصْب وَلَا تَمْنَع الرَّدّ بِالْعَيْبِ
وَأَمَّا نُقْصَان الْمَوْهُوب فَلَا يَمْنَع الرُّجُوع لِأَنَّ ذلك رُجُوع في بَعْض الْمَوْهُوب وَلَهُ أَنْ يَرْجِع في بَعْض الْمَوْهُوب مع بَقَائِهِ بِكَمَالِهِ فَكَذَا إذَا نَقَصَ وَلَا يَضْمَن الْمَوْهُوب له النُّقْصَان لِأَنَّ قَبْض الْهِبَة ليس بِقَبْضٍ مَضْمُون
وَمِنْهَا الْعِوَض لِمَا رَوَيْنَا عن رَسُول اللَّه أَنَّهُ قال الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ
____________________

(6/129)


ما لم يُثِبْ منها أَيْ ما لم يُعَوَّض وَلِأَنَّ التَّعْوِيض دَلِيل على أَنَّ مَقْصُود الْوَاهِب هو الْوُصُول إلَى الْعِوَض فإذا وَصَلَ فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُوده فَيُمْنَع الرُّجُوع وَسَوَاء قَلَّ الْعِوَض أو كَثُرَ لِمَا رَوَيْنَا من الْحَدِيث من غَيْر فَصْل
فَنَقُول الْعِوَض نَوْعَانِ مُتَأَخِّر عن الْعَقْد وَمَشْرُوط في الْعَقْد
أَمَّا الْعِوَض الْمُتَأَخِّر عن الْعَقْد فَالْكَلَام فيه يَقَع في مَوْضِعَيْنِ أَحَدهمَا في بَيَان شَرْط جَوَاز هذا التَّعْوِيض وَصَيْرُورَة الثَّانِي عِوَضًا
وَالثَّانِي في بَيَان مَاهِيَّة هذا التَّعْوِيض
أَمَّا الْأَوَّل فَلَهُ شَرَائِط ثَلَاثَة الْأَوَّل مُقَابَلَة الْعِوَض بِالْهِبَةِ وهو أَنْ يَكُونَ التَّعْوِيض بِلَفْظٍ يَدُلّ على الْمُقَابَلَة نَحْو أَنْ يَقُولَ هذا عِوَض من هِبَتك أو بَدَل عن هِبَتك أو مَكَان هِبَتك أو نَحَلْتُكَ هذا عن هِبَتك أو تَصَدَّقْت بهذا بَدَلًا عن هِبَتك أو كَافَأْتُك أو جَازَيْتُك أو أَتَيْتُك وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى لِأَنَّ الْعِوَض اسْم لِمَا يُقَابِل الْمُعَوَّضَ فَلَا بُدَّ من لَفْظ يَدُلّ على الْمُقَابَلَة حتى لو وَهَبَ لِإِنْسَانٍ شيئا وَقَبَضَهُ الْمَوْهُوب له
ثُمَّ إنَّ الْمَوْهُوب له أَيْضًا وَهَبَ شيئا لِلْوَاهِبِ ولم يَقُلْ هذا عِوَض من هِبَتك وَنَحْو ذلك مِمَّا ذَكَرْنَا لم يَكُنْ عِوَضًا بَلْ كان هِبَة مبتدأ ( ( ( مبتدأة ) ) ) وَلِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا حَقّ الرُّجُوع لِأَنَّهُ لم يَجْعَل الْبَاقِيَ مُقَابَلًا بِالْأَوَّلِ لِانْعِدَامِ ما يَدُلّ على الْمُقَابَلَة فَكَانَتْ هِبَة مُبْتَدَأَة فَيَثْبُت فيها الرُّجُوع
وَالثَّانِي أن لَا يَكُون الْعِوَض في الْعَقْد مَمْلُوكًا بِذَلِكَ الْعَقْد حتى لو عَوَّضَ الْمَوْهُوب له الْوَاهِبَ بِالْمَوْهُوبِ لَا يَصِحّ وَلَا يَكُون عِوَضًا
وَإِنْ عَوَّضَهُ بِبَعْضِ الْمَوْهُوب عن بَاقِيه فَإِنْ كان الْمَوْهُوب على حَالِهِ التي وَقَعَ عليها الْعَقْد لم يَكُنْ عِوَضًا لِأَنَّ التَّعْوِيض بِبَعْضِ الْمَوْهُوب لَا يَكُون مَقْصُود الْوَاهِب عَادَة إذْ لو كان ذلك مَقْصُوده لَأَمْسَكَهُ ولم يَهَبهُ فلم يَحْصُل مَقْصُوده بِتَعْوِيضِ بَعْض ما دخل تَحْت الْعَقْد فَلَا يَبْطُل حَقّ الرُّجُوع وَإِنْ كان الْمَوْهُوب قد تَغَيَّرَ عن حَاله تَغَيُّرًا يَمْنَع الرُّجُوع فإن بَعْض الْمَوْهُوب يَكُون عِوَضًا عن الْبَاقِي لِأَنَّهُ بِالتَّغَيُّرِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ عَيْنٍ أُخْرَى فَصَلُحَ عِوَضًا هذا إذَا وَهَبَ شيئا وَاحِدًا أو شَيْئَيْنِ في عَقْد وَاحِد فَأَمَّا إذَا وَهَبَ شَيْئَيْنِ في عَقْدَيْنِ فَعَوَّضَ أَحَدهمَا عن الْآخَر فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَة يكون عِوَضًا وقال أبو يُوسُفَ لَا يَكُون عِوَضًا
وَجْه قَوْل أبي يُوسُفَ أن حَقّ الرُّجُوع ثَابِت في غَيْر ما عُوِّضَ لِأَنَّهُ مَوْهُوب وَحَقّ الرُّجُوع في الْهِبَة ثَابِت شَرْعًا فإذا عُوِّضَ يَقَع عن الْحَقّ الْمُسْتَحَقّ شَرْعًا فَلَا يَقَع مَوْقِع الْعِوَض بِخِلَافِ ما إذَا تَغَيَّرَ الْمَوْهُوب فَجَعَلَ بَعْضه عِوَضًا عن الْبَاقِي أَنَّهُ يَجُوز وكان مكانا ( ( ( ملكا ) ) ) عِوَضًا لِأَنَّ حَقّ الرُّجُوع قد بَطَلَ بِالتَّغَيُّرِ فَجَازَ أَنْ يَقَع مَوْقِع الْعِوَض
وَجْه قَوْلهمَا أنهما مُلِكَا بِعَقْدَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ فَجَازَ أَنْ يُجْعَل أَحَدهمَا عِوَضًا عن الْآخَر وَهَذَا لِأَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَكُون مَقْصُود الْوَاهِب من هِبَته الثَّانِيَة عَوْدَ الْهِبَة الْأُولَى لِأَنَّ الْإِنْسَان قد يَهَب شيئا ثُمَّ يَبْدُو له الرُّجُوع فَصَارَ الْمَوْهُوب بِأَحَدِ الْعَقْدَيْنِ بِمَنْزِلَةِ عَيْن أُخْرَى بِخِلَافِ ما إذَا عُوِّضَ بَعْض الْمَوْهُوب عن الْبَاقِي وهو على حَاله التي وَقَعَ عليها الْعَقْد لِأَنَّ بَعْض الْمَوْهُوب لَا يَكُون مَقْصُود الْوَاهِب فإن الْإِنْسَان لَا يَهَب شيئا لِيُسَلَّمَ له بَعْضه عِوَضًا عن بَاقِيهِ
وَقَوْله حَقّ الرُّجُوع ثَابِت شَرْعًا نعم لَكِنَّ الرُّجُوعَ في الْهِبَة ليس بِوَاجِبٍ فَلَا يَمْتَنِع وُقُوعه عن جِهَة أُخْرَى كما لو بَاعَهُ منه
وَلَوْ وَهَبَ له شيئا وَتَصَدَّقَ عليه بِشَيْءِ فَعَوَّضَهُ الصَّدَقَة من الْهِبَة كانت عِوَضًا بِالْإِجْمَاعِ على اخْتِلَاف الْأَصْلَيْنِ
أَمَّا على أَصْل أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلَا يُشْكِل لِأَنَّهُمَا لو مُلِكَا بِعَقْدَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَدهمَا عِوَضًا عن الْآخَر فَعِنْد اخْتِلَاف الْعَقْدَيْنِ أَوْلَى
وَأَمَّا على أَصْل أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّ الصَّدَقَة لَا يَثْبُت فيها حَقّ الرُّجُوع فَوَقَعَتْ مَوْقِع الْعِوَض
وَالثَّالِث سَلَامَة الْعِوَض لِلْوَاهِبِ فَإِنْ لم يَسْلَمْ بِأَنْ اُسْتُحِقَّ من يَده لم يَكُنْ عِوَضًا وَلَهُ أَنْ يَرْجِع في الْهِبَة لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّ التَّعْوِيض لم يَصِحّ فَكَأَنَّهُ لم يُعَوَّض أَصْلًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِع إنْ كان الْمَوْهُوب قَائِمًا بِعَيْنِهِ لم يَهْلِك ولم يَزْدَدْ خَيْرًا ولم يَحْدُث فيه ما يَمْنَعُ الرُّجُوع فَإِنْ كان قد هَلَكَ أو اسْتَهْلَكَهُ الْمَوْهُوب له لم يَضْمَنْهُ كما لو هَلَكَ أو اسْتَهْلَكَهُ قبل التَّعْوِيض وَكَذَا إذَا إزداد خَيْرًا لم يَضْمَن كما قبل التَّعْوِيض
وَإِنْ اُسْتُحِقَّ بَعْض الْعِوَض وَبَقِيَ الْبَعْض فَالْبَاقِي عِوَض عن كُلّ الْمَوْهُوب وَإِنْ شَاءَ رَدَّ ما بَقِيَ من الْعِوَض وَيَرْجِع في كُلّ الْمَوْهُوب إنْ كان قَائِمًا في يَده ولم يَحْدُثْ فيه ما يَمْنَع الرُّجُوع وَهَذَا قَوْل أَصْحَابنَا الثَّلَاثَة
وقال زُفَرُ يَرْجِع في الْهِبَة بِقَدْرِ الْمُسْتَحَقّ من الْعِوَض
وَجْه قَوْله أن مَعْنَى الْمُعَاوَضَة ثَبَتَ من الْجَانِبَيْنِ جميعا فَكَمَا أَنَّ الثَّانِيَ عِوَض عن الْأَوَّل فَالْأَوَّل يَصِير عِوَضًا عن الثَّانِي ثُمَّ لو اُسْتُحِقَّ بَعْض الْهِبَة الْأُولَى كان لِلْمَوْهُوبِ له أَنْ
____________________

(6/130)


يَرْجِع في بَعْض الْعِوَض فَكَذَا إذَا اُسْتُحِقَّ بَعْض الْعِوَض كان لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِع في بَعْض الْهِبَة تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ
وَلَنَا أَنَّ الْبَاقِيَ يَصْلُح عِوَضًا عن كُلّ الْهِبَة أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو لم يُعَوِّضهُ إلَّا بِهِ في الِابْتِدَاء كان عِوَضًا مَانِعًا عن الرُّجُوع فَكَذَا في الِانْتِهَاء بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الْبَقَاء أَسْهَلُ إلَّا أَنَّ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَرْجِع في الْهِبَة لِأَنَّ الْمَوْهُوب له غَرَّهُ حَيْثُ عَوَّضَهُ لِإِسْقَاطِ الرُّجُوع بِشَيْءٍ لم يُسَلَّمْ له فَيَثْبُتُ له الْخِيَار
وَأَمَّا سَلَامَة الْمُعَوَّض وهو الْمَوْهُوب لِلْمَوْهُوبِ له فَشَرْطه لُزُوم التَّعْوِيض حتى لو اُسْتُحِقَّ الْمَوْهُوب كان له أَنْ يَرْجِع فِيمَا عُوِّضَ لِأَنَّهُ إنَّمَا عُوِّضَ لِيُسْقِط حَقّ الرُّجُوع في الْهِبَة فإذا اُسْتُحِقَّ الْمَوْهُوب تَبَيَّنَ أَنَّ حَقّ الرُّجُوع لم يَكُنْ ثَابِتًا فَصَارَ كَمَنْ صَالَحَ عن دَيْن ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا دَيْن عليه وَكَذَلِكَ لو اُسْتُحِقَّ نِصْف الْمَوْهُوب فَلِلْمَوْهُوبِ له أَنْ يَرْجِع في نِصْف الْعِوَض إنْ كان الْمَوْهُوب مِمَّا يَحْتَمِل الْقِسْمَة لِأَنَّهُ إنَّمَا جُعِلَ عِوَضًا عن حَقِّ الرُّجُوع في جَمِيع الْهِبَة فإذا لم يَسْلَم له بَعْضه يَرْجِع في الْعِوَض بِقَدْرِهِ سَوَاء زَادَ الْعِوَض أو نَقَصَ في السِّعْر أو زَادَ في الْبَدَن أو نَقَصَ في الْبَدَن كان له أَنْ يَأْخُذ نِصْفه وَنِصْف النُّقْصَان كَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في الْإِمْلَاء وَإِنَّمَا لم تَمْنَع الزِّيَادَةُ عن الرُّجُوع في الْعِوَض لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ له أَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقّ فَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِد فَيَثْبُت الْفَسْخ في الزَّوَائِد وَإِنْ قال الْمَوْهُوب له أَرُدّ ما بَقِيَ من الْهِبَة وَأَرْجِع في الْعِوَض كُلّه لم يَكُنْ له ذلك لِأَنَّ الْعِوَض لم يَكُنْ مَشْرُوطًا في الْعَقْد بَلْ هو مُتَأَخِّر عنه وَالْعِوَض الْمُتَأَخِّر ليس بِعِوَضٍ عن الْعَيْن حَقِيقَة بَلْ هو لِإِسْقَاطِ الرُّجُوع وقد حَصَلَ له سُقُوط الرُّجُوع فِيمَا بَقِيَ من الْهِبَة فلم يَكُنْ له أَنْ يَرْجِع في الْعِوَض فَإِنْ كان الْعِوَض مُسْتَهْلَكًا ضَمِنَ قَابِض الْعِوَض بِقَدْرِ ما وَجَبَ الرُّجُوع لِلْمَوْهُوبِ له فيه من الْعِوَض وَإِنْ اُسْتُحِقَّ كُلُّ الْهِبَة وَالْعِوَضُ مُسْتَهْلَك يَضْمَن كُلّ قِيمَة الْعِوَض
كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْل من غَيْر خِلَاف وهو إحْدَى رِوَايَتَيْ بِشْرٍ عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وَرَوَى بِشْرٌ رِوَايَة أُخْرَى عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَضْمَن شيئا وهو قَوْل أبي يُوسُفَ
وَجْه رِوَايَة الْأَصْل أَنَّ الْقَبْض في الْعِوَض ما وَقَعَ مَجَّانًا وَإِنَّمَا وَقَعَ مُبْطِلًا حَقّ الرُّجُوع في الْأَوَّل فَإِنْ لم يَسْلَم الْمَقْصُود منه بَقِيَ الْقَبْض مَضْمُونًا فَكَمَا يَرْجِع بِعَيْنِهِ لو كان قَائِمًا يَرْجِع بِقِيمَتِهِ إذَا هَلَكَ
وَجْه الرِّوَايَة الْأُخْرَى أَنَّ الْعِوَض الْمُتَأَخِّر عن الْعَقْدِ في حُكْم الْهِبَة الْمُبْتَدَأَة حتى يُشْتَرَط فيه شَرَائِط الْهِبَة من الْقَبْض وَالْحِيَازَة وَالْمَوْهُوب غَيْر مَضْمُون بِالْهَلَاكِ هذا إذَا كان الْمَوْهُوب أو الْعِوَض شيئا لَا يَحْتَمِل الْقِسْمَة فَاسْتَحَقَّ بَعْضه
فَأَمَّا إذَا كان مِمَّا يَحْتَمِل الْقِسْمَة فَاسْتَحَقَّ بَعْض أَحَدهمَا بَطَلَ الْعِوَض إنْ كان هو الْمُسْتَحَقّ وَكَذَا تَبْطُل الْهِبَة إنْ كانت هِيَ الْمُسْتَحَقَّة فإذا بَطَلَ الْعِوَض رَجَعَ في الْهِبَة وإذا بَطَلَتْ الْهِبَة يَرْجِع في الْعِوَض لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْهِبَة أو ( ( ( والتعويض ) ) ) التعويض وَقَعَ في مَشَاعٍ يَحْتَمِل الْقِسْمَة وَذَلِكَ بَاطِل
الثَّانِي بَيَان مَاهِيَّته فَالتَّعْوِيض الْمُتَأَخِّر عن الْهِبَة هِبَة مُبْتَدَأَة بِلَا خِلَاف من أَصْحَابنَا يَصِحّ بِمَا تَصِحّ بِهِ الْهِبَة وَيَبْطُل بِمَا تَبْطُل بِهِ الْهِبَة لَا يُخَالِفهَا إلَّا في إسْقَاط الرُّجُوع على مَعْنَى أَنَّهُ يَثْبُت حَقّ الرُّجُوع في الْأُولَى وَلَا يَثْبُت في الثَّانِيَة فَأَمَّا فِيمَا وَرَاء ذلك فَهُوَ في حُكْم هِبَةٍ مُبْتَدَأَة لِأَنَّهُ تَبَرُّع بِتَمْلِيكِ الْعَيْن لِلْحَالِّ وَهَذَا مَعْنَى الْهِبَة إلَّا أَنَّهُ تَبَرَّعَ بِهِ لِيُسْقِط حَقّ الرُّجُوع عن نَفْسه في الْهِبَة الْأُولَى فَكَانَتْ هِبَة مُبْتَدَأَة مُسْقِطَة لِحَقِّ الرُّجُوع في الْهِبَة الْأُولَى
وَلَوْ وَجَدَ الْمَوْهُوب له بِالْمَوْهُوبِ عَيْبًا فَاحِشًا لم يَكُنْ له أَنْ يَرُدّهُ وَيَرْجِع في الْعِوَض وَكَذَلِكَ الْوَاهِب إذَا وَجَدَ بِالْعِوَضِ عَيْبًا لم يَكُنْ له أَنْ يَرُدّ الْعِوَض وَيَرْجِع في الْهِبَة لِأَنَّ الرَّدّ بِالْعَيْبِ من خَوَاصّ الْمُعَاوَضَات وَالْعِوَض إذَا لم يَكُنْ مَشْرُوطًا في الْعَقْد لم يَكُنْ عِوَضًا على الْحَقِيقَة بَلْ كان هِبَة مُبْتَدَأَة وَلَا يَظْهَر مَعْنَى الْعِوَض فيه إلَّا في إسْقَاط الرُّجُوع خَاصَّة فإذا قَبَضَ الْوَاهِبُ الْعِوَضَ فَلَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ على صَاحِبه فِيمَا مَلَّكَهُ
أَمَّا الْوَاهِبُ فَلِأَنَّهُ قد سَلَّمَ له الْعِوَض عن الْهِبَة وَإِنَّهُ يَمْنَع الرُّجُوع
وَأَمَّا الْمَوْهُوب له فَلِأَنَّهُ قد سَلَّمَ له ما هو في مَعْنَى الْعِوَض في حَقّه وهو سُقُوط حَقّ الرُّجُوع فَيَمْنَعهُ من الرُّجُوع لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ ما لم يُثِبْ منها وَسَوَاء عَوَّضَهُ الْمَوْهُوب له أو أَجْنَبِيّ بِأَمْرِ الْمَوْهُوب له أو بِغَيْرِ أَمْرِهِ لم يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِع في هِبَته وَلَا لِلْمُعَوِّضِ أَنْ يَرْجِع في الْعِوَض على الْوَاهِب وَلَا على الْمَوْهُوب له
أَمَّا الْوَاهِب فَإِنَّمَا لم يَرْجِع في هِبَته لِأَنَّ الْأَجْنَبِيّ إنَّمَا عَوَّضَ بِأَمْرِ الْمَوْهُوب له قام تَعْوِيضه مَقَام تَعْوِيضه بِنَفْسِهِ وَلَوْ عَوَّضَ بِنَفْسِهِ
____________________

(6/131)


لم يَرْجِع فَكَذَا إذَا عَوَّضَ الْأَجْنَبِيّ بِأَمْرِهِ وَإِنْ عَوَّضَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَقَدْ تَبَرَّعَ بِإِسْقَاطِ الْحَقّ عنه وَالتَّبَرُّع بِإِسْقَاطِ الْحَقّ عن الْغَيْر جَائِز كما لو تَبَرَّعَ بِمُخَالَعَةِ امْرَأَة من زَوْجهَا
وَأَمَّا الْمُعَوِّضُ فإنه لَا يَرْجِع على الْوَاهِب لِأَنَّ مَقْصُوده من التَّعْوِيض سَلَامَة الْمَوْهُوب لِلْمَوْهُوبِ له وَإِسْقَاط حَقّ التَّبَرُّع وقد سَلِمَ له ذلك وَإِنَّمَا لم يَرْجِع على الْمَوْهُوب له
أَمَّا إذَا كان بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلِأَنَّهُ تَبَرُّع بِإِسْقَاطِ الْحَقّ عنه فَلَا يَمْلِك أَنْ يَجْعَل ذلك مَضْمُونًا عليه
وَأَمَّا إذَا عَوَّضَ بِأَمْرِهِ لَا يَرْجِع عليه أَيْضًا إلَّا إذَا قال له عَوِّضْ عَنِّي على أَنِّي ضَامِن لِأَنَّهُ إذَا أَمَرَهُ بِالتَّعْوِيضِ ولم يَضْمَن له فَقَدْ أَمَرَهُ بِمَا ليس بِوَاجِبٍ عليه بَلْ هو مُتَبَرِّع بِهِ فلم يُوجَب ذلك الضَّمَان على الْآمِر إلَّا بِشَرْطِ الضَّمَان
وَعَلَى هذا قالوا فِيمَنْ قال لِغَيْرِهِ أَطْعِمْ عن كَفَّارَة يَمِينِي أو أَدِّ زَكَاتِي فَفَعَلَ لَا يَرْجِعُ بِذَلِكَ على الْآمِر إلَّا أَنْ يَقُول له على أَنِّي ضَامِن لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِمَا ليس بِمَضْمُونٍ عليه بِخِلَافِ ما إذَا أَمَرَهُ غَيْره بِقَضَاءِ الدَّيْن فَقَضَاهُ أَنَّهُ يَرْجِع على الْآمِر وَإِنْ لم يَقُلْ على أَنِّي ضَامِن نَصًّا لِأَنَّ قَضَاء الدَّيْن مَضْمُون على الْآمِر فإذا أَمَرَهُ بِهِ فَقَدْ ضَمِنَ له
وَلَوْ عَوَّضَ الْمَوْهُوب له الْوَاهِب عن نِصْف الْهِبَة كان عِوَضًا عن نِصْفهَا وكان لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِع في النِّصْف الْآخَر وَلَا يَرْجِع فِيمَا عُوِّضَ عنه لِأَنَّ حَقّ الرُّجُوع في الْهِبَة مِمَّا يَتَجَزَّأ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو رَجَعَ في نِصْف الْهِبَة ابْتِدَاء دُون النِّصْف جَازَ فَجَازَ أَنْ يَثْبُت حَقّ الرُّجُوع في النِّصْف بِدُونِ النِّصْف بِخِلَافِ الْعَفْو عن الْقِصَاص وَالطَّلَاق لِأَنَّ ذلك مِمَّا لَا يَتَجَزَّأ فَكَانَ إسْقَاط الْحَقّ عن الْبَعْض إسْقَاطًا عن الْكُلّ
وَأَمَّا الْعِوَض الْمَشْرُوط في الْعَقْد فَإِنْ قال وَهَبْتُ لَك هذا الشَّيْءَ على أَنْ تُعَوِّضَنِي هذا الثَّوْبَ فَقَدْ اُخْتُلِفَ في مَاهِيَّة هذا الْعَقْد قال أَصْحَابنَا الثَّلَاثَة رضي اللَّهُ عَنْهُمْ إن عَقْده عَقْد هِبَة وَجَوَازه جَوَاز بَيْعِ وَرُبَّمَا عَبَّرُوا أَنَّهُ هِبَة ابْتِدَاء بَيْعٌ انْتِهَاء حتى لَا يَجُوز في الْمَشَاع الذي يَنْقَسِم وَلَا يَثْبُت الْمِلْك في كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا قبل الْقَبْض وَلِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِع في سِلْعَته ما لم يَقْبِضَا وَكَذَا إذَا قَبَضَ أَحَدهمَا ولم يَقْبِض الْآخَر فَلِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِع الْقَابِض وَغَيْرُ الْقَابِضِ فيه سَوَاء حتى يَتَقَابَضَا جميعا وَلَوْ تَقَابَضَا كان ذلك بِمَنْزِلَةِ الْبَيْع يَرُدُّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا بِالْعَيْبِ وَعَدَم الرُّؤْيَة وَيَرْجِع في الِاسْتِحْقَاق وَتَجِب الشُّفْعَة إذَا كان غَيْر مَنْقُول
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَقْده عَقْد بَيْعٍ وَجَوَازه جَوَاز بَيْعٍ ابْتِدَاء وَانْتِهَاء وَتَثْبُت فيه أَحْكَام الْبَيْع فَلَا يَبْطُل بِالشُّيُوعِ وَيُفِيد الْمِلْك بِنَفْسِهِ من غَيْر شَرِيطَة الْقَبْض وَلَا يَمْلِكَانِ الرُّجُوع
وَجْه قَوْله أن مَعْنَى الْبَيْع مَوْجُود في هذا الْعَقْد لِأَنَّ الْبَيْع تَمْلِيك الْعَيْن بِعِوَضٍ وقد وُجِدَ إلَّا أَنَّهُ اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَة وَاخْتِلَافهَا لَا يُوجِب اخْتِلَاف الْحُكْم كَلَفْظِ الْبَيْع مع لَفْظ التَّمْلِيك
وَلَنَا أَنَّهُ وُجِدَ في هذا الْعَقْد لَفْظ الْهِبَة وَمَعْنَى الْبَيْع فَيُعْطَى شَبَهَ الْعَقْدَيْنِ فَيُعْتَبَر فيه الْقَبْض وَالْحِيَازَة عَمَلًا بشبه ( ( ( يشبه ) ) ) الْهِبَة وَيَثْبُت فيه حَقّ الرَّدّ بِالْعَيْبِ وَعَدَم الرُّؤْيَة في حَقّ الشُّفْعَة عَمَلًا بشبه ( ( ( يشبه ) ) ) الْبَيْع عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَان وَاَللَّه عز وجل أَعْلَم
وَمِنْهَا ما هو في مَعْنَى الْعِوَض وهو ثَلَاثَة أَنْوَاع الْأَوَّل صِلَة الرَّحِم الْمَحْرَم فَلَا رُجُوع في الْهِبَة لِذِي رَحِم مَحْرَمٍ من الْوَاهِب وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرْجِع الْوَالِد فِيمَا يَهَب لِوَلَدِهِ احْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا عن النَّبِيّ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ في هِبَتِهِ إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يَهَبُ لولده ( ( ( ولده ) ) ) وَهَذَا نَصٌّ في الْبَاب
وَلَنَا ما رَوَيْنَا عن رَسُول اللَّه أَنَّهُ قال الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ ما لم يُثِبْ منها أَيْ لم يُعَوَّض وَصِلَةُ الرَّحِم عِوَض مَعْنًى لِأَنَّ التَّوَاصُل سَبَب التَّنَاصُر وَالتَّعَاوُن في الدُّنْيَا فَيَكُون وَسِيلَة إلَى اسْتِيفَاء النُّصْرَة وَسَبَب الثَّوَاب في الدَّار الْآخِرَة فَكَانَ أَقْوَى من الْمَال
وقد رُوِيَ عن رَسُول اللَّه أَنَّهُ قال اتَّقُوا اللَّهَ وَصِلُوا الْأَرْحَامَ فإنه أَبْقَى لَكُمْ في الدُّنْيَا وَخَيْرٌ لَكُمْ في الدَّارِ الْآخِرَةِ فَدَخَلَ تَحْت النَّصّ
وَرُوِيَ عن سَيِّدنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال من وَهَبَ هِبَة لِصِلَةِ رَحِم أو على وَجْه صَدَقَة فإنه لَا يَرْجِع فيها
وَهَذَا نَصٌّ في الْبَاب
وَالْحَدِيث مَحْمُول على النَّهْيِ عن شِرَاء الْمَوْهُوب لَكِنَّهُ سَمَّاهُ رُجُوعًا مَجَازًا لِتَصَوُّرِهِ بِصُورَةِ الرُّجُوع كما رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ له على رَجُل ثُمَّ وَجَدَهُ يُبَاع في السُّوق فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ فَسَأَلَ رَسُول اللَّه عن ذلك فقال لَا تَعُدْ في صَدَقَتِكَ
وَسَيِّدنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه قَصَدَ الشِّرَاء لَا الْعَوْدَ في الصَّدَقَة لَكِنْ سَمَّاهُ عَوْدًا لِتَصَوُّرِهِ بِصُورَةِ الْعَوْدِ وهو نَهْيُ نَدْبٍ لِأَنَّ الْمَوْهُوب له يَسْتَحِي فَيُسَامِحهُ في ثَمَنه فَيَصِير كَالرَّاجِعِ في بَعْضه وَالرُّجُوع مَكْرُوه وَهَذَا
____________________

(6/132)


الْمَعْنَى لَا يُوجَد في هِبَة الْوَالِد لِوَلَدِهِ لِأَنَّ الْوَلَد لَا يَسْتَحِي عن الْمُضَايَقَة في الثَّمَن لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَن لِمُبَاسَطَةٍ بَيْنَهُمَا عَادَةً فلم يُكْرَه الشِّرَاءُ
حَمَلْنَاهُ على هذا تَوْفِيقًا بين الدَّلِيلَيْنِ صِيَانَة لَهُمَا عن التَّنَاقُض
وَلَوْ وَهَبَ لِذِي رَحِم مَحْرَمٍ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ لِقُصُورِ مَعْنَى الصِّلَة في هذه الْقَرَابَة فَلَا يَكُون في مَعْنَى الْعِوَض
وَكَذَا إذَا وَهَبَ لِذِي مَحْرَمٍ لَا رَحِم له لِانْعِدَامِ مَعْنَى الصِّلَة أَصْلًا
وَلَوْ وَهَبَ لِعَبْدٍ ذِي رَحِم وَمَوْلَاهُ أجنبي ( ( ( أجنبيا ) ) ) فأما إن كان الْمَوْلَى ذَا رَحِم مَحْرَمٍ من الْوَاهِب وَالْعَبْد أَجْنَبِيًّا وأما إن كان الْمَوْلَى وَالْعَبْدُ جميعا ذَوِي رَحِمٍ من الْوَاهِبِ فَإِنْ كان الْعَبْدُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ من الْوَاهِبِ وَالْمَوْلَى أجنبي ( ( ( أجنبيا ) ) ) فَلَهُ أَنْ يَرْجِع بِلَا خِلَاف بين أَصْحَابنَا لِأَنَّ حُكْم الْعَقْد يَقَع لِلْمَوْلَى وَإِنَّمَا الْوَاقِع لِلْعَبْدِ صُورَة الْعَقْد بِلَا حُكْم وإنه لَا يُفِيد مَعْنَى الْعِلَّةِ فَانْعَدَمَ مَعْنَى الْعِوَض أَصْلًا وَإِنْ كان الْمَوْلَى ذَا رَحِم مَحْرَمٍ من الْوَاهِب وَالْعَبْد أجنبي ( ( ( أجنبيا ) ) ) اخْتَلَفُوا فيه قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه يَرْجِع وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَرْجِع
وَجْه قَوْلهمَا أَنَّ بُطْلَانَ حَقّ الرُّجُوع بِحُصُولِ الصِّلَة لِأَنَّهَا في مَعْنَى الْعِوَض على ما بَيَّنَّا وَمَعْنَى الصِّلَة إنَّمَا يَتَحَقَّق لِوُقُوعِ الْحُكْم لِلْقَرِيبِ وَالْحُكْم وَقَعَ لِلْمَوْلَى فَصَارَ كَأَنَّ الْوَاهِب أَوْجَبَ الْهِبَة له ابْتِدَاء وإنه يَمْنَع الرُّجُوع كَذَا هذا
وَجْه قَوْل أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمِلْك لم يَثْبُت لِلْمَوْلَى بِالْهِبَةِ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ لِلْعَبْدِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَبْض إلَيْهِ لَا إلَى الْمَوْلَى وَإِنَّمَا ثَبَتَ ضَرُورَة تَعَدُّد الْإِثْبَات لِلْعَبْدِ فَأُقِيم مُقَامه وإذا ثَبَتَ الْمِلْك له بِالْهِبَةِ لم يَحْصُل مَعْنَى الصِّلَة بِالْعَقْدِ فَلَا يَمْنَع الرُّجُوع مع ما أَنَّ الْمِلْك يَثْبُت له بِالْهِبَةِ لَكِنَّ الْهِبَةَ وَقَعَتْ لِلْمَوْلَى من وَجْهٍ وَلِلْعَبْدِ من وَجْه لِأَنَّ الْإِيجَاب أُضِيف إلَى الْعَبْد وَالْمِلْك وَقَعَ لِلْمَوْلَى إذَا لم يَكُنْ دَيْن فلم يَتَكَامَل مَعْنَى الصِّلَة في الْهِبَة فَصَارَتْ كَالْهِبَةِ لِذِي رَحِم مَحْرَمٍ فَإِنْ كَانَا جميعا ذَا رَحِم مَحْرَمٍ من الْوَاهِب فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ قِيَاس قَوْل أبي حَنِيفَةَ أَنْ يَرْجِع لِأَنَّ قَرَابَة الْعَبْد لَا تُؤَثِّرُ في إسْقَاط الرُّجُوع لِأَنَّ الْمِلْك لم يَقَع له وَقَرَابَة الْمَوْلَى أَيْضًا لَا تُؤَثِّرُ فيه لِأَنَّ الْإِيجَاب لم يَقَع له وَحَقّ الرُّجُوع هو الْأَصْل في الْهِبَة وَالِامْتِنَاع مُعَارِضُ الْمُسْقِطِ ولم يُوجَد فَلَا يَسْقُط
وَذَكَرَ الْفَقِيه أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ ليس له أَنْ يَرْجِع في هذه الْمَسْأَلَة في قَوْلهمْ لِأَنَّ الْهِبَة إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فيها حَالَ الْعَبْد أو حَالَ الْمَوْلَى وَأَيُّهُمَا كان فَرَحْمَة كَامِلَة وَالصِّلَة الْكَامِلَة تَمْنَع الرُّجُوع
وَالْجَوَاب أَنَّهُ لَا يُعْتَبَر هَهُنَا حَالَ الْعَبْد وَحْدَهُ وَلَا حَالَ الْمَوْلَى وَحْدَهُ بَلْ يُعْتَبَر حَالهمَا جميعا وَاعْتِبَار حَالهمَا لَا يَمْنَعُ الرُّجُوع وَاَللَّه عز وجل أَعْلَم
وَعَلَى هذا التَّفْرِيع إذَا وَهَبَ لِمُكَاتَبٍ شيئا وهو ذُو رَحِم مَحْرَمٍ من الْوَاهِب أو مَوْلَاهُ ذُو رَحِم مَحْرَم من الْوَاهِب أَنَّهُ إنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ فَعَتَقَ يُعْتَبَر حَاله في الْقَرَابَة وَعَدَمهَا إنْ كان أَجْنَبِيًّا يَرْجِع وَإِنْ كان قَرِيبًا لَا يَرْجِع لِأَنَّهُ لَمَّا أَدَّى فَعَتَقَ اسْتَقَرَّ مِلْكه فَصَارَ كَأَنَّ الْهِبَة وَقَعَتْ له وهو حُرّ وَلَوْ كان كَذَلِكَ يَرْجِع إنْ كان أَجْنَبِيًّا وَإِنْ كان قَرِيبًا لَا يَرْجِع كَذَا هذا
وَإِنْ عَجَزَ وَرُدَّ في الرِّقّ فَقِيَاس قَوْل أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أنه يُعْتَبَر حَالَ الْمَوْلَى في الْقَرَابَة وَعَدَمهَا إنْ كان أَجْنَبِيًّا فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ وَإِنْ كان قَرِيبًا فَلَيْسَ له أَنْ يَرْجِعَ بِنَاء على أَنَّ الْهِبَة عِنْده أَوْجَبَتْ مِلْكًا مَوْقُوفًا على الْمُكَاتَبِ وَعَلَى مَوْلَاهُ على مَعْنَى أَنَّهُ إنْ أَدَّى فَعَتَقَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْك وَقَعَ له من حِين وُجُوده
وَإِنْ عَجَزَ وَرُدَّ في الرِّقّ يَظْهَرُ أَنَّهُ وَقَعَ لِلْمَوْلَى من وَقْت وُجُوده كَأَنَّ الْهِبَة وَقَعَتْ له من الِابْتِدَاء وَعَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ لَا يَرْجِع في الْأَحْوَال كُلّهَا لِأَنَّ عِنْده كَسْب الْمُكَاتَبِ يَكُون لِلْمُكَاتَبِ من غَيْر تَوَقُّف ثُمَّ يَنْتَقِل إلَى الْمَوْلَى بِالْعَجْزِ كَأَنَّهُ وَهَبَ لِحَيٍّ فَمَاتَ وَانْتَقَلَ الْمَوْهُوب إلَى وَرَثَته
الثَّانِي الزَّوْجِيَّة فَلَا يَرْجِع كُلّ وَاحِد من الزَّوْجَيْنِ فِيمَا وَهَبَهُ لِصَاحِبِهِ لِأَنَّ صِلَة الزَّوْجِيَّة تَجْرِي مَجْرَى صِلَة الْقَرَابَة الْكَامِلَة بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَعَلَّق بها التَّوَارُث في جَمِيع الْأَحْوَال فَلَا يَدْخُلهَا حَجْبُ الْحِرْمَان وَالْقَرَابَة الْكَامِلَة مَانِعَة من الرُّجُوع فَكَذَا ما يَجْرِي مَجْرَاهَا
الثَّالِثُ التَّوَارُث فَلَا رُجُوع في الْهِبَة من الْفَقِير بَعْد قَبْضِهَا لِأَنَّ الْهِبَة من الْفَقِير صَدَقَة لِأَنَّهُ يَطْلُب بها الثَّوَاب كَالصَّدَقَةِ وَلَا رُجُوع في الصَّدَقَة على الْفَقِير بَعْد قَبْضِهَا لِحُصُولِ الثَّوَاب الذي هو في مَعْنَى الْعِوَض بِوَعْدِ اللَّه تَعَالَى وَإِنْ لم يَكُنْ عِوَضًا في الْحَقِيقَة إذْ الْعَبْدُ لَا يَسْتَحِقّ على مَوْلَاهُ عِوَضًا
وَلَوْ تَصَدَّقَ على غَنِيٍّ فَالْقِيَاس أَنْ يَكُونَ له حَقّ الرُّجُوع لِأَنَّ التَّصَدُّق على الْغَنِيِّ يَطْلُب منه الْعِوَض عَادَة فَكَانَ هِبَة في الْحَقِيقَة فَيُوجِب الرُّجُوع إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَقَالُوا ليس له أَنْ يَرْجِعَ لِأَنَّ الثَّوَاب قد يُطْلَبُ بِالصَّدَقَةِ على الْأَغْنِيَاء أَلَا تَرَى أَنَّ من له نِصَابٌ تَجِب فيه الزَّكَاة وَلَهُ عِيَال لَا يَكْفِيه ما في
____________________

(6/133)


يَده فَفِي الصَّدَقَة عليه ثَوَاب وإذا كان الثَّوَاب مَطْلُوبًا من ذلك في الْجُمْلَة فإذا أتى بِلَفْظَةِ الصَّدَقَة دَلَّ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الثَّوَاب وإنه يَمْنَعُ الرُّجُوع لِمَا بَيَّنَّا
وَأَمَّا الشُّيُوع فَنَقُول لَا يَمْنَعُ الرُّجُوع في الْهِبَة فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِع في نِصْف الْهِبَة مَشَاعًا وَإِنْ كان مُحْتَمِلًا لِلْقِسْمَةِ بِأَنْ وَهَبَ دَارًا فَبَاعَ الْمَوْهُوب له نِصْفهَا مَشَاعًا كان لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ في الْبَاقِي وَكَذَا لو لم يَبِعْ نِصْفهَا وَهِيَ قَائِمَة في يَد الْمَوْهُوب له فَلَهُ أَنْ يَرْجِع في بَعْضهَا دُونَ الْبَعْض بِخِلَافِ الْهِبَة المستقلة ( ( ( المستقبلة ) ) ) إنها لَا تَجُوز في الْمَشَاع الذي يَحْتَمِل الْقِسْمَة لِأَنَّ الْقَبْض شَرْط جَوَاز الْعَقْد وَالشِّيَاع يُخِلُّ في الْقَبْض الْمُمَكِّنِ من التَّصَرُّف وَالرُّجُوع فَسْخ وَالْقَبْض ليس بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْفَسْخِ فَلَا يَكُون الشُّيُوع مَانِعًا من الرُّجُوع
وَأَمَّا بَيَان مَاهِيَّة الرُّجُوع وَحُكْمه شَرْعًا فَنَقُول وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق لَا خِلَاف في أَنَّ الرُّجُوع في الْهِبَة بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخ وَاخْتُلِفَ في الرُّجُوع فيها بِالتَّرَاضِي فَمَسَائِل أَصْحَابنَا تَدُلّ على أَنَّهُ فَسْخ أَيْضًا كَالرُّجُوعِ بِالْقَضَاءِ فَإِنَّهُمْ قالوا يَصِحّ الرُّجُوع في الْمَشَاع الذي يَحْتَمِل الْقِسْمَة وَلَوْ كان هِبَة مُبْتَدَأَة لم يَصِحّ مع الشِّيَاع وَكَذَا لَا تَقِف صِحَّته على الْقَبْض
وَلَوْ كانت هِبَة مُبْتَدَأَة لَوَقَفَ صِحَّته على الْقَبْض وَكَذَا لو وَهَبَ لِإِنْسَانٍ شيئا وَوَهَبَهُ الْمَوْهُوبُ له لِآخَرَ ثُمَّ رَجَعَ الثَّانِي في هِبَتِهِ كان لِلْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ
وَلَوْ كان هِبَةً مُبْتَدَأَةً لم يَكُنْ له حَقّ الرُّجُوع
فَهَذِهِ الْمَسَائِل تَدُلّ على أَنَّ الرُّجُوع بِغَيْرِ قَضَاء فَسْخ وقال زُفَرُ إنه هِبَة مُبْتَدَأَة
وَجْه قَوْله إنَّ مِلْك الْمَوْهُوب عَادَ إلَى الْوَاهِب بِتَرَاضِيهِمَا فَأَشْبَهَ الرَّدّ بِالْعَيْبِ فَيُعْتَبَر عَقْدًا جَدِيدًا في حَقّ ثَالِث كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْد الْقَبْض وَالدَّلِيل على أَنَّهُ هِبَة مُبْتَدَأَة ما ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في كِتَاب الْهِبَة إن الْمَوْهُوب له إذَا رد ( ( ( زاد ) ) ) الْهِبَة في مَرَض مَوْته أنها تَكُون من الثُّلُث وَهَذَا حُكْم الْهِبَة الْمُبْتَدَأَة
وَلَنَا أَنَّ الْوَاهِب بِالْفَسْخِ يَسْتَوْفِي حَقّ نَفْسه وَاسْتِيفَاء الْحَقّ لَا يَتَوَقَّف على قَضَاء الْقَاضِي وَالدَّلِيل على أَنَّهُ مُسْتَوْفٍ حَقّ نَفْسه بِالْفَسْخِ أَنَّ الْهِبَة عَقْد جَائِز مُوجَب حَقّ الْفَسْخ فَكَانَ بِالْفَسْخِ مُسْتَوْفِيًا ثَابِتًا له فَلَا يَقِفُ على الْقَضَاءِ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بَيْعًا جَدِيدًا في حَقّ ثَالِثٍ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمُشْتَرِي في الْفَسْخ وَإِنَّمَا حَقُّهُ في صِفَة السَّلَامَة فإذا لم يَسْلَم اخْتَلَّ رِضَاهُ فَيَثْبُت حَقّ الْفَسْخ ضَرُورَة فَتَوَقَّفَ لُزُوم مُوجَب الْفَسْخ في حَقّ ثَالِث على قَضَاء الْقَاضِي
وَأَمَّا ما ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فَمِنْ أَصْحَابنَا من الْتَزَمَ وقال هذا يَدُلّ على أَنَّ الرُّجُوع بِغَيْرِ قَضَاء هِبَة مُبْتَدَأَة وما ذَكَرْنَا من الْمَسَائِل يَدُلّ على أنها فَسْخ فَكَانَ في الْمَسْأَلَة رِوَايَتَانِ
وَمِنْهُمْ من قال هذا لَا يَدُلّ على اخْتِلَاف الرِّوَايَتَيْنِ لِأَنَّهُ إنَّمَا اُعْتُبِرَ الرَّدّ من الثُّلُث لِكَوْنِ الْمَرِيض مُتَّهَمًا في الرَّدّ في حَقّ وَرَثَته فَكَانَ فَسْخًا فِيمَا بين الْوَاهِب وَالْمَوْهُوب له هِبَة مُبْتَدَأَة في حَقّ الْوَرَثَة وَهَذَا ليس بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يَكُون لِلْعَقْدِ الْوَاحِد حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ كَالْإِقَالَةِ فَإِنَّهَا فَسْخ في حَقّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ جَدِيد في حَقّ غَيْرهمَا وإذا انْفَسَخَ الْعَقْد بِالرُّجُوعِ عَادَ الْمَوْهُوب إلَى قَدِيم مِلْك الْوَاهِب وَيَمْلِكهُ الْوَاهِب وَإِنْ لم يَقْبِضهُ لِأَنَّ الْقَبْض إنَّمَا يُعْتَبَر في انْتِقَال الْمِلْك لَا في عَوْدِ قَدِيم الْمِلْك كَالْفَسْخِ في بَاب الْبَيْع وَالْمَوْهُوبُ بَعْد الرُّجُوع يَكُون أَمَانَة في يَد الْمَوْهُوب له حتى لو هَلَكَ في يَده لَا يَضْمَن لِأَنَّ قَبْض الْهِبَة قَبْض غَيْر مَضْمُون فإذا انْفَسَخَ عِنْدهَا بَقِيَ الْقَبْض على ما كان قبل ذلك أَمَانَة غَيْر مُوجِب لِلضَّمَانِ فَلَا يَصِير مَضْمُونًا عليه إلَّا بِالتَّعَدِّي كَسَائِرِ الْأَمَانَات
وَلَوْ لم يَتَرَاضَيَا على الرُّجُوع وَلَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ وَلَكِنْ الْمَوْهُوب له وَهَبَ الموهوب ( ( ( والموهوب ) ) ) لِلْوَاهِبِ وَقَبِلَهُ الْوَاهِب الْأَوَّل لَا يَمْلِكهُ حتى يَقْبِضهُ
وإذا قَبَضَهُ كان بِمَنْزِلَةِ الرُّجُوع بِالتَّرَاضِي أو بِقَضَاءِ الْقَاضِي
وَلَيْسَ لِلْمَوْهُوبِ له أَنْ يَرْجِعَ فيه وَكَذَا الصَّدَقَة
أَمَّا وُقُوف الْمِلْك فيه على الْقَبْض فَلِأَنَّ الْمَوْجُود لَفْظ الْهِبَة لَا لَفْظ الْفَسْخ وَمِلْك الْوَاهِب لَا يَزُول إلَّا بِالْقَبْضِ بِخِلَافِ ما إذَا تَرَاضَيَا على الرُّجُوع إن الْوَاهِب يَمْلِكُهُ بِدُونِ الْقَبْض لِأَنَّ اتِّفَاقهمَا على الرُّجُوع اتِّفَاق على الْفَسْخ وَلَا يُشْتَرَط لِلْفَسْخِ ما يُشْتَرَط لِلْعَقْدِ
ثُمَّ إذَا قَبَضَهُ الْوَاهِب قام ذلك مَقَام الرُّجُوع لِأَنَّ الرُّجُوع مُسْتَحَقّ فَتَقَع الْهِبَة عن الرُّجُوع الْمُسْتَحَقّ وَلَا تَقَع مَوْقِع الْهِبَة الْمُبْتَدَأَة فَلَا يَصِحّ الرُّجُوع فيها
فَصْل وَأَمَّا بَيَان ما يَرْفَع عَقْد الْهِبَة فَاَلَّذِي يَرْفَعهُ هو الْفَسْخ إمَّا بِالْإِقَالَةِ أو الرُّجُوع بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو التَّرَاضِي على ما بَيَّنَّا
وإذا انْفَسَخَ الْعَقْد يَعُود الْمَوْهُوب إلَى قَدِيم مِلْكِ الْوَاهِب بِنَفْسِ الْفَسْخ من غَيْر الْحَاجَة إلَى الْقَبْض لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ

____________________

(6/134)


كِتَابُ الرَّهْنِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِ عَقْدِ الرَّهْنِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الرَّهْنِ وفي بَيَانِ ما يَخْرُجُ بِهِ الرَّهْنُ عن كَوْنِهِ مَرْهُونًا وما يَبْطُلُ بِهِ الرُّكْنُ وما لَا يَبْطُلُ وفي بَيَانِ حُكْمِ اخْتِلَافِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ وَالْعَدْلِ
أَمَّا رُكْنُ عَقْدِ الرَّهْنِ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ
وهو أَنْ يَقُولَ الرَّاهِنُ رَهَنْتُكَ هذا الشَّيْءَ بِمَا لك عَلَيَّ من الدَّيْنِ أو يَقُولَ هذا الشَّيْءُ رَهْنٌ بِدَيْنِكَ وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى وَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ ارْتَهَنْتُ أو قَبِلْتُ أو رَضِيتُ وما يَجْرِي مَجْرَاهُ
فَأَمَّا لَفْظُ الرَّهْنِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ حتى لو اشْتَرَى شيئا بِدَرَاهِمَ وَدَفَعَ إلَى الْبَائِعِ ثَوْبًا وقال له أمسك هذا الثَّوْبَ حتى أُعْطِيَكَ الثَّمَنَ فَالثَّوْبُ رَهْنٌ لِأَنَّهُ أتى بِمَعْنَى الْعَقْدِ وَالْعِبْرَةُ في بَابِ الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرَّهْنِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَرْهُونِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَرْهُونِ بِهِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرَّهْنِ فَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ وَلَا مُضَافًا إلَى وَقْتٍ لِأَنَّ في الرَّهْنِ وَالِارْتِهَانِ مَعْنَى الْإِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ فَيُشْبِهُ الْبَيْعَ وإنه لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِشَرْطٍ وَالْإِضَافَةُ إلَى وَقْتٍ
كَذَا هذا
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ فَعَقْلُهُمَا حتى لَا يَجُوزَ الرَّهْنُ وَالِارْتِهَانُ من الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ
فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ حتى يَجُوزَ من الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّ ذلك من تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فَيَمْلِكُهُ من يَمْلِكُ التِّجَارَةَ
وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَالِارْتِهَانَ من بَابِ إيفَاءِ الدَّيْنِ وَاسْتِيفَائِهِ وَهُمَا يَمْلِكَانِ ذلك وَكَذَا السَّفَرُ ليس بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الرَّهْنِ فَيَجُوزُ الرَّهْنُ في السَّفَرِ وَالْحَضَرِ جميعا لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ اسْتَقْرَضَ بِالْمَدِينَةِ من يَهُودِيٍّ طَعَامًا وَرَهَنَهُ بِهِ دِرْعَهُ وكان ذلك رَهْنًا في الْحَضَرِ وَلِأَنَّ ما شُرِعَ له الرَّهْنُ وهو الْحَاجَةُ إلَى تَوْثِيقِ الدَّيْنِ يُوجَدُ في الْحَالَيْنِ وهو الرَّهْنُ عن تَوَاءِ الْحَقِّ بِالْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ وَتَذَكُّرُهُ عِنْدَ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ وَالتَّنْصِيصُ على السَّفَرِ في كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عز وجل ليس لِتَخْصِيصِ الْجَوَازِ بَلْ هو إخْرَاجُ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الْعَادَةِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَرْهُونِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا قَابِلًا لِلْبَيْعِ وهو أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ مَالًا مُطْلَقًا مُتَقَوِّمًا مَمْلُوكًا مَعْلُومًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ
وَنَحْوُ ذلك فَلَا يَجُوزُ رَهْنُ ما ليس بِمَوْجُودٍ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلَا رَهْنُ ما يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ كما إذَا رَهْنَ ما يُثْمِرُ نَخِيلُهُ الْعَامَ أو ما تَلِدُ أَغْنَامُهُ السَّنَةَ أو ما في بَطْنِ هذه الْجَارِيَةِ وَنَحْوُ ذلك
وَلَا رَهْنُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ لِانْعِدَامِ مَالِيَّتِهِمَا وَلَا رَهْنُ صَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ وَلَا رَهْنُ الْحُرِّ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ أَصْلًا وَلَا رَهْنُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ وَالْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُمْ أَحْرَارٌ من وَجْهٍ فَلَا يَكُونُونَ أَمْوَالًا مُطْلَقَةً وَلَا رَهْنُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ من الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ كان الْعَاقِدَانِ مُسْلِمَيْنِ
أو أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ لِانْعِدَامِ مَالِيَّةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ في حَقِّ الْمُسْلِمِ وَهَذَا لِأَنَّ الرَّهْنَ إيفَاءُ الدَّيْنِ والإرتهان اسْتِيفَاؤُهُ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ إيفَاءُ الدَّيْنِ من الْخَمْرِ وَاسْتِيفَاؤُهُ إلَّا أَنَّ الرَّاهِنَ إذَا كان ذِمِّيًّا كانت الْخَمْرُ مَضْمُونَةً على الْمُسْلِمِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ الرَّهْنَ إذَا لم يَصِحَّ كانت الْخَمْرُ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ في يَدِ الْمُسْلِمِ وَخَمْرُ الذِّمِّيِّ مَضْمُونٌ على الْمُسْلِمِ بِالْغَصْبِ وإذا كان الرَّاهِنُ مُسْلِمًا وَالْمُرْتَهِنُ ذِمِّيًّا لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً على أَحَدٍ
وَأَمَّا في حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَيَجُوزُ رَهْنُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَارْتِهَانُهُمَا منهم لِأَنَّ ذلك مَالٌ مُتَقَوِّمٌ في حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْخَلِّ وَالشَّاةِ عِنْدَنَا وَلَا رَهْنُ الْمُبَاحَاتِ من الصَّيْدِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ في أَنْفُسِهَا
فَأَمَّا كَوْنُهُ مَمْلُوكًا لِلرَّاهِنِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الرَّهْنِ حتى يَجُوزَ رَهْنُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ يَرْهَنُ مَالَ الصَّبِيِّ بِدَيْنِهِ وَبِدَيْنِ نَفْسِهِ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْإِيدَاعِ وَإِمَّا أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْمُبَادَلَةِ وَالْأَبُ يَلِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في مَالِ الصَّغِيرِ فإنه يَبِيعُ مَالَ الصَّغِيرِ بِدَيْنِ نَفْسِهِ وَيُودِعُ مَالَ الصَّغِيرِ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ قبل أَنْ يَفْتَكَّهُ الْأَبُ هَلَكَ بِالْأَقَلِّ من قِيمَتِهِ وَمِمَّا رَهَنَ بِهِ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَقَعَ صَحِيحًا وَهَذَا حُكْمُ الرَّهْنِ الصَّحِيحِ وَضَمِنَ الْأَبُ قَدْرَ ما سَقَطَ من الدَّيْنِ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ نَفْسِهِ بِمَالِ وَلَدِهِ فَيَضْمَنُ فَلَوْ أَدْرَكَ الْوَلَدُ وَالرَّهْنُ قَائِمٌ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ فَلَيْسَ
____________________

(6/135)


له أَنْ يَسْتَرِدَّهُ قبل قَضَاءِ الْقَاضِي لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّهْنَ وَقَعَ صَحِيحًا لِوُقُوعِهِ عن وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَلَا يَمْلِكُ الْوَلَدُ نَقْضَهُ وَلَكِنْ يُؤْمَرُ الْأَبُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَرَدِّ الرَّهْنِ على وَلَدِهِ لِزَوَالِ وِلَايَتِهِ بِالْبُلُوغِ
وَلَوْ قَضَى الْوَلَدُ دَيْنَ أبيه وَافْتَكَّ الرَّهْنَ لم يَكُنْ مُتَبَرِّعًا وَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ ما قَضَى على أبيه لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ إذْ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَى مِلْكِهِ إلَّا بِقَضَاءِ الدَّيْنِ كُلِّهِ فَكَانَ مُضْطَرًّا فيه فلم يَكُنْ مُتَبَرِّعًا بَلْ يَكُونُ مَأْمُورًا بِالْقَضَاءِ من قِبَلِ الْأَبِ دَلَالَةً فَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ عليه بِمَا قَضَى كما لو اسْتَعَارَ من إنْسَانٍ عَبْدَهُ لِيَرْهَنَهُ بِدَيْنِ نَفْسِهِ فَرَهْنَ ثُمَّ إنَّ الْمُعِيرَ قَضَى دَيْنَ الْمُسْتَعِيرِ وَافْتَكَّ الرَّهْنَ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِجَمِيعِ ما قَضَى على الْمُسْتَعِيرِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْوَصِيِّ في جَمِيعِ ما ذَكَرْنَا حُكْمُ الْأَبِ وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ في فَصْلٍ آخَرَ وهو أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَرْتَهِنَ مَالَ الصَّغِيرِ بِدَيْنٍ ثَبَتَ على الصَّغِيرِ وإذا هَلَكَ يَهْلِكُ بِالْأَقَلِّ من قميته ( ( ( قيمته ) ) ) وَمِنْ الدَّيْنِ وإذا أَدْرَكَ الْوَلَدُ ليس له أَنْ يَسْتَرِدَّهُ إذَا كان الْأَبُ يَشْهَدُ على الِارْتِهَانِ وَإِنْ كان لم يَشْهَدْ على ذلك لم يُصَدَّقْ عليه بَعْدَ الْإِدْرَاكِ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْوَلَدِ وَيَجُوزُ له أَنْ يَرْهَنَ مَالَهُ عِنْدَ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ بِدَيْنٍ لِلصَّغِيرِ عليه وَيَحْبِسَهُ لَأَجْلِ الْوَلَدِ وإذا هَلَكَ بَعْدَ ذلك فَيُهْلِكُ بِالْأَقَلِّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ إذَا كان أَشْهَدَ عليه قبل الْهَلَاكِ وَإِنْ كان لم يَشْهَدْ عليه قبل الْهَلَاكِ لم يُصَدَّقْ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْوَلَدُ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ وَالْوَصِيُّ لو فَعَلَ هذا من الْيَتِيمِ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ وَلَا ارْتِهَانُهُ
أَمَّا على أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَلَا يُشْكِلُ لِأَنَّهُ لَا يَرَى بَيْعَ مَالِ الْيَتِيمِ من نَفْسِهِ وَلَا شِرَاءَ مَالِهِ لِنَفْسِهِ أَصْلًا فَكَذَلِكَ الرَّهْنُ وَعَلَى قَوْلِهِمَا إنْ كان يَجُوزُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ لَكِنْ إذَا كان خَيْرًا لِلْيَتِيمِ وَلَا خَيْرَ له في الرَّهْنِ لِأَنَّهُ يَهْلِكُ أَبَدًا بِالْأَقَلِّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ فلم يَكُنْ فيه خَيْرٌ لِلْيَتِيمِ فلم يَجُزْ
وَكَذَلِكَ يَجُوزُ رَهْنُ مَالِ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ كما لو اسْتَعَارَ من إنْسَانٍ شيئا لِيَرْهَنَهُ بِدَيْنٍ على الْمُسْتَعِيرِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّهْنَ إيفَاءُ الدَّيْنِ وَقَضَاؤُهُ وَالْإِنْسَانُ بِسَبِيلٍ من أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ نَفْسِهِ بِمَالِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ
ثُمَّ إذَا أَذِنَ الْمَالِكُ بِالرَّهْنِ فَإِذْنُهُ بِالرَّهْنِ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كان مُطْلَقًا وَإِمَّا إنْ كان مُقَيَّدًا فَإِنْ كان مُطْلَقًا فَلِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَرْهَنَهُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَبِأَيِّ جِنْسٍ شَاءَ وفي أَيِّ مَكَان كان وَمِنْ أَيِّ إنْسَانٍ أَرَادَ وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ أَصْلٌ
وَإِنْ كان مُقَيَّدًا بِأَنْ سَمَّى قَدْرًا أو جِنْسًا أو مَكَانًا أو إنْسَانًا يَتَقَيَّدُ بِهِ حتى لو أَذِنَ له أَنْ يَرْهَنَهُ بِعَشْرَةٍ لم يَجُزْ له أَنْ يَرْهَنَهُ بِأَكْثَرَ منها وَلَا بِأَقَلَّ لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ بِإِذْنٍ يَتَقَيَّدُ تَصَرُّفُهُ بِقَدْرِ الْإِذْنِ وَالْإِذْنُ لم يَتَنَاوَلْ الزِّيَادَةَ فلم يَكُنْ له أَنْ يَرْهَنَ بِالْأَكْثَرِ وَلَا بِالْأَقَلِّ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مَضْمُونٌ وَالْمَالِكَ إنَّمَا جَعَلَهُ مَضْمُونًا بِالْقَدْرِ وقد يَكُونُ له في ذلك غَرَضٌ صَحِيحٌ فَكَانَ التَّقْيِيدُ بِهِ مُفِيدًا
وَكَذَلِكَ لو أَذِنَ له أَنْ يَرْهَنَهُ بِجِنْسٍ لم يَجُزْ له أَنْ يَرْهَنَهُ بِجِنْسٍ آخَرَ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ من بَعْضِ الْأَجْنَاسِ قد يَكُونُ أَيْسَرَ من بَعْضٍ فَكَانَ التَّقْيِيدُ بِالْجِنْسِ مُفِيدًا وَكَذَا إذَا أَذِنَ له أَنْ يَرْهَنَهُ بِالْكُوفَةِ لم يَجُزْ له أَنْ يَرْهَنَهُ بِالْبَصْرَةِ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان مُفِيدٌ فَيَتَقَيَّدُ بِالْمَكَانِ الْمَذْكُورِ
وَكَذَا إذَا أَذِنَ له أَنْ يَرْهَنَهُ من إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ لم يَجُزْ له أَنْ يَرْهَنَهُ من غَيْرِهِ لِأَنَّ الناس مُتَفَاوِتُونَ في الْمُعَامَلَاتِ فَكَانَ التَّعْيِينُ مُفِيدًا فَإِنْ خَالَفَ في شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا فَهُوَ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهِ إذَا هَلَكَ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ في مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَصَارَ غَاصِبًا وَلِلْمَالِكِ أَنْ يَأْخُذَ الرَّهْنَ من يَدِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ الرَّهْنَ لم يَصِحَّ فَبَقِيَ الْمَرْهُونُ في يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ فَكَانَ له أَنْ يَأْخُذَهُ منه وَلَيْسَ لِهَذَا الْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْمَرْهُونِ لَا قبل الرَّهْنِ وَلَا بَعْدَ الِانْفِكَاكِ فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ لِأَنَّهُ لم يأذن ( ( ( يؤذن ) ) ) له إلَّا بِالرَّهْنِ فَإِنْ انْتَفَعَ بِهِ قبل أَنْ يَرْهَنَهُ ثُمَّ رَهَنَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ برىء من الضَّمَانِ حين رَهَنَ ذَكَرَهُ في الْأَصْلِ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَعَ بِهِ فَقَدْ خَالَفَ ثُمَّ لَمَّا رَهَنَهُ فَقَدْ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ فَيَبْرَأُ عن الضَّمَانِ كَالْمُودِعِ إذَا عَادَ إلَى الْوِفَاقِ بعدما خَالَفَ في الْوَدِيعَةِ بِخِلَافِ ما إذَا اسْتَعَارَ الْعَيْنَ لِيَنْتَفِعَ بها فَخَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ أنه لَا يَبْرَأُ عن الضَّمَانِ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لِلِانْتِفَاعِ ليس ( ( ( ليست ) ) ) يَدُهُ يَدَ الْمَالِكِ بَلْ يَدَ نَفْسِهِ حَيْثُ تَعُودُ الْمَنْفَعَةُ إلَيْهِ فلم تَكُنْ بِالْعَوْدِ إلَى الْوِفَاقِ رَادًّا لِلْمَالِ إلَى يَدِ الْمَالِكِ فَلَا يَبْرَأُ عن الضَّمَانِ
فَأَمَّا الْمُسْتَعِيرُ لِلرَّهْنِ فَيَدُهُ قبل الرَّهْنِ يَدُ الْمَالِكِ فإذا عَادَ إلَى الْوِفَاقِ فَقَدْ رَدَّ الْمَالَ إلَى يَدِ الْمَالِكِ فَيَبْرَأُ عن الضَّمَانِ وإذا قَبَضَ الْمُسْتَعِيرُ الْعَارِيَّةَ فَهَلَكَ في يَدِهِ قبل أَنْ يَرْهَنَهُ فَلَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّهُ هَلَكَ في قَبْضِ الْعَارِيَّةِ لَا في قَبْضِ الرَّهْنِ وَقَبْضُ الْعَارِيَّةِ قَبْضُ أَمَانَةٍ لَا قَبْضُ ضَمَانٍ وَكَذَلِكَ إذَا هَلَكَ في يَدِهِ بعدما افْتَكَّهُ من يَدِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ بِالِافْتِكَاكِ من يَدِ الْمُرْتَهِنِ عَادَ عَارِيَّةً فَكَانَ الْهَلَاكُ في قَبْضِ الْعَارِيَّةِ
وَلَوْ وَكَّلَ الرَّاهِنُ يَعْنِي الْمُسْتَعِيرُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ من الْمُرْتَهِنِ أَحَدًا فَقَبَضَهُ فَهَلَكَ في يَدِ الْقَابِضِ فَإِنْ كان الْقَابِضُ في عِيَالِهِ لم يَضْمَنْ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِهِ
____________________

(6/136)


وَالْمَالِكُ رضي بيده وَإِنْ لم يَكُنْ في عِيَالِهِ ضَمِنَ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ كَيَدِهِ فلم يَكُنْ الْمَالِكُ رَاضِيًا بيده
وَإِنْ هَلَكَ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ وقد رَهَنَ على الْوَجْهِ الذي أَذِنَ فيه ضَمِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُعِيرِ قَدْرَ ما سَقَطَ عنه من الدَّيْنِ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ نَفْسِهِ من مَالِ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ بِالرَّهْنِ إذْ الرَّهْنُ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَيَتَعَذَّرُ الْقَضَاءُ عِنْدَ الْهَلَاكِ
وَكَذَلِكَ لو دَخَلَهُ عَيْبٌ فَسَقَطَ بَعْضُ الدَّيْنِ ضَمِنَ الرَّاهِنُ ذلك الْقَدْرَ لِأَنَّهُ قَضَى ذلك الْقَدْرَ من دَيْنِهِ بِمَالِ الْغَيْرِ فَيَضْمَنُ ذلك الْقَدْرَ فَكَانَ الْمُسْتَعِيرُ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ لِإِنْسَانٍ فَقَضَى دَيْنَ نَفْسِهِ بِمَالِ الْوَدِيعَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا فما قَضَى يَكُونُ مَضْمُونًا عليه وما لم يقض ( ( ( يقبض ) ) ) يَكُونُ أَمَانَةً في يَدِهِ فَإِنْ عَجَزَ الرَّاهِنُ عن الإفتكاك فَافْتَكَّهُ الْمَالِكُ لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا وَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ ما قَضَى على الْمُسْتَعِيرِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِقَدْرِ ما كان يَمْلِكُ الدَّيْنَ بِهِ وَلَا يَرْجِعُ بِالزِّيَادَةِ عليه وَيَكُونُ مُتَبَرِّعًا فيها
حتى لو كان الْمُسْتَعِيرُ رَهَنَ بِأَلْفَيْنِ وَقِيمَةُ الرَّهْنِ أَلْفٌ فَقَضَى الْمَالِكُ أَلْفَيْنِ فإنه يَرْجِعُ على الْمُسْتَعِيرِ بِأَلْفَيْنِ وَعَلَى ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ يَرْجِعُ عليه بألف ( ( ( بالألف ) ) )
وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْمَضْمُونَ على الْمُسْتَعِيرِ قَدْرُ الدَّيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ عِنْدَ الْهَلَاكِ إلَّا قَدْرَ الدَّيْنِ فإذا قَضَى الْمَالِكُ الزِّيَادَةَ على الْمُقَدَّرِ كان مُتَبَرِّعًا فيها
وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ الْمَالِكَ مُضْطَرٌّ إلَى قَضَاءِ كل الدَّيْنِ الذي رَهْنَ بِهِ لِأَنَّهُ عَلَّقَ مَالَهُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ بِحَيْثُ لَا فِكَاكَ له إلَّا بِقَضَاءِ كل الدَّيْنِ فَكَانَ مُضْطَرًّا في قَضَاءِ الْكُلِّ فَكَانَ مَأْذُونًا فيه من قِبَلِ الرَّاهِنِ دَلَالَةً كَأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ فَقَضَاهُ الْمُعِيرُ من مَالِ نَفْسِهِ
وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَرَجَعَ عليه بِمَا قَضَى
كَذَا هذا وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَمْتَنِعَ من قَبْضِ الدَّيْنِ من الْمُعِيرِ وَيُجْبَرُ على الْقَبْضِ وَيُسَلِّمُ الرَّهْنَ إلَيْهِ لِأَنَّ له وِلَايَةُ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِتَخَلُّصِ مِلْكِهِ وَإِزَالَةِ الْعَلَقِ عنه فَلَا يَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ وِلَايَةُ الِامْتِنَاعِ من الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ
فَإِنْ اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُعِيرُ وقد هَلَكَ الرَّهْنُ فقال الْمُعِيرُ هَلَكَ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ وقال الْمُسْتَعِيرُ هَلَكَ قبل أَنْ أَرْهَنَهُ أو بعدما افْتَكَّيْتُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مع يَمِينِهِ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا وَجَبَ على الْمُسْتَعِيرِ لِكَوْنِهِ قَاضِيًا دَيْنَ نَفْسِهِ من مَالِ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ وهو يُنْكِرُ الْقَضَاءَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ وَلَا يَجُوزُ رَهْنُ الْمَجْهُولِ وَلَا معجوز ( ( ( يجوز ) ) ) التَّسْلِيمُ وَنَحْوُ ذلك مِمَّا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ كُلَّ ما لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ وقد ذَكَرْنَا جُمْلَةَ ذلك في كِتَابِ الْبُيُوعِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضَ الْمُرْتَهِنِ أو من يَقُومُ مَقَامَهُ وَالْكَلَامُ في الْقَبْضِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنَّهُ شَرْطُ جَوَازِ الرَّهْنِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّتِهِ وفي تَفْسِيرِ الْقَبْضِ وَمَاهِيَّتِهِ وفي بَيَانِ أَنْوَاعِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فيه قال عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إنَّهُ شَرْطٌ وَقِيَاسُ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْهِبَةِ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا كَالْقَبُولِ حتى إن من حَلَفَ لَا يُرْهِنُ فُلَانًا شيئا فَرَهَنَهُ ولم يَقْبِضْهُ يَحْنَثُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَحْنَثُ كما في الْهِبَةِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } وَلَوْ كان الْقَبْضُ رُكْنًا لَصَارَ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الرَّهْنِ فلم يَكُنْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ { مَقْبُوضَةٌ } مَعْنًى فَدَلَّ ذِكْرُ الْقَبْضِ مَقْرُونًا بِذَكَرِ الرَّهْنِ على أَنَّهُ شَرْطٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ
وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس بِرُكْنٍ وَلَا شَرْطٍ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } وَصَفَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الرَّهْنَ بِكَوْنِهِ مَقْبُوضًا فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ فيه شَرْطًا صِيَانَةً لِخَبَرِهِ تَعَالَى عن الْخُلْفِ
وَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ لِلْحَالِ فَلَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ كَسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ
وَلَوْ تَعَاقَدَا على أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ في يَدِ صَاحِبِهِ لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ حتى لو هَلَكَ في يَدِهِ لَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ
وَلَوْ أَرَادَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَقْبِضَهُ من يَدِهِ لِيَحْبِسَهُ رَهْنًا ليس له ذلك لِأَنَّ هذا شَرْطٌ فَاسِدٌ أَدْخَلَاهُ في الرَّهْنِ فلم يَصِحَّ الرَّهْنُ وَلَوْ تَعَاقَدَا على أَنْ يَكُونَ في يَدِ الْعَدْلِ وَقَبَضَهُ الْعَدْلُ جَازَ وَيَكُونُ قبض ( ( ( قبضه ) ) ) كَقَبْضِ الْمُرْتَهِنِ
وَهَذَا قَوْلُ الْعَامَّةِ
وقال ابن أبي لَيْلَى لَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا بِقَبْضِ الْمُرْتَهِنِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } من غَيْرِ فَصْلٍ بين قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ وَالْعَدْلِ وَلِأَنَّ قَبْضَ الْعَدْلِ بِرِضَا الْمُرْتَهِنِ قَبْضُ الْمُرْتَهِنِ مَعْنًى
وَلَوْ قَبْضَهُ الْعَدْلُ ثُمَّ تَرَاضَيَا على أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ في يَدِ عَدْلٍ آخَرَ وَوَضَعَاهُ في يَدِهِ جَازَ لِأَنَّهُ جَازَ وَضْعُهُ في يَدِ الْأَوَّلِ لِتَرَاضِيهِمَا فَيَجُوزُ وَضَعْهُ في يَدِ الثَّانِي بِتَرَاضِيهِمَا وَكَذَا إذَا قَبَضَهُ الْعَدْلُ ثُمَّ تَرَاضَيَا على أَنْ يَكُونَ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ ووضعاه ( ( ( ووضعا ) ) ) في يَدِهِ لِأَنَّهُ جَازَ وَضْعُهُ في يَدِهِ في الِابْتِدَاءِ فَكَذَا في الِانْتِهَاءِ
وَكَذَا إذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ أو الْعَدْلُ ثُمَّ تَرَاضَيَا على أَنْ يَكُونَ في يَدِ الرَّاهِنِ وَوَضَعَهُ في يَدِهِ جَازَ لِأَنَّ الْقَبْضَ الصَّحِيحَ لِلْعَقْدِ قد وُجِدَ وقد خَرَجَ الرَّهْنُ من يَدِهِ فَبَعْدَ ذلك يَدُهُ وَيَدُ الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ
وَلَوْ رَهَنَ رَهْنًا وَسَلَّطَ عَدْلًا على بَيْعِهِ عِنْدَ الْمَحَلِّ فلم يَقْبِضْ حتى حَلَّ الْأَجَلُ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ لِأَنَّ صِحَّتَهُ بِالْقَبْضِ وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ لِأَنَّ صِحَّةَ
____________________

(6/137)


التَّوْكِيلِ لَا تَقِفُ صِحَّتُهُ على الْقَبْضِ فَصَحَّ الْبَيْعُ وَإِنْ لم يَصِحَّ الرَّهْنُ وَكَذَلِكَ لو رَهَنَ مُشَاعًا وَسَلَّطَهُ على بَيْعِهِ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ وَالْوَكَالَةُ صَحِيحَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ جَعَلَ عَدْلًا في الْإِمْسَاكِ وَعَدْلًا في الْبَيْعِ جَازَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرٌ مَقْصُودٌ فَيَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالتَّوْكِيلِ
وَأَمَّا بَيَانُ شَرَائِطِ صِحَّتِهِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْهِبَةِ أَنَّ الْإِذْنَ بِالْقَبْضِ شَرْطُ صِحَّتِهِ فِيمَا له صِحَّةٌ بِدُونِ الْقَبْضِ وهو الْبَيْعُ فَلَأَنْ يَكُونَ شرطا ( ( ( شرط ) ) ) فِيمَا لَا صِحَّةَ له بِدُونِ الْقَبْضِ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْقَبْضَ في هذا الْبَابِ يُشْبِهُ الرُّكْنَ كما في الْهِبَةِ فَيُشْبِهُ الْقَبُولَ وَذَا لَا يَجُوزُ من غَيْرِ رِضَا الرَّاهِنِ كَذَا هذا
ثُمَّ نَقُولُ الْإِذْنُ نَوَعَانِ نَصٌّ وما يَجْرِي مَجْرَى النَّصِّ ودلالة ( ( ( دلالة ) ) ) فَالْأَوَّلُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ أَذِنْتُ له بِالْقَبْضِ أو رَضِيت بِهِ أو أقبض وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى فَيَجُوزُ قَبْضُهُ سَوَاءٌ قَبَضَ في الْمَجْلِسِ أو بَعْدَ الِافْتِرَاقِ اسْتِحْسَانًا وَقِيَاسُ قَوْلِ زُفَرَ في الْهِبَةِ أَنْ لَا يَجُوزَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ
وَالثَّانِي نَحْوُ أَنْ يَقْبِضَ الْمُرْتَهِنُ بِحَضْرَةِ الرَّاهِنِ فَيَسْكُتُ وَلَا يَنْهَاهُ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ اسْتِحْسَانًا وَقِيَاسُ قَوْلِ زُفَرَ في الْهِبَةِ أَنْ لَا يَصِحَّ كما لَا يَصِحُّ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لِأَنَّ الْقَبْضَ عِنْدَهُ رُكْنٌ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ فَلَا يَجُوزُ من غَيْرِ إذْنٍ كَالْقَبُولِ وَصَارَ كَالْبَيْعِ الصَّحِيحِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الْقَبْضَ ليس بِشَرْطٍ لَصِحَّتِهِ وإنه شَرْطٌ لِصِحَّةِ الرَّهْنِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ وَجَدَ الْإِذْنَ هَهُنَا دَلَالَةَ الْإِقْدَامِ على إيجَابِ الرَّهْنِ لِأَنَّ ذلك دَلَالَةُ الْقَصْدِ إلَى إيجَابِ حُكْمِهِ وَلَا ثُبُوتَ لِحُكْمِهِ إلَّا بِالْقَبْضِ وَلَا صِحَّةَ لِلْقَبْضِ بِدُونِ الْإِذْنِ فَكَانَ الْإِقْدَامُ على الْإِيجَابِ دَلَالَةَ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ وَالْإِقْدَامُ دَلَالَةَ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ في الْمَجْلِسِ لَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فلم يُوجَدْ الْإِذْنُ هُنَاكَ نَصًّا وَدَلَالَةً بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ بِدُونِ الْقَبْضِ فلم يَكُنْ الْإِقْدَامُ على إيجَابِهِ دَلِيلَ الْقَبْضِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْإِذْنِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَلَوْ رَهْنَ شيئا مُتَّصِلًا بِمَا لم يَقَعْ عليه الرَّهْنُ كَالثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ على الشَّجَرِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ فيه إلَّا بِالْفَصْلِ وَالْقَبْضِ فَفُصِلَ وَقُبِضَ فَإِنْ قُبِضَ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ لم يَجُزْ قَبْضُهُ سَوَاءٌ كان الْفَصْلُ وَالْقَبْضُ في الْمَجْلِسِ أو في غَيْرِهِ لِأَنَّ الْإِيجَابَ هَهُنَا لم يَقَعْ صَحِيحًا فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهِ على الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ
وَإِنْ قُبِضَ بِإِذْنِهِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وهو قَوْلُ زُفَرَ وفي الِاسْتِحْسَانِ جَائِزٌ بِنَاءً على أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ في الْهِبَةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَمِنْهَا الْحِيَازَةُ عِنْدَنَا فَلَا يَصِحُّ قَبْضُ الْمُشَاعِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس بِشَرْطٍ وَقَبْضُ الْمُشَاعِ صَحِيحٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الشِّيَاعَ لَا يَقْدَحُ في حُكْمِ الرَّهْنِ وَلَا في شَرْطِهِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ الرَّهْنِ وَدَلَالَةُ ذلك أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ عِنْدَهُ كَوْنُ الْمُرْتَهِنِ أَحَقَّ بِبَيْعِ الْمَرْهُونِ وَاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ من بَدَلِهِ على ما نَذْكُرُ وَالشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ وَشَرْطُهُ هو الْقَبْضُ وأنه مُمْكِنٌ في النِّصْفِ الشَّائِعِ بِتَخْلِيَةِ الْكُلِّ
وَلَنَا أَنَّ قَبْضَ النِّصْفِ الشَّائِعِ وَحْدَهُ لَا يُتَصَوَّرُ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ ليس بِمَرْهُونٍ فَلَا يَصِحُّ قَبْضُهُ وَسَوَاءٌ كان مُشَاعًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أو لَا يَحْتَمِلُهَا لِأَنَّ الشُّيُوعَ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ قَبْضِ الشَّائِعِ في النَّوْعَيْنِ جميعا بِخِلَافِ الْهِبَةِ فإن الشُّيُوعَ فيها لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُنَاكَ ضَمَانُ الْقِسْمَةِ على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْهِبَةِ وَأَنَّهُ يَخُصُّ الْمَقْسُومَ وَسَوَاءٌ رَهَنَ من أَجْنَبِيٍّ أو من شَرِيكِهِ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَسَوَاءٌ كان مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ أو طَرَأَ عليه في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ الشُّيُوعَ الطارىء على الْعَقْدِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْعَقْدِ على الصِّحَّةِ
صُورَتُهُ إذَا رَهَنَ شيئا وَسَلَّطَ الْمُرْتَهِنَ أو الْعَدْلَ على بَيْعِهِ كَيْفَ شَاءَ مُجْتَمِعًا أو مُتَفَرِّقًا فَبَاعَ نِصْفَهُ شَائِعًا أو اسْتَحَقَّ بَعْضَ الرَّهْنِ شَائِعًا
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّ حَالَ الْبَقَاءِ لَا يُقَاسُ على حَالِ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ من حُكْمِ الِابْتِدَاءِ لِهَذَا فَرَّقَ الشَّرْعُ بين الطارىء وَالْمُقَارَنِ في كَثِيرٍ من الْأَحْكَامِ كَالْعِدَّةِ الطَّارِئَةِ وَالْإِبَاقِ الطارىء وَنَحْوِ ذلك فَكَوْنُ الْحِيَازَةِ شَرْطًا في ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لَا يَدُلُّ على كَوْنِهَا شَرْطَ الْبَقَاءِ على الصِّحَّةِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَانِعَ في الْمُقَارَنِ كَوْنُ الشُّيُوعِ مَانِعًا عن تَحَقُّقِ الْقَبْضِ في النِّصْفِ الشَّائِعِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ في الطارىء فَيَمْنَعُ الْبَقَاءَ على الصِّحَّةِ وَلَوْ رَهَنَ رَجُلَانِ رَجُلًا عَبْدًا بِدَيْنٍ له عَلَيْهِمَا رَهْنًا وَاحِدًا جَازَ وكان كُلُّهُ رَهْنًا بِكُلِّ الدَّيْنِ حتى إن المرتهن ( ( ( للمرتهن ) ) ) له أَنْ يُمْسِكَهُ حتى يستوفي كُلُّ الدَّيْنِ وإذا قَضَى أَحَدُهُمَا دَيْنَهُ لم يَكُنْ له أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ من الرَّهْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَهَنَ كُلَّ الْعَبْدِ بِمَا عليه من الدَّيْنِ لَا نِصْفَهُ وَإِنْ كان الْمَمْلُوكُ منه لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كَوْنَ الْمَرْهُونِ مَمْلُوكُ الرَّاهِنِ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الرَّهْنِ فإنه يَجُوزُ رَهْنُ مَالِ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ لِمَا بَيَّنَّا وَإِقْدَامُهُمَا على رَهْنِهِ صَفْقَةً وَاحِدَةً دَلَالَةُ الْإِذْنِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَصَارَ كُلُّ الْعَبْدِ
____________________

(6/138)


رَهْنًا بِكُلِّ الدَّيْنِ وَلَا اسْتِحَالَةَ في ذلك لِأَنَّ الرَّهْنَ حُبِسَ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ الْوَاحِدُ مَحْبُوسًا بِكُلِّ الدَّيْنِ فلم يَكُنْ هذا رَهْنَ الشَّائِعِ فَجَازَ وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ من الْعَبْدِ إذَا قَضَى ما عليه من الدَّيْنِ لِأَنَّ كُلَّهُ مَرْهُونٌ بِكُلِّ الدَّيْنِ فما بَقِيَ شَيْءٌ من الدَّيْنِ بَقِيَ اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ
وَكَذَلِكَ إذَا رَهَنَ رَجُلٌ رَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ لَهُمَا عليه وَهُمَا شَرِيكَانِ فيه أو لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا جَازَ وإذا قَضَى الرَّاهِنُ دَيْنَ أَحَدِهِمَا لم يَكُنْ له أَنْ يَقْبِضَ شيئا من الرَّهْنِ لِأَنَّهُ رَهَنَ كُلَّ الْعَبْدِ بِدَيْنِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكُلُّ الْعَبْدِ يَصْلُحُ رَهْنًا بِدَيْنِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الْكَمَالِ كَأَنْ ليس معه غَيْرُهُ لِمَا ذَكَرْنَا وَهَذَا بِخِلَافِ الْهِبَةِ من رَجُلَيْنِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أنها غَيْرُ جَائِزَةٍ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ وَتَمْلِيكُ شَيْءٍ وَاحِدٍ من اثْنَيْنِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الْكَمَالِ مُحَالٌ وَالْعَاقِلُ لَا يَقْصِدُ بِتَصَرُّفِهِ الْمُحَالَ
فَأَمَّا الرَّهْنُ فَحَبْسٌ وَلَا اسْتِحَالَةَ في كَوْنِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مَحْبُوسًا بِكُلِّ وَاحِدٍ من الدَّيْنَيْنِ فَهُوَ الْفَرْقُ بين الْفَصْلَيْنِ غير أَنَّهُ وَإِنْ كان مَحْبُوسًا بِكُلِّ وَاحِدٍ من الدَّيْنَيْنِ لَكِنَّهُ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا إلَّا بِحِصَّتِهِ حتى لو هَلَكَ تَنْقَسِمُ قِيمَتُهُ على الدَّيْنَيْنِ فَيَسْقُطُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِهِ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا الدَّيْنَ من مَالِيَّةِ الرَّهْنِ وانه لَا يَفِي لإستيفاء الدَّيْنَيْنِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى من الْآخَرِ فَيُقْسَمُ عَلَيْهِمَا فَيَسْقُطُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقِدْرِهِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ حَبْسُ الْمَبِيعِ بِأَنْ اشْتَرَى رَجُلَانِ من رَجُلٍ شيئا فَأَدَّى أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ من الثَّمَنِ لم يَكُنْ له أَنْ يَقْبِضَ شيئا من الْمَبِيعِ وكان لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ كُلَّهُ حتى يَسْتَوْفِيَ ما على الْآخَر لِأَنَّ كُلَّ الْمَبِيعِ مَحْبُوسٌ بِكُلِّ الثَّمَنِ فما بَقِيَ جُزْءٌ من الثَّمَنِ بَقِيَ اسْتِحْقَاقُ حَبْسِ كل الْمَبِيعِ
وَلَوْ رَهْنَ بَيْتًا بِعَيْنِهِ من دَارٍ أو رَهَنَ طَائِفَةً مُعَيَّنَةً من دَارٍ جَازَ لِانْعِدَامِ الشُّيُوعِ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ تَخْرُجُ زِيَادَةُ الدَّيْنِ على الرَّهْنِ أنها لَا تَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في الزِّيَادَاتِ أنها أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ زِيَادَةُ الرَّهْنِ وَهِيَ نَمَاؤُهُ كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ وَالتَّمْرِ وَالصُّوفِ وَكُلِّ ما هو مُتَوَلَّدٌ من الرَّهْنِ أو في حُكْمِ الْمُتَوَلَّدِ منه بِأَنْ كان بَدَلَ جُزْءٍ فَائِتٍ أو بَدَلَ ما هو في حُكْمِ الْجُزْءِ كَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ وَزِيَادَةُ الرَّهْنِ على أَصْلِ الرَّهْنِ كما إذَا رَهَنَ بِالدَّيْنِ جَارِيَةً ثُمَّ زَادَ عَبْدًا أو غير ذلك رَهْنًا بِذَلِكَ الدَّيْنِ وَزِيَادَةُ الرَّهْنِ على نَمَاءِ الرَّهْنِ كما إذَا رَهَنَ بِالدَّيْنِ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا ثُمَّ مَاتَتْ الْجَارِيَةُ ثُمَّ زَادَ رَهْنًا على الْوَلَدِ وَزِيَادَةُ الدَّيْنِ على الرَّهْنِ كما إذَا رَهَنَ عَبْدًا بِأَلْفٍ ثُمَّ إنَّ الرَّاهِنَ اسْتَقْرَضَ من الْمُرْتَهِنِ أَلْفًا أُخْرَى على أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِالْأَوَّلِ وَالزِّيَادَةِ جميعا
أَمَّا زِيَادَةُ الرَّهْنِ فَمَرْهُونَةٌ عِنْدَنَا على مَعْنَى أَنَّهُ يَثْبُتُ حُكْمُ الْأَصْلِ فيها وهو اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ على طَرِيقِ اللُّزُومِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَتْ بِمَرْهُونَةٍ أَصْلًا وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي في بَيَانِ حُكْمِ الرَّهْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا زِيَادَةُ الرَّهْنِ فَجَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وهو قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ وهو على اخْتِلَافِ الزِّيَادَةِ في الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ في كِتَابِ الْبُيُوعِ
وَأَمَّا زِيَادَةُ الرَّهْنِ على نَمَاءِ الرَّهْنِ بَعْدَ هَلَاكِ الْأَصْلِ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ إنْ بَقِيَ الْوَلَدُ إلَى وَقْتِ الْفَكَاكِ جَازَتْ الزِّيَادَةُ وَإِنْ هَلَكَ لم تَجُزْ لِأَنَّهَا إذَا هَلَكَتْ تَبَيَّنَ أنها حَصَلَتْ بَعْدَ سُقُوطِ الدَّيْنِ وَقِيَامُ الدَّيْنِ شَرْطُ صِحَّةِ الزِّيَادَةِ
وَأَمَّا زِيَادَةُ الدَّيْنِ على الرَّهْنِ فَهِيَ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ جَائِزَةٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الدَّيْنَ في بَابِ الرَّهْنِ كَالثَّمَنِ في بَابِ الْبَيْعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا بِالدَّيْنِ كما لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إلَّا بِالثَّمَنِ ثُمَّ هُنَاكَ جَازَتْ الزِّيَادَةُ في الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ جميعا فَكَذَا هُنَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ في الرَّهْنِ وَالدَّيْنِ جميعا وَالْجَامِعُ بين الْبَابَيْنِ أَنَّ الزِّيَادَةَ عِنْدَنَا تُلْتَحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ كَأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ على الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جميعا فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ رَهَنَ بِالدَّيْنِ عَبْدَيْنِ ابْتِدَاءً وَذَا جَائِزٌ
كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذه الزِّيَادَةَ لو صَحَّتْ لَأَوْجَبَتْ الشُّيُوعَ في الرَّهْنِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ وَدَلَالَةُ ذلك أنها لو صَحَّتْ لَصَارَ بَعْضُ الْعَبْدِ بِمُقَابِلَتِهَا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَصِيرَ ذلك الْبَعْضُ بِمُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ مع بَقَائِهِ مَشْغُولًا بِالْأَوَّلِ وَإِمَّا أَنْ يَفْرُغَ من الْأَوَّلِ وَيَصِيرَ مَشْغُولًا بِالزِّيَادَةِ لا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَشْغُولَ بِشَيْءٍ لَا يَحْتَمِلُ الشَّغْلَ بِغَيْرِهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ رَهَنَ بَعْضَ الْعَبْدِ بِالدَّيْنِ وَهَذَا رَهْنُ الْمُشَاعِ فَلَا يَجُوزُ كما إذَا رَهَنَ عَبْدًا وَاحِدًا بِدَيْنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضُهُ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الرَّهْنِ على أَصْلِ الرَّهْنِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ هُنَاكَ لَا تُؤَدِّي إلَى شُيُوعِ الرَّهْنِ بَلْ إلَى شُيُوعِ الدَّيْنِ لِأَنَّ قبل الزِّيَادَةِ كان الْعَبْدُ بِمُقَابَلَةِ كل الدَّيْنِ وَبَعْدَ الزِّيَادَةِ صَارَ كُلُّهُ بِمُقَابَلَةِ بَعْضِ الدَّيْنِ وَالْعَبْدُ وَالزِّيَادَةُ بِمُقَابَلَةِ الْبَعْضِ الْآخَرِ فَيَرْجِعُ
____________________

(6/139)


الشُّيُوعُ إلَى الدَّيْنِ لَا إلَى الرَّهْنِ وَالشُّيُوعُ في الدَّيْنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ للرهن ( ( ( الرهن ) ) ) وفي الرَّهْنِ يَمْنَعُ صِحَّتَهُ
أَلَا تَرَى لو رَهَنَ عَبْدًا بِنِصْفِ الدَّيْنِ جَازَ وَلَوْ رَهَنَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِالدَّيْنِ لم يُجْزَ لِذَلِكَ افْتَرَقَ حُكْمُ الزِّيَادَتَيْنِ
وَلَوْ رَهَنَ مُشَاعًا فَقَسَّمَ وسلم جَازَ لِأَنَّ الْعَقْدَ في الْحَقِيقَةِ مَوْقُوفٌ على الْقِسْمَةِ وَالتَّسْلِيمِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فإذا وُجِدَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ من النَّفَاذِ فَيَنْفُذُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ فَارِغًا عَمَّا ليس بِمَرْهُونٍ فَإِنْ كان مَشْغُولًا بِهِ بِأَنْ رَهَنَ دَارًا فيها مَتَاعُ الرَّاهِنِ وسلم الدَّارَ أو سَلَّمَ الدَّارَ مع ما فيها من الْمَتَاعِ أو رَهَنَ جُوَالِقًا دُونَ ما فيه وسلم الْجُوَالِقَ أو سَلَّمَهُ مع ما فيه لم يَجُزْ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَبْضِ هو التَّخْلِيَةُ الْمُمْكِنَةُ من التَّصَرُّفِ وَلَا يَتَحَقَّقُ مع الشَّغْلِ
وَلَوْ أَخْرَجَ الْمَتَاعَ من الدَّارِ ثُمَّ سَلَّمَهَا فَارِغَةً جَازَ وَيُنْظَرُ إلَى حَالِ الْقَبْضِ لَا إلَى حَالِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْمَانِعَ هو الشَّغْلُ وقد زَالَ فَيَنْفُذُ كما في رَهْنِ الْمُشَاعِ
وَلَوْ رَهَنَ الْمَتَاعَ الذي فيها دُونَ الدَّارِ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّارِ جَازَ بِخِلَافِ ما إذَا رَهَنَ الدَّارَ دُونَ الْمَتَاعِ لِأَنَّ الدَّارَ تَكُونُ مَشْغُولَةً بِالْمَتَاعِ فَأَمَّا الْمَتَاعُ فَلَا يَكُونُ مَشْغُولًا بِالدَّارِ فَيَصِحُّ قَبْضُ الْمَتَاعِ ولم يَصِحَّ قَبْضُ الدَّارِ
وَلَوْ رَهَنَ الدَّارَ وَالْمَتَاعَ وَاَلَّذِي فيها صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا وهو خَارِجُ الدَّارِ جَازَ الرَّهْنُ فِيهِمَا جميعا لِأَنَّهُ رَهَنَ الْكُلَّ وسلم الْكُلَّ وَصَحَّ تَسْلِيمُهُمَا جميعا وَلَوْ فَرَّقَ الصَّفْقَةَ بِأَنْ رَهَنَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ الْآخَرَ فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا في التَّسْلِيمِ صَحَّ الرَّهْنُ فِيهِمَا جميعا
أَمَّا في الْمَتَاعِ فَلَا شَكَّ فيه لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَتَاعَ لَا يَكُونُ مَشْغُولًا بِالدَّارِ وَأَمَّا في الدَّارِ فَلِأَنَّ الْمَانِعَ وهو الشَّغْلُ قد زَالَ وَإِنْ فَرَّقَ بِأَنْ رَهَنَ أَحَدَهُمَا وسلم ثُمَّ رَهَنَ الْآخَرَ وسلم لم يَجُزْ الرَّهْنُ في الدَّارِ وَجَازَ في الْمَتَاعِ سَوَاءٌ قَدَّمَ أو أَخَّرَ بِخِلَافِ الْهِبَةِ فإن هُنَاكَ يراعي فيه التَّرْتِيبُ إنْ قَدَّمَ هِبَةَ الدَّارِ لم تَجُزْ الْهِبَةُ في الدَّارِ وَجَازَتْ في الْمَتَاعِ كما في الرَّهْنِ وَإِنْ قَدَّمَ هِبَةَ الْمَتَاعِ جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِمَا جميعا
أَمَّا في الْمَتَاعِ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْغُولٍ بِالدَّارِ وَأَمَّا في الدَّارِ فَلِأَنَّهَا وَإِنْ كانت مَشْغُولَةً وَقْتَ الْقَبْضِ لَكِنْ بِمَتَاعٍ هو مِلْكُ الْمَوْهُوبِ له فلم يَمْنَعْ صِحَّةَ الْقَبْضِ وَهُنَا الدَّارُ مَشْغُولَةٌ بِمَتَاعٍ هو مِلْكُ الرَّاهِنِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَلَوْ رَهَنَ دَارًا وَالرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ في جَوْفِ الدَّارِ فقال الرَّاهِنُ سَلَّمْتُهَا إلَيْكَ لم يَصِحَّ التَّسْلِيمُ حتى يَخْرُجَ من الدَّارِ ثُمَّ يُسَلِّمَ لِأَنَّ مَعْنَى التَّسْلِيمِ وهو التَّخْلِيَةُ لَا يَتَحَقَّقُ مع كَوْنِهِ في الدَّارِ فَلَا بُدَّ من تَسْلِيمٍ جَدِيدٍ بَعْدَ الْخُرُوجِ منها وَلَوْ رَهَنَ دَابَّةً عليها حِمْلٌ دُونَ الْحِمْلِ لم يَتِمَّ الرَّهْنُ حتى يُلْقِيَ الحلم ( ( ( الحمل ) ) ) عنها ثُمَّ يُسَلِّمَهَا إلَى الْمُرْتَهِنِ
وَلَوْ رَهَنَ الْحِمْلَ دُونَ الدَّابَّةِ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ كان رَهْنًا تَامًّا في الْحِمْلِ لِأَنَّ الدَّابَّةَ مَشْغُولَةٌ بِالْحِمْلِ أَمَّا الْحِمْلُ فَلَيْسَ مَشْغُولًا بِالدَّابَّةِ كما في رَهْنِ الدَّارِ التي فيها الْمَتَاعُ بِدُونِ الْمَتَاعِ وَرَهْنُ الْمَتَاعِ الذي في الدَّارِ بِدُونِ الدَّارِ
وَلَوْ رَهَنَ سَرْجًا على دَابَّةٍ أو لِجَامًا في رَأْسِهَا أو رَسَنًا في رَأْسِهَا فَدَفَعَ إلَيْهِ الدَّابَّةَ مع اللِّجَامِ وَالسَّرْجِ وَالرَّسَنِ لم يَكُنْ رَهْنًا حتى يَنْزِعَهُ من رَأْسِ الدَّابَّةِ ثُمَّ يُسَلِّمَ بِخِلَافِ ما إذَا رَهَنَ مَتَاعًا في الدَّارِ لِأَنَّ السَّرْجَ وَنَحْوَهُ من تَوَابِعِ الدَّابَّةِ فلم يَصِحَّ رَهْنُهَا بِدُونِ الدَّابَّةِ كما لَا يَصِحُّ رَهْنُ الثَّمَرِ بِدُونِ الشَّجَرِ بِخِلَافِ الْمَتَاعِ فإنه ليس تَبَعًا لِلدَّارِ وَلِهَذَا قالوا لو رَهَنَ دَابَّةً عليها سَرْجٌ أو لِجَامٌ دخل ذلك في الرَّهْنِ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا رَهَنَ جَارِيَةً وَاسْتَثْنَى ما في بَطْنِهَا أو بَهِيمَةَ وَاسْتَثْنَى ما في بَطْنِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا الْعَقْدُ
أَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَلِأَنَّهُ لو جَازَ لَكَانَ الْمَرْهُونُ مَشْغُولًا بِمَا ليس بِمَرْهُونٍ وَأَمَّا الْعَقْدُ فَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ ما في الْبَطْنِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ
وَالرَّهْنُ تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ كَالْبَيْعِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَلَوْ أَعْتَقَ ما في بَطْنِ جَارِيَتِهِ ثُمَّ رَهَنَ الْأُمَّ أو دَبَّرَ ما في بَطْنِهَا ثُمَّ رَهَنَ الْأُمَّ فَالْكَلَامُ فيه كَالْكَلَامِ في الْهِبَةِ وقد مَرَّ الْكَلَامُ في الْهِبَةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ مُنْفَصِلًا مُتَمَيِّزًا عَمَّا ليس بِمَرْهُونٍ فَإِنْ كان مُتَّصِلًا بِهِ غير مُتَمَيِّزٍ عنه لم يَصِحَّ قَبْضُهُ لِأَنَّ قَبْضَ الْمَرْهُونِ وَحْدَهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالْمُتَّصِلُ بِهِ غَيْرُ مَرْهُونٍ فَأَشْبَهَ رَهْنَ الْمُشَاعِ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَخْرُجُ ما إذَا رَهَنَ الْأَرْضَ بِدُونِ الْبِنَاءِ أو بِدُونِ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ أو الزَّرْعَ وَالشَّجَرَ بِدُونِ الْأَرْضِ أو الشَّجَرَ بِدُونِ الثَّمَرِ أو الثَّمَرَ بِدُونِ الشَّجَرِ إنه لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ سَلَّمَ الْمَرْهُونَ بِتَخْلِيَةِ الْكُلِّ أو لَا لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مُتَّصِلٌ بِمَا ليس بِمَرْهُونٍ وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ
وَلَوْ جد الثَّمَرَ وَحَصَدَ الزَّرْعَ وسلم مُنْفَصِلًا جَازَ لِأَنَّ الْمَانِعَ من النَّفَاذِ قد زَالَ
وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا في عَقْدِ الرَّهْنِ فَرَهَنَهُمَا جميعا وسلم مُتَفَرِّقًا جَازَ وَإِنْ فَرَّقَ الصَّفْقَةَ بِأَنْ رَهَنَ الزَّرْعَ ثُمَّ الْأَرْضَ أو الْأَرْضَ ثُمَّ الزَّرْعَ يَنْظُرْ إنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا في التَّسْلِيمِ جَازَ الرَّهْنُ فِيهِمَا جميعا وَإِنْ فَرَّقَ لَا يَجُوزُ فِيهِمَا جميعا سَوَاءٌ قَدَّمَ أو أَخَّرَ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَانِعَ في الْفَصْلَيْنِ مُخْتَلِفٌ
____________________

(6/140)


فَالْمَانِعُ من صِحَّةِ الْقَبْضِ في هذا الْفَصْلِ هو الِاتِّصَالُ وإنه لَا يَخْتَلِفُ وَالْمَانِعُ من صِحَّةِ الْقَبْضِ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ هو الشَّغْلُ وإنه يَخْتَلِفُ
مِثَالُ هذا إذَا رَهَنَ نِصْفَ دَارِهِ مُشَاعًا من رَجُلٍ ولم يُسَلِّمْ إلَيْهِ حتى رَهَنَهُ النِّصْفَ الْبَاقِيَ وسلم الْكُلَّ إنه يَجُوزُ وَلَوْ رَهَنَ النِّصْفَ وسلم ثُمَّ رَهَنَ النِّصْفَ الْبَاقِي وسلم لَا يَجُوزُ كَذَا هذا
وَعَلَى هذا إذَا رَهَنَ صُوفًا على ظَهْرِ غَنَمٍ بِدُونِ الْغَنَمِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مُتَّصِلٌ بِمَا ليس بِمَرْهُونٍ وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ وَلَوْ جَزَّهُ وَسَلَّمَهُ جَازَ لِأَنَّ الْمَانِعَ قد زَالَ وَعَلَى هذا أَيْضًا إذَا رَهَنَ دَابَّةً عليها حِمْلٌ بِدُونِ الْحِمْلِ لَا يَجُوزُ
وَلَوْ رَفَعَ الْحِمْلَ عنها وَسَلَّمَهَا فَارِغَةً جَازَ لِمَا قُلْنَا بِخِلَافِ ما إذَا رَهَنَ ما في بَطْنِ جَارِيَتِهِ أو ما في بَطْنِ غَنَمِهِ أو ما في ضَرْعِهَا أو رَهَنَ سَمْنًا في لَبَنٍ أو دُهْنًا في سِمْسِمٍ أو زَيْتًا في زَيْتُونٍ أو دَقِيقًا في حِنْطَةٍ أَنَّهُ يَبْطُلُ وَإِنْ سَلَّطَهُ على قَبْضِهِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ أو عِنْدَ اسْتِخْرَاجِ ذلك فَقَبَضَ لِأَنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ لم يَنْعَقِدْ أَصْلًا لِعَدَمِ الْمَحَلِّ لِكَوْنِهِ مُضَافًا إلَى الْمَعْدُومِ وَلِهَذَا لم يَنْعَقِدْ الْبَيْعُ الْمُضَافُ إلَيْهَا فَكَذَا الرَّهْنُ أَمَّا هُنَا فَالْعَقْدُ مُنْعَقِدٌ مَوْقُوفٌ نَفَاذُهُ على صِحَّةِ التَّسْلِيمِ بِالْفَصْلِ وَالتَّمْيِيزِ فإذا وُجِدَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ
وَلَوْ رَهَنَ الشَّجَرَ بِمَوَاضِعِهِ من الْأَرْضِ جَازَ لِأَنَّ قَبْضَهُ مُمْكِنٌ
وَلَوْ رَهَنَ شَجَرًا وَفِيهِ ثَمَرٌ لم يُسَمِّهِ في الرَّهْنِ دخل في الرَّهْنِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الثَّمَرُ في بَيْعِ الشَّجَرِ من غَيْرِ تَسْمِيَةٍ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَصْحِيحَ الرَّهْنِ وَلَا صِحَّةَ له بِدُونِ الْقَبْضِ وَلَا صِحَّةَ لِلْقَبْضِ بِدُونِ دُخُولِ ما هو مُتَّصِلٌ بِهِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ تَصْحِيحًا له بِخِلَافِ الْبَيْعِ فإنه يَصِحُّ في الشَّجَرِ بِدُونِ الثَّمَرِ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إدْخَالِ الثَّمَرِ لِلتَّصْحِيحِ
وَلَوْ قال رَهَنْتُكَ هذه الدَّارَ أو هذه الْأَرْضَ أو هذا الْكَرْمَ وَأَطْلَقَ الْقَوْلَ ولم يَخُصَّ شيئا دخل فيه كُلُّ ما كان مُتَّصِلًا بِهِ من الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ لِأَنَّ ذلك يَدْخُلُ في الْبَيْعِ مع أَنَّ الْقَبْضَ ليس من شَرْطِ صِحَّتِهِ فَلَأَنْ يَدْخُلَ في الرَّهْنِ أَوْلَى إلَّا أَنَّهُ يَدْخُلُ فيه الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ وَلَا يَدْخُلُ في الْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا بِخِلَافِ الْمَتَاعِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ في رَهْنِ الدَّارِ وَيَدْخُلُ الثَّمَرُ في رَهْنِ الشَّجَرِ لِأَنَّ الثَّمَرَ تَابِعٌ لِلشَّجَرِ وَالْمَتَاعَ ليس بِتَابِعٍ لِلدَّارِ
وَلَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْمَرْهُونِ بَعْدَ صِحَّةِ الرَّهْنِ يَنْظُرُ إلَى الْبَاقِي إنْ كان الْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ مِمَّا يَجُوزُ رَهْنُهُ ابْتِدَاءً لَا يَفْسُدُ الرَّهْنُ فيه وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ ابْتِدَاءً فَسَدَ الرَّهْنُ في الْكُلِّ لِأَنَّهُ لَمَّا اُسْتُحِقَّ بَعْضَهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ لم يَصِحَّ في الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ وَأَنَّهُ لم يَقَعْ إلَّا على الْبَاقِي فَكَأَنَّهُ رَهَنَ هذا الْقَدْرَ ابْتِدَاءً فَيَنْظُرُ فيه إنْ كان مَحَلًّا لِابْتِدَاءِ الرَّهْنِ يَبْقَى الرَّهْنُ فيه وَإِلَّا فَيَفْسُدُ في الْكُلِّ
كما لو رَهَنَ هذا الْقَدْرَ ابْتِدَاءً
إلَّا أَنَّهُ إذَا بَقِيَ الرَّهْنُ فيه يبقي بِحِصَّتِهِ حتى لو هَلَكَ الْبَاقِي يهلك بِحِصَّتِهِ من الدَّيْنِ وَإِنْ كان في قِيمَتِهِ وَفَاءٌ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَلَا يَذْهَبُ جَمِيعُ الدَّيْنِ وإذا رَهَنَ الْبَاقِي ابْتِدَاءً وَفِيهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ فَهَلَكَ يَهْلِكْ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَإِنْ شِئْت أَنْ تَجْعَلَ الْحِيَازَةَ شَرْطًا مُفْرَدًا وَخَرَّجْتَ الْمُشَاعَ على هذا الْأَصْلِ لِأَنَّهُ مَرْهُونٌ مُتَّصِلٌ بِمَا ليس بِمَرْهُونٍ حَقِيقَةً فَكَانَ تَخْرِيجُهُ عليه مُسْتَقِيمًا فَافْهَمْ
وَمِنْهَا أَهْلِيَّةٌ الْقَبْضِ وَهِيَ الْعَقْلُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ أَهْلِيَّةُ الرُّكْنِ وهو الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلَأَنْ تَثْبُتَ بِهِ أَهْلِيَّةُ الشَّرْطِ أَوْلَى
وَأَمَّا تفسيرالقبض فَالْقَبْضُ عِبَارَةٌ عن التَّخَلِّي وهو التَّمَكُّنُ من إثْبَاتِ الْيَدِ وَذَلِكَ بِارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ وَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِتَخْلِيَةِ الرَّاهِنِ بين الْمَرْهُونِ وَالْمُرْتَهِنِ
فإذا حَصَلَ ذلك صَارَ الرَّاهِنُ مُسْلِمًا وَالْمُرْتَهِنُ قَابِضًا وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وري ( ( ( وروي ) ) ) عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ معه النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ فما لم يُوجَدْ لَا يَصِيرُ قَابِضًا
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ صِحَّةِ الرَّهْنِ قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } وَمُطْلَقُ الْقَبْضِ يَنْصَرِفُ إلَى الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك إلَّا بِالنَّقْلِ فَأَمَّا التَّخَلِّي فَقَبْضٌ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً فَلَا يُكْتَفَى بِهِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّخَلِّيَ بِدُونِ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ قَبْضٌ في الْعُرْفِ وَالشَّرْعِ
أَمَّا الْعُرْفُ فإن الْقَبْضَ يَرُدُّ على ما لايحتمل النَّقْلَ وَالتَّحْوِيلَ من الدَّارِ وَالْعَقَارِ يُقَالُ هذه الْأَرْضُ أو هذه الْقَرْيَةُ أو هذه الْوِلَايَةُ في يَدِ فُلَانٍ فَلَا يُفْهَمُ منه إلَّا التَّخَلِّيَ وهو التَّمَكُّنُ من التَّصَرُّفِ
وَأَمَّا الشَّرْعُ فإن التَّخَلِّيَ في بَابِ الْبَيْعِ قَبْضٌ بِالْإِجْمَاعِ من غَيْرِ نَقْلٍ وَتَحْوِيلٍ دَلَّ أَنَّ التَّخَلِّيَ بِدُونِ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ قَبْضٌ حَقِيقَةً وَشَرِيعَةً فَيُكْتَفَى بِهِ
وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِ الْقَبْضِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْقَبْضُ نَوْعَانِ نَوْعٌ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَنَوْعٌ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ أَمَّا الْقَبْضُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فَهُوَ أَنْ يَقْبِضَ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ
وَأَمَّا الْقَبْضُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْقَابِضِ وَنَوْعٌ يَرْجِعْ إلَى نَفْسِ الْقَبْضِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْقَابِضِ فَنَحْوُ قَبْضِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ عن ( ( ( وعن ) ) ) الصَّبِيِّ وكذا قَبْضُ الْعَدْلِ يَقُومُ مَقَامَ قَبْضِ
____________________

(6/141)


الْمُرْتَهِنِ حتى لو هَلَكَ الرَّهْنُ في يَدِهِ كان الْهَلَاكُ على الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ نَفْسَ الْقَبْضِ مِمَّا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ وَلِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ وَاسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِمَّا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَبْضِ فَهُوَ أَنَّ الْمَرْهُونَ إذَا كان مَقْبُوضًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَهَلْ يَنُوبُ ذلك عن قَبْضِ الرَّهْنِ فَالْأَصْلُ فيه ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْبُيُوعِ وَالْهِبَةِ إن القبضين ( ( ( القابضين ) ) ) إذَا تَجَانَسَا نَابَ أَحَدُهُمَا عن الْآخَرِ وإذا اخْتَلَفَا نَابَ الْأَعْلَى عن الْأَدْنَى وقد بَيَّنَّا فِقْهَ هذا الْأَصْلِ وَفُرُوعِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ شِئْتَ عَدَدْتَ الْحِيَازَةَ وَالْفَرَاغَ وَالتَّمْيِيزَ من شَرَائِطِ نَفْسِ الْعَقْدِ فَقُلْتَ وَمِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ مَحُوزًا عِنْدَنَا وَبَنَيْتَ الْمُشَاعَ عليه وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ وَمِنْهَا دَوَامُ الْقَبْضِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس بِشَرْطٍ وَبَنَيْتَ عليه الْمُشَاعَ وَلَنَا في إثْبَاتِ هذا الشَّرْطِ دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا قَوْله تَعَالَى { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْمَرْهُونَ مَقْبُوضٌ فَيَقْتَضِي كَوْنَهُ مَقْبُوضًا ما دَامَ مَرْهُونًا لِأَنَّ إخْبَارَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَحْتَمِلُ الْخُلْفَ وَالشُّيُوعُ يَمْنَعُ دَوَامَ الْقَبْضِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ
وَالثَّانِي أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَمَّاهُ رَهْنًا وَكَذَا يُسَمَّى رَهْنًا في مُتَعَارَفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالرَّهْنُ حَبْسٌ في اللُّغَةِ قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } أَيْ حَبِيسَةٌ بِكَسْبِهَا فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا ما دَامَ مَرْهُونًا وَالشِّيَاعُ يَمْنَعُ دَوَامَ الْحَبْسِ فَيَمْنَعُ جَوَازَ الرَّهْنِ
وَسَوَاءٌ كان فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أو فِيمَا لَا يَحْتَمِلُهَا لِأَنَّ الشُّيُوعَ يَمْنَعُ إدَامَةَ الْقَبْضُ فِيهِمَا جميعا وَسَوَاءٌ كان الشُّيُوعُ مُقَارَنًا أو طَارِئًا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ كُلَّ ذلك يَمْنَعُ دَوَامَ الْقَبْضِ وَسَوَاءٌ كان الرَّهْنُ من أَجْنَبِيٍّ أو من شَرِيكِهِ لِأَنَّهُ لو جَازَ لَأَمْسَكَهُ الشَّرِيكُ يَوْمًا بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَيَوْمًا بِحُكْمِ الرَّهْنِ فَتَخْتَلِفُ جِهَةُ الْقَبْضِ وَالْحَبْسِ فَلَا يَدُومُ الْقَبْضُ وَالْحَبْسُ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ رَهَنَهُ يَوْمًا وَيَوْمًا لَا وَذَا لَا يَجُوزُ وَعَلَى هذا أَيْضًا يَخْرُجُ رَهْنُ ما هو مُتَّصِلٌ بِعَيْنٍ ليس بِمَرْهُونٍ لِأَنَّ اتِّصَالَهُ بِعَيْنِ الْمَرْهُونِ يَمْنَعُ من إدَامَةِ الْقَبْضِ عليه وإنه شَرْطُ جَوَازِ الرَّهْنِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فَارِغًا ما ليس بِمَرْهُونٍ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُنْفَصِلًا مُمَيَّزًا عَمَّا ليس بِمَرْهُونٍ وَخَرَجَتْ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَسَائِلُهُ التي ذَكَرْنَا فَافْهَمْ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَرْهُونِ بِهِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا وَالْكَلَامُ في هذا الشَّرْطِ يَقَعُ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في أَصْلِ اشْتِرَاطِ الضَّمَانِ
وَالثَّانِي في صِفَةِ الْمَضْمُونِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَصْلُ الضَّمَانِ هو كَوْنُ الْمَرْهُونِ بِهِ مَضْمُونًا شَرْطُ جَوَازِ الرَّهْنِ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ عِنْدَنَا مَضْمُونٌ بِمَعْنَى سُقُوطِ الْوَاجِبِ عِنْدَ هَلَاكِهِ أو بِمَعْنَى اسْتِيفَاءِ الْوَاجِبِ وَلَسْنَا نَعْنِي بِالْمَضْمُونِ سِوَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ التَّسْلِيمِ على الرَّاهِنِ وَالْمَضْمُونُ نَوْعَانِ دَيْنٌ وَعَيْنٌ
أَمَّا الدَّيْنُ فَيَجُوزُ الرَّهْنُ به بِأَيِّ سَبَبٍ وَجَبَ من الْإِتْلَافِ وَالْغَصْبِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ الدُّيُونَ كُلَّهَا وَاجِبَةٌ على اخْتِلَافِ أَسْبَابِ وُجُوبِهَا فَكَانَ الرَّهْنُ بها رَهْنًا بِمَضْمُونٍ فَيَصِحُّ وَسَوَاءٌ كان مِمَّا يَحْتَمِلُ الِاسْتِبْدَالَ قبل الْقَبْضِ أو لَا يَحْتَمِلُهُ كَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَبَدَلِ الصَّرْفِ وَالْمُسَلَّمِ فيه وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِهَذِهِ الدُّيُونِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سُقُوطَ الدَّيْنِ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ بِطَرِيقِ الِاسْتِبْدَالِ على مَعْنَى أَنَّ عَيْنَ الدَّيْنِ تَصِيرُ بَدَلًا عن الدَّيْنِ لَا بِطَرِيقِ الِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا عِنْدَ الْمُجَانَسَةِ وَالرَّهْنُ مع الدَّيْنِ يَكُونَانِ مُخْتَلِفَيْ الْجِنْسِ عَادَةً فَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ بِالسُّقُوطِ بِطَرِيقِ الِاسْتِيفَاءِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الِاسْتِبْدَالِ فَيَخْتَصُّ جَوَازُ الرَّهْنِ بِمَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِبْدَالَ وَهَذِهِ الدُّيُونُ كما لَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهَا فَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بها
وَلَنَا أَنَّ السُّقُوطَ بِطَرِيقِ الِاسْتِيفَاءِ لِمَا نَذْكُرُ في حُكْمِ الرَّهْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتِيفَاءُ هذه الدُّيُونِ مُمْكِنٌ
وَأَمَّا قَوْلُهُ الِاسْتِيفَاءُ يَسْتَدْعِي الْمُجَانَسَةَ قُلْنَا الْمُجَانَسَةُ ثَابِتَةٌ من وَجْهٍ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ يَقَعُ بِمَالِيَّةِ الرَّهْنِ لَا بِصُورَتِهِ وَالْأَمْوَالُ كُلُّهَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْمَالِيَّةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ وقد يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْمُجَانَسَةِ من حَيْثُ الصُّورَةُ وَيُكْتَفَى بِمُطْلَقِ الْمَالِيَّةِ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ كما في إتْلَافِ ما لَا مِثْلَ له من جِنْسِهِ وقد تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ في بَابِ الرَّهْنِ لِحَاجَةِ الناس إلَى تَوْثِيقِ دُيُونِهِمْ من جَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِالِاسْتِيفَاءِ وإذا جَازَ الرَّهْنُ بِهَذِهِ الدُّيُونِ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ في الْمَجْلِسِ تَمَّ الصَّرْفُ وَالسَّلَمُ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا عَيْنَ حَقِّهِ في الْمَجْلِسِ لَا مُسْتَبْدِلًا وَإِنْ لم يَمْلِكْ حتى افْتَرَقَا بَطَلَا لِفَوَاتِ شَرْطِ الْبَقَاءِ على الصِّحَّةِ وهو الْقَبْضُ في الْمَجْلِسِ
وَأَمَّا الْعَيْنُ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِالْعَيْنِ التي هِيَ أَمَانَةٌ في يَدِ الرَّاهِنِ كَالْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالْبِضَاعَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُسْتَأْجَرِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ أَصْلًا

____________________

(6/142)


وَأَمَّا الْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ هو مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ وهو الذي يَجِبُ مِثْلُهُ عِنْدَ هَلَاكِهِ إنْ كان له مِثْلٌ وَقِيمَتُهُ إنْ لم يَكُنْ له مِثْلٌ كَالْمَغْصُوبِ في يَدِ الْغَاصِبِ وَالْمَهْرِ في يَدِ الزَّوْجِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ في يَدِ الْمَرْأَةِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ في يَدِ الْعَاقِلَةِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ يَجُوزُ الرَّهْنُ بِهِ وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْبِسَ الرَّهْنَ حتى يَسْتَرِدَّ الْعَيْنَ فَإِنْ هَلَكَ الْمَرْهُونُ في يَدِهِ قبل اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ يُقَالُ لِلرَّاهِنِ سَلِّمْ الْعَيْنَ إلَى الْمُرْتَهِنِ وَخُذْ منه الْأَقَلَّ من قِيمَةِ الرَّهْنِ وَمِنْ الدَّيْنِ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ عِنْدَنَا مَضْمُونٌ بِذَلِكَ فإذا وَصَلَ إلَيْهِ الْعَيْنُ يَجِبُ عليه رَدُّ قَدْرِ الْمَضْمُونِ إلَى الرَّاهِنِ فَإِنْ هَلَكَتْ الْعَيْنُ وَالرَّهْنُ قَائِمٌ صَارَ الرَّهْنُ بها رَهْنًا بِقِيمَتِهَا حتى لو ( ( ( وهلك ) ) ) هلك الرَّهْنُ بَعْدَ ذلك يَهْلِكُ مَضْمُونًا بِالْأَقَلِّ من قِيمَتِهِ وَقِيمَةِ الْعَيْنِ لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَيْنِ بَدَلُهَا وَبَدَلُ الشَّيْءِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هو
وَأَمَّا الذي هو مَضْمُونٌ بِغَيْرِهِ لَا بِنَفْسِهِ كَالْمَبِيعِ في يَدِ الْبَائِعِ ليس هو مَضْمُونًا بِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو هَلَكَ في يَدِهِ لَا يَضْمَنُ شيئا بَلْ هو مَضْمُونٌ بغيره ( ( ( بغير ) ) ) وهو الثَّمَنِ حتى يَسْقُطَ الثَّمَنُ المشتري إذَا هَلَكَ فَهَلْ يَجُوزُ الرَّهْنُ بِهِ ذَكَرَ في كِتَابِ الصَّرْفِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ حتى يَقْبِضَ الْمَبِيعَ وَإِنْ هَلَكَ في يَدِهِ قبل الْقَبْضِ يَهْلِكْ بِالْأَقَلِّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ قِيمَةِ الْمَبِيعِ وَلَا يَصِيرُ قَابِضًا لِلْمَبِيعِ بِهَلَاكِهِ وَلَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْمَبِيعَ إذَا أَوْفَى ثَمَنَهُ وَعَلَيْهِ أَيْضًا ضَمَانُ الْأَقَلِّ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قبل الْقَبْضِ وَالرَّهْنُ قَائِمٌ بَطَلَ الْبَيْعُ لِأَنَّ إهْلَاكَ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْمَبِيعِ وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ الرَّهْنَ على الْبَائِعِ وَلَوْ هَلَكَ في يَدِهِ قبل الرَّدِّ هَلَكَ بِضَمَانِهِ وهو الْأَقَلُّ من قِيمَتِهِ وَمَنْ قِيمَةِ الْمَبِيعِ لِلْبَائِعِ وَلَا يَبْطُلُ ضَمَانُهُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ وَبُطْلَانِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ وَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فَقَدْ سَقَطَ الثَّمَنُ بِمُقَابَلَتِهِ فَكَانَ بُطْلَانُهُ بِعِوَضٍ فَلَا يَبْطُلُ ضَمَانُهُ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الرَّهْنُ وَبِهِ أَخَذَ الْكَرْخِيُّ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءِ الْمَرْهُونِ وَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الِاسْتِيفَاءِ في الْمَضْمُونِ بِغَيْرِهِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا شيئا بِهَلَاكِ الرَّهْنِ إنَّمَا يَسْقُطُ عنه الثَّمَنُ لَا غَيْرُ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أن الِاسْتِيفَاءُ هَهُنَا يَحْصُلُ من حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمَبِيعَ قبل الْقَبْضِ إنْ لم يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو هَلَكَ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عن الْمُشْتَرِي فَكَانَ سُقُوطُ الثَّمَنِ عنه كَالْعِوَضِ عن هَلَاكِ الْمَبِيعِ فَيَحْصُل مُسْتَوْفِيًا مَالِيَّةَ الْمَبِيعِ من الرَّهْنِ من حَيْثُ الْمَعْنَى فَكَانَ في مَعْنَى الْمَضْمُونِ بِنَفْسِهِ فَيَصِحُّ الرَّهْنُ بِهِ
وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً على دَرَاهِمَ بِعَيْنِهَا أو اشْتَرَى شيئا بِدَرَاهِمَ بِعَيْنِهَا فَأَعْطَى بها رَهْنًا لم يَجُزْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ بِنَاءً على أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا تَتَعَيَّنُ في عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَإِنْ عُيِّنَتْ فَكَانَ الْوَاجِبُ على الرَّاهِنِ مِثْلُهَا لَا عَيْنُهَا فلم يَكُنْ الْمُعَيَّنُ مَضْمُونًا فلم يَجُزْ الرَّهْنُ بِهِ وَعِنْدَهُ يُتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بِمَنْزِلَةِ الْعِوَضِ فَكَانَ الْمُعَيَّنُ مَضْمُونًا فَجَازَ الرَّهْنُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ ليس بِمَضْمُونٍ على الْكَفِيلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو هَلَكَ لَا يَجِبُ على الرَّاهِنِ شَيْءٌ وَلَا يَسْقُطُ عن الْمُرْتَهِنِ بِمُقَابَلَتِهِ وَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ على الْمُشْتَرِي بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو هَلَكَ لَا يَجِبُ عليه شَيْءٌ وَلَا يَسْقُطُ عن الْمُرْتَهِنِ بِشَيْءٍ بِمُقَابَلَتِهِ فَكَانَ رَهْنًا بِمَا ليس بِمَضْمُونٍ فلم يَجُزْ
وَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِالْعَبْدِ الْجَانِي وَالْعَبْدِ الْمَدْيُونِ لِأَنَّهُ لو هَلَكَ لَا يَجِبُ على الْمَوْلَى شَيْءٌ وَلَا يَسْقُطُ عن الْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ بِمُقَابَلَتِهِ فلم يَكُنْ مَضْمُونًا أَصْلًا فَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِأُجْرَةِ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ مُغَنِّيَةً أو نَائِحَةً وأعطاهما بِالْأُجْرَةِ رَهْنًا لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لم تَصِحَّ فلم تَجِبْ الْأُجْرَةُ فَكَانَ رَهْنًا بِمَا ليس بِمَضْمُونٍ فلم يَجُزْ
وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ رَهْنًا لِيُقْرِضَهُ فَهَلَكَ الرَّهْنُ قبل أَنْ يُقْرِضَهُ يَهْلِكُ مَضْمُونًا بِالْأَقَلِّ من قِيمَتِهِ وَمِمَّا سَمَّى من الْقَرْضِ وَإِنْ حَصَلَ الِارْتِهَانُ بِمَا ليس بِمَضْمُونٍ لَكِنَّهُ في حُكْمِ الْمَضْمُونِ لِأَنَّهُ قَبَضَ الرَّهْنَ لِيُقْرِضَهُ فَكَانَ قَبْضُ الرَّهْنِ على جِهَةِ الضَّمَانِ وَالْمَقْبُوضُ على جِهَةِ شَيْءٍ كَالْمَقْبُوضِ على حَقِيقَتِهِ في الشَّرْعِ كَالْمَقْبُوضِ على سَوْمِ الشِّرَاءِ
وَأَمَّا صِفَةُ الْمَضْمُونِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا مُتَّفَقٌ عليه
وَالثَّانِي مُخْتَلَفٌ فيه
أَمَّا الْمُتَّفَقُ عليه هو أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا في الْحَالِ فَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بما ( ( ( مما ) ) ) يَصِيرُ مَضْمُونًا في الثَّانِي كَالرَّهْنِ بِالدَّرَكِ بِأَنْ بَاعَ شيئا وَقَبَضَ الثَّمَنَ وسلم الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي فَخَافَ الْمُشْتَرِي الِاسْتِحْقَاقَ فَأَخَذَ بِالثَّمَنِ من الْبَائِعِ رَهْنًا قبل الدَّرَكِ لَا يَجُوزُ حتى لَا يَمْلِكَ الْحَبْسَ سَوَاءٌ وُجِدَ الدَّرَكُ أو لم يُوجَدْ وَلَوْ هَلَكَ يَهْلِكُ أَمَانَةً سَوَاءٌ وُجِدَ الدَّرَكُ أو لم يُوجَدْ وَكَذَا إذا ارْتَهَنَ بِمَا يَثْبُتُ له على الرَّاهِنِ في الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ فإن الْكَفَالَةَ بِمَا يَصِيرُ مَضْمُونًا في
____________________

(6/143)


الثَّانِي جَائِزَةٌ كما إذَا كَفَلَ بِمَا يَذُوبُ له على فُلَانٍ وَنَحْوُ ذلك لِأَنَّ الِارْتِهَانَ اسْتِيفَاءٌ من وَجْهٍ لِلْحَالِ وَلَا شَيْءَ لِلْحَالِ يُسْتَوْفَى
وَاسْتِيفَاءُ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ
وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَالِارْتِهَانَ لَمَّا كان من بَابِ الْإِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءُ أَشْبَهَ الْبَيْعَ فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ كَالْبَيْعِ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَهُمَا جميعا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَدْعِي مَضْمُونًا إلَّا أَنَّ الْجَوَازَ في الْكَفَالَةِ لِتَعَامُلِ الناس وَلَا تَعَامُلَ في الرَّهْنِ فَيَبْقَى الْأَمْرُ فيه على أَصْلِ الْقِيَاسِ وَبِخِلَافِ ما إذَا دَفَعَ إلَى إنْسَانٍ رَهْنًا لِيُقْرِضَهُ أَنَّ الرَّهْنَ يَكُونُ مَضْمُونًا وَإِنْ كان ذلك رَهْنًا بِمَا ليس بِمَضْمُونٍ في الْحَالِ لِأَنَّ له حُكْمَ الْمَضْمُونِ وَإِنْ لم يَكُنْ مَضْمُونًا حَقِيقَةً لِوُجُودِ الْقَبْضِ على جِهَةِ الضَّمَانِ وَالْمَقْبُوضُ على جِهَةِ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ على حَقِيقَةٍ كَالْمَقْبُوضِ على سَوْمِ الشِّرَاءِ ولم يُوجَدْ هُنَا
وَلَوْ قال لِآخَرَ ضَمِنْتُ لك مَالَكَ على فُلَانٍ إذَا حَلَّ يَجُوزُ أَخْذُ الْكَفِيلِ والرهن ( ( ( الرهن ) ) ) بِهِ
وَلَوْ قال إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَأَنَا ضَامِنٌ مَالَكَ عليه لم يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ وَيَجُوزُ أَخْذُ الْكَفِيلِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى الْكَفَالَةَ وَالرَّهْنَ كُلُّ وَاحِدٍ منهما أُضِيفَ إلَى مَضْمُونٍ في الْحَالِ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ وَاجِبٌ قبل حُلُولِ الْأَجَلِ على طَرِيقِ التَّوَسُّعِ وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ التَّأْجِيلِ في تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ بِضَمَانِ الدَّرَكِ لِأَنَّهُ لَا مَضْمُونَ هُنَالِكَ لِلْحَالِ وَلَا ماله حُكْمُ الْمَضْمُونِ بِخِلَافِ ما إذَا قال إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَأَنَا ضَامِنٌ مَالَكَ عليه لِأَنَّ ذلك تَعْلِيقُ الضَّمَانِ بِقُدُومِ فُلَانٍ فَكَانَ عَدَمًا قبل وُجُودِ الشَّرْطِ فلم تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى مَضْمُونٍ لِلْحَالِ فَبَطَلَ الرَّهْنُ وَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَدْعِي مَضْمُونًا في الْحَالِ بَلْ في الْجُمْلَةِ على ما مَرَّ
وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فيه فَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ كَوْنُهُ مَضْمُونًا ظَاهِرًا وباطنا أو كَوْنُهُ مَضْمُونًا من حَيْثُ الظَّاهِرُ يَكْفِي لِجَوَازِ الرَّهْنِ
ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ ما يَدُلُّ على أَنَّ كَوْنَهُ مَضْمُونًا في الظَّاهِرِ كَافٍ وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَضْمُونًا حَقِيقَةً فإنه قال إذَا ادَّعَى على رَجُلٍ أَلْفًا وَهِيَ قَرْضٌ عليه فَجَحَدَهَا الْمُدَّعَى عليه ثُمَّ إنَّهُ صَالَحَ المدعي من ذلك على خَمْسِمِائَةٍ وَأَعْطَاهُ بها رَهْنًا يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ تَصَادَقَا على أَنَّ ذلك الْمَالَ كان بَاطِلًا وإنه لم يَكُنْ لِلْمُدَّعَى عليه شيء ( ( ( بشيء ) ) ) ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ في يَدِهِ كان على الْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرُدَّ على الرَّاهِنِ خَمْسَمِائَةٍ لِأَنَّ الدَّيْنَ كان ثَابِتًا على الرَّاهِنِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لو اخْتَصَمَا إلَى الْقَاضِي قبل أَنْ يَتَصَادَقَا أَنَّ الْقَاضِيَ يُجْبِرُ الْمُدَّعَى عليه على إيفَاءِ الْخَمْسِمِائَةِ فَكَانَ هذا رَهْنًا بِمَا هو مَضْمُونٌ ظاهرا فَيَصِحُّ
يَدُلُّ عليه أَنَّ الرَّهْنَ بِجِهَةِ الضَّمَانِ جَائِزٌ على ما ذكرنا فَلَأَنْ يَجُوزَ بِالضَّمَانِ الثَّابِتِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ أَوْلَى
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ شيئا لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَصَادَقَا على أَنَّهُ لم يَكُنْ عليه شَيْءٌ تَبَيَّنَ أَنَّ الرَّهْنَ حَصَلَ بِمَا ليس بِمَضْمُونٍ أَصْلًا فلم يَصِحَّ وَكَذَا ذَكَرَ في الْجَامِعِ إذَا اشْتَرَى من رَجُلٍ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَ الْعَبْدَ وَأَعْطَاهُ بِالْأَلْفِ رَهْنًا يُسَاوِي أَلْفًا فَهَلَكَ الرَّهْنُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ ثُمَّ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على أَنَّ الْعَبْدَ حُرٌّ أو اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ من يَدِهِ يَهْلِكُ مَضْمُونًا لِأَنَّ الْأَلْفَ كانت مَضْمُونَةً على الرَّاهِنِ ظَاهِرًا فَقَدْ حَصَلَ الِارْتِهَانُ بِدَيْنٍ مَضْمُونٍ عليه من حَيْثُ الظَّاهِرُ فَجَازَ وَكَذَا لو اشْتَرَى شَاةً مَذْبُوحَةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أو اشْتَرَى دَنًّا من خَلٍّ وأعطاه بِالثَّمَنِ رَهْنًا فَهَلَكَ الرَّهْنُ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الشَّاةَ مَيْتَةٌ وَالْخَلَّ خَمْرٌ فَالرَّهْنُ مَضْمُونٌ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لو قَتَلَ عَبْدَ إنْسَانٍ خَطَأً وَأَعْطَاهُ بِقِيمَتِهِ رَهْنًا ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْعَبْدَ حُرٌّ كان الْمَرْهُونُ مَضْمُونًا بِالْأَقَلِّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَعَلَى قِيَاسِ ما رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ في هذه الْمَسَائِلِ أَيْضًا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الِارْتِهَانَ حَصَلَ بِمَا ليس بِمَضْمُونٍ حَقِيقَةً فلم يَصِحَّ
وَلَوْ ادَّعَى الْمُسْتَوْدَعُ أو الْمُضَارِبُ هَلَاكَ الْوَدِيعَةِ أو الْمُضَارَبَةِ وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ عَلَيْهِمَا الِاسْتِهْلَاكَ وَتَصَالَحَا على مَالٍ وَأَخَذَ رَبُّ الْمَالِ بِالْمَالِ رَهْنًا من الْمُسْتَوْدَعِ فَهَلَكَ عِنْدَهُ ثُمَّ تَصَادَقَا على أَنَّ الْوَدِيعَةَ هَلَكَتْ عِنْدَهُ يَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَضْمَنُ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بِنَاءً على اخْتِلَافِهِمَا في صِحَّةِ الصُّلْحِ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَمَّا صَحَّ الصُّلْحُ كان رَهْنًا بِمَضْمُونٍ من حَيْثُ الظَّاهِرُ فَيَصِحُّ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَمَّا لم يَصِحَّ فَقَدْ حَصَلَ الرَّهْنُ بِمَا ليس بِمَضْمُونٍ حَقِيقَةً فلم يَصِحَّ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُحْتَمَلًا لِلِاسْتِيفَاءِ من الرَّهْنِ فَإِنْ لم يَحْتَمِلْ لم يَصِحَّ الرَّهْنُ بِهِ لِأَنَّ الِارْتِهَانَ اسْتِيفَاءٌ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الرَّهْنُ بِالْقِصَاصِ في النَّفْسِ وما دُونَهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ من الرَّهْنِ وَيَجُوزُ الرَّهْنُ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ استيفاءه ( ( ( الاستيفاء ) ) ) من الرَّهْنِ مُمْكِنٌ فَصَحَّ الرَّهْنُ بِهِ
وَعَلَى هذا أَيْضًا يَخْرُجُ الرَّهْنُ بِالشُّفْعَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِيفَاءَ من الرَّهْنِ فلم يَصِحَّ الرَّهْنُ بِهِ
وَعَلَى هذا
____________________

(6/144)


أَيْضًا يَخْرُجُ الرَّهْنُ بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ فإنه لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِيفَاءَ من الرَّهْنِ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الرَّهْنِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الرَّهْنُ نَوْعَانِ صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَهُ أَحْكَامٌ بَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِحَالِ قِيَامِ الْمَرْهُونِ وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِحَالِ هَلَاكِهِ أَمَّا الذي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ قِيَامِهِ فَعِنْدَنَا ثَلَاثَةٌ
الْأَوَّلُ مِلْكُ حَبْسِ الْمَرْهُونِ على سَبِيلِ الدَّوَامِ إلَى وَقْتِ الْفِكَاكِ أو مِلْكِ الْعَيْنِ في حَقِّ الْحَبْسِ على سَبِيلِ الدَّوَامِ إلَى وَقْتِ الْفِكَاكِ وَكَوْنُ الْمُرْتَهِنِ أَحَقَّ بِحَبْسِ الْمَرْهُونِ على سَبِيلِ اللُّزُومِ إلَى وَقْتِ الْفِكَاكِ وَالْعِبَارَاتُ مُتَّفِقَةُ الْمَعَانِي في مُتَعَارَفِ الْفُقَهَاءِ
وَالثَّانِي اخْتِصَاصُ الْمُرْتَهِنِ بِبَيْعِ الْمَرْهُونِ أو اخْتِصَاصُهُ بِثَمَنِهِ وَهَذَانِ الْحُكْمَانِ أَصْلِيَّانِ لِلرَّهْنِ عِنْدَنَا
وَالثَّالِثُ وُجُوبُ تَسْلِيمِ الْمَرْهُونِ عِنْدَ الِافْتِكَاكِ وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلرَّهْنِ وَاحِدٌ وهو كَوْنُ الْمُرْتَهِنِ أَحَقَّ بِبَيْعِ الْمَرْهُونِ وَأَخَصَّ بِثَمَنِهِ من بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ
فَأَمَّا حَقُّ حَبْسِ الْمَرْهُونِ فَلَيْسَ بِحُكْمٍ لَازِمٍ حتى إن الْمَرْهُونَ إنْ كان شيئا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِدُونِ اسْتِهْلَاكِهِ كان لِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ من يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَيَنْتَفِعُ بِهِ فإذا فَرَغَ من الِانْتِفَاعِ رَدَّهُ إلَيْهِ وَإِنْ كان شيئا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلا بِاسْتِهْلَاكِهِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ من يَدِهِ
احْتَجَّ بِمَا روى عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ هو لِصَاحِبِهِ الذي رَهَنَهُ له غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ
أَخْبَرَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَغْلَقُ أَيْ لَا يُحْبَسُ وَعِنْدَكُمْ يُحْبَسُ فَكَانَ حُجَّةً عَلَيْكُمْ وَكَذَا أَضَافَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الرَّهْنَ إلَى الرَّاهِنِ بلام التَّمْلِيكِ وَسَمَّاهُ صَاحِبًا له على الْإِطْلَاقِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هو الْمَالِكُ لِلرَّهْنِ مُطْلَقًا رَقَبَةً وَانْتِفَاعًا وَحَبْسًا وَلِأَنَّ الرَّهْنَ شُرِعَ تَوْثِيقًا لِلدَّيْنِ وَمِلْكُ الْحَبْسِ على سَبِيلِ الدَّوَامِ يُضَادُّ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ لِأَنَّهُ يَكُونُ في يَدِهِ دَائِمًا وَعَسَى يَهْلِكُ فَيَسْقُطُ الدَّيْنُ فَكَانَ تَوْهِينًا لِلدَّيْنِ لَا تَوْثِيقًا له وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْتُمْ تَعْطِيلُ الْعَيْنِ الْمُنْتَفِعِ بها في نَفْسِهَا من الِانْتِفَاعِ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَجُوزُ له الِانْتِفَاعُ بِالرَّهْنِ أَصْلًا وَالرَّاهِنُ لَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِهِ عِنْدَكُمْ فَكَانَ تَعْطِيلًا وَالتَّعْطِيلُ تَسْيِيبٌ وَأَنَّهُ من أَعْمَالِ الْجَاهِلِيَّةِ وقد نَفَاهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ { ما جَعَلَ اللَّهُ من بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ }
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ كُنْتُمْ على سَفَرٍ ولم تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِكَوْنِ الرَّهْنِ مَقْبُوضًا وَإِخْبَارُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَحْتَمِلُ الْخَلَلَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ مَقْبُوضًا ما دَامَ مَرْهُونًا وَلَوْ لم يَثْبُتْ مِلْكُ الْحَبْسِ على الدَّوَامِ لم يَكُنْ مَحْبُوسًا على الدَّوَامِ فلم يَكُنْ مرهونا ولأن الرهن في اللغة عبارة عن الحبس قال الله عز وجل { كل امرئ بما كسب رهين } أي حبيس فيقتضي أن يكون المرهون محبوسا ما دام مَرْهُونًا وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا سَمَّى الْعَيْنَ التي وَرَدَ الْعَقْدُ عليها رَهْنًا وَأَنَّهُ ينبىء عن الْحَبْسِ لُغَةً كان ما دَلَّ عليه اللَّفْظُ لُغَةً حُكْمًا له شَرْعًا لِأَنَّ لِلْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ دَلَالَاتٍ على أَحْكَامِهَا كَلَفْظِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ وَنَحْوِهَا وَلِأَنَّ الرَّهْنَ شُرِعَ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ ما يَقَعُ بِهِ التَّوْثِيقُ لِلدَّيْنِ كَالْكَفَالَةِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ التَّوْثِيقُ إذَا كان يَمْلِكُ حَبْسَهُ على الدَّوَامِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ عن الِانْتِفَاعِ فَيَحْمِلُهُ ذلك على قَضَاءِ الدَّيْنِ في أَسْرَعِ الْأَوْقَاتِ وَكَذَا يَقَعُ الأمن عن تَوَاءِ حَقِّهِ بِالْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ على ما عُرِفَ وَلَا حُجَّةَ له في الحديث لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ أَيْ لَا يُمْلَكُ بِالدَّيْنِ
كَذَا قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ غَلِقَ الرَّهْنُ أَيْ مُلِكَ بِالدَّيْنِ وَهَذَا كان حُكْمًا جَاهِلِيًّا فَرَدَّهُ رسول اللَّهِ
وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هو لِصَاحِبِهِ الذي رَهَنَهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ
وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ له غُنْمُهُ أَيْ زَوَائِدُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ أَيْ نَفَقَتُهُ وَكَنَفُهُ
وَقَوْلُهُ إنَّ ما شُرِعَ له الرَّهْنُ لَا يَحْصُلُ بِمَا قُلْتُمْ لِأَنَّهُ يتوي حَقُّهُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ قُلْنَا على أَحَدِ الطَّرِيقِينَ لَا يتوي بَلْ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا وَالِاسْتِيفَاءُ ليس بِهَلَاكِ الدَّيْنِ
وَأَمَّا على الطَّرِيقِ الْآخَرِ فَالْهَلَاكُ ليس بِغَالِبٍ بَلْ قد يَكُونُ وقد لَا يَكُونُ وإذا هَلَكَ فَالْهَلَاكُ ليس يُضَافُ إلَى حُكْمِ الرَّهْنِ لِأَنَّ حُكْمَهُ مِلْكُ الْحَبْسِ لَا نَفْسُ الْحَبْسِ
وَقَوْلُهُ فيه تَسْيِيبٌ مَمْنُوعٌ فإن بِعَقْدِ الرَّهْنِ مع التَّسْلِيمِ يَصِيرُ الرَّاهِنُ مُوفِيًا دينا ( ( ( دينه ) ) ) في حَقِّ الْحَبْسِ وَالْمُرْتَهِنُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا في حَقِّ الْحَبْسِ وَالْإِيفَاءُ وَالِاسْتِيفَاءُ من مَنَافِعِ الرَّهْنِ وإذا عُرِفَ حُكْمُ الرَّهْنِ في حَالِ قِيَامِهِ فَيَخْرُجُ عليه الْمَسَائِلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ
أَمَّا على الْحُكْمِ الْأَوَّلِ وهو مِلْكُ الْحَبْسِ فَالْمَسَائِلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بهذا الْحُكْمِ بَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْحُكْمِ وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّتِهِ
أَمَّا الذي يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْحُكْمِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
____________________

(6/145)


ليس لِلرَّاهِنِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْمَرْهُونِ اسْتِخْدَامًا وَرُكُوبًا وَلُبْسًا وَسُكْنَى وَغَيْرَ ذلك لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ ثَابِتٌ لِلْمُرْتَهِنِ على سَبِيلِ الدَّوَامِ وَهَذَا يَمْنَعُ الِاسْتِرْدَادَ وَالِانْتِفَاعَ وَلَيْسَ له أَنْ يَبِيعَهُ من غَيْرُ الْمُرْتَهِنِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِمَا فيه من إبْطَالِ حَقِّهِ من غَيْرِ رِضَاهُ وَلَوْ بَاعَهُ تَوَقَّفَ نَفَاذُ الْبَيْعِ على إجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ إنْ أَجَازَ جَازَ لِأَنَّ عَدَمَ النَّفَاذِ لِمَكَانِ حَقِّهِ فإذا رضي بِبُطْلَانِ حَقِّهِ زَالَ الْمَانِعُ فَنَفَذَ وكان الثَّمَنُ رَهْنًا سَوَاءٌ شَرَطَ الْمُرْتَهِنُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ كَوْنَهُ رَهْنًا أو لَا في جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ رَهْنًا إلَّا بِالشَّرْطِ لِأَنَّ الثَّمَنَ ليس بِمَرْهُونٍ حَقِيقَةً بَلْ الْمَرْهُونُ هو الْمَبِيعُ وقد زَالَ حَقُّهُ عنه بِالْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُ إذَا شُرِطَ عِنْدَ الْإِجَازَةِ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا فلم يَرْضَ بِزَوَالِ حَقِّهِ عنه إلَّا بِبَدَلٍ وإذا لم يُوجَدْ الشَّرْطُ زَالَ حَقُّهُ أَصْلًا
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْمَرْهُونِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ما زَالَ حَقُّهُ بِالْبَيْعِ لِأَنَّهُ زَالَ إلَى خَلْفٍ وَالزَّائِلُ إلَى خَلْفٍ قَائِمٌ مَعْنًى فَيُقَامُ الْخَلْفُ مَقَامَ الْأَصْلِ وَسَوَاءٌ قَبَضَ الثَّمَنَ من الْمُشْتَرِي أو لم يَقْبِضْهُ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ ما كان مَقْبُوضًا وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ لِمَا قُلْنَا وَلَيْسَ له أَنْ يَهَبَهُ من غَيْرِهِ أو يَتَصَدَّقَ بِهِ على غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ فَعَلَ تَوَقَّفَ على إجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ إنْ رَدَّهُ بَطَلَ وَلَهُ أَنْ يُعِيدَهُ رَهْنًا وَإِنْ أَجَازَهُ جَازَتْ الْإِجَازَةُ لِمَا قُلْنَا وَبَطَلَ عَقْدُ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ زَالَ عن مِلْكِهِ لَا إلَى حلف ( ( ( خلف ) ) ) بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَلَيْسَ له أَنْ يُؤَاجِرَهُ من أَجْنَبِيٍّ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ قِيَامَ مِلْكِ الْحَبْسِ له يَمْنَعُ الْإِجَازَةَ وَلِأَنَّ الْإِجَازَةَ بِعَقْدِ الِانْتِفَاعِ وهو لَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِهِ بِنَفْسِهِ فَكَيْف يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ وَلَوْ فَعَلَ وَقَفَ على إجَازَتِهِ فَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ وَإِنْ أَجَازَ جَازَتْ الْإِجَازَةُ لِمَا قُلْنَا وَبَطَلَ عَقْدُ الرَّهْنِ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إذَا جَازَتْ وإنها عَقْدٌ لَازِمٌ لَا يَبْقَى الرَّهْنُ ضَرُورَةً وَالْأُجْرَةُ لِلرَّاهِنِ لِأَنَّهَا بَدَلُ مَنْفَعَةٍ مَمْلُوكَةٍ له وَوِلَايَةُ قَبْضِ الْأُجْرَةِ له أَيْضًا لِأَنَّهُ هو الْعَاقِدُ وَلَا تَكُونُ الْأُجْرَةُ رَهْنًا لِأَنَّ الْأُجْرَةَ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ بِمَرْهُونَةٍ فَلَا يَكُونُ بَدَلُهَا مَرْهُونًا
فَأَمَّا الثَّمَنُ في بَابِ الْبَيْعِ فَبَدَلُ الْمَبِيعِ وَأَنَّهُ مَرْهُونٌ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَدَلُهُ مَرْهُونًا وَكَذَلِكَ لو آجَرَهُ من الْمُرْتَهِنِ صَحَّتْ الْإِجَارَةُ وَبَطَلَ الرَّهْنُ إذَا جَدَّدَ الْمُرْتَهِنُ الْقَبْضَ لِلْإِجَارَةِ
أَمَّا صِحَّةُ الْإِجَارَةِ وَبُطْلَانُ الرَّهْنِ فَلِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا الْحَاجَةُ إلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ فَلِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ دُونَ قَبْضِ الْإِجَارَةِ فَلَا يَنُوبُ عنه
وَلَوْ هَلَكَ في يَدِهِ قبل انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ أو بَعْدَ انْقِضَائِهَا يَهْلِكُ أَمَانَةً إنْ لم يُوجَدْ مَنْعٌ من الرَّاهِنِ وَإِنْ مَنْعَهُ الرَّاهِنُ ثُمَّ هَلَكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ ضَمِنَ كُلَّ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا بِالْمَنْعِ وَلَيْسَ له أَنْ يُعِيرَهُ من أَجْنَبِيٍّ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَوْ أَعَارَ وسلم فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُبْطِلَ الْإِعَارَةَ وَيُعِيدَهُ رَهْنًا وَإِنْ أَجَازَ جَازَ وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ وَلَكِنْ يَبْطُلُ ضَمَانُهُ وَكَذَا إذَا أَعَارَهُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ بِخِلَافِ ما إذَا آجَرَهُ فَأَجَازَ المترهن ( ( ( المرتهن ) ) ) أو آجَرَهُ بِإِذْنِهِ أَنَّهُ يَبْطُلُ الرَّهْنُ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ من غَيْرِ عُذْرٍ فَكَانَ من ضَرُورَةِ جَوَازِهَا بُطْلَانُ الرَّهْنِ
فَأَمَّا الْإِعَارَةُ فَلَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ لِأَنَّ لِلْمُعِيرِ وِلَايَةَ الِاسْتِرْدَادِ في أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ فَجَوَازُهَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ عَقْدِ الرَّهْنِ إلَّا أَنَّهُ يَبْطُلُ ضَمَانَ الرَّهْنِ لِمَا نَذْكُرُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَكَذَا ليس لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْمَرْهُونِ حتى لو كان الرهن ( ( ( الراهن ) ) ) عَبْدًا ليس له أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ وَإِنْ كان دَابَّةً ليس له أَنْ يَرْكَبَهَا وَإِنْ كان ثَوْبًا ليس له أَنْ يَلْبَسَهُ وَإِنْ كان دَارًا ليس له أَنْ يَسْكُنَهَا وَإِنْ كان مُصْحَفًا ليس له أَنْ يَقْرَأَ فيه لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يُفِيدُ مِلْكَ الْحَبْسِ لَا مِلْكَ الِانْتِفَاعِ
فَإِنْ انْتَفَعَ بِهِ فَهَلَكَ في حَالِ الِاسْتِعْمَالِ يَضْمَنُ كُلَّ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا وَلَيْسَ له أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ لِأَنَّ الثَّابِتَ له ليس إلَّا مِلْكُ الْحَبْسِ فَأَمَّا مِلْكُ الْعَيْنِ فَلِلرَّاهِنِ وَالْبَيْعُ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمُرْتَهِنُ من غَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ وَلَوْ بَاعَ من غَيْرِ إذْنِهِ وَقَفَ على إجَازَتِهِ فَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ وكان الثَّمَنُ رَهْنًا
وَكَذَا إذَا بَاعَ بِإِذْنِهِ جَازَ وكان ثَمَنُهُ رَهْنًا سَوَاءٌ قَبَضَهُ من الْمُشْتَرِي أو لم يَقْبِضْهُ وَلَوْ هَلَكَ كان الْهَلَاكُ على الْمُرْتَهِنِ وَهَذَا يُشْكِلُ على الشَّرْطِ الذي ذَكَرْنَا لِجَوَازِ الرَّهْنِ وهو أَنْ لَا يَكُونَ الْمَرْهُونُ دَيْنًا وَالثَّمَنُ دَيْنًا في ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي فَكَيْفَ يَصْلُحُ رَهْنًا
وَالْجَوَابُ أَنَّ الدَّيْنَ يَصْلُحُ رَهْنًا في حَالِ الْبَقَاءِ وَإِنْ كان لَا يَصْلُحُ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ في حَالَةِ الْبَقَاءِ بَدَلُ الْمَرْهُونِ وَبَدَلُ الْمَرْهُونِ مَرْهُونٌ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَرْهُونِ كَأَنَّهُ هو بِخِلَافِ حَالَةِ الِابْتِدَاءِ وَإِنْ رَدَّ بَطَلَ وَعَادَ الْمَبِيعُ رَهْنًا كما كان وَلَوْ هَلَكَ في يَدِ الْمُشْتَرِي قبل الْإِجَازَةِ لم ( ( ( فلم ) ) ) يجز ( ( ( تجز ) ) ) الْإِجَازَةُ لِأَنَّ قِيَامَ الْمَعْقُودِ عليه شَرْطُ صِحَّةِ الْإِجَازَةِ وَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ
____________________

(6/146)


الْمُشْتَرِيَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ غَاصِبًا لِلْمُرْتَهِنِ بِالتَّسْلِيمِ وَالْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ جَازَ الْبَيْعُ وَالثَّمَنُ لِلْمُرْتَهِنِ وكان الضَّمَانُ رَهْنًا لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَجَازَ وكان الثَّمَنُ له لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ وَالضَّمَانُ يَكُونُ رَهْنًا لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَرْهُونِ فَيَكُونُ مَرْهُونًا
وَقِيلَ إنَّمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِتَضْمِينِ الْمُرْتَهِنِ إذَا سَلَّمَ الرَّهْنَ إلَى الْمُشْتَرِي أَوَّلًا ثُمَّ بَاعَهُ منه فَأَمَّا إذَا بَاعَهُ ثُمَّ سَلَّمَهُ فإنه لَا يَجُوزُ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ هو التَّسْلِيمُ لِأَنَّهُ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَمِلْكُ الْمَضْمُونِ بِمِلْكِ الضَّمَانِ وَالتَّسْلِيمُ وُجِدَ بَعْدَ الْبَيْعِ فَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ كما إذَا بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ منه أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَذَا هذا وَلَيْسَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هذا التَّفْصِيلُ
وَلَوْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ بَطَلَ الْبَيْعُ لِأَنَّ بِتَضْمِينِ الْمُشْتَرِي لم يَتَبَيَّنْ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ بَاعَ مَالَ نَفَسِهِ وَالضَّمَانُ يَكُونُ رَهْنًا لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَرْهُونِ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي على الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ لِأَنَّ الْبَيْعَ لم يَصِحَّ وَلَيْسَ له أَنْ يَرْجِعَ بِالضَّمَانِ عليه وَلَيْسَ له أَنْ يَهَبَهُ أو يَتَصَدَّقَ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالتَّصَدُّقَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ وَالثَّابِتُ لِلْمُرْتَهِنِ مِلْكُ الْحَبْسِ لَا مِلْكُ الْعَيْنِ فَلَا يَمْلِكُهَا كما لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ فَإِنْ فَعَلَ وَقَفَ على إجَازَةِ الرَّاهِنِ إنْ أَجَازَ جَازَ وَبَطَلَ الرَّهْنُ وَإِنْ رَدَّ عَادَ رَهْنًا كما كان
وَلَوْ هَلَكَ في يَدِ الْمَوْهُوبِ له أو الْمُتَصَدَّقِ عليه قبل الْإِجَازَةَ فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمَوْهُوبَ له وَالْمُتَصَدَّقَ عليه لِمَا ذَكَرْنَا وَأَيُّهُمَا ضَمَّنَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على صَاحِبِهِ
أَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَرْهُونَ بِالضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَهَبَ أو تَصَدَّقَ بِمِلْكِ نَفَسِهِ
وَأَمَّا الْمَوْهُوبُ له وَالْمُتَصَدَّقُ عليه فَلِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالضَّمَانِ بِحُكْمِ الضَّرَرِ وَأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ في الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَلَيْسَ له أَنْ يُؤَاجِرَهُ من غَيْرِ الرَّاهِنِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَالثَّابِتُ له مِلْكُ الْحَبْسِ لَا مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ فَكَيْف يمكلها ( ( ( يملكها ) ) ) من غَيْرِهِ فَإِنْ فَعَلَ وَقَفَ على إجَازَةِ الرَّاهِنِ فَإِنْ أَجَازَ جَازَ وَبَطَلَ الرَّهْنُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَكَانَتْ الْأُجْرَةُ لِلرَّاهِنِ وَلَا تَكُونُ رَهْنًا لِمَا مَرَّ وَوِلَايَةُ قَبْضِهَا لِلْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ الْقَبْضَ من حُقُوقِ الْعَقْدِ وَالْعَاقِدُ هو الْمُرْتَهِنُ وَلَا يَعُودُ رَهْنًا إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ لِأَنَّ الْعَقْدَ قد بَطَلَ فَلَا يَعُودُ إلَّا بِالِاسْتِئْنَافِ وَإِنْ رَدَّ بَطَلَ وَأَعَادَهُ رَهْنًا كما كان
وَلَوْ أَجَرَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَهَلَكَ في يَدِهِ فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ قِيمَتَهُ وَقْتَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ لوجوب ( ( ( لوجود ) ) ) سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وهو التَّسْلِيمُ وَالْقَبْضُ غير أَنَّهُ إنْ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على الْمُسْتَأْجِرِ لَكِنَّهُ يَرْجِعُ عليه بِأُجْرَةِ قَدْرِ الْمُسْتَوْفَى من الْمَنَافِعِ إلَى وَقْتِ الْهَلَاكِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ آجَرَ مِلْكَ نَفَسِهِ فَصَحَّ وَكَانَتْ الْأُجْرَةُ له لِأَنَّهَا بَدَلُ مَنْفَعَةٍ مَمْلُوكَةٍ له إلَّا أنها لَا تَطِيبُ له وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ فَالْمُسْتَأْجَرُ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ على الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا من جِهَتِهِ فَيَرْجِعُ عليه بِضَمَانِ الْغُرُورِ وهو ضَمَانُ الْكَفَالَةِ وَلَا أُجْرَةَ عليه لِأَنَّ الْأُجْرَةَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ
وَلَوْ سَلَّمَ وَاسْتَرَدَّهُ الْمُرْتَهِنُ عَادَ رَهْنًا كما كان لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَرَدَّهُ فَقَدْ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ بعدما خَالَفَ فَأَشْبَهَ الْمُودَعَ إذَا خَالَفَ في الْوَدِيعَةِ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ وَالْأَجْرُ لِلْمُرْتَهِنِ لَكِنْ لَا يَطِيبُ له كَالْغَاصِبِ إذَا آجَرَ الْمَغْصُوبَ وَلَيْسَ له أَنْ يُعِيرَ الرَّهْنَ من غَيْرِ الرَّاهِنِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْإِجَارَةِ
فَإِنْ أَعَارَهُ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُسْتَعِيرِ فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يُبْطِلَ الْإِعَارَةَ فَإِنْ هَلَكَ في يَدِ الْمُسْتَعِيرِ فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُسْتَعِيرَ وَأَيُّهُمَا ضَمَّنَ لَا يَرْجِعُ على صَاحِبِهِ وَيَكُونُ الضَّمَانُ رَهْنًا
أماعدم الرُّجُوعِ على الْمُرْتَهِنِ فَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَعَارَ مِلْكَهُ
وَأَمَّا الْمُسْتَعِيرُ فَلِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالْغَرَرِ ولم يُوجَدْ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ
وَأَمَّا كَوْنُ الضَّمَانِ رَهْنًا فَلِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَرْهُونِ فَيَكُونُ مَرْهُونًا وَإِنْ سَلَّمَ وَاسْتَرَدَّهُ من الْمُسْتَعِيرِ عَادَ رَهْنًا كما كان لِأَنَّهُ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ فَالْتَحَقَ الْخِلَافُ فيه بِالْعَدَمِ
وَلَوْ أَعَارَهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ أو بِغَيْرِ إذْنِهِ وَأَجَازَ جَازَ وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ لَكِنْ يَبْطُلُ ضَمَانُ الرَّهْنِ لِمَا نَذْكُرُ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهَا تُبْطِلُ الرَّهْنَ وقد مَرَّ الْفَرْقُ وَلَيْسَ له أَنْ يَرْهَنَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ لِأَنَّهُ لم يَرْضَ بِحَبْسِ غَيْرِهِ فَإِنْ فَعَلَ فَلِلرَّاهِنِ الْأَوَّلِ أَنْ يُبْطِلَ الرَّهْنَ الثَّانِي وَيُعِيدَهُ إلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الرَّهْنَ الثَّانِي لم يَصِحَّ فَلَوْ هَلَكَ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ الثَّانِي قبل الْإِعَادَةِ إلَى الْأَوَّلِ فَالرَّاهِنُ الْأَوَّلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ الْأَوَّلَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ الثَّانِي فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ الْأَوَّلَ جَازَ الرَّهْنُ الثَّانِي لِأَنَّهُ مَلَّكَهُ الْمُرْتَهِنَ الْأَوَّلَ بِالضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ رَهَنَ مِلْكَ نَفَسِهِ
وَلَوْ هَلَكَ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ
____________________

(6/147)


الثَّانِي يَهْلِكُ بِالدَّيْنِ فَكَانَ ضَمَانُهُ رَهْنًا لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَرْهُونِ وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ الثَّانِي بَطَلَ الرَّهْنُ الثَّانِي وَيَكُونُ الضَّمَانُ رَهْنًا على الْمُرْتَهِنِ الْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ بَدَلَ الْمَرْهُونِ وَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ الثَّانِي على الْمُرْتَهِنِ الْأَوَّلِ بِمَا ضَمِنَ وَبِدَيْنِهِ
أَمَّا الرُّجُوعُ بِالضَّمَانِ فَلِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا من جِهَتِهِ فَيَرْجِعُ عليه
وَأَمَّا الرُّجُوعُ بِدَيْنِهِ فَلِأَنَّ الرَّهْنَ الثَّانِي لم يَصِحَّ فَيَبْقَى دَيْنُهُ عليه كما كان وَإِنْ رَهَنَ عِنْدَ الثَّانِي بِإِذْنِ الرَّاهِنِ الْأَوَّلِ جَازَ الرَّهْنُ الثَّانِي وَبَطَلَ الرَّهْنُ الْأَوَّلُ
أَمَّا جَوَازُ الرَّهْنِ الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَانِعَ من الْجَوَازِ قد زَالَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ الْأَوَّلِ فإذا أَجَازَ الثَّانِي بَطَلَ الْأَوَّلُ ضَرُورَةً وَصَارَ كَأَنَّ الْمُرْتَهِنَ الْأَوَّلَ اسْتَعَارَ مَالَ الرَّاهِنِ الْأَوَّلِ لِيَرْهَنَهُ بِدَيْنِهِ فَرَهَنَهُ وَلَيْسَ له أَنْ يُودِعَهُ عِنْدَ أَجْنَبِيٍّ ليس في عِيَالِهِ لِأَنَّ الرَّاهِنَ لم يَرْضَ إلَّا بيده أو بِيَدِ من يَدُهُ في مَعْنَى يَدِهِ وَيَدُ الْأَجْنَبِيِّ الذي ليس في عِيَالِهِ لَيْسَتْ في مَعْنَى يَدِهِ فَإِنْ فَعَلَ وَهَلَكَ في يَدِ الْمُودِعِ ضَمَّنَ كُلَّ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا بِالْإِيدَاعِ وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى من هو في عِيَالِهِ كَزَوْجَتِهِ وَخَادِمِهِ وَأَجِيرِهِ الذي يَتَصَرَّفُ في مَالِهِ لِأَنَّ يَدَ هَؤُلَاءِ كَيَدِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحْفَظُ مَالَ نَفَسِهِ بِيَدِهِمْ فَكَانَ الْهَالِكُ في أَيْدِيهِمْ كَالْهَالِكِ في يَدِهِ وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَفْعَلَ في الرَّهْنِ ما يُعَدُّ حِفْظًا له وَلَيْسَ له أَنْ يَفْعَلَ ما يُعَدُّ اسْتِعْمَالًا له وَانْتِفَاعًا بِهِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا ارْتَهَنَ خَاتَمًا فَجَعَلَهُ في خِنْصَرِهِ فَهَلَكَ ضَمِنَ كُلَّ قِيمَتِهِ لِأَنَّ التَّخَتُّمَ بِالْخِنْصَرِ مِمَّا يُتَجَمَّلُ بِهِ عَادَةً فَكَانَ اسْتِعْمَالًا له وهو مَأْذُونٌ في الْحِفْظِ لَا في الِاسْتِعْمَالِ وَيَسْتَوِي فيه الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى لِأَنَّ الناس يَخْتَلِفُونَ في التَّجَمُّلِ بهذا النَّوْعِ منهم من يَتَجَمَّلُ بِالتَّخَتُّمِ في الْيُمْنَى وَمِنْهُمْ من يَتَجَمَّلُ بِهِ في الْيُسْرَى فَكَانَ كُلُّ ذلك اسْتِعْمَالًا
وَلَوْ جَعَلَهُ في بَقِيَّةِ الْأَصَابِعِ فَهَلَكَ يَهْلِكُ هَلَاكَ الرَّهْنِ لِأَنَّ التَّخَتُّمَ بها غَيْرُ مُعْتَادٍ فَكَانَ حِفْظًا لَا اسْتِعْمَالًا
وَلَوْ لَبِسَ خَاتَمًا فَوْقَ خَاتَمٍ فهلك يَرْجِعُ فيه إلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَإِنْ كان اللَّابِسُ مِمَّنْ يَتَجَمَّلُ بِخَاتَمَيْنِ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ له وَإِنْ كان مِمَّنْ لَا يُتَجَمَّلُ بِهِ يَهْلِكُ بِمَا فيه لِأَنَّهُ حَافِظٌ إيَّاهُ
وَلَوْ رَهَنَهُ سَيْفَيْنِ فَتَقَلَّدَ بِهِمَا يَضْمَنُ وَلَوْ كانت السُّيُوفُ ثَلَاثَةً فَتَقَلَّدَ بها لم يَضْمَنْ لِأَنَّ التَّقَلُّدَ بِسَيْفَيْنِ مُعْتَادٌ في الْجُمْلَةِ فَكَانَ من بَابِ الِاسْتِعْمَالِ
فَأَمَّا بِالثَّلَاثَةِ فَلَيْسَ بمعناه ( ( ( بمعتاد ) ) ) فَكَانَ حِفْظًا لَا اسْتِعْمَالًا وَإِنْ كان الرَّهْنُ طَيْلَسَانًا أو قَبَاءً فَلَبِسَهُ لُبْسًا مُعْتَادًا يَضْمَنْ وَإِنْ جَعَلَهُ على عَاتِقِهِ فَهَلَكَ يَهْلِكْ رَهْنًا لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتِعْمَالٌ وَالثَّانِي حِفْظٌ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ ما يُخَافُ الْفَسَادُ عليه بِإِذْنِ الْقَاضِي لِأَنَّ بَيْعَ ما يُخَافُ عليه الْفَسَادُ من بَابِ الْحِفْظِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ لَكِنْ بِإِذْنِ الْقَاضِي له لِأَنَّ له وِلَايَةً في مَالِ غَيْرِهِ في الْجُمْلَةِ فَإِنْ بَاعَ بِغَيْرِ إذْنِهِ ضَمِنَ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ له عليه وإذا بَاعَ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ كان ثَمَنُهُ رَهْنًا في يَدِهِ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَرْهُونِ فَيَكُونُ رَهْنًا وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ الرَّاهِنَ بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ مع قِيَامِ عَقْدِ الرَّهْنِ إذَا لم يَكُنْ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا لِأَنَّ الرَّهْنَ شُرِعَ لِتَوْثِيقِ الدَّيْنِ وَلَيْسَ من الْوَثِيقَةِ سُقُوطُ الْمُطَالَبَةِ بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ
وَلَوْ طَالَبَ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ بِحَقِّهِ فقال الرَّاهِنُ بِعْهُ وَاسْتَوْفِ حَقَّكَ فقال الْمُرْتَهِنُ لَا أُرِيدُ الْبَيْعَ وَلَكِنْ أُرِيدُ حَقِّي فَلَهُ ذلك لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ وَبِالْبَيْعِ يَخْرُجُ عن كَوْنِهِ رَهْنًا فَيَبْطُلُ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ فَلَهُ أَنْ يَتَوَثَّقَ بِاسْتِيفَائِهِ إلَى اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ
وَلَوْ قال الرَّاهِنُ للمترهن ( ( ( للمرتهن ) ) ) إنْ جِئْتُكَ بِحَقِّكَ إلَى وَقْتِ كَذَا وَإِلَّا فَهُوَ لك بِدَيْنِكَ أو بَيْعٌ بِحَقِّكَ لم يَجُزْ وهو رَهْنٌ على حَالِهِ لِأَنَّ هذا تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالشَّرْطِ وَأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ بِدَيْنِ الْمُرْتَهِنِ من غَيْرِ رِضَا الرَّاهِنِ لَكِنَّهُ يَحْبِسُ الرَّاهِنَ حتى يَبِيعَهُ بِنَفْسِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ وَعِنْدَهُمَا له أَنْ يَبِيعَهُ عليه وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ على الْحُرِّ وقد ذَكَرْنَاهَا في كِتَابِ الْحَجْرِ
وَكَذَلِكَ ليس لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ كما ليس لِلرَّاهِنِ وَلَا لِلْمُرْتَهِنِ ذلك
وَالْكَلَامُ في الْعَدْلِ في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في بَيَانِ ما لِلْعَدْلِ أَنْ يَفْعَلَهُ في الرَّهْنِ وما ليس له أَنْ يَفْعَلَهُ فيه
وَالثَّانِي في بَيَانِ من يَصْلُحُ عَدْلًا في الرَّهْنِ وَمَنْ لَا يَصْلُحُ
وَالثَّالِثُ في بَيَانِ ما يَنْعَزِلُ بِهِ الْعَدْلُ يَخْرُجُ عن الْوَكَالَةِ وما لَا يَنْعَزِلُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ لِلْعَدْلِ أَنْ يُمْسِكَ الرَّهْنَ بيده وَبِيَدِ من يَحْفَظُ مَالَهُ بيده وَلَيْسَ له أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ وَلَا إلَى الرَّاهِنِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ قبل سُقُوطِ الدَّيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لم يَرْضَ بِيَدِ صَاحِبِهِ حَيْثُ وَضَعَاهُ في يَدِ الْعَدْلِ
وَلَوْ دَفَعَهُ إلَى أَحَدِهِمَا من غَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ وَيُعِيدَهُ إلَى يَدِ الْعَدْلِ كما كان
وَلَوْ هَلَكَ قبل الِاسْتِرْدَادِ ضَمِنَ الْعَدْلُ قِيمَتَهُ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا بِالدَّفْعِ وَلَيْسَ له أَنْ يَنْتَفِعَ
____________________

(6/148)


بِالرَّهْنِ وَلَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فيه بِالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالرَّهْنِ وَغَيْرِ ذلك لِأَنَّ الثَّابِتَ له بِالْوَضْعِ في يَدِهِ هو حَقُّ الْإِمْسَاكِ لَا الِانْتِفَاعِ وَالتَّصَرُّفِ وَلَيْسَ له أَنْ يَبِيعَهُ لِمَا قُلْنَا إلَّا إذَا كان مُسَلَّطًا على بَيْعِهِ في عَقْدِ الرَّهْنِ أو مُتَأَخِّرًا عنه فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ لِأَنَّهُ صَارَ وَكِيلًا بِالْبَيْعِ إلَّا أَنَّ التَّسْلِيطَ إذَا كان في الْعَقْدِ لَا يَمْلِكُ عَزْلَهُ من غَيْرِ رِضَا الْمُرْتَهِنِ وإذا كان مُتَأَخِّرًا عن الْعَقْدِ يَمْلِكُ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ الزِّيَادَةَ الْمُتَوَلِّدَةَ من الرَّهْنِ لِكَوْنِهَا مَرْهُونَةً تَبَعًا لِلْأَصْلِ وَكَذَا له أَنْ يَبِيعَ ما هو قَائِمٌ مَقَامَ الرَّهْنِ نَحْوُ إن كان الرَّهْنُ عَبْدًا فَقَتَلَهُ عَبْدٌ أو فَقَأَ عَيْنَهُ لِأَنَّهُ إذَا قام مَقَامَهُ جُعِلَ كَأَنَّ الْأَوَّلَ قَائِمٌ ثُمَّ إذَا سَلَّطَهُ على الْبَيْعِ مُطْلَقًا فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِأَيِّ جِنْسٍ كان من الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَغَيْرِهِمَا وَبِأَيِّ قَدْرٍ كان بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أو بِأَقَلَّ منه قَدْرَ ما يَتَغَابَنُ الناس فيه وَبِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ قبل حُلُولِ الْأَجَلِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْبَيْعِ مُطْلَقٌ وإذا بَاعَ كان الثَّمَنُ رَهْنًا عِنْدَهُ إلَى أَنْ يَحِلَّ الْأَجَلُ لِأَنَّ ثَمَنَ الْمَرْهُونِ مَرْهُونٌ فإذا حَلَّ الْأَجَلُ أو في دَيْنَ الْمُرْتَهِنِ إنْ كان من جِنْسِهِ وَإِنْ سُلِّطَ على الْبَيْعِ عِنْدَ الْمَحَلِّ لم يَكُنْ له أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَهُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كان الرَّهْنُ بِالْمُسْلَمِ فيه فَسَلَّطَهُ على الْبَيْعِ عِنْدَ الْمَحَلِّ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِجِنْسِ الْمُسْلَمِ فيه وَغَيْرِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَبِيعُهُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَبِجِنْسِ الْمُسْلَمِ فيه وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ أَنَّهُ يَبِيعُ بِأَيِّ ثَمَنٍ كان عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ليس له أَنْ يَبِيعَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ الناس فيه وَلَا بِالنَّسِيئَةِ وَلَا بِغَيْرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إلَّا أَنَّهُمَا جَوَّزَا ما في مَسْأَلَةِ السَّلَمِ بِجِنْسِ الْمُسْلَمِ فيه لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْبَيْعِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ من ثَمَنِهِ وَالْجِنْسُ أَقْرَبُ إلَى الْقَضَاءِ منه
وَلَوْ نَهَاهُ الرَّاهِنُ عن الْبَيْعِ بِالنَّسِيئَةِ فَإِنْ نَهَاهُ عِنْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ ليس له أَنْ يَبِيعَ بِالنَّسِيئَةِ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ حَصَلَ مُقَيَّدًا فَيَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ الْقَيْدِ مُتَأَخِّرًا إذَا كان التَّقْيِيدُ مُفِيدًا وَهَذَا النَّوْعُ من التَّقْيِيدِ مُفِيدٌ
وَلَوْ نَهَاهُ مُتَأَخِّرًا عن الْعَقْدِ لم يَصِحَّ نَهْيُهُ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ الْمُتَرَاخِيَ إبْطَالٌ من حَيْثُ الظَّاهِرِ كَالتَّخْصِيصِ الْمُتَرَاخِي عن النَّصِّ الْعَامِّ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا حتى جَعَلُوهُ فَسْخًا لَا بَيَانًا وإذا كان إبْطَالًا لَا يَمْلِكُهُ الرَّاهِنُ كما لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ الْوَكَالَةِ الثَّابِتَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ بِالْعَزْلِ ثُمَّ إذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ خَرَجَ عن كَوْنِهِ رَهْنًا لِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي وَصَارَ ثَمَنُهُ هو الرَّهْنَ لِأَنَّهُ قام مَقَامَهُ سَوَاءٌ كان مَقْبُوضًا أو غير مَقْبُوضٍ حتى لو توى عِنْدَ الْمُشْتَرِي كان على الْمُرْتَهِنِ وَيُهْلِكُ بِالْأَقَلِّ من قَدْرِ الثَّمَنِ وَمِنْ الدَّيْنِ وَلَا يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ الْمَبِيعِ بَلْ يُنْظَر إلَى الثَّمَنِ بَعْدَ الْبَيْعِ لِأَنَّ الرَّهْنَ انْتَقَلَ إلَى الثَّمَنِ وَخَرَجَ الْمَبِيعُ عن كَوْنِهِ رَهْنًا فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الرَّهْنِ ثُمَّ إنْ بَاعَهُ بِجِنْسِ الدَّيْنِ قَضَى دَيْنَ الْمُرْتَهِنِ منه وَإِنْ بَاعَهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ بَاعَ الثَّمَنَ بِجِنْسِ الدَّيْنِ وَقَضَى الدَّيْنَ منه لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ على بَيْعِ الرَّهْنِ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ من ثَمَنِهِ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ من جِنْسِهِ يَكُونُ
وَلَوْ بَاعَ الْعَدْل الرَّهْن ثُمَّ اُسْتُحِقَّ في يَد الْمُشْتَرِي فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ على الْعَدْلِ لِأَنَّ الْعَاقِدَ هو وَحُقُوقُ الْعَقْدِ في بَابِ الْبَيْعِ تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ وَالْعَدْلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ يَسْتَرِدُّ من الْمُرْتَهِنِ ما أَوْفَاهُ من الثَّمَنِ وَعَادَ دَيْنُهُ على الرَّاهِنِ كما كان وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِمَا ضَمِنَ على الرَّاهِنِ وسلم لِلْمُرْتَهِنِ ما قَبَضَ
أَمَّا وِلَايَةُ اسْتِرْدَادِ الثَّمَنِ من الْمُرْتَهِنِ فَلِأَنَّ الْبَيْعَ قد بَطَلَ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ من الْمُرْتَهِنِ لم يَصِحَّ فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ منه وإذا اسْتَرَدَّهُ عَادَ الدَّيْنُ على حَالِهِ
وَأَمَّا الرُّجُوعُ بِمَا ضَمِنَ على الرَّاهِنِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْعُهْدَةِ عليه وإذا رَجَعَ عليه مسلم ( ( ( سلم ) ) ) لِلْمُرْتَهِنِ ما قَبَضَهُ لِأَنَّهُ صَحَّ قَبْضُهُ هذا إذَا سَلَّمَ الثَّمَنَ إلَى الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ كان هَلَكَ في يَدِهِ قبل التَّسْلِيمِ ليس له أَنْ يَرْجِعَ إلَّا على الرَّاهِنِ لِأَنَّهُ وَكِيلُ الرَّاهِنِ بِالْبَيْعِ عَامِلٌ له فَكَانَ عُهْدَةُ عَمَلِهِ عليه في الْأَصْلِ لَا على غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ له أَنْ يَرْجِعَ على الْمُرْتَهِنِ إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ لِمَا ذَكَرْنَا فإذا لم يَقْبِضْ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ فَيَرْجِعُ على الرَّاهِنِ بِمَا ضَمِنَ وَبَطَلَ الرَّهْنُ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ بِدَيْنِهِ على الرَّاهِنِ وَلَوْ لم يَسْتَحِقَّ الرَّهْنَ وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا كان له أَنْ يَرُدَّهُ على الْعَدْلِ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ من حُقُوقِ الْبَيْعِ وإنها تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ وَالْعَاقِدُ هو الْعَدْلُ فَيُرَدُّ عليه وَيَسْتَرِدُّ منه الثَّمَنُ الذي أَعْطَاهُ وَالْعَدْلُ بِالْخِيَارِ إنْ كان رَدَّهُ عليه بِقَضَاءِ الْقَاضِي إنْ شَاءَ رَجَعَ على الْمُرْتَهِنِ إنْ كان سَلَّمَ الثَّمَنَ إلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ على الرَّاهِنِ أَمَّا على الْمُرْتَهِنِ فَلِأَنَّهُ إذَا رَدَّ عليه بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَقَدْ انْفَسَخَ الْبَيْعُ فَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ وَعَادَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ على الرَّاهِنِ وَعَادَ الرَّهْنُ الْمَرْدُودُ رَهْنًا بِالدَّيْنِ
وَأَمَّا الرُّجُوعُ على الرَّاهِنِ فَلِأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْبَيْعِ فَيَرْجِعُ عليه بِالْعُهْدَةِ وَإِنْ كان الْعَدْلُ لم يُعْطِ الْمُرْتَهِنَ الثَّمَنَ فَإِنْ رَدَّ الْعَدْلُ ما قَبْضَ من الثَّمَنِ فَلَا يَرْجِعُ على
____________________

(6/149)


أَحَدٍ وَإِنْ كان هَلَكَ في يَدِهِ وَضَمِنَ في مَالِهِ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ على الرَّاهِنِ خَاصَّةً دُونَ الْمُرْتَهِنِ لِمَا ذَكَرْنَا في الِاسْتِحْقَاقِ وَيَكُونُ الْمَرْدُودُ رَهْنًا كما كان هذا إذَا كان بَيْعُ الْعَدْلِ بِتَسْلِيطٍ مَشْرُوطٍ في عَقْدِ الرَّهْنِ فَأَمَّا إذَا كان بِتَسْلِيطٍ وُجِدَ من الرَّاهِنِ بَعْدَ الرَّهْنِ فإن الْعَدْلَ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ على الرَّاهِنِ لَا على الْمُرْتَهِنِ سَوَاءٌ قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الثَّمَنَ أو لم يَقْبِضْهُ لِأَنَّهُ وَكِيلُ الرَّاهِنِ وَعُهْدَةُ الْوَكِيلِ فِيمَا وُكِّلَ بِهِ على مُوَكِّلِهِ في الْأَصْلِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ له فَكَانَ عُهْدَةُ عَمَلِهِ عليه إلَّا أَنَّ التَّسْلِيطَ إذَا كان مَشْرُوطًا في الْعَقْدِ يَثْبُتُ له حَقُّ الرُّجُوعِ على الْمُرْتَهِنِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهَذِهِ الْوَكَالَةِ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فإذا وَقَعَ الْبَيْعُ لِحَقِّهِ جَازَ أَنْ يَرْجِعَ بِالضَّمَانِ عليه وإذا لم يَكُنْ مَشْرُوطًا فيه لم يَثْبُتْ التَّعْلِيقُ فَبَقِيَ حَقُّ الرُّجُوعِ بِالْعُهْدَةِ على الْمُوَكِّلِ على حُكْمِ الْأَصْلِ وَلِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ الزَّوَائِدَ الْمُتَوَلِّدَةَ من الرَّهْنِ لِأَنَّهَا مَرْهُونَةٌ تَبَعًا لِلْأَصْلِ لِثُبُوتِ حُكْمِ الرَّهْنِ فيها وهو حَقُّ الْحَبْسِ تَبَعًا فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا كما له أَنْ يَبِيعَ الْأَصْلَ
وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَدْفُوعُ بِالْجِنَايَةِ على الرَّهْنِ بِأَنْ قَتَلَ الرَّهْنِ أو فَقَأَ عَيْنَهُ فَدُفِعَ بِهِ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ لِأَنَّ الثَّانِي قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ لَحْمًا وَدَمًا فَصَارَ كَأَنَّ الْأَوَّلَ قَائِمٌ
وَلِلْعَدْلِ أَنْ يَمْتَنِعَ من الْبَيْعِ وإذا امْتَنَعَ لَا يُجْبَرُ عليه إن كان التَّسْلِيطُ على الْبَيْعِ بَعْدَ الرَّهْنِ
وَإِنْ كان في الرَّهْنِ لم يَكُنْ له أَنْ يَمْتَنِعَ عنه وَلَوْ امْتَنَعَ يُجْبَرُ عليه لِأَنَّ التَّسْلِيطَ إذَا لم يَكُنْ مَشْرُوطًا في الرَّهْنِ لم يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فَكَانَ تَوْكِيلًا مَحْضًا بِالْبَيْعِ فَأَشْبَهَ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ في سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وإذا كان مَشْرُوطًا فيه كان حَقُّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقًا بِهِ فَلَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ على الْبَيْعِ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ
وَأَمَّا بَيَانُ من يَصْلُحُ عَدْلًا في الرَّهْنِ وَمَنْ لَا يَصْلُحُ فَالْمَوْلَى لَا يَصْلُحُ عَدْلًا في رَهْنِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ حتى لو رَهَنَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ على أَنْ يَضَعَ على يَدِ مَوْلَاهُ لم يَجُزْ الرَّهْنُ سَوَاءٌ كان على الْعَبْدِ دَيْنٌ أو لم يَكُنْ وَالْعَبْدُ يَصْلُحُ عَدْلًا في رَهْنِ مَوْلَاهُ حتى لو رَهَنَ إنْسَانٌ شيئا على أَنْ يَضَعَ في يده ( ( ( يد ) ) ) عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ يَصِحُّ الرَّهْنُ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ فَيَصِيرُ الْعَدْلُ وَكِيلًا في اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ وَالْمَوْلَى لَا يَصْلُحُ وَكِيلَ الْأَجْنَبِيِّ في اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ من عَبْدِهِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ من يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ وَاسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ من عَبْدِهِ عَمَلٌ لِنَفْسِهِ من وَجْهٍ لِمَا فيه من فَرَاغِ رَقَبَةِ عَبْدِهِ عن شَغْلِ الدَّيْنِ وَالْعَبْدُ يَصْلُحُ وَكِيلَ الْأَجْنَبِيِّ في اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ من مَوْلَاهُ لِذَلِكَ افْتَرَقَا
وَعَنْ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمَوْلَى يَصْلُحُ عَدْلًا في رَهْنِ مُكَاتَبِهِ وَالْمُكَاتَبُ يَصْلُحُ عَدْلًا في رَهْنِ مَوْلَاهُ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ حُرٌّ يَدًا فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْنَبِيًّا عَمَّا في يَدِ الْآخَرِ وَالْمَكْفُولُ عنه لَا يَصْلُحُ عَدْلًا في رَهْنِ الْكَفِيلِ وَكَذَا الْكَفِيلُ لَا يَصْلُحُ عَدْلًا في رَهْنِ الْمَكْفُولِ عنه لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَصْلُحُ وَكِيلًا في اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ من صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ أَمَّا الْمَكْفُولُ عنه فَبِتَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ عن الدَّيْنِ
وَأَمَّا الْكَفِيلُ فَبِتَخْلِيصِ نَفَسِهِ عن الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ وَأَحَدُ شَرِيكَيْ الْمُفَاوَضَةِ لَا يَصْلُحُ عَدْلًا في رَهْنِ صَاحِبِهِ بِدَيْنِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ يَدَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدُ صَاحِبِهِ فَكَانَ ما في يَدِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ في يَدِ صَاحِبِهِ فلم يَتَحَقَّقْ خُرُوجُ الرَّهْنِ من ير ( ( ( يد ) ) ) الرَّاهِنِ وَإِنَّهُ شَرْطُ صِحَّةِ الرَّهْنِ
وَكَذَا أَحَدُ شَرِيكَيْ الْعَنَانِ في التِّجَارَةِ لَا يَصْلُحُ عَدْلًا في رَهْنِ
صَاحِبِهِ بِدَيْنِ التِّجَارَةِ لِمَا لنا ( ( ( قلنا ) ) ) فَإِنْ كان من غَيْرِ التِّجَارَةِ فَهُوَ جَائِزٌ في الشَّرِيكَيْنِ جميعا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْنَبِيٌّ عن صَاحِبِهِ في غَيْرِ دَيْنِ التِّجَارَةِ فلم تَكُنْ يَدُهُ كَيَدِ صَاحِبِهِ فَوُجِدَ خُرُوجُ الرَّهْنِ من يَدِ الرَّاهِنِ وَرَبُّ الْمَالِ لَا يَصْلُحُ عَدْلًا في رَهْنِ الْمُضَارِبِ وَلَا الْمُضَارِبُ في رَهْنِ رَبِّ الْمَالِ حتى لو رَهَنَ الْمُضَارِبُ شيئا من مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِدَيْنٍ في الْمُضَارَبَةِ على أَنْ يَضَعَهُ على يَدِ رَبِّ الْمَالِ أو رَهَنَ رَبُّ الْمَالِ على أَنْ يَضَعَهُ على يَدِ الْمُضَارِبِ لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ لِأَنَّ يَدَ الْمُضَارِبِ يَدٌ لِرَبِّ الْمَالِ وَعَمَلُ رَبِّ الْمَالِ كَعَمَلِ الْمُضَارِبِ فلم يَتَحَقَّقْ خُرُوجُ الرَّهْنِ من يَدِ الرَّاهِنِ فلم يَجُزْ الرَّهْنُ وَالْأَبُ لَا يَصْلُحُ عَدْلًا في رَهْنِهِ بِثَمَنِ ما اشْتَرَى لِلصَّغِيرِ بِأَنْ اشْتَرَى الْأَبُ لِلصَّغِيرِ شيئا وَرَهَنَ بِثَمَنِ ما اشْتَرَى له على أَنْ يَضَعَهُ على يَدِ نَفَسِهِ فَالشِّرَاءُ جَائِزٌ وَالرَّهْنُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ على أَنْ يَضَعَهُ في يَدِ نَفَسِهِ فَقَدْ شَرَطَ على أَنْ لَا يَخْرُجَ الرَّهْنُ من يَدِ الرَّاهِنِ وأنه شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيَفْسُدُ الرَّهْنُ
وَهَلْ يَصْلُحُ الرَّاهِنُ عَدْلًا في الرَّهْنِ فَإِنْ كان الرَّهْنُ لم يُقْبَضْ من يَدِهِ بَعْدُ لَا يَصْلُحُ حتى لو شَرَطَ في عَقْدِ الرَّهْنِ على أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ في يَدِهِ فَسَدَ الْعَقْدُ لِأَنَّ قَبْضَ الْمُرْتَهِنِ شَرْطُ صِحَّةِ الْعَقْدِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْقَبْضُ إلَّا بِخُرُوجِ الرَّهْنِ من يَدِ الرَّاهِنِ فَكَانَ شَرْطُ كَوْنِهِ في يَدِهِ شَرْطًا فَاسِدًا فَيَفْسُدُ الرَّهْنُ
وَإِنْ كان قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ ثُمَّ وَضَعَهُ على يَدِهِ جَازَ بَيْعُهُ لِأَنَّ الْعَقْدَ قد صَحَّ بِالْقَبْضِ وَالْبَيْعُ تَصَرُّفٌ من الرَّاهِنِ
____________________

(6/150)


في مِلْكِهِ فَكَانَ الْأَصْلُ فيه هو النَّفَاذَ وَالتَّوَقُّفُ كان لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فإذا رضي بِهِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيَنْفُذُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَنْعَزِلُ بِهِ الْعَدْلُ وَيَخْرُجُ عن الْوَكَالَةِ وما لَا يَنْعَزِلُ
فَنَقُولُ التَّسْلِيطُ على الْبَيْعِ إمَّا أَنْ يَكُونَ في عَقْدِ الرَّهْنِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عنه فَإِنْ كان في الْعَقْدِ فَعَزَلَ الرَّاهِنُ الْعَدْلَ لَا يَنْعَزِلُ من غَيْرِ رِضَا الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ إذَا كانت في الْعَقْدِ كانت تَابِعَةً لِلْعَقْدِ فَكَانَتْ لَازِمَةً بِالْعَقْدِ فَلَا يَنْفَرِدُ الرَّاهِنُ بِفَسْخِهَا كما لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الْعَقْدِ
وَكَذَا لَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ وَلَا بِمَوْتِ الْمُرْتَهِنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَكَالَةَ الثَّابِتَةَ في الْعَقْدِ من تَوَابِعِ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَكَذَا ما هو من تَوَابِعِهِ وَإِنْ كان التَّسْلِيطُ مُتَأَخِّرًا عن الْعَقْدِ فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَعْزِلَهُ وَيَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ أَيْضًا لِأَنَّ التَّسْلِيطَ الْمُتَأَخِّرَ عن الْعَقْدِ تَوْكِيلٌ مُبْتَدَأٌ فَيَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِعَزْلِ الْمُوَكِّلِ وَمَوْتِهِ وَسَائِرِ ما يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عن الْوَكَالَةِ وقد ذَكَرْنَا جُمْلَةَ ذلك في كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ أَنَّ التَّسْلِيطَ الطارىء على الْعَقْدِ وَالْمُقَارِنَ إيَّاهُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ يَلْتَحِقُ بِالْعَقْدِ فَيَصِيرُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ التَّسْلِيطَ لم يُوجَدْ عِنْدَ الْعَقْدِ حَقِيقَةً وَجَعْلُ الْمَعْدُومِ حَقِيقَةً مَوْجُودًا تَقْدِيرًا لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ ولم يُوجَدْ وَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِمَوْتِ الْعَدْلِ سَوَاءٌ كانت بَعْدَ الْعَقْدِ أو في الْعَقْدِ وَلَا يَقُومُ وَارِثُهُ وَلَا وَصِيُّهُ مَقَامَهُ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تُورَثُ وَلِأَنَّ الرَّاهِنَ رضي بِهِ ولم يَرْضَ بِغَيْرِهِ فإذا مَاتَ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ لَكِنْ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ وَيُوضَعُ الرَّهْنُ في يَدِ عَدْلٍ آخَرَ عن تَرَاضٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ جَازَ الْوَضْعُ في يَدِ الْأَوَّلِ في الِابْتِدَاءِ بِتَرَاضِيهِمَا فَكَذَا في يَدِ الثَّانِي في الِانْتِهَاءِ فَإِنْ اخْتَلَفَا في ذلك نَصَّبَ الْقَاضِي عَدْلًا وَوَضَعَ الرَّهْنَ على يَدِهِ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ وَلَيْسَ لِلْعَدْلِ الثَّانِي أَنْ يَبِيعَ إلَّا أَنْ يَمُوتَ الرَّاهِنُ لِأَنَّ الرَّاهِنَ سَلَّطَ الْأَوَّلَ لَا الثَّانِيَ
وَعَلَى هذا تَخْرُجُ نَفَقَةُ الرَّاهِنِ إنها على الرَّاهِنِ لَا على الْمُرْتَهِنِ وَالْأَصْلُ أَنَّ ما كان من حُقُوقِ الْمِلْكِ فَهُوَ على الرَّاهِنِ لِأَنَّ الْمِلْكَ له وما كان من حُقُوقِ الْيَدِ فَهُوَ على الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ الْيَدَ له
إذَا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ الرَّهْنُ إذَا كان رَقِيقًا فَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ وَكِسْوَتُهُ على الرَّاهِنِ وَكَفَنُهُ عليه وَأُجْرَةُ ظِئْرِ وَلَدِ الرَّهْنِ عليه وَإِنْ كانت دَابَّةً فَالْعَلَفُ وَأُجْرَةُ الرَّاعِي عليه وَإِنْ كان بُسْتَانًا فَسَقْيُهُ وَتَلْقِيحُ نَخْلِهِ وَجِدَادُهُ وَالْقِيَامُ بِمَصَالِحِهِ عليه سَوَاءٌ كان في قِيمَةِ الرَّهْنِ فَضْلٌ أو لم يَكُنْ لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ من حُقُوقِ الْمِلْكِ وَمُؤْنَاتُ الْمِلْكِ على الْمَالِكِ وَالْمِلْكُ لِلرَّاهِنِ فَكَانَتْ الْمُؤْنَةُ عليه وَالْخَرَاجُ على الرَّاهِنِ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ
وَأَمَّا الْعُشْرُ فَفِي الْخَارِجِ يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ في الْبَاقِي بِخِلَافِ ما إذَا اُسْتُحِقَّ بَعْضُ الرَّهْنِ شَائِعًا إنه يَبْطُلُ الرَّهْنُ في الْبَاقِي
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْفَسَادَ في الِاسْتِحْقَاقِ لِمَكَانِ الشُّيُوعِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّ الرَّهْنَ في الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ لم يَصِحَّ وَالْبَاقِي شَائِعٌ وَالشِّيَاعُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ بِخِلَافِ الْعُشْرِ لِأَنَّ وُجُوبَهُ في الْخَارِجِ لَا يُخْرِجُهُ عن مِلْكِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيَجُوزُ له الْأَدَاءُ من غَيْرِهِ فَكَانَ الدَّفْعُ إلَى الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ إخْرَاجِ الشَّيْءِ عن مِلْكِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فيه مَعْنَى الشُّيُوعِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَلَوْ كان في الرَّهْنِ نَمَاءٌ فَأَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يَجْعَلَ النَّفَقَةَ التي ذَكَرْنَا إنها عليه في نَمَاءِ الرَّهْنِ ليس له ذلك لِأَنَّ زَوَائِدَ الْمَرْهُونِ مَرْهُونَةٌ عِنْدَنَا تَبَعًا لِلْأَصْلِ فَلَا يَمْلِكُ الْإِنْفَاقَ منها كما لَا يَمْلِكُ الْإِنْفَاقَ من الْأَصْلِ وَالْحِفْظُ على الْمُرْتَهِنِ حتى لو شَرَطَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ أَجْرًا على حِفْظِهِ فَحَفِظَ لَا يَسْتَحِقُّ شيئا من الْأَجْرِ لِأَنَّ حِفْظَ الرَّهْنِ عليه فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِإِتْيَانِ ما هو وَاجِبٌ عليه بِخِلَافِ الْمُودِعِ إذَا شَرَطَ لِلْمُودَعِ أَجْرًا على حِفْظِ الْوَدِيعَةِ أَنَّ له الْأَجْرَ لِأَنَّ حِفْظَ الْوَدِيعَةِ ليس بِوَاجِبٍ عليه فَجَازَ شَرْطُ الْأَجْرِ وَأُجْرَةُ الْحَافِظِ عليه لِأَنَّهَا مُؤْنَةُ الْحِفْظِ وَالْحِفْظُ عليه
وَكَذَا أُجْرَةُ الْمَسْكَنِ وَالْمَأْوَى لِمَا قُلْنَا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ كِرَاءَ الْمَأْوَى على الرَّاهِنِ وَجُعْلُهُ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ وَجُعْلُ الْآبِقِ على الْمُرْتَهِنِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ وَالْفَضْلُ على ذلك على الْمَالِكِ حتى لو كانت قِيمَةُ الرَّهْنِ وَالدَّيْنِ سَوَاءً أو قِيمَةُ الرَّهْنِ أَقَلَّ فَالْجُعْلُ كُلُّهُ على الْمُرْتَهِنِ وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَكْثَرَ فَبِقَدْرِ الدَّيْنِ على الْمُرْتَهِنِ وَبِقَدْرِ الزِّيَادَةِ على الرَّاهِنِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْجُعْلِ على الْمُرْتَهِنِ لِكَوْنِ الْمَرْهُونِ مَضْمُونًا وأنه مَضْمُونٌ بِقَدْرِ الدَّيْنِ وَالْفَضْلُ أَمَانَةٌ فَانْقَسَمَ الْجُعْلُ عَلَيْهِمَا على قَدْرِ الْأَمَانَةِ وَالضَّمَانِ بِخِلَافِ أُجْرَةِ الْمَسْكَنِ إنها على الْمُرْتَهِنِ خَاصَّةً وَإِنْ كان في قِيمَةِ الرَّهْنِ فَضْلٌ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ على الْمُرْتَهِنِ لِكَوْنِهَا مُؤْنَةَ الْحِفْظِ وَكُلُّ الْمَرْهُونِ مَحْفُوظٌ بِحِفْظِهِ فَكَانَ كُلُّ الْمُؤْنَةِ عليه
فَأَمَّا الْجُعْلُ فَإِنَّمَا لَزِمَهُ لِكَوْنِ الْمَرْدُودِ مَضْمُونًا
____________________

(6/151)


وَالْمَضْمُونُ بَعْضُهُ لَا كُلُّهُ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّمَانِ وَالْفِدَاءِ من الْجِنَايَةِ وَالدَّيْنُ الذي يَلْحَقُهُ الرَّهْنُ بِمَنْزِلَةِ جُعْلِ الْآبِقِ يَنْقَسِمُ على الْمَضْمُونِ وَالْأَمَانَةِ
وَكَذَلِكَ مُدَاوَاةُ الْجُرُوحِ وَالْقُرُوحِ وَالْأَمْرَاضِ تَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا على قَدْرِ الضَّمَانِ وَالْأَمَانَةِ
كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ الْمُدَاوَاةَ على الْمُرْتَهِنِ من بَابِ إحْيَاءِ حَقِّهِ وهو الدَّيْنُ وَكُلُّ ما وَجَبَ على الرَّاهِنِ فَأَدَّاهُ الْمُرْتَهِنُ بِغَيْرِ إذْنِهِ أو وَجَبَ على الْمُرْتَهِنِ فَأَدَّاهُ الْمُرْتَهِنُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنْ فَعَلَ بِأَمْرِ الْقَاضِي يَرْجِعُ على صَاحِبِهِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ له وِلَايَةُ حِفْظِ أَمْوَالِ الناس وَصِيَانَتِهَا عن الْهَلَاكِ وَالْإِذْنُ بِالْإِنْفَاقِ على وَجْهٍ يَرْجِعُ على صَاحِبِهِ بِمَا أَنْفَقَ طَرِيقُ صِيَانَةِ الْمَالَيْنِ وَكَذَا إذَا فَعَلَ أَحَدُهُمَا بِأَمْرِ صَاحِبِهِ يَرْجِعُ عليه لِأَنَّهُ صَارَ وَكِيلًا عنه بِالْإِنْفَاقِ
وَرَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الرَّاهِنَ إنْ كان غَائِبًا فَأَنْفَقَ الْمُرْتَهِنُ بِأَمْرِ الْقَاضِي يَرْجِعُ عليه وَإِنْ كان حَاضِرًا لم يَرْجِعْ عليه
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَرْجِعُ في الْحَالَيْنِ جميعا بِنَاءً على أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَلِي على الْحَاضِرِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَلِي عليه وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ على الْحُرِّ وَسَتَأْتِي في كِتَابِ الْحَجْرِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ زَوَائِدُ الرَّهْنِ إنها مَرْهُونَةٌ عِنْدَنَا
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في زَوَائِدِ الرَّهْنِ أنها على ضَرْبَيْنِ زِيَادَةٍ غَيْرِ مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ وَلَا في حُكْمِ الْمُتَوَلِّدِ منه كَالْكَسْبِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَزِيَادَةٍ مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ أو في حُكْمِ الْمُتَوَلِّدِ من الْأَصْلِ كَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ الزِّيَادَةَ الْأُولَى أنها لَيْسَتْ بِمَرْهُونَةٍ بِنَفْسِهَا وَلَا هِيَ بَدَلُ المرهون ( ( ( المرهونة ) ) ) وَلَا جُزْءٌ منه وَلَا بَدَلُ جُزْءٍ منه فَلَا يَثْبُتُ فيها حُكْمُ الرَّهْنِ
وَاخْتُلِفَ في الزِّيَادَةِ الثَّانِيَةِ قال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ إنَّهَا مَرْهُونَةٌ وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَتْ بِمَرْهُونَةٍ بِنَاءً على أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلرَّهْنِ عِنْدَهُ هو كَوْنُ الْمُرْتَهِنِ أَخَصَّ بِبَيْعِ الْمَرْهُونِ وَأَحَقَّ بِثَمَنِهِ من بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ فَقَبْلَ الْبَيْعِ لَا حَقَّ له في الرَّهْنِ حتى يَسْرِيَ إلَى الْوَلَدِ فَأَشْبَهَ وَلَدَ الْجَارِيَةِ إذَا جَنَتْ ثُمَّ وَلَدَتْ أَنَّ حُكْمَ الْجِنَايَةِ لَا يَثْبُتُ في وَلَدِهَا لِمَا أَنَّ حُكْمَ جِنَايَةِ الْأُمِّ هو وُجُوبُ الدَّفْعِ إلَى الْمَجْنِيِّ عليه وإنه ليس بِمَعْنًى ثَابِتٍ في الْأُمِّ فلم يَسْرِ إلَى الْوَلَدِ
كَذَا هذا وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ مَرْهُونَةً أنها لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ وَلَوْ كانت مَرْهُونَةً لَكَانَتْ مَضْمُونَةً كَالْأَصْلِ
وَعِنْدَنَا حَقُّ الْحَبْسِ حُكْمٌ أَصْلِيٌّ لِلرَّهْنِ أَيْضًا وَهَذَا الْحَقُّ ثَابِتٌ في الْأُمِّ فَيَثْبُتُ في الْوَلَدِ تَبَعًا لِلْأُمِّ إلَّا أنها لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ لِثُبُوتِ حُكْمِ الرَّهْنِ فيها تَبَعًا لِلْأَصْلِ فَكَانَتْ مَرْهُونَةً تَبَعًا لَا أَصْلًا كَوَلَدِ الْمَبِيعِ أَنَّهُ مَبِيعٌ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لَكِنْ تَبَعًا لَا أَصْلًا فَلَا يَكُونُ له حِصَّةٌ من الثَّمَنِ إلَّا إذَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْقَبْضِ فَكَذَا الْمَرْهُونُ تَبَعًا لَا يَكُونُ له حِصَّةٌ من الضَّمَانِ إلَّا إذَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْفِكَاكِ
وإذا كانت الزِّيَادَةُ مَرْهُونَةً عِنْدَنَا كانت مَحْبُوسَةً مع الْأَصْلِ بِكُلِّ الدَّيْنِ وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَفْتَكَّ أَحَدَهُمَا إلَّا بِقَضَاءِ الدَّيْنِ كُلِّهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرْهُونٌ وَالْمَرْهُونُ مَحْبُوسٌ كُلُّهُ بِكُلِّ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الدَّيْنِ لِمَا نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَيَنْقَسِمُ الدَّيْنُ على الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ على تَقْدِيرِ بَقَائِهَا إلَى وَقْتِ الْفِكَاكِ على قَدْرِ قِيمَتِهِمَا لَكِنْ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْأَصْلِ يوم الْعَقْدِ وَقِيمَةُ الزِّيَادَةِ يوم الْفِكَاكِ وَنُبَيِّنُ ذلك في مَوْضِعِهِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ الزِّيَادَةُ على الرَّهْنِ أنها لَمَّا كانت جَائِزَةً على أَصْلِ أَصْحَابِنَا كان لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْبِسَهُمَا جميعا بِالدَّيْنِ وَلَا سَبِيلَ لِلرَّاهِنِ على أَحَدِهِمَا ما لم يَقْبِضْ جَمِيعَ الدَّيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرْهُونٌ وَيُقْسَمُ الدَّيْنُ بَيْنَهُمَا على قَدْرِ قِيمَتِهِمَا إلَّا أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الرَّهْنِ الْأَصْلِيِّ وَقْتَ الْعَقْدِ وَقِيمَةُ الزِّيَادَةِ وَقْتَ الزِّيَادَةِ وَأَيُّهُمَا هَلَكَ يَهْلِكُ بِحِصَّتِهِ من الدَّيْنِ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الرَّهْنِ وَالْفَرْقُ بين الزِّيَادَتَيْنِ يَأْتِي في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا الذي يَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّةِ هذا الْحُكْمِ فَنَوْعَانِ الْأَوَّلُ أَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ حَبْسِ الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ الذي رَهَنَ بِهِ وَلَيْسَ له أَنْ يُمْسِكَهُ بِدَيْنٍ وَجَبَ له على الرَّاهِنِ قبل الرَّهْنِ أو بَعْدَهُ لِأَنَّهُ مَرْهُونٌ بهذا الدَّيْنِ لَا بِدَيْنٍ آخَرَ فَلَا يَمْلِكُ حَبْسَهُ بِدَيْنٍ آخَرَ لِأَنَّ ذلك دَيْنٌ لَا رَهْنَ بِهِ
وَالثَّانِي أَنَّ الْمَرْهُونَ مَحْبُوسٌ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ الذي رَهَنَ بِهِ سَوَاءٌ كانت قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ من الدَّيْنِ أو أَقَلَّ حتى لو قَضَى الرَّاهِنُ بَعْضَ الدَّيْنِ كان لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْبِسَ كُلَّ الدين ( ( ( الرهن ) ) ) حتى يَسْتَوْفِيَ ما بَقِيَ قَلَّ الْبَاقِي أو كَثُرَ لِأَنَّ الرَّهْنَ في حَقِّ مِلْكِ الْحَبْسِ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ فما بَقِيَ شَيْءٌ من الدَّيْنِ بَقِيَ مَحْبُوسًا بِهِ كَالْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ لَمَّا كان مَحْبُوسًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فما بَقِيَ شَيْءٌ من الثَّمَنِ بَقِيَ مَحْبُوسًا بِهِ
كَذَا هذا
وَلِأَنَّ صَفْقَةَ الرَّهْنِ وَاحِدَةٌ فَاسْتِرْدَادُ شَيْءٍ من الْمَرْهُونِ بِقَضَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ يَتَضَمَّنُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ من غَيْرِ
____________________

(6/152)


رِضَا الْمُرْتَهِنِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَسَوَاءٌ كان الْمَرْهُونُ شيئا وَاحِدًا أو أَشْيَاءَ ليس لِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَرِدَّ شيئا من ذلك بِقَضَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ لِمَا قلناه ( ( ( قلنا ) ) ) وَسَوَاءٌ سمي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شيء من الْمَالِ الذي رَهَنَ بِهِ أو لم يُسَمِّ في رِوَايَةِ الْأَصْلِ
وَذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ فِيمَنْ رَهَنَ مِائَةَ شَاةٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ على أَنَّ كُلَّ شَاةٍ منها ( ( ( منهم ) ) ) بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَأَدَّى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ كان له أَنْ يَقْبِضَ شَاةً
ذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَنَّ ما ذُكِرَ في الْأَصْلِ قَوْلُ أبي يُوسُفَ وما ذُكِرَ في الزِّيَادَاتِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ
وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ في الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ عن مُحَمَّدٍ
وَجْهُ رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَمَّا سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنًا مُتَفَرِّقًا أَوْجَبَ ذلك تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ رَهَنَ كُلَّ واحدة مِنْهُمَا بِعَقْدٍ على حِدَةٍ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ حَقِيقَةً لِأَنَّهَا أُضِيفَتْ إلَى الْكُلِّ إضَافَةً وَاحِدَةً إلَّا أَنَّهُ تَفَرَّقَتْ التَّسْمِيَةُ وَتَفْرِيقُ التَّسْمِيَةِ لَا يُوجِبُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ كما في الْبَيْعِ إذَا اشْتَمَلَتْ الصَّفْقَةُ على أَشْيَاءَ كان لِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ كُلِّهَا إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَإِنْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا على حِدَةٍ كَذَا هذا
وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي وهو اخْتِصَاصُ الْمُرْتَهِنِ بِبَيْعِ الْمَرْهُونِ له وَاخْتِصَاصُهُ بِثَمَنِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إذَا بِيعَ الرَّهْنُ في حَالِ حَيَاةِ الرَّاهِنِ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ أُخَرُ فَالْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِثَمَنِهِ من بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ بِعَقْدِ الرَّهْنِ ثَبَتَ له الِاخْتِصَاصُ بِالْمَرْهُونِ فَيَثْبُتُ له الِاخْتِصَاصُ بِبَدَلِهِ وهو الثَّمَنُ ثُمَّ إنْ كان الدَّيْنُ حَالًّا وَالثَّمَنُ من جِنْسِهِ فَقَدْ اسْتَوْفَاهُ إنْ كان في الثَّمَنِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ وَإِنْ كان فيه فَضْلٌ رَدَّهُ على الرَّاهِنِ وَإِنْ كان أَنْقَصَ من الدَّيْنِ يَرْجِعْ الْمُرْتَهِنُ بِفَضْلِ الدَّيْنِ على الرَّاهِنِ وَإِنْ كان الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا حُبِسَ الثَّمَنُ إلَى وَقْتِ حُلُولِ الْأَجَلِ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَرْهُونِ فَيَكُونُ مَرْهُونًا فإذا حَلَّ الْأَجَلُ فَإِنْ كان الثَّمَنُ من جِنْسِ الدَّيْنِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ وَإِنْ كان من خِلَافِ جِنْسِهِ يَحْبِسُهُ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ كُلَّهُ وَكَذَلِكَ إذَا بِيعَ الرَّهْنُ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّاهِنِ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ ولم يَخْلُفْ مَالًا آخَرَ سِوَى الرَّهْنِ كان الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِثَمَنِهِ من بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ فَضَلَ منه شَيْءٌ يُضَمُّ الْفَضْلُ إلَى مَالِ الرَّاهِنِ وَيُقْسَمُ بين الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ لِأَنَّ قَدْرَ الْفَضْلِ لم يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَإِنْ نَقَصَ عن الدَّيْنِ يَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ بِمَا بَقِيَ من دَيْنِهِ في مَالِ الرَّاهِنِ وكان بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ لِأَنَّ قَدْرَ الْفَضْلِ من الدَّيْنِ دَيْنٌ لَا رَهْنَ بِهِ فَيَسْتَوِي فيه الْغُرَمَاءُ
وَكَذَلِكَ لو كان على الرَّاهِنِ دَيْنٌ آخَرُ كان الْمُرْتَهِنُ فيه أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ وَلَيْسَ له أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ من ثَمَنِ الرَّهْنِ
لِأَنَّ ذلك الدَّيْنَ لَا رَهْنَ بِهِ فَيَتَضَارَبُ فيه الْغُرَمَاءُ كلهم
وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ وهو وُجُوبُ تَسْلِيمِ الْمَرْهُونِ عِنْدَ الِافْتِكَاكِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَعْرِفَةُ وَقْتِ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَنَقُولُ وَقْتُ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ ما بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ يَقْضِي الدَّيْنَ أَوَّلًا ثُمَّ يُسَلِّمُ الرَّهْنَ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ وفي تَقْدِيمِ تَسْلِيمِهِ إبْطَالُ الْوَثِيقَةِ وَلِأَنَّهُ لو سَلَّمَ الرَّهْنَ أَوَّلًا فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَمُوتَ الرَّاهِنُ قبل قَضَاءِ الدَّيْنِ فَيَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ كَوَاحِدٍ من الْغُرَمَاءِ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ فَلَزِمَ تَقْدِيمُ قَضَاءِ الدَّيْنِ على تَسْلِيمِ الرَّهْنِ إلَّا أَنَّ الْمُرْتَهِنَ إذَا طَلَبَ الدَّيْنَ يُؤْمَرُ بِإِحْضَارِ الرَّهْنِ أَوَّلًا وَيُقَالُ له أَحْضِرْ الرَّهْنَ إذَا كان قَادِرًا على الْإِحْضَارِ من غَيْرِ ضَرَرٍ زَائِدٍ
ثُمَّ يُخَاطَبُ الرَّاهِنُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ لو خُوطِبَ بِقَضَائِهِ من غَيْرِ إحْضَارِ الرَّهْنِ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الرَّهْنَ قد هَلَكَ وَصَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ من الرَّهْنِ فَيُؤَدِّي إلَى الِاسْتِيفَاءِ مَرَّتَيْنِ
وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ أَوَّلًا إذَا كان دَيْنًا ثُمَّ يُؤْمَرُ الْبَائِعُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِمَا ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْبُيُوعِ إلَّا أَنَّ الْبَائِعَ إذَا طَالَبَهُ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ يُقَالُ له أَحْضِرْ الْمَبِيعَ لِجَوَازِ أَنَّ الْمَبِيعَ قد هَلَكَ وَسَوَاءٌ كان عَيْنُ الرَّهْنِ قَائِمًا في يَدِ الْمُرْتَهِنِ أو كان في يَدِهِ بَدَلُهُ بَعْدَ أَنْ كان الْبَدَلُ من خِلَافِ جِنْسِ الدَّيْنِ
نَحْوُ ما إذَا كان الْمُرْتَهِنُ مُسَلَّطًا على بَيْعِ الرَّهْنِ فَبَاعَهُ بِخِلَافِ جِنْسِ الدَّيْنِ أو قُتِلَ الرَّهْنُ خَطَأً وقضى بِالدِّيَةِ من خِلَافِ جِنْسِ الدَّيْنِ فَطَالَبَهُ الْمُرْتَهِنُ بِدَيْنِهِ كان لِلرَّاهِنِ أَنْ لَا يَدْفَعَ حتى يُحْضِرَهُ الْمُرْتَهِنُ لِأَنَّ الْبَدَلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُبْدَلِ فَكَانَ الْمُبْدَلُ قائم ( ( ( قائما ) ) ) وَلَوْ كان قَائِمًا كان له أَنْ يَمْنَعَ ما لم يُحْضِرْهُ الْمُرْتَهِنُ فَكَذَلِكَ إذَا قام الْبَدَلُ مَقَامَهُ
وَلَوْ كان الرَّهْنُ على يَدَيْ عَدْلٍ وَجَعَلَا لِلْعَدْلِ أَنْ يَضَعَهُ عِنْدَ من أَحَبَّ وقد وَضَعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ فَطَلَبَ الْمُرْتَهِنُ دَيْنَهُ يُجْبَرُ الرَّاهِنُ على قَضَاءِ الدَّيْنِ وَلَا يُكَلَّفُ الْمُرْتَهِنُ بِإِحْضَارِ الرَّهْنِ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ على الرَّاهِنِ على سَبِيلِ التَّضْيِيقِ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ له التَّأْخِيرُ إلَى غَايَةِ إحْضَارِ الدَّيْنِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ على الْإِحْضَارِ وَهُنَا لَا قُدْرَةَ لِلْمُرْتَهِنِ على إحْضَارِهِ لِأَنَّ لِلْعَدْلِ أَنْ يَمْنَعَهُ عنه وَلَوْ أُخِذَ من يَدِهِ جَبْرًا كان غَاصِبًا
____________________

(6/153)


وَإِلَى هذا الْمَعْنَى أَشَارَ مُحَمَّدٌ في الْكِتَابِ فقال كَيْفَ يُؤْمَرُ بِإِحْضَارِ شَيْءٍ لو أَخَذَهُ كان غَاصِبًا وإذا سَقَطَ التَّكْلِيفُ بِالْإِحْضَارِ زَالَتْ الرُّخْصَةُ فَيُخَاطَبُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ
وَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَا الرَّهْنَ على يَدِ عَدْلٍ فَغَابَ بِالرَّهْنِ وَلَا يدري أَيْنَ هو لَا يُكَلَّفُ الْمُرْتَهِنُ بِإِحْضَارِ الرَّهْنِ وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ على قَضَاءِ الدَّيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَلَوْ كان الرَّهْنُ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَالْتَقَيَا في بَلَدٍ آخَرَ فَطَالَبَ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ فَإِنْ كان الدَّيْنُ مِمَّا له حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يُجْبَرُ الرَّاهِنُ على قَضَاءِ الدَّيْنِ وَلَا يُجْبَرُ الْمُرْتَهِنُ على إحْضَارِ الرَّهْنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ عليه على سَبِيلِ التَّضْيِيقِ وَالتَّأْخِيرِ إلَى وَقْتِ الْإِحْضَارِ لِلضَّرُورَةِ التي ذَكَرْنَاهَا عِنْدَ الْقُدْرَةِ على الْإِحْضَارِ من غَيْرِ ضَرَرٍ زَائِدٍ وَالْمُرْتَهِنُ هُنَا لَا يَقْدِرُ على الْإِحْضَارِ إلَّا بِالْمُسَافَرَةِ بِالرَّهْنِ أو بِنَقْلِهِ من مَكَانِ الْعَقْدِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمُرْتَهِنِ فَسَقَطَ التَّكْلِيفُ بِالْإِحْضَارِ
وَلَوْ ادَّعَى الرَّاهِنُ هَلَاكَ الرَّهْنِ فقال الْمُرْتَهِنُ لم يَهْلِكْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مع يَمِينِهِ لِأَنَّ الرَّهْنَ كان قَائِمًا وَالْأَصْلُ في الثَّابِتِ بَقَاؤُهُ فَالْمُرْتَهِنُ يَسْتَصْحِبُ حَالَةَ الْقِيَامِ
وَالرَّاهِنُ يَدَّعِي زَوَالَ تِلْكَ الْحَالَةِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ من يَدَّعِي الْأَصْلَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ له وَلِأَنَّ الرَّاهِنَ بِدَعْوَى الْهَلَاكِ يَدَّعِي على الْمُرْتَهِنِ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ وهو مُنْكِرٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ وَيُحَلَّفُ على الْبَتَاتِ لِأَنَّهُ يُحَلَّفُ على فِعْلِ نَفَسِهِ وهو الْقَبْضُ السَّابِقُ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِالْهَلَاكِ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ له فيه بَلْ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ وَذَلِكَ فِعْلُهُ بِخِلَافِ ما إذَا كان الرَّهْنُ عِنْدَ عَدْلٍ فَغَابَ بِالرَّهْنِ فَاخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ في هَلَاكِ الرَّهْنِ إن هُنَاكَ يُحَلَّفُ الْمُرْتَهِنُ على الْعِلْمِ لَا على الْبَتَاتِ
لِأَنَّ ذلك تَحْلِيفٌ على فِعْلِ غَيْرِهِ وهو قَبْضُ الْعَدْلِ فَتَعَذَّرَ التَّحْلِيفُ على الْبَتَاتِ فَيُحَلَّفُ على الْعِلْمِ كما لو ادَّعَى الرَّاهِنُ أَنَّهُ أَوْفَى الدَّيْنَ وَكِيلُ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُرْتَهِنُ يُنْكِرُ أَنَّهُ يُحَلَّفُ على الْعِلْمِ لِمَا ذَكَرْنَا
كَذَا هذا
وَإِنْ كان الرَّهْنُ مِمَّا لَا حَمْلَ له وَلَا مُؤْنَةَ فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ يُجْبَرُ على قَضَاءِ الدَّيْنِ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُجْبَرُ ما لم يُحْضِرْ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ لِأَنَّهُ ليس في إحْضَارِهِ ضَرَرٌ زَائِدٌ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ في الزِّيَادَاتِ
وَلَوْ اشْتَرَى شيئا ولم يَقْبِضْهُ ولم يُسَلِّمْ الثَّمَنَ حتى لَقِيَهُ الْبَائِعُ في غَيْرِ مِصْرِهِ الذي وَقَعَ الْبَيْعُ فيه فَطَالَبَهُ بِالثَّمَنِ وَأَبَى الْمُشْتَرِي حتى يُحْضِرَ الْمَبِيعَ لَا يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي على تَسْلِيمِ الثَّمَنِ حتى يُحْضِرَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ سَوَاءٌ كان له حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ أو لم يَكُنْ
فُرِّقَ بين الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةٌ مُطْلَقَةٌ وَالْمُسَاوَاةُ في الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ مَطْلُوبَةٌ عَادَةً وَشَرِيعَةً وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ من غَيْرِ إحْضَارِ الْمَبِيعِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ ليس بِمُعَاوَضَةٍ مُطْلَقَةٍ وَإِنْ كان فيه مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَلَا يَلْزَمُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ بين الْمَرْهُونِ وَالْمَرْهُونِ بِهِ وهو الدَّيْنُ في هذا الْحُكْمِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ هَلَاكِ الْمَرْهُونِ فَالْمَرْهُونُ إذَا هَلَكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَهْلِكَ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا أَنْ يَهْلِكَ بِالِاسْتِهْلَاكِ فَإِنْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ يَهْلِكُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ عِنْدَنَا وَالْكَلَامُ في هذا الْحُكْمِ في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في بَيَانِ أَصْلِ الضَّمَانِ أَنَّهُ ثَابِتٌ أَمْ لَا
وَالثَّانِي في بَيَانِ شَرَائِطِ الضَّمَانِ
وَالثَّالِثُ في بَيَانِ قَدْرِ الضَّمَانِ وَكَيْفِيَّتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال أَصْحَابُنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّ الْمَرْهُونَ يَهْلِكُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَهْلِكُ أَمَانَةً
احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ هو لِصَاحِبِهِ الذي رَهَنَهُ له غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ فَقَدْ جَعَلَ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غُرْمَ الرَّهْنِ على الرَّاهِنِ وَإِنَّمَا يَكُونُ غُرْمُهُ عليه إذَا هَلَكَ أَمَانَةً لِأَنَّ عليه قَضَاءَ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ فَأَمَّا إذَا هَلَكَ مَضْمُونًا كان غُرْمُهُ على الْمُرْتَهِنِ حَيْثُ سَقَطَ حَقُّهُ لَا على الرَّاهِنِ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَلِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ شُرِعَ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ وَلَوْ سَقَطَ الدَّيْنُ بِهَلَاكِ الْمَرْهُونِ لَكَانَ تَوْهِينًا لَا تَوْثِيقًا لِأَنَّهُ يَقَعُ تَعْرِيضُ الْحَقِّ لِلتَّلَفِ على تَقْدِيرِ هَلَاكِ الرَّهْنِ فَكَانَ تَوْهِينًا لِلْحَقِّ لَا تَوْثِيقًا له
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال الرَّهْنُ بِمَا فيه وفي رِوَايَةٍ ( الرِّهَانُ بِمَا فيها )
وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا رَهَنَ بِدَيْنٍ عِنْدَ رَجُلٍ فَرَسًا بِحَقٍّ له عليه فَنَفَقَ الْفَرَسُ عِنْدَهُ فَطَالَبَهُ الْمُرْتَهِنُ بِحَقِّهِ فَاخْتَصَمَا إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَهَبَ حَقُّكَ وَلِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ جُعِلَ مُسْتَوْفِيًا لِلدَّيْنِ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ فَلَا يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ ثَانِيًا كما إذَا استوفي بِالْفِكَاكِ وَتَقْرِيرُ مَعْنَى الِاسْتِيفَاءِ في الرَّهْنِ ذَكَرْنَاهُ في مَسَائِلِ الْخِلَافِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ
____________________

(6/154)


فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ أَيْ لَا يَهْلِكُ إذْ الْغَلْقُ يُسْتَعْمَلُ في الْهَلَاكِ كَذَا قال بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ
وَعَلَى هذا كان الْحَدِيثُ حُجَّةً عليه لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِالدَّيْنِ فَلَا يَكُونُ هَالِكًا مَعْنًى
وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَيْ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُرْتَهِنُ وَلَا يَمْلِكُهُ عِنْدَ امْتِنَاعِ الرَّاهِنِ عن قَضَاءِ الدَّيْنِ وَهَذَا كان حُكْمًا جَاهِلِيًّا جاء الْإِسْلَامُ فَأَبْطَلَهُ
وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عليه غُرْمُهُ أَيْ نَفَقَتُهُ وَكَنَفُهُ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ أنه وَثِيقَةٌ قُلْنَا مَعْنَى التَّوْثِيقِ في الرَّهْنِ هو التَّوَصُّلُ إلَيْهِ في أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ لِأَنَّهُ كان لِلْمُرْتَهِنِ وِلَايَةُ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ من مُطْلَقِ مَالِهِ وَبَعْدَ الرَّهْنِ حَدَثَتْ له وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِالْقَضَاءِ من مَالِهِ الْمُعَيَّنِ وهو الرَّهْنُ بِوَاسِطَةِ الْبَيْعِ فَازْدَادَ طَرِيقُ الْوُصُولِ إلَى حَقِّهِ فَحَصَلَ مَعْنَى التَّوْثِيقِ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ كَوْنِهِ مَضْمُونًا عِنْدَ الْهَلَاكِ فَأَنْوَاعٌ منها قِيَامُ الدَّيْنِ حتى لو سَقَطَ الدَّيْنُ من غَيْرِ عِوَضٍ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ هَلَكَ أَمَانَةً
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا أَبْرَأَ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ عن الدَّيْنِ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ يَهْلِكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَلَا ضَمَانَ على الْمُرْتَهِنِ فيه إذَا لم يُوجَدْ منه مَنْعُ الرَّهْنِ من الرَّاهِنِ عِنْدَ طَلَبِهِ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ يُضْمَنَ وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَلَوْ اسْتَوْفَى دَيْنَهُ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ في يَدِهِ يَهْلِكُ بِالدَّيْنِ وَعَلَيْهِ بَدَلُ ما اسْتَوْفَى وَزُفَرُ سَوَّى بين الْإِبْرَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ وَنَحْنُ نُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ وَيَتَقَرَّرُ ذلك الِاسْتِيفَاءُ عِنْدَ الْهَلَاكِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ اسْتَوْفَى الدَّيْنَ ثُمَّ أَبْرَأَ عنه ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ
وَلَوْ كان كَذَلِكَ يُضْمَنُ كَذَا هذا وَلِأَنَّ الْمَرْهُونَ لَمَّا صَارَ مَضْمُونًا بِالْقَبْضِ يَبْقَى الضَّمَانُ ما بَقِيَ الْقَبْضُ وقد بَقِيَ لِانْعِدَامِ ما يَنْقُضُهُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ كَوْنَ الْمَرْهُونِ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ يَسْتَدْعِي قِيَامَ الدَّيْنِ لِأَنَّ الضَّمَانَ هو ضَمَانُ الدَّيْنِ وقد سَقَطَ بِالْإِبْرَاءِ فَاسْتَحَالَ أَنْ يَبْقَى مَضْمُونًا بِهِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ إنَّ الِاسْتِيفَاءَ يَتَقَرَّرُ عِنْدَ الْهَلَاكِ لِأَنَّا نَقُولُ نعم إذَا كان الدَّيْنُ قَائِمًا فإذا سَقَطَ بِالْإِبْرَاءِ لَا يُتَصَوَّرُ الِاسْتِيفَاءُ وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا اسْتَوْفَى الدَّيْنَ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَائِمٌ وَالضَّمَانَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فَيَبْقَى ما بَقِيَ الْقَبْضُ ما لم يُوجَدْ الْمُسْقِطُ وَالِاسْتِيفَاءُ لَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ بَلْ يُقَرِّرُهُ لِأَنَّ المستوفي يَصِيرُ مَضْمُونًا على الْمُرْتَهِنِ بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ لِأَنَّهُ مُسْقِطٌ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ فَلَا يَبْقَى الضَّمَانُ فَهُوَ الْفَرْقُ هذا إذَا لم يُوجَدْ من الْمُرْتَهِنِ مَنْعُ الرَّهْنِ من الرَّاهِنِ بَعْدَ طَلَبِهِ فَإِنْ وُجِدَ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ في يَدِهِ ضَمِنَ كُلَّ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا بِالْمَنْعِ وَالْمَغْصُوبُ مَضْمُونٌ بِكُلِّ الْقِيمَةِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا أَخَذَتْ الْمَرْأَةُ بِصَدَاقِهَا رَهْنًا ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قبل الدُّخُولِ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ في يَدِهَا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عليها في نِصْفِ الصَّدَاقِ الذي سَقَطَ بِالطَّلَاقِ لِأَنَّهَا لم تَصِرْ مُسْتَوْفِيَةً لِذَلِكَ النِّصْفِ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ لِسُقُوطِهِ بِالطَّلَاقِ فلم يَبْقَ الْقَبْضُ مَضْمُونًا
وَكَذَلِكَ لو أَخَذَتْ بِالصَّدَاقِ رَهْنًا ثُمَّ ارْتَدَّتْ قبل الدُّخُولِ بها حتى سَقَطَ الصَّدَاقُ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ في يَدِهَا لَا ضَمَانَ عليها لِأَنَّ الصَّدَاقَ لَمَّا سَقَطَ بِالرِّدَّةِ لم يَبْقَ الْقَبْضُ مَضْمُونًا فَصَارَ كما لو أَبْرَأَتْهُ عن الصَّدَاقِ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ في يَدِهَا وَلَوْ لم يَكُنْ الْمَهْرُ مُسَمًّى حتى وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ فَأَخَذَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ رَهْنًا ثُمَّ طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها حتى وَجَبَتْ عليه الْمُتْعَةُ لم يَكُنْ له أَنْ يَحْبِسَ الرَّهْنَ بِالْمُتْعَةِ
وَلَوْ هَلَكَ في يَدِهَا ولم يُوجَدْ منها مَنْعٌ يَهْلِكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَالْمُتْعَةُ بَاقِيَةٌ على الزَّوْجِ وَهَذَا قَوْلُ أبي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ لها حَقُّ الْحَبْسِ بِالْمُتْعَةِ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الرَّهْنَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ هل يَكُونُ رَهْنًا بِالْمُتْعَةِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَكُونُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ ولم يُذْكَرْ قَوْلَ أبي حَنِيفَةَ في الْأَصْلِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَهُ مع قَوْلِ أبي يُوسُفَ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الرَّهْنَ بِالشَّيْءِ رَهْنٌ بِبَدَلِهِ في الشَّرْعِ لِأَنَّ بَدَلَ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هو لِهَذَا كان الرَّهْنُ بِالْمَغْصُوبِ رَهْنًا بِقِيمَتِهِ عِنْدَ هَلَاكِهِ وَالرَّهْنُ بِالْمُسْلَمِ فيه رَهْنًا بِرَأْسِ الْمَالِ عِنْدَ الْإِقَالَةِ وَالْمُتْعَةُ بَدَلٌ عن نِصْفِ الْمَهْرِ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِالسَّبَبِ الذي يَجِبُ به مَهْرُ الْمِثْلِ وهو النِّكَاحُ عِنْدَ عَدَمِهِ وَهَذَا حَدُّ الْبَدَلِ في أَصْلِ الشُّيُوعِ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُتْعَةَ وَجَبَتْ أَصْلًا بِنَفْسِهَا لَا بَدَلًا عن مَهْرِ الْمِثْلِ وَالسَّبَبُ انْعَقَدَ لِوُجُوبِهَا ابْتِدَاءً كما أَنَّ الْعَقْدَ لِوُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ بِالطَّلَاقِ زَالَ في حَقِّ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ وَبَقِيَ في حَقِّ الْحُكْمِ الْآخَرِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ فيه إلَّا بَعْدَ الطَّلَاقِ فَكَانَ الطَّلَاقُ شَرْطَ عَمَلِ السَّبَبِ وَهَذَا لَا يَدُلُّ على كَوْنِهَا بَدَلًا كما في سَائِرِ الْأَسْبَابِ الْمُعَلَّقَةِ بِالشُّرُوطِ وَلَوْ أَسْلَمَ في طَعَامٍ وَأَخَذَ بِهِ رَهْنًا ثُمَّ تَفَاسَخَا الْعَقْدَ كان له أَنْ يَحْبِسَ الرَّهْنَ بِرَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ بَدَلٌ عن الْمُسْلَمِ فيه فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ في يَدِهِ يَهْلِكُ بِالطَّعَامِ لِأَنَّ
____________________

(6/155)


الْقَبْضَ حين وُجُودِهِ وَقَعَ مَضْمُونًا بِالطَّعَامِ وَبِالْإِقَالَةِ لم يَسْقُطْ الضَّمَانُ أَصْلًا لِأَنَّ بَدَلَهُ قَائِمٌ وهو رَأْسُ الْمَالِ فَيَبْقَى الْقَبْضُ مَضْمُونًا على ما كان بِخِلَافِ ما إذَا أَبْرَأَهُ عن الدَّيْنِ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ يَهْلِكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّ الضَّمَانَ هُنَاكَ سَقَطَ أَصْلًا وَرَأْسًا فَخَرَجَ الْقَبْضُ من أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا
وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا وَتَقَابَضَا ثُمَّ تَفَاسَخَا كان لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَحْبِس الْمَبِيعَ حتى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بَعْدَ التَّفَاسُخِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ وَلِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حتى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ فَكَذَا الْمُشْتَرِي وَكَذَلِكَ لو أَنَّ الْبَائِعَ سَلَّمَ الْمَبِيعَ وَأَخَذَ بِالثَّمَنِ رَهْنًا من الْمُشْتَرِي ثُمَّ تَقَايَلَا كان لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ الرَّهْنَ حتى يَقْبِضَ الْمَبِيعَ كما في السَّلَمِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ هَلَاكُ الْمَرْهُونِ في قَبْضِ الرَّهْنِ فَإِنْ لم يَكُنْ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ وَإِنْ بَقِيَ عَقْدُ الرَّهْنِ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ إنَّمَا صَارَ مَضْمُونًا بِالْقَبْضِ فإذا خَرَجَ عن قَبْضِ الرَّهْنِ لم يَبْقَ مَضْمُونًا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ الرَّهْنَ غَاصِبٌ فَهَلَكَ في يَدِهِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الدَّيْنِ لِأَنَّ قَبْضَ الْغَصْبِ أَبْطَلَ قَبْضَ الرَّهْنِ وَإِنْ لم يُبْطِلْ عَقْدَ الرَّهْنِ حتى كان لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَنْقُضَ قَبْضَ الْغَاصِبِ فَيَرُدَّهُ إلَى الرَّهْنِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا اسْتَعَارَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ من الرَّاهِنِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ فَهَلَكَ أَنَّهُ أن هَلَكَ قبل أَنْ يَأْخُذَ في الِانْتِفَاعِ أو بَعْدَ ما فَرَغَ عنه يَهْلِكُ بِالدَّيْنِ وَإِنْ هَلَكَ في حَالِ الِانْتِفَاعِ يَهْلِكُ أَمَانَةً لِأَنَّ الْمَرْهُونَ قبل أَنْ يَأْخُذَ في الِانْتِفَاعِ على حُكْمِ قَبْضِ الرَّهْنِ لِانْعِدَامِ ما يَنْقُضُهُ وهو قَبْضُ الِانْتِفَاعِ وإذا أَخَذَ في الِانْتِفَاعِ فَقَدْ نَقَضَهُ لِوُجُودِ قَبْضِ الْإِعَارَةِ وَقَبْضُ الْإِعَارَةِ يُنَافِي قَبْضَ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ قَبْضُ أَمَانَةٍ وَقَبْضُ الرَّهْنِ قَبْضُ ضَمَانٍ فإذا جاء أَحَدُهُمَا انْتَفَى الْآخَرُ ثُمَّ إذَا فَرَغَ من الِانْتِفَاعِ فَقَدْ انْتَهَى قَبْضُ الْإِعَارَةِ فَعَادَ قَبْضُ الرَّهْنِ
وَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ في الِانْتِفَاعِ بِالْمَرْهُونِ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ وَلَوْ اسْتَعَارَهُ الرَّاهِنُ من الْمُرْتَهِنِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ فَقَبَضَهُ خَرَجَ عن ضَمَانِ الرَّهْنِ حتى لو هَلَكَ في يَدِهِ يَهْلِكُ أَمَانَةً وَالدَّيْنُ على حَالِهِ لِأَنَّ قَبْضَهُ قَبْضُ الْعَارِيَّةِ وأنه قَبْضُ أَمَانَةٍ فَيُنَافِي قَبْضَ الضَّمَانِ وَكَذَلِكَ لو أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ بِالِانْتِفَاعِ بِالرَّهْنِ وَكَذَلِكَ لو أَعَارَهُ الرَّاهِنُ من أَجْنَبِيٍّ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ أو أَعَارَهُ الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ من أَجْنَبِيٍّ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُسْتَعِيرِ فَالْمَرْهُونُ في هذه الْوُجُوهِ كُلِّهَا يَخْرُجُ عن ضَمَانِ الرَّهْنِ وَلَا يَخْرُجُ عن عَقْدِ الرَّهْنِ وَالْخُرُوجُ عن الضَّمَانِ لَا يُوجِبُ الْخُرُوجَ عن الْعَقْدِ كَزَوَائِدِ الرَّهْنِ
وَلَوْ كان الْمَرْهُونُ جَارِيَةً فَاسْتَعَارَهَا الرَّاهِنُ فَوَلَدَتْ في يَدِهِ وَلَدًا فَالْوَلَدُ رَهْنٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَرْهُونٌ لِقِيَامِ عَقْدِ الرَّهْنِ حتى لو هَلَكَتْ الْجَارِيَةُ قَبْل أَنْ يَقْبِضَ الْمُرْتَهِنُ الْوَلَدَ فَالدَّيْنُ قَائِمٌ وَالْوَلَدُ رَهْنٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّ الضَّمَانَ وَإِنْ فَاتَ فَالْعَقْدُ قَائِمٌ وَفَوَاتُ الضَّمَانِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعَقْدِ على ما مَرَّ وإذا بَقِيَ الْعَقْدُ في الْأُمِّ صَارَ الْوَلَدُ مَرْهُونًا تَبَعًا لِلْأُمِّ فَكَانَ له أَنْ يَحْبِسَهُ بِجَمِيعِ الْمَالِ
وَكَذَا لو وَلَدَتْ هذه الِابْنَةُ وَلَدًا فَإِنَّهُمَا رَهْنٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَإِنْ مَاتَا لم يَسْقُطْ شَيْءٌ من الدَّيْنِ لِأَنَّ الْوَلَدَ ليس بِمَضْمُونٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُمَّ لو كانت قَائِمَةً فَهَلَكَ الْوَلَدُ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الدَّيْنِ فَكَذَا إذَا كانت هَالِكَةً وَلَا يَفْتَكُّ الرَّاهِنُ وَاحِدًا مِنْهُمَا حتى يؤدى الْمَالَ كُلَّهُ لِأَنَّهُمَا دَخَلَا جميعا في الْعَقْدِ فَلَا يَمْلِكُ الرَّاهِنُ التَّفْرِيقَ
وَلَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ وَالرَّهْنُ قَائِمٌ في يَدِهِ قبل أَنْ يَرُدَّهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ فَالْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِهِ من سَائِرِ الْغُرَمَاءِ لِقِيَامِ عَقْدِ الرَّهْنِ وَإِنْ بَطَلَ الضَّمَانُ كما في وَلَدِ الرَّهْنِ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ فيه ضَمَانٌ
وَلَوْ أَعَارَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ من الْمُرْتَهِنِ أو أَذِنَ له بِالِانْتِفَاعِ بِهِ فَجَاءَ يَفْتَكُّ الرَّهْنَ وهو ثَوْبٌ وَبِهِ خَرْقٌ فَاخْتَلَفَا فقال الرَّاهِنُ حَدَثَ هذا في يَدِكَ قبل اللُّبْسِ أو بَعْدَ ما لَبِسْته وَرَدَدْته إلَى الرَّهْنِ وقال الْمُرْتَهِنُ لَا بَلْ حَدَثَ هذا في حَالِ اللُّبْسِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اتَّفَقَا على اللُّبْسِ فَقَدْ اتَّفَقَا على خورجه ( ( ( خروجه ) ) ) من الضَّمَانِ فَالرَّاهِنُ يَدَّعِي عَوْدَهُ إلَى الضَّمَانِ وَالْمُرْتَهِنُ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
هذا إذَا اتَّفَقَا على اللُّبْسِ وَاخْتَلَفَا في وَقْتِهِ فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا في أَصْلِ اللُّبْسِ فقال الرَّاهِنُ لم أَلْبَسْهُ وَلَكِنَّهُ تَخَرَّقَ وقال الْمُرْتَهِنُ لَبِسْتَهُ فَتَخَرَّقَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا على دُخُولِهِ في الضَّمَانِ فَالْمُرْتَهِنُ بِدَعْوَاهُ اللُّبْسَ يَدَّعِي الْخُرُوجَ من الضَّمَانِ وَالرَّاهِنُ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَإِنْ أَقَامَ الرَّاهِنُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَخَرَّقَ في ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ وَأَقَامَ الْمُرْتَهِنُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَخَرَّقَ بَعْدَ خُرُوجِهِ من الضَّمَانِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ مُثْبِتَةٌ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الِاسْتِيفَاءَ وَبَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ تَنْفِي الِاسْتِيفَاءَ فَالْمُثْبِتَةُ أَوْلَى
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ مَقْصُودًا فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ من الرَّهْنِ أو ما هو في حُكْمِ الْمُتَوَلِّدِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ وَالْعُقْرِ وَنَحْوِهَا مَضْمُونًا إلَّا الإرش خَاصَّةً حتى
____________________

(6/156)


لو هَلَكَ شَيْءٌ من ذلك لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الدَّيْنِ إلَّا الارش فإنه إذَا هَلَكَ تَسْقُطُ حِصَّتُهُ من الدَّيْنِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَلَدَ ليس بِمَرْهُونٍ مَقْصُودًا بَلْ تَبَعًا لِلْأَصْلِ كَوَلَدِ الْمَبِيعِ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مَبِيعٌ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا وَالْمَرْهُونُ تَبَعًا لَا حِصَّةَ له من الضَّمَانِ إلَّا إذَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْفِكَاكِ كما أَنَّ الْمَبِيعَ تَبَعًا لَا حِصَّةَ له من الثَّمَنِ إلَّا إذَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْقَبْضِ بِخِلَافِ الْأَرْشِ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَرْهُونِ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الرَّهْنِ مَرْهُونٌ وَبَدَلُ الشَّيْءِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هو فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأَصْلِ وَالْأَصْلُ مَضْمُونٌ فَكَذَا بَدَلُهُ بِخِلَافِ الْوَلَدِ وَنَحْوِهِ وَبِخِلَافِ الزِّيَادَةِ على الرَّهْنِ أنها مَضْمُونَةٌ لِأَنَّهَا مَرْهُونَةٌ مَقْصُودًا لَا تَبَعًا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ إذَا صَحَّتْ الْتَحَقَتْ بِأَصْلِ الْعَقْدِ كان الْعَقْدَ وَرَدَ على الزِّيَادَةِ وَالْمَزِيدِ عليه على ما نَذْكُرُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ هَلَكَ الْأَصْلُ وَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ يُقْسَمُ الدَّيْنُ على الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ على قَدْرِ قِيمَتِهِمَا وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْأَصْلِ وَقْتَ الْقَبْضِ وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ وَقْتَ الْعَقْدِ وهو اخْتِلَافُ عِبَارَةٍ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ لَا يَصِيرُ عَقْدًا شَرْعًا إلَّا عِنْدَ الْقَبْضِ وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الزِّيَادَةِ وَقْتَ الْفِكَاكِ لِأَنَّ الْأَصْلَ إنَّمَا صَارَ مَضْمُونًا بِالْقَبْضِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ يَوْمِ الْقَبْضِ وَالزِّيَادَةُ إنَّمَا يَصِيرُ لها حِصَّةٌ من الضَّمَانِ بِالْفِكَاكِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا حِينَئِذٍ إلَّا أَنَّ هذه الْقِسْمَةَ لِلْحَالِ لَيْسَتْ قِسْمَةً حَقِيقِيَّةً بَلْ من حَيْثُ الظَّاهِرُ حتى تَتَغَيَّرَ بِتَغَيُّرِ قِيمَةِ الزيادة إلى الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ من حَيْثُ السِّعْرُ والبدل ( ( ( والبدن ) ) ) وَالْقِسْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَقْتَ الْفِكَاكِ وَلَا تَتَغَيَّرُ الْقِسْمَةُ بِتَغَيُّرِ قِيمَةِ الْأَصْلِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ في السِّعْرِ أو في البدل ( ( ( البدن ) ) ) لِأَنَّ الْأَصْلَ دخل في الضَّمَانِ بِالْقَبْضِ وَالْقَبْضُ لم يَتَغَيَّرْ فَلَا يَتَغَيَّرُ الضَّمَانُ وَالْوَلَدُ إنَّمَا يَأْخُذُ قِسْطًا من الضَّمَانِ بِالْفِكَاكِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم الْفِكَاكِ
وَشَرْحُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا رَهَنَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفٌ بِأَلْفٍ فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا فإن الدَّيْنَ يُقْسَمُ على قِيمَةِ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ نِصْفَيْنِ فَيَكُونُ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ حتى لو هَلَكَتْ الْأُمُّ سَقَطَ نِصْفُ الدَّيْنِ وَبَقِيَ الْوَلَدُ رَهْنًا بِالنِّصْفِ الْبَاقِي يَفْتَكُّهُ الرَّاهِنُ بِهِ إنْ بَقِيَ إلَى وَقْتِ الِافْتِكَاكِ وَإِنْ هَلَكَ قبل ذلك هَلَكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَجُعِلَ كَأَنْ لم يَكُنْ وَعَادَتْ حِصَّتُهُ من الدَّيْنِ إلَى الْأُمِّ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأُمَّ هَلَكَتْ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَإِنْ لم يَهْلِكْ لَكِنْ تَغَيَّرَتْ قِيمَتُهُ إلَى الزِّيَادَةِ فَصَارَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ بَطَلَتْ قِسْمَةُ الانصاف وَصَارَتْ الْقِسْمَةُ أَثْلَاثًا ثُلُثَا الدَّيْنِ في الْوَلَدِ وَالثُّلُثُ في الْأُمِّ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأُمَّ هَلَكَتْ بِثُلُثِ الدَّيْنِ وَبَقِيَ الْوَلَدُ رَهْنًا بِالثُّلُثَيْنِ فَإِنْ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ وَصَارَ يُسَاوِي ثَلَاثَةَ آلَافٍ بَطَلَتْ قِسْمَةُ الْأَثْلَاثِ وَصَارَتْ الْقِسْمَةُ أَرْبَاعًا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدَّيْنِ في الْوَلَدِ وَرُبُعٌ في الْأُمِّ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأُمَّ هَلَكَتْ بِرُبُعِ الدَّيْنِ وَبَقِيَ الْوَلَدُ رَهْنًا بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ وَلَوْ تَغَيَّرَتْ قِيمَتُهُ إلَى النُّقْصَانِ فَصَارَ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ بَطَلَتْ قِسْمَةُ الْأَرْبَاعِ وَصَارَتْ الْقِسْمَةُ أَثْلَاثًا ثُلُثَا الدَّيْنِ في الْأُمِّ وَالثُّلُثُ في الْوَلَدِ
وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأُمَّ هَلَكَتْ بِثُلُثَيْ الدَّيْنِ وَبَقِيَ الْوَلَدُ رَهْنًا بِالثُّلُثِ هَكَذَا على هذا الِاعْتِبَارِ وَسَوَاءٌ كان الْوَلَدُ وَاحِدًا أو أَكْثَرَ وُلِدُوا مَعًا أو مُتَفَرِّقًا يُقْسَمُ الدَّيْنُ على الْأُمِّ وَعَلَى الْأَوْلَادِ على قَدْرِ قِيمَتِهِمْ لَكِنْ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْأُمِّ يوم الْعَقْدِ وَقِيمَةُ الْأَوْلَادِ يوم الْفِكَاكِ لِمَا ذَكَرْنَا وَوَلَدُ الْوَلَدِ في الْقِسْمَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْوَلَدِ حتى لو وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ بِنْتًا وَوَلَدَتْ بِنْتُهَا وَلَدًا فَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدَيْنِ حتى يُقْسَمَ الدَّيْنُ على الْجَارِيَةِ وَعَلَيْهِمَا على قَدْرِ قِيمَتِهِمْ وَلَا يُقْسَمُ على الْجَارِيَةِ وَعَلَى الْوَلَدِ الْأَصْلِيِّ ثُمَّ يُقْسَمُ بَاقِيهِ عليه وَعَلَى وَلَدِهِ لِأَنَّ وَلَدَ الرَّهْنِ ليس بِمَضْمُونٍ حتى يَتْبَعَهُ وَلَدُهُ فَكَأَنَّهُمَا في الْحُكْمِ وَلَدَانِ
وَلَوْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ وَلَدًا ثُمَّ نَقَصَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ في السِّعْرِ أو في الْبَدَنِ فَصَارَتْ تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ أو زَادَتْ قِيمَتُهَا فَصَارَتْ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ وَالْوَلَدُ على حَالِهِ يُسَاوِي أَلْفًا فَالدَّيْنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لَا يَتَغَيَّرُ عَمَّا كان وَإِنْ كانت الْأُمُّ على حَالِهَا وَانْتَقَصَتْ قِيمَةُ الْوَلَدِ بِعَيْبٍ دَخَلَهُ أو لِسِعْرٍ فَصَارَ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ صَارَ الدَّيْنُ فِيهِمَا أَثْلَاثًا الثُّلُثَانِ في الْأُمِّ وَالثُّلُثُ في الْوَلَدِ
وَلَوْ زَادَتْ قِيمَةُ الْوَلَدِ فَصَارَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَثُلُثَا الدَّيْنِ في الْوَلَدِ وَالثُّلُثُ في الْأُمِّ حتى لو هَلَكَتْ الْأُمُّ يَبْقَى الْوَلَدُ رَهْنًا بِالثُّلُثَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ إنَّمَا دخل تَحْتَ الضَّمَانِ بِالْقَبْضِ وَالْقَبْضُ لم يَتَغَيَّرْ فَلَا تَتَغَيَّرُ الْقِسْمَةُ وَالْوَلَدُ إنَّمَا يَصِيرُ له حِصَّةٌ من الضَّمَانِ بِالْفِكَاكِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم الْفِكَاكِ
وَلَوْ أعورت الْأُمُّ بَعْدَ الْوِلَادَةِ أو كانت أعورت قَبْلَهَا ذَهَبَ من الدَّيْنِ بِعَوَرِهَا رُبُعُهُ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ وَبَقِيَ الْوَلَدُ رَهْنًا بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدَّيْنِ وَذَلِكَ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ
وَهَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا وَلَدَتْ ثُمَّ أعورت ظَاهِرٌ لِأَنَّ الدَّيْنَ قبل الإعورار كان فِيهِمَا نِصْفَيْنِ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ فإذا اعْوَرَّتْ وَالْعَيْنُ من
____________________

(6/157)


الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ فَذَهَبَ قَدْرُ ما فيها من الدَّيْنِ وهو نِصْفُ نِصْفِ الدَّيْنِ وهو رُبُعُ الْكُلِّ وَبَقِيَ الْوَلَدُ رَهْنًا بِبَقِيَّةِ الدَّيْنِ وهو ثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ
فَأَمَّا إذَا اعْوَرَّتْ ثُمَّ وَلَدَتْ فَفِيهِ إشْكَالٌ من حَيْثُ الظَّاهِرُ وهو أَنَّ قبل الإعورار كان كَأَنَّ كُلَّ الدَّيْنِ فيها وبالإعورار ذَهَبَ النِّصْفُ وَبَقِيَ النِّصْفُ فإذا وَلَدَتْ وَلَدًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْسَمَ النِّصْفُ الْبَاقِي من الدَّيْنِ على الْجَارِيَةِ الْعَوْرَاءِ وَعَلَى وَلَدِهَا أَثْلَاثًا الثُّلُثَانِ على الْوَلَدِ وَالثُّلُثُ على الْأُمِّ
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَهَابَ نِصْفِ الدَّيْنِ بالإعورار لم يَكُنْ حَتْمًا بَلْ على التَّوَقُّفِ على تَقْدِيرِ عَدَمِ الْوِلَادَةِ فإذا وَلَدَتْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَكُنْ ذَهَبَ بالإعورار إلَّا رُبُعُ الدَّيْنِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تُجْعَلُ كَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ لَدَى الْعَقْدِ فَصَارَ كَأَنَّهَا وَلَدَتْ ثُمَّ اعْوَرَّتْ وَلَوْ هَلَكَ الْوَلَدُ وقد اعْوَرَّتْ الْأُمُّ قبل الْوِلَادَةِ أو بَعْدَهَا ذَهَبَ نِصْفُ الدَّيْنِ بالإعورار لِأَنَّ الْوَلَدَ لَمَّا هَلَكَ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَجُعِلَ كَأَنْ لم يَكُنْ وَعَادَتْ حِصَّتُهُ إلَى الْأُمِّ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأُمَّ كانت رَهْنًا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ فإذا اعْوَرَّتْ ذَهَبَ بِالِاعْوِرَارِ نِصْفُهُ وَبَقِيَ النِّصْفُ الْآخَرُ
وَلَوْ لم يَهْلِكْ وَلَكِنَّهُ اعْوَرَّ لم ( ( ( ولم ) ) ) يَسْقُطْ بِاعْوِرَارِهِ شَيْءٌ من الدَّيْنِ لِأَنَّهُ لو هَلَكَ لَا يَسْقُطُ فإذا اعْوَرَّ أَوْلَى لَكِنَّ تِلْكَ الْقِسْمَةَ التي كانت من حَيْثُ الظَّاهِرُ تَتَغَيَّرُ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ بِتَغَيُّرِ قِيمَةِ الْوَلَدِ إلَى الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَعَلَى هذا تَخْرُجُ الزِّيَادَةُ في الرَّهْنِ إنها مَضْمُونَةٌ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ بِأَنْ رَهَنَ جَارِيَةً ثُمَّ زَادَ عَبْدًا لِأَنَّ هذه زِيَادَةٌ مَقْصُودَةٌ لِوُرُودِ فِعْلِ الرَّهْنِ عليها مَقْصُودًا فَكَانَتْ مَرْهُونَةً أَصْلًا لَا تَبَعًا فَكَانَتْ مَضْمُونَةً وَيُقْسَمُ الدَّيْنُ على الْمَزِيدِ عليه وَالزِّيَادَةِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في كَيْفِيَّةِ الِانْقِسَامِ أَنَّ الرَّاهِنَ لَا يَخْلُو إمَّا إن زَادَ في الرَّهْنِ وَلَيْسَ في الرَّهْنِ نَمَاءٌ
وَإِمَّا إن كان فيه نَمَاءٌ فَإِنْ لم يَكُنْ فيه نَمَاءٌ يُقْسَمُ الدَّيْنُ على الْمَزِيدِ عليه وَالزِّيَادَةِ على قَدْرِ قِيمَتِهَا حتى لو كانت قِيمَةُ الْجَارِيَةِ أَلْفًا وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفٌ وَالدَّيْنُ أَلْفٌ كان الدَّيْنُ فِيهِمَا نِصْفَيْنِ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ
وَلَوْ كانت قِيمَةُ الْعَبْدِ الزِّيَادَةِ خَمْسَمِائَةٍ كان الدَّيْنُ فِيهِمَا أَثْلَاثًا الثُّلُثَانِ في الْعَبْدِ وَالثُّلُثُ في الْجَارِيَةِ وَأَيُّهُمَا هَلَكَ يَهْلِكُ بِحِصَّتِهِ من الدَّيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرْهُونٌ مَقْصُودًا لَا تَبَعًا إلَّا أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمَزِيدِ عليه يوم الْعَقْدِ وهو يَوْمُ قَبْضِهِ وَقِيمَةُ الزِّيَادَةِ يوم الزِّيَادَةِ وهو يَوْمُ قَبْضِهَا وَلَا يُعْتَبَرُ تَغَيُّرُ قِيمَتِهَا بَعْدَ ذلك لِأَنَّ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا دخل في الضَّمَانِ بِالْقَبْضِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم الْقَبْضِ وَالْقَبْضُ لم يَتَغَيَّرْ بِتَغَيُّرِ الْقِيمَةِ فَلَا تَتَغَيَّرُ الْقِسْمَةُ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الرَّهْنِ وَهِيَ نَمَاؤُهُ إن الْقِسْمَةَ تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ قِيمَتِهَا لِأَنَّهَا مَرْهُونَةٌ تَبَعًا لَا أَصْلًا وَالْمَرْهُونُ تَبَعًا لَا يَأْخُذُ حِصَّةً من الضَّمَانِ إلَّا بِالْفِكَاكِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يوم الْفِكَاكِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ قَبْلَهُ مُحْتَمِلَةً لِلتَّغَيُّرِ
وَلَوْ نَقَصَ الرَّهْنُ الْأَصْلِيُّ في يَدِهِ حتى ذَهَبَ قَدْرُهُ من الدَّيْنِ ثُمَّ زَادَهُ الرَّاهِنُ بَعْدَ ذلك رَهْنًا آخَرَ يُقْسَمُ ما بَقِيَ من الدَّيْنِ على قِيمَةِ الْبَاقِي وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ يوم قُبِضَتْ نَحْوُ ما إذَا رَهَنَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفٌ بِأَلْفٍ فَاعْوَرَّتْ حتى ذَهَبَ نِصْفُ الدَّيْنِ وَبَقِيَ النِّصْفُ ثُمَّ زَادَ الرَّاهِنُ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفٌ يُقْسَمُ النِّصْفُ الْبَاقِي على قِيمَةِ الْجَارِيَةِ عَوْرَاءَ وَعَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ الزِّيَادَةِ أَثْلَاثًا فَيَكُونُ ثُلُثَا هذا النِّصْفِ وَذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ في الْعَبْدِ الزِّيَادَةِ وَالثُّلُثُ وَذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ في الْجَارِيَةِ
فُرِّقَ بين الزِّيَادَةِ في الرَّهْنِ وَزِيَادَةِ الرَّهْنِ وَهِيَ نَمَاؤُهُ بِأَنْ اعْوَرَّتْ الْجَارِيَةُ ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا قِيمَتُهُ أَلْفٌ أَنَّ الدَّيْنَ يُقْسَمُ على قِيمَةِ الْجَارِيَةِ يوم الْقَبْضِ صَحِيحَةً وَعَلَى قِيمَةِ الْوَلَدِ يوم الْفِكَاكِ نِصْفَيْنِ فَيَكُونُ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ ثُمَّ ما أَصَابَ الْأُمَّ وهو النِّصْفُ ذَهَبَ بالإعورار نِصْفُهُ وهو مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ وَبَقِيَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدَّيْنِ وَذَلِكَ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ في الْأُمِّ وَالْوَلَدِ ثُلُثَا ذلك خَمْسُمِائَةٍ في الْوَلَدِ وَثُلُثُ ذلك مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ في الْأُمِّ وفي الزِّيَادَةِ على الرَّهْنِ يَبْقَى الْأَصْلُ وَالزِّيَادَةُ بِنِصْفِ الدَّيْنِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بين الزِّيَادَتَيْنِ أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ في هذه الزِّيَادَةِ وَهِيَ الزِّيَادَةُ على الرَّهْنِ ثَبَتَ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِكَوْنِهَا زِيَادَةً مَقْصُودَةً لِوُرُودِ فِعْلِ الْعَقْدِ عليها مَقْصُودًا فَيُعْتَبَرُ في الْقِسْمَةِ ما بَقِيَ من الدَّيْنِ وَقْتَ الزِّيَادَةِ ولم يَبْقَ وَقْتَ الزِّيَادَةِ إلَّا النِّصْفُ فَيُقْسَمُ ذلك النِّصْفُ عَلَيْهِمَا على قَدْرِ قِيمَتِهِمَا بِخِلَافِ زِيَادَةِ الرَّهْنِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَرْهُونَةٍ مَقْصُودًا لِانْعِدَامِ وُجُودِ الرَّهْنِ فيها مَقْصُودًا بَلْ تَبَعًا لِلْأَصْلِ لِكَوْنِهَا مُتَوَلِّدَةً منه فَيَثْبُتُ حُكْمُ الرَّهْنِ فيها تَبَعًا لِلْأَصْلِ كَأَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِهِ فَتَصِيرُ كَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ عِنْدَ الْعَقْدِ فَكَانَ الثَّابِتُ في الْوَلَدِ غير ما كان ثَابِتًا في الْأُمِّ فَيُعْتَبَرُ في الْقِسْمَةِ قِيمَةُ الْأُمِّ يوم الْقَبْضِ
وَكَذَلِكَ لو قَضَى الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ من الدَّيْنِ خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ زَادَهُ في الرَّهْنِ
____________________

(6/158)


عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفٌ أَنَّ هذه الزِّيَادَةَ تَلْحَقُ الْخَمْسَمِائَةِ الْبَاقِيَةَ فَيُقْسَمُ على نِصْفِهِ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَهِيَ خَمْسُمِائَةٍ وَعَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ الزِّيَادَةِ وَبَقِيَ أَلْفٌ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهَا في الْعَبْدِ وَثُلُثُهَا في الْجَارِيَةِ حتى لو هَلَكَ الْعَبْدُ هَلَكَ بِثُلْثَيْ الْخَمْسِمِائَةِ وَذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ وَلَوْ هَلَكَتْ الْجَارِيَةُ هَلَكَتْ بِالثُّلُثِ وَذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ زِيَادَةٌ على الْمَرْهُونِ وَالْمَرْهُونُ مَحْبُوسٌ بِالدَّيْنِ وَالْمَحْبُوسُ بِالدَّيْنِ هو نِصْفُ الْجَارِيَةِ لَا كُلُّهَا ولم يَبْقَ نِصْفُ الدَّيْنِ لِصَيْرُورَتِهِ مَقْضِيًّا فَالزِّيَادَةُ تَدْخُلُ في الْبَاقِي وَيَنْقَسِمُ الْبَاقِي على قِيمَةِ نِصْفِ الْجَارِيَةِ وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ أَثْلَاثًا
وَلَوْ قَضَى خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ أعورت الْجَارِيَةُ قبل أَنْ يَزِيدَ الرَّهْنَ ثُمَّ زَادَ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ قُسِمَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ على نصف نِصْفِ الْجَارِيَةِ الْعَوْرَاءِ وَعَلَى الزِّيَادَةِ على خَمْسَةِ أَسْهُمٍ أَرْبَعَةٌ من ذلك في الزِّيَادَةِ وَسَهْمٌ في الْجَارِيَةِ الْعَوْرَاءِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَضَى الرَّاهِنُ خَمْسَمِائَةٍ فَرَغَ نِصْفُ الْجَارِيَةِ شَائِعًا من الدَّيْنِ وَبَقِيَ النِّصْفُ الْبَاقِي في نِصْفِهَا شَائِعًا وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ فإذا اعْوَرَّتْ فَقَدْ ذَهَبَ نِصْفُ ذلك النِّصْفِ بِمَا فيه من الدَّيْنِ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ وَبَقِيَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ من الدَّيْنِ فِيمَا لم يَذْهَبْ من نِصْفِ الْجَارِيَةِ فَإِذًا هذه الزِّيَادَةُ تَلْحَقُ هذا الْقَدْرَ فَيُقْسَمُ هذا الْقَدْرُ في الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ أَخْمَاسًا أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ وَذَلِكَ مِائَتَانِ في الزِّيَادَةِ وخمسة وَذَلِكَ خَمْسُونَ في الْأَصْلِ
هذا إذَا زَادَ وَلَيْسَ في الرَّهْنِ نَمَاءٌ فَأَمَّا إذَا زَادَ وَفِيهِ نَمَاءٌ بِأَنْ رَهَنَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفٌ بِأَلْفٍ فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ زَادَهُ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفٌ فَالرَّاهِنُ لَا يَخْلُو إمَّا إن زَادَ وَالْأُمُّ قَائِمَةٌ وإما إن زَادَ بَعْدَ ما هَلَكَتْ الْأُمُّ فَإِنْ كانت قَائِمَةً فَزَادَ لَا يَخْلُو إمَّا إن جَعَلَهُ زِيَادَةً على الْوَلَدِ أو على الْأُمِّ أو عَلَيْهِمَا جميعا أو أَطْلَقَ الزِّيَادَةَ ولم يُسَمِّ الْمَزِيدَ عليه أَنَّهُ الْأُمُّ أو الْوَلَدُ فَإِنْ جَعَلَهُ زِيَادَةً على الْوَلَدِ فَهُوَ رَهْنٌ مع الْوَلَدِ خَاصَّةً وَلَا يَدْخُلُ في حِصَّةِ الْأُمِّ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُقُوعُ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ على الْوَجْهِ الذي أَوْقَعَهُ وقد جَعَلَهُ زِيَادَةً على الْوَلَدِ فَيَكُونُ زِيَادَةً معه فَيُقْسَمُ الدَّيْنُ أَوَّلًا على الْأُمِّ وَالْوَلَدِ على قَدْرِ قِيمَتِهِمَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْأُمِّ يوم الْعَقْدِ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ يوم الْفِكَاكِ ثُمَّ ما أَصَابَ الْوَلَدُ يُقْسَمُ عليه وَعَلَى الْعَبْدِ الزِّيَادَةِ على قَدْرِ قِيمَتِهِمَا وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْوَلَدِ يوم الْفِكَاكِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَقِيمَةُ الزِّيَادَةِ وَقْتَ الزِّيَادَةِ وَهِيَ وَقْتُ قَبْضِهَا لِأَنَّهَا إنَّمَا جُعِلَتْ في الضَّمَانِ بِالْقَبْضِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يوم الْقَبْضِ
وَلَوْ هَلَكَ الْوَلَدُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ لِأَنَّهُ إذَا هَلَكَ جُعِلَ كَأَنْ لم يَكُنْ أَصْلًا وَرَأْسًا فلم تَتَحَقَّقْ الزِّيَادَةُ عليه لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا بُدَّ لها من مَزِيدٍ عليه فَتَبَيَّنَ أَنَّ الزِّيَادَةَ لم تَقَعْ رَهْنًا
وَإِنْ جَعَلَهُ زِيَادَةً على الْأُمِّ فَهُوَ على ما جَعَلَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ على الْوَجْهِ الذي بَاشَرَهُ وَلِأَنَّهُ لو أَطْلَقَ الزِّيَادَةَ لَوَقَعَتْ على الْأُمِّ فَعِنْدَ التَّقْيِيدِ وَالتَّنْصِيصِ أَوْلَى
وإذا وَقَعَتْ زِيَادَةٌ على الْأُمِّ جُعِلَ كَأَنَّهَا كانت مَوْجُودَةً وَقْتَ الْعَقْدِ فَيُقْسَمُ الدَّيْنُ عَلَيْهِمَا على قَدْرِ قِيمَتِهِمَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْأَصْلِ يوم الْعَقْدِ وَقِيمَةُ الزِّيَادَةِ يوم الْقَبْضِ ثُمَّ ما أَصَابَ الْأُمَّ يُقْسَمُ عليها وَعَلَى وَلَدِهَا على اعْتِبَارِ قِيمَةِ الْأُمِّ يوم الْعَقْدِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ يوم الْفِكَاكِ
وَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ أو زَادَتْ قِيمَتُهُ أو وَلَدَتْ وَلَدًا فَالْحُكْمُ في حَقِّ الْعَبْدِ للزيادة ( ( ( الزيادة ) ) ) لَا تَتَغَيَّرُ وَيُقْسَمُ الدَّيْنُ أَوَّلًا على الْجَارِيَةِ وَالْعَبْدِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ ما أَصَابَ الْأُمَّ يُقْسَمُ عليها وَعَلَى وَلَدِهَا فَتُعْتَبَرُ زِيَادَةُ الْوَلَدِ في حَقِّ الْأُمِّ وَلَا تُعْتَبَرُ في حَقِّ الْعَبْدِ سَوَاءٌ زَادَ بَعْدَ حُدُوثِ الْوَلَدِ أو قَبْلَهُ لِأَنَّ الْوَلَدَ في حَقِّ الزِّيَادَةِ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ
وَلَوْ هَلَكَتْ الْأُمُّ بَعْدَ الزِّيَادَةِ ذَهَبَ ما كان فيها من الدَّيْنِ وَبَقِيَ الْوَلَدُ وَالزِّيَادَةُ بِمَا فِيهِمَا بِخِلَافِ ما إذَا هَلَكَ الْوَلَدُ أنه ( ( ( أنها ) ) ) تَبْطُلُ الزِّيَادَةُ لِأَنَّ بِهَلَاكِ الْأُمِّ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعَقْدَ لم يَكُنْ بَلْ يَتَنَاهَى وَيَتَقَرَّرُ حُكْمُهُ فَهَلَاكُهُ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الزِّيَادَةِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ إذَا هَلَكَ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ من الْأَصْلِ وَجُعِلَ كَأَنْ لم يَكُنْ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الزِّيَادَةَ لم تَصِحَّ رَهْنًا
وَلَوْ هَلَكَ الْوَلَدُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ ذَهَبَ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّ الْوَلَدَ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْهَلَاكِ فإذا هَلَكَ جُعِلَ كَأَنْ لم يَكُنْ وَجُعِلَ كَأَنَّ الزِّيَادَةَ حَدَثَتْ وَلَا بُدَّ لِلْجَارِيَةِ كَذَلِكَ وَإِنْ جَعَلَهُ زِيَادَةً على الْأُمِّ وَالْوَلَدِ جميعا فَالْعَبْدُ زِيَادَةٌ على الْأُمِّ خَاصَّةً وَلَا عِبْرَةَ لِلْوَلَدِ في حَقِّ الزِّيَادَةِ وَلَا يَدْخُلُ في حِصَّتِهَا وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ في حَقِّ الْأُمِّ وَيَدْخُلُ في حِصَّةِ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ في حَقِّ الزِّيَادَةِ حَالَ وُجُودِ الْأُمِّ كَالْعَدَمِ فَلَا تَصْلُحُ الزِّيَادَةُ عليه في حَالِ قِيَامِ الْأُمِّ فَيُقْسَمُ الدَّيْنُ على الْأَصْلِ وَالْعَبْدِ الزِّيَادَةِ بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهِمَا قِيمَةِ الْأَصْلِ يوم الْعَقْدِ وَقِيمَةِ الزِّيَادَةِ يوم الزِّيَادَةِ ثُمَّ يُقْسَمُ ما أَصَابَ الْأُمَّ قِسْمَةً أُخْرَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا على اعْتِبَارِ قيمتها ( ( ( قيمتهما ) ) ) يوم الْعَقْدِ وَيَوْمَ الْفِكَاكِ كَذَلِكَ وَإِنْ أَطْلَقَ الزِّيَادَةَ ولم يُسَمِّ الْأُمَّ
____________________

(6/159)


وَلَا الْوَلَدَ فَالزِّيَادَةُ رَهْنٌ مع الْأُمِّ خَاصَّةً لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا بُدَّ لها من مَزِيدٍ عليه وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الِانْفِرَادِ يَصْلُحُ مَزِيدًا عليه إلَّا أَنَّ الْأُمَّ أَصْلٌ في الرَّهْنِ وَالْوَلَدَ تَابِعٌ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ جَعْلُهَا زِيَادَةً على الْأَصْلِ أَوْلَى وإذا صَارَتْ الزِّيَادَةُ رَهْنًا مع الأم ( ( ( الاسم ) ) ) يُقْسَمُ الدَّيْنُ قِسْمَيْنِ على نَحْوِ ما بَيَّنَّا
هذا إذَا كانت الْأُمُّ قَائِمَةً وَقْتَ الزِّيَادَةِ فَأَمَّا إذَا هَلَكَتْ الْأُمُّ ثُمَّ زَادُوا الْعَبْدَ زِيَادَةً على الْوَلَدِ فَكَانَا جميعا رَهْنًا بِخَمْسِمِائَةٍ يَفْتَكُّ الرَّهْنَ كُلُّ وَاحِد مِنْهُمَا بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَسْتَدْعِي مَزِيدًا عليه وَالْهَالِكُ خَرَجَ عن احْتِمَالِ ذلك فَتَعَيَّنَ الْوَلَدُ مَزِيدًا عليه وقد ذَهَبَ نِصْفُ الدَّيْنِ بِهَلَاكِ الْأُمِّ وَبَقِيَ النِّصْفُ وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ فَيَنْقَسِمُ ذلك على الزِّيَادَةِ وَالْوَلَدِ على قَدْرِ قِيمَتِهِمَا
وَلَوْ هَلَكَ الْوَلَدُ أَخَذَ الرَّاهِنُ الْعَبْدَ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّهُ لَمَّا هَلَكَ فَقَدْ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ وَعَادَتْ حِصَّتُهُ إلَى الْأُمِّ فَتَبَيَّنَ أنها هَلَكَتْ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الزِّيَادَةَ حَصَلَتْ بَعْدَ سُقُوطِ الدَّيْنِ فلم تَصِحَّ
وَلَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ الزِّيَادَةُ بَعْدَ هَلَاكِ الْوَلَدِ في يَدَ الْمُرْتَهِنِ هَلَكَ أَمَانَةً إلَّا إذَا مَنَعَهُ بَعْدَ الطَّلَبِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَكُنْ رَهْنًا في الْحَقِيقَةِ لِمَا بَيَّنَّا فَصَارَ كما إذَا رَهَنَ بِدَيْنٍ ثُمَّ تَصَادَقَا على أَنَّهُ لَا دَيْنَ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ أَنَّهُ يَهْلِكُ أَمَانَةً لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا إلَّا إذَا مَنَعَ بَعْدَ الطَّلَبِ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا بِالْمَنْعِ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْغَصْبِ
وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ وَقَدْرِهِ فَالرَّهْنُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ من جِنْسِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ أو من خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ فَإِنْ كان من خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ شيئا وَاحِدًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَشْيَاءَ فَإِنْ كان شيئا وَاحِدًا يَهْلِكُ مَضْمُونًا بِالْأَقَلِّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ
وَتَفْسِيرُهُ إذَا رَهَنَ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفٌ بِأَلْفٍ فَهَلَكَ ذَهَبَ الدَّيْنُ كُلُّهُ وَإِنْ كانت قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَيْنِ فَهَلَكَ ذَهَبَ كُلُّ الدَّيْنِ أَيْضًا وَفَضْلُ الرَّهْنِ يَهْلِكُ أَمَانَةً وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ خَمْسَمِائَةٍ ذَهَبَ من الدَّيْنِ خَمْسُمِائَةٍ وَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ على الرَّاهِنِ بِفَضْلِ الدَّيْنِ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَجَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وهو رَوَاهُ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَمِنْهُمْ من قال إنَّهُ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ بَالِغَةً ما بَلَغَتْ أَيْ على الْمُرْتَهِنِ فَضْلُ قِيمَةِ الرَّهْنِ وَهَكَذَا رُوِيَ عن ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما
وَمِنْهُمْ من قال إنَّهُ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ بَالِغًا ما بَلَغَ أَيْ يَذْهَبُ كُلُّ الدَّيْنِ قَلَّتْ قِيمَةُ الدَّيْنِ أو كَثُرَتْ وهو مَذْهَبُ شُرَيْحٍ
وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي الله عنه رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ قال يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ يَعْنِي إنْ كانت قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ على الْمُرْتَهِنِ بِفَضْلِ الْقِيمَةِ
وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَقَلَّ فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ على الرَّاهِنِ بِفَضْلِ الدَّيْنِ وَاخْتِلَافُهُمْ على هذا الْوَجْهِ حُجَّةٌ على الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في قَوْلِهِ إنَّ الْمَرْهُونَ أَمَانَةٌ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ في كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ وَقَدْرِهِ اتِّفَاقٌ منهم على كَوْنِهِ مَضْمُونًا فَإِنْكَارُ الضَّمَانِ أَصْلًا يَرْجِعُ إلَى مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ فَكَانَ بَاطِلًا ثُمَّ الرُّجْحَانُ في كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ لِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مَضْمُونٌ عِنْدَنَا بِطَرِيقِ الِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءِ وَيَتَقَرَّرُ الِاسْتِيفَاءُ عِنْدَ الْهَلَاكِ فَيَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ فيه بِقَدْرِ الِاسْتِيفَاءِ
فَإِنْ كانت قِيمَةُ الرَّهْنِ مِثْلَ الدَّيْنِ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ الِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ مِثْلُهُ صُورَةً وَمَعْنًى أو مَعْنًى لَا صُورَةً وإذا كانت قِيمَتُهُ أَكْثَرَ لَا يَتَحَقَّقُ الِاسْتِيفَاءُ إلَّا في قَدْرِ الدَّيْنِ وَلَا يَتَحَقَّقُ في الزِّيَادَةِ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْأَقَلِّ من الْأَكْثَرِ يَكُونُ رِبًا
وإذا كانت قِيمَتُهُ أَقَلَّ لَا يُمْكِنُهُ تَحْقِيقُ الِاسْتِيفَاءِ إلَّا بِقَدْرِ الدَّيْنِ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْأَكْثَرِ من الْأَقَلِّ لَا يُتَصَوَّرُ
هذا إذَا كان الْمَرْهُونُ شيئا وَاحِدًا فَأَمَّا إذَا كان أَشْيَاءَ بِأَنْ رَهَنَ عَبْدَيْنِ أو ثَوْبَيْنِ أو دَابَّتَيْنِ أو نحو ذلك فَلَا يَخْلُو إمَّا إن أَطْلَقَ الرَّهْنَ ولم يُسَمِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شيئا من الدَّيْنِ وَإِمَّا إن قَيَّدَ وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرًا مَعْلُومًا من الدَّيْنِ فَإِنْ أَطْلَقَ يُقْسَمُ الدَّيْنُ عَلَيْهِمَا على قَدْرِ قِيمَتِهِمَا وكان كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونًا بِالْأَقَلِّ من قِيمَةِ نَفَسِهِ وَمِنْ حِصَّتِهِ من الدَّيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرْهُونٌ وَالْمَرْهُونُ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ فَلَا بُدَّ من قِسْمَةِ الدَّيْنِ على قِيمَتِهِمَا لِيُعْرَفَ قَدْرُ ما في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من الضَّمَانِ كما يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا في بَابِ الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهِمَا لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ كما أَنَّ الْبَيْعَ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ
وَإِنْ قَيَّدَ كان كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونًا بِالْأَقَلِّ من قيتمه ( ( ( قيمته ) ) ) وَمِمَّا سمى له لِأَنَّهُ لَمَّا سمي وَجَبَ اعْتِبَارُ التَّسْمِيَةِ فَيُنْظَرُ إلَى الْقَدْرِ الْمُسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَيُّهُمَا هَلَكَ يَهْلِكُ بِالْأَقَلِّ من قميته ( ( ( قيمته ) ) ) وَمِنْ الْقَدْرِ الْمُسَمَّى كما في بَابِ الْبَيْعِ إذَا سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ من الْمَبِيعَيْنِ ثَمَنًا أَنَّهُ يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى كَذَا هذا هذا إذَا كان الْمَرْهُونُ من خِلَافِ جِنْسِ الدَّيْنِ وَهَلَكَ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَأَمَّا إذَا كان من
____________________

(6/160)


جِنْسِهِ بِأَنْ رَهَنَ مَوْزُونًا بِجِنْسِهِ أو مَكِيلًا بِجِنْسِهِ وَهَلَكَ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه قال أبو حَنِيفَةَ يَهْلِكُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ دُونَ الْقِيمَةِ حتى لو كان وَزْنُ الرَّهْنِ بِمِثْلِ وَزْنِ الدَّيْنِ وَقِيمَتُهُ أَقَلَّ منه فَهَلَكَ يَذْهَبُ كُلُّ الدَّيْنِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَضْمَنُ الْقِيمَةَ من خِلَافِ الْجِنْسِ على ما نَذْكُرُ
فَمِنْ أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْوَزْنُ دُونَ الْقِيمَةِ في الْهَالِكِ وَمِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْوَزْنَ فِيمَا لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُرْتَهِنُ فَأَمَّا فِيمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ فَيَضْمَنَانِ الْقِيمَةَ من خِلَافِ الْجِنْسِ
وَأَمَّا في الِانْكِسَارِ فَأَبُو حَنِيفَةَ يُضَمِّنُ الْقِيمَةَ وَكَذَلِكَ أبو يُوسُفَ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ في الْوَزْنِ وَالْقِيمَةِ وَلَا يَرَيَانِ الْجَعْلَ بِالدَّيْنِ أَصْلًا وَمُحَمَّدٌ يَجْعَلُ بِالدَّيْنِ لَكِنْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ بِأَنْ لَا يُؤَدِّيَ ذلك إلَى الضَّرَرِ بِالرَّاهِنِ وَلَا بِالْمُرْتَهِنِ وَلَا يُؤَدِّيَ إلَى الرِّبَا فَإِنْ أَدَّى إلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا فإنه لَا يَجْعَلُ بِالدَّيْنِ أَيْضًا
وإذا كانت قِيمَةُ الرَّهْنُ أَكْثَرَ فَأَبُو يُوسُفَ يَجْعَلُ النُّقْصَانَ الْحَاصِلَ بِالِانْكِسَارِ شَائِعًا في قَدْرِ الْأَمَانَةِ وَالْمَضْمُونِ فما كان في الْأَمَانَةِ يَذْهَبُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وما كان في الْمَضْمُونِ يَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ قِيمَتَهُ ويهلك ( ( ( ويملك ) ) ) من الرَّهْنِ بِقَدْرِهِ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصْرِفُ النُّقْصَانَ إلَى الزِّيَادَةِ
وإذا كَثُرَ النُّقْصَانُ حتى انْتَقَصَ من الدَّيْنِ يُخَيَّرُ الرَّاهِنُ بين أَنْ يَفْتَكَّهُ وَبَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهُ بِالدَّيْنِ
وَمِنْ أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الزُّيُوفِ من الْجِيَادِ حتى لو أَخَذَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الزُّيُوفَ عن الْجِيَادِ ولم يَعْلَمْ بِهِ حتى هَلَكَ عِنْدَهُ سَقَطَ دَيْنُهُ
وَكَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا تَرَكَ أَصْلَهُ في الرَّهْنِ
وعن ( ( ( وعند ) ) ) أبي يُوسُفَ لَا يَسْقُطُ بَلْ يَرُدُّ مِثْلَ ما قَبَضَ وَيَأْخُذُ مِثْلَ حَقِّهِ فَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الزُّيُوفِ عن الْجِيَادِ فَهَذِهِ أُصُولُ هذه الْمَسَائِلِ
وَأَمَّا تَخْرِيجُهَا على هذه الْأُصُولِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إذَا كان الدَّيْنُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَرَهَنَ بِهِ قُلْبَ فِضَّةٍ فَهَلَكَ أو انْكَسَرَ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَوَزْنُ الْقُلْبِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ وَزْنِ الدَّيْنِ بِأَنْ كان عَشَرَةً أو ( ( ( وإما ) ) ) إما أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ من وَزْنِهِ بِأَنْ كان ثَمَانِيَةً وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ من وَزْنِهِ بِأَنْ كان اثْنَيْ عَشَرَ وَكُلُّ وَجْهٍ من هذه الْوُجُوهِ يَدْخُلُهُ الْهَلَاكُ وَالِانْكِسَارُ فَإِنْ كان وَزْنُ الْقُلْبِ مِثْلَ وَزْنِ الدَّيْنِ عَشَرَةً فَإِنْ كانت قِيمَتُهُ مِثْلَ وَزْنِهِ فَهَلَكَ يَهْلِكْ بِالدَّيْنِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ في وَزْنِهِ وقميته ( ( ( وقيمته ) ) ) وَفَاءً بِالدَّيْنِ وَلَا ضَرَرَ فيه بِأَحَدٍ وَلَا فيه رِبًا فَيَهْلِكُ بِالدَّيْنِ على ما هو حُكْمُ الرَّهْنِ عِنْدَنَا
وَإِنْ انْكَسَرَ وَانْتَقَصَ لَا يُجْبَرُ الرَّاهِنُ على الِافْتِكَاكِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ لو افْتَكَّهُ إمَّا أَنْ يَفْتَكَّهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَإِمَّا أَنْ يَسْقُطَ شَيْءٌ من الدَّيْنِ بِمُقَابَلَةِ النُّقْصَانِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ فيه ضَرَرًا بِالرَّاهِنِ لِفَوَاتِ حَقِّهِ عن الْجَوْدَةِ وَالصِّنَاعَةِ من غَيْرِ عِوَضٍ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا لِأَنَّ الدَّيْنَ وَالرَّهْنَ يَسْتَوِيَانِ في الْوَزْنِ وَالْجَوْدَةُ لَا قِيمَةَ لها شَرْعًا عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ شَرْعًا فَيَكُونُ إيفَاءُ عَشَرَةٍ بِثَمَانِيَةٍ فَتَكُونُ رِبًا فَيَتَخَيَّرُ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَرَضِيَ بِالنُّقْصَانِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ قِيمَتَهُ بَالِغَةً ما بَلَغَتْ فَكَانَتْ رَهْنًا مَكَانَهُ وَيَصِيرُ الْقُلْبُ مِلْكًا لِلْمُرْتَهِنِ بِالضَّمَانِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ بِالدَّيْنِ وَيَصِيرُ مِلْكَ الْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ ضَمَانَ الْقِيمَةِ لَا يُنَاسِبُ قَبْضَ الرَّهْنِ لِأَنَّ ذلك مُوجِبُ قَبْضٍ هو تعدي ( ( ( تعد ) ) ) كَقَبْضِ الْغَصْبِ وَقَبْضُ الرَّهْنِ مَأْذُونٌ فيه فَلَا يُنَاسِبُ ضَمَانَ الْقِيمَةِ وَيُنَاسِبُهُ الْجَعْلُ بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ وفي الْجَعَلِ بِالدَّيْنِ تَقْرِيرُ الِاسْتِيفَاءِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ جَعْلَ الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ حَالَ قِيَامِهِ من أَعْمَالِ الْجَاهِلِيَّةِ جاء الْإِسْلَامُ وَأَبْطَلَهُ بِقَوْلِهِ لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ وَالْجَعْلُ بِالدَّيْنِ غَلْقُ الرَّهْنِ فَكَانَ بَاطِلًا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مِلْكَ الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمَ هذا التَّصَرُّفِ وإن حُكْمَهُ مِلْكُ الْيَدِ وَالْحَبْسُ لَا مِلْكُ الْعَيْنِ وَالرَّقَبَةِ
فَأَمَّا ضَمَانُ الْقِيمَةِ فَيَصْلُحُ حُكْمًا له في الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا يقول بِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَعْلِ بِالدَّيْنِ على ما نَذْكُرُ
وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَقَلَّ من وَزْنِ الدَّيْنِ بِأَنْ كانت ثَمَانِيَةً فَهَلَكَ يَهْلِكُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْوَزْنَ دُونَ الْقِيمَةِ عِنْدَ الْهَلَاكِ وفي وَزْنِهِ وَفَاءُ الدَّيْنِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَهْلِكُ بِالدَّيْنِ وَيَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ قِيمَتَهُ من خِلَافِ جِنْسِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لو هَلَكَ بِالدَّيْنِ إمَّا أَنْ يَهْلِكَ بِوَزْنِهِ وَإِمَّا أَنْ يَهْلِكَ بِقِيمَتِهِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ فيه ضَرَرًا بِالْمُرْتَهِنِ وَلَا وَجْهَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَيُخَيَّرُ الْمُرْتَهِنُ بين أَنْ يَرْضَى بِسُقُوطِ الدَّيْنِ وَبَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ قِيمَةَ الرَّهْنِ من خِلَافِ جِنْسِهِ فَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إن قَبْضَ الرَّهْنِ قبض ( ( ( قبل ) ) ) استيفاء ( ( ( الاستيفاء ) ) ) وَالْجَيِّدَ وَالرَّدِيءَ في الِاسْتِيفَاءِ على السَّوَاءِ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الزُّيُوفِ عن الْجِيَادِ جَائِزٌ عِنْدَهُ وَإِنْ
____________________

(6/161)


انْكَسَرَ فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ قِيمَتَهُ من خِلَافِ جِنْسِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ له خِيَارُ الْجَعْلِ بِالدَّيْنِ هُنَا بِلَا خِلَافٍ
أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُمَا لَا يَرَيَانِ الْجَعْلَ بِالدَّيْنِ أَصْلًا وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كان يَرَى ذلك لَكِنْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ لِأَنَّهُ لو جَعَلَ الدَّيْنَ بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ يُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ بِالْمُرْتَهِنِ حَيْثُ يَصِيرُ الرَّهْنُ الذي قِيمَتُهُ ثَمَانِيَةٌ بِعَشَرَةٍ
وَلَوْ جُعِلَ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَمَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى ضَمَانِ الْقِيمَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَكْثَرَ من وَزْنِهِ بِأَنْ كانت اثْنَيْ عَشَرَ فَهَلَكَ يَهْلِكُ بِالدَّيْنِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا لِلْوَزْنِ وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ هُنَا فَضْلٌ فَكَانَ أَمَانَةً بِمَنْزِلَةِ الْفَضْلِ في الْوَزْنِ
أَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفَ فَقِيلَ يَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَسْدَاسِ الْقُلْبِ من الذَّهَبِ وَيَرْجِعُ بِدَيْنِهِ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ عِنْدَهُ مَضْمُونَةٌ وَقِيلَ يَهْلِكُ بِالدَّيْنِ عِنْدَهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْوَزْنَ في الْهَلَاكِ لَا الْجَوْدَةَ وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ الْجَوْدَةَ في الِانْكِسَارِ وَإِنْ انْكَسَرَ فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِالدَّيْنِ مع النُّقْصَانِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ من خِلَافِ جِنْسِهِ فَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ كان النُّقْصَانُ الْحَاصِلُ بِالِانْكِسَارِ قَدْرَ دِرْهَمٍ بِأَنْ عَادَتْ قِيمَتُهُ إلَى أَحَدَ عَشَرَ أو قَدْرَ دِرْهَمَيْنِ بِأَنْ عَادَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةً أو أَكْثَرَ من ذلك بِأَنْ صَارَتْ قِيمَتُهُ ثَمَانِيَةً
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِالدَّيْنِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ قميته ( ( ( قيمته ) ) ) خَمْسَةَ أَسْدَاسٍ الْقُلْبِ من خلال ( ( ( خلاف ) ) ) جِنْسِهِ فيصير ( ( ( فتصير ) ) ) خَمْسَةَ أَسْدَاسِ الرَّهْنِ مِلْكًا لِلْمُرْتَهِنِ بِالضَّمَانِ وَسُدُسُ الرَّهْنِ مع خَمْسَةِ أَسْدَاسِ الْقِيمَةِ رَهْنًا بِالدَّيْنِ لِأَنَّ من أَصْلِهِ أَنْ يُجْعَلَ قَدْرُ النُّقْصَانِ الْحَاصِلِ بِالِانْكِسَارِ شَائِعًا في قَدْرِ الْأَمَانَةِ وَالْمَضْمُونُ وَالْقَدْرُ الذي في الْأَمَانَةِ يَذْهَبُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَالْقَدْرُ الذي في الْمَضْمُونِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ فَيَصِيرُ ذلك الْقَدْرُ من الرَّهْنِ مِلْكًا له
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُنْظَرُ إلَى النُّقْصَانِ إنْ كان قَدْرَ دِرْهَمٍ أو دِرْهَمَيْنِ لَا ضَمَانَ على الْمُرْتَهِنِ وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ على الْفِكَاكِ
وَإِنْ زَادَ على ذلك يُخَيَّرُ بين الْفِكَاكِ وَبَيْنَ الْجَعْلِ بِالدَّيْنِ كما لو كانت قِيمَتُهُ وَوَزْنُهُ سَوَاءً لِأَنَّ من أَصْلِهِ أَنَّهُ يَصْرِفُ النُّقْصَانَ الْحَاصِلَ بِالِانْكِسَارِ إلَى الْجَوْدَةِ الزَّائِدَةِ إلَّا إذَا كَثُرَ النُّقْصَانُ حتى عَادَتْ قِيمَتُهُ إلَى ثَمَانِيَةٍ فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ بِالدَّيْنِ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ افْتَكَّهُ وَقِيلَ إنَّ على قَوْلِهِ له أَنْ يُضَمِّنَهُ كما قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِمَا في الْجَعْلِ بِالدَّيْنِ من إسْقَاطِ حَقِّهِ عن الْجَوْدَةِ
هذا إذَا كان وَزْنُ الْقُلْبِ مِثْلَ وَزْنِ الدَّيْنِ عَشَرَةً فَأَمَّا إذَا كان أَقَلَّ من وَزْنِهِ ثَمَانِيَةً فَإِنْ كانت قِيمَتُهُ مِثْلَ وَزْنِهِ فَهَلَكَ يَهْلِكُ بِمِثْلِ وَزْنِهِ من الدَّيْنِ وهو ثَمَانِيَةٌ بِالْإِجْمَاعِ
وَإِنْ انْكَسَرَ فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِالدَّيْنِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ قِيمَتَهُ من خِلَافِ جِنْسِهِ فَكَانَتْ رَهْنًا وَالْقُلْبُ لِلْمُرْتَهِنِ بِالضَّمَانِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِالدَّيْنِ وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ بِمِثْلِ وَزْنِهِ من الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَقَلَّ من وَزْنِهِ سَبْعَةً فَهَلَكَ يَهْلِكُ بِثَمَانِيَةٍ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا لِلْوَزْنِ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ من خِلَافِ جِنْسِهِ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ انْكَسَرَ ضَمِنَ الْقِيمَةَ بِالْإِجْمَاعِ
أَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُمَا لَا يُجِيزَانِ الْجَعْلَ بِالدَّيْنِ حَالَ قِيَامِ الرَّهْنِ أَصْلًا وَرَأْسًا وَمُحَمَّدٌ إنْ كان يُجِيزُهُ لَكِنَّ بشريطة ( ( ( شريطة ) ) ) انْعِدَامِ الضَّرَرِ وفي الْجَعْلِ بِالدَّيْنِ هُنَا ضَرَرٌ بِالْمُرْتَهِنِ وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَكْثَرَ من وَزْنِهِ فَكَانَتْ تِسْعَةً أو كانت مِثْلَ الدَّيْنِ عَشَرَةً فَهَلَكَ يَهْلِكُ بِقَدْرِ وَزْنِهِ ثَمَانِيَةٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ الْقِيمَةَ وَإِنْ انْكَسَرَ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِالدَّيْنِ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْقِيمَةَ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَكْثَرَ من الدَّيْنِ اثْنَيْ عَشَرَ فَهَلَكَ يَهْلِكُ بِثَمَانِيَةٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَضْمَنُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ قِيمَتِهِ وَإِنْ انْكَسَرَ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِالدَّيْنِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ وَكَانَتْ قِيمَتُهُ رَهْنًا وَالْقُلْبُ مِلْكًا لِلْمُرْتَهِنِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَضْمَنُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ قِيمَتِهِ وَيَكُونُ سُدُسُ الْقُلْبِ مع خَمْسَةِ أَسْدَاسِ قِيمَتِهِ رَهْنًا عِنْدَهُ بِالدَّيْنِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصْرِفُ النُّقْصَانَ الْحَاصِلَ بِالِانْكِسَارِ بِالْأَمَانَةِ إنْ قَلَّ النُّقْصَانُ بِأَنْ كان دِرْهَمًا أو دِرْهَمَيْنِ وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ على الِافْتِكَاكِ وَإِنْ كان أَكْثَرَ من ذلك يُخَيَّرُ الرَّاهِنُ بين الِافْتِكَاكِ وَبَيْنَ الْجَعْلِ بِالدَّيْنِ
هذا إذَا كان وَزْنُ الْقُلْبِ أَقَلَّ من وَزْنِ الدَّيْنِ ثَمَانِيَةً فَأَمَّا إذَا كان أَكْثَرَ من وَزْنِهِ اثْنَا عَشَرَ فَإِنْ كانت قِيمَتُهُ مِثْلَ وَزْنِهِ اثْنَيْ عَشَرَ فَهَلَكَ سَقَطَ الدَّيْنُ وَالزِّيَادَةُ على الدَّيْنِ تَهْلِكُ بِلَا أمانة خِلَافٍ وَإِنْ انْكَسَرَ ضَمِنَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ له أَنْ يَجْعَلَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ بِالدَّيْنِ
وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَقَلَّ من وَزْنِهِ
____________________

(6/162)


وَأَكْثَرَ من الدَّيْنِ بِأَنْ كانت أَحَدَ عَشَرَ فَهَلَكَ سَقَطَ الدَّيْنُ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِهِ وَالزِّيَادَةُ تَهْلِكُ أَمَانَةً عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَلَا رِوَايَةَ عنهما في هذا الْفَصْلِ
وَإِنْ انْكَسَرَ ضَمِنَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ الْقُلْبِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ الْجَوْدَةَ وَلَا يَرَى الْجَعْلَ بِالدَّيْنِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَكَذَا
وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِتَعَذُّرِ التَّمْلِيكِ بِالدَّيْنِ لِمَا فيه من الضَّرَرِ
وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ مِثْلَ وَزْنِ الدَّيْنِ عَشَرَةً فَهَلَكَ يَهْلِكُ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ بِالدَّيْنِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْوَزْنَ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ وَيَرْجِعُ بِحَقِّهِ وَإِنْ انْكَسَرَ ضَمِنَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَغْرَمُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ وَلَا يُمْكِنُ الْجَعْلُ بِالدَّيْنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا
وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَقَلَّ من الدَّيْنِ ثَمَانِيَةً فَهَلَكَ ذَهَبَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ بِالدَّيْنِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ انْكَسَرَ ضَمِنَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ وَعِنْدَهُمَا يَغْرَمُ الْقِيمَةَ في الْحَالَيْنِ وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَهَلَكَ يَهْلِكُ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ بِالدَّيْنِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ انْكَسَرَ ضَمِنَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ ثُمَّ في كل مَوْضِعٍ ضَمِنَ الْمُرْتَهِنُ بَعْضَ الْقُلْبِ وَهَلَكَ ذلك الْقَدْرُ بِالضَّمَانِ وَصَارَ شَرِيكًا فَهَذَا شُيُوعٌ طارىء ( ( ( طارئ ) ) )
فَعَلَى جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُقْطَعُ الْقُلْبُ فَيَكُونُ الْبَاقِي مع الْقَدْرِ الذي غَرِمَ رَهْنًا لِأَنَّ الشُّيُوعَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ مُقَارِنًا كان أو طَارِئًا وَعَلَى رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ لَا حَاجَةَ إلَى الْقَطْعِ لِأَنَّ الشُّيُوعَ الطارىء لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْعَقْدِ على الصِّحَّةِ
وَأَمَّا الرَّهْنُ الْفَاسِدُ فَلَا حُكْمَ له حَالَ قِيَامِ الْمَرْهُونِ حتى لَا يَثْبُتَ لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْحَبْسِ وَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ منه فَإِنْ مَنَعَهُ حتى هَلَكَ يَضْمَنْ مثله إنْ كان له مِثْلٌ وَقِيمَتَهُ إنْ لم يَكُنْ له مِثْلٌ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا بِالْمَنْعِ وَالْمَغْصُوبُ مَضْمُونٌ على الْغَاصِبِ بِالْمِثْلِ أو بِالْقِيمَةِ وَإِنْ لم يُوجَدْ الْمَنْعُ من الْمُرْتَهِنِ حتى هَلَكَ الرَّهْنُ في يَدِهِ ذكره الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنه يَهْلِكُ أَمَانَةً لِأَنَّ الرَّهْنَ إذَا لم يَصِحَّ كان الْقَبْضُ قَبْضَ أَمَانَةٍ لِأَنَّهُ قَبَضَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَأَشْبَهَ قَبْضَ الْوَدِيعَةِ
وَحَكَى الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّ كُلَّ ما هو مَحَلٌّ لِلرَّهْنِ الصَّحِيحِ فإذا رَهَنَهُ رَهْنًا فَاسِدًا فَهَلَكَ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ يَهْلِكُ بِالْأَقَلِّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ وَكُلُّ ما ليس بِمَحَلٍّ لِلرَّهْنِ الصَّحِيحِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالرَّهْنِ الْفَاسِدِ كَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ الْفَسَادَ كان لِمَعْنًى في نَفْسِ الْمَرْهُونِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بَلْ يَكُونُ أَمَانَةً وَإِنْ كان الْفَسَادُ لِمَعْنًى في غَيْرِهِ يَكُونُ مَضْمُونًا
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَرْهُونَ مَضْمُونٌ بِالْقَبْضِ وَلَا فَسَادَ في الْقَبْضِ إلَّا أَنَّ شَرْطِ كَوْنِ الْمَقْبُوضِ مَضْمُونًا أَنْ يَكُونَ مَالًا مُطْلَقًا مُتَقَوِّمًا كَالْمَقْبُوضِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ يَكُونُ مَضْمُونًا وَإِلَّا فَلَا هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ هَلَاكِ الْمَرْهُونِ
وَأَمَّا حُكْمُ اسْتِهْلَاكِهِ فَنَقُولُ الْمَرْهُونُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ من بَنِي آدَمَ كَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وأما إنْ كان من غَيْرِ بَنِي آدَمَ من سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَإِنْ كان من غَيْرِ بَنِي آدَمَ فَاسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ ضَمِنَ قِيمَتَهُ إنْ كان مِمَّا لَا مِثْلَ له وَمِثْلَهُ إنْ كان مِمَّا له مِثْلٌ كما إذَا لم يَكُنْ مَرْهُونًا وَالْمُرْتَهِنُ هو الْخَصْمُ في تَضْمِينِهِ وكان الضَّمَانُ رَهْنًا لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَرْهُونِ
ثُمَّ إنْ كان الضَّمَانُ من جِنْسِ الدَّيْنِ وَالدَّيْنُ حَالٌّ اسْتَوْفَاهُ بِدَيْنِهِ وَإِنْ كان الدَّيْنُ لم يَحِلَّ حَبَسَهُ رَهْنًا مَكَانَهُ وَكَذَلِكَ لو اسْتَهْلَكَهُ الْمُرْتَهِنُ لِأَنَّهُ لو أَتْلَفَ مَالًا مَمْلُوكًا مُتَقَوِّمًا بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ فَيَضْمَنُ مثله أو قِيمَتَهُ كما لو أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ وكان رَهْنًا مَكَانَهُ وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ الرَّاهِنُ فَإِنْ كان الدَّيْنُ حَالًّا يُطَالَبُ بِالدَّيْنِ لَا فَائِدَةَ في الْمُطَالَبَةِ بِالضَّمَانِ فَيُطَالَبُ بِالدَّيْنِ وَإِنْ كان لم يَحِلَّ أَخَذَ الْمُرْتَهِنُ منه الضمان ( ( ( بالضمان ) ) ) فَأَمْسَكَهُ إلَى أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ
وإذا كان في الرَّهْنِ نَمَاءٌ كَاللَّبَنِ وَالْوَلَدِ فَاسْتَهْلَكَهُ الْمُرْتَهِنُ أو الرَّاهِنُ أو أَجْنَبِيٌّ بِأَنْ كان الرَّهْنُ شَاةً قِيمَتُهَا عَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ فَحُلِبَتْ أو وَلَدَتْ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ
أَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ على الْأَجْنَبِيِّ وَالْمُرْتَهِنِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِلْكُ الرَّاهِنِ وَإِتْلَافُ مَالٍ مَمْلُوكٍ لِلْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ يُوجِبُ الضَّمَانَ
وَأَمَّا وُجُوبُهُ على الرهن ( ( ( الراهن ) ) ) فَلِأَنَّ الْمُتْلَفَ وَإِنْ كان مَمْلُوكًا له لَكِنْ لِلْمُرْتَهِنِ فيه حَقٌّ قَوِيٌّ فَيَلْحَقُ بِالْمِلْكِ في حَقِّ وُجُوبِ الضَّمَانِ وإذا وَجَبَ الضَّمَانُ على الْمُتْلِفِ كان الضَّمَانُ مع الشَّاةِ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَرْهُونِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ فَإِنْ هَلَكَ الضَّمَانُ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الدَّيْنِ لِأَنَّهُ بَدَلُ ما ليس بِمَضْمُونٍ بِالدَّيْنِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأَصْلِ وَالْأَصْلُ لو هَلَكَ يَهْلِكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ كَذَا الْبَدَلُ وَإِنْ هَلَكَتْ الشَّاةُ سَقَطَتْ حِصَّتُهَا من الدَّيْنِ لِأَنَّهَا مَرْهُونَةٌ مَقْصُودَةٌ فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْهَلَاكِ وَيَفْتَكُّ الرَّاهِنُ ضَمَانَ الزِّيَادَةِ بِقَدْرِهَا من الدَّيْنِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَصِيرُ مَقْصُودَةً بِالْفِكَاكِ فَيَصِيرُ لها حِصَّةٌ من الدَّيْنِ
هذا إذَا كان الِاسْتِهْلَاكُ بِغَيْرِ إذْنٍ فَأَمَّا إذَا كان بِإِذْنٍ بِأَنْ قال الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ احْلِبْ الشَّاةَ فما حَلَبَتْ
____________________

(6/163)


فَهُوَ حَلَالٌ لك أو قال له كُلْ هذا الْحِمْلَ فَحَلَبَ وَشَرِبَ وَأَكَلَ حَلَّ له ذلك وَلَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِلْكُ الرَّاهِنِ فَيَصِحُّ إذْنُهُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ حتى لو جاء الرَّاهِنُ يَفْتَكُّ الشَّاةَ يَفْتَكُّهَا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ لِأَنَّ إتْلَافَ الْمُرْتَهِنِ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ مُضَافٌ إلَى الرَّاهِنِ كَأَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِنَفْسِهِ
وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَكَانَ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الدَّيْنِ وكان عليه ضَمَانُ الْمُتْلَفِ
كَذَا هذا
وَإِنْ لم يَفْتَكَّهَا حتى هَلَكَ تَهْلِكُ بِحِصَّتِهَا من الدَّيْنِ فَيُقْسَمُ الدَّيْنُ عليها وَعَلَى لَبَنِهَا أو وَلَدِهَا على قَدْرِ قِيمَتِهَا فما كان حِصَّةَ الشَّاةِ يَسْقُطُ وما كان حِصَّةَ الزِّيَادَةِ يَبْقَى وَيُخَاطَبُ الرَّاهِنُ بِقَضَائِهِ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُرْتَهِنِ لَمَّا كان مُضَافًا إلَى الرَّاهِنِ كان مَضْمُونًا عليه كَأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ لِلزِّيَادَةِ حِصَّةٌ من الدَّيْنِ فَيُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ فَإِنْ كان فيها خَمْسَةٌ كان فيها ثُلُثُ الدَّيْنِ وفي الشَّاةِ ثُلُثَاهُ فإذا هَلَكَتْ الشَّاةُ ذَهَبَ ثُلُثَا الدَّيْنِ وَبَقِيَ الثُّلُثُ وَعَلَى الرَّاهِنِ قَضَاؤُهُ
وَكَذَلِكَ لو اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ فَالْجَوَابُ فيه وفي الْمُرْتَهِنِ إذَا اسْتَهْلَكَهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ سَوَاءٌ وقد ذَكَرْنَاهُ
وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ الرَّاهِنُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ لَا شَيْءَ عليه لِأَنَّ الضَّمَانَ لو وَجَبَ لَوَجَبَ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ لَا لِحَقِّ نَفَسِهِ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وقد أَبْطَلَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّ نَفَسِهِ بِالْإِذْنِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الضَّمَانَ وَجُعِلَ كَأَنَّ الزِّيَادَةَ هَلَكَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَبَقِيَتْ الشَّاةُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَإِنْ كان الْمَرْهُونُ من بَنِي آدَمَ فَجَنَى عليه فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في جِنَايَاتِ الرَّهْنِ أنها ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ جِنَايَةُ غَيْرِ الرَّهْنِ على الرَّهْنِ وَجِنَايَةُ الرَّهْنِ على غَيْرِ الرَّهْنِ وَجِنَايَةُ الرَّهْنِ على الرَّهْنِ
أَمَّا جِنَايَةُ غَيْرِ الرَّهْنِ على الرَّهْنِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إن كانت الْجِنَايَةُ في النَّفْسِ وَإِمَّا إن كانت فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا إن كان عَمْدًا أو خَطَأً أو في مَعْنَى الْخَطَأِ وَالْجَانِي لَا يَخْلُو إمَّا إن كان حُرًّا أو عَبْدًا فَإِنْ كانت في النَّفْسِ عَمْدًا وَالْجَانِي حُرٌّ فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَقْتَصَّ إذَا اجْتَمَعَا على الِاقْتِصَاصِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقال مُحَمَّدٌ ليس له الِاقْتِصَاصُ وَإِنْ اجْتَمَعَا عليه
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاخْتِلَافَ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ على قَاتِلِهِ وَإِنْ اجْتَمَعَ عليه الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ ولم يذكر الْخِلَافَ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ لَا بُدَّ له من وَلِيٍّ وَالْوَلِيُّ هُنَا غَيْرُ مَعْلُومٍ لِأَنَّ مِلْكَ الْعَيْنِ وَالرَّقَبَةِ لِلرَّاهِنِ وَمِلْكَ الْيَدِ وَالْحَبْسِ لِلْمُرْتَهِنِ فَكَانَ الْعَبْدُ مُضَافًا إلَى الرَّاهِنِ من وَجْهٍ وَإِلَى الْمُرْتَهِنِ من وَجْهٍ فَصَارَ الْوَلِيُّ مُشْتَبَهًا مَجْهُولًا وَجَهَالَةُ الْوَلِيِّ تَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ كَعَبْدِ الْمُكَاتَبِ إذَا قُتِلَ عَمْدًا أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ من قَاتِلِهِ وَإِنْ اجْتَمَعَ عليه الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بين اثْنَيْنِ إذَا قُتِلَ عَمْدًا أَنَّ لَهُمَا الِاقْتِصَاصَ إذَا اجْتَمَعَا عليه لِأَنَّ هُنَاكَ الْوِلَايَةَ لَهُمَا ثَابِتَةٌ على الشَّرِكَةِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في النِّصْفِ من كل وَجْهٍ فَكَانَ الْوَلِيُّ مَعْلُومًا فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ لَهُمَا على الشَّرِكَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا في الْمِلْكِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمِلْكَ لِلرَّاهِنِ من كل وَجْهٍ وَإِنَّمَا لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْحَبْسِ فَقَطْ وَالْمِلْكُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ فَكَانَ الْوَلِيُّ مَعْلُومًا وكان يَنْبَغِي أَنْ لَا تَتَوَقَّفَ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ على رِضَا الْمُرْتَهِنِ إلَّا أَنَّهُ تَوَقَّفَ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهِ فإذا رضي فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ بِخِلَافِ عبد الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْمِلْكَ فيه لِلْمَوْلَى من وَجْهٍ وَلِلْمُكَاتَبِ من وَجْهٍ فلم يَكُنْ الْمِلْكُ فيه ثَابِتًا لِلْمَوْلَى مُطْلَقًا وَلَا لِلْمُكَاتَبِ مُطْلَقًا فَأَشْبَهَ الْوَلِيَّ فَامْتَنَعَ الِاسْتِيفَاءُ وإذا اُقْتُصَّ الْقَاتِلُ سَقَطَ الدَّيْنُ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا كان رَهْنًا من حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ وقد بَطَلَتْ مَالِيَّتُهُ بِالْقَتْلِ لَا إلَى بَدَلٍ إذْ الْقِصَاصُ لَا يَصْلُحُ بَدَلًا عن الْمَالِيَّةِ فَسَقَطَ الْقِصَاصُ كما لو هَلَكَ بِنَفْسِهِ
هذا إذَا اجْتَمَعَا على الْقِصَاصِ فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا لَا يُقْتَصُّ الْقَاتِلُ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الِاقْتِصَاصِ لِلْمُرْتَهِنِ لِعَدَمِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَلَا لِلرَّاهِنِ لِأَنَّ في اسْتِيفَائِهِ إبْطَالَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ وهو الدَّيْنُ من غَيْرِ رِضَاهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَعَلَى الْقَاتِلِ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ في مَالِهِ في ثَلَاثِ سِنِينَ وَكَانَتْ الْقِيمَةُ رَهْنًا
وَلَوْ اخْتَلَفَا فَأَبْطَلَ الْقَاضِي الْقِصَاصَ ثُمَّ قَضَى الرَّاهِنُ الدَّيْنَ فَلَا قِصَاصَ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ وَإِنْ بَطَلَ بِالْفِكَاكِ لَكِنْ بعدما حَكَمَ الْقَاضِي بِبُطْلَانِ الْقِصَاصِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعُودَ وَإِنْ كانت الْجِنَايَةُ خَطَأً أو شِبْهَ عَمْدٍ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ قِيمَتُهُ في ثَلَاثِ سِنِينَ يَقْبِضُهَا الْمُرْتَهِنُ فَتَكُونُ رَهْنًا لِأَنَّ الْعَبْدَ وَإِنْ كان مَضْمُونًا من حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ لَا من حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ حتى لَا تُزَادَ دِيَتُهُ على دِيَةِ الْحُرِّ وَلَكِنَّهُ مَرْهُونٌ من حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ لَا من حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ فَجَازَ أَنْ تَقُومَ قِيمَتُهُ مَقَامَهُ وَتَكُونَ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ
ثُمَّ إنْ كان الرَّهْنُ مُؤَجَّلًا كانت في يَدِهِ إلَى حَلِّ الْأَجَلِ وإذا حَلَّ فَإِنْ
____________________

(6/164)


كانت الْقِيمَةُ من جِنْس الدَّيْنِ اسْتَوْفَى الدَّيْنَ منها وَإِنْ بَقِيَ فيها فَضْلٌ رَدَّهُ على الرَّاهِنِ وَإِنْ كانت أَقَلَّ من الدَّيْنِ اسْتَوْفَى منها من الدَّيْنِ بِقَدْرِهَا بِالْفَضْلِ أَيْ يَرْجِعُ بِالْبَقِيَّةِ على الرَّاهِنِ وَإِنْ كانت من خِلَافِ جِنْسِ الدَّيْنِ حَبَسَهَا في يَدِهِ إلَى وَقْتِ الْفِكَاكِ وَإِنْ كان الدَّيْنُ حَالًّا فَالْحُكْمُ فيه وَفِيمَا إذَا كان مُؤَجَّلًا فَحَلَّ سَوَاءٌ وقد بَيَّنَّاهُ وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْعَبْدِ في ضَمَانِ الِاسْتِهْلَاكِ يوم الِاسْتِهْلَاكِ وفي ضَمَانِ الرَّهْنِ يوم الْقَبْضِ لِأَنَّ ضَمَانَ الِاسْتِهْلَاكِ يَجِبُ بِالِاسْتِهْلَاكِ وَضَمَانَ الرَّهْنِ يَجِبُ بِالْقَبْضِ فَيُعْتَبَرُ حَالُ وُجُودِ السَّبَبِ حتى لو كان الدَّيْنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ يوم الرَّهْنِ أَلْفًا فَانْتَقَصَتْ قِيمَتُهُ فَتَرَاجَعَتْ إلَى خَمْسِمِائَةٍ فَقُتِلَ غَرِمَ الْقَاتِلُ خَمْسَمِائَةٍ وَسَقَطَ من الدَّيْنِ خَمْسُمِائَةٍ وإذا غَرِمَ خَمْسَمِائَةٍ بِالِاسْتِهْلَاكِ كانت هذه الدَّرَاهِمُ رَهْنًا بِمِثْلِهَا من الدَّيْنِ وَيَسْقُطُ الْبَاقِي من الدَّيْنِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا كُلَّ الدَّيْنِ بها وَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ أَكْثَرَ من خَمْسِمِائَةٍ بِخَمْسِمِائَةٍ لِمَا فيه من الرِّبَا وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا قَتَلَهُ عَبْدٌ أَقَلَّ قِيمَةً منه فَدُفِعَ بِهِ لِأَنَّ الدَّفْعَ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ كل الدَّيْنِ من هذا الْعَبْدِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو بَاعَهُ جَازَ وَإِنْ كان لَا يُسَاوِيهِ فلم يَكُنْ فيه رِبًا
وَكَذَلِكَ لو قَتَلَهُ الْمُرْتَهِنُ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ وَالْحُكْمُ فيه وفي الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ وقد ذَكَرْنَاهُ
وَلَوْ قَتَلَهُ الرَّاهِنُ فَهَذَا وما إذَا كان الرَّهْنُ من غَيْرِ بَنِي آدَمَ سَوَاءٌ وقد ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ
هذا إذَا كان الْجَانِي حُرًّا أَمَّا إذَا كان عَبْدًا أو أَمَةً يُخَاطَبُ مولى الْقَاتِلِ بِالدَّفْعِ أو بِالْفِدَاءِ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ فَإِنْ كانت قِيمَةُ الْمَقْتُولِ مِثْلَ قِيمَةِ الْمَدْفُوعِ أو أَكْثَرَ فَالْمَدْفُوعُ رَهْنٌ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ على الِافْتِكَاكِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَقَلَّ من قِيمَةِ الْمَقْتُولِ بِأَنْ كانت قِيمَةُ الْمَقْتُولِ أَلْفًا وَالدَّيْنُ أَلْفٌ وَقِيمَةُ الْمَدْفُوعِ مِائَةٌ فَهُوَ رَهْنٌ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ أَيْضًا وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ على الِافْتِكَاكِ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ كما كان يُجْبَرُ على افْتِكَاكِ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ لو كان حَيًّا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ إنْ لم يَكُنْ بِقِيمَةِ الْقَاتِلِ وَفَاءٌ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ لِلْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ فَمُحَمَّدٌ مَرَّ على أَصْلِهِ في الْجَعْلِ بِالدَّيْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَبْرِ على الِافْتِكَاكِ وَهُنَا تَعَذَّرَ لِمَا فيه من الضَّرَرِ بِالرَّاهِنِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا دُفِعَ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ قام مَقَامَ الْأَوَّلِ لَحْمًا وَدَمًا وَالْأَوَّلُ كان رَهْنًا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وكان يُجْبَرُ الرَّاهِنُ على الِافْتِكَاكِ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ فَكَذَا الثَّانِي
وَكَذَلِكَ لو كان الْعَبْدُ الْمُرْتَهَنُ نَقَصَ في السِّعْرِ حتى صَارَ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ فَقَتَلَهُ عَبْدٌ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ فَدُفِعَ بِهِ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ
هذا إذَا كان اخْتَارَ مولى الْقَاتِلِ الدَّفْعَ فَأَمَّا إذَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ فإنه يَفْدِيهِ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ وَكَانَتْ الْقِيمَةُ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ
ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كانت الْقِيمَةُ من جِنْسِ الدَّيْنِ اسْتَوْفَى دَيْنَهُ منها وَإِنْ كانت من خِلَافِ الْجِنْسِ حَبَسَهَا رَهْنًا حتى يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ دَيْنِهِ وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ على الِافْتِكَاكِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُخَيَّرُ الرَّاهِنُ بين الِافْتِكَاكِ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَبَيْنَ التَّرْكِ لِلْمُرْتَهِنِ بِالدَّيْنِ وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ
هذا إذَا كانت الْجِنَايَةُ في النَّفْسِ فَأَمَّا إذَا كانت فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَإِنْ كان الْجَانِي حُرًّا يَجِبُ أَرْشُهُ في مَالِهِ لَا على عَاقِلَتِهِ سَوَاءٌ كانت الْجِنَايَةُ خَطَأً أو عَمْدًا
أَمَّا الْوُجُوبُ في مَالِهِ فَلِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَأَمَّا التَّسْوِيَةُ بين الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ فَلِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجْرِي بين الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَاسْتَوَى فيه الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ في وُجُوبِ الْأَرْشِ فَكَانَ الْأَرْشُ رَهْنًا مع الْعَبْدِ لِأَنَّهُ بَدَلُ جُزْءٍ مَرْهُونٍ وَإِنْ كان الْجَانِي عَبْدًا يُخَاطَبُ مَوْلَاهُ بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ بِالْأَرْشِ كان الْأَرْشُ مع الْمَجْنِيِّ عليه رَهْنًا وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ يَكُونُ الْجَانِي مع الْمَجْنِيِّ عليه رَهْنًا وَالْخُصُومَةُ في ذلك كُلِّهِ إلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ له وَالْجَانِي فَوَّتَ الْحَبْسَ عن بَعْضِ أَجْزَاءِ الرَّهْنِ فَلَهُ أَنْ يُقِيمَ بَدَلَ الْفَائِتِ فَيُقِيمَهُ مَقَامَهُ رَهْنًا
هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ جِنَايَةِ غَيْرِ الرَّهْنِ على الرَّهْنِ وَأَمَّا حُكْمُ جِنَايَةِ الرَّهْنِ على غَيْرِ الرَّهْنِ فَجِنَايَتُهُ لَا تَخْلُو إمَّا إن كانت على بَنِي آدَمَ وَإِمَّا إن كانت على غَيْرِ بَنِي آدَمَ من سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَإِنْ كانت على بَنِي آدَمَ فَلَا تَخْلُو إمَّا إن كانت عَمْدًا وَإِمَّا إن كانت خَطَأً أو في مَعْنَاهُ فَإِنْ كانت عَمْدًا يُقْتَصُّ منه كما إذَا لم تَكُنْ رَهْنًا لِأَنَّ مِلْكَ الرَّاهِنِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ أَلَا يرى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ إذَا لم يَكُنْ رَهْنًا وإذا لم يَكُنْ الْمِلْكُ مَانِعًا فَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ أَوْلَى لِأَنَّهُ دُونَ الْمِلْكِ سَوَاءٌ قَتَلَ أَجْنَبِيًّا أو الرَّاهِنَ أو الْمُرْتَهِنَ لِأَنَّ الْقِصَاصَ ضَمَانُ الدَّمِ وَلَا حَقَّ لِلْمَوْلَى في دَمِهِ بَلْ هو أَجْنَبِيٌّ عنه وَكَذَا لِلْمُرْتَهِنِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى إذْ الثَّابِتُ له الْحَقُّ وَالْحَقُّ دُونَ الْمِلْكِ فَصَارَتْ جِنَايَتُهُ
____________________

(6/165)


على الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ في حَقِّ الْقِصَاصِ وَجِنَايَتُهُ على الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءً وإذا قُتِلَ قِصَاصًا سَقَطَ الدَّيْنُ لِأَنَّ هَلَاكَهُ حَصَلَ في ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ فَسَقَطَ دِيَتُهُ كما إذَا هَلَكَ بِنَفْسِهِ
هذا إذَا كانت جِنَايَتُهُ عَمْدًا فَأَمَّا إذَا كانت خَطَأً أو مُلْحَقَةً بِالْخَطَأِ فَإِنْ كانت شِبْهَ عَمْدٍ أو كانت عَمْدًا لَكِنَّ الْقَاتِلَ ليس من أَهْلِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عليه بِأَنْ كان صَبِيًّا أو مَجْنُونًا أو كانت جِنَايَتُهُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فإنه يُدْفَعُ أو يفدي لِأَنَّ هذه الْجِنَايَاتِ من الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ تُوجِبُ الدَّفْعَ أو الْفِدَاءَ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان الْعَبْدُ كُلُّهُ مَضْمُونًا بِأَنْ كانت قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ أو دُونَهُ نَحْوُ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفًا وَالدَّيْنُ أَلْفًا أو كان الدَّيْنُ أَلْفًا وَقِيمَةُ الْعَبْدِ خَمْسَمِائَةٍ يُخَاطَبُ الْمُرْتَهِنُ أَوَّلًا بِالْفِدَاءِ لِأَنَّهُ بِالْفِدَاءِ يَسْتَبْقِي حَقَّ نَفَسِهِ في الرَّهْنِ بِتَطْهِيرِهِ عن الْجِنَايَةِ من غَيْرِ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ
وَلَوْ بدىء بِالرَّاهِنِ وَخُوطِبَ بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ على ما هو حُكْمُ الشَّرْعِ فَرُبَّمَا يَخْتَارُ الدَّفْعَ فَيَبْطُلُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَيَسْقُطُ دَيْنُهُ فَكَانَتْ الْبُدَاءَةُ بِخِطَابِ الْمُرْتَهِنِ بِالْفِدَاءِ أَوْلَى وإذا فَدَاهُ بِالْأَرْشِ فَقَدْ اسْتَخْلَصَهُ وَاسْتَصْفَاهُ عن الْجِنَايَةِ وَصَارَ كَأَنَّهُ لم يَجْنِ أَصْلًا فَيَبْقَى رَهْنًا كما كان وَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِمَّا فَدَى على الرَّاهِنِ لِأَنَّهُ فَدَى مِلْكَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فيه فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ كما لو فَدَاهُ أَجْنَبِيٌّ وَلِأَنَّهُ بِالْفِدَاءِ أَصْلَحَ الرَّهْنَ بِاخْتِيَارِهِ وَاسْتَبْقَى حَقَّ نَفْسِهِ فَكَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ بِالْفِدَاءِ فَلَا يَرْجِعُ على غَيْرِهِ وَلَيْسَ له أَنْ يَدْفَعَ لِأَنَّ الدَّفْعَ تَمْلِيكُ الرَّقَبَةِ وهو لَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ
وَإِنْ أَبَى الراهن ( ( ( المرتهن ) ) ) أَنْ يَفْدِيَ يُخَاطَبُ الرَّاهِنُ بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْخِطَابِ هو الرَّاهِنُ لِأَنَّ الْمِلْكَ له وَإِنَّمَا يُبْدَأُ بِالْمُرْتَهِنِ بِخِطَابِ الْفِدَاءِ صِيَانَةً لِحَقِّهِ فإذا أَبَى عَادَ الْأَمْرُ إلَى الْأَصْلِ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ بَطَلَ الرَّهْنُ وَسَقَطَ الدَّيْنُ أَمَّا بُطْلَانُ الرَّهْنِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ زَالَ عن مِلْكِهِ بِالدَّفْعِ إلَى خَلَفٍ فَخَرَجَ عن كَوْنِهِ رَهْنًا وَأَمَّا سُقُوطُ الدَّيْنِ فَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الزَّوَالِ حَصَلَ بِمَعْنًى في ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ فَصَارَ كَأَنَّهُ هَلَكَ في يَدِهِ وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ لِأَنَّهُ صَارَ قَاضِيًا بِمَا فَدَى الْمُرْتَهِنُ لِأَنَّ الْفِدَاءَ على الْمُرْتَهِنِ لِحُصُولِ الْجِنَايَةِ في ضَمَانِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَبَى الْفِدَاءَ وَالرَّاهِنُ مُحْتَاجٌ إلَى اسْتِخْلَاصِ عَبْدِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذلك إلَّا بِالْفِدَاءِ فَكَانَ مُضْطَرًّا في الْفِدَاءِ فلم يَكُنْ مُتَبَرِّعًا فَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ على الْمُرْتَهِنِ بِمَا فَدَى وَلَهُ على الرَّاهِنِ مِثْلُهُ فَيَصِيرُ قِصَاصًا بِهِ
وإذا صَارَ قَاضِيًا دَيْنَ الْمُرْتَهِنِ مِمَّا فَدَى يُنْظَرُ إلَى ما فَدَى وَإِلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَإِلَى الدَّيْنِ فَإِنْ كان الْفِدَاءُ مِثْلَ الدَّيْنِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ مِثْلَ الدَّيْنِ أو أَكْثَرَ سَقَطَ الدَّيْنُ كُلُّهُ وَإِنْ كان الْفِدَاءُ أَقَلَّ من الدَّيْنِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ مِثْلَ الدَّيْنِ أو أَكْثَرَ سَقَطَ من الدَّيْنِ بِقَدْرِ الْفِدَاءِ وَحُبِسَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِالْبَاقِي وَإِنْ كان الْفِدَاءُ قَدْرَ الدَّيْنِ أو أَكْثَرَ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَقَلَّ من الدَّيْنِ يَسْقُطُ من الدَّيْنِ قَدْرُ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَلَا يَسْقُطُ أَكْثَرُ منها لِأَنَّهُ لو هَلَكَ الْعَبْدُ لَا يَسْقُطُ من الدَّيْنِ أَكْثَرُ من قِيمَتِهِ فَكَذَا عِنْدَ الْفِدَاءِ
وَإِنْ كان الْعَبْدُ بَعْضُهُ مَضْمُونًا وَالْبَعْضُ أَمَانَةً بِأَنْ كانت قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَيْنِ وَالدَّيْنِ أَلْفًا فَالْفِدَاءُ عَلَيْهِمَا جميعا لِأَنَّ نِصْفَهُ مَضْمُونٌ وَنِصْفَهُ أَمَانَةٌ فَكَانَ فِدَاءُ نِصْفِ الْمَضْمُونِ منه على الْمُرْتَهِنِ وَفِدَاءُ نِصْفِ الْأَمَانَةِ على الرَّاهِنِ فَيُخَاطَبَانِ جميعا بِالدَّفْعِ أو بِالْفِدَاءِ وَالْمَعْنَى من خِطَابِ الدَّفْعِ في جَانِبِ الْمُرْتَهِنِ الرِّضَا بِالدَّفْعِ لَا فِعْلُ الدَّفْعِ لِأَنَّ فِعْلَ الدَّفْعِ ليس إلَيْهِ
ثُمَّ إذَا خُوطِبَ بِذَلِكَ إمَّا إن اجْتَمَعَا على الدَّفْعِ وَإِمَّا إن اجْتَمَعَا على الْفِدَاءِ وَإِمَّا إن اخْتَلَفَا فَاخْتَارَ أَحَدُهُمَا الدَّفْعَ وَالْآخَرُ الْفِدَاءَ وَالْحَالُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَا حَاضِرَيْنِ وَإِمَّا إن كان أَحَدُهُمَا غَائِبًا فَإِنْ كَانَا حَاضِرَيْنِ وَاجْتَمَعَا على الدَّفْعِ وَدَفَعَا فَقَدْ سَقَطَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ الدَّفْعَ بِمَنْزِلَةِ الْهَلَاكِ وَإِنْ اجْتَمَعَا على الْفِدَاءِ فَدَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الْأَرْشِ وإذا فَدَيَا طَهُرَتْ رَقَبَةُ الْعَبْدِ عن الْجِنَايَةِ وَيَكُونُ رَهْنًا كما كان وكان كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَبَرِّعًا حتى لَا يَرْجِعَ على صَاحِبِهِ بِمَا فَدَى لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَدَّى ما عليه فَكَانَ مُؤَدِّيًا عن نَفَسِهِ لَا عن صَاحِبِهِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا الْفِدَاءَ وَالْآخَرُ الدَّفْعَ فَأَيُّهُمَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَاخْتِيَارُهُ أَوْلَى
أَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلِأَنَّهُ بِالْفِدَاءِ يَسْتَبْقِي حَقَّ نَفَسِهِ وَلَا يُسْقِطُ حَقَّ الرَّاهِنِ وَالرَّاهِنُ بِالدَّفْعِ يُسْقِطُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فَكَانَ اخْتِيَارُ الْمُرْتَهِنِ أَوْلَى
وَأَمَّا الرَّاهِنُ فَلِأَنَّهُ يَسْتَبْقِي مِلْكَ الرَّقَبَةِ بِالْفِدَاءِ وَالْمُرْتَهِنُ بِاخْتِيَارِ الدَّفْعِ يُرِيدُ إسْقَاطَ دَيْنِهِ وَإِبْطَالَ مِلْكِ الرَّاهِنِ فلم يَكُنْ له في اخْتِيَارِ الدَّفْعِ نَفْعٌ
بَلْ كان سَفَهًا مَحْضًا وَتَعَنُّتًا بَارِدًا فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ فَكَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَفْدِيَ
ثُمَّ أَيُّهُمَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى الْعَبْدَ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ وَلَا يَمْلِكُ الْآخَرُ دَفْعَهُ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان الذي اخْتَارَ الدَّفْعَ هو الْمُرْتَهِنَ فَفَدَى بِجَمِيعِ الْأَرْشِ بَقِيَ الْعَبْدُ رَهْنًا كما كان لِأَنَّهُ طَهُرَتْ رَقَبَتُهُ عن الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لم يَجْنِ وَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ على الرَّاهِنِ
____________________

(6/166)


بِدَيْنِهِ وَهَلْ يَرْجِعُ عليه بِحِصَّةِ الْأَمَانَةِ
ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فيه رِوَايَتَيْنِ في رِوَايَةٍ لَا يَرْجِعُ بَلْ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا وفي رِوَايَةٍ يَرْجِعُ وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَّا بِدَيْنِهِ خَاصَّةً ولم يذكر اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُ الْتَزَمَ الْفِدَاءَ بِاخْتِيَارِهِ مع قُدْرَتِهِ على أَنْ لَا يَلْتَزِمَ لِأَنَّهُ لو لم يَلْتَزِمْ لَخُوطِبَ الرَّاهِنُ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فيه فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَحْتَاجُ إلَى إصْلَاحِ قَدْرِ الْمَضْمُونِ منه وَلَا يُمْكِنُهُ ذلك إلَّا بِإِصْلَاحِ قَدْرِ الْأَمَانَةِ فَكَانَ مُضْطَرًّا فلم يَكُنْ مُتَبَرِّعًا وَإِنْ كان الذي اخْتَارَ الْفِدَاءَ هو الرَّاهِنَ فَفَدَاهُ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بَلْ يَكُونُ قَاضِيًا بِنِصْفِ الْفِدَاءِ دَيْنَ الْمُرْتَهِنِ
ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان نِصْفُ الْفِدَاءِ مِثْلَ كل الدَّيْنِ سَقَطَ الدَّيْنُ كُلُّهُ وَإِنْ كان أَقَلَّ منه سَقَطَ من الدَّيْنِ بِقَدْرِهِ وَرَجَعَ بِالْفَضْلِ على الرَّاهِنِ وَيَحْبِسُهُ رَهْنًا بِهِ
هذا إذَا كَانَا حَاضِرَيْنِ فَأَمَّا إذَا كان أَحَدُهُمَا حَاضِرًا فَلَيْسَ له وِلَايَةُ الدَّفْعِ أَيَّهُمَا كان سَوَاءٌ كان الْمُرْتَهِنَ أو الرَّاهِنَ
أَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ له في الْعَبْدِ أَصْلًا وَالدَّفْعُ تَمْلِيكٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْمِلْكِ
وَأَمَّا الرَّاهِنُ فَلِأَنَّ الدَّفْعَ إسْقَاطُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَلَهُ وِلَايَةُ الْفِدَاءِ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ فَإِنْ كان الْحَاضِرُ هو الْمُرْتَهِنَ فَفَدَاهُ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا في نِصْفِ الْفِدَاءِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ على الرَّاهِنِ بِدَيْنِهِ وَبِنِصْفِ الْفِدَاءِ لَكِنَّهُ يَحْبِسُ الْعَبْدَ رَهْنًا بِالدَّيْنِ وَلَيْسَ له أَنْ يَحْبِسَهُ رَهْنًا بِنِصْفِ الْفِدَاءِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كان الْمُرْتَهِنُ مُتَبَرِّعًا في نِصْفِ الْفِدَاءِ فَلَا يَرْجِعُ على الرَّاهِنِ إلَّا بِدَيْنِهِ خَاصَّةً كما لو فَدَاهُ بِحَضْرَةِ الرَّاهِنِ فَهُمَا سَوَّيَا بين الْغَيْبَةِ وَالْحَضْرَةِ وَجَعَلَاهُ مُتَبَرِّعًا في الْحَالَيْنِ جميعا وأبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَرَّقَ بين حَالِ الْحَضْرَةِ وَالْغَيْبَةِ فَجَعَلَهُ مُتَبَرِّعًا في الْحَضْرَةِ لَا في الْغَيْبَةِ
وَإِنْ كان الْحَاضِرُ هو الرَّاهِنَ فَفَدَاهُ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا في نِصْفِ الْفِدَاءِ بِالْإِجْمَاعِ بَلْ يَكُونُ قَاضِيًا بِنِصْفِ الْفِدَاءِ دَيْنَ الْمُرْتَهِنِ كما لو فَدَاهُ الرَّاهِنُ بِحَضْرَةِ الْمُرْتَهِنِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُرْتَهِنَ فَدَى مِلْكَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا كما لو فَدَاهُ أَجْنَبِيٌّ وَلِهَذَا كان مُتَبَرِّعًا في حَالَةِ الْحَضْرَةِ كما في الْغَيْبَةِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ في حَالِ الْحَضْرَةِ الْتَزَمَ الْفِدَاءَ بِاخْتِيَارِهِ مع إمْكَانِ خِطَابِ الرَّاهِنِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا وَالْخِطَابُ لَا يُمْكِنُ حَالَةَ الْغَيْبَةِ وهو مُحْتَاجٌ إلَى إصْلَاحِ قَدْرِ الْمَضْمُونِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذلك إلَّا بِإِصْلَاحِ قَدْرِ الْأَمَانَةِ فَكَانَ مُضْطَرًّا فلم يَكُنْ مُتَبَرِّعًا
هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ جِنَايَةِ الرَّهْنِ فَأَمَّا حُكْمُ جِنَايَةِ وَلَدِ الرَّهْنِ بِأَنْ قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً فَحُكْمُهُ أَنَّهُ لَا فِدَاءَ على الْمُرْتَهِنِ وَيُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ
أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْفِدَاءِ على الْمُرْتَهِنِ فَلِأَنَّ خِطَابَهُ بِفِدَاءِ الرَّهْنِ مع أَنَّهُ ليس مِلْكَهُ لِحُصُولِ الْجِنَايَةِ من الرَّهْنِ في ضَمَانِهِ ولم يُوجَدْ في الْوَلَدِ لِأَنَّهُ ليس بِمَضْمُونٍ أَنَّهُ لو هَلَكَ يَهْلِكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ
وَأَمَّا خِطَابُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ له فَإِنْ دَفَعَهُ خَرَجَ الْوَلَدُ عن الرَّهْنِ ولم يَسْقُطْ شَيْءٌ من الدَّيْنِ
أَمَّا خُرُوجُهُ عن الرَّهْنِ فَلِزَوَالِ مِلْكِ الرَّاهِنِ عنه فَيَخْرُجُ عن الرَّهْنِ كما لو هَلَكَ
وَأَمَّا عَدَمُ سُقُوطِ شَيْءٍ من الدَّيْنِ فَلِأَنَّ الْوَلَدَ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْهَلَاكِ بِخِلَافِ الْأُمِّ وَإِنْ فَدَى فَهُوَ رَهْنٌ مع أَنَّهُ على حَالِهِ فَإِنْ اخْتَارَ الرَّاهِنُ الدَّفْعَ فقال له الْمُرْتَهِنُ أنا أَفْدِي فَلَهُ ذلك لِأَنَّ الْوَلَدَ مَرْهُونٌ وَإِنْ لم يَكُنْ مَضْمُونًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلرَّهْنِ ثَابِتٌ فيه وهو حَقُّ الْحَبْسِ فَكَانَ الْفِدَاءُ منه إصْلَاحًا لِلرَّهْنِ فَكَانَ له ذلك
هذا إذَا جَنَى الرَّهْنُ على أَجْنَبِيٍّ فَأَمَّا إذَا جَنَى على الرَّاهِنِ أو على الْمُرْتَهِنِ أَمَّا جِنَايَتُهُ على نَفْسِ الْمُرْتَهِنِ جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلْمَالِ أو على مَالِهِ فَهَدْرٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِلْكُهُ وَالْمَوْلَى لَا يَجِبُ له على عَبْدِهِ دَيْنٌ بِخِلَافِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ على الْمَغْصُوبِ منه أو على مَالِهِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أنها مُعْتَبَرَةٌ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمْلَكُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ من وَقْتِ الْغَصْبِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْجِنَايَةَ لم تَكُنْ جِنَايَةَ الْعَبْدِ على مَوْلَاهُ
وَأَمَّا جِنَايَتُهُ على نَفْسِ الْمُرْتَهِنِ فَهَدَرٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مُعْتَبَرَةٌ يُدْفَعُ أو يفدي إنْ رضي بِهِ الْمُرْتَهِنُ وَيَبْطُلُ الدَّيْنُ وَإِنْ قال الْمُرْتَهِنُ لَا أَطْلُبُ الْجِنَايَةَ لِمَا في الدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ من سُقُوطٍ حَقِّي فَلَهُ ذلك وَبَطَلَتْ الْجِنَايَةُ وَالْعَبْدُ رَهْنٌ على حَالِهِ هَكَذَا أَطْلَقَ الْكَرْخِيُّ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ وَفَصَّلَ فقال إنْ كان الْعَبْدُ كُلُّهُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كان بَعْضُهُ مَضْمُونًا وَبَعْضُهُ أَمَانَةً فَجِنَايَتُهُ مُعْتَبَرَةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَيُقَالُ لِلرَّاهِنِ إنْ شِئْتَ فَادْفَعْ وَإِنْ شِئْتَ فَافْدِهِ فَإِنْ دَفَعَهُ وَقَبِلَ الْمُرْتَهِنُ بَطَلَ الدَّيْنُ كُلُّهُ وَصَارَ الْعَبْدُ كُلُّهُ لِلرَّاهِنِ وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَنِصْفُ الْفِدَاءِ على الرَّاهِنِ وَنِصْفُهُ على الْمُرْتَهِنِ فما
____________________

(6/167)


كان حِصَّةَ الْمُرْتَهِنِ يَبْطُلُ وما كان حِصَّةَ الرَّاهِنِ يفدي وَالْعَبْدُ رَهْنٌ على حَالِهِ وَاخْتِلَافُهُمْ في جِنَايَةِ الرَّهْنِ على الْمُرْتَهِنِ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ في جِنَايَتِهِ عِنْدَ الْغَصْبِ على الْغَاصِبِ أنها هَدَرٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا مُعْتَبَرَةٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذه جِنَايَةٌ وَرَدَتْ على عير الْمَالِكِ فَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً كما إذَا وَرَدَتْ على أَجْنَبِيٍّ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْجِنَايَاتِ اعْتِبَارُهَا وَسُقُوطُ الِاعْتِبَارِ لِمَكَانِ عَدَمِ الْفَائِدَةِ وَهُنَا في اعْتِبَارِ هذه الْجِنَايَةِ فَائِدَةٌ لِأَنَّ مُوجَبَهَا الدَّفْعُ وَلَهُ فيه فَائِدَةٌ وهو الْوُصُولُ إلَى مِلْكِ الْعَبْدِ وَإِنْ كان فيه سُقُوطُ دَيْنِهِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هذه الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ على غَيْرِ الْمَالِكِ لَكِنَّهَا وُجِدَتْ في ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ فَوُرُودُهَا على غَيْرِ الْمَالِكِ إنْ كان يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً فَوُجُودُهَا في ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ يَقْتَضِي أَنْ لَا تُعْتَبَرَ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْفِدَاءَ عليه وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِمَا فيه من إيجَابِ الضَّمَانِ عليه له وأنه مُحَالٌ فَوَقَعَ الشَّكُّ وَالِاحْتِمَالُ في اعْتِبَارِهَا فَلَا تُعْتَبَرُ
هذا إذَا جَنَى على نَفْسِ الْمُرْتَهِنِ فَأَمَّا إذَا جَنَى على مَالِهِ فَإِنْ كانت قِيمَتُهُ وَالدَّيْنُ سَوَاءً وَلَيْسَ في قِيمَتِهِ فَضْلٌ فَجِنَايَتُهُ هَدَرٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ في اعْتِبَارِ هذه الْجِنَايَةِ إذْ ليس حُكْمُهَا وُجُوبَ الدَّفْعِ إلَى الْمُرْتَهِنِ لِيَمْلِكَهُ بَلْ تَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ فَلَوْ بِيعَ وَأُخِذَ ثَمَنُهُ لَسَقَطَ دَيْنُهُ فلم يَكُنْ في اعْتِبَارِ هذه الْجِنَايَةِ فَائِدَةٌ فَلَا تُعْتَبَرُ
وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَكْثَرَ من الدَّيْنِ فَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ تُعْتَبَرُ الْجِنَايَةُ في قَدْرِ الْأَمَانَةِ وفي رِوَايَةٍ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ أَصْلًا وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْمَانِعَ من الِاعْتِبَارِ كَوْنُ الْعَبْدِ في ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ وَقَدْرُ الْأَمَانَةِ وهو الْفَضْلُ على الدَّيْنِ ليس في ضَمَانِهِ فَأَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْجِنَايَةِ في ذلك الْقَدْرِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ ذلك الْقَدْرَ وَإِنْ لم يَكُنْ مَضْمُونًا فَهُوَ في حُكْمِ الْمَضْمُونِ لِثُبُوتِ حُكْمِ الرَّهْنِ فيه وهو الْحَبْسُ فَيُمْنَعُ الِاعْتِبَارُ
وَأَمَّا جِنَايَةُ الرَّهْنِ على ابْنِ الرَّاهِنِ أو على ابْنِ الْمُرْتَهِنِ فَلَا شَكَّ أنها مُعْتَبَرَةٌ لِأَنَّ الْمَانِعَ من الِاعْتِبَارِ في حَقِّ الرَّاهِنِ هو كَوْنُ الْعَبْدِ مَمْلُوكًا له وفي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ كَوْنُهُ في ضَمَانِهِ ولم يُوجَدْ شَيْءٌ من ذلك هُنَا فَكَانَتْ جِنَايَتُهُ عليه وَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءً
هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ جِنَايَةِ الرَّهْنِ على بَنِي آدَمَ وَأَمَّا حُكْمُ جِنَايَتِهِ على سَائِرِ الْأَمْوَالِ بِأَنْ اسْتَهْلَكَ ما ( ( ( مالا ) ) ) لا ( ( ( يستغرق ) ) ) تستغرق رَقَبَتَهُ فَحُكْمُهَا وَحُكْمُ جِنَايَةِ غَيْرِ الرَّهْنِ سَوَاءٌ وهو تَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ فيه إلَّا إذَا قَضَى الرَّاهِنُ أو الْمُرْتَهِنُ دَيْنَهُ فإذا قَضَاهُ أَحَدُهُمَا فَالْحُكْمُ فيه وَالْحُكْمُ فِيمَا ذُكِرَ من الْفِدَاءِ من جِنَايَتِهِ على بَنِي آدَمَ سَوَاءٌ وهو أَنَّهُ إنْ قَضَى الْمُرْتَهِنُ الدَّيْنَ بَقِيَ دَيْنُهُ وَبَقِيَ الْعَبْدُ رَهْنًا على حَالِهِ لِأَنَّهُ بِالْفِدَاءِ اسْتَفْرَغَ رَقَبَةَ الْعَبْدِ عن الدَّيْنِ وَاسْتَصْفَاهَا عنه فَيَبْقَى الْعَبْدُ رَهْنًا بِدَيْنِهِ كما كان لو فَدَاهُ عن الْجِنَايَةِ
وَإِنْ أَبَى الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَقْضِيَ وَقَضَاهُ الرَّاهِنُ بَطَلَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْفِدَاءِ من الْجِنَايَةِ فَإِنْ امْتَنَعَا عن قَضَاءِ دَيْنِهِ يُبَاعُ الْعَبْدُ بِالدَّيْنِ ويقضي دَيْنُ الْغَرِيمِ من ثَمَنِهِ لِأَنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ على حَقِّ الْمُرْتَهِنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مُقَدَّمٌ على حَقِّ الْمَوْلَى فَعَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ أَوْلَى لِأَنَّهُ دُونَهُ ثُمَّ إذَا بِيعَ الْعَبْدُ وقضى دَيْنُ الْغَرِيمِ من ثَمَنِهِ فَثَمَنُهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فيه وَفَاءٌ بِدَيْنِ الْغَرِيمِ وَإِمَّا إن لم يَكُنْ فيه وَفَاءٌ بِهِ فَإِنْ كان فيه وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ فَدَيْنُهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ منه وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ منه فَإِنْ كان مثله أو أَكْثَرَ منه سَقَطَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ كُلُّهُ لِأَنَّ الْعَبْدَ زَالَ عن مِلْكِ الرَّاهِنِ بِسَبَبٍ وُجِدَ في ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ فَصَارَ كَأَنَّهُ هَلَكَ وما فَضَلَ من ثَمَنِ الْعَبْدِ يَكُونُ لِلرَّاهِنِ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فيه فَيَكُونُ له خَاصَّةً وَإِنْ كان أَقَلَّ منه سَقَطَ من دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ بِقَدْرِهِ وما فَضَلَ من ثَمَنِ الْعَبْدِ يَكُونُ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ بِمَا بَقِيَ لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ فيه فيبقي رَهْنًا
ثُمَّ إنْ كان الدَّيْنُ قد حَلَّ أَخَذَهُ بِدَيْنِهِ إنْ كان من جِنْسِ حَقِّهِ وَإِنْ كان من خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ أَمْسَكَهُ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ وَإِنْ كان الدَّيْنُ لم يَحِلَّ أَمْسَكَهُ بِمَا بَقِيَ من دَيْنِهِ إلَى أَنْ يَحِلَّ
هذا إذَا كان كُلُّ الْعَبْدِ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ فَأَمَّا إذَا كان نِصْفُهُ مَضْمُونًا وَنِصْفُهُ أَمَانَةً لَا يُصْرَفُ الْفَاضِلُ كُلُّهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ بَلْ يُصْرَفُ نِصْفُهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ وَنِصْفُهُ إلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّ قَدْرَ الْأَمَانَةِ لَا دَيْنَ فيه فَيُصْرَفُ ذلك إلَى الرَّاهِنِ وَكَذَلِكَ أن كان قَدْرُ الْمَضْمُونِ منه وَالْأَمَانَةِ على التَّفَاضُلِ يُصْرَفُ الْفَضْلُ إلَيْهِمَا على قَدْرِ تَفَاوُتِ الْمَضْمُونِ وَالْأَمَانَةِ في ذلك لِمَا قُلْنَا
وإن لم يَكُنْ في ثَمَنِ الْعَبْدِ وَفَاءٌ بِدَيْنِ الْغَرِيمِ أَخَذَ الْغَرِيمُ ثَمَنَهُ وما بَقِيَ من دَيْنِهِ يَتَأَخَّرُ إلَى ما بَعْدَ الْعَتَاقِ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ على أَحَدٍ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ من أَحَدٍ إنَّمَا وُجِدَ منه وَحُكْمُهُ تَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ وَاسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ منها فإذا لم تَفِ رَقَبَتُهُ بِالدَّيْنِ يَتَأَخَّرُ ما بَقِيَ إلَى ما بَعْدَ الْعِتْقِ وإذا أُعْتِقَ وَأَدَّى الْبَاقِيَ لَا يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى
____________________

(6/168)


على أَحَدٍ لِأَنَّهُ وَجَبَ عليه بِفِعْلِهِ فَلَا يَرْجِعُ على غَيْرِهِ
وَكَذَلِكَ حُكْمُ جِنَايَةِ وَلَدِ الرَّهْنِ على سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَحُكْمُ جِنَايَةِ الْأُمِّ سَوَاءٌ في أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ كما في الْأُمِّ إلَّا أَنَّ هُنَا لَا يُخَاطَبُ الْمُرْتَهِنُ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْغَرِيمِ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الدَّيْنِ لم يُوجَدْ في ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ وَلِأَنَّ الْوَلَدَ ليس بِمَضْمُونٍ بِخِلَافِ الْأُمِّ بَلْ يُخَاطَبُ الرَّاهِنُ بين أَنْ يَبِيعَ الْوَلَدَ بِالدَّيْنِ وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَخْلِفَهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنْ قَضَى الدَّيْنَ بَقِيَ الْوَلَدُ رَهْنًا كما كان وَإِنْ بِيعَ بِالدَّيْنِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ ليس بِمَضْمُونٍ بِخِلَافِ الْأُمِّ
هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ جِنَايَةِ غَيْرِ الرَّهْنِ على الرَّهْنِ وَحُكْمُ جِنَايَةِ الرَّهْنِ على غَيْرِ الرَّهْنِ فَأَمَّا حُكْمُ جِنَايَةِ الرَّهْنِ على الرَّهْنِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ جِنَايَةُ الرَّهْنِ على الرَّهْنِ نَوْعَانِ جِنَايَةٌ على الرَّهْنِ نَفَسِهِ وَجِنَايَةٌ على جِنْسِهِ أَمَّا جِنَايَتُهُ على نَفَسِهِ فَهِيَ وَالْهَلَاكُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ سَوَاءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان الْعَبْدُ كُلُّهُ مَضْمُونًا سَقَطَ من الدَّيْنِ بِقَدْرِ النُّقْصَانِ وَإِنْ كان بَعْضُهُ مَضْمُونًا وَبَعْضُهُ أَمَانَةً سَقَطَ من الدَّيْنِ قَدْرُ ما انْتَقَصَ من الْمَضْمُونِ لَا من الْأَمَانَةِ
وَأَمَّا جِنَايَةُ الرَّهْنِ على نَفَسِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ أَيْضًا جِنَايَةِ بَنِي آدَمَ على جِنْسِهِ وَجِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ على جِنْسِهَا وَعَلَى غَيْرِ جِنْسِهَا
أَمَّا جِنَايَةُ بَنِي آدَمَ على جِنْسِهِ بِأَنْ كان الرَّهْنُ عَبْدَيْنِ فَجَنَى أَحَدُهُمَا على صَاحِبِهِ فَالْعَبْدَانِ لَا يَخْلُو إما إنْ كَانَا رَهْنًا في صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِمَّا إنْ كَانَا رَهْنًا في صَفْقَتَيْنِ فَإِنْ كَانَا رَهْنًا في صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ فَجَنَى أَحَدُهُمَا على صَاحِبِهِ فَجِنَايَتُهُ لَا تَخْلُو من أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ جِنَايَةِ الْمَشْغُولِ على الْمَشْغُولِ وَجِنَايَةِ الْمَشْغُولِ على الْفَارِغِ وَجِنَايَةِ الْفَارِغِ على الْفَارِغِ وَجِنَايَةِ الْفَارِغِ على الْمَشْغُولِ وَالْكُلُّ هَدَرٌ إلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ جِنَايَةُ الْفَارِغِ على الْمَشْغُولِ فَإِنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ وَيَتَحَوَّلُ ما في الْمَشْغُولِ من الدَّيْنِ إلَى الْفَارِغِ وَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ
أَمَّا جِنَايَةُ الْمَشْغُولِ على الْمَشْغُولِ فَلِأَنَّهَا لو اُعْتُبِرَتْ إمَّا أَنْ تُعْتَبَرَ لِحَقِّ الْمَوْلَى أَعْنِي الرَّاهِنَ وَإِمَّا أَنْ تُعْتَبَرَ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَالِاعْتِبَارُ لِحَقِّ الرَّهْنِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ في الْفُصُولِ كُلِّهَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِلْكُهُ وَجِنَايَةُ الْمَمْلُوكِ على الْمَمْلُوكِ سَاقِطَةُ الِاعْتِبَارِ لِحَقِّ الْمَالِكِ لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا في حَقِّهِ لِوُجُوبِ الدَّفْعِ عليه أو الْفِدَاءِ له وَإِيجَابُ شَيْءٍ على الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ مُمْتَنِعٌ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى على عَبْدِهِ دَيْنٌ وَلَا سَبِيلَ إلَى اعْتِبَارِ جِنَايَةِ الْمَشْغُولِ على الْمَشْغُولِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِحَقِّهِ يُحَوِّلُ ما في الْمَجْنِيِّ عليه من الدَّيْنِ إلَى الْجَانِي وَالْجَانِي مَشْغُولٌ بِدَيْنِ نَفْسِهِ وَالْمَشْغُولُ بِنَفْسِهِ لَا يَشْتَغِلُ بِغَيْرِهِ
وَكَذَلِكَ جِنَايَةُ الْمَشْغُولِ على الْفَارِغِ لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا جِنَايَةُ الْفَارِغِ على الْفَارِغِ فَلِأَنَّهُ لَا دَيْنَ لِلْفَارِغِ لِيَتَحَوَّلَ إلَى الْجَانِي فَلَا يُفِيدُ اعْتِبَارُهَا في حَقِّهِ
وَأَمَّا جِنَايَةُ الْفَارِغِ على الْمَشْغُولِ فَمُمْكِنُ الِاعْتِبَارِ لِحَقٍّ يَتَحَوَّلُ ما فيه من الدَّيْنِ إلَى الْفَارِغِ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ في مَسَائِلَ إذَا كان الدَّيْنُ أَلْفَيْنِ وَالرَّهْنُ عَبْدَيْنِ يُسَاوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أو جَنَى عليه جِنَايَةً فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِمَّا قَلَّ أَرْشُهَا أو كَثُرَ فَجِنَايَتُهُ هَدَرٌ وَيَسْقُطُ الدَّيْنُ الذي كان في الْمَجْنِيِّ عليه بِقَدْرِهِ وَلَا يَتَحَوَّلُ قَدْرُ ما سَقَطَ إلَى الْجَانِي لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَشْغُولٌ كُلُّهُ بِالدَّيْنِ وَجِنَايَةُ الْمَشْغُولِ على الْمَشْغُولِ هَدَرٌ فَجُعِلَ كَأَنَّ الْمَجْنِيَّ عليه هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ
وَلَوْ كان الدَّيْنُ أَلْفًا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَلَا دَفْعَ وَلَا فِدَاءَ وكان الْقَاتِلُ رَهْنًا بِسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ لِأَنَّ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من الدَّيْنِ خَمْسَمِائَةٍ فَكَانَ نِصْفُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَارِغًا وَنِصْفُهُ مَشْغُولًا فإذا قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَقَدْ جَنَى كُلُّ وَاحِدٍ من نِصْفَيْ الْقَاتِلِ على النِّصْفِ الْمَشْغُولِ وَالنِّصْفِ الْفَارِغِ من الْمَجْنِيِّ عليه وَجِنَايَةُ قَدْرِ الْمَشْغُولِ على الْمَشْغُولِ وَقَدْرِ الْمَشْغُولِ على الْفَارِغِ وَقَدْرِ الْفَارِغِ على الْفَارِغِ هَدَرٌ لِمَا بَيَّنَّا فَيَسْقُطُ ما كان فيه شَيْءٌ من الدَّيْنِ وَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْجَانِي وَجِنَايَةُ قَدْرِ الْفَارِغِ على قَدْرِ الْمَشْغُولِ مُعْتَبَرَةٌ فَيَتَحَوَّلُ قَدْرُ ما كان فيه إلَى الْجَانِي وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ وقد كان في الْجَانِي خمسماية ( ( ( خمسمائة ) ) ) فيبقي رَهْنًا بِسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ
وَلَوْ فَقَأَ أَحَدُهُمَا عَيْنَ صَاحِبِهِ تَحَوَّلَ نِصْفُ ما كان من الدَّيْنِ في الْعَيْنِ إلَى الْبَاقِي فَيَصِيرُ الْبَاقِي رَهْنًا بِسِتِّمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ وَبَقِيَ الْمَفْقُوءُ عَيْنُهُ رَهْنًا بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ لِأَنَّ الْعَبْدَ الفاقىء ( ( ( الفاقئ ) ) ) جَنَى على نِصْفِ الْعَبْدِ الْآخَرِ لِأَنَّ الْعَيْنَ من الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ إلَّا أَنَّ ذلك النِّصْفَ نِصْفُهُ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ وَنِصْفُهُ فَارِغٌ من الدَّيْنِ والفاقىء ( ( ( والفاقئ ) ) ) جَنَى على النِّصْفِ الْمَشْغُولِ وَالْفَارِغِ جميعا والفاقىء ( ( ( والفاقئ ) ) ) نِصْفُهُ مَشْغُولٌ وَنِصْفُهُ فَارِغٌ إلَّا أَنَّ جِنَايَةَ الْمَشْغُولِ على قَدْرِ الْمَشْغُولِ وَالْفَارِغِ وَجِنَايَةَ الْفَارِغِ على قَدْرِ الْفَارِغِ وَالْمَشْغُولِ فَقَدْرُ جِنَايَةِ الْفَارِغِ على قَدْرِ الْمَشْغُولِ مُعْتَبَرَةٌ فَيَتَحَوَّلُ قَدْرُ ما كان في الْمَشْغُولِ من الدَّيْنِ إلَى الفاقىء ( ( ( الفاقئ ) ) ) وَذَلِكَ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ
____________________

(6/169)


وَعِشْرُونَ وقد كان في الفاقىء ( ( ( الفاقئ ) ) ) خَمْسُمِائَةٍ فَيَصِيرُ الفاقىء ( ( ( الفاقئ ) ) ) رَهْنًا بِسِتِّمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ وَيَبْقَى الْمَفْقُوءُ عَيْنُهُ رَهْنًا بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ لِانْعِدَامِ وُرُودِ الْجِنَايَةِ على ذلك النِّصْفِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَإِنْ كان الْعَبْدَانِ رَهْنًا في صَفْقَتَيْنِ فَإِنْ كان فِيهِمَا فَضْلٌ على الدَّيْنِ بِأَنْ كان الدَّيْنُ أَلْفًا وَقَدْرُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ تُعْتَبَرُ الْجِنَايَةُ رَهْنًا بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ إذَا تَفَرَّقَتْ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ ما لو رَهَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلًا على حِدَةٍ فَجَنَى أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ وَهُنَاكَ يَثْبُتُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ كَذَا هَهُنَا بِخِلَافِ ما إذَا اتَّحَدَتْ الصَّفْقَةُ
وإذا اُعْتُبِرَتْ الْجِنَايَةُ هُنَا يُخَيَّرُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فَإِنْ شَاءَا جَعَلَا الْقَاتِلَ مَكَانَ الْمَقْتُولِ فَيَبْطُلُ ما كان في القاتل ( ( ( القتل ) ) ) من الدَّيْنِ وَإِنْ شَاءَا فَدَيَا الْقَاتِلَ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ وَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَ الْمَقْتُولِ وَالْقَاتِلُ رَهْنٌ على حَالِهِ
وَإِنْ لم يَكُنْ فِيهِمَا فَضْلٌ على الدَّيْنِ بِأَنْ كان الدَّيْنُ أَلْفَيْنِ وَقِيمَةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَإِنْ دَفَعَاهُ في الْجِنَايَةِ قام الْمَدْفُوعُ مَقَامَ الْمَقْتُولِ وَيَبْطُلُ الدَّيْنُ الذي كان في الْقَاتِلِ وَإِنْ قَالَا نَفْدِي فَالْفِدَاءُ كُلُّهُ على الْمُرْتَهِنِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ليس بِمَضْمُونٍ كل ( ( ( كله ) ) ) بَلْ بَعْضُهُ وَهُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونٌ كُلُّهُ فإذا حَلَّ الدَّيْنُ دَفَعَ الرَّاهِنُ أَلْفًا وَأَخَذَ عَبْدَهُ وَكَانَتْ الْأَلْفُ الْأُخْرَى قِصَاصًا بِهَذِهِ الْأَلْفِ إذَا كان مثله
وَلَوْ فَقَأَ أَحَدُهُمَا عَيْنَ الْآخَرِ قِيلَ لَهُمَا ادْفَعَاهُ أو افْدِيَاهُ فَإِنْ دَفَعَاهُ بَطَلَ ما كان فيه من الدَّيْنِ وَإِنْ فَدَيَاهُ كان الْفِدَاءُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ وكان الْفِدَاءُ رَهْنًا مع الْمَفْقُوءِ عَيْنُهُ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مُعْتَبَرَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَصَارَ كَعَبْدِ الرَّهْنِ إذَا جَنَى على عَبْدٍ أَجْنَبِيٍّ
فَإِنْ قال الْمُرْتَهِنُ أنا لَا أَفْدِي وَلَكِنِّي أَدَعُ الرَّهْنَ على حَالِهِ فَلَهُ ذلك وكان الفاقىء ( ( ( الفاقئ ) ) ) رَهْنًا مَكَانَهُ على حَالِهِ وقد ذَهَبَ نِصْفُ ما كان في الْمَفْقُوءِ من الدَّيْنِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْجِنَايَةِ إنَّمَا كان لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ لَا لِحَقِّ الرَّاهِنِ فإذا رضي الْمُرْتَهِنُ بِهَدْرِ الْجِنَايَةِ صَارَ هَدَرًا
وَإِنْ قال الرَّاهِنُ أنا أَفْدِي وقال الْمُرْتَهِنُ لَا أَفْدِي كان لِلرَّاهِنِ أَنْ يَفْدِيَهُ وَهَذَا إذَا طَلَبَ الْمُرْتَهِنُ حُكْمَ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ إذَا طَلَبَ حُكْمَ الْجِنَايَةِ فَحُكْمُهَا التَّخْيِيرُ وَإِنْ أَبَى الرَّاهِنُ الْفِدَاءَ
وقال الْمُرْتَهِنُ أنا أَفْدِي وَالرَّاهِنُ حَاضِرٌ أو غَائِبٌ فَهُوَ على ما بَيَّنَّا في الْعَبْدِ الْوَاحِدِ
وَأَمَّا جِنَايَةُ الْبَهِيمَةِ على جِنْسِهَا فَهِيَ هَدَرٌ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ أَيْ هَدَرٌ وَالْعَجْمَاءُ الْبَهِيمَةُ وَالْجِنَايَةُ إذَا هُدِرَتْ سَقَطَ اعْتِبَارُهَا وَصَارَ الْهَلَاكُ بها وَالْهَلَاكُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ سَوَاءً وَكَذَلِكَ جِنَايَتُهَا على خِلَافِ جِنْسِهَا هَدَرٌ لِعُمُومِ الحديث وَأَمَّا جِنَايَةُ بَنِي آدَمَ عليها فَحُكْمُهَا وَحُكْمُ جِنَايَتِهِ على سَائِرِ الْأَمْوَالِ سَوَاءٌ وقد بَيَّنَّا ذلك
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَخْرُجُ بِهِ الْمَرْهُونُ عن كَوْنِهِ مَرْهُونًا وَيَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ الرَّهْنِ وما لَا يَخْرُجُ وَلَا يَبْطُلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ يَخْرُجُ الْمَرْهُونُ عن كَوْنِهِ مَرْهُونًا وَيَبْطُلُ الرَّهْنُ بِالْإِقَالَةِ لِأَنَّهَا فَسْخُ الْعَقْدِ وَنَقْضُهُ وَالشَّيْءُ لَا يَبْقَى مع ما يَنْقُضُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُبْطِلُهُ بِنَفْسِ الْإِقَالَةِ من الْعَاقِدَيْنِ ما لم يَرُدَّ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ على الرَّاهِنِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ حتى كان لِلْمُرْتَهِنِ حَبْسُهُ بَعْدَ الْإِقَالَةِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْعَقِدُ في الْحُكْمِ بِدُونِ الْقَبْضِ فَلَا يَتِمُّ فَسْخُهُ بِدُونِ فَسْخِهِ أَيْضًا وَفَسْخُهُ بِالرَّدِّ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا رَهَنَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا بِأَلْفٍ فَقَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ ثُمَّ جاء الرَّاهِنُ بِجَارِيَةٍ وقال لِلْمُرْتَهِنِ خُذْهَا مَكَانَ الْأُولَى وَرُدَّ الْعَبْدَ إلَيَّ لَا شَكَّ أَنَّ هذا جَائِزٌ لِأَنَّ هذا إقَالَةُ الْعَقْدِ في الْأَوَّلِ وَإِنْشَاءُ الْعَقْدِ في الثَّانِي وَهُمَا يَمْلِكَانِ ذلك إلَّا أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ الْأَوَّلُ عن ضَمَانِ الرَّهْنِ إلَّا بِالرَّدِّ على الرَّاهِنِ حتى لو هَلَكَ في يَدِهِ قبل الرَّدِّ يَهْلِكُ بِالدَّيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَبْضَ في هذا الْبَابِ يَجْرِي مَجْرَى الرُّكْنِ حتى لَا يَثْبُتُ الضَّمَانُ بِدُونِهِ فَلَا يَتِمُّ الْفَسْخُ بِدُونِ نَقْضِ الْقَبْضِ وَكَذَا لَا يَدْخُلُ الثَّانِي في الضَّمَانِ إلَّا بِرَدِّ الْأَوَّلِ حتى لو هَلَكَ الثَّانِي في يَدِهِ قبل رَدِّ الْأَوَّلِ يهلك ( ( ( ويهلك ) ) ) أَمَانَةً لِأَنَّ الرَّاهِنَ لم يَرْضَ بِرَهْنِيَّتِهِمَا على الْجَمِيعِ وَإِنَّمَا رضي بِرَهْنِ أَحَدِهِمَا حَيْثُ رَهَنَ الثَّانِيَ وَطَلَبَ رَدَّ الْأَوَّلِ وَالْأَوَّلُ كان مَضْمُونًا بِالْقَبْضِ فما لم يَخْرُجْ عن كَوْنِهِ مضونا ( ( ( مضمونا ) ) ) بِبَعْضِ الْقَبْضِ فيه لَا يَدْخُلُ الثَّانِي في الضَّمَانِ وَلَوْ هَلَكَا جميعا في يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَسَقَطَ الدَّيْنُ بِهَلَاكِ الْعَبْدِ وَهَلَكَتْ الْجَارِيَةُ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ هَلَكَتْ في يَدِهِ فَتَهْلِكُ هَلَاكَ الْأَمَانَاتِ
وَلَوْ قَبَضَ الرَّاهِنُ الْعَبْدَ وسلم الْجَارِيَةَ خَرَجَ عن الضَّمَانِ لِأَنَّهُ خَرَجَ عن كَوْنِهِ مَرْهُونًا وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ مَضْمُونَةً حتى لو هَلَكَتْ تَهْلِكُ بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ رَهَنَهَا بِالدَّيْنِ الذي كان الْعَبْدُ مَرْهُونًا بِهِ وَالْعَبْدُ كان مَضْمُونًا بِذَلِكَ الدَّيْنِ فَكَذَا الْجَارِيَةُ فَإِنْ كانت قِيمَةُ الْعَبْدِ خَمْسَمِائَةٍ وهو رَهْنٌ بِأَلْفٍ وَقِيمَةُ
____________________

(6/170)


الْجَارِيَةِ أَلْفٌ فَهَلَكَتْ تَهْلِكُ بِالْأَلْفِ لِأَنَّهُ رَهَنَ الْجَارِيَةَ بِعَقْدٍ على حِدَةٍ فَكَانَتْ رَهْنًا ابْتِدَاءً إلَّا أَنَّ شَرْطَ كَوْنِهِ مَضْمُونًا رَدُّ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لم يَرْضَ بِرَهْنِهِمَا جميعا إلَّا أَنْ يَكُونَ الثَّانِي بَدَلَ الْأَوَّلِ بَلْ هو مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ في كَوْنِهِ رَهْنًا فَكَانَ الْمَضْمُونُ قَدْرَ قِيمَتِهِ لَا قَدْرَ قِيمَةِ الْأَوَّلِ
وَلَوْ كان الْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفًا وَالْجَارِيَةُ تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَرَدَّ الْعَبْدَ على الرَّاهِنِ وَقَبَضَ الْجَارِيَةَ فَهِيَ رَهْنٌ بِالْأَلْفِ وَلَكِنَّهَا إنْ هَلَكَتْ تَهْلِكُ بِخَمْسِمِائَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الثَّانِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لِكَوْنِهِ مَرْهُونًا بِعَقْدٍ على حِدَةٍ فَيُعْتَبَرُ في الضَّمَانِ قَدْرُ قِيمَتِهِ وَلَا يَخْرُجُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ حتى لو هَلَكَ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ ما اسْتَوْفَى دَيْنَهُ فَعَلَيْهِ رَدُّ ما اسْتَوْفَى وَيَخْرُجُ بِالْإِبْرَاءِ عن الدَّيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَيَبْطُلُ الرَّهْنُ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ في مَوَاضِعَ أُخَرَ من هذا الْكِتَابِ وَلَا يَخْرُجُ بِالْإِعَارَةِ وَيَخْرُجُ بِالْإِجَارَةِ بِأَنْ أَجَرَهُ الرَّاهِنُ من أَجْنَبِيٍّ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ أو الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ أو اسْتَأْجَرَهُ الْمُرْتَهِنُ وَيَبْطُلُ الرَّهْنُ وقد ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَيَخْرُجُ بِالْكِتَابَةِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ إذَا فَعَلَ أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ وَيَخْرُجُ بِالْبَيْعِ بِأَنْ بَاعَهُ الرَّاهِنُ أو الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ أو بَاعَهُ الْعَدْلُ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَرْهُونِ قد زَالَ بِالْبَيْعِ وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ لِأَنَّهُ زَالَ إلَى خَلَفٍ وهو الثَّمَنُ فَبَقِيَ الْعَقْدُ عليه
وَكَذَا في كل مَوْضِعٍ خَرَجَ وَاخْتَلَفَ بَدَلًا وَيَخْرُجُ بِالْإِعْتَاقِ إذَا كان الْمُعْتِقُ مُوسِرًا بِالْإِنْفَاقِ وَإِنْ كان مُعْسِرًا فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَخْرُجُ بِنَاءً على أَنَّ الاعتاق نَافِذٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَنْفُذُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا إعْتَاقٌ تَضَمَّنَ إبْطَالَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَضَمَّنَ إبْطَالَ حَقِّهِ لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالرَّهْنِ وَيَبْطُلُ بِالْإِعْتَاقِ وَعِصْمَةُ حَقِّهِ تَمْنَعُ من الْإِبْطَالِ وَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ الْبَيْعُ كَذَا الْإِعْتَاقُ بِخِلَافِ ما إذَا كان الرَّاهِنُ مُوسِرًا لِأَنَّ هُنَاكَ لم يُوجَدْ الْإِبْطَالُ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَى دَيْنِهِ لِلْحَالِ من جِهَةِ الرَّاهِنِ
وَلَنَا أَنَّ إعْتَاقَهُ صَادَفَ مَوْقُوفًا هو مَمْلُوكُهُ رَقَبَةً فَيَنْفُذُ كَإِعْتَاقِهِ الْآبِقَ وَالْمُسْتَأْجَرَ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مَمْلُوكٌ لِلرَّاهِنِ عَيْنًا وَرَقَبَةً إنْ لم يَكُنْ مَمْلُوكًا يَدًا وَحَبْسًا وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ يَكْفِي لِنَفَاذِ الْإِعْتَاقِ كما في اعتاق الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ وَالْآبِقِ
وَقَوْلُهُ يُبْطِلُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ
قُلْنَا نعم لَكِنْ ضَرُورَةَ بُطْلَانِ مِلْكِ الرَّاهِنِ وَذَا لَا يَمْنَعُ النَّفَاذَ كما في مَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ مع ما أَنَّ الثَّابِتَ لِلرَّاهِنِ حَقِيقَةً الْمِلْكُ وَالثَّابِتَ المرتهن ( ( ( للمرتهن ) ) ) حَقُّ الْحَبْسِ وَلَا شَكَّ أَنَّ اعْتِبَارَ الْحَقِيقَةِ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَقْوَى بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ نَفَاذَهُ يَعْتَمِدُ قِيَامَ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَالْيَدِ جميعا لِأَنَّ الْقُدْرَةَ على تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ شَرْطُ نَفَاذِهِ ولم يُوجَدْ في الْمَرْهُونِ لِأَنَّهُ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ فإذا نَفَذَ إعْتَاقُهُ خَرَجَ الْعَبْدُ عن أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا لِأَنَّهُ صَارَ حُرًّا من كل وَجْهٍ وَالْحُرُّ من وَجْهٍ وهو الْمُدَبَّرُ لَا يَصْلُحُ لِلرَّهْنِ فَالْحُرُّ من كل وَجْهٍ أَوْلَى وَلِهَذَا لم يَصْلُحْ رَهْنًا في حَالَةِ الِابْتِدَاءِ فَكَذَا في حَالَةِ الْبَقَاءِ
ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان الرَّاهِنُ مُوسِرًا وَالدَّيْنُ حَالٌّ يُجْبَرُ الرَّاهِنُ على قَضَائِهِ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الضَّمَانِ وَكَذَلِكَ إنْ كان الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا وقد حَلَّ الْأَجَلُ وَإِنْ كان لم يَحِلَّ غَرِمَ الرَّاهِنُ قِيمَةَ الْعَبْدِ وَأَخَذَهُ الْمُرْتَهِنُ رِضًا مَكَانَهُ وَلَا سِعَايَةَ على الْعَبْدِ
أَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ على الرَّاهِنِ فَلِأَنَّهُ أَبْطَلَ على الْمُرْتَهِنِ حَقَّهُ حَقًّا قَوِيًّا هو في مَعْنَى الْمِلْكِ أو هو مِلْكُهُ من وَجْهٍ لِصَيْرُورَتِهِ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ من مَالِيَّتِهِ من وَجْهٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ وَأَمَّا كَوْنُهُ رَهْنًا فَلِأَنَّهُ بَدَلُ الْعَبْدِ وفي الْحَقِيقَةِ بَدَلُ مَالِيَّتِهِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ وإذا حَلَّ الْأَجَلُ يُنْظَرُ إنْ كانت الْقِيمَةُ من جِنْسِ الدَّيْنِ يستوفي منها دَيْنُهُ فَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَكْثَرَ من الدَّيْنِ رَدَّ الْفَضْلَ على الرَّاهِنِ وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَقَلَّ من الدَّيْنِ يَرْجِعُ بِفَضْلِ الدَّيْنِ على الرَّاهِنِ وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ من خِلَافِ جِنْسِ الدَّيْنِ حَبَسَهَا بِالدَّيْنِ حتى يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ
وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ السِّعَايَةِ على الْعَبْدِ فَلِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه بِسَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وهو الْإِتْلَافُ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ وُجِدَ من الرَّاهِنِ لَا من الْعَبْدِ وَمُؤَاخَذَةُ الْإِنْسَانِ بِالضَّمَانِ من غَيْرِ مُبَاشَرَةِ سَبَبٍ منه خِلَافُ الْأَصْلِ وَكَذَلِكَ لو كان الرَّاهِنُ مُوسِرًا وَقْتَ الْإِعْتَاقِ ثُمَّ أَعْسَرَ بَعْدَ ذلك لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِوَقْتِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ وَقْتُ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَإِنْ كان مُعْسِرًا فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِدَيْنِهِ على الرَّاهِنِ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ في الْأَقَلِّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ وَيُعْتَبَرُ في الْعَبْدِ أَيْضًا أَقَلُّ قِيمَتِهِ وَقْتَ الرَّهْنِ وَوَقْتَ الْإِعْتَاقِ وَيَسْعَى في الْأَقَلِّ مِنْهُمَا وَمِنْ الدَّيْنِ حتى لو كان الدين أَلْفَيْنِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ وَقْتَ الرَّهْنِ أَلْفًا فَازْدَادَتْ قِيمَتُهُ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ حتى صَارَتْ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ وهو مُعْسِرٌ سَعَى الْعَبْدُ في أَلْفٍ قَدْرِ
____________________

(6/171)


قِيمَتِهِ وَقْتَ الرَّهْنِ وَلَوْ انْتَقَصَتْ قِيمَتُهُ حتى صَارَ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ سَعَى في خَمْسِمِائَةٍ قَدْرِ قِيمَتِهِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ
أَمَّا اخْتِيَارُ الرُّجُوعِ على الرَّاهِنِ فَلِأَنَّهُ أَبْطَلَ حَقَّهُ بِالْإِعْتَاقِ وَأَمَّا وِلَايَةُ اسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ فَلِأَنَّ بِالرَّهْنِ صَارَتْ مَالِيَّةُ هذا الْعَبْدِ مَمْلُوكَةً لِلْمُرْتَهِنِ من وَجْهٍ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ من مَالِيَّتِهِ فإذا أَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ فَقَدْ صَارَتْ هذه الْمَالِيَّةُ مُحْتَبَسَةً عِنْدَ الْعَبْدِ فَوَصَلَتْ إلَى الْعَبْدِ بِالْإِتْلَافِ مَالِيَّةٌ مَشْغُولَةٌ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَكَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَسْتَخْرِجَهَا منه وَلَا يُمْكِنُهُ ذلك إلَّا بِاسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَهُ بِخِلَافِ حَالَةِ الْيَسَارِ لِأَنَّ الدَّيْنَ في الْحَقِيقَةِ على الرَّاهِنِ وَإِنَّمَا الْعَبْدُ جُعِلَ مَحَلًّا لِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ منه عِنْدَ تَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ من الرَّاهِنِ على ما هو مَوْضُوعُ الرَّهْنِ في الشَّرْعِ أَنَّ الرَّاهِنَ يُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَعِنْدَ التَّعَذُّرِ يُسْتَوْفَى من الرَّهْنِ كما قبل قبل الْإِعْتَاقِ وَالتَّعَذُّرِ عِنْدَ إعْسَارِ الرَّاهِنِ لَا عِنْدَ يَسَارِهِ فَيَسْعَى في حَالِ الْإِعْسَارِ لَا في حَالِ الْيَسَارِ وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ المشتري قبل الْقَبْضِ إذَا أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي وهو مُفْلِسٌ لَا يَكُونُ لِلْبَائِعِ وِلَايَةُ اسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ بِقَدْرِ الثَّمَنِ وَإِنْ كان مَحْبُوسًا قبل التَّسْلِيمِ بِالثَّمَنِ كَالْمَرْهُونِ مَحْبُوسٌ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِنَفْسِ الْبَيْعِ خَرَجَ عن مِلْكِ الْبَائِعِ من كل وَجْهٍ فلم يُوجَدْ احْتِبَاسُ مَالِيَّةٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْبَائِعِ عِنْدَ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا لِلْبَائِعِ مُجَرَّدُ حَقِّ الْحَبْسِ فإذا خَرَجَ عن مَحَلِّيَّةِ الْحَبْسِ بِالْإِعْتَاقِ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ أَصْلًا وَبَقِيَ حَقُّهُ في مُطَالَبَةِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ فَحَسْبُ أَمَّا هَهُنَا فَبِخِلَافِهِ
وَأَمَّا السِّعَايَةُ في الْأَقَلِّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِسْعَاءَ لِمَكَانِ ضَرُورَةِ الْمَالِيَّةِ الْمَمْلُوكَةِ لِلْمُرْتَهِنِ من وَجْهٍ مُحْتَبَسَةً عِنْدَ الْعَبْدِ فَتُقَدَّرُ السِّعَايَةُ بِقَدْرِ الِاحْتِبَاسِ ثُمَّ إذَا سَعَى الْعَبْدُ يَرْجِعُ بِمَا سَعَى على الرَّاهِنِ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ الرَّاهِنِ من خَالِصِ مِلْكِهِ على وَجْهِ الِاضْطِرَارِ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ عليه السِّعَايَةَ وَالْقَاضِي أَلْزَمَهُ وَمَنْ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ مُضْطَرًّا من مَالِ نَفَسِهِ لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا وَيَرْجِعُ عليه كَالْوَارِثِ إذَا قَضَى دَيْنَ الْمَيِّتِ من مَالِ نَفَسِهِ أَنَّهُ يَرْجِعُ على التَّرِكَةِ كَذَا هذا فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ السِّعَايَةِ شَيْءٌ من الدَّيْنِ رَجَعَ الْمُرْتَهِنُ بِذَلِكَ على الرَّاهِنِ
وَلَوْ نَقَصَ الْعَبْدُ في السِّعْرِ قبل الْإِعْتَاقِ بِأَنْ كان الدَّيْنُ أَلْفًا وَقِيمَةُ الْعَبْدِ وَقْتَ الرَّهْنِ أَلْفًا فَنَقَصَ في السِّعْرِ حتى عَادَتْ قِيمَتُهُ إلَى خَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ وهو مُعْسِرٌ سَعَى في قَدْرِ قِيمَتِهِ وَقْتَ الاعتاق وهو خَمْسُمِائَةٍ فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ على الرَّاهِنِ بِخَمْسِمِائَةٍ أُخْرَى لِأَنَّهُ لم يَصِلْ إلَيْهِ من حَقِّهِ إلَّا قَدْرُ خَمْسِمِائَةٍ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عليه بِالْبَاقِي وَلَوْ لم يَنْقُصْ الْعَبْدُ في السِّعْرِ وَلَكِنَّهُ قَتَلَهُ عَبْدٌ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ فَدُفِعَ مَكَانَهُ فَأَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ وهو مُعْسِرٌ يَسْعَى في قِيمَتِهِ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ على الرَّاهِنِ وَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ على الرَّاهِنِ بِتِسْعِمِائَةٍ لِأَنَّهُ لَمَّا دُفِعَ بِهِ فَقَدْ قام مَقَامَ الْأَوَّلِ لَحْمًا وَدَمًا فَصَارَ رَهْنًا بِجَمِيعِ الْمَالِ كان الْأَوَّلَ قَائِمٌ وَتَرَاجَعَ سِعْرُهُ إلَى مِائَةٍ فَأَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ وهو مُعْسِرٌ
وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَسَعَى في قِيمَتِهِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ على الرَّاهِنِ وكان لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِ على الرَّاهِنِ
كَذَا هذا
وَلَوْ كان الرَّهْنُ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفًا بِأَلْفٍ فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا فَأَعْتَقَهَا الْمَوْلَى وهو مُعْسِرٌ سَعَيَا في أَلْفٍ لِأَنَّ الضَّمَانَ فِيهِمَا أَلْفٌ
وَلَوْ لم تَلِدْ وَلَكِنْ قَتَلَهَا عَبْدٌ قِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَدُفِعَ بها ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى سَعَى في أَلْفِ دِرْهَمٍ لِأَنَّهُ كان مَضْمُونًا بهذا الْقَدْرِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَقْتُولَةِ لَحْمًا وَدَمًا وَهِيَ كانت مَضْمُونَةً بهذا الْقَدْرِ كَذَا هذا
وَلَوْ قال الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ رَهَنْتُكَ عِنْدَ فُلَانٍ وَكَذَّبَهُ الْعَبْدُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وهو مُعْسِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى وَلَزِمَهُ السِّعَايَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ وَلَا سِعَايَةَ عليه
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَوْلَى بهذا الْإِقْرَارِ يُرِيدُ إلْزَامَ السِّعَايَةِ على الْعَبْدِ وَقَوْلُهُ في إلْزَامِ السِّعَايَةِ عليه غَيْرُ مَقْبُولٍ كما لو أَقَرَّ عليه بِذَلِكَ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ
وَلَنَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ عليه لِلْحَالِ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ له عليه لِلْحَالِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ وهو الْمِلْكُ فَيَصِحُّ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى تَكْذِيبِ الْعَبْدِ بِخِلَافِ ما بَعْدَ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ هُنَاكَ أَقَرَّ بِمَا لَا يَمْلِكُ لِلْحَالِ إنْشَاءَهُ لِزَوَالِ مِلْكِ الْوِلَايَةِ بِالْإِعْتَاقِ هذا إذَا أَعْتَقَهُ فَأَمَّا إذَا دَبَّرَهُ فَيَجُوزُ تَدْبِيرُهُ وَيَخْرُجُ عن كَوْنِهِ رَهْنًا أَمَّا جَوَازُ التَّدْبِيرِ فَلِأَنَّهُ يَقِفُ على قِيَامِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ لِجَوَازِ الْإِعْتَاقِ وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ قَائِمٌ بَعْدَ الرَّهْنِ
وَأَمَّا خُرُوجُهُ عن الرَّهْنِ فَلِأَنَّ الْمُدَبَّرَ لَا يَصْلُحُ رَهْنًا لِأَنَّ كَوْنَ الْمَرْهُونِ مَالًا مُطْلَقًا شَرْطُ جَوَازِ الرَّهْنِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَبِالتَّدْبِيرِ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ مَالًا مُطْلَقًا فَيَخْرُجُ عن كَوْنِهِ رَهْنًا وَلِهَذَا لم يَصْلُحْ رَهْنًا ابْتِدَاءً فَكَذَا في حَالَةِ الْبَقَاءِ وَهَلْ يَسْعَى لِلْمُرْتَهِنِ لَا خِلَافَ في أَنَّ الرَّاهِنَ إذَا كان مُعْسِرًا يَسْعَى وَأَمَّا إذَا كان مُوسِرًا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ
____________________

(6/172)


رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَسْعَى وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يَسْعَى وَسَوَّى بين الْمُرْتَهِنِ وَبَيْنَ الْإِعْتَاقِ وهو أَنَّ الدَّيْنَ إنْ كان حَالًّا أَخَذَ الْمُرْتَهِنُ جَمِيعَ دَيْنِهِ من الرَّاهِنِ وَإِنْ كان مُؤَجَّلًا أَخَذَ قِيمَةَ الْعَبْدِ من الرَّاهِنِ وَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ كما في الْإِعْتَاقِ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الدَّيْنَ على الْمَوْلَى وَكَسْبُ الْمُدَبَّرِ مِلْكُ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ بِالتَّدْبِيرِ لم يَخْرُجْ عن مِلْكِ الْمَوْلَى فَكَانَتْ سِعَايَةَ مَالِ الْمَوْلَى فَكَانَ صَرْفُ السِّعَايَةِ إلَى الْمُرْتَهِنِ قَضَاءَ دَيْنِ الْمَوْلَى من مَالِ الْمَوْلَى فَيَسْتَوِي فيه حَالُ الْإِعْسَارِ وَالْيَسَارِ بِخِلَافِ كَسْبِ الْمُعْتَقِ لِأَنَّهُ كَسْبُ الْحُرِّ من كل وَجْهٍ وَكَسْبُ الْحُرِّ من كل وَجْهٍ مِلْكُهُ فَكَانَتْ السِّعَايَةُ مِلْكَهُ وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يُؤْمَرَ الْإِنْسَانُ بِقَضَاءِ دَيْنِ غَيْرِهِ من مَالِ نَفَسِهِ إلَّا عِنْدَ العجز ( ( ( العجر ) ) ) عن الْقَضَاءِ بِنَفْسِهِ فَيَتَقَيَّدُ بِحَالِ الْعَجْزِ وَهِيَ حَالَةُ الْإِعْسَارِ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَنَّ السِّعَايَةَ وَإِنْ كانت مِلْكَ الْمَوْلَى لَكِنْ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ في الْكِتَابَةِ بِسَبَبِ وُجُوبِهَا إذْ لَا صُنْعَ له في التَّدْبِيرِ بَلْ هو فِعْلُ الْمَوْلَى وَمَهْمَا أَمْكَنَ إيجَابُ الضَّمَانِ على من وُجِدَ منه مُبَاشَرَةٌ بِسَبَبِ وُجُوبِهِ كان أَوْلَى من إيجَابِهِ على من لَا صُنْعَ فيه أَصْلًا وَرَأْسًا فإذا كان الْمَوْلَى مُعْسِرًا كان الْإِمْكَانُ ثَابِتًا فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ السِّعَايَةِ على الْعَبْدِ
ثُمَّ إذَا سَعَى في حَالَةِ الْإِعْسَارِ يَسْعَى في جَمِيعِ الدَّيْنِ بَالِغًا ما بَلَغَ
لِأَنَّ السِّعَايَةَ مَالُ الْمَوْلَى فَكَانَ الِاسْتِسْعَاءُ من الْمُرْتَهِنِ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ من مَالِ الْمَوْلَى فَكَانَ له أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِتَمَامِهِ
سَوَاءٌ كان الدَّيْنُ حَالًّا أو مُؤَجَّلًا لِمَا قُلْنَا وَقِيلَ إنْ كان الدَّيْنُ حَالًّا فَكَذَلِكَ فَأَمَّا إذَا كان مُؤَجَّلًا فَلَا يَسْعَى إلَّا في قَدْرِ قِيمَتِهِ وَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ على هذا الْقَوْلِ أَنَّ الدَّيْنَ إذَا كان حَالًّا كان وَاجِبَ الْقَضَاءِ لِلْحَالِ على سَبِيلِ التَّضْيِيقِ وَهَذَا مَالُ الْمَوْلَى فيقضي منه دَيْنُهُ على الْكَمَالِ وإذا كان مُؤَجَّلًا لَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ لِلْحَالِ أَصْلًا وَلَا يَجِبُ على سَبِيلِ التَّضْيِيقِ إلَّا أَنَّ الرَّاهِنَ بِالتَّدْبِيرِ فَوَّتَ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فَتَجِبُ إعَادَةُ حَقِّهِ إلَيْهِ بِعِوَضٍ يَقُومُ مَقَامَهُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ فَيَتَقَدَّرُ الْجَائِزُ بِقَدْرِ الْفَائِتِ فَيَسْتَسْعِيهِ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ وَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ وَلَا يَرْجِعُ الْمُدَبَّرُ بِمَا يَسْعَى على الرَّاهِنِ بِخِلَافِ الْمُعْتَقِ فَوَقَعَ الْفَرْقُ بين التَّدْبِيرِ وَالْإِعْتَاقِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُدَبَّرَ يَسْعَى في جَمِيعِ الدَّيْنِ بَالِغًا ما بَلَغَ وَلَا يُنْظَرُ إلَى الْقِيمَةِ وَالْمُعْتَقَ يَسْعَى في الْأَقَلِّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُدَبَّرَ لَا يَرْجِعُ بِمَا يَسْعَى على الْمَوْلَى وَالْمُعْتَقَ يَرْجِعُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا يَرْجِعُ إلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وهو أَنَّ سِعَايَةَ الْمُدَبَّرِ مِلْكُ مَوْلَاهُ لِكَوْنِ الْمُدَبَّرِ مِلْكَهُ إذْ الْفَائِتُ بِالتَّدْبِيرِ ليس إلَّا مَنْفَعَةَ الْبَيْعِ فَكَانَ الِاسْتِسْعَاءُ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ من مَالِ الْمَوْلَى فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ على التَّمَامِ وَالْكَمَالِ وَلَا يَرْجِعُ بِمَا يَسْعَى على الْمَوْلَى لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ الْمَوْلَى من مَالِ الْمَوْلَى فَكَيْفَ يَرْجِعُ عليه بِخِلَافِ الْمُعْتَقِ لِأَنَّ سِعَايَةَ مِلْكِهِ على الْخُصُوصِ لِأَنَّهُ حُرٌّ خَالِصٌ إلَّا أَنَّهُ لَزِمَتْهُ السِّعَايَةُ لِاسْتِخْرَاجِ مِلْكِ الْمُرْتَهِنِ من وَجْهٍ الْمُحْتَبَسِ عِنْدَهُ وهو مَالٌ فَتَتَقَدَّرُ السِّعَايَةُ بِقَدْرِ الِاحْتِبَاسِ وَيَرْجِعُ بِالسِّعَايَةِ على الْمَوْلَى إذَا كان مُعْسِرًا لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنًا وَاجِبًا عليه من مَالِ نَفَسِهِ مُضْطَرًّا فَيَمْلِكُ الرُّجُوعَ في الشَّرْعِ على ما بَيَّنَّا بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَعَلَى ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا في مَوْضِعٍ ثَالِثٍ أَيْضًا وهو أَنَّ الْمُدَبَّرَ يَسْعَى مع إيسَارِ الْمَوْلَى وَالْمُعْتَقَ لَا يَسْعَى مع إيسَارِهِ وقد بَيَّنَّا وَجْهَ ذلك فِيمَا تَقَدَّمَ
هذا إذَا أُعْتِقَ أو دُبِّرَ فَأَمَّا إذَا اُسْتُوْلِدَ بِأَنْ كان الرَّهْنُ جَارِيَةً فَحَبِلَتْ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ فَادَّعَاهُ الرَّاهِنُ فَدَعْوَاهُ لَا يَخْلُو أما إن كانت قبل وَضْعِ الْحَمْلِ وَإِمَّا إن كانت بَعْدَهُ فَإِنْ كانت قبل وَضْعِ الْحَمْلِ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَيَثْبُتُ نسب الْوَلَدُ منه وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَخَرَجَتْ عن الرَّهْنِ
أَمَّا صِحَّةُ الدَّعْوَةِ فَلِأَنَّ الْجَارِيَةَ مِلْكُهُ من كل وَجْهٍ وَالْمِلْكُ من وَجْهٍ يَكْفِي لِصِحَّةِ الدَّعْوَةِ فَالْمِلْكُ من كل وَجْهٍ أَوْلَى وَثُبُوتُ النَّسَبِ حُكْمُ صِحَّةِ الدَّعْوَةِ وَصَيْرُورَةُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ له حُكْمُ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَخُرُوجُ الْجَارِيَةِ عن الرَّهْنِ حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ وهو صَيْرُورَتُهَا أُمَّ وَلَدٍ له لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تَصْلُحُ لِلرَّهْنِ أَلَا تَرَى أنها لَا تَصْلُحُ رَهْنًا ابْتِدَاءً فَكَذَا في حَالِ الْبَقَاءِ وَلَا سِعَايَةَ على الْوَلَدِ لِأَنَّهُ صَارَ حُرًّا قبل الْوِلَادَةِ فلم يَدْخُلْ في الرَّهْنِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الرَّهْنِ فيه
وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إذَا دَبَّرَهُ الرَّاهِنُ وقد بَيَّنَّا ذلك كُلَّهُ وَإِنْ كانت الْجَارِيَةُ وَضَعَتْ الْحَمْلَ ثُمَّ ادَّعَى الرَّاهِنُ الْوَلَدَ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَثَبَتَ النَّسَبُ وَصَارَ حُرًّا وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَخَرَجَتْ من الرَّهْنِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّ هُنَا صَارَ الْوَلَدُ حُرًّا بعدما دخل في الرَّهْنِ وَصَارَتْ له حِصَّةٌ من الرَّهْنِ فَيُقْسَمُ الدَّيْنُ عَلَيْهِمَا على قَدْرِ قِيمَتِهِمَا إلَّا أَنَّ قِيمَةَ
____________________

(6/173)


الْجَارِيَةِ تُعْتَبَرُ يوم الرَّهْنِ وَقِيمَةَ الْوَلَدِ تُعْتَبَرُ يوم الدَّعْوَةِ فَيَكُونُ حُكْمُ الْجَارِيَةِ في حِصَّتِهَا من الدَّيْنِ حُكْمَ الْمُدَبَّرِ في جَمِيعِ الدَّيْنِ وقد ذَكَرْنَا ذلك وَحُكْمُ الْوَلَدِ في حِصَّتِهِ من الدَّيْنِ حُكْمُ الْمُعْتَقِ في جَمِيعِ ما ذَكَرْنَا وقد بَيَّنَّا ذلك إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يُنْظَرُ إلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ إلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ وَقْتَ الرَّهْنِ وَإِلَى قِيمَتِهِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ وَإِلَى الدَّيْنِ فَيَسْعَى في الْأَقَلِّ من الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ وَهُنَا يُنْظَرُ فَقَطْ إلَى قِيمَةِ الْوَلَدِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ وَإِلَى حِصَّتِهِ من الدَّيْنِ فَيَسْعَى في أَقَلِّهِمَا إذَا كان الرَّاهِنُ مُعْسِرًا وَيَرْجِعُ بِمَا سَعَى عليه
فصل وَأَمَّا حُكْمُ اخْتِلَافِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ وَالْعَدْلِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إذَا كان الدَّيْنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ في قَدْرِ الْمَرْهُونِ بِهِ فقال الرَّاهِنُ إنَّهُ رُهِنَ بِخَمْسِمِائَةٍ وقال الْمُرْتَهِنُ بِأَلْفٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مع يَمِينِهِ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَدَّعِي على الرَّاهِنِ زِيَادَةَ ضَمَانٍ وهو يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ ضَمَانٍ
وَلَوْ قال الرَّاهِنُ رَهَنْتُهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ الذي لك عَلَيَّ وهو أَلْفٌ وَالرَّهْنُ يُسَاوِي أَلْفًا وقال الْمُرْتَهِنُ ارْتَهَنْتُهُ بِخَمْسِمِائَةٍ وَالرَّهْنُ قَائِمٌ فَقَدْ رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ وَيَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا في قَدْرِ ما وَقَعَ عليه الْعَقْدُ وهو الْمَرْهُونُ بِهِ فَأَشْبَهَ اخْتِلَافَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي في مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَهُنَاكَ يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ كَذَا هُنَا فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ قبل أَنْ يَتَحَالَفَا كان كما قال الْمُرْتَهِنُ لِأَنَّ الرَّاهِنَ يَدَّعِي عليه زِيَادَةَ ضَمَانٍ وهو يُنْكِرُ وَإِنْ إتفقا على أَنَّ الرَّهْنَ كان بِأَلْفٍ وَاخْتَلَفَا في قِيمَةِ الْجَارِيَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ الرَّاهِنَ يَدَّعِي عليه زِيَادَةَ ضَمَانٍ وهو يُنْكِرُ وَلِهَذَا كان الْقَوْلُ قَوْلَ الْغَاصِبِ في مِقْدَارِ الضَّمَانِ فَكَذَا هذا
وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ ضَمَانٍ وَكَذَلِكَ لو كان الرَّهْنُ ثَوْبَيْنِ هَلَكَ أَحَدُهُمَا فَاخْتَلَفَا في قِيمَةِ الْهَالِكِ إن الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ في قِيمَةِ الْهَالِكِ وَالْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ في زِيَادَةِ الْقِيمَةِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ لو اخْتَلَفَا في قَدْرِ الرَّهْنِ فقال الْمُرْتَهِنُ رَهَنْتَنِي هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وقال الرَّاهِنُ رَهَنْتُ أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ يُحَلَّفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على دَعْوَى صَاحِبِهِ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا في قد ( ( ( قدر ) ) ) الْمَعْقُودِ عليه وَأَنَّهُ يُوجِبُ التَّحَالُفَ كما في بَابِ الْبَيْعِ
وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ هَكَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ ضَمَانٍ
وَلَوْ قال الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ هَلَكَ الرَّهْنُ في يَدِكَ وقال الْمُرْتَهِنُ قَبَضْتَهُ من ( ( ( مني ) ) ) بَعْدَ الرَّهْنِ فَهَلَكَ في يَدِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا على دُخُولِهِ في الضَّمَانِ وَالْمُرْتَهِنُ يَدَّعِي الْبَرَاءَةَ وَالرَّاهِنُ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَوْ أقاما ( ( ( أقام ) ) ) الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ أَيْضًا لِأَنَّهَا تُثْبِتُ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ وَبَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ تَنْفِي ذلك فَالْمُثْبِتَةُ أَوْلَى
وَلَوْ قال الْمُرْتَهِنُ هَلَكَ في يَدِ الرَّاهِنِ قبل أَنْ أَقْبِضَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الرَّاهِنَ يَدَّعِي دُخُولَهُ في الضَّمَانِ وهو يُنْكِرُ
وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الضَّمَانَ
وَلَوْ كان الرَّهْنُ عَبْدًا فَاعْوَرَّ فَاخْتَلَفَا فقال الرَّاهِنُ كانت الْقِيمَةُ يوم الرَّهْنِ أَلْفًا فَذَهَبَ بِالِاعْوِرَارِ النِّصْفُ خَمْسُمِائَةٍ وقال الْمُرْتَهِنُ لَا بَلْ كانت قِيمَتُهُ يوم الرَّهْنِ خَمْسَمِائَةٍ وَإِنَّمَا ازْدَادَ بَعْدَ ذلك فَإِنَّمَا ذَهَبَ من حَقِّي الرُّبُعُ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِالْحَالِ على الْمَاضِي فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا له
وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ أَيْضًا لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ ضَمَانٍ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَلَوْ كان الدَّيْنُ مِائَةً وَالرَّهْنُ في يَدِ عَدْلٍ فَبَاعَهُ فَاخْتَلَفَا فقال الرَّاهِنُ بَاعَهُ بِمِائَةٍ وقال الْمُرْتَهِنُ بِخَمْسِينَ وَدَفَعَ إلَيَّ وَصَدَّقَ الْعَدْلُ الرَّاهِنَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مع يَمِينِهِ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ خَرَجَ عن كَوْنِهِ مَضْمُونًا بِنَفْسِهِ بِخُرُوجِهِ عن كَوْنِهِ رَهْنًا بِالْمَبِيعِ وَتَحَوَّلَ الضَّمَانُ إلَى الثَّمَنِ فَالرَّاهِنُ يَدَّعِي تَحَوُّلَ زِيَادَةِ ضَمَانٍ وهو يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كماإذا اخْتَلَفَا في مِقْدَارِ قِيمَةِ الرَّهْنِ بَعْدَ هَلَاكِهِ
وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ ضَمَانٍ وَبَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ تَنْفِي تِلْكَ الزِّيَادَةَ فَالْمُثْبِتَةُ أَوْلَى لِأَنَّ اتِّفَاقَهُمَا على الرَّهْنِ اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا على الدُّخُولِ في الضَّمَانِ فَالْمُرْتَهِنُ بِدَعْوَى الْبَيْعِ يَدَّعِي خُرُوجَهُ عن الضَّمَانِ وَتَحَوُّلَ الضَّمَانِ إلَى الثَّمَنِ وَالرَّاهِنُ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ
وَكَذَلِكَ قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه إذَا كان الرَّهْنُ مِثْلَ الدَّيْنِ في الْقِيمَةِ وَالْمُرْتَهِنُ مُسَلَّطٌ على بَيْعِهِ بِأَنْ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ وهو أَلْفٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ قال بِعْتُهُ بِتِسْعِمِائَةٍ لم يُقْبَلْ قَوْلُهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ ضَاعَ وَلَا يَرْجِعُ على الرَّاهِنِ بِالنُّقْصَانِ إلَى أَنْ تَجِيءَ بَيِّنَتُهُ أو يُصَدِّقَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ كان مَضْمُونًا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ في انْتِقَالِ الضَّمَانِ وَكَذَلِكَ الْعَدْلُ إذَا قال بِعْتُ بِتِسْعِمِائَةٍ وَلَا يُعْلَمُ إلَّا بِقَوْلِهِ لم يَكُنْ على الْعَدْلِ إلَّا تِسْعُمِائَةٍ
____________________

(6/174)


وَيَكُونُ الرَّاهِنُ رَاهِنًا بمافيه وَلَا يَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ على الرَّاهِنِ بِالْمِائَةِ الْفَاضِلَةِ لِأَنَّ قَوْلَ العبد ( ( ( العدل ) ) ) مَقْبُولٌ في بَرَاءَةِ نَفَسِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ في إسْقَاطِ الضَّمَانِ عن بَعْضِ ما تَعَلَّقَ بِهِ وَلَا في الرُّجُوعِ على الرَّاهِنِ
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ إذَا كان الْمُرْتَهِنُ مُسَلَّطًا على الْبَيْعِ فَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ بَاعَهُ بِتِسْعَةٍ وَأَقَامَ الرَّاهِنُ بَيِّنَةً أَنَّهُ مَاتَ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ أُخِذَ بِبَيِّنَةِ الْمُرْتَهِنِ
وقال أبو يُوسُفَ يُؤْخَذُ بِبَيِّنَةِ الرَّاهِنِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ بَيِّنَةَ الرَّاهِنِ تُثْبِتُ زِيَادَةَ ضَمَانٍ بِنَفْيِهَا بَيِّنَةَ الْمُرْتَهِنِ فَكَانَتْ الْمُثْبِتَةُ أَوْلَى
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُرْتَهِنِ تُثْبِتُ أَمْرًا لم يَكُنْ وهو تَحَوُّلُ الضَّمَانِ من الْعَيْنِ إلَى الثَّمَنِ وَبَيِّنَةُ الرَّاهِنِ تُقَرِّرُ ضَمَانًا كان ثَابِتًا قبل الْمَوْتِ فَكَانَتْ الْمُثْبِتَةُ أَوْلَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ الْمُزَارَعَةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في مَوَاضِعَ في مَعْنَى الْمُزَارَعَةِ لُغَةً وَشَرْعًا وفي بَيَانِ شَرْعِيَّتِهَا وفي بَيَانِ رُكْنِ الْمُزَارَعَةِ وفي بَيَانِ الشَّرَائِطِ الْمُصَحِّحَةِ لِلرُّكْنِ على قَوْلِ من يُجِيزُ الْمُزَارَعَةَ وَالشَّرَائِطِ الْمُفْسِدَةِ لها وفي بَيَانِ حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ وفي بَيَانِ الْمَعَانِي التي هِيَ عُذْرٌ في فَسْخِ الْمُزَارَعَةِ وفي بَيَانِ الذي يَنْفَسِخُ بِهِ عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا وفي بَيَانِ حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الْمُنْفَسِخَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُزَارَعَةُ في اللُّغَةَ مُفَاعَلَةٌ من الزَّرْعِ وهو الْإِنْبَاتُ وَالْإِنْبَاتُ الْمُضَافُ إلَى الْعَبْدِ مُبَاشَرَةً فِعْلٌ أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَادَةَ بِحُصُولِ النَّبَاتِ عَقِيبَهُ لَا بِتَخْلِيقِهِ وَإِيجَادِهِ وفي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عن الْعَقْدِ على الْمُزَارَعَةِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ بِشَرَائِطِهِ الْمَوْضُوعَةِ له شَرْعًا
فَإِنْ قِيلَ الْمُزَارَعَةُ من بَابِ الْمُفَاعَلَةِ فَيَقْتَضِي وُجُودَ الْفِعْلِ من اثْنَيْنِ كَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَنَحْوِهِمَا وَفِعْلُ الزَّرْعِ يُوجَدُ من الْعَامِلِ دُونَ غَيْرِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُسَمَّى هو مُزَارِعًا دُونَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ وَمَنْ لَا عَمَلَ من جِهَتِهِ فَكَيْفَ يُسَمَّى هذا الْعَقْدُ مُزَارَعَةً فَالْجَوَابُ عنه من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا إن الْمُفَاعَلَةَ جَازَ أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِيمَا لَا يُوجَدُ الْفِعْلُ إلَّا من وَاحِدٍ كَالْمُدَاوَاةِ وَالْمُعَالَجَةِ وَإِنْ كان الْفِعْلُ لَا يُوجَدُ إلَّا من الطَّبِيبِ وَالْمُعَالِجِ وقال اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ { قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } وَلَا أَحَدَ يَقْصِدُ مُقَاتَلَةَ اللَّهِ عز شَأْنَهُ فَكَذَلِكَ الْمُزَارَعَةُ جَازَ أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ
وَالثَّانِي إنْ كان أَصْلُ الْبَابِ ما ذُكِرَ فَقَدْ وُجِدَ الْفِعْلُ هُنَا من اثْنَيْنِ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ مُفَاعَلَةٌ من الزَّرْعِ وَالزَّرْعُ هو الْإِنْبَاتُ لُغَةً وَشَرْعًا وَالْإِنْبَاتُ الْمُتَصَوَّرُ من الْعَبْدِ هو التَّسْبِيبُ لِحُصُولِ النَّبَاتِ وَفِعْلُ التَّسْبِيبِ يُوجَدُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ التَّسْبِيبَ من أَحَدِهِمَا بِالْعَمَلِ وَمِنْ الْآخَرِ بِالتَّمْكِينِ من الْعَمَلِ بِإِعْطَاءِ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ التي لَا يَحْصُلُ الْعَمَلُ بِدُونِهَا عَادَةً فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُزَارِعًا حَقِيقَةً لِوُجُودِ فِعْلِ الزَّرْعِ منه بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ إلَّا أَنَّهُ اُخْتُصَّ الْعَامِلُ بهذا الِاسْمِ في الْعُرْفِ وَمِثْلُ هذا جَائِزٌ كَاسْمِ الدَّابَّةِ وَنَحْوِهِ على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرْعِيَّةُ الْمُزَارَعَةِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيها قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ إنها غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنَّهَا مَشْرُوعَةٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم دَفَعَ نَخْلَ خَيْبَرَ مُعَامَلَةً وَأَرْضَهَا مُزَارَعَةً وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجَوَازُ وَكَذَا هِيَ شَرِيعَةٌ مُتَوَارَثَةٌ لِتَعَامُلِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ذلك من غَيْرِ إنْكَارٍ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ وأنه مَنْهِيٌّ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ
أَمَّا النَّصُّ فما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِرَافِعِ بن خَدِيجٍ في حَائِطٍ لَا تَسْتَأْجِرْهُ بِشَيْءٍ منه وَرُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن قَفِيزِ الطَّحَّانِ وَالِاسْتِئْجَارُ بِبَعْضِ الْخَارِجِ في مَعْنَاهُ وَالْمَنْهِيُّ غَيْرُ مَشْرُوعٍ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الِاسْتِئْجَارَ بِبَعْضِ الْخَارِجِ من النِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَنَحْوِهِ اسْتِئْجَارٌ بِبَدَلٍ مَجْهُولٍ وأنه لَا يَجُوزُ كما في الْإِجَارَةِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ حَدِيثَ خَيْبَرَ مَحْمُولٌ على الْجِزْيَةِ دُونَ الْمُزَارَعَةِ صِيَانَةً لِدَلَائِلِ الشَّرْعِ عن التَّنَاقُضِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ على الْمُزَارَعَةِ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال فيه أُقِرُّكُمْ ما أَقَرَّكُمْ اللَّهُ وَهَذَا منه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَجْهِيلُ الْمُدَّةِ وَجَهَالَةُ الْمُدَّةِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْمُزَارَعَةِ بِلَا خِلَافٍ بَقِيَ تَرْكُ الْإِنْكَارِ على التَّعَامُلِ وَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلْجَوَازِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَدُلُّ على الْجَوَازِ مع الِاحْتِمَالِ

____________________

(6/175)


فَصْلٌ وَأَمَّا رُكْنُ الْمُزَارَعَةِ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وهو أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ دَفَعْتُ إلَيْكَ هذه الْأَرْضَ مزراعة ( ( ( مزارعة ) ) ) بِكَذَا وَيَقُولَ الْعَامِلُ قَبِلْتُ أو رَضِيتُ أو ما يَدُلُّ على قَبُولِهِ وَرِضَاهُ فإذا وُجِدَا تَمَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَهِيَ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ شَرَائِطُ مُصَحِّحَةٌ لِلْعَقْدِ على قَوْلِ من يُجِيزُ الْمُزَارَعَةَ وَشَرَائِطُ مُفْسِدَةٌ له أَمَّا الْمُصَحِّحَةُ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُزَارِعِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الزَّرْعِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى ما عَقَدَ عليه الْمُزَارَعَةَ
وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْآلَةِ لِلْمُزَارَعَةِ وَبَعْضُهَا إلَى الْخَارِجِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَزْرُوعِ فيه وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُزَارِعِ فَنَوْعَانِ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَلَا تَصِحُّ مُزَارَعَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ الْمُزَارَعَةَ دَفْعًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ
وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْمُزَارَعَةِ حتى تَجُوزَ مُزَارَعَةُ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ دَفْعًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ لِأَنَّهَا تِجَارَةٌ فَيَمْلِكُ الْمُزَارَعَةَ وَكَذَلِكَ الْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ فَتَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ من الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ دَفْعًا وَاحِدًا لِمَا ذَكَرْنَا في الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ
وَالثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ مُرْتَدًّا على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في قِيَاسِ قَوْلِ من أَجَازَ الْمُزَارَعَةَ فَلَا تَنْفُذُ مُزَارَعَتُهُ لِلْحَالِ بَلْ هِيَ مَوْقُوفَةٌ وَعِنْدَهُمَا هذا ليس بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْمُزَارَعَةِ وَمُزَارَعَةُ الْمُرْتَدِّ نَافِذَةٌ لِلْحَالِ
بَيَانُ ذلك أَنَّهُ إذَا دَفَعَ الْمُرْتَدُّ أَرْضًا إلَى رَجُلٍ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ أو بِالثُّلُثِ أو بِالرُّبُعِ فَعَمِلَ الرَّجُلُ وَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ زَرْعًا ثُمَّ قُتِلَ الْمُرْتَدُّ أو مَاتَ على الرِّدَّةِ أو لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقُضِيَ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَهَذَا على وَجْهَيْنِ إمَّا إن دَفَعَ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ جميعا مُزَارَعَةً أو دَفَعَ الْأَرْضَ دُونَ الْبَذْرِ فَإِنْ دَفَعَهُمَا جميعا مُزَارَعَةً فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِلْمُزَارِعِ وَلَا شَيْءَ لِوَرَثَةِ الْمُرْتَدِّ لِأَنَّ مُزَارَعَتَهُ كانت مَوْقُوفَةً فإذا مَاتَ أو لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَصِحَّ أَصْلًا فَصَارَ كَأَنَّ الْعَامِلَ زَرَعَ أَرْضَهُ بِبَذْرٍ مَغْصُوبٍ وَمَنْ غَصَبَ من آخَرَ حَبًّا وَبَذَرَ بِهِ أَرْضَهُ فَأَخْرَجَتْ كان الْخَارِجُ له دُونَ صَاحِبِ الْبَذْرِ وَعَلَى الْعَامِلِ مِثْلُ ذلك الْبَذْرِ لِأَنَّهُ مَغْصُوبٌ اسْتَهْلَكَهُ وَلَهُ مِثْلُهُ فَيَلْزَمُهُ مِثْلُهُ
ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كانت الْأَرْضُ نَقَصَتْهَا الْمُزَارَعَةُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَجِبُ عليه الضَّمَانُ وَيَتَصَدَّقُ بِمَا وَرَاءَ قَدْرِ الْبَذْرِ وَنُقْصَانِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ فَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ وَإِنْ كانت لم يَنْقُصْهَا الْمُزَارَعَةُ فَلَا ضَمَانَ عليه لِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ وَإِنْ أَسْلَمَ فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ سَوَاءٌ أَسْلَمَ قبل أَنْ يَسْتَحْصِدَ الزَّرْعُ أو بعدما اسْتَحْصَدَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ تَبَيَّنَ أَنَّ المزراعة ( ( ( المزارعة ) ) ) وَقَعَتْ صَحِيحَةً
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْخَارِجُ على الشَّرْطِ كَيْفَ ما كان لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ نَافِذَةٌ عِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفَاتِ الملسم ( ( ( المسلم ) ) ) فَتَكُونُ حِصَّتُهُ له
فَإِنْ مَاتَ أو لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ
وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ الْأَرْضَ دُونَ الْبَذْرِ فَالْخَارِجُ له أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَنَّهُ لَمَّا لم تَصِحَّ المزراعة ( ( ( المزارعة ) ) ) صَارَ كَأَنَّهُ غَصَبَ أَرْضًا وَبَذَرَهَا بِبَذْرِ نَفْسِهِ فَأَخْرَجَتْ
وَلَوْ كان كَذَلِكَ كان الْخَارِجُ له كَذَا هذا إلَّا أَنَّهُ يَأْخُذُ من ذلك قَدْرَ بَذْرِهِ وَنَفَقَتِهِ وَضَمَانِ النُّقْصَانِ إنْ كانت الْمُزَارَعَةُ نَقَصَتْهَا وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَإِنْ كانت لم تَنْقُصْهَا فَقِيَاسُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ على قِيَاسِ قَوْلِ من أَجَازَ المزراعة ( ( ( المزارعة ) ) ) أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِلْعَامِلِ وَلَا يَلْزَمَهُ نُقْصَانُ الْأَرْضِ وَلَا غَيْرُهُ وفي الِاسْتِحْسَانِ الْخَارِجُ بين الْعَامِلِ وَبَيْنَ وَرَثَةِ الْمُرْتَدِّ على الشَّرْطِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ وَمَنْ غَصَبَ من آخَرَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا بِبَذْرِ نَفْسِهِ ولم تَنْقُصْهَا الزِّرَاعَةُ كان الْخَارِجُ كُلُّهُ له وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ
كَذَا هذا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ انْعِدَامَ صِحَّةِ تَصَرُّفِ الْمُرْتَدِّ بَعْدَ الْمَوْتِ وَاللَّحَاقِ ليس لِمَكَانِ انْعِدَامِ أَهْلِيَّتِهِ لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُنَافِي انْعِدَامَ الْأَهْلِيَّةِ بَلْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ وَرَثَتِهِ بِمَالِهِ لِوُجُودِ أَمَارَةِ الِاسْتِغْنَاءِ بِالرِّدَّةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يُسْلِمُ بَلْ يُقْتَلُ أو يَلْحَقُ بِدَارِ الْحَرْبِ فَيَسْتَغْنِي عن مَالِهِ فَيَثْبُتُ التَّعَلُّقُ نَظَرًا لهم وَنَظَرُهُمْ هُنَا في تَصْحِيحِ التَّصَرُّفِ لَا في إبْطَالِهِ لِيَصِلَ إلَيْهِمْ شَيْءٌ فَأَشْبَهَ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ إذَا آجَرَ نَفْسَهُ وَسَلِمَ من الْعَمَلِ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ تَصَرُّفُهُ بَلْ يُصَحَّحُ حتى تَجِبَ الاجرة لِأَنَّ الْحُكْمَ يبطلان ( ( ( ببطلان ) ) ) تَصَرُّفِهِ لِنَظَرِ المولي وَنَظَرُهُ هَهُنَا في التَّصْحِيحِ دُونَ الْإِبْطَالِ كَذَا هذا وإذا أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ فَالْخَارِجُ على الشَّرْطِ سَوَاءٌ أَسْلَمَ قبل انْقِضَاءِ الْمُزَارَعَةِ أو بَعْدَ انْقِضَائِهَا نَقَصَتْ الزِّرَاعَةُ الْأَرْضَ أو لم تَنْقُصْهَا كما ذَكَرْنَا في الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا الْخَارِجُ على الشَّرْطِ كَيْفَ ما كان أَسْلَمَ أو قُتِلَ أو لَحِقَ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ نَافِذَةٌ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفَاتِ الْمُسْلِمِ
هذا إذَا
____________________

(6/176)


دَفَعَ مُرْتَدٌّ أَرْضَهُ مُزَارَعَةً إلَى مُسْلِمٍ فأما إذَا دَفَعَ مُسْلِمٌ أَرْضَهُ مُزَارَعَةً إلَى مُرْتَدٍّ فَهَذَا على وَجْهَيْنِ أَيْضًا إمَّا إن دَفَعَ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ جميعا أو دَفَعَ الْأَرْضَ دُونَ الْبَذْرِ فَإِنْ دَفَعَهُمَا جميعا مُزَارَعَةً فَعَمِلَ الْمُرْتَدُّ فَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ زَرْعًا كَثِيرًا ثُمَّ قُتِلَ الْمُرْتَدُّ أو مَاتَ أو لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ بين الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ وَرَثَةِ الْمُرْتَدِّ على الشَّرْطِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ انْعِدَامَ صِحَّةِ تَصَرُّفِ الْمُرْتَدِّ لَا لِعَيْنِ رِدَّتِهِ بَلْ لِتَضَمُّنِهِ إبْطَالَ حَقِّ الْوَرَثَةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِمَالِهِ على ما مَرَّ وَعَمَلُ الْمُرْتَدِّ هَهُنَا ليس تَصَرُّفًا في مَالِهِ بَلْ على نَفْسِهِ بِإِيفَاءِ الْمَانِعِ وَلَا حَقَّ لِوَرَثَتِهِ في نَفْسِهِ فَصَحَّتْ الْمُزَارَعَةُ فَكَانَ الْخَارِجُ على الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ
وَإِنْ دَفَعَ الْأَرْضَ دُونَ الْبَذْرِ فَعَمِلَ الْمُرْتَدُّ بِبَذْرِهِ وَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ زَرْعًا فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ على قِيَاسِ قَوْلِ من أَجَازَ الْمُزَارَعَةَ إن الْخَارِجَ كُلَّهُ لِوَرَثَةِ الْمُرْتَدِّ وَلَا يَجِبُ نُقْصَانُ الْأَرْضِ لِأَنَّ عِنْدَهُ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ غَيْرُ نَافِذَةٍ لِلْحَالِ فلم تَنْفُذْ مُزَارَعَتُهُ فَكَانَ الْخَارِجُ حَادِثًا على مِلْكِهِ لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مِلْكِهِ فَكَانَ لِوَرَثَتِهِ وَفِيهِ إشْكَالٌ وهو أَنَّ هذا الْخَارِجَ من أَكْسَابِ رِدَّتِهِ وَكَسْبُ الرِّدَّةِ فَيْءٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَكَيْفَ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ حين بَذَرَ كان حَقُّ الْوَرَثَةِ مُتَعَلِّقًا بِالْبَذْرِ لِمَا مَرَّ من قَبْلُ
فَالْحَاصِلُ منه يَحْدُثُ على مِلْكِهِمْ فَلَا يَكُونُ كَسْبَ الرِّدَّةِ وَلَا يَجِبُ نُقْصَانُ الْأَرْضِ لِأَنَّ ضَمَانَ النُّقْصَانِ يَعْتَمِدُ إتْلَافَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ولم يُوجَدْ إذْ الْمُزَارَعَةُ حَصَلَتْ بِإِذْنِ الْمَالِكِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْخَارِجُ على الشَّرْطِ كما إذَا كان مُسْلِمًا لِمَا ذَكَرْنَا
وَإِنْ أَسْلَمَ فَالْخَارِجُ على الشَّرْطِ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ أَسْلَمَ قبل أَنْ يَسْتَحْصِدَ الزَّرْعُ أو بَعْدَ ما اسْتَحْصَدَ لِمَا ذَكَرْنَا
هذا إذَا كانت الْمُزَارَعَةُ بين مُرْتَدٍّ وَمُسْلِمٍ فَأَمَّا إذَا كانت بين مُسْلِمَيْنِ ثُمَّ ارْتَدَّا أو ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا فَالْخَارِجُ على الشَّرْطِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ لَمَّا كان مُسْلِمًا وَقْتَ الْعَقْدِ صَحَّ التَّصَرُّفُ فَاعْتِرَاضُ الرِّدَّةِ بَعْدَ ذلك لَا تُبْطِلُهُ وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَتَصِحُّ مُزَارَعَتُهَا دَفْعًا وَاحِدًا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِهَا نَافِذَةٌ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفَاتِ الْمُسْلِمَةِ فَتَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ منها دَفْعًا وَاحِدًا بِمَنْزِلَةِ مُزَارَعَةِ الْمُسْلِمَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الزَّرْعِ فَنَوْعٌ وَاحِدٌ وهو أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِأَنْ بَيَّنَ ما يَزْرَعُ لِأَنَّ حَالَ الْمَزْرُوعِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّرْعِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَرُبَّ زَرْعٍ يَزِيدُ في الْأَرْضِ وَرُبَّ زَرْعٍ يَنْقُصُهَا وقد يَقِلُّ النُّقْصَانُ وقد يَكْثُرُ فَلَا بُدَّ من الْبَيَانِ لِيَكُونَ لُزُومُ الضَّرَرِ مُضَافًا إلَى الْتِزَامِهِ إلَّا إذَا قال له ازْرَعْ فيها ما شِئْتَ فَيَجُوزُ له أَنْ يَزْرَعَ فيها ما شَاءَ لِأَنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَيْهِ فَقَدْ رضي بِالضَّرَرِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْغَرْسَ لِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْعَقْدِ الزَّرْعُ دُونَ الْغَرْسِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَزْرُوعِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِعَمَلِ الزِّرَاعَةِ وهو أَنْ يُؤَثِّرَ فيه الْعَمَلُ بِالزِّيَادَةِ بِمَجْرَى الْعَادَةِ لِأَنَّ ما لَا يُؤَثِّرُ فيه الْعَمَلُ بِالزِّيَادَةِ عَادَةً لَا يَتَحَقَّقُ فيه عَمَلُ الزِّرَاعَةِ حتى لو دَفَعَ أَرْضًا فيها زَرْعٌ قد اسْتَحْصَدَ مُزَارَعَةً لم يَجُزْ كَذَا قالوا لِأَنَّ الزَّرْعَ إذَا اسْتَحْصَدَ لَا يُؤَثِّرُ فيه عَمَلُ الزِّرَاعَةِ بِالزِّيَادَةِ فَلَا يَكُونُ قَابِلًا لِعَمَلِ الزِّرَاعَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْخَارِجِ من الزَّرْعِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا في الْعَقْدِ حتى لو سَكَتَ عنه فَسَدَ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ اسْتِئْجَارٌ وَالسُّكُوتُ عن ذِكْرِ الْأُجْرَةِ يُفْسِدُ الْإِجَارَةَ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لَهُمَا حتى لو شَرَطَا أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ لِأَحَدِهِمَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ لِأَنَّ مَعْنَى الشَّرِكَةِ لَازِمٌ لِهَذَا الْعَقْدِ وَكُلُّ شَرْطٍ يَكُونُ قَاطِعًا لِلشَّرِكَةِ يَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ
وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ كل وَاحِدٍ من الْمُزَارِعَيْنِ بَعْضَ الْخَارِجِ حتى لو شَرَطَا أَنْ يَكُونَ من غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ بِهِ تَنْفَصِلُ عن الْإِجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ ذلك الْبَعْضُ من الْخَارِجِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ من النِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ تَرْكَ التَّقْدِيرِ يُؤَدِّي إلَى الْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ وَلِهَذَا شُرِطَ بَيَانُ مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ في الْإِجَارَاتِ
كَذَا هذا
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ جُزْءًا شَائِعًا من الْجُمْلَةِ حتى لو شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا قُفْزَانًا مَعْلُومَةً لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ فيها مَعْنَى الْإِجَارَةِ وَالشَّرِكَةُ تَنْعَقِدُ إجَارَةً ثُمَّ تَتِمُّ شَرِكَةً
أَمَّا مَعْنَى الْإِجَارَةِ فَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ وَالْمُزَارَعَةُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَذْرَ إنْ كان من رَبِّ الْأَرْضِ فَالْعَامِلُ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ من رَبِّ الْأَرْضِ بِعِوَضٍ وهو نَمَاءُ بَذْرِهِ وَإِنْ كان الْبَذْرُ من قِبَلِ الْعَامِلِ فَرَبُّ الْأَرْضِ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ أَرْضِهِ من الْعَامِلِ بِعِوَضٍ هو نَمَاءُ بَذْرِهِ فَكَانَتْ الْمُزَارَعَةُ اسْتِئْجَارًا إمَّا لِلْعَامِلِ وَإِمَّا لِلْأَرْضِ لَكِنْ بِبَعْضِ الْخَارِجِ
وَأَمَّا مَعْنَى الشَّرِكَةِ
____________________

(6/177)


فَلِأَنَّ الْخَارِجَ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ وإذا ثَبَتَ أَنَّ مَعْنَى الْإِجَارَةِ وَالشَّرِكَةِ لَازِمٌ لِهَذَا الْعَقْدِ فَاشْتِرَاطُ قَدْرٍ مَعْلُومٍ من الْخَارِجِ يَنْفِي لُزُومَ مَعْنَى الشَّرِكَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْأَرْضَ لَا تُخْرِجُ زِيَادَةً على الْقَدْرِ الْمَعْلُومِ وَلِهَذَا إذَا شُرِطَ في الْمُضَارَبَةِ سَهْمٌ مَعْلُومٌ من الرِّبْحِ لَا يَصِحُّ
كَذَا هذا وَكَذَا إذَا ذَكَرَ جُزْءًا شَائِعًا وَشَرَطَ معه زِيَادَةَ أَقْفِزَةٍ مَعْلُومَةٍ إنه لَا يَصِحُّ لِمَا قُلْنَا وَعَلَى هذا إذَا شَرَطَ أَحَدُهُمَا الْبَذْرَ لِنَفْسِهِ وَأَنْ يَكُونَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا لَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ لِجَوَازِ أَنْ لَا تُخْرِجَ الْأَرْضُ إلَّا قَدْرَ الْبَذْرِ فَيَكُونَ كُلُّ الْخَارِجِ له فَلَا يُوجَدُ مَعْنَى الشَّرِكَةِ وَلِأَنَّ هذا في الْحَقِيقَةِ شَرَطَ قَدْرَ الْبَذْرِ أَنْ يَكُونَ له لَا عَيْنُ الْبَذْرِ لِأَنَّ عَيْنَهُ تَهْلِكُ في التُّرَابِ وَذَا لَا يَصِحُّ لِمَا ذَكَرْنَا وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ قَدْرَ رَأْسِ الْمَالِ يُرْفَعُ وَيُقْسَمُ الْبَاقِي على الشَّرْطِ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَقْتَضِي الشَّرِكَةَ في الرِّبْحِ لَا في غَيْرِهِ وَدَفْعُ رَأْسِ الْمَالِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الشَّرِكَةِ في الرِّبْحِ
فَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ فَتَقْتَضِي الشَّرِكَةَ في كل الْخَارِجِ وَاشْتِرَاطُ قَدْرٍ مَعْلُومٍ من الْخَارِجِ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الشَّرِكَةِ في كُلِّهِ فَهُوَ الْفَرْقُ بين الْفَصْلَيْنِ وَكَذَا إذَا شَرَطَا ما على الْمَاذِيَانَاتِ وَالسَّوَاقِي لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ لِأَنَّ ما على الْمَاذِيَانَاتِ وَالسَّوَاقِي مَعْلُومٌ فَشَرْطُهُ يَمْنَعُ لُزُومَ الشَّرِكَةِ في الْعَقْدِ وقد رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ في عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ لِأَحَدِهِمَا ما على الْمَاذِيَانَاتِ وَالسَّوَاقِي فلما بُعِثَ النبي الْمُكَرَّمُ عليه أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ أَبْطَلَهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَزْرُوعِ فيه وهو الْأَرْضُ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ حتى لو كانت سَبِخَةً أو نَزَّةً لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ عَقْدُ اسْتِئْجَارٍ لَكِنْ بِبَعْضِ الْخَارِجِ وَالْأَرْضُ السَّبِخَةُ وَالنَّزَّةُ لَا تَجُوزُ إجَارَتُهَا فَلَا تَجُوزُ مُزَارَعَتُهَا
فَأَمَّا إذَا كانت صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ في الْمُدَّةِ لَكِنْ لَا تُمْكِنُ زِرَاعَتُهَا وَقْتَ الْعَقْدِ لِعَارِضٍ من انْقِطَاعِ الْمَاءِ وَزَمَانِ الشِّتَاءِ وَنَحْوِهِ من الْعَوَارِضِ التي هِيَ على شَرَفِ الزَّوَالِ في الْمُدَّةِ تَجُوزُ مُزَارَعَتُهَا كما تَجُوزُ إجَارَتُهَا
وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً فَإِنْ كانت مَجْهُولَةً لَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَلَوْ دَفَعَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً على أَنَّ ما يَزْرَعُ فيها حِنْطَةً فَكَذَا وما يَزْرَعُ فيها شَعِيرًا فَكَذَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْمَزْرُوعَ فيه مَجْهُولٌ لِأَنَّ كَلِمَةَ من لِلتَّبْعِيضِ فَيَقَعُ على بَعْضِ الْأَرْضِ وأنه غَيْرُ مَعْلُومٍ
وَكَذَا لو قال على أَنْ يَزْرَعَ بَعْضَهَا حِنْطَةً وَبَعْضَهَا شَعِيرًا لِأَنَّ التَّنْصِيصَ على التَّبْعِيضِ تَنْصِيصٌ على التَّجْهِيلِ
وَلَوْ قال على أَنَّ ما زَرَعْتَ فيها حِنْطَةً فَكَذَا وما زَرَعْتَ فيها شَعِيرًا فَكَذَا جَازَ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَرْضَ كُلَّهَا ظَرْفًا لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ أو لِزَرْعِ الشَّعِيرِ فَانْعَدَمَ التَّجْهِيلُ وَلَوْ قال على أَنْ أَزْرَعَ فيها بِغَيْرِ كِرَابٍ فَكَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ جَائِزٌ وَهَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّ الْمَزْرُوعَ فيه من الْأَرْضِ مَجْهُولٌ فَأَشْبَهَ ما إذَا قال ما زَرَعَ فيها حِنْطَةً فَكَذَا وما زَرَعَ فيها شَعِيرًا فَكَذَا وَمِنْهُمْ من اشْتَغَلَ بِتَصْحِيحِ جَوَابِ الْكِتَابِ وَالْفَرْقُ بين الْفَصْلَيْنِ على وَجْهٍ لم يَتَّضِحْ
وَلَوْ قال على أَنَّهُ إنْ زَرَعَ حِنْطَةً فَكَذَا وَإِنْ زَرَعَ شَعِيرًا فَكَذَا وَإِنْ زَرَعَ سِمْسِمًا فَكَذَا ولم يذكر منها فَهُوَ جَائِزٌ لِانْعِدَامِ جَهَالَةِ الْمَزْرُوعِ فيه وَجَهَالَةُ الزَّرْعِ لِلْحَالِ ليس بِضَائِرٍ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الِاخْتِيَارَ إلَيْهِ فَأَيُّ ذلك اخْتَارَهُ يَتَعَيَّنُ ذلك الْعَقْدُ بِاخْتِيَارِهِ فِعْلًا كما قُلْنَا في الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ
وَلَوْ زَرَعَ بَعْضَهَا حِنْطَةً وَبَعْضَهَا شَعِيرًا جَازَ لِأَنَّهُ لو زَرَعَ الْكُلَّ حِنْطَةً أو الْكُلَّ شَعِيرًا لَجَازَ فإذا زَرَعَ الْبَعْضَ حِنْطَةً وَالْبَعْضَ شَعِيرًا أَوْلَى
وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مُسَلَّمَةً إلَى الْعَامِلِ مُخَلَّاةً وهو أَنْ يُوجَدَ من صَاحِبِ الْأَرْضِ التَّخْلِيَةُ بين الْأَرْضِ وَبَيْنَ الْعَامِلِ حتى لو شَرَطَ الْعَمَلَ على رَبِّ الْأَرْضِ لَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ لِانْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ فَكَذَا إذَا اشْتَرَطَ فيه عَمَلَهُمَا فَيَمْنَعُ التَّخْلِيَةَ جميعا لِمَا قُلْنَا وَلِهَذَا لو شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ في عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ الْعَمَلَ مع الْمُضَارِبِ لَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يَمْنَعُ وُجُودَ ما هو شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ وهو التَّخْلِيَةُ
كَذَا هذا
وَعَلَى هذا إذَا دَفَعَ أَرْضًا وَبَذْرًا وَبَقَرًا على أَنْ يَزْرَعَ الْعَامِلُ وَعَبْدُ رَبِّ الْأَرْضِ وَلِلْعَامِلِ الثُّلُثُ وَلِرَبِّ الْأَرْضِ الثُّلُثُ وَلِعَبْدِهِ الثُّلُثُ فَهُوَ جَائِزٌ على ما اشْتَرَطَ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ صَارَ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ الذي هو نَمَاءُ مِلْكِهِ فَصَحَّ وَشَرْطُ الْعَمَلِ على عَبْدِهِ لَا يَكُونُ شَرْطًا على نَفْسِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ له يَدُ نَفْسِهِ على كَسْبِهِ لَا يَدُ النِّيَابَةِ عن مَوْلَاهُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَا يَمْنَعُ تَحْقِيقَ التَّخْلِيَةِ فَلَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ وَيَكُونُ نَصِيبُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ وَإِنْ كان الْبَذْرُ من الْعَامِلِ لَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ وَالْبَقَرِ وَالْعَبْدِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ الذي هو نَمَاءُ مِلْكِهِ وَذَا
____________________

(6/178)


لَا يَصِحُّ على ما نَذْكُرُ وَيَكُونُ الْخَارِجُ له وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ وَالْبَقَرِ وَالْعَبْدِ لِأَنَّ هذا حُكْمُ الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ على ما يُذْكَرُ في مَوْضِعِهِ
وَكَذَا لو كان شَرَطَ عَمَلَ رَبِّ الْأَرْضِ مع ذلك كان له أَيْضًا أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ لِأَنَّ هذا شَرْطٌ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى ما عُقِدَ عليه الْمُزَارَعَةُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عليه في بَابِ الْمُزَارَعَةِ مَقْصُودًا من حَيْثُ إنَّهَا إجَارَةُ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا مَنْفَعَةُ الْعَامِلِ بِأَنْ كان الْبَذْرُ من صَاحِبِ الْأَرْضِ وَإِمَّا مَنْفَعَةُ الْأَرْضِ بِأَنْ كان الْبَذْرُ من الْعَامِلِ لِأَنَّ الْبَذْرَ إذَا كان من قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلِ وإذا كان من قِبَلِ الْعَامِلِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ وإذا اجْتَمَعَا في الِاسْتِئْجَارِ فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ فَأَمَّا مَنْفَعَةُ الْبَقَرِ فَإِنْ حَصَلَتْ تَابِعَةً صَحَّتْ الْمُزَارَعَةُ وَإِنْ جُعِلَتْ مَقْصُودَةً فَسَدَتْ
فَصْلٌ وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ بِبَيَانِ أَنْوَاعِ الْمُزَارَعَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْمُزَارَعَةُ أَنْوَاعٌ منها أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالْبَذْرُ وَالْبَقَرُ وَالْآلَةُ من جَانِبٍ وَالْعَمَلُ من جَانِبٍ وَهَذَا جَائِزٌ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلِ لَا غَيْرُ لِيَعْمَلَ له في أَرْضِهِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ الذي هو نَمَاءُ مِلْكِهِ وهو الْبَذْرُ
وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ من جَانِبٍ وَالْبَاقِي كُلُّهُ من جَانِبٍ وَهَذَا أَيْضًا جَائِزٌ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ لَا غَيْرُ بِبَعْضِ الْخَارِجِ الذي هو نَمَاءُ مِلْكِهِ وهو الْبَذْرُ
وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالْبَذْرُ من جَانِبٍ وَالْبَقَرُ وَالْآلَةُ وَالْعَمَلُ من جَانِبٍ فَهَذَا أَيْضًا جَائِزٌ
لِأَنَّ هذا اسْتِئْجَارٌ لِلْعَامِلِ لَا غَيْرُ مَقْصُودًا
فَأَمَّا الْبَذْرُ فَغَيْرُ مُسْتَأْجَرٍ مَقْصُودًا وَلَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ من الْأُجْرَةِ بَلْ هِيَ تَوَابِعُ لِلْمَعْقُودِ عليه وهو مَنْفَعَةُ الْعَامِلِ لِأَنَّهُ آلَةٌ لِلْعَمَلِ فَلَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ من الْعَمَلِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا فَخَاطَ بِإِبْرَةِ نَفْسِهِ جَازَ وَلَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ من الْأُجْرَةِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كان تَابِعًا لِلْمَعْقُودِ عليه فَكَانَ جَارِيًا مَجْرَى الصِّفَةِ لِلْعَمَلِ كان الْعَقْدُ عَقْدًا على عَمَلٍ جَيِّدٍ وَالْأَوْصَافُ لَا قِسْطَ لها من الْعِوَضِ فَأَمْكَنَ أَنْ تَنْعَقِدَ إجَارَةً ثُمَّ تَتِمَّ شَرِكَةً بين مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَبَيْنَ مَنْفَعَةِ الْعَامِلِ
وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالْبَقَرُ من جَانِبٍ وَالْبَذْرُ وَالْعَمَلُ من جَانِبٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لو كان الْأَرْضُ وَالْبَذْرُ من جَانِبٍ جاز وَجُعِلَتْ مَنْفَعَةُ الْبَقَرِ تَابِعَةً لِمَنْفَعَةِ الْعَامِلِ فَكَذَا إذَا كان الْأَرْضُ وَالْبَقَرُ من جَانِبٍ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ وَيُجْعَلَ مَنْفَعَةُ الْبَقَرِ تَابِعَةً لِمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَامِلَ هُنَا يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ وَالْبَقَرِ جميعا مَقْصُودًا بِبَعْضِ الْخَارِجِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ هُنَا لِاخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْبَقَرِ لَيْسَتْ من جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فَبَقِيَتْ أَصْلًا بِنَفْسِهَا فَكَانَ هذا اسْتِئْجَارَ الْبَقَرِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ أَصْلًا وَمَقْصُودًا وَاسْتِئْجَارُ الْبَقَرِ مَقْصُودًا بِبَعْضِ الْخَارِجِ لَا يَجُوزُ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُزَارَعَةَ تَنْعَقِدُ إجَارَةً ثُمَّ تَتِمُّ شَرِكَةً وَلَا يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الشَّرِكَةِ بين مَنْفَعَةِ الْبَقَرِ وَبَيْنَ مَنْفَعَةِ الْعَامِلِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الشَّرِكَةِ بين مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَمَنْفَعَةِ الْعَامِلِ
وَالثَّانِي أَنَّ جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَعْدُومَةٌ وَهِيَ مع انْعِدَامِهَا مَجْهُولَةٌ فَيَقْتَصِرُ جَوَازُهَا على الْمَحَلِّ الذي وَرَدَ النَّصُّ فيه وَذَلِكَ فِيمَا إذَا كانت الْآلَةُ تَابِعَةً فإذا جُعِلَتْ مَقْصُودَةً يُرَدُّ إلَى الْقِيَاسِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ وَالْبَقَرُ من جَانِبٍ وَالْأَرْضُ وَالْعَمَلُ من جَانِبٍ
وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ وَالْعَامِلِ جميعا بِبَعْضِ الْخَارِجِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْمُزَارَعَةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ من جَانِبٍ وَالْبَاقِي كُلُّهُ من جَانِبٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ في هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ أَيْضًا أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَائِزٌ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فَكَذَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ
وَالْجَوَابُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَوَازَ على مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ ثَبَتَ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فَتَبْقَى حَالَةُ الِاجْتِمَاعِ على أَصْلِ الْقِيَاسِ وَطَرِيقُ الْجَوَازِ في هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ أَنْ يَأْخُذَ صَاحِبُ الْبَذْرِ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً ثُمَّ يَسْتَعِيرَ من صَاحِبِهَا لِيَعْمَلَ له فَيَجُوزَ وَالْخَارِجُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ
وَمِنْهَا أَنْ يَشْتَرِكَ جَمَاعَةٌ من أَحَدِهِمْ الْأَرْضُ وَمِنْ الْآخَرِ الْبَقَرُ وَمِنْ الْآخَرِ الْبَذْرُ وَمِنْ الرَّابِعِ الْعَمَلُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِمَا مَرَّ وفي عَيْنِ هذا وَرَدَ الْخَبَرُ بِالْفَسَادِ فإنه روى أَنَّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ اشْتَرَكُوا على عَهْدِ رسول اللَّهِ
____________________

(6/179)


صلى اللَّهُ عليه وسلم على هذا الْوَجْهَ فَأَبْطَلَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مُزَارَعَتَهُمْ وَعَلَى قِيَاسِ ما رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ يَجُوزُ
وَمِنْهَا أَنْ يُشْتَرَطَ في عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْبَذْرِ من قِبَلِ أَحَدِهِمَا وَالْبَعْضُ من قِبَلِ الْآخَرِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا صَاحِبَهُ في قَدْرِ بَذْرِهِ فَيَجْتَمِعُ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ وَالْعَمَلُ من جَانِبٍ وَاحِدٍ وأنه مُفْسِدٌ
وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ من جَانِبٍ وَالْبَذْرُ وَالْبَقَرُ من جَانِبٍ دَفَعَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَرْضَهُ إلَيْهِ على أَنْ يَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ وَبَقَرِهِ مع هذا الرَّجُلِ الْآخَرِ على أَنَّ ما خَرَجَ من شَيْءٍ فَثُلُثُهُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَثُلُثَاهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَالْبَقَرِ وَثُلُثُهُ لِذَلِكَ الْعَامِلِ وَهَذَا صَحِيحٌ في حَقِّ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَالْعَامِلُ الْأَوَّلُ فَاسِدٌ في حَقِّ الْعَامِلِ الثَّانِي وَيَكُونُ ثُلُثُ الْخَارِجِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَثُلُثَاهُ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ وَلِلْعَامِلِ الثَّانِي أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ وكان يَنْبَغِي أَنْ تَفْسُدَ الْمُزَارَعَةُ في حَقِّ الْكُلِّ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ وهو الْعَامِلُ الْأَوَّلُ جَمَعَ بين اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ وقد ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ لِكَوْنِهِ خِلَافَ مَوْرِدِ الشَّرْعِ بِالْمُزَارَعَةِ وَمَعَ ذلك حُكِمَ بِصِحَّتِهَا في حَقِّ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيمَا بين صَاحِبِ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ الْأَوَّلِ وَقَعَ اسْتِئْجَارًا لِلْأَرْضِ لَا غَيْرُ وأنه صَحِيحٌ وَفِيمَا بين الْعَامِلَيْنِ وَقَعَ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ جميعا وأنه غَيْرُ صَحِيحٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الْوَاحِدُ له جِهَتَانِ جِهَةُ الصِّحَّةِ وَجِهَةُ الْفَسَادِ خُصُوصًا في حَقِّ شَخْصَيْنِ فَيَكُونُ صَحِيحًا في حَقِّ أَحَدِهِمَا فَاسِدًا في حَقِّ الْآخَرِ
وَلَوْ كان الْبَذْرُ في هذه الْمَسْأَلَةِ من صَاحِبِ الْأَرْضِ صَحَّتْ الْمُزَارَعَةُ في حَقِّ الْكُلِّ وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمْ على الشَّرْطِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ في هذه الصُّورَةِ يُعْتَبَرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلَيْنِ جميعا وَالْجَمْعُ بين اسْتِئْجَارِ الْعَامِلَيْنِ لَا يَقْدَحُ في صِحَّةِ الْعَقْدِ وإذا صَحَّ الْعَقْدُ كان الْخَارِجُ على الشَّرْطِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى آلَةِ الْمُزَارَعَةِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْبَقَرُ في الْعَقْدِ تَابِعًا فَإِنْ جُعِلَ مَقْصُودًا في الْعَقْدِ تَفْسُدُ الْمُزَارَعَةُ وقد تَقَدَّمَ بَيَانُهُ في الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ بِمَا فيه كِفَايَةٌ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً فَلَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ الْمُدَّةِ لِأَنَّهَا اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ وَلَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ مع جَهَالَةِ الْمُدَّةِ وَهَذَا هو الْقِيَاسُ في الْمُعَامَلَةِ أَنْ لَا تَصِحَّ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ الْمُدَّةِ لِأَنَّهَا اسْتِئْجَارُ الْعَامِلِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ فَكَانَتْ إجَارَةً بِمَنْزِلَةِ الْمُزَارَعَةِ إلَّا أنها جَازَتْ في الِاسْتِحْسَانِ لِتَعَامُلِ الناس ذلك من غَيْرِ بَيَانِ الْمُدَّةِ وَتَقَعُ على أَوَّلِ جُزْءٍ يَخْرُجُ من الثَّمَرَةِ في أَوَّلِ السَّنَةِ لِأَنَّ وَقْتَ ابْتِدَاءِ الْمُعَامَلَةِ مَعْلُومٌ
فَأَمَّا وَقْتُ ابْتِدَاءِ الْمُزَارَعَةِ فَمُتَفَاوِتٌ حتى إنَّهُ لو كان في مَوْضِعٍ لَا يَتَفَاوَتُ يَجُوزُ من غَيْرِ بَيَانِ الْمُدَّةِ وهو على أَوَّلِ زَرْعٍ يَخْرُجُ كَذَا ذَكَرَ محمد بن سَلَمَةَ أَنَّ بَيَانَ الْمُدَّةِ في دِيَارِنَا ليس بِشَرْطٍ كما في الْمُعَامَلَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الْمُفْسِدَةُ لِلْمُزَارَعَةِ فَأَنْوَاعٌ وقد دخل بَعْضُهَا في بَيَانِ الشَّرَائِطِ الْمُصَحِّحَةِ
منها شَرْطُ كَوْنِ الْخَارِجِ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ شَرْطٌ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ التي هِيَ من خَصَائِصِ الْعَقْدِ
وَمِنْهَا شَرْطُ الْعَمَلِ على صَاحِبِ الْأَرْضِ لِأَنَّ ذلك يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ وهو التَّخْلِيَةُ
وَمِنْهَا شَرْطُ الْبَقَرِ عليه لِأَنَّ فيه جَعْلَ مَنْفَعَةِ الْبَقَرِ مَعْقُودًا عليها مَقْصُودَةً في بَابِ الْمُزَارَعَةِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ
وَمِنْهَا شَرْطُ الْعَمَلِ وَالْأَرْضِ جميعا من جَانِبٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ ذلك خِلَافُ مَوْرِدِ الشَّرْعِ الذي هو خِلَافُ الْقِيَاسِ على ما مَرَّ في الْفُصُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ
وَمِنْهَا شَرْطُ الْحَمْلِ وَالْحِفْظِ على الْمُزَارِعِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ ليس من عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ
وَمِنْهَا شَرْطُ الْحَصَادِ وَالرَّفْعِ إلَى الْبَيْدَرِ وَالدِّيَاسُ وَالتَّذْرِيَةُ لِأَنَّ الزَّرْعَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ إذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ صَلَاحُهُ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الزَّرْعُ قبل تَنَاهِيهِ وَإِدْرَاكِهِ وَجَفَافِهِ مِمَّا يَرْجِعُ إلَى إصْلَاحِهِ من السَّقْيِ وَالْحِفْظِ وَقَلْعِ الْحَشَاوَةِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ وَتَسْوِيَةِ الْمُسَنَّاةِ وَنَحْوِهَا فَعَلَى الْمُزَارِعِ لِأَنَّ ما هو الْمَقْصُودُ من الزَّرْعِ وهو النَّمَاءُ لَا يَحْصُلُ بِدُونِهِ عَادَةً فَكَانَ من تَوَابِعِ الْمَعْقُودِ عليه فَكَانَ من عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ فَيَكُونُ على الْمُزَارِعِ وَكُلُّ عَمَلٍ يَكُونُ بَعْدَ تَنَاهِي الزَّرْعِ وَإِدْرَاكِهِ وَجَفَافِهِ قبل قِسْمَةِ الْحَبِّ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِخُلُوصِ الْحَبِّ وَتَنْقِيَتِهِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا على شَرْطِ الْخَارِجِ لِأَنَّهُ ليس من عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ وَلِهَذَا قالوا لو دَفَعَ أَرْضًا مُزَارَعَةً وَفِيهَا زَرْعٌ قد اسْتَحْصَدَ لَا يَجُوزُ لِانْقِضَاءِ وَقْتِ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ إذْ الْعَمَلُ
____________________

(6/180)


فيه بَعْدَ الْإِدْرَاكِ مِمَّا لَا يُفِيدُهُ وَكُلُّ عَمَلٍ يَكُونُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ من الْحَمْلِ إلَى الْبَيْتِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِحْرَازِ الْمَقْسُومِ فَعَلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا في نَصِيبِهِ لِأَنَّ ذلك مُؤْنَةُ مِلْكِهِ فَيَلْزَمُهُ دُونَ غَيْرِهِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ أَجَازَ شَرْطَ الْحَصَادِ وَرَفْعِ الْبَيْدَرِ وَالدِّيَاسِ وَالتَّذْرِيَةِ على الْمُزَارِعِ لِتَعَامُلِ الناس وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ يُفْتُونَ بِهِ أَيْضًا وهو اخْتِيَارُ نُصَيْرِ بن يحيى وَمُحَمَّدِ بن سَلَمَةَ من مَشَايِخِ خُرَاسَانَ وَالْجُذَاذُ في بَابِ الْمُعَامَلَةِ لَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ بِلَا خِلَافٍ
أَمَّا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلَا يُشْكِلُ وَأَمَّا على رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ فَلِانْعِدَامِ التَّعَامُلِ فيه
وَلَوْ بَاعَ الزَّرْعَ قَصِيلًا فَاجْتَمَعَا على أَنْ يَقْصِلَاهُ كان الْقَصْلُ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا في قَدْرِ شَرْطِ الْحَبِّ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الْحَصَادِ
وَمِنْهَا شَرْطُ التِّبْنِ لِمَنْ لَا يَكُونُ الْبَذْرُ من قِبَلِهِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ هذا لَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إن شَرَطَا أَنْ يَكُونَ التِّبْنُ بَيْنَهُمَا وَإِمَّا إن سَكَتَا عنه وَإِمَّا إن شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَإِنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا لَا شَكَّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُقَرَّرٌ مقتضى ( ( ( ومقتضى ) ) ) الْعَقْدِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ في الْخَارِجِ من الزَّرْعِ من مَعَانِي هذا الْعَقْدِ على ما مَرَّ وَإِنْ سَكَتَا عنه يَفْسُدُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَفْسُدُ وَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ مِنْهُمَا وذكر الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مُحَمَّدًا رَجَعَ إلَى قَوْلِ أبي يُوسُفَ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ ما يَسْتَحِقُّهُ صَاحِبُ الْبَذْرِ يَسْتَحِقُّهُ بِبَذْرِهِ لَا بِالشَّرْطِ فَكَانَ شَرْطُ التِّبْنِ وَالسُّكُوتُ عنه بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعْنِي الْحَبَّ وَالتِّبْنَ مَقْصُودٌ من الْعَقْدِ فَكَانَ السُّكُوتُ عن التِّبْنِ بِمَنْزِلَةِ السُّكُوتِ عن الْحَبِّ وَذَا مُفْسِدٌ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا هذا وَإِنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَإِنْ شَرْطَاهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ جَازَ وَيَكُونُ له لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ يستحق ( ( ( يستحقه ) ) ) من غَيْرِ شَرْطٍ لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مِلْكِهِ فَالشَّرْطُ لَا يَزِيدُهُ إلَّا تَأْكِيدًا
وَإِنْ شَرَطَاهُ لِمَنْ لَا بَذْرَ له فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ صَاحِبِ الْبَذْرِ التِّبْنَ بِالْبَذْرِ لَا بِالشَّرْطِ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَنَمَاءُ مِلْكِ الْإِنْسَانِ مِلْكُهُ فَصَارَ شَرْطُ كَوْنِ التِّبْنِ لِمَنْ لَا بَذْرَ من قِبَلِهِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ كَوْنِ الْحَبِّ له وَذَا مُفْسِدٌ
كَذَا هذا
وَمِنْهَا أَنْ يَشْتَرِطَ صَاحِبُ الْأَرْضِ على الْمُزَارِعِ عَمَلًا يَبْقَى أَثَرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ بَعْدَ مُدَّةٍ المزارعة ( ( ( فالمزارعة ) ) ) كَبِنَاءِ الْحَائِطِ والسرقند وَاسْتِحْدَاثِ حَفْرِ النَّهْرِ وَرَفْعِ الْمُسَنَّاةِ وَنَحْوِ ذلك مِمَّا يَبْقَى أَثَرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ إلَى ما بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ
وَأَمَّا الْكِرَابُ فَلَا يَخْلُو في الْأَصْلِ من وَجْهَيْنِ إما إنْ شَرَطَاهُ في الْعَقْدِ وإما إنْ سَكَتَا عنه فَإِنْ سَكَتَا عنه هل يَدْخُلُ تَحْتَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ حتى يُجْبَرَ الْمُزَارِعُ عليه لو امْتَنَعَ أو لَا فَسَنَذْكُرُهُ في حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ شَرَطَاهُ في الْعَقْدِ فَلَا يَخْلُو أَيْضًا من وَجْهَيْنِ إمَّا إن شَرَطَاهُ مُطْلَقًا عن صِفَةِ التَّثْنِيَةِ وَإِمَّا إن شَرَطَاهُ مُقَيَّدًا بها فَإِنْ شَرَطَاهُ مُطْلَقًا عن الصِّفَةِ قال بَعْضُهُمْ إنَّهُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ لِأَنَّ أَثَرَهُ يَبْقَى إلَى ما بَعْدَ الْمُدَّةِ وقال عَامَّتُهُمْ لَا يُفْسِدُ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْكِرَابَ بِدُونِ التَّثْنِيَةِ مِمَّا يُبْطِلُ السَّقْيَ على وَجْهٍ لَا يَبْقَى له أَثَرٌ وَمَنْفَعَةٌ بَعْدَ الْمُدَّةِ فلم يَكُنْ شَرْطُهُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ
وَإِنْ شَرَطَاهُ مع التَّثْنِيَةِ فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ عِبَارَةً عن الْكِرَابِ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً لِلزِّرَاعَةِ وَمَرَّةً بَعْدَ الْحَصَادِ لِيَرُدَّ الْأَرْضَ على صَاحِبِهَا مَكْرُوبَةً وَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ لَا شَكَّ فيه لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ شَرْطُ عَمَلٍ ليس هو من عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ لِأَنَّ الْكِرَابَ بَعْدَ الْحَصَادِ ليس من عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ في هذه السَّنَةِ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عن فِعْلِ الْكِرَابِ مَرَّتَيْنِ قبل الزِّرَاعَةِ وَإِنَّهُ عَمَلٌ يَبْقَى أَثَرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ إلَى ما بَعْدَ الْمُدَّةِ فَكَانَ مُفْسِدًا حتى أنه لو كان في مَوْضِعٍ لَا يَبْقَى لَا يُفْسِدُ
كَذَا قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَلَوْ دَفَعَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً على أَنَّهُ إنْ زَرَعَهَا بِغَيْرِ كِرَابٍ فَلِلْمُزَارِعِ الرُّبُعُ وَإِنْ زَرَعَهَا بِكِرَابٍ فَلَهُ الثُّلُثُ وَإِنْ كَرَبَهَا وَثَنَّاهَا فَلَهُ النِّصْفُ فَهُوَ جَائِزٌ على ما شَرَطَا
كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ وَهَذَا مُشْكِلٌ في شَرْطِ الْكِرَابِ مع التَّثْنِيَةِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُفْسِدٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفْسِدَهَا هذا الشَّرْطُ وإذا عَمِلَ يَكُونُ له أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ
فَأَمَّا شَرْطُ الْكِرَابِ وَعَدَمُهُ فَصَحِيحٌ على الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفْسِدٍ وَبَعْضُهُمْ صَحَّحُوا جَوَابَ الْكِتَابِ وَفَرَّقُوا بين هذا الشَّرْطِ وَبَيْنَ شَرْطِ التَّثْنِيَةِ بِفَرْقٍ لم يَتَّضِحْ
وَفَرَّعَ في الْأَصْلِ فقال وَلَوْ زَرَعَ بَعْضَ الْأَرْضِ بِكِرَابٍ وَبَعْضَهَا بِغَيْرِ كَرَابٍ وَبَعْضَهَا بِثُنْيَانٍ فَهُوَ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَيْنَهُمَا في كل الْأَرْضِ نَافِذٌ على ما شَرَطَا كَذَا في الْأَصْلِ وَهَذَا بِنَاءٌ على الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ إنْ شَرَطَ التَّثْنِيَةَ في كل الْأَرْضِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ ذلك يَصِحُّ في الْبَعْضِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ عِنْدَ من يُجِيزُهَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ لِلْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ أَحْكَامٌ
____________________

(6/181)


منها أَنَّ كُلَّ ما كان من عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ مِمَّا يُحْتَاجُ الزرع إلَيْهِ لِإِصْلَاحِهِ فَعَلَى الْمُزَارِعِ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَهُ وقد بَيَّنَّاهُ وَمِنْهَا أَنَّ كُلَّ ما كان من بَابِ النَّفَقَةِ على الزَّرْعِ من السِّرْقِينِ وَقَلْعِ الْحَشَاوَةِ وَنَحْوِ ذلك فَعَلَيْهِمَا على قَدْرِ حَقِّهِمَا وَكَذَلِكَ الْحَصَادُ وَالْحَمْلُ إلَى الْبَيْدَرِ وَالدِّيَاسُ وَتَذْرِيَتُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذلك ليس من عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ حتى يَخْتَصَّ بِهِ الْمُزَارِعُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ الشَّرْطَ قد صَحَّ فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ وَمِنْهَا أنها إذَا لم تُخْرِجُ الْأَرْضُ شيئا فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا أَجْرُ الْعَمَلِ وَلَا أَجْرُ الْأَرْضِ سَوَاءٌ كان الْبَذْرُ من قِبَلِ الْعَامِلِ أو من قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُ يَجِبُ فيها أَجْرُ الْمِثْلِ وَإِنْ لم تُخْرِجْ الْأَرْضُ شيئا وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَاجِبَ في الْعَقْدِ الصَّحِيحِ هو الْمُسَمَّى وهو بَعْضُ الْخَارِجِ ولم يُوجَدْ الْخَارِجُ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ وَالْوَاجِبُ في الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ أَجْرُ مِثْلِ الْعَمَلِ في الذِّمَّةِ لَا في الْخَارِجِ فَانْعِدَامُ الْخَارِجِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَهُ في الذِّمَّةِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَمِنْهَا أَنَّ هذا الْعَقْدَ غَيْرُ لَازِمٍ في جَانِبِ صَاحِبِ الْبَذْرِ لَازِمٌ في جَانِبِ صَاحِبِهِ لو امْتَنَعَ بَعْدَمَا عقد عَقَدَ الْمُزَارَعَةَ على الصِّحَّةِ وقال لَا أُرِيدُ زِرَاعَةَ الْأَرْضِ له ذلك
سَوَاءٌ كان له عذر أو لم يَكُنْ وَلَوْ امْتَنَعَ صَاحِبُهُ ليس له ذلك إلَّا من عُذْرٍ وَعَقْدُ الْمُعَامَلَةِ لَازِمٌ ليس لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَمْتَنِعَ إلَّا من عُذْرٍ وَالْفَرْقُ بين هذه الْجُمْلَةِ أَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ لَا يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ في الْعَقْدِ إلَّا بِإِتْلَافِ مِلْكِهِ وهو الْبَذْرُ لِأَنَّ الْبَذْرَ يَهْلِكُ في التُّرَابِ فَلَا يَكُونُ الشُّرُوعُ فيه مُلْزِمًا في حَقِّهِ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُجْبَرُ على إتْلَافِ مِلْكِهِ وَلَا كَذَلِكَ من ليس الْبَذْرُ من قِبَلِهِ وَالْمُعَامَلَاتُ لِأَنَّهُ ليس في لُزُومِ الْمَعْنَى إيَّاهُمْ إتْلَافُ مِلْكِهِمْ فَكَانَ الشُّرُوعُ في حَقِّهِمْ مُلْزِمًا وَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا من عُذْرٍ كما في سَائِرِ الْإِجَارَاتِ وَسَوَاءٌ كان الْمُزَارِعُ كَرَبَ الْأَرْضَ أو لم يَكْرُبْهَا لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ في عَمَلِ الْكِرَابِ على ما نَذْكُرُهُ في حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الْمُنْفَسِخَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا وِلَايَةُ جَبْرِ الْمُزَارِعِ على الْكِرَابِ وَعَدَمُهَا وَهَذَا على وَجْهَيْنِ إمَّا إن شَرَطَا الْكِرَابَ في الْعَقْدِ وَإِمَّا أَنْ سَكَتَا عن شَرْطِهِ فَإِنْ شَرْطَاهُ يُجْبَرُ عليه لِأَنَّهُ شَرْطٌ صَحِيحٌ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ وَإِنْ سَكَتَا عنه يُنْظَرُ إنْ كانت الْأَرْضُ مِمَّا يُخْرِجُ الزَّرْعَ بِدُونِ الْكِرَابِ زَرْعًا مُعْتَادًا يُقْصَدُ مِثْلُهُ في عُرْفِ الناس لَا يُجْبَرُ الْمُزَارِعُ عليه وَإِنْ كانت مِمَّا لَا يُخْرِجُ أَصْلًا أو يُخْرِجُ وَلَكِنْ شيئا قَلِيلًا لَا يُقْصَدُ مِثْلُهُ بِالْعَمَلِ يُجْبَرُ على الْكِرَابِ لِأَنَّ مُطْلَقَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ يَقَعُ على الزِّرَاعَةِ الْمُعْتَادَةِ
وَعَلَى هذا إذَا امْتَنَعَ الْمُزَارِعُ عن السَّقْيِ وقال أدعها حتى تَسْقِيَهَا السَّمَاءُ فَهُوَ على قِيَاسِ هذا التَّفْصِيلِ أَنَّهُ إنْ كان الزَّرْعُ مِمَّا يَكْتَفِي بِمَاءِ السَّمَاءِ وَيُخْرِجُ زَرْعًا مُعْتَادًا بِدُونِهِ لَا يُجْبَرُ على السَّقْيِ وَإِنْ كان مع السَّقْيِ أَجْوَدَ فَإِنْ كان مِمَّا لَا يكتفى بِهِ يُجْبَرُ على السَّقْيِ لِمَا قُلْنَا
وَمِنْهَا جَوَازُ الزِّيَادَةِ على الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ من الْخَارِجِ وَالْحَطِّ عنه وَعَدَمُ الْجَوَازِ وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ كُلَّ ما احْتَمَلَ إنْشَاءَ الْعَقْدِ عليه احْتَمَلَ الزِّيَادَةَ وما لَا فَلَا وَالْحَطُّ جَائِزٌ في الْحَالَيْنِ جميعا كما في الزِّيَادَةِ في الثَّمَنِ في بَابِ الْبَيْعِ
إذَا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ في الْمُزَارَعَةِ على وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ من الْمُزَارِعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ من صَاحِبِ الْأَرْضِ وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ من قِبَلِ الْمَزَارِعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ من صَاحِبِ الْأَرْضِ بعدما اسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ أو قبل أَنْ يَسْتَحْصِدَ فَإِنْ كان من بعدما اسْتَحْصَدَ وَالْبَذْرُ من قِبَلِ الْعَامِلِ وَكَانَتْ الْمُزَارَعَةُ على النِّصْفِ مَثَلًا فَزَادَ الْمَزَارِعُ صَاحِبَ الْأَرْضِ السُّدُسَ في حِصَّتِهِ وَجَعَلَ له الثُّلُثَيْنِ وَرَضِيَ بِهِ صَاحِبُ الْأَرْضِ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ نِصْفَانِ وَإِنْ زَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْمَزَارِعَ السُّدُسَ في حِصَّتِهِ وَتَرَاضَيَا فَالزِّيَادَةُ جَائِزَةٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ زِيَادَةٌ على الْأُجْرَةِ بَعْدَ انْتِهَاءِ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عليه وهو الْمَنْفَعَةُ وأنه لَا يَجُوزُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لو أَنْشَآ الْعَقْدَ بَعْدَ الْحَصَادِ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ وَالثَّانِيَ حَطٌّ من الْأُجْرَةِ وأنه لَا يَسْتَدْعِي قِيَامَ الْمَعْقُودِ عليه كما في بَابِ الْبَيْعِ
هذا إذَا كان الْبَذْرُ من قِبَلِ الْعَامِلِ فَإِنْ كان من قِبَلِ صاحب الأرض فزاد صَاحِبِ الْأَرْضِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ زَادَ الْمُزَارِعُ جَازَ لِمَا قُلْنَا
هذا إذَا زَادَ أَحَدُهُمَا بعدما اسْتَحْصَدَ الزَّرْعَ فَإِنْ زَادَ قبل أَنْ يَسْتَحْصِدَ جَازَ أَيُّهُمَا كان لِأَنَّ الْوَقْتَ يَحْتَمِلُ إنْشَاءَ الْعَقْدِ فَيَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ أَيْضًا بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنَّهُ لَا يَجِبُ على الْمُزَارِعِ شَيْءٌ من أَعْمَالِ الْمُزَارَعَةِ لِأَنَّ
____________________

(6/182)


وُجُوبَهُ بِالْعَقْدِ ولم يَصِحَّ
ومنها أَنَّ الْخَارِجَ يَكُونُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ سَوَاءٌ كان رَبَّ الْأَرْضِ أو الْمُزَارِعَ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ صَاحِبِ الْبَذْرِ الْخَارِجَ لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مِلْكِهِ لَا بِالشَّرْطِ لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ بِالْمِلْكِ عن الشَّرْطِ وَاسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ الْخَارِجِ بِالشَّرْطِ وهو الْعَقْدُ فإذا لم يَصِحَّ الشَّرْطُ اسْتَحَقَّهُ صَاحِبُ الْمِلْكِ وَلَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ
وَمِنْهَا أَنَّ الْبَذْرَ إذَا كان من قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ كان لِلْعَامِلِ عليه أَجْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّ الْبَذْرَ إذَا كان من قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ كان هو مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلِ فإذا فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ وَجَبَ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ
وإذا كان الْبَذْرُ من قِبَلِ الْعَامِلِ كان عليه لِرَبِّ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ لِأَنَّ الْبَذْرَ إذَا كان من قِبَلِ الْعَامِلِ يَكُونُ هو مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ فإذا فَسَدَتْ الأجارة يَجِبُ عليه أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ
وَمِنْهَا أَنَّ الْبَذْرَ إذَا كان من قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَاسْتَحَقَّ الْخَارِجَ وَغَرِمَ لِلْعَامِلِ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ له طَيِّبٌ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ من مِلْكِهِ وهو الْبَذْرُ في مِلْكِهِ وهو الْأَرْضُ وإذا كان من قِبَلِ الْعَامِلِ وَاسْتَحَقَّ الْخَارِجَ وَغَرِمَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَجْرَ مِثْلِ أَرْضِهِ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لَا يَطِيبُ له بَلْ يَأْخُذُ من الزَّرْعِ قَدْرَ بَذْرِهِ وَقَدْرَ أَجْرِ مِثْلِ الْأَرْضِ وَيَطِيبُ ذلك له لِأَنَّهُ سُلِّمَ له بِعِوَضٍ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ على ذلك لِأَنَّهُ وَإِنْ تَوَلَّدَ من بَذْرِهِ لَكِنْ في أَرْضِ غَيْرِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَتَمَكَّنَتْ فيه شُبْهَةُ الْخُبْثِ فَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ
وَمِنْهَا أَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ لَا يَجِبُ في الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ ما لم يُوجَدْ اسْتِعْمَالُ الْأَرْضِ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ عَقْدُ إجَارَةٍ وَالْأُجْرَةُ في الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ لَا تَجِبُ إلَّا بِحَقِيقَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَا تَجِبُ بِالتَّخْلِيَةِ لِانْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ فيها حَقِيقَةً إذْ هِيَ عِبَارَةٌ عن رَفْعِ الْمَوَانِعِ وَالتَّمَكُّنِ من الِانْتِفَاعِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا ولم يُوجَدْ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ الصحيح ( ( ( الصحيحة ) ) ) على ما عُرِفَ في الْإِجَارَاتِ
وَمِنْهَا أَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ يَجِبُ في الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ وَإِنْ لم تُخْرِجْ الْأَرْضُ شيئا بَعْدَ أَنْ اسْتَعْمَلَهَا الْمُزَارِعُ وفي الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ إذ لم تُخْرِجْ شيئا لَا يَجِبُ شَيْءٌ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وقد مَرَّ الْفَرْقُ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَمِنْهَا أَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ في الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ يَجِبُ مُقَدَّرًا بِالْمُسَمَّى عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ تَامًّا وَهَذَا إذَا كانت الْأُجْرَةُ وهو حِصَّةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَمَّاةً في الْعَقْدِ فَإِنْ لم يَكُنْ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ تَامًّا بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأَصْلَ في الأجارة وُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وهو تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ وَمَبْنَى الْمُعَاوَضَاتِ على الْمُسَاوَاةِ بين الْبَدَلَيْنِ وَذَلِكَ في وُجُوبِ أَجْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ الْمِثْلُ الْمُمْكِنُ في الْبَابِ إذْ هو قَدْرُ قِيمَةِ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ إلَّا أَنَّ فيه ضَرْبَ جَهَالَةٍ وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عليه تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ فَلَا بُدَّ من تَسْمِيَةِ الْبَدَلِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ فَوَجَبَ الْمُسَمَّى على قَدْرِ قِيمَةِ الْمَنَافِعِ أَيْضًا فإذا لم يَصِحَّ الْعَقْدُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ من شَرَائِطِهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْبَدَلِ الْأَصْلِيِّ لِلْمَنَافِعِ وهو أَجْرُ الْمِثْلِ وَلِهَذَا إذَا لم يُسَمِّ الْبَدَلَ أَصْلًا في الْعَقْدِ وَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا ما بَلَغَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْأَصْلَ ما قَالَهُ مُحَمَّدٌ وهو وُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ بَدَلًا عن الْمَنَافِعِ قِيمَةً لها لِأَنَّهُ هو الْمِثْلُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ لَكِنْ مُقَدَّرًا بِالْمُسَمَّى لِأَنَّهُ كما يَجِبُ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ في الْبَدَلِ في عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ يَجِبُ اعْتِبَارُ التَّسْمِيَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ وَاجِبٌ ما أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ ذلك بِتَقْدِيرِ أَجْرِ الْمِثْلِ بِالْمُسَمَّى لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ ما رضيب ( ( ( رضي ) ) ) الزيادة ( ( ( بالزيادة ) ) ) على الْمُسَمَّى وَالْآجِرُ ما رضي بِالنُّقْصَانِ عنه فَكَانَ اعْتِبَارُ الْمُسَمَّى في تَقْدِيرِ أَجْرِ الْمِثْلِ بِهِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ وَرِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فَكَانَ أَوْلَى بِخِلَافِ ما إذَا لم يَكُنْ الْبَدَلُ مُسَمًّى في الْعَقْدِ لِأَنَّ الْبَدَلَ إذَا لم يَكُنْ مُسَمًّى أَصْلًا لَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ أَجْرِ الْمِثْلِ فَهُوَ الْفَرْقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْمَعَانِي التي هِيَ عُذْرٌ في فَسْخِ الْمُزَارَعَةِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُزَارِعِ
أَمَّا الْأَوَّلُ الذي يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ فَهُوَ الدَّيْنُ الْفَادِحُ الذي لَا قَضَاءَ له إلَّا من ثَمَنِ هذه الْأَرْضِ تُبَاعُ في الدَّيْنِ وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ بهذا الْعُذْرِ إذَا أَمْكَنَ الْفَسْخَ بِأَنْ كان قبل الزِّرَاعَةِ أو بَعْدَهَا إذَا أَدْرَكَ الزَّرْعُ وَبَلَغَ مَبْلَغَ الْحَصَادِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ في الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فَلَا يَلْزَمُهُ تَحَمُّلُ الضَّرَرِ فَيَبِيعُ الْقَاضِي الْأَرْضَ بِدَيْنِهِ أَوَّلًا ثُمَّ يَفْسَخُ الْمُزَارَعَةَ وَلَا تَنْفَسِخُ بِنَفْسِ الْعُذْرِ وَإِنْ لم يُمْكِنْ الْفَسْخُ بِأَنْ كان الزَّرْعُ لم يُدْرِكْ ولم يَبْلُغْ مَبْلَغَ الْحَصَادِ لَا يُبَاعُ في الدَّيْنِ وَلَا يُفْسَخُ إلَى أَنْ يُدْرِكَ الزَّرْعُ لِأَنَّ في الْبَيْعِ إبْطَالَ حَقِّ الْعَامِلِ وفي الِانْتِظَارِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ تَأْخِيرَ حَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ
____________________

(6/183)


وَفِيهِ رِعَايَةُ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى وَيُطْلَقُ من الْحَبْسِ إنْ كان مَحْبُوسًا إلَى غَايَةِ الْإِدْرَاكِ لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الظُّلْمِ وهو الْمَطْلُ وأنه غَيْرُ مُمَاطِلٍ قبل الْإِدْرَاكِ لِكَوْنِهِ مَمْنُوعًا عن بَيْعِ الْأَرْضِ شَرْعًا وَالْمَمْنُوعُ مَعْذُورٌ فإذا أَدْرَكَ الزَّرْعُ يُرَدُّ إلَى الْحَبْسِ ثَانِيًا لِيَبِيعَ أَرْضَهُ وَيُؤَدِّيَ دَيْنَهُ بِنَفْسِهِ وَإِلَّا فَيَبِيعُ الْقَاضِي عليه
وَأَمَّا الثَّانِي الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُزَارِعِ فَنَحْوُ الْمَرَضِ لِأَنَّهُ مُعْجِزٌ عن الْعَمَلِ
وَالسَّفَرِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَتَرْكِ حِرْفَةٍ إلَى حِرْفَةٍ لِأَنَّ من الْحِرَفِ ما لَا يُغْنِي من جُوعٍ فَيَحْتَاجُ إلَى الِانْتِقَالِ إلَى غَيْرِهِ وَمَانِعٍ يَمْنَعُهُ من الْعَمَلِ على ما عُرِفَ في كِتَابِ الْإِجَارَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَنْفَسِخُ بِهِ عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ بَعْدَ وُجُودِهِ فَأَنْوَاعٌ منها الْفَسْخُ وهو نَوْعَانِ صَرِيحٌ وَدَلَالَةٌ
فَالصَّرِيحُ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْفَسْخِ وَالْإِقَالَةِ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ مُشْتَمِلَةٌ على الْإِجَارَةِ وَالشَّرِكَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَابِلٌ لِصَرِيحِ الْفَسْخِ وَالْإِقَالَةِ
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَنَوْعَانِ الْأَوَّلُ امْتِنَاعُ صَاحِبِ الْبَذْرِ عن الْمُضِيِّ في الْعَقْدِ بِأَنْ قال لَا أُرِيدُ مُزَارَعَةَ الْأَرْضِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ لَازِمٍ في حَقِّهِ فَكَانَ بِسَبِيلٍ من الِامْتِنَاعِ عن الْمُضِيِّ فيه من غَيْرِ عُذْرٍ وَيَكُونُ ذلك فَسْخًا منه دَلَالَةً وَالثَّانِي حَجْرُ الْمَوْلَى على الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بعدما دَفَعَ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ مُزَارَعَةً وَبَيَانُ ذلك أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ إذَا دَفَعَ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ مُزَارَعَةً فَحَجَرَهُ الْمَوْلَى قبل الْمُزَارَعَةِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ حتى يَمْلِكَ مَنْعَ الْمُزَارِعِ عن الْمُزَارَعَةِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لم يَقَعْ لَازِمًا من جِهَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ بَذْرٍ فَيَمْلِكُ الْمَوْلَى مَنْعَهُ عن الزِّرَاعَةِ بِالْحَجْرِ كما كان يَمْلِكُ الْعَبْدُ مَنْعَهُ قبل الْحَجْرِ
وَلَوْ كان الْبَذْرُ من جِهَةِ الْمُزَارِعِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ حتى لَا يَمْلِكَ الْمَوْلَى وَلَا الْعَبْدُ مَنْعَ الْمُزَارِعِ عن الْمُزَارَعَةِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَازِمٌ من قِبَلِ صَاحِبِ الْبَذْرِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ مَنْعَهُ من الزِّرَاعَةِ قبل الْحَجْرِ فَلَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى مَنْعَهُ بِالْحَجْرِ أَيْضًا هذا إذَا دَفَعَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً
فَأَمَّا إذَا أَخَذَهَا مُزَارَعَةً فَإِنْ كان الْبَذْرُ من قِبَلِهِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ لِأَنَّهُ إذَا حُجِرَ عليه فَقَدْ عَجَزَ عن الْعَمَلِ وأنه يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عليه
وَإِنْ كان الْبَذْرُ وَالْأَرْضُ من قِبَلِ صَاحِبِ الْبَذْرِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالْحَجْرِ لِأَنَّهُ بِالْحَجْرِ لم يَعْجَزْ عن الْعَمَلِ إلَّا أَنَّ لِلْمَوْلَى مَنْعَهُ عن الْعَمَلِ لِمَا فيه من إتْلَافِ مِلْكِهِ وهو الْبَذْرُ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ ما لَا يَنْفَسِخَ بِالْحَجْرِ
هذا إذَا حَجَرَ على الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَأَمَّا إذَا لم يَحْجُرْ عليه وَلَكِنْ نَهَاهُ عن الزِّرَاعَةِ أو فَسَخَ الْعَقْدَ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ أو نهي قبل ذلك إلَّا أَنَّهُ لم يَحْجُرْ عليه فَالنَّهْيُ بَاطِلٌ وَكَذَلِكَ نَهْيُ الْأَبِ الصَّبِيَّ الْمَأْذُونَ قبل عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ أو بَعْدَهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ النَّهْيَ عن الزِّرَاعَةِ وَالْفَسْخَ بَعْدَهَا من بَابِ تَخْصِيصِ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ وَالْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ
وَمِنْهَا انْقِضَاءُ مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ لِأَنَّهَا إذَا انْقَضَتْ فَقَدْ انْتَهَى الْعَقْدُ وهو مَعْنَى الِانْفِسَاخِ
وَمِنْهَا مَوْتُ صَاحِبِ الْأَرْضِ سَوَاءٌ مَاتَ قبل الزِّرَاعَةِ أو بَعْدَهَا
وَسَوَاءٌ أَدْرَكَ الزَّرْعُ أو هو بَقْلٌ لِأَنَّ الْعَقْدَ أَفَادَ الْحُكْمَ له دُونَ وَارِثِهِ لِأَنَّهُ عَاقِدٌ لِنَفْسِهِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ من عَقَدَ لِنَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فَحُكْمُ تَصَرُّفِهِ يَقَعُ له لَا لِغَيْرِهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ
وَمِنْهَا مَوْتُ الْمُزَارِعِ سَوَاءٌ مَاتَ قبل الزِّرَاعَةِ أو بَعْدَهَا بَلَغَ الزَّرْعُ حَدَّ الْحَصَادِ أو لم يَبْلُغْ لِمَا ذَكَرْنَا
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الْمُنْفَسِخَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ لَا يَخْلُو من وَجْهَيْنِ إمَّا إن انْفَسَخَتْ قبل الزِّرَاعَةِ أو بَعْدَهَا فَإِنْ انْفَسَخَتْ قبل الزِّرَاعَةِ لَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ وَإِنْ كَرَبَ الْأَرْضَ وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ وَسَوَّى الْمُسَنَّيَاتِ بِأَيِّ طَرِيقٍ انْفَسَخَ
سَوَاءٌ انْفَسَخَ بِصَرِيحِ الْفَسْخِ أو بِدَلِيلِهِ أو بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أو بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِأَنَّ الْفَسْخَ يَظْهَرُ أَثَرُهُ في الْمُسْتَقْبَلِ بِانْتِهَاءِ حُكْمِهِ لَا في الْمَاضِي فَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعَقْدَ لم يَكُنْ صَحِيحًا وَالْوَاجِبُ في الْعَقْدِ الصَّحِيحِ الْمُسَمَّى وهو بَعْضُ الْخَارِجِ ولم يُوجَدْ فَلَا شَيْءَ
وَقِيلَ هذا جَوَابُ الْحُكْمِ فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى عليه أَنْ يُرْضِيَ الْعَامِلَ فِيمَا إذَا امْتَنَعَ عن الْمُضِيِّ في الْعَقْدِ قبل الزِّرَاعَةِ وَلَا يَحِلُّ له الِامْتِنَاعُ شَرْعًا فإنه يُشْبِهُ التعزير ( ( ( التغرير ) ) ) وَإِنَّهُ حَرَامٌ وَإِنْ انْفَسَخَتْ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ فَإِنْ كان الزَّرْعُ قد أَدْرَكَ وَبَلَغَ فَالْحَصَادُ وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ وَإِنْ كان لم يُدْرِكْ فَكَذَا الْجَوَابُ في صَرِيحِ الْفَسْخِ وَدَلِيلِهِ وَانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ الزَّرْعَ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ وَالْعَمَلُ فِيمَا بَقِيَ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ عَلَيْهِمَا وَعَلَى الْمُزَارِعِ أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ
أَمَّا الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ فَلِمَا مَرَّ أَنَّ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ في الْمُسْتَقْبَلِ لَا في الْمَاضِي فَبَقِيَ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا على ما كان قبل الِانْفِسَاخِ
وَأَمَّا الْعَمَلُ فِيمَا بَقِيَ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ
____________________

(6/184)


عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ عَمَلٌ في مَالٍ مُشْتَرَكٍ لم يُشْتَرَطْ الْعَمَلُ فيه على أَحَدِهِمَا فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى الْمُزَارِعِ أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ لِأَنَّ الْعَقْدَ قد انْفَسَخَ وفي الْقَلْعِ ضَرَرٌ بِالْمُزَارِعِ وفي التَّرْكِ بِغَيْرِ أَجْرٍ ضَرَرٌ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ فَكَانَ التَّرْكُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ نَظَرًا من الْجَانِبَيْنِ بِخِلَافِ ما إذَا مَاتَ صَاحِبُ الْأَرْضِ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ أَنَّ الْعَمَلَ يَكُونُ على الْمُزَارِعِ خَاصَّةً لِأَنَّ هُنَاكَ انْفَسَخَ الْعَقْدُ حَقِيقَةً لِوُجُودِ سَبَبِ الْفَسْخِ وهو الْمَوْتُ إلَّا أَنَّا بَقَّيْنَاهُ تَقْدِيرًا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عن الْمُزَارِعِ لِأَنَّهُ لو انْفَسَخَ لَثَبَتَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ حَقُّ الْقَلْعِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمُزَارِعِ فَجُعِلَ هذا عُذْرًا في بَقَاءِ الْعَقْدِ تَقْدِيرًا فإذا بَقِيَ الْعَقْدُ كان الْعَمَلُ على الْمُزَارِعِ خَاصَّةً كما كان قبل الْمَوْتِ وَهَذَا لَا يَتَّضِحُ فَإِنْ اتَّفَقَ أَحَدُهُمَا من غَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وَمِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّرْعَ بَقْلًا لم يَكُنْ له ذلك لِأَنَّ فيه ضَرَرًا بِالْمُزَارِعِ وَلَوْ أَرَادَ الْمُزَارِعُ أَنْ يَأْخُذَهُ بَقْلًا فَصَاحِبُ الْأَرْضِ بين خِيَارَاتٍ ثَلَاثٍ إنْ شَاءَ قَلَعَ الزَّرْعَ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى الْمُزَارِعَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ من الزَّرْعِ وَإِنْ شَاءَ أَنْفَقَ هو على الزَّرْعِ من مَالِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ على الْمُزَارِعِ بِحِصَّتِهِ لِأَنَّ فيه رِعَايَةَ الْجَانِبَيْنِ
وَأَمَّا في مَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَمَّا إذَا مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ بَعْدَ ما دَفَعَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً ثَلَاثَ سِنِينَ وَنَبَتَ الزَّرْعُ وَصَارَ بَقْلًا تُتْرَكُ الْأَرْضُ في يَدَيْ الْمُزَارِعِ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ وَيُقْسَمُ على الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ في التَّرْكِ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ نَظَرًا من الْجَانِبَيْنِ وفي الْقَلْعِ إضْرَارًا بِأَحَدِهِمَا وهو الْمُزَارِعُ وَيَكُونُ الْعَمَلُ على الْمُزَارِعِ خَاصَّةً لِبَقَاءِ الْعَقْدِ تَقْدِيرًا في هذه السَّنَةِ في هذا الزَّرْعِ وَإِنْ مَاتَ الْمُزَارِعُ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ فقال وَرَثَتُهُ نَحْنُ نَعْمَلُ على شَرْطِ الْمُزَارَعَةِ وَأَبَى ذلك صَاحِبُ الْأَرْضِ فَالْأَمْرُ إلَى وَرَثَةِ الْمُزَارِعِ لِأَنَّ في الْقَلْعِ ضَرَرًا بِالْوَرَثَةِ وَلَا ضَرَرَ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ في التَّرْكِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ وإذا تَرَكَ لَا أَجْرَ لِلْوَرَثَةِ فِيمَا يَعْمَلُونَ لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ على حُكْمِ عَقْدِ أَبِيهِمْ تَقْدِيرًا فَكَأَنَّهُ يَعْمَلُ أَبُوهُمْ
وَإِنْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ قَلْعَ الزَّرْعِ لم يُجْبَرُوا على الْعَمَلِ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّا بَقَّيْنَاهُ بِاخْتِيَارِهِمْ نَظَرًا لهم فَإِنْ امْتَنَعُوا عن الْعَمَلِ بَقِيَ الزَّرْعُ مُشْتَرَكًا فَإِمَّا أَنْ يُقْسَمَ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ أو يُعْطِيَهُمْ صَاحِبُ الْأَرْضِ قَدْرَ حِصَّتِهِمْ من الزَّرْعِ الْبَقْلِ أو يُنْفِقَ من مَالِ نَفْسِهِ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ ثُمَّ يَرْجِعَ عليهم بِحِصَّتِهِمْ لِأَنَّ فيه رِعَايَةَ الْجَانِبَيْنِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ الْمُعَامَلَةِ وقد يُسَمَّى كِتَابَ الْمُسَاقَاةِ وَالْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في الْمَوَاضِعِ التي ذَكَرْنَاهَا في الْمُزَارَعَةِ
أَمَّا مَعْنَى الْمُعَامَلَةِ لُغَةً فَهُوَ مُفَاعَلَةٌ من الْعَمَلِ وفي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عن الْعَقْدِ على الْعَمَلِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مع سَائِرِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ
وَأَمَّا شَرْعِيَّتُهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فيها قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ إنَّهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَشْرُوعَةٌ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ خَيْبَرَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَفَعَ نَخِيلَهُمْ مُعَامَلَةً
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هذا اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عنه على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ وقد مَرَّ الْجَوَابُ عن الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ خَيْبَرَ فَلَا نُعِيدُهُ
وَأَمَّا رُكْنُهَا فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ من غَيْرِ تَفَاوُتٍ
وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الْمُصَحِّحَةُ لها على قَوْلِ من يُجِيزُهَا فما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ
منها أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدَانِ عَاقِلَيْنِ فَلَا يَجُوزُ عَقْدُ من لَا يَعْقِلُ فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ على نَحْوِ ما مَرَّ في كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَا مُرْتَدَّيْنِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ على قِيَاسِ قَوْلِ من أَجَازَ الْمُعَامَلَةَ حتى لو كان أَحَدُهُمَا مُرْتَدًّا وُقِفَتْ الْمُعَامَلَةُ ثُمَّ إنْ كان الْمُرْتَدُّ هو الدَّافِعَ فَإِنْ أَسْلَمَ فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ وَإِنْ قُتِلَ أو مَاتَ أو لَحِقَ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِلدَّافِعِ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَلِلْآخَرِ أَجْرُ الْمِثْلِ إذَا عَمِلَ وَعِنْدَهُمَا الْخَارِجُ بين الْعَامِلِ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ وَرَثَةِ الدَّافِعِ على الشَّرْطِ في الْحَالَيْنِ كما إذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَإِنْ كان الْمُرْتَدُّ هو الْعَامِلَ فَإِنْ أَسْلَمَ فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ وَإِنْ قُتِلَ أو مَاتَ على الرِّدَّةِ أو لَحِقَ فَالْخَارِجُ بين الدَّافِعِ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ وَرَثَةِ الْعَامِلِ الْمُرْتَدِّ على الشَّرْطِ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا مَرَّ في الْمُزَارَعَةِ
هذا إذَا كانت الْمُعَامَلَةُ بين مُسْلِمٍ وَمُرْتَدٍّ فَأَمَّا إذَا كانت بين مُسْلِمَيْنِ ثُمَّ ارْتَدَّا أو ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا فَالْخَارِجُ على الشَّرْطِ لِمَا مَرَّ في كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ وَيَجُوزُ مُعَامَلَةُ الْمُرْتَدَّةِ دَفْعًا وَاحِدًا
____________________

(6/185)


بِالْإِجْمَاعِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ من الشَّجَرِ الذي فيه ثَمَرَةُ مُعَامَلَةٍ فِيمَا يَزِيدُ ثَمَرُهُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ كان الْمَدْفُوعُ نَخْلًا فيه طَلْعٌ أو بُسْرٌ قد احْمَرَّ أو اخْضَرَّ إلَّا أَنَّهُ لم يَتَنَاهَ عِظَمُهُ جَازَتْ الْمُعَامَلَةُ وَإِنْ كان قد تَنَاهَى عِظَمُهُ إلَّا أَنَّهُ لم يَرْطُبْ فَالْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهُ إذَا تَنَاهَى عِظَمُهُ لَا يُؤَثِّرُ فيه الْعَمَلُ بِالزِّيَادَةِ عَادَةً فلم يُوجَدْ الْعَمَلُ الْمَشْرُوطُ عليه فَلَا يَسْتَحِقُّ الْخَارِجَ بَلْ يَكُونُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ لَهُمَا فَلَوْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا فَسَدَتْ لِمَا عُلِمَ وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من بَعْضِ الْخَارِجِ مُشَاعًا مَعْلُومَ الْقَدْرِ لِمَا عُلِمَ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْعَمَلِ وهو الشَّجَرُ مَعْلُومًا وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ في كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ
وَمِنْهَا التَّسْلِيمُ إلَى الْعَامِلِ وهو التَّخْلِيَةُ حتى لو شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَيْهِمَا فَسَدَتْ لِانْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ فَأَمَّا بَيَانُ الْمُدَّةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْمُعَامَلَةِ اسْتِحْسَانًا وَيَقَعُ على أَوَّلِ ثَمَرَةٍ تَخْرُجُ في أَوَّلِ السَّنَةِ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِأَنَّ تَرْكَ الْبَيَانِ يُؤَدِّي إلَى الْجَهَالَةِ كما في الْمُزَارَعَةِ إلَّا أَنَّهُ تُرِكَ الْقِيَاسُ لِتَعَامُلِ الناس ذلك من غَيْرِ بَيَانِ الْمُدَّةِ ولم يُوجَدْ ذلك في الْمُزَارَعَةِ حتى إنَّهُ لو وُجِدَ التَّعَامُلُ بِهِ في مَوْضِعٍ يَجُوزُ من غَيْرِ بَيَانِ الْمُدَّةِ وَبِهِ كان يُفْتِي محمد بن سَلَمَةَ على ما مَرَّ في الْمُزَارَعَةِ
وَلَوْ دَفَعَ أَرْضًا لِيَزْرَعَ فيها الرِّطَابَ أو دَفَعَ أَرْضًا فيها أُصُولٌ رَطْبَةٌ نَابِتَةٌ ولم يُسَمِّ الْمُدَّةَ فَإِنْ كان شيئا ليس لِابْتِدَاءِ نَبَاتِهِ وَلَا لِانْتِهَاءِ جَذِّهِ وَقْتٌ مَعْلُومٌ فَالْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةٌ وَإِنْ كان وَقْتُ جَذِّهِ مَعْلُومًا يَجُوزُ وَيَقَعُ على الْجَذَّةِ الْأُولَى كما في الشَّجَرَةِ الْمُثْمِرَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الْمُفْسِدَةُ لِلْمُعَامَلَةِ فَأَنْوَاعٌ دخل بَعْضُهَا في الشَّرَائِطِ الْمُصَحِّحَةِ لِلْعَقْدِ لِأَنَّ ما كان وُجُودُهُ شَرْطًا لِلصِّحَّةِ كان انْعِدَامُهُ شَرْطًا لِلْإِفْسَادِ
منها شَرْطُ كَوْنِ الْخَارِجِ كُلِّهِ لِأَحَدِهِمَا
وَمِنْهَا شَرْطُ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا قُفْزَانٌ مُسَمَّاةٌ
وَمِنْهَا شَرْطُ الْعَمَلِ على صَاحِبِ الْأَرْضِ
وَمِنْهَا شَرْطُ الْحَمْلِ وَالْحِفْظِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ على الْعَامِلِ لِمَا ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ
وَمِنْهَا شَرْطُ الْجِذَاذِ وَالْقِطَافِ على الْعَامِلِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ ليس من الْمُعَامَلَةِ في شَيْءٍ وَلِانْعِدَامِ التَّعَامُلِ بِهِ أَيْضًا فَكَانَ من بَابِ مُؤْنَةِ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمَا على قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا
وَمِنْهَا شَرْط عَمَلٍ تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْمُعَامَلَةِ نَحْوُ السرقية ( ( ( السرقنة ) ) ) وَنَصْبِ العرايش ( ( ( العرائش ) ) ) وَغَرْسِ الْأَشْجَارِ وَتَقْلِيبِ الْأَرْضِ وما أَشْبَهَ ذلك لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِيه الْعَقْدُ وَلَا هو من ضَرُورَاتِ الْمَعْقُودِ عليه وَمَقَاصِدِهِ
وَمِنْهَا شَرِكَةُ الْعَامِلِ فِيمَا يَعْمَلُ فيه لِأَنَّ الْعَامِلَ أَجِيرُ رَبِّ الْأَرْضِ وَاسْتِئْجَارُ الْإِنْسَانِ لِلْعَمَلِ في شَيْءٍ هو فيه شَرِيكُ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَجُوزُ حتى إنَّ النَّخْلَ لو كان بين رَجُلَيْنِ فَدَفَعَهُ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ مُعَامَلَةً مُدَّةً مَعْلُومَةً على أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثٌ ثُلُثَاهُ لِلشَّرِيكِ الْعَامِلِ وَثُلُثُهُ لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ فَالْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةٌ وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا على قَدْرِ الْمِلْكِ وَلَا أَجْرَ لِلْعَامِلِ على شَرِيكِهِ لِمَا مَرَّ أَنَّ في الْمُعَامَلَةِ مَعْنَى الْإِجَارَةِ وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِعَمَلٍ فيه الْأَجِيرُ شَرِيكُ الْمُسْتَأْجِرِ وإذا عَمِلَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ على شَرِيكِهِ لِمَا عُرِفَ في الْإِجَارَاتِ وَلَا يُشْبِهُ هذا الْمُزَارَعَةَ لِأَنَّ الْأَرْضَ إذَا كانت مُشْتَرَكَةً بين اثْنَيْنِ دَفَعَهَا أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ مُزَارَعَةً على أَنْ يَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ وَلَهُ ثُلُثَا الْخَارِجِ أَنَّهُ تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يَتَحَقَّقْ الِاسْتِئْجَارُ لِلْعَمَلِ في شَيْءٍ الْأَجِيرُ فيه شَرِيكُ الْمُسْتَأْجِرِ لِانْعِدَامِ الشَّرِكَةِ في الْبَذْرِ وَهُنَا تَحَقَّقَ لِثُبُوتِ الشَّرِكَةِ في النَّخْلِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَلَا يَتَصَدَّقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ من الْخَارِجِ لِأَنَّهُ خَالِصُ مَالِهِ لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مِلْكِهِ
وَلَوْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ لَهُمَا على قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا جَازَتْ الْمُعَامَلَةُ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعْنِي من الشَّرِيكَيْنِ لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مِلْكِهِ لَا بِالْعَمَلِ بَلْ الْعَامِلُ مِنْهُمَا مُعِينٌ لِصَاحِبِهِ في الْعَمَلِ من غَيْرِ عِوَضٍ فلم يَتَحَقَّقْ الِاسْتِئْجَارُ
وَلَوْ أَمَرَ الشَّرِيكُ السَّاكِتُ الشَّرِيكَ الْعَامِلَ أَنْ يَشْتَرِيَ ما يُلَقِّحُ بِهِ النَّخْلَ فَاشْتَرَاهُ رَجَعَ عليه بِنِصْفِ ثَمَنِهِ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَالًا مُتَقَوِّمًا على الشَّرِكَةِ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعُ عليه وَسَوَاءٌ كان الْعَامِلُ في عَقْدِ الْمُعَامَلَةِ وَاحِدًا أو أَكْثَرَ حتى لو دَفَعَ رَجُلٌ نَخْلَهُ إلَى رَجُلَيْنِ مُعَامَلَةً بِالنِّصْفِ أو بِالثُّلُثِ جَازَ وَسَوَاءٌ سَوَّى بَيْنَهُمَا في الِاسْتِحْقَاقِ أو جَعَلَ لِأَحَدِهِمَا فَضْلًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجِيرُ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالشَّرْطِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الشَّرْطِ
وَلَوْ شُرِطَ لِأَحَدِ الْعَامِلَيْنِ مِائَةُ دِرْهَمٍ على رَبِّ الْأَرْضِ وَالْآخَرِ ثُلُثُ الْخَارِجِ وَلِرَبِّ الْأَرْضِ الثُّلُثَانِ جَازَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُجْرَةٌ مَشْرُوطَةٌ فَيَجِبُ على حَسْبِ ما يَقْتَضِيهِ الشَّرْطُ
وَلَوْ
____________________

(6/186)


شَرَطَا لِصَاحِبِ النَّخْلِ الثُّلُثَ وَلِأَحَدِ الْعَامِلَيْنِ الثُّلُثَيْنِ وَلِلْآخَرِ أَجْرُ مِائَةِ دِرْهَمٍ على الْعَامِلِ الذي شُرِطَ له الثُّلُثَانِ فَهُوَ فَاسِدٌ وَلَا يُشْبِهُ هذا الْمُزَارَعَةَ أن من دَفَعَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً على أَنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ الثُّلُثَ وَلِلزَّارِعِ الثُّلُثَانِ على أَنْ يَعْمَلَ فُلَانٌ معه بِثُلُثِ الْخَارِجِ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ جَائِزَةٌ بين رَبِّ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعِ فَاسِدَةٌ في حَقِّ الثَّالِثِ لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ اسْتِئْجَارُ الْعَامِلِ وَالْأُجْرَةُ تَجِبُ على الْمُسْتَأْجِرِ دُونَ الْأَجِيرِ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ وَالْعَمَلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ عليه فإذا اشْتَرَطَهَا على الْأَجِيرِ فَقَدْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَعْمَلَ له على أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ على غَيْرِهِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ فَفَسَدَ الْعَقْدُ وَهَذَا هو الْمُوجِبُ لِلْفَسَادِ في حَقِّ الثَّالِثِ في بَابِ الْمُزَارَعَةِ لَا أَنَّهُ صَحَّ فِيمَا بين صَاحِبِ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعِ لِأَنَّهُ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ عَقْدَيْنِ فَفَسَادُ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْآخَرِ وَهَذَا مع هذا التَّكَلُّفِ غَيْرُ وَاضِحٍ وَيَتَّضِحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْمُعَامَلَةِ الصَّحِيحَةِ عِنْدَ مُجِيزِهَا فَأَنْوَاعٌ منها أَنَّ كُلَّ ما كان من عَمَلِ الْمُعَامَلَةِ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الشَّجَرُ وَالْكَرْمُ وَالرِّطَابُ وَأُصُولُ الْبَاذِنْجَانِ من السَّقْيِ وَإِصْلَاحِ النَّهْرِ وَالْحِفْظِ وَالتَّلْقِيحِ لِلنَّخْلِ فَعَلَى الْعَامِلِ لِأَنَّهَا من تَوَابِعِ الْمَعْقُودِ عليه فَيَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ وكل ما كان من بَابِ النَّفَقَةِ على الشَّجَرِ وَالْكَرْمِ وَالْأَرْضِ من السِّرْقِينِ وَتَقْلِيبِ الْأَرْضِ التي فيها الْكَرْمُ وَالشَّجَرُ وَالرِّطَابُ وَنَصْبِ العرايش ( ( ( العرائش ) ) ) وَنَحْوِ ذلك فَعَلَيْهِمَا على قَدْرِ حَقَّيْهِمَا لِأَنَّ الْعَقْدَ لم يَتَنَاوَلْهُ لَا مَقْصُودًا وَلَا ضَرُورَةً وَكَذَلِكَ الْجِذَاذُ وَالْقِطَافُ
لِأَنَّ ذلك يَكُونُ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَمَلِ فَلَا يَكُونُ من حُكْمِ عَقْدِ الْمُعَامَلَةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا على الشَّرْطِ لِمَا مَرَّ
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا لم يُخْرِجْ الشَّجَرُ شيئا فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ لِمَا مَرَّ من الْفَرْقِ في كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ
وَمِنْهَا أَنَّ هذا الْعَقْدَ لَازِمٌ من الْجَانِبَيْنِ حتى لَا يَمْلِكَ أَحَدُهُمَا الِامْتِنَاعَ وَالْفَسْخَ من غَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ إلَّا من عُذْرٍ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ فَإِنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ في جَانِبِ صَاحِبِ الْبَذْرِ وقد مَرَّ الْفَرْقُ
وَمِنْهَا وِلَايَةُ جَبْرِ الْعَامِلِ على الْعَمَلِ إلَّا من عُذْرٍ على ما قَدَّمْنَاهُ
وَمِنْهَا جَوَازُ الزِّيَادَةِ على الشَّرْطِ وَالْحَطِّ عنه وَانْعِدَامُ الْجَوَازِ
وَالْأَصْلُ فيه ما مَرَّ في كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ احْتَمَلَ إنْشَاءَ الْعَقْدِ احْتَمَلَ الزِّيَادَةَ وَإِلَّا فَلَا وَالْحَطُّ جَائِزٌ في الْمَوْضِعَيْنِ أَصْلُهُ بِالزِّيَادَةِ في الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ فإذا دَفَعَ نَخْلًا بِالنِّصْفِ مُعَامَلَةً فَخَرَجَ الثَّمَرُ فَإِنْ لم يَتَنَاهَ عِظَمُهُ جَازَتْ الزِّيَادَةُ مِنْهُمَا أَيَّهُمَا كان لِأَنَّ الْإِنْشَاءَ لِلْعَقْدِ في هذه الْحَالَةِ جَائِزٌ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ جَائِزَةً
وَلَوْ تَنَاهَى عِظَمُ الْبُسْرِ جَازَتْ الزِّيَادَةُ من الْعَامِلِ لزب ( ( ( لرب ) ) ) الْأَرْضِ شيئا وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ من رَبِّ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ شيئا لِأَنَّ هذه زِيَادَةٌ في الْأُجْرَةِ لِأَنَّ الْعَامِلَ أَجِيرٌ وَالْمَحَلُّ لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ وَالْأَوَّلُ حَطٌّ من الْأُجْرَةِ وَاحْتِمَالُ الْإِنْشَاءِ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَطِّ
وَمِنْهَا أَنَّ الْعَامِلَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى غَيْرِهِ مُعَامَلَةً إلَّا إذَا قال له رَبُّ الْأَرْضِ اعْمَلْ فيه بِرَأْيِك لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى غَيْرِهِ إثْبَاتُ الشَّرِكَةِ في مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا يَصِحُّ
وإذا قال له اعْمَلْ فيه بِرَأْيِك فَقَدْ أَذِنَ له فَصَحَّ وَلَوْ لم يَقُلْ له اعْمَلْ بِرَأْيِك فيه فَدَفَعَ الْعَامِلُ إلَى رَجُلٍ آخَرَ مُعَامَلَةً فَعَمِلَ فيه فَأَخْرَجَ فَهُوَ لِصَاحِبِ النَّخْلِ وَلَا أَجْرَ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِالشَّرْطِ وهو شَرْطُ الْعَمَلِ ولم يُوجَدْ منه الْعَمَلُ بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ أَيْضًا لِأَنَّ عَقْدَهُ معه لم يَصِحَّ فلم يَكُنْ عَمَلُهُ مُضَافًا إلَيْهِ وَلَهُ على الْعَامِلِ الْأَوَّلِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ يوم عَمِلَ لِأَنَّهُ عَمِلَ له بِأَمْرِهِ فَاسْتَحَقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ وَلَوْ هَلَكَ الثَّمَرُ في يَدِ الْعَامِلِ الْأَخِيرِ من ( ( ( منا ) ) ) غَيْرِ عَمَلِهِ وهو في رؤوس النَّخْلِ فَلَا ضَمَانَ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِانْعِدَامِ الْغَصْبِ من وَاحِدٍ مِنْهُمَا وهو تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ
وَلَوْ هَلَكَ من عَمَلِهِ في أَمْرٍ خَالَفَ فيه أَمْرَ الْعَامِلِ الْأَوَّلِ فَالضَّمَانُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ على الْعَامِلِ الْآخَرِ دُونَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْخِلَافَ قَطَعَ نِسْبَةَ عَمَلِهِ إلَيْهِ فَبَقِيَ مُتْلِفًا على الْمَالِكِ مَالَهُ فَكَانَ الضَّمَانُ عليه وَلَوْ هَلَكَ في يَدِهِ من عَمَلِهِ في أَمْرٍ لم يُخَالِفْ فيه أَمْرَ الْعَامِلِ الْأَوَّلِ فَلِصَاحِبِ النَّخْلِ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهُمَا شَاءَ لِأَنَّهُ إذَا لم يُوجَدْ منه بِخِلَافٍ بَقِيَ عَمَلُهُ مُضَافًا إلَيْهِ كَأَنَّهُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ فَكَانَ له أَنْ يُضَمِّنَهُ وَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الثَّانِيَ لِأَنَّهُ في مَعْنَى غَاصِبِ الْغَاصِبِ فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْأَوَّلِ لم يَرْجِعْ على الْآخَرِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ عَمِلَ بِأَمْرِ الْأَوَّلِ فَلَوْ رَجَعَ عليه لَرَجَعَ هو عليه أَيْضًا فَلَا يُفِيدُ وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْآخَرِ يَرْجِعُ على الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ في هذا الْعَقْدِ فَيَرْجِعُ عليه بِضَمَانِ الْغُرُورِ وهو ضَمَانُ السَّلَامَةِ
هذا إذَا لم يَقُلْ له اعْمَلْ فيه بِرَأْيِك فَأَمَّا إذَا قال وَشَرَطَ النِّصْفَ فَدَفَعَهُ إلَى رَجُلٍ آخَرَ بِثُلُثِ
____________________

(6/187)


الْخَارِجِ فَهُوَ جَائِزٌ لِمَا ذَكَرْنَا وما خَرَجَ من الثَّمَرِ فَنِصْفُهُ لِرَبِّ النَّخْلِ وَالسُّدُسُ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ شَرْطَ الثُّلُثِ يَرْجِعُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً لِأَنَّ الْعَمَلَ وَاجِبٌ عليه فَبَقِيَ له السُّدُسُ ضَرُورَةً
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا لم يَقُلْ له اعْمَلْ فيه بِرَأْيِك وَشَرَطَ له شيئا مَعْلُومًا وَشَرَطَ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي مِثْلَ ذلك فَهُمَا فَاسِدَانِ وَلَا ضَمَانَ على الْعَامِلِ الْأَوَّلِ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْمُعَامَلَةِ الْفَاسِدَةِ فَأَنْوَاعٌ ذَكَرْنَاهَا في الْمُزَارَعَةِ منها أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْعَامِلُ على الْعَمَلِ لِأَنَّ الْجَبْرَ على الْعَمَلِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ ولم يَصِحَّ وَمِنْهَا أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْخَارِجِ لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مِلْكِهِ وَاسْتِحْقَاقَ الْعَامِلِ بِالشَّرْطِ ولم يَصِحَّ فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ منه لِأَنَّهُ حَصَلَ عن خَالِصِ مِلْكِهِ
وَمِنْهَا أَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ لَا يَجِبُ في الْمُعَامَلَةِ الْفَاسِدَةِ ما لم يُوجَدْ الْعَمَلُ لِمَا ذَكَرْنَا في الْمُزَارَعَةِ
وَمِنْهَا أَنَّ وُجُوبَ أَجْرِ الْمِثْلِ فيها لَا يَقِفُ على الْخَارِجِ بَلْ يَجِبُ وَإِنْ لم يُخْرِجْ الشَّجَرُ شيئا بِخِلَافِ الْمُعَامَلَةِ الصَّحِيحَةِ وقد ذَكَرْنَا الْفَرْقَ في كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ
وَمِنْهَا أَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ فيها يَجِبُ مُقَدَّرًا بِالْمُسَمَّى لَا يَتَجَاوَزُ عنه عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ تَامًّا وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا كانت حِصَّةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَمَّاةً في الْعَقْدِ فَإِنْ لم تَكُنْ مُسَمَّاةً في الْعَقْدِ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ تَامًّا بِلَا خِلَافٍ وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ في كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْمَعَانِي التي هِيَ عُذْرٌ في فَسْخِهَا فما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ وَمِنْ الْأَعْذَارِ التي في جَانِبِ الْعَامِلِ أَنْ يَكُونَ سَارِقًا مَعْرُوفًا بِالسَّرِقَةِ فَيُخَافُ الثَّمَرَ وَالسَّعَفَ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَنْفَسِخُ بِهِ عَقْدُ الْمُعَامَلَةِ فَأَنْوَاعٌ منها صَرِيحُ الْفَسْخِ وَمِنْهَا الْإِقَالَةُ وَمِنْهَا انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ وَمِنْهَا مَوْتُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وقد مَرَّ في كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْمُعَامَلَةِ الْمُنْفَسِخَةِ فَعَلَى نَحْوِ حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الْمُنْفَسِخَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ الشِّرْبِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ مَعْنَى الشِّرْبِ لُغَةً وَشَرْعًا وفي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْمِيَاهِ وفي بَيَانِ حُكْمِ كل نَوْعٍ منها
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالشِّرْبُ في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ من الْمَاءِ قال اللَّهُ عز شَأْنُهُ { قال هذه نَاقَةٌ لها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } وفي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلَالَةٌ على جَوَازِ قِسْمَةِ الشِّرْبِ بِالْأَيَّامِ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عز اسْمُهُ أَخْبَرَ عن نَبِيِّهِ سَيِّدِنَا صَالِحٍ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قبل ذلك ولم يَعْقُبْهُ بِالْفَسْخِ فَصَارَتْ شَرِيعَةً لنا مُبْتَدَأَةً وَبِهَا اسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في كِتَابِ الشِّرْبِ لِجَوَازِ قِسْمَةِ الشِّرْبِ بِالْأَيَّامِ وفي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عن حَقِّ الشِّرْبِ وَالسَّقْيِ
وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِ الْمِيَاهِ فَنَقُولُ الْمِيَاهُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ الْأَوَّلُ الْمَاءُ الذي يَكُونُ في الْأَوَانِي وَالظُّرُوفِ وَالثَّانِي الْمَاءُ الذي يَكُونُ في الْآبَارِ وَالْحِيَاضِ وَالْعُيُونِ وَالثَّالِثُ مَاءُ الْأَنْهَارِ الصِّغَارِ التي تَكُونُ لِأَقْوَامٍ مَخْصُوصِينَ وَالرَّابِعُ مَاءُ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ كَجَيْحُونَ وَسَيَحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهَا
أَمَّا بَيَانُ حُكْمِ كل نَوْعٍ منها على الْقِسْمَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فيه لِأَنَّ الْمَاءَ وَإِنْ كان مُبَاحًا في الْأَصْلِ لَكِنَّ الْمُبَاحَ يُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ إذَا لم يَكُنْ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ كما إذَا اسْتَوْلَى على الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالصَّيْدِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كما يَجُوزُ بَيْعُ هذه الْأَشْيَاءِ وَكَذَا السقاؤون ( ( ( السقاءون ) ) ) يَبِيعُونَ الْمِيَاهَ الْمَحْرُوزَةَ في الظُّرُوفِ بِهِ جَرَتْ الْعَادَةُ في الْأَمْصَارِ وفي سَائِرِ الْأَعْصَارِ من غَيْرِ نَكِيرٍ فلم يَحِلَّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ منه فَيَشْرَبَ من غَيْرِ إذْنِهِ وَلَوْ خَافَ الْهَلَاكَ على نَفْسِهِ من الْعَطَشِ فَسَأَلَهُ فَمَنَعَهُ فَإِنْ لم يَكُنْ عِنْدَهُ فَضْلٌ فَلَيْسَ له أَنْ يُقَاتِلَهُ أَصْلًا لِأَنَّ هذا دَفَعَ الْهَلَاكَ عن نَفْسِهِ بِإِهْلَاكِ غَيْرِهِ لَا بِقَصْدِ إهْلَاكِهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ كان عِنْدَهُ فَضْلُ مَاءٍ عن حَاجَتِهِ فَلِلْمَمْنُوعِ أَنْ يُقَاتِلَهُ لِيَأْخُذَ منه الْفَضْلَ لَكِنْ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ كما إذَا أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ وَعِنْدَ صَاحِبِهِ فَضْلُ طَعَامٍ فَسَأَلَهُ فَمَنَعَهُ وهو لَا يَجِدُ غَيْرَهُ
وَأَمَّا الثَّانِي الْمَاءُ الذي يَكُونُ في الْحِيَاضِ وَالْآبَارِ وَالْعُيُونِ فَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لصاحبه ( ( ( لصاحب ) ) ) بَلْ هو مُبَاحٌ في نَفْسِهِ سَوَاءٌ كان في أَرْضٍ مُبَاحَةٍ أو مَمْلُوكَةٍ لَكِنْ له حَقٌّ خَاصٌّ فيه لِأَنَّ الْمَاءَ في الْأَصْلِ خُلِقَ مُبَاحًا لِقَوْلِ النبي عليه
____________________

(6/188)


الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الناس شُرَكَاءُ في ثَلَاثٍ الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ وَالشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ تَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ إلَّا أَنَّهُ إذَا جُعِلَ في إنَاءٍ وَأَحْرَزَهُ بِهِ فَقَدْ اسْتَوْلَى عليه وهو غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْمُسْتَوْلِي كما في سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ الْغَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ وإذا لم يُوجَدْ ذلك بَقِيَ على أَصْلِ الْإِبَاحَةِ الثَّابِتَةِ بِالشَّرْعِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ هو الْمَالُ الْمَمْلُوكُ وَلَيْسَ له أَنْ يَمْنَعَ الناس من الشَّفَةِ وهو الشُّرْبُ بِأَنْفُسِهِمْ وَسَقْيِ دَوَابِّهِمْ منه لِأَنَّهُ مُبَاحٌ لهم وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن مَنْعِ نَبْعِ الْبِئْرِ وهو فَضْلُ مَائِهَا الذي يَخْرُجُ منها فَلَهُمْ أَنْ يَسْقُوا منها لِشِفَاهِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ فَأَمَّا لِزُرُوعِهِمْ وَأَشْجَارِهِمْ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ ذلك لِمَا في الْإِطْلَاقِ من إبْطَالِ حَقِّهِ أَصْلًا إلَّا إذَا كان ذلك في أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَلِصَاحِبِهَا أَنْ يَمْنَعَهُمْ عن الدُّخُولِ في أَرْضِهِ إذَا لم يُضْطَرُّوا إلَيْهِ بِأَنْ وَجَدُوا غَيْرَهُ لِأَنَّ الدُّخُولَ إضْرَارٌ بِهِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عن نَفْسِهِ وَإِنْ لم يَجِدُوا غَيْرَهُ وَاضْطُرُّوا وَخَافُوا الْهَلَاكَ يُقَالُ له إمَّا أَنْ تَأْذَنَ بِالدُّخُولِ وَإِمَّا أَنْ تُعْطِيَ بِنَفْسِك فَإِنْ لم يُعْطِهِمْ وَمَنَعَهُمْ من الدُّخُولِ لهم أَنْ يُقَاتِلُوهُ بِالسِّلَاحِ لِيَأْخُذُوا قَدْرَ ما يَنْدَفِعُ بِهِ الْهَلَاكُ عَنْهُمْ وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ على الْبِئْرِ فَأَبَوْا وَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ دَلْوًا فَأَبَوْا فَقَالُوا لهم إنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا كَادَتْ تُقْطَعُ فَأَبَوْا فَذَكَرُوا ذلك لِسَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فقال هَلَّا وَضَعْتُمْ فِيهِمْ السِّلَاحَ بِخِلَافِ الْمَاءِ الْمُحْرَزِ في الْأَوَانِي وَالطَّعَامِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ لِأَنَّ الْمَاءَ هُنَاكَ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ وَكَذَا الطَّعَامُ فَلَا بُدَّ من مُرَاعَاةِ حُرْمَةِ الْمِلْكِ لِحُرْمَةِ الْقِتَالِ بِالسِّلَاحِ وَلَا مِلْكَ هُنَاكَ بَلْ هو على الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ على ما بَيَّنَّا فإذا مَنَعَهُ أَحَدٌ ماله حَقُّ أَخْذِهِ قَاتَلَهُ بِالسِّلَاحِ كما إذَا مَنَعَهُ مَالَهُ الْمَمْلُوكَ
وَأَمَّا الثَّالِثُ الْمَاءُ الذي يَكُونُ في الْأَنْهَارِ التي تَكُونُ لِأَقْوَامٍ مَخْصُوصِينَ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْمَاءِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الشِّرْبِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى النَّهْرِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْمَاءِ فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَاءَ خُلِقَ مُبَاحَ الْأَصْلِ بِالنَّصِّ وَإِنَّمَا يَأْخُذُ حُكْمَ الْمِلْكِ بِالْإِحْرَازِ بِالْأَوَانِي فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ
وَلَوْ قال اسْقِنِي يَوْمًا من نَهْرِك على أَنْ أَسْقِيَك يَوْمًا من نَهْرِ كَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ هذا مُبَادَلَةُ الْمَاءِ بِالْمَاءِ فَيَكُونُ بَيْعًا أو إجَارَةَ الشِّرْبِ بِالشِّرْبِ وَكُلُّ ذلك لَا يَجُوزُ وَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ لَا تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِمَنَافِعِهَا لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حَوْضًا أو بِئْرًا لِيَسْقِيَ منه مَاءً لَا يَجُوزُ لِأَنَّ هذا اسْتِئْجَارُ الْمَاءِ وَكَذَا لو اسْتَأْجَرَ النَّهْرَ لِيَصِيدَ منه السَّمَكَ لِأَنَّ هذا اسْتِئْجَارُ السَّمَكِ
وَكَذَا لو اسْتَأْجَرَ أَجَمَةً لِيَحْتَطِبَ لِأَنَّ هذا اسْتِئْجَارٌ الحطب ( ( ( لحطب ) ) ) وَالْأَعْيَانُ لَا تَحْتَمِلُ الْإِجَارَةَ وَلَيْسَ لِصَاحِبِ النَّهْرِ أَنْ يَمْنَعَ من الشَّفَةِ وهو شُرْبُ الناس وَالدَّوَابِّ وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ من سَقْيِ الزَّرْعِ وَالْأَشْجَارِ لِأَنَّ له فيه حَقًّا خَاصًّا وفي إطْلَاقِ السَّقْيِ إبْطَالُ حَقِّهِ لِأَنَّ كُلَّ أحد يَتَبَادَرُ إلَيْهِ فَيَسْقِي منه زَرْعَهُ وَأَشْجَارَهُ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ أَصْلًا
وَلَوْ أَذِنَ بِالسَّقْيِ وَالنَّهْرُ خَاصٌّ له جَازَ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ حَقَّ نَفْسِهِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الشِّرْبِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُنْفَرِدًا بِأَنْ بَاعَ شِرْبَ يَوْمٍ أو أَكْثَرَ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عن حَقِّ الشِّرْبِ وَالسَّقْيِ وَالْحُقُوقُ لَا تَحْتَمِلُ الْإِفْرَادَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ
وَلَوْ اشْتَرَى بِهِ دَارًا وَعَبْدًا وَقَبَضَهُمَا لَزِمَهُ رَدُّ الدَّارِ وَالْعَبْدِ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَكَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ كما في سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ وَلَا شَيْءَ على الْبَائِعِ بِمَا انْتَفَعَ بِهِ من الشِّرْبِ
وَلَوْ بَاعَ الْأَرْضَ مع الشِّرْبِ جَازَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ وَيَجُوزُ أَنْ يحمل ( ( ( يجعل ) ) ) الشَّيْءَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَإِنْ كان لَا يَجْعَلُهُ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ كَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ وَلَا يَدْخُلُ الشِّرْبُ في بَيْعِ الْأَرْضِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ صَرِيحًا أو بِذِكْرِ ما يَدُلُّ عليه بِأَنْ يَقُولَ بِعْتُهَا بِحُقُوقِهَا أو بِمَرَافِقِهَا أو كُلُّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هو لها دَاخِلٌ فيها وَخَارِجٌ عنها من حُقُوقِهَا فَإِنْ لم يذكر شيئا من ذلك لَا يَدْخُلُ لِأَنَّ اسْمَ الْأَرْضِ بِصِيغَتِهِ وَحُرُوفِهِ لَا يَدُلُّ على الشِّرْبِ وَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ مُفْرَدًا لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَحْتَمِلُ الْإِجَارَةَ على الِانْفِرَادِ كما لَا تَحْتَمِلُ الْبَيْعَ وَكَذَا لو جَعَلَهُ أُجْرَةً في إجَارَةِ الدَّارِ وَالْعَبْدِ وَنَحْوِ ذلك لَا يَجُوزُ
لِأَنَّ الْأُجْرَةَ في بَابِ الْإِجَارَةِ كَالثَّمَنِ في بَابِ الْبَيْعِ وأنه لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا في الْبِيَاعَاتِ فَلَا يَصْلُحُ أُجْرَةً في الْإِجَارَاتِ وَلَوْ انْتَفَعَ بِالدَّارِ وَالْعَبْدِ لَزِمَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ الْمَعْقُودِ عليه عَقْدًا فَاسِدًا فَيَلْزَمُهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ كما في سَائِرِ الْإِجَارَاتِ الْفَاسِدَةِ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ مع الشِّرْبِ جَازَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ كما في الْبَيْعِ على ما ذَكَرْنَا وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا ولم يذكر الشِّرْبَ وَالْمَسِيلَ أَصْلًا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ الشِّرْبُ وَالْمَسِيلُ في الْبَيْعِ وفي الِاسْتِحْسَانِ كَانَا له ويدخلان ( ( ( ويدخلا ) ) ) تَحْتَ
____________________

(6/189)


إجَارَةِ الْأَرْضِ من غَيْرِ تَسْمِيَةٍ نَصًّا لِوُجُودِهَا دَلَالَةً لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِالْأَرْضِ بِدُونِ الشِّرْبِ فَيَصِيرُ الشِّرْبُ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الْأَرْضِ دَلَالَةً بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ وَالْعَيْنُ تَحْتَمِلُ الْمِلْكَ بِدُونِهِ وَلَا تَجُوزُ هِبَتُهُ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ وَالْحُقُوقُ الْمُفْرَدَةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ وَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عليه بِأَنْ صَالَحَ من دَعْوَى على شِرْبٍ سَوَاءٌ كان دَعْوَى الْمَالِ أو الْحَقِّ من الْقِصَاصِ في النَّفْسِ وما دُونَهُ لِأَنَّ الصُّلْحَ في مَعْنَى الْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُ يُسْقِطُ الْقِصَاصَ وَيَكُونُ الصُّلْحُ كَأَنَّهُ على الْعَفْوِ لِمَا ذَكَرْنَا في كِتَابِ الصُّلْحِ وَلِأَنَّ صُورَةَ الصُّلْحِ أَوْرَثَتْ شُبْهَةً وَالْقِصَاصُ لَا يُسْتَوْفَى مع الشُّبُهَاتِ وَتَجِبُ على الْقَاتِلِ وَالْجَارِحِ الدِّيَةُ وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ وَلَا تَصِحَّ تَسْمِيَتُهُ في بَابِ النِّكَاحِ بِأَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عليه وَعَلَى الزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّ النِّكَاحَ تَصَرُّفُ تَمْلِيكٍ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ وإذا لم تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ يَجِبُ الْعِوَضُ الْأَصْلِيُّ وهو مَهْرُ الْمِثْلِ وَلَا تَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ في الْخُلْعِ بِأَنْ اخْتَلَعَتْ الْمَرْأَةُ من نَفْسِهَا عليه وَعَلَيْهَا رَدُّ الْمَأْخُوذِ من الْمَهْرِ لِأَنَّ تَسْمِيَتَهُ في مَعْرِضِ التَّمْلِيكِ إنْ لم يَصِحَّ فَهُوَ مَالٌ لِكَوْنِهِ مَرْغُوبًا فيه فَمِنْ حَيْثُ أنه لم يَحْتَمِلْ التَّمْلِيكَ لم يَصْلُحْ بَدَلَ الْخُلْعِ وَمِنْ حَيْثُ هو مَالٌ مَرْغُوبٌ فيه في نَفْسِهِ لم يَبْطُلْ ذلك أَصْلًا فَيَظْهَرُ في وُجُوبِ رَدِّ الْمَأْخُوذِ
وَهَذَا أَصْلِيٌّ في بَابِ الْخُلْعِ مَحْفُوظٌ أَنَّهُ شَيْءٌ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ الْمَذْكُورِ وهو مَالٌ مَرْغُوبٌ في نَفْسِهِ يَجِبُ عليها رَدُّ الْمَأْخُوذِ من الْمَهْرِ وَمُوَرَّثِهِ لِأَنَّ الْإِرْثَ لَا يَقِفُ على الْمِلْكِ لَا مَحَالَةَ بَلْ يَثْبُتُ في حَقِّ الْمَالِ كما يَثْبُتُ في الْمِلْكِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَنَحْوِ ذلك
وَيُوصِي بِهِ حتى لو أَوْصَى لِرَجُلٍ أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً من شِرْبِهِ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ وَتُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وَإِنْ كان تَمْلِيكًا لَكِنَّهَا تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الموصي له لَا يَمْلِكُ الْمُوصَى بِهِ في الْحَالِ وَإِنَّمَا يَمْلِكُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَأَشْبَهَ الْمِيرَاثَ فإذا احْتَمَلَ الْإِرْثَ احْتَمَلَ الْوَصِيَّةَ التي هِيَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وإذا مَاتَ الْمُوصَى له تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ حتى لَا تَصِيرَ مِيرَاثًا لِوَرَثَةِ الْمُوصَى له لِأَنَّ الشِّرْبَ ليس بِعَيْنِ مَالٍ بَلْ هو حَقٌّ مَالِيٌّ وَشِبْهُ الْخِدْمَةِ ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِالْخِدْمَةِ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوصَى له وَلَا تَصِيرُ مِيرَاثًا فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِالشِّرْبِ وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُتَصَدَّقَ بِالشِّرْبِ على الْمَسَاكِينِ لم يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَمَّا لم يَحْتَمِلْ التَّمْلِيكَ بِالتَّصَدُّقِ اسْتَوَى فيه الْحَالُ وَالْإِضَافَةُ إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْوَصِيَّةِ ويسقى كُلُّ وَاحِدٍ من الشُّرَكَاءِ على قَدْرِ شِرْبِهِ
وَلَوْ اخْتَلَفَا في قَدْرِ الشِّرْبِ وَلَا بَيِّنَةَ لِأَحَدِهِمْ تُحَكَّمُ الْأَرَاضِي فَيَكُونُ الشِّرْبُ بَيْنَهُمْ على قَدْرِ أَرَاضِيهِمْ وَلَا يُعْتَبَرُ عَدَدُ الرؤوس بِخِلَافِ الْجَمَاعَةِ إذَا اخْتَلَفُوا في طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ لَا تُحَكَّمُ فيه بُقْعَةُ الدَّارِ بَلْ يُعْتَبَرُ فيه عَدَدُ الرؤوس وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ إذْ الْمَقْصُودُ من الشِّرْبِ السَّقْيُ وَالسَّقْيُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَرَاضِي وَالْمَقْصُودُ من الطَّرِيقِ هو الْمُرُورُ وأنه لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدُّورِ
وَلَوْ كان الْأَعْلَى منهم لَا يَشْرَبُ ما لم يَسْكُرْ النَّهْرَ عن الْأَسْفَلِ بِأَنْ كانت أَرْضُهُ رَبْوَةً لم يَكُنْ له ذلك وَلَكِنْ يَشْرَبُ بِحِصَّتِهِ لِأَنَّ في سَكْرِ النَّهْرِ حتى يَشْرَبَ الْأَعْلَى مَنْعَ الْأَسْفَلِ من الشِّرْبِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا تَرَاضَيَا على أَنْ يَسْكُرَ كُلٌّ في نَوْبَتِهِ فَيَجُوزُ
وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَنْصِبَ على النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ رَحًى أو دَالِيَةً أو سَانِيَةً نُظِرَ فيه فَإِنْ كان لَا يَضُرُّ بِالشِّرْبِ وَالنَّهْرِ وكان مَوْضِعُ الْبِنَاءِ أَرْضَ صَاحِبِهِ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ رَقَبَةَ النَّهْرِ وَمَوْضِعَ الْبِنَاءِ مِلْكٌ بين الْجَمَاعَةِ على الشَّرِكَةِ وَحَقُّ الْكُلِّ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَاءِ وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّصَرُّفِ في الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ وَالْحَقِّ الْمُشْتَرَكِ إلَّا بِرِضَا الشُّرَكَاءِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى النَّهْرِ فَالْأَصْلُ فيه أَنَّ النَّهْرَ الْخَاصَّ لِجَمَاعَةٍ لَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمْ التَّصَرُّفَ فيه من غَيْرِ رِضَا الْبَاقِينَ سَوَاءٌ أَضَرَّ بِهِمْ التَّصَرُّفُ أو لَا لِأَنَّ رَقَبَةَ النَّهْرِ مَمْلُوكَةٌ لهم وَحُرْمَةَ التَّصَرُّفِ في الْمَمْلُوكِ لَا تَقِفُ على الْإِضْرَارِ بِالْمَالِكِ حتى لو أَرَادَ وَاحِدٌ من الشُّرَكَاءِ أَنْ يَحْفِرَ نَهْرًا صَغِيرًا من النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ فَيَسُوقُ الْمَاءَ إلَى أَرْضٍ أَحْيَاهَا ليس لها منه شِرْبٌ ليس له ذلك إلَّا بِرِضَاهُمْ لِأَنَّ الْحَفْرَ تَصَرُّفٌ في مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ على الشَّرِكَةِ من غَيْرِ رِضَاهُمْ فَيُمْنَعُ عنه
وَكَذَلِكَ لو كان هذا النَّهْرُ يَأْخُذُ الْمَاءَ من النَّهْرِ الْعَظِيمِ فَأَرَادَ وَاحِدٌ أَنْ يَزِيدَ فيها كُوَّةً من غَيْرِ رِضَا الشُّرَكَاءِ ليس له ذلك وَإِنْ كان ذلك لَا يَضُرُّهُمْ لِأَنَّ ذلك تَصَرُّفُهُمْ في النَّهْرِ بِإِجْرَاءِ زِيَادَةِ مَاءٍ فيه من غَيْرِ رِضَاهُمْ فَيُمْنَعَ عنه
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْصِبَ عليه رَحًى فَإِنْ كان مَوْضِعُ الْبِنَاءِ مَمْلُوكًا له وَالْمَاءُ يُدِيرُ الرَّحَى على سَيْبِهِ له ذلك وَإِنْ كان مَوْضِعُ الْبِنَاءِ مُشْتَرَكًا أو تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى تَعْرِيجِ الْمَاءِ ثُمَّ الْإِعَادَةِ ليس له ذلك لِمَا فيه من الضَّرَرِ بِالشُّرَكَاءِ بِتَأْخِيرِ
____________________

(6/190)


وُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ بِالتَّعْرِيجِ كما إذَا حَفَرَ نَهْرًا في أَرْضِهِ وَأَرَادَ أَنْ يُعَرِّجَ الْمَاءَ إلَيْهِ ثُمَّ يُعِيدَهُ إلَى النَّهْرِ وَكَذَلِكَ لو أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَنْصِبَ دَالِيَةً أو سَانِيَةً فَهُوَ على هذا التَّفْصِيلِ وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَضَعَ قَنْطَرَةً على هذا النَّهْرِ من غَيْرِ رِضَاهُمْ لِأَنَّ الْقَنْطَرَةَ تَصَرُّفٌ في حَافَّتَيْ النَّهْرِ وفي هَوَاهُ وَكُلُّ ذلك مُشْتَرَكٌ
وَلَوْ كان النَّهْرُ بين شَرِيكَيْنِ له خَمْسُ كُوًى من النَّهْرِ الْأَعْظَمِ وَلِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَرْضٌ في أَعْلَى النَّهْرِ وَلِلْآخَرِ أَرْضٌ في أَسْفَلِهِ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْأَعْلَى أَنْ يَسُدَّ شيئا من تِلْكَ الْكُوَى لِمَا يُدْخِلُ من الضَّرَرِ في أَرْضِهِ ليس له ذلك إلَّا بِرِضَا شَرِيكِهِ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ شَرِيكُهُ فَلَا يَجُوزُ له دَفْعُ الضَّرَرِ عن نَفْسِهِ بِإِضْرَارِ غَيْرِهِ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَهَايَآ حتى يَسُدَّ في حِصَّتِهِ ما شَاءَ لم يَكُنْ له ذلك إلَّا بِرِضَا الشَّرِيكِ لَمَا قُلْنَا وَإِنْ تَرَاضَيَا على ذلك زَمَانًا ثُمَّ بَدَا لِصَاحِبِ الْأَسْفَلِ أَنْ يَنْقُضَ فَلَهُ ذلك لِأَنَّ الْمُرَاضَاةَ على ما لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ تَكُونُ مُهَايَأَةً وأنها غَيْرُ لَازِمَةٍ
وَلَوْ كان النَّهْرُ بين رَجُلَيْنِ له كُوًى فَأَضَافَ رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ إلَيْهَا كُوَّةً وَحَفَرَ نَهْرًا منه إلَى أَرْضِهِ بِرِضًا مِنْهُمَا وَمَضَى على ذلك زَمَانٌ ثُمَّ بَدَا لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْقُضَ فَلَهُ ذلك لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ لَا تَكُونُ لَازِمَةً وَكَذَلِكَ لو مَاتَ لِوَرَثَتِهِمَا أَنْ يَنْقُضُوا ذلك لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كان نَهْرٌ بين جَمَاعَةٍ يَأْخُذُ الْمَاءَ من النَّهْرِ الْأَعْظَمِ وَلِكُلِّ رَجُلٍ نَهْرٌ من هذا النَّهْرِ فَمِنْهُمْ من له كُوَّتَانِ وَمِنْهُمْ من له ثَلَاثُ كُوًى فقال صَاحِبُ الْأَسْفَلِ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى إنَّكُمْ تَأْخُذُونَ أَكْثَرَ من نَصِيبِكُمْ لِأَنَّ دَفْعَةَ الْمَاءِ وَكَثْرَتَهُ في أَوَّلِ النَّهْرِ وَلَا يَأْتِينَا إلَّا وهو قَلِيلٌ فَأَرَادُوا الْمُهَايَأَةَ أَيَّامًا مَعْلُومَةً فَلَيْسَ لهم ذلك وَيُتْرَكُ الْمَاءُ وَالنَّهْرُ على حَالِهِ لِأَنَّ مِلْكَهُمْ في رَقَبَةِ النَّهْرِ لَا في نَفْسِ الْمَاءِ
وَلَوْ أَرَادَ وَاحِدٌ منهم أَنْ يُوَسِّعَ كُوَّةَ نَهْرِهِ لم يَكُنْ له ذلك لِأَنَّهُ يُدْخِلُ فيها الْمَاءَ زَائِدًا على حَقِّهِ فَلَا يَمْلِكُ ذلك وَلَوْ حَفَرَ في أَسْفَلِ النَّهْرِ جَازَ وَلَوْ زَادَ في عَرْضِهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْكُوَى من حُقُوقِ النَّهْرِ فَيَمْلِكُهُ بِمِلْكِ النَّهْرِ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ في الْعَرْضِ
وَلَوْ كان نَهْرٌ يَأْخُذُ الْمَاءَ من النَّهْرِ الْأَعْظَمِ بين قَوْمٍ فَخَافُوا أَنْ يَنْبَثِقَ فَأَرَادُوا أَنْ يُحَصِّنُوهُ فَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ عن ذلك فَإِنْ كان ضَرَرًا عَامًّا يُجْبَرُونَ على أَنْ يُحَصِّنُوهُ بِالْحِصَصِ وَإِنْ لم يَكُنْ فيه ضَرَرٌ عَامٌّ لَا يُجْبَرُونَ عليه لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ مُتَعَذَّرٌ عِنْدَ عُمُومِ الضَّرَرِ فَكَانَ الْجَبْرُ على التَّحْصِيصِ من بَابِ دَفْعِ الضَّرَرِ عن الْجَمَاعَةِ فَجَازَ وإذا لم يَكُنْ الضَّرَرُ عَامًّا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِالنَّهْرِ فَكَانَ الْجَبْرُ بِالتَّحْصِيصِ جَبْرًا عليه لِزِيَادَةِ الِانْتِفَاعِ بِالنَّهْرِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلَوْ كان نَهْرٌ لِرَجُلٍ مُلَاصِقٌ لِأَرْضِ رَجُلٍ فَاخْتَلَفَ صَاحِبُ الْأَرْضِ وَالنَّهْرِ في مُسَنَّاةٍ فَالْمُسَنَّاةُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ له أَنْ يَغْرِسَ فيها طِينَهُ وَلَكِنْ ليس له أَنْ يَهْدِمَهَا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْمُسَنَّاةُ لِصَاحِبِ النَّهْرِ حَرِيمًا لِنَهْرِهِ وَلَهُ أَنْ يَغْرِسَ فيها وَيُلْقِيَ طِينَهُ وَيَجْتَازَ فيها وَإِنْ لم يَكُنْ مُلَاصِقًا بَلْ كان بين النَّهْرِ وَالْأَرْضِ حَائِلٌ من حَائِطٍ وَنَحْوِهِ كانت الْمُسَنَّاةُ لِصَاحِبِ النَّهْرِ بِالْإِجْمَاعِ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا بَنَوْا هذا الِاخْتِلَافَ على أَنَّ النَّهْرَ هل له حَرِيمٌ أَمْ لَا بِأَنْ حَفَرَ رَجُلٌ نَهْرًا في أَرْضٍ مَوَاتٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا حَرِيمَ له وَعِنْدَهُمَا له حَرِيمٌ
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عليه أَنَّهُ لَمَّا لم يَكُنْ لِلنَّهْرِ حَرِيمٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ كان الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَمَّا كان له حَرِيمٌ عِنْدَهُمَا كان الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِصَاحِبِ النَّهْرِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَبَعْضُهُمْ لم يُصَحِّحُوا الْبِنَاءَ وَقَالُوا لَا خِلَافَ أَنَّ لِلنَّهْرِ حَرِيمًا في أَرْضِ الْمَوَاتِ لِأَنَّ لِلْبِئْرِ وللعين ( ( ( والعين ) ) ) حَرِيمًا فيها بِالْإِجْمَاعِ وقد روي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُمَا حَرِيمًا لِحَاجَتِهِمَا إلَى الْحَفْرِ لِتَعَذُّرِ الِانْتِفَاعِ بها بِدُونِ الْحَفْرِ لِأَنَّ حَاجَةَ النَّهْرِ إلَى الْحَرِيمِ كَحَاجَةِ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ بَلْ أَشَدَّ فَكَانَ جَعْلُ الشَّرْعِ لِلْبِئْرِ وَالْعَيْنِ حَرِيمًا جَعْلًا لِلنَّهْرِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى
دَلَّ أَنَّ الْبِنَاءَ على هذا الْأَصْلِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَكَانَ هذا خِلَافًا مُبْتَدَأً
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا كان لِلنَّهْرِ حَرِيمٌ بِالِاتِّفَاقِ كان الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِصَاحِبِ النَّهْرِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ حتى يَقُومَ الدَّلِيلُ بِخِلَافِهِ وَلِهَذَا كان الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُسَنَّاةَ إذَا كانت مُسْتَوِيَةً بِالْأَرْضِ فَالظَّاهِرُ أنها مِلْكُ صَاحِبِ الْأَرْضِ إذْ لو كانت حَرِيمًا لِلنَّهْرِ لَكَانَتْ مُرْتَفِعَةً لِكَوْنِهَا مَلْقَى طِينِهِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِصَاحِبِ الْأَرْضِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ هَدْمَهَا لِتَعَلُّقِ حَقِّ صَاحِبِ النَّهْرِ بها وفي الْهَدْمِ إبْطَالُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ الْإِنْسَانُ من التَّصَرُّفِ في مِلْكِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ كَحَائِطٍ لِإِنْسَانٍ عليه جُذُوعٌ لِغَيْرِهِ فَأَرَادَ هَدْمَ الْحَائِطِ يُمْنَعُ منه
كَذَا هذا
ثُمَّ كَرْيُ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ على أَصْحَابِ النَّهْرِ وَلَيْسَ على أَصْحَابِ الشَّفَةِ في الْكَرْيِ
____________________

(6/191)


شَيْءٌ لِأَنَّ هذا من حُقُوقِ الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ لِأَهْلِ الشَّفَةِ في رَقَبَةِ النَّهْرِ بَلْ لهم حَقُّ شُرْبِ الْمَاءِ وَالسَّقْيِ لِلدَّوَابِّ فَقَطْ
وَاخْتُلِفَ في كَيْفِيَّةِ الْكَرْيِ عليهم
قال أبو حَنِيفَةَ عليهم أَنْ يَكْرُوا من أَعْلَاهُ وإذا جَاوَزُوا أَرْضَ رَجُلٍ دَفَعَ عنه وكان الْكَرْيُ على من بَقِيَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الْكَرْيُ عليهم جميعا من أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ بِحِصَصِ الشِّرْبِ وَالْأَرَاضِي حتى إنَّ النَّهْرَ لو كان بين عَشَرَةِ أَنْفُسٍ أَرَاضِيهِمْ عليه لَأُخِّرَ كَرْيُ فُوَّهَةِ النَّهْرِ إلَى أَنْ يُجَاوِزَ شِرْبَ أَوَّلِهِمْ بَيْنَهُمْ على عَشَرَةِ أَسْهُمٍ على كل وَاحِدٍ منهم الْعُشْرُ فإذا جَاوَزُوا شِرْبَ الْأَوَّلِ سَقَطَ عنه الْكَرْيُ وكان على الْبَاقِينَ على تِسْعَةِ أَسْهُمٍ فإذا جَاوَزُوا شِرْبَ الثَّانِي سَقَطَ عنه الْكَرْيُ وكان على الْبَاقِينَ على ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ هَكَذَا وَهَذَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْكَرْيُ بَيْنَهُمْ على عَشَرَةِ أَسْهُمٍ من أَعْلَى النَّهْرِ إلَى أَسْفَلِهِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكَرْيَ من حُقُوقِ الْمِلْكِ وَالْمِلْكَ في الْأَعْلَى مُشْتَرَكٌ بين الْكُلِّ من فُوَّهَةِ النَّهْرِ إلَى شِرْبِ أَوَّلِهِمْ فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ على الْكُلِّ فَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا مِلْكَ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى فيه إنَّمَا له حَقٌّ وهو حَقُّ تَسْيِيلِ الْمَاءِ فيه فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ على صَاحِبِ الْمِلْكِ لَا على صَاحِبِ الْحَقِّ وَلِهَذَا كانت مُؤْنَةُ الْكَرْيِ على أَصْحَابِ النَّهْرِ وَلَا شَيْءَ على أَهْلِ الشَّفَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِأَصْحَابِ النَّهْرِ وَلِأَهْلِ الشَّفَةِ حَقُّ الشُّرْبِ وَسَقْيِ دَوَابِّهِمْ وَكَذَا كُلُّ من كان له مَيْلٌ على سَطْحٍ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِهِ فَكَانَتْ غَرَامَتُهُ على صَاحِبِ السَّطْحِ لَا عليه لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا الْأَنْهَارُ الْعِظَامُ كَسَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهَا فَلَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فيها وَلَا في رَقَبَةِ النَّهْرِ وَكَذَا ليس لِأَحَدٍ حَقٌّ خَاصٌّ فيها وَلَا في الشِّرْبِ بَلْ هو حَقٌّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَذِهِ الْأَنْهَارِ بِالشَّفَةِ وَالسَّقْيِ وَشَقِّ النَّهْرِ منها إلَى أَرْضِهِ بِأَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً بِإِذْنِ الْإِمَامِ له أَنْ يَشُقَّ إلَيْهَا نَهْرًا من هذه الْأَنْهَارِ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ وَلَا لِأَحَدٍ مَنْعُهُ إذَا لم يَضُرَّ بِالنَّهْرِ وَكَذَا له أَنْ يَنْصِبَ عليه رَحًى وَدَالِيَةً وَسَانِيَةً إذَا لم يَضُرَّ بِالنَّهْرِ لِأَنَّ هذه الْأَنْهَارَ لم تَدْخُلْ تَحْتَ يَدِ أَحَدٍ فَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِصَاصُ بها لِأَحَدٍ فَكَانَ الناس فيها كلهم على السَّوَاءِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ بِسَبِيلٍ من الِانْتِفَاعِ لَكِنْ بِشَرِيطَةِ عَدَمِ الضَّرَرِ بِالنَّهْرِ كَالِانْتِفَاعِ بِطَرِيقِ الْعَامَّةِ وَإِنْ أَضَرَّ بِالنَّهْرِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ من الْمُسْلِمِينَ مَنْعُهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ حَقٌّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِبَاحَةُ التَّصَرُّفِ في حَقِّهِمْ مَشْرُوطَةٌ بِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ كَالتَّصَرُّفِ في الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ
وَسُئِلَ أبو يُوسُفَ عن نَهْرِ مَرْوَ وهو نَهْرٌ عَظِيمٌ أَحْيَا رَجُلٌ أَرْضًا كانت مَوَاتًا فَحَفَرَ لها نَهْرًا فَوْقَ مَرْوَ من مَوْضِعٍ ليس يَمْلِكُهُ أَحَدٌ فَسَاقَ الْمَاءَ إلَيْهَا من ذلك النَّهْرِ فقال أبو يُوسُفَ إنْ كان يَدْخُلُ على أَهْلِ مَرْوَ ضَرَرٌ في مَائِهِمْ ليس له ذلك وَإِنْ كان لَا يَضُرُّهُمْ فَلَهُ ذلك وَلَيْسَ لهم أَنْ يَمْنَعُوهُ لِمَا قُلْنَا
وَسُئِلَ أَيْضًا إذَا كان لِرَجُلٍ من هذا النَّهْرِ كُوًى مَعْرُوفَةٌ هل له أَنْ يَزِيدَ فيها فقال إنْ زَادَ في مِلْكِهِ وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِأَهْلِ النَّهْرِ فَلَهُ ذلك وَلَوْ كان نَهْرٌ خَاصٌّ لِقَوْمٍ يَأْخُذُ الْمَاءَ من هذا النَّهْرِ فَأَرَادَ وَاحِدٌ منهم أَنْ يَزِيدَ كُوَّةً لم يَكُنْ له ذلك وَإِنْ كان لَا يَضُرُّ بِالنَّهْرِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الزِّيَادَةَ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ تَصَرُّفٌ في حَقٍّ مُشْتَرَكٍ بين الْعَامَّةِ وَحُرْمَةُ التَّصَرُّفِ في حُقُوقِ الْعَامَّةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشَرِيطَةِ الضَّرَرِ وَالزِّيَادَةُ في الْفَصْلِ الثَّانِي تَصَرُّفٌ في مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ بِأَخْذِ زِيَادَةِ الْمَاءِ في النَّهْرِ وَالتَّصَرُّفُ في الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ لَا تَقِفُ حُرْمَتُهُ على الضَّرَرِ بِالْمَالِكِ هو الْفَرْقُ وَلَوْ جَزَرَ مَاءُ هذه الْأَنْهَارِ عن أَرْضٍ فَلَيْسَ لِمَنْ يَلِيهَا أَنْ يَضُمَّهَا إلَى أَرْضِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ مَاؤُهَا إلَى مَكَانِهِ وَلَا يَجِدُ إلَيْهِ سَبِيلًا فَيُحْمَلُ على جَانِبٍ آخَرَ فَيَضُرُّ حتى لو أَمِنَ الْعَوْدَ أو كان بِإِزَائِهَا من الْجَانِبِ الْآخَرِ أَرْضٌ مَوَاتٌ لَا يَسْتَضِرُّ أَحَدٌ بِحَمْلِ الْمَاءِ عليه فَلَهُ ذلك وَيَمْلِكُهُ إذَا أَحْيَاهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أو بِغَيْرِ إذْنِهِ على الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ
وَلَوْ احْتَاجَتْ هذه الْأَنْهَارُ إلَى الْكَرْيِ فَعَلَى السُّلْطَانِ كِرَاهَا من بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ مُؤْنَتُهَا من بَيْتِ الْمَالِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَكَذَا لو خِيفَ منها الْغَرَقُ فَعَلَى السُّلْطَانِ إصْلَاحُ مُسَنَّاتِهَا من بَيْتِ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ الْأَرَاضِي الْكَلَامُ في مَوْضِعَيْنِ في بَيَانِ أَنْوَاعِ الْأَرَاضِي وفي بَيَانِ حُكْمِ كل نَوْعٍ منها
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَرَاضِي في الْأَصْلِ نَوْعَانِ أَرْضٌ مَمْلُوكَةٌ وَأَرْضٌ مُبَاحَةٌ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ وَالْمَمْلُوكَةُ نَوْعَانِ عَامِرَةٌ وَخَرَابٌ
وَالْمُبَاحَةُ نَوْعَانِ أَيْضًا نَوْعٌ هو من
____________________

(6/192)


مَرَافِقِ الْبَلْدَةِ مُحْتَطَبًا لهم وَمَرْعًى لِمَوَاشِيهِمْ وَنَوْعٌ ليس من مَرَافِقِهَا وهو الْمُسَمَّى بِالْمَوَاتِ
أَمَّا بَيَانُ حُكْمِ كل نَوْعٍ منها
أَمَّا الْأَرَاضِي الْمَمْلُوكَةُ الْعَامِرَةُ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فيها من غَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا لِأَنَّ عِصْمَةَ الْمِلْكِ تَمْنَعُ من ذلك وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ الْخَرَابُ الذي انْقَطَعَ مَاؤُهَا وَمَضَى على ذلك سُنُونَ لِأَنَّ الْمِلْكَ فيها قَائِمٌ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ حتى يَجُوزَ بَيْعُهَا وَهِبَتُهَا وَإِجَارَتُهَا وَتَصِيرَ مِيرَاثًا إذَا مَاتَ صَاحِبُهَا
إلَّا أنها إذَا كانت خَرَابًا فَلَا خَرَاجَ عليها إذْ ليس على الْخَرَابِ خَرَاجٌ إلَّا أذا عَطَّلَهَا صَاحِبُهَا مع التَّمَكُّنِ من الِاسْتِنْمَاءِ فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ
وَهَذَا إذَا عُرِفَ صَاحِبُهَا فَإِنْ لم يُعْرَفْ فَحُكْمُهَا حُكْمُ اللُّقَطَةِ يُعْرَفُ في كِتَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا الْكَلَأُ الذي يَنْبُتُ في أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ إلَّا إذَا قَطَعَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ وَأَخْرَجَ فَيَمْلِكُهُ
هذا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عن أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ من مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ إنه إذَا سَقَاهُ وَقَامَ عليه مَلَكَهُ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فيه هو الْإِبَاحَةُ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الناس شُرَكَاءُ في ثَلَاثٍ الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ وَالْكَلَأُ اسْمٌ لِحَشِيشٍ يَنْبُتُ من غَيْرِ صُنْعِ الْعَبْدِ وَالشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ هِيَ الْإِبَاحَةُ إلَّا إذَا قَطَعَهُ وَأَحْرَزَهُ لِأَنَّهُ اسْتَوْلَى على مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ فَيَمْلِكُهُ كَالْمَاءِ الْمُحْرَزِ في الْأَوَانِي وَالظُّرُوفِ وَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ التي هِيَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ وَالنَّارُ اسْمٌ لِجَوْهَرٍ مُضِيءٍ دَائِمِ الْحَرَكَةِ عُلُوًّا فَلَيْسَ لِمَنْ أَوْقَدَهَا أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ من الِاصْطِلَاءِ بها لِأَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَثْبَتَ الشَّرِكَةَ فيها
فَأَمَّا الْجَمْرُ فَلَيْسَ بِنَارٍ وهو مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ فَلَهُ حَقُّ الْمَنْعِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ وَلَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ مِلْكَهُ لِاحْتِشَاشِ الكلأ فإذا كان يحده ( ( ( يجده ) ) ) في مَوْضِعٍ آخَرَ له أَنْ يَمْنَعَهُ من الدُّخُولِ وَإِنْ كان لَا يحده ( ( ( يجده ) ) ) فَيُقَالُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ إمَّا أَنْ تَأْذَنَ له بِالدُّخُولِ وَإِمَّا أَنْ تَحُشَّ بِنَفْسِك فَتَدْفَعَهُ إلَيْهِ كَالْمَاءِ الذي في الْآبَارِ وَالْعُيُونِ وَالْحِيَاضِ التي في الْأَرَاضِي الْمَمْلُوكَةِ على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الشِّرْبِ
وَلَوْ دخل إنْسَانٌ أَرْضَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَاحْتَشَّ ليس لِصَاحِبِهِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ مَالٌ مَمْلُوكٌ وَإِنْ لم يَثْبُتْ على مِلْكِ أَحَدٍ وَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَحْتَمِلُ الْإِجَارَةَ على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الشِّرْبِ
وَالْجَوَابُ في الكلأ في الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ وَالْوَصِيَّةِ كَالْجَوَابِ في الشِّرْبِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منها غَيْرُ مَمْلُوكٍ وقد ذَكَرْنَا ذلك كُلَّهُ في الشِّرْبِ
وَكَذَلِكَ الْمُرُوجُ الْمَمْلُوكَةُ في حُكْمِ الكلأ على هذا
وَكَذَلِكَ الْآجَامُ الْمَمْلُوكَةُ في حُكْمِ السَّمَكِ
لِأَنَّ السَّمَكَ أَيْضًا مُبَاحُ الْأَصْلِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ } وَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ الحديث
فَلَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا إلَّا بِالْأَخْذِ وَالِاسْتِيلَاءِ لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ حُظِرَ السَّمَكُ في حَظِيرَةٍ فَإِنْ كان مِمَّا يُمْكِنُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ صَيْدٍ يَمْلِكُهُ بِنَفْسِ الْحَظْرِ لِوُجُودِ الِاسْتِيلَاءِ وَإِثْبَاتِ الْيَدِ عليه وَلِهَذَا لو بَاعَهُ جَازَ وَإِنْ كان لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ إلَّا بِصَيْدٍ لَا يَمْلِكُهُ صَاحِبُ الْحَظِيرَةِ لِأَنَّهُ ما اسْتَوْلَى عليه وَلَا يُمْلَكُ الْمُبَاحُ إلَّا بِالِاسْتِيلَاءِ وَلِهَذَا لو بَاعَهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ
وَعَلَى هذا سَائِرُ الْمُبَاحَاتِ كَالطَّيْرِ إذَا بَاضَتْ أو فَرَّخَتْ في أَرْضِ إنْسَانٍ أَنَّهُ يَكُونُ مُبَاحًا وَيَكُونُ لِلْآخِذِ لَا لِصَاحِبِ الْأَرْضِ سَوَاءٌ كان صَاحِبُ الْأَرْضِ اتَّخَذَ له وَكْرًا أَمْ لَا وقال الْمُتَأَخِّرُونَ من مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ إنَّهُ إنْ كان اتَّخَذَ له مِلْكًا له يَسْتَرِدُّهُ من الْآخِذِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَنْ أَخَذَهُ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ في الْمُبَاحِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالِاسْتِيلَاءِ عليه وَالْآخِذُ هو الْمُسْتَوْلِي دُونَ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَإِنْ اتَّخَذَ له وَكْرًا وَكَذَلِكَ صَيْدٌ الْتَجَأَ إلَى أَرْضِ رَجُلٍ أو دَارِهِ فَهُوَ لِلْآخِذِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ رَدَّ صَاحِبُ الدَّارِ بَابَ الدَّارِ عليه بَعْدَ الدُّخُولِ يَمْلِكُهُ إنْ أَمْكَنَهُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ صَيْدٍ لِوُجُودِ الِاسْتِيلَاءِ منه
وَكَذَلِكَ لو نَصَبَ شَبَكَةً فَتَعَقَّلَ بها صَيْدٌ تَعَقُّلًا لَا خَلَاصَ له فَهُوَ لِنَاصِبِ الشَّبَكَةِ سَوَاءٌ كانت الشَّبَكَةُ له أو لِغَيْرِهِ كَمَنْ أَرْسَلَ بَازِيَ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَأَخَذَ صَيْدًا أو أَغْرَى كَلْبًا لِإِنْسَانٍ على صَيْدٍ فَأَخَذَهُ فَكَانَ لِلْمُرْسِلِ وَالْمُغْرِي لَا لِصَاحِبِهِ
وَلَوْ نَصَبَ فُسْطَاطًا فَجَاءَ صَيْدٌ فَتَعَقَّلَ بِهِ فَهُوَ لِلْآخِذِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ نَصْبَ الشَّبَكَةِ وُضِعَ لِتَعَقُّلِ الصَّيْدِ وَمُبَاشِرُ السَّبَبِ الْمَوْضُوعِ لِلشَّيْءِ اكْتِسَابٌ له فَأَمَّا نَصْبُ الْفُسْطَاطِ فما وُضِعَ لِذَلِكَ بَلْ لِغَرَضٍ آخَرَ فَتَوَقَّفَ الْمِلْكُ فيه على الِاسْتِيلَاءِ
____________________

(6/193)


وَالْأَخْذِ حَقِيقَةً وَلَوْ حَفَرَ حَفِيرَةً فَوَقَعَ فيها صَيْدٌ فَإِنْ كان حَفَرَهَا لِاجْتِمَاعِ الْمَاءِ فيها فَهُوَ لِلْآخِذِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاصْطِيَادِ وَإِنْ كان حَفَرَهَا لِلِاصْطِيَادِ بها فَهُوَ له بِمَنْزِلَةِ الشَّبَكَةِ
وَأَمَّا الْآجَامُ الْمَمْلُوكَةُ في حُكْمِ الْقَصَبِ وَالْحَطَبِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْتَطِبَ من أَجَمَةِ رَجُلٍ إلَّا بِإِذْنِهِ لِأَنَّ الْحَطَبَ وَالْقَصَبَ مَمْلُوكَانِ لِصَاحِبِ الْأَجَمَةِ يَنْبُتَانِ على مِلْكِهِ وَإِنْ لم يُوجَدْ منه الْإِنْبَاتُ أَصْلًا بِخِلَافِ الكلأ في الْمُرُوجِ الْمَمْلُوكَةِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَجَمَةِ هِيَ الْقَصَبُ وَالْحَطَبُ فَكَانَ ذلك مَقْصُودًا من مِلْكِ الْأَجَمَةِ فَيُمْلَكُ بِمِلْكِهَا
فَأَمَّا الْكَلَأُ فَغَيْرُ مَقْصُودٍ من الْمَرْجِ الْمَمْلُوكِ بَلْ الْمَقْصُودُ هو الزِّرَاعَةُ وَلَوْ أَنَّ بَقَّارًا رَعَى بَقَرًا في أَجَمَةٍ مَمْلُوكَةٍ لِإِنْسَانٍ فَلَيْسَ له ذلك وهو ضَامِنٌ لِمَا رَعَى وَأَفْسَدَ من الْقَصَبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَجَمَةِ الْقَصَبُ وَالْحَطَبُ وَهُمَا مَمْلُوكَانِ لِصَاحِبِ الْأَجَمَةِ وَإِتْلَافُ مَالٍ مَمْلُوكٍ لِصَاحِبِهِ يُوجِبُ الضَّمَانَ بِخِلَافِ الكلأ في الْمُرُوجِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ على الْإِبَاحَةِ دُونَ الْمِلْكِ على ما بَيَّنَّا وَالدَّلِيلُ على التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ له دَفْعُ الْقَصَبِ مُعَامَلَةً وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الكلأ مُعَامَلَةً وَالْأَصْلُ الْمَحْفُوظُ فيه أَنَّ الْقَصَبَ وَالْحَطَبَ يُمْلَكَانِ بِمِلْكِ الْأَرْضِ وَالْكَلَأُ لَا
وَأَمَّا ما لَا يثبت ( ( ( ينبت ) ) ) عَادَةً إلَّا بِصُنْعِ الْعَبْدِ كَالْقَتَّةِ وَالْقَصِيلِ وما بَقِيَ من حَصَادِ الزَّرْعِ وَنَحْوِ ذلك في أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ يَكُونُ مَمْلُوكًا وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَنَحْوُ ذلك لِأَنَّ الْإِنْبَاتَ يُعَدُّ اكْتِسَابًا له فَيَمْلِكُهُ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ من الْمَمْلُوكِ مَمْلُوكًا إلَّا أَنَّ الْإِبَاحَةَ في بَعْضِ الْأَشْيَاءِ تَثْبُتُ على مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ بِالشَّرْعِ وَالشَّرْعُ وَرَدَ بها في أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ فَيُقْتَصَرُ عليها
وَأَمَّا أَرْضُ الْمَوَاتِ فَالْكَلَامُ فيها في مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِ الْأَرْضِ الْمَوَاتِ وفي بَيَانِ ما يَمْلِكُ الْإِمَامُ من التَّصَرُّفِ في الْمَوَاتِ وفي بَيَانِ ما يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ في الْمَوَاتِ وما يَثْبُتُ بِهِ الْحَقُّ فيه دُونَ الْمِلْكِ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا مُلِكَ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَرْضُ الْمَوَاتُ هِيَ أَرْضٌ خَارِجَ الْبَلَدِ لم تَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَا حَقًّا له خَاصًّا فَلَا يَكُونُ دَاخِلَ الْبَلَدِ مَوَاتٌ أَصْلًا وَكَذَا ما كان خَارِجَ الْبَلْدَةِ من مَرَافِقِهَا مُحْتَطَبًا بها لِأَهْلِهَا أو مَرْعًى لهم لَا يَكُونُ مَوَاتًا حتى لَا يَمْلِكَ الْإِمَامُ إقْطَاعَهَا لِأَنَّ ما كان من مَرَافِقِ أَهْلِ الْبَلْدَةِ فَهُوَ حَقُّ أَهْلِ الْبَلْدَةِ كَفِنَاءِ دَارِهِمْ وفي الْإِقْطَاعِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ وَكَذَلِكَ أَرْضُ الْمِلْحِ وَالْقَارِّ وَالنِّفْطِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي عنها الْمُسْلِمُونَ لَا تَكُونُ أَرْضَ مَوَاتٍ حتى لَا يَجُوزَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَهَا لِأَحَدٍ لِأَنَّهَا حَقٌّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وفي الْإِقْطَاعِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وهذا ( ( ( وهل ) ) ) يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا من الْعُمْرَانِ شَرَطَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فإنه قال وما قَرُبَ من الْعَامِرِ فَلَيْسَ بِمَوَاتٍ
وَكَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ أَرْضَ الْمَوَاتِ بُقْعَةٌ لو وَقَفَ على أَدْنَاهَا من الْعَامِرِ رَجُلٌ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ لم يَسْمَعْهُ من الْعَامِرِ وفي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ليس بِشَرْطٍ حتى إنَّ بَحْرًا من الْبَلْدَةِ جَزَرَ مَاؤُهُ أو أَجَمَةً عَظِيمَةً لم تَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ تَكُونُ أَرْضَ مَوَاتٍ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ وَقَوْلِ الطَّحَاوِيِّ لَا تَكُونُ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْمَوَاتَ اسْمٌ لِمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فإذا لم يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَا حَقًّا خَاصًّا لم يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهِ كان بَعِيدًا عن الْبَلْدَةِ أو قَرِيبًا منها
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَمْلِكُ الْإِمَامُ من التَّصَرُّفِ في الْمَوَاتِ فَالْإِمَامُ يَمْلِكُ إقْطَاعَ الْمَوَاتِ من مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يَرْجِعُ ذلك إلَى عِمَارَةِ الْبِلَادِ للتصرف ( ( ( التصرف ) ) ) فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لِلْإِمَامِ كَكَرْيِ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ وَإِصْلَاحِ قَنَاطِرِهَا وَنَحْوِهِ
وَلَوْ أَقْطَعَ الْإِمَامُ الْمَوَاتَ إنْسَانًا فَتَرَكَهُ ولم يَعْمُرْهُ لَا يُتَعَرَّضُ له إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ فإذا مَضَى ثَلَاثُ سِنِينَ فَقَدْ عاد ( ( ( ظل ) ) ) مَوَاتًا كما كان وَلَهُ أَنْ يُقْطِعَهُ غَيْرَهُ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ليس لِمُحْتَجِرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ حَقٌّ وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ سِنِينَ مُدَّةٌ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ فإذا أَمْسَكَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ ولم يَعْمُرْهَا دَلَّ على أَنَّهُ لَا يُرِيدُ عِمَارَتَهَا بَلْ تَعْطِيلَهَا فَبَطَلَ حَقُّهُ وَتَعُودُ إلَى حَالِهَا مَوَاتًا وكان لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهَا غَيْرَهُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ في الْمَوَاتِ وما لَا يَثْبُتُ وَيَثْبُتُ بِهِ الْحَقُّ فَالْمِلْكُ في الْمَوَاتِ يَثْبُتُ بِالْإِحْيَاءِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِحْيَاءِ وَإِذْنُ الْإِمَامِ ليس بِشَرْطٍ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ له وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ فيه حَقٌّ أَثْبَتَ الْمِلْكَ للمحي ( ( ( للمحيي ) ) ) من غَيْرِ شَرِيطَةِ إذْنِ الْإِمَامِ وَلِأَنَّهُ مُبَاحٌ اسْتَوْلَى عليه فَيَمْلِكُهُ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ كما لو أَخَذَ صَيْدًا أو حَشَّ كَلَأً وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ليس لِعِرْقٍ ظَالِمٍ فيه
____________________

(6/194)


حَقٌّ رُوِيَ مُنَوَّنًا وَمُضَافًا فَالْمُنَوَّنُ هو أَنْ تَنْبُتَ عُرُوقُ أَشْجَارِ إنْسَانٍ في أَرْضِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ قَلْعُهَا حَشِيشًا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ليس لِلْمَرْءِ إلَّا ما طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ فإذا لم يَأْذَنْ فلم تَطِبْ نَفْسُهُ بِهِ فَلَا يَكُونُ له وَلِأَنَّ الْمَوَاتَ غَنِيمَةٌ فَلَا بُدَّ لِلِاخْتِصَاصِ بِهِ من إذْنِ الْإِمَامِ كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ غَنِيمَةً اسْمٌ لِمَا أُصِيبَ من أَهْلِ الْحَرْبِ بِإِيجَافِ الْخَيْل وَالرِّكَابِ وَالْمَوَاتُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا كانت تَحْتَ أَيْدِي أَهْلِ الْحَرْبِ اسْتَوْلَى عليها الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً وَقَهْرًا فَكَانَتْ كُلُّهَا غَنَائِمَ فَلَا يَخْتَصُّ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ بِشَيْءٍ منها من غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ بِخِلَافِ الصَّيْدِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ لِأَنَّهَا لم تَكُنْ في يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَجَازَ أَنْ تُمْلَكَ بِنَفْسِ الِاسْتِيلَاءِ وَإِثْبَاتِ الْيَدِ عليها
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ شَرْعًا وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إذن جَمَاعَةً بِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ بِذَلِكَ النَّظْمِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ
نَظِيرَ قَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ حتى لم يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ في إيجَابِ السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ على ما ذُكِرَ في كِتَابِ السِّيَرِ أو يُحْمَلُ ذلك على حَالِ الْإِذْنِ تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ
وَيَمْلِكُ الذِّمِّيُّ بِالْإِحْيَاءِ كما يَمْلِكُ الْمُسْلِمُ لِعُمُومِ الحديث
وَلَوْ حَجَرَ الْأَرْضَ الْمَوَاتَ لَا يَمْلِكُهَا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْمَوَاتَ يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عن وَضْعِ أَحْجَارٍ أو خَطٍّ حَوْلَهَا يُرِيدُ أَنْ يَحْجُرَ غَيْرَهُ عن الِاسْتِيلَاءِ عليها وَشَيْءٌ من ذلك ليس بِإِحْيَاءٍ فَلَا يَمْلِكُهَا وَلَكِنْ صَارَ أَحَقَّ بها من غَيْرِهِ حتى لم يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يُزْعِجَهُ لِأَنَّهُ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ وَالسَّبْقُ من أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ في الْجُمْلَةِ قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ منى مُبَاحُ من سَبَقَ
وَعَلَى هذا الْمُسَافِرُ إذَا نَزَلَ بِأَرْضٍ مُبَاحَةٍ أو رِبَاطٍ صَارَ أَحَقَّ بها ولم يَكُنْ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُ أَنْ يُزْعِجَهُ عنها وإذا صَارَ أَحَقَّ بها فَلَا يُقْطِعُهَا الْإِمَامُ غَيْرَهُ إلَّا إذَا عَطَّلَهَا الْمُتَحَجِّرُ ثَلَاثَ سِنِينَ ولم يَعْمُرْهَا
وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ أَرْضِ الْمَوَاتِ إذَا مُلِكَتْ فَيَخْتَصُّ بها حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا حُكْمُ الْحَرِيمِ
وَالثَّانِي الْوَظِيفَةُ من الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في أَصْلِ الْحَرِيمِ وَالثَّانِي في قَدْرِهِ
أَمَّا أَصْلُهُ فَلَا خِلَافَ في أَنَّ من حَفَرَ بِئْرًا في أَرْضِ الْمَوَاتِ يَكُونُ لها حَرِيمٌ حتى لو أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَحْفِرَ في حَرِيمِهِ له أَنْ يَمْنَعَهُ لِأَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ لِلْبِئْرِ حَرِيمًا وَكَذَلِكَ الْعَيْنُ لها حَرِيمٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ لِكُلِّ أَرْضٍ حَرِيمًا وَأَمَّا النَّهْرُ فَقَدْ ذَكَرْنَا الْكَلَامَ فيه وَأَمَّا تَقْدِيرُهُ فَحَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ بِالْإِجْمَاعِ وَبِهِ نَطَقَتْ السُّنَّةُ وهو قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا بِالْإِجْمَاعِ نَطَقَتْ بِهِ السُّنَّةُ قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا
وَأَمَّا حَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا وَعِنْدَهُمَا سِتُّونَ ذِرَاعًا احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمِلْكَ في الْمَوَاتِ يَثْبُتُ بالأحياء بِإِذْنِ الْإِمَامِ أو بِغَيْرِ إذْنِهِ ولم يُوجَدْ منه إحْيَاءُ الْحَرِيمِ وَكَذَا إذْنُ الْإِمَامِ يَتَنَاوَلُ الْحَرِيمَ مَقْصُودًا إلَّا أَنَّ دُخُولَ الْحَرِيمِ لِحَاجَةِ الْبِئْرِ إلَيْهِ وَحَاجَةُ النَّاضِحِ تَنْدَفِعُ بِأَرْبَعِينَ ذِرَاعًا من كل جَانِبٍ كَحَاجَةِ الْعَطَنِ فَبَقِيَ الزِّيَادَةُ على ذلك على حُكْمِ الْمَوَاتِ وَالْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذلك في بِئْرٍ خَاصٍّ وَلِلْإِمَامِ وِلَايَةُ ذلك
وَأَمَّا حَرِيمُ النَّهْرِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ في تَقْدِيرِهِ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ قَدْرُ نِصْفِ بَطْنِ النَّهْرِ من كل جَانِبٍ النِّصْفُ من هذا الْجَانِبِ وَالنِّصْفُ من ذلك الْجَانِبِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ قَدْرُ جَمِيعِ بَطْنِ النَّهْرِ من كل جَانِبٍ قَدْرُ جَمِيعِهِ
وَأَمَّا النَّهْرُ إذَا حُفِرَ في أَرْضِ الْمَوَاتِ فَمِنْهُمْ من ذَكَرَ الْخِلَافَ فيه بين أبي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ له حَرِيمًا بِلَا خِلَافٍ لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا الثَّانِي حُكْمُ الْوَظِيفَةِ فَإِنْ أَحْيَاهَا مُسْلِمٌ قال أبو يُوسُفَ إنْ كانت من حَيِّزِ أَرْضِ الْعُشْرِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٍ وَإِنْ كانت من حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ
وقال مُحَمَّدٌ إنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْعُشْرِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٍ وَإِنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْخَرَاجِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ وَإِنْ أَحْيَاهَا ذِمِّيٌّ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ كَيْفَ ما كان بِالْإِجْمَاعِ وَهِيَ من مَسَائِلِ كِتَابِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ وَاَللَّهُ عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ

____________________

(6/195)


كِتَابُ الْمَفْقُودِ الْكَلَامُ في الْمَفْقُودِ يَقَعُ في أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِ الْمَفْقُودِ وفي بَيَانِ حَالِهِ وفي بَيَانِ ما يُصْنَعُ بِمَالِهِ وفي بَيَانِ حُكْمِ مَالِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمَفْقُودُ اسْمٌ لِشَخْصٍ غَابَ عن بَلَدِهِ وَلَا يُعْرَفُ خَبَرُهُ أَنَّهُ حَيٌّ أَمْ مَيِّتٌ
فَصْلٌ وَأَمَّا حَالُ الْمَفْقُودِ فَعِبَارَةُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ عن حَالِهِ أَنَّهُ حَيٌّ في حَقِّ نَفْسِهِ مَيِّتٌ في حَقِّ غَيْرِهِ وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ حَيًّا وَمَيِّتًا حَقِيقَةً لِمَا فيه من الِاسْتِحَالَةِ وَلَكِنْ مَعْنَى هذه الْعِبَارَةِ أَنَّهُ تَجْرِي عليه أَحْكَامُ الْأَحْيَاءِ فِيمَا كان له فَلَا يُورَثُ مَالُهُ وَلَا تَبِينُ امْرَأَتُهُ كَأَنَّهُ حَيٌّ حَقِيقَةً وَتَجْرِي عليه أَحْكَامُ الْأَمْوَاتِ فِيمَا لم يَكُنْ له فَلَا يَرِثُ أَحَدًا كَأَنَّهُ مَيِّتٌ حَقِيقَةً لِأَنَّ الثَّابِتَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ يَصْلُحُ لِإِبْقَاءِ ما كان على ما كان وَلَا يَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ ما لم يَكُنْ وَمِلْكُهُ في أَحْكَامِ أَمْوَالِهِ وَنِسَائِهِ أَمْرٌ قد كان وَاسْتَصْحَبْنَا حَالَ الْحَيَاةِ لِإِبْقَائِهِ وَأَمَّا مِلْكُهُ في مَالِ غَيْرِهِ فَأَمْرٌ لم يَكُنْ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْإِثْبَاتِ وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ ما لم يَكُنْ
وَتَحْقِيقُ الْعِبَارَةِ عن حَالِهِ أَنَّ حاله غَيْرُ مَعْلُومٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ حَيٌّ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَيِّتٌ وَهَذَا يَمْنَعُ التَّوَارُثَ وَالْبَيْنُونَةَ لِأَنَّهُ إنْ كان حَيًّا يَرِثُ أَقَارِبَهُ وَلَا يَرِثُونَهُ وَلَا تَبِينُ امْرَأَتُهُ
وَإِنْ كان مَيِّتًا لَا يَرِثُ أَقَارِبَهُ وَيَرِثُونَهُ وَالْإِرْثُ من الْجَانِبَيْنِ أَمْرٌ لم يَكُنْ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَوَقَعَ الشَّكُّ في ثُبُوتِهِ فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ وَكَذَلِكَ الْبَيْنُونَةُ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ في الثَّابِتُ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَغَيْرُ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ
فإذا مَاتَ وَاحِدٌ من أَقَارِبِهِ يُوقَفُ نَصِيبُهُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ حَالُهُ أَنَّهُ حَيٌّ أَمْ مَيِّتٌ لِاحْتِمَالِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ لِلْحَالِ حتى إنَّ من هَلَكَ وَتَرَكَ ابْنًا مَفْقُودًا وَابْنَتَيْنِ وَابْنَ ابْنٍ وَطَلَبَتْ الِابْنَتَانِ الْمِيرَاثَ فإن الْقَاضِيَ يَقْضِي لَهُمَا بِالنِّصْفِ وَيُوقِفُ النِّصْفَ الثَّانِيَ إلَى أَنْ يَظْهَرَ حَالُهُ لِأَنَّهُ إنْ كان حَيًّا كان له النِّصْفُ وَالنِّصْفُ لِلِابْنَتَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِابْنِ الِابْنِ وَإِنْ كان مَيِّتًا كان لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِابْنِ الِابْنِ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ النِّصْفِ لِلِابْنَتَيْنِ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَيُدْفَعُ ذلك إلَيْهِمَا وَيُوقَفُ النِّصْفُ الْآخَرُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ حَالُهُ فَإِنْ لم يَظْهَرْ حتى مَضَتْ الْمُدَّةُ التي يُعْرَفُ فيها مَوْتُهُ يُدْفَعُ الثُّلُثَانِ إلَيْهِمَا وَالْبَاقِي لِابْنِ الِابْنِ وَكَذَا لو أَوْصَى له بِشَيْءٍ يُوقَفُ وَكَذَا إذَا فُقِدَ الْمُرْتَدُّ وَلَا يدري أَنَّهُ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَمْ لَا تُوقَفُ تَرِكَتُهُ كَالْمُسْلِمِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُصْنَعُ بِمَالِهِ فَاَلَّذِي يُصْنَعُ أَنْوَاعٌ منها أَنَّ الْقَاضِيَ يَحْفَظُ مَالَهُ يُقِيمُ من يُنَصِّبُهُ لِلْحِفْظِ لِأَنَّهُ مَالٌ لَا حَافِظَ له لِعَجْزِ صَاحِبِهِ عن الْحِفْظِ فَيَحْفَظُ عليه الْقَاضِي نَظَرًا له كما يَحْفَظُ مَالَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ الذي لَا وَلِيَّ لَهُمَا
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَبِيعُ من مَالِهِ ما يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ وَيَحْفَظُ ثَمَنَهُ لِأَنَّ ذلك حِفْظٌ له مَعْنًى وَلَا يَأْخُذُ مَالَهُ الذي في يَدِ مُودَعِهِ وَمُضَارِبِهِ لِيَحْفَظَهُ لِأَنَّ يَدَهُمَا يَدُ نِيَابَةٍ عنه في الْحِفْظِ فَكَانَ مَحْفُوظًا بِحِفْظِهِ مَعْنًى فَلَا حَاجَةَ إلَى حِفْظِ الْقَاضِي
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُنْفِقُ على زَوْجَتِهِ من مَالِهِ إنْ كان عَالِمًا بِالزَّوْجِيَّةِ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عليها إحْيَاءٌ لها فَكَانَ من بَابِ حِفْظِ مِلْكِ الْغَائِبِ عليه عِنْدَ عَجْزِهِ عن الْحِفْظِ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُهُ كما يَمْلِكُ حِفْظَ مَالِهِ
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُنْفِقُ من مَالِهِ على أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَعَلَى أَوْلَادِهِ الْفُقَرَاءِ الزَّمْنَى من الذُّكُورِ وَالْفَقِيرَاتِ من الْإِنَاثِ سَوَاءٌ كُنَّ زَمْنَى أو لَا وَعَلَى وَالِدَيْهِ الْمُحْتَاجَيْنِ إنْ كان عَالِمًا بِالنَّسَبِ لِأَنَّ نَفَقَةَ أَوْلَادِهِ إنَّمَا تَجِبُ بِحُكْمِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ إحْيَاءً لهم وَإِحْيَاءُ نَفْسِهِ وَاجِبٌ فَكَذَا إحْيَاءُ جُزْئِهِ وَكُلِّهِ فَكَانَ الْإِنْفَاقُ عليهم من مَالِهِ إحْيَاءً لهم مَعْنًى وهو عَاجِزٌ عن ذلك بِنَفْسِهِ فَيَقُومُ بِهِ الْقَاضِي
وَإِنْ لم يَعْلَمْ الْقَاضِي بِالزَّوْجِيَّةِ وَالنَّسَبِ فَأَحْضَرُوا رَجُلًا في يَدِهِ مَالٌ وَدِيعَةً لِلْمَفْقُودِ أو مُضَارَبَةً أو عليه دَيْنٌ له فَأَقَرَّ الرَّجُلُ بِذَلِكَ وَبِالزَّوْجِيَّةِ وَالنَّسَبِ أَنْفَقَ عليهم من ذلك الْمَالِ لِأَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْخُذَ نَفَقَتَهَا من مَالِ زَوْجِهَا إذَا ظَفِرَتْ بِهِ قَدْرَ ما يَكْفِيهَا قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِامْرَأَةِ أبي سُفْيَانَ خُذِي من مَالِ أبي سُفْيَانَ ما يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ فإذا أَقَرَّ أَنَّ هذا مَالَهُ وَهَذِهِ امْرَأَتُهُ ثَبَتَ لها حَقُّ الْأَخْذِ وَكَذَا في الْأَوْلَادِ يَأْخُذُ الْبَعْضُ كِفَايَتَهُ من مَالِ الْبَعْضِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فإذا أَقَرَّ بِالنَّسَبِ وَالْمَالِ فَقَدْ ثَبَتَ لهم حَقُّ الْأَخْذِ
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس لِلْقَاضِي ذلك لِكَوْنِهِ قَضَاءً على الْغَائِبِ
وَنَحْنُ نَقُولُ ليس هذا من بَابِ الْقَضَاءِ على الْغَائِبِ بَلْ هو من بَابِ النَّظَرِ لِلْغَائِبِ وَلِلْقَاضِي وِلَايَةُ النَّظَرِ لِلْغَائِبِ لِمَا عُلِمَ على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ النَّفَقَاتِ
وَلَوْ أَخَذَ الْقَاضِي منهم كَفِيلًا كان حَسَنًا لِجَوَازِ أَنْ يَحْضُرَ الْمَفْقُودُ فَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ كان طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أو
____________________

(6/196)


كان أَعْطَاهُمْ النَّفَقَةَ مُعَجَّلَةً
هذا إذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ بِهِمَا فَأَمَّا إذَا أَنْكَرَهُمَا جميعا أو أَقَرَّ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ على ذلك لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُمْ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَضَاءً على الْغَائِبِ وَلَهُ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عنه وَلَهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ لِأَنَّ الْمُودَعَ وَالْمُضَارِبَ وَالْغَرِيمَ لَيْسُوا خُصَمَاءَ عن الْغَائِبِ في إثْبَاتِ الزَّوْجِيَّةِ وَإِيجَابِ النَّفَقَةِ عليه وَكَذَا الْأَوْلَادُ وَالْوَالِدُونَ وَالْمَرْأَةُ لَيْسُوا خُصَمَاءَ لِلْغَائِبِ في إثْبَاتِ مِلْكِ الْمَالِ له وَكُلُّ ذلك لَا يَجُوزُ فَإِنْ أَعْطَوْهُمْ شيئا فَهُوَ من مَالِ أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ مُتَطَوِّعُونَ في ذلك وَلَا يُنْفِقُ من مَالِهِ على من سِوَاهُمْ من ذَوِي الْأَرْحَامِ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ لَيْسَتْ بِعِلَّةِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ لِعَدَمِهَا بَلْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَالْبِرِّ بِهِمْ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ ليس لهم أَنْ يَمُدُّوا أَيْدِيَهُمْ فَيَأْخُذُوا من مَالِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ فَكَانَ الْإِنْفَاقُ من مَالِهِ قَضَاءً على الْغَائِبِ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَالٍ ثَبَتَ حَقُّ الْأَخْذِ منه لِلْمُنْفَقِ عليه من غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي له أَنْ يُنْفِقَ منه وما لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْأَخْذِ منه إلَّا بِقَضَاءٍ ليس لِلْقَاضِي أَنْ يُنْفِقَ منه ثُمَّ الْقَاضِي إنَّمَا يُنْفِقُ من مَالِ الْمَفْقُودِ على ما ذَكَرْنَا إذَا كان الْمَالُ دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ أو طَعَامًا أو ثِيَابًا هِيَ من جِنْسِ كِسْوَتِهَا
فَأَمَّا إذَا كان من جِنْسٍ آخَرَ من الْعُرُوضِ وَالْعَقَارِ فَلَا يُنْفِقُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْإِنْفَاقُ إلَّا بِالْبَيْعِ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ الْعَقَارَ وَالْعُرُوضَ على الْغَائِبِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ على الْغَائِبِ في مَعْنَى الْحَجْرِ عليه وَالْحَجْرُ على الْحُرِّ الْبَالِغِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا إنْ جَازَ على الْحَاضِرِ لَكِنْ لَا يَجُوزُ على الْغَائِبِ لِأَنَّ الْجَوَازَ على الْحَاضِرِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ بِالِامْتِنَاعِ عن قَضَاءِ الدَّيْنِ مع الْقُدْرَةِ على الْقَضَاءِ من ثَمَنِ الْعَيْنِ ولم يَتَحَقَّقْ الظُّلْمُ منه حَالَةَ الْغَيْبَةِ لَمَّا لم يُعْرَفْ منه الِامْتِنَاعُ من الْإِنْفَاقِ فَافْتَرَقَ الْحَالَانِ وَإِنَّمَا مَلَكَ بَيْعَ ما يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ لِأَنَّ ذلك وَإِنْ كان بَيْعًا صُورَةً فَهُوَ حِفْظٌ وَإِمْسَاكٌ له مَعْنًى وَالْقَاضِي يَمْلِك حِفْظَ مَالِ الْمَفْقُودِ
وَأَمَّا الْأَبُ فَلَيْسَ له أَنْ يَبِيعَ الْعَقَارَ في نَفَقَةِ الْغَائِبِ من غَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي بِالْإِجْمَاعِ
وَأَمَّا الْمَنْقُولُ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ من غَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي وَعِنْدَهُمَا لَا يَبِيعُ الْمَنْقُولَ كما لَا يَبِيعُ الْعَقَارَ لِمَا عُلِمَ في كِتَابِ النَّفَقَاتِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ مَالِهِ فَهُوَ أَنَّهُ إذَا مَضَتْ من وَقْتِ وِلَادَتِهِ مُدَّةٌ لَا يَعِيشُ إلَيْهَا عَادَةً يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ وَيُعْتَقُ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُهُ وَتَبِينُ امْرَأَتُهُ وَيَصِيرُ مَالُهُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ الْأَحْيَاءِ وَقْتَ الْحُكْمِ وَلَا شَيْءَ لِمَنْ مَاتَ قبل ذلك ولم يُقَدِّرْ لِتِلْكَ الْمُدَّةِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَقْدِيرًا
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَدَّرَهَا بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً من وَقْتِ وِلَادَتِهِ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ أَنَّهُ فُقِدَ رَجُلٌ بِصِفِّينَ أو بِالْجَمَلِ ثُمَّ اخْتَصَمَ وَرَثَتُهُ في مَالِهِ في زَمَنِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ وَقِيلَ كانت وَفَاةُ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه في سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَوَفَاةُ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه في سَنَةِ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَدَّرَهَا بِمِائَةِ سَنَةٍ فإذا مَضَتْ الْمُدَّةُ الْمُقَدَّرَةُ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ وَتَثْبُتُ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُدَّةِ كما إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على مَوْتِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ اللَّقِيطِ الْكَلَامُ في اللَّقِيطِ في مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِ اللَّقِيطِ لُغَةً وَعُرْفًا
وفي بَيَانِ حَالِهِ وفي بَيَانِ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ من الْأَحْكَامِ
أَمَّا في اللُّغَةِ فَهُوَ فَعِيلٌ من اللَّقْطِ وهو اللِّقَاءُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ وهو الْمَلْقُوطُ وهو الْمُلْقَى أو الْأَخْذُ وَالرَّفْعُ بِمَعْنَى الْمَلْقُوطِ وهو الْمَأْخُوذُ وَالْمَرْفُوعُ عَادَةً لِمَا أَنَّهُ يُؤْخَذُ فَيُرْفَعُ
وَأَمَّا في الْعُرْفِ فَنَقُولُ هو اسْمٌ لِلطِّفْلِ الْمَفْقُودِ وهو الْمُلْقَى أو الطِّفْلِ الْمَأْخُوذِ وَالْمَرْفُوعِ عَادَةً فَكَانَ تَسْمِيَتُهُ لَقِيطًا بِاسْمِ الْعَاقِبَةِ لِأَنَّهُ يُلْقَطُ عَادَةً أَيْ يُؤْخَذُ وَيُرْفَعُ وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ عَاقِبَتِهِ أَمْرٌ شَائِعٌ في اللُّغَةِ قال اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا }
وقال اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { إنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } سَمَّى الْعِنَبَ خَمْرًا وَالْحَيَّ الذي يَحْتَمِلُ الْمَوْتَ مَيِّتًا بِاسْمِ الْعَاقِبَةِ
كَذَا هذا
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حَالِهِ فَلَهُ أَحْوَالٌ ثَلَاثٌ لَا بُدَّ من التَّعَرُّفِ عنها حَالُهُ في الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَحَالُهُ في النَّسَبِ
أَمَّا حَالُهُ في الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ فَهُوَ أَنَّهُ حُرٌّ من حَيْثُ الظَّاهِرُ
كَذَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا حَكَمَا بِكَوْنِ اللَّقِيطِ حُرًّا وَلِأَنَّ الْأَصْلَ هو الْحُرِّيَّةُ في بَنِي آدَمَ لِأَنَّ الناس كُلَّهُمْ أَوْلَادُ سَيِّدِنَا آدَمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَحَوَّاءَ وَهُمَا كَانَا
____________________

(6/197)


حُرَّيْنِ وَالْمُتَوَلَّدُ من الْحُرَّيْنِ يَكُونُ حُرًّا وَإِنَّمَا حَدَثَ الرِّقُّ في الْبَعْضِ شَرْعًا بِعَارِضِ الِاسْتِيلَاءِ بِسَبَبٍ عَارِضٍ وهو الْكُفْرُ الْبَاعِثُ على الْحِرَابِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ حتى يَقُومَ الدَّلِيلُ على الْعَارِضِ فَرُتِّبَ عليه أَحْكَامُ الْأَحْرَارِ من أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْحَدِّ على قَاذِفِهِ وَغَيْرِ ذلك من الْأَحْكَامِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْأَحْرَارِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ قَاذِفُ أمه لِأَنَّ إحْصَانَ الْمَقْذُوفِ شَرْطُ انْعِقَادِ عِلَّةٍ تُوجِبُ على الْقَاذِفِ ولم يُعْرَفْ إحْصَانُهَا لِانْعِقَادِ الْقَذْفِ عليه لِوُجُوبِ الْحَدِّ على الْقَاذِفِ
وَلَوْ ادَّعَى الْمُلْتَقِطُ أو غَيْرُهُ أَنَّهُ عَبْدُهُ لَا يُسْمَعُ منه إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُ ثَابِتَةٌ من حَيْثُ الظَّاهِرُ فَلَا يَقْدِرُ على إبْطَالِ هذا الظَّاهِرِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَوْ بَلَغَ فَأَقَرَّ أَنَّهُ عبد فُلَانٍ نُظِرَ في ذلك إنْ كان لم يَجْرِ عليه شَيْءٌ من أَحْكَامِ الْأَحْرَارِ بَعْدُ من قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَضَرْبِ قَاذِفِهِ الْحَدَّ وَنَحْوِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ لم تُعْرَفْ حُرِّيَّتُهُ إلَّا بِظَاهِرِ الْحَالِ فإذا أَقَرَّ بِالرِّقِّ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُقِرُّ على نَفْسِهِ بِالرِّقِّ كَاذِبًا فَصَحَّ إقْرَارُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ في إبْطَالِ ما يَفْعَلُهُ من التَّصَرُّفَاتِ من الْهِبَةِ وَالْكَفَالَةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهَا من التَّصَرُّفَاتِ التي لَا يَمْلِكُهَا الْعَبْدُ حتى لَا تَنْفَسِخَ وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَنْفَسِخُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالرِّقِّ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ كان رَقِيقًا وَقْتَ التَّصَرُّفِ فلم يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ كما إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على رِقِّهِ
وَلَنَا إن هذا إقْرَارٌ تَضَمَّنَ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُ ثَابِتَةٌ من حَيْثُ الظَّاهِرُ فَلَا يُصَدَّقُ في حَقِّ ذلك الْغَيْرِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْإِقْرَارَ تَصَرُّفٌ على نَفْسِ الْمُقِرِّ فإذا تَضَمَّنَ إبْطَالَ حَقِّهِ حَقَّ الْغَيْرِ كان دَعْوَى أو شَهَادَةً على غَيْرِهِ من ذلك الْوَجْهِ فَيُصَدَّقُ على نَفْسِهِ لَا على غَيْرِهِ كَمَنْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عبد إنْسَانٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ عَتَقَ عليه وَلَا يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ على الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْبَيِّنَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الشَّاهِدَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ في شَهَادَتِهِ على غَيْرِهِ
فَأَمَّا الْمُقِرُّ في إقْرَارِهِ على غَيْرِهِ فَمُتَّهَمٌ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَإِنْ كان قد أُجْرِيَ عليه شَيْءٌ من ذلك لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ إذَا أُجْرِيَ عليه شَيْءٌ من أَحْكَامِ الْأَحْرَارِ فَقَدْ ظَهَرَتْ حُرِّيَّتُهُ عِنْدَ الناس كَافَّةً فَظَهَرَ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهَا بِالْإِقْرَارِ بِالرِّقِّ
وَأَمَّا حَالُهُ في الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ فَإِنْ وَجَدَهُ مُسْلِمٌ في مِصْرٍ من أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أو في قَرْيَةٍ من قُرَاهُمْ يَكُونُ مُسْلِمًا حتى لو مَاتَ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عليه وَيُدْفَنُ في مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ وَجَدَهُ ذِمِّيٌّ في بِيعَةٍ أو كَنِيسَةٍ أو في قَرْيَةٍ ليس فيها مُسْلِمٌ يَكُونُ ذِمِّيًّا تَحْكِيمًا لِلظَّاهِرِ كما إذَا وَجَدَهُ مُسْلِمٌ في بِيعَةٍ أو كَنِيسَةٍ أو في قَرْيَةٍ من قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ يَكُونُ ذِمِّيًّا
وَلَوْ وَجَدَهُ ذِمِّيٌّ في مِصْرٍ من أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أو في قَرْيَةٍ من قُرَاهُمْ يَكُونُ مُسْلِمًا
كَذَا ذُكِرَ في كِتَابِ اللَّقِيطِ من الْأَصْلِ وَاعْتَبَرَ الْمَكَانَ وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ اعْتَبَرَ حَالَ الْوَاجِدِ من كَوْنِهِ مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا
وفي كِتَابِ الدَّعْوَى اعْتَبَرَ الْإِسْلَامَ إلَى أَيِّهِمَا نُسِبَ إلَى الْوَاجِدِ أو إلَى الْمَكَانِ وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ هذا الْكِتَابِ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ في مَكَان هو في أَيْدِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَتَصَرُّفِهِمْ في أَيْدِيهِمْ وَاللَّقِيطُ الذي هو في يَدِ الْمُسْلِمِ وَتَصَرُّفِهِ يَكُونُ مُسْلِمًا ظَاهِرًا وَالْمَوْجُودُ في الْمَكَانِ الذي هو في أَيْدِي أَهْلِ الذِّمَّةِ وَتَصَرُّفِهِمْ في أَيْدِيهِمْ وَاللَّقِيطُ الذي هو في يَدِ الذِّمِّيِّ وَتَصَرُّفِهِ يَكُونُ ذِمِّيًّا ظَاهِرًا فَكَانَ اعْتِبَارُ الْمَكَانِ أَوْلَى فَإِنْ وَجَدَهُ مُسْلِمٌ في مِصْرٍ من أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَبَلَغَ كَافِرًا يُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ لَا يُقْتَلُ لِأَنَّهُ لم يُعْرَفْ إسْلَامُهُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا حُكِمَ بِهِ تَبَعًا لِلدَّارِ فلم تَتَحَقَّقْ رِدَّتُهُ فَلَا يُقْتَلُ
وَأَمَّا حَالُهُ في النَّسَبِ فَهُوَ أَنَّهُ مَجْهُولُ النَّسَبِ حتى لو ادَّعَى إنْسَانٌ نِسْبَةَ الْمُلْتَقَطِ أو عِتْقَهُ تَصِحُّ دَعْوَتُهُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ منه لِمَا عُلِمَ في كِتَابِ الدَّعْوَى
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنَّ الْتِقَاطَهُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أتى سَيِّدَنَا عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه بِلَقِيطٍ فقال هو حُرٌّ وَلَأَنْ أَكُونَ وُلِّيتُ من أَمْرِهِ مِثْلَ الذي وُلِّيتَ أنت كانت أَحَبَّ إلَيَّ من كَذَا وَكَذَا عَدَّ جُمْلَةً من أَعْمَالِ الْخَيْرِ فَقَدْ رَغَّبَ في الِالْتِقَاطِ وَبَالَغَ في التَّرْغِيبِ فيه حَيْثُ فَضَّلَهُ على جُمْلَةٍ من أَعْمَالِ الْخَيْرِ على الْمُبَالَغَةِ في النَّدْبِ إلَيْهِ وَلِأَنَّهُ نَفْسٌ لَا حَافِظَ لها بَلْ هِيَ في مَضْيَعَةٍ فَكَانَ الْتِقَاطُهَا إحْيَاءً لها مَعْنًى وقد قال اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا الناس جميعا }
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُلْتَقِطَ أَوْلَى بِإِمْسَاكِهِ من غَيْرِهِ حتى لَا يَكُونَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ منه لِأَنَّهُ هو الذي أَحْيَاهُ بِالْتِقَاطِهِ وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ له على لِسَانِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلِأَنَّهُ مُبَاحُ الْأَخْذِ سَبَقَتْ يَدُ الْمُلْتَقِطِ إلَيْهِ وَالْمُبَاحُ مُبَاحُ من سَبَقَ على لِسَانِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَمِنْهَا أَنَّ نَفَقَتَهُ من بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ وَلَاءَهُ له وقد قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ
وَلَوْ كان معه مَالٌ مَشْدُودٌ عليه فَهُوَ له لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَالُهُ فَيَكُونُ له
____________________

(6/198)


كَثِيَابِهِ التي عليه
وَكَذَا إذَا وُجِدَ مَشْدُودًا على دَابَّةٍ فَالدَّابَّةُ له لِمَا قُلْنَا وَتَكُونُ النَّفَقَةُ من مَالِهِ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ من بَيْتِ الْمَالِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ إذَا كان له مَالٌ وَلَيْسَ على الْمُلْتَقِطِ أَنْ يُنْفِقَ عليه من مَالِ نَفْسِهِ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلنَّفَقَةِ عليه وَلَوْ أَنْفَقَ عليه من مَالِ نَفْسِهِ فَإِنْ فَعَلَ بِإِذْنِ الْقَاضِي له أَنْ يَرْجِعَ عليه
وَإِنْ فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَرْجِعُ عليه لِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَطَوِّعًا فيه
وَمِنْهَا أَنَّ عَقْلَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ عَاقِلَتَهُ بَيْتُ الْمَالِ فَيَكُونُ عَقْلُهُ له لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ
وَمِنْهَا أَنَّ وَلَاءَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا
وَمِنْهَا أَنَّ له أَنْ يُوَالِيَ من شَاءَ إذَا بَلَغَ إلَّا إذَا عَقَلَ عنه بَيْتُ الْمَالِ فَلَيْسَ له أَنْ يُوَالِيَ أَحَدًا لِأَنَّ الْعَقْدَ يَلْزَمُ بِالْعَقْلِ على ما نَذْكُرُ في كِتَابِ الدِّيَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَا عُلِمَ في الْوَلَاءِ
وَمِنْهَا أَنَّ وَلِيَّهُ السُّلْطَانُ له الْوِلَايَةُ في مَالِهِ وَنَفْسِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ السُّلْطَانُ وَلِيُّ من لَا وَلِيَّ له
وَرُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلِيُّ من لَا وَلِيَّ له وَالْخَالُ وَارِثُ من لَا وَارِثَ له وَالسُّلْطَانُ نَائِبُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُزَوِّجُ اللَّقِيطَ وَيَتَصَرَّفُ في مَالِهِ وَلَيْسَ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَفْعَلَ شيئا من ذلك لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ له عليه لِانْعِدَامِ سَبَبِهَا وهو الْقَرَابَةُ وَالسَّلْطَنَةُ إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ له أَنْ يَقْبِضَ الْهِبَةَ له وَيُسَلِّمَهُ في صِنَاعَةٍ وَيُؤَاجِرَهُ لِأَنَّ ذلك ليس من بَابِ الْوِلَايَةِ عليه بَلْ من بَابِ إصْلَاحِ حَالِهِ وَإِيصَالِ الْمَنْفَعَةِ الْمَحْضَةِ إلَيْهِ من غَيْرِ ضَرَرٍ فَأَشْبَهَ إطْعَامَهُ وَغَسْلَ ثِيَابِهِ
وَمِنْهَا أَنَّ نَسَبَهُ من الْمُدَّعِي يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ شَرْعًا لِأَنَّهُ مَجْهُولُ النَّسَبِ على ما يَأْتِي في كِتَابِ الدَّعْوَى حتى لو ادَّعَى الْمُلْتَقِطُ أو غَيْرُهُ أَنَّهُ ابْنُهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ من غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَبَيِّنَتُهُ نَسَبُهُ منه وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تُسْمَعَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ
وَجْهُ الْقِيَاسِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ يَدَّعِي أَمْرًا جَائِزَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَلَا بُدَّ لِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ على الْآخَرِ من مُرَجِّحٍ وَذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ ولم تُوجَدْ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ عَامِلٌ أَخْبَرَ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلِ الثُّبُوتِ وَكُلُّ من أَخْبَرَ عن أَمْرٍ وَالْمَخْبَرُ بِهِ مُحْتَمَلُ الثُّبُوتِ يَجِبُ تَصْدِيقُهُ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُخْبِرِ هو الْأَصْلُ إلَّا إذَا كان في تَصْدِيقِهِ ضَرَرٌ بِالْغَيْرِ وَهَهُنَا في التَّصْدِيقِ وَإِثْبَاتِ النَّسَبِ نَظَرٌ من الْجَانِبَيْنِ جَانِبِ اللَّقِيطِ بِشَرَفِ النَّسَبِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالصِّيَانَةِ عن أَسْبَابِ الْهَلَاكِ وَغَيْرِ ذلك وَجَانِبِ الْمُدَّعِي بِوَلَدٍ يَسْتَعِينُ بِهِ على مَصَالِحِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَتَصْدِيقُ الْمُدَّعِي في دَعْوَى ما يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ غَيْرُهُ بَلْ يَنْتَفِعُ بِهِ لَا يَقِفُ على الْبَيِّنَةِ وَسَوَاءٌ كان الْمُدَّعِي مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا أو عَبْدًا حتى لو ادَّعَى نَسَبَهُ ذِمِّيٌّ تَصِحُّ دَعْوَتُهُ حتى يَثْبُتَ نَسَبُهُ منه لَكِنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا لِأَنَّهُ ادَّعَى شَيْئَيْنِ يُتَصَوَّرُ انْفِصَالُ أَحَدِهِمَا عن الْآخَرِ في الْجُمْلَةِ وهو نَسَبُ الْوَلَدِ وَكَوْنُهُ كَافِرًا وَيُمْكِنُ تَصْدِيقُهُ في أَحَدِهِمَا لِكَوْنِهِ نَفْعًا لِلَّقِيطِ وهو كَوْنُهُ ابْنًا له وَلَا يُمْكِنُ تَصْدِيقُهُ في الْآخَرِ لِكَوْنِهِ ضَرَرًا بِهِ وهو كَوْنُهُ كَافِرًا فَيُصَدَّقُ فِيمَا فيه مَنْفَعَةٌ فَيَثْبُتُ نَسَبُ للولد ( ( ( الولد ) ) ) منه وَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَضُرُّهُ فَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ وَلَيْسَ من ضَرُورَةِ كَوْنِ الْوَلَدِ منه أَنْ يَكُونَ كَافِرًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ وَبِإِسْلَامِ أُمِّهِ وَإِنْ كان الْأَبُ كَافِرًا
هذا إذَا أَقَرَّ الذِّمِّيُّ أَنَّهُ ابْنُهُ وَلَا بَيِّنَةَ له فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على ذلك ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ منه وَيَكُونُ على دِينِهِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بين الْإِقْرَارِ وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ أَنَّهُ مُتَّهَمٌ في إقْرَارِهِ بِمَا يَتَضَمَّنُهُ إقْرَارُهُ وهو كَوْنُ الْوَلَدِ على دِينِهِ وَلَا تُهْمَةَ في الشَّهَادَةِ لِمَا مَرَّ
وَلَوْ ادَّعَى عَبْدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ منه لَكِنَّهُ يَكُونُ حُرًّا لِمَا ذَكَرْنَا في دَعْوَى الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ ادَّعَى شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا نَفْعُ اللَّقِيطِ وَالْآخَرُ مَضَرَّةٌ وهو الرِّقُّ فَيُصَدَّقُ فِيمَا يَنْفَعُهُ لَا فِيمَا يَضُرُّهُ على ما ذَكَرْنَا في دَعْوَى الذِّمِّيّ
وَلَوْ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ أَنَّهُ ابْنُهُمَا وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا فَإِنْ كان أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ ذِمِّيًّا فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلَّقِيطِ وَكَذَلِكَ إذَا كان أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا فَالْحُرُّ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَنْفَعُ له وَإِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ حُرَّيْنِ فَإِنْ وَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً في جَسَدِهِ فَالْوَاصِفُ أَوْلَى بِهِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُرْجَعُ إلَى الْقَائِفِ فَيُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ الدَّعْوَتَيْنِ مَتَى تَعَارَضَتَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ مِنْهُمَا وقد تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا بِالْعَلَامَةِ لِأَنَّهُ إذَا رضي الْعَلَامَةَ ولم يَصِفْ الْآخَرَ دَلَّ على أَنَّ يَدَهُ عليه سَابِقَةٌ فَلَا بُدَّ لِزَوَالِهَا من دَلِيلٍ وَالدَّلِيلُ على جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْعَلَامَةِ قَوْله تَعَالَى عز شَأْنُهُ خَبَرًا عن أَهْلِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ { إنْ كان قَمِيصُهُ قُدَّ من قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وهو من الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كان قَمِيصُهُ قُدَّ من دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وهو من الصَّادِقِينَ فلما رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ من دُبُرٍ قال إنَّهُ من كَيْدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ }
حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عن الْحُكْمِ بِالْعَلَامَةِ عن الْأُمَمِ السَّالِفَةِ في كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ولم يُغَيِّرْ عليهم وَالْحَكِيمُ إذَا حَكَى عن مُنْكَرٍ غَيَّرَهُ فَصَارَ الْحُكْمُ بِالْعَلَامَةِ شَرِيعَةً لنا مُبْتَدَأَةً وَكَذَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ في مَتَاعِ الْبَيْتِ يُمَيَّزُ ذلك بِالْعَلَامَةِ كَذَا هَهُنَا وَإِنْ لم
____________________

(6/199)


يَصِفْ أَحَدُهُمَا الْعَلَامَةَ يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ ابْنًا لَهُمَا إذْ ليس أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى من الْآخَرِ فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ وَإِنْ أَقَامَا جميعا الْبَيِّنَةَ يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ ابْنًا لَهُمَا لِأَنَّهُ ليس أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى من الْآخَرِ
وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه في مِثْلِ هذا أَنَّهُ قال إنَّهُ ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ وهو لِلثَّانِي مِنْهُمَا فَإِنْ ادَّعَاهُ أَكْثَرُ من رَجُلَيْنِ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ
رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ تُسْمَعُ من خَمْسَةٍ
وقال أبو يُوسُفَ من اثْنَيْنِ وَلَا تُسْمَعُ من أَكْثَرَ من ذلك
وقال مُحَمَّدٌ تُسْمَعُ من ثَلَاثَةٍ وَلَا تُسْمَعُ من أَكْثَرَ من ذلك
هذا إذَا كان الْمُدَّعِي رَجُلًا فَإِنْ كانت امْرَأَةً فَادَّعَتْهُ أَنَّهُ ابْنُهَا فَإِنْ صَدَّقَهَا زَوْجُهَا أو شَهِدَتْ لها الْقَابِلَةُ أو قَامَتْ الْبَيِّنَةُ صَحَّتْ دَعْوَتُهَا وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ فيه حَمْلَ نَسَبِ الْغَيْرِ على الْغَيْرِ وأنه لَا يَجُوزُ لِمَا نَذْكُرُهُ في كِتَابِ الْإِقْرَارِ وَلَوْ ادَّعَاهُ امْرَأَتَانِ وَأَقَامَتْ إحْدَاهُمَا الْبَيِّنَةَ فَهِيَ أَوْلَى بِهِ وَإِنْ أَقَامَتَا جميعا فَهُوَ ابْنُهُمَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَكُونُ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةِ أبي حَفْصٍ يُجْعَلُ ابْنَهُمَا وفي رِوَايَةِ أبي سُلَيْمَانَ لَا يُجْعَلُ ابْنَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ اللُّقَطَةِ الْكَلَامُ في اللُّقَطَةِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنْوَاعِهَا وفي بَيَانِ أَحْوَالِهَا وفي بَيَانِ ما يُصْنَعُ بها
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَوْعَانِ من غَيْرِ الْحَيَوَانِ وهو الْمَالُ السَّاقِطُ لَا يُعْرَفُ مَالِكُهُ وَنَوْعٌ من الْحَيَوَانِ وهو الضَّالَّةُ من الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ من الْبَهَائِمِ إلَّا أَنَّهُ يُسَمَّى لُقَطَةً من اللَّقْطِ وهو الْأَخْذُ وَالرَّفْعُ لِأَنَّهُ يُلْقَطُ عَادَةً أَيْ يُؤْخَذُ وَيُرْفَعُ على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ اللَّقِيطِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ أَحْوَالِهَا منها في الْأَصْلِ حَالَانِ حَالُ ما قبل الْأَخْذِ وَحَالُ ما بَعْدَهُ أَمَّا قبل الْأَخْذِ فَلَهَا أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ قد يَكُونُ مَنْدُوبَ الْأَخْذِ وقد يَكُونُ مُبَاحَ الْأَخْذِ وقد يَكُونُ حَرَامَ الْأَخْذِ أَمَّا حَالَةُ النَّدْبِ فَهُوَ أَنْ يُخَافَ عليها الضَّيْعَةُ لو تَرَكَهَا فَأَخْذُهَا لِصَاحِبِهَا أَفْضَلُ من تَرْكِهَا لِأَنَّهُ إذَا خَافَ عليها الضَّيْعَةَ كان أَخْذُهَا لِصَاحِبِهَا إحْيَاءً لِمَالِ الْمُسْلِمِ مَعْنًى فَكَانَ مُسْتَحَبًّا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا حَالَةُ الْإِبَاحَةِ فَهُوَ أَنْ لَا يَخَافَ عليها الضَّيْعَةَ فَيَأْخُذَهَا لِصَاحِبِهَا وَهَذَا عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا خَافَ عليها يَجِبُ أَخْذُهَا وَإِنْ لم يَخَفْ يُسْتَحَبُّ أَخْذُهَا وَزَعَمَ أَنَّ التَّرْكَ عِنْدَ خَوْفِ الضَّيْعَةِ يَكُونُ تَضْيِيعًا لها وَالتَّضْيِيعُ حَرَامٌ فَكَانَ الْأَخْذُ وَاجِبًا وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ التَّرْكَ لَا يَكُونُ تَضْيِيعًا بَلْ هو امْتِنَاعٌ من حِفْظٍ غَيْرِ مُلْزَمٍ وَالِامْتِنَاعُ من حِفْظٍ غَيْرِ مُلْزَمٍ لَا يَكُونُ تَضْيِيعًا كَالِامْتِنَاعِ عن قَبُولِ الْوَدِيعَةِ
وَأَمَّا حَالَةُ الْحُرْمَةِ فَهُوَ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ لَا لِصَاحِبِهَا لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يَأْوِي الضَّالَّةَ إلَّا ضَالٌّ وَالْمُرَادُ أَنْ يَضُمَّهَا إلَى نَفْسِهِ لِأَجْلِ نَفْسِهِ لَا لِأَجْلِ صَاحِبِهَا بِالرَّدِّ عليه لِأَنَّ الضَّمَّ إلَى نَفْسِهِ لِأَجْلِ صَاحِبِهَا ليس بِحَرَامٍ وَلِأَنَّهُ أَخَذَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْغَصْبِ وَكَذَا لُقَطَةُ الْبَهِيمَةِ من الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا أَصْلًا وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن ضَالَّةِ الْإِبِلِ فقال ما لَك وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ دَعْهَا حتى يَلْقَاهَا رَبُّهَا نهى عن التَّعَرُّضِ لها وَأَمَرَ بِتَرْكِ الْأَخْذِ فَدَلَّ على حُرْمَةِ الْأَخْذِ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ بَعِيرًا بِالْحَرَّةِ فَعَرَّفَهُ ثُمَّ ذَكَرَهُ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه فَأَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ فقال الرَّجُلُ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ قد شَغَلَنِي عن ضَيْعَتِي فقال سَيِّدُنَا عُمَرُ أَرْسِلْهُ حَيْثُ وَجَدْتَهُ وَلِأَنَّ الْأَخْذَ حَالَ خَوْفِ الضَّيْعَةِ إحْيَاءٌ لِمَالِ الْمُسْلِمِ فَيَكُونُ مُسْتَحَبًّا وَحَالَ عَدَمِ الْخَوْفِ ضَرْبُ إحْرَازٍ فَيَكُونُ مُبَاحًا ما ذَكَرْنَا
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ له فيه لِأَنَّ الْمُرَادَ منه أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ قَرِيبًا منه
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حتى يَلْقَاهَا رَبُّهَا وَإِنَّمَا يُقَالُ ذلك إذَا كان قَرِيبًا أو كان رَجَاءُ اللِّقَاءِ ثَابِتًا وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ وَلَا كَلَامَ فيه
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ عن ضَالَّةِ الْغَنَمِ قال خُذْهَا فَإِنَّهَا لك أو لِأَخِيكَ أو لِلذِّئْبِ
دَعَاهُ إلَى الْأَخْذِ وَنَبَّهَ على الْمَعْنَى وهو خَوْفُ الضَّيْعَةِ وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ في الْإِبِلِ وَالنَّصُّ الْوَارِدُ فيها أَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَارِدًا في الْإِبِلِ وَسَائِرِ الْبَهَائِمِ دَلَالَةً إلَّا أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَصَلَ بَيْنَهُمَا في الْجَوَابِ من حَيْثُ الصُّورَةُ لِهُجُومِ الذِّئْبِ على الْغَنَمِ إذَا لم يَلْقَهَا رَبُّهَا عَادَةً بَعِيدًا كان أو قَرِيبًا وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ لِأَنَّهَا تَذُبُّ عن نَفْسِهَا عَادَةً
هذا الذي
____________________

(6/200)


ذَكَرْنَا حَالَ ما قبل الْأَخْذِ وَأَمَّا حَالُ مابعده فَلَهَا بَعْدَ الْأَخْذِ حَالَانِ في حالة ( ( ( حال ) ) ) هِيَ أَمَانَةٌ وفي حَالٍ هِيَ مَضْمُونَةٌ أَمَّا حَالَةُ الْأَمَانَةِ فَهِيَ أَنْ يَأْخُذَهَا لِصَاحِبِهَا لِأَنَّهُ أَخَذَهَا على سَبِيلِ الْأَمَانَةِ فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ أَمَانَةٍ كَيَدِ الْمُودَعِ
وَأَمَّا حَالَةُ الضَّمَانِ فَهِيَ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ لِنَفْسِهِ مَغْصُوبٌ وَهَذَا لَا خِلَافَ فيه وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في شَيْءٍ آخَرَ وهو أَنَّ جِهَةَ الْأَمَانَةِ إنَّمَا تُعْرَفُ جِهَةِ الضَّمَانِ إمَّا بِالتَّصْدِيقِ أو بِالْإِشْهَادِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا بِالتَّصْدِيقِ أو بِالْيَمِينِ حتى لو هَلَكَتْ فَجَاءَ صَاحِبُهَا وَصَدَّقَهُ في الْأَخْذِ له لَا يَجِبُ عليه الضَّمَانُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ لم يُشْهِدْ لِأَنَّ جِهَةَ الْأَمَانَةِ قد ثَبَتَتْ بِتَصْدِيقِهِ وَإِنْ كَذَّبَهُ في ذلك فَكَذَا عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَشْهَدَ أو لم يُشْهِدْ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُلْتَقِطِ مع يَمِينِهِ
وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَإِنْ أَشْهَدَ فَلَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّهُ بِالْإِشْهَادِ ظَهَرَ أَنَّ الْأَخْذَ كان لِصَاحِبِهِ فَظَهَرَ أَنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ وَإِنْ لم يَشْهَدْ يَجِبُ عليه الضَّمَانُ وَلَوْ أَقَرَّ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ يَجِبُ عليه الضَّمَانُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْغَصْبِ وَالْمَغْصُوبُ مَضْمُونٌ على الْغَاصِبِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ أَخَذَهُ لَا لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا مَكَّنَهُ من الْأَخْذِ بِهَذِهِ الْجِهَةِ فَكَانَ إقْدَامُهُ على الْأَخْذِ دَلِيلًا على أَنَّهُ أَخْذٌ بِالْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا له فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَكِنْ مع الْحَلِفِ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْأَمِينِ مع الْيَمِينِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ في الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كان الْأَخْذُ على سَبِيلِ الْأَمَانَةِ بِأَنْ أَخَذَهُ لِصَاحِبِهِ فَيَخْرُجُ من أَنْ يَكُونَ سَبَبًا وَذَلِكَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالْإِشْهَادِ فإذا لم يُشْهِدْ لم يُعْرَفْ كَوْنُ الْأَخْذِ لِصَاحِبِهِ فَبَقِيَ الْأَخْذُ سَبَبًا في حَقِّ وُجُوبِ الضَّمَانِ على الْأَصْلِ
وَالثَّانِي أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ عَمَلَ كل إنْسَانٍ له لَا لِغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَأَنْ ليس لِلْإِنْسَانِ إلَّا ما سَعَى } وقَوْله تَعَالَى { لها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا ما اكْتَسَبَتْ } فَكَانَ أَخْذُهُ اللُّقَطَةَ في الْأَصْلِ لِنَفْسِهِ لَا لِصَاحِبِهَا وَأَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِنَفْسِهِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ غَصْبٌ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْأَخْذُ لِصَاحِبِهَا بِالْإِشْهَادِ فإذا لم يُوجَدْ تَعَيَّنَ أَنَّ الْأَخْذَ لِنَفْسِهِ فَيَجِبُ عليه الضَّمَانُ
وَلَوْ أَخَذَ اللُّقَطَةَ ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا الذي أَخَذَهَا منه لَا ضَمَانَ عليه في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَكَذَا نَصَّ عليه مُحَمَّدٌ في الْمُوَطَّأِ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ قالوا هذا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا رَفَعَهَا ولم يَبْرَحْ عن ذلك الْمَكَانِ حتى وَضَعَهَا في مَوْضِعِهَا فَأَمَّا إذَا ذَهَبَ بها عن ذلك الْمَكَانِ ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا يَضْمَنُ وَجَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مُطْلَقٌ عن هذا التَّفْصِيلِ مُسْتَغْنٍ عن هذا التَّأْوِيلِ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَضْمَنُ ذَهَبَ عن ذلك الْمَكَانِ أو لم يَذْهَبْ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَهَا من مَكَانِهَا فَقَدْ الْتَزَمَ حِفْظَهَا بِمَنْزِلَةِ قَبُولِ الْوَدِيعَةِ فإذا رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا فَقَدْ ضَيَّعَهَا بِتَرْكِ الْحِفْظِ الْمُلْتَزَمِ فَأَشْبَهَ الْوَدِيعَةَ إذَا أَلْقَاهَا الْمُودَعُ على قَارِعَةِ الطَّرِيقِ حتى ضَاعَتْ
وَلَنَا أَنَّهُ أَخَذَهَا مُحْتَسِبًا مُتَبَرِّعًا لِيَحْفَظَهَا على صَاحِبِهَا فإذا رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا فَقَدْ فَسَخَ التَّبَرُّعَ من الْأَصْلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لم يَأْخُذْهَا أَصْلًا
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَلْزَمْ الْحِفْظُ وَإِنَّمَا تَبَرَّعَ بِهِ وقد رَدَّهُ بِالرَّدِّ إلَى مَكَانِهَا فَارْتَدَّ وَجُعِلَ كَأَنْ لم يَكُنْ
هذا إذَا كان أَخَذَهَا لِصَاحِبِهَا ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا فَضَاعَتْ وصدقة صَاحِبُهَا فيه أو كَذَّبَهُ لَكِنَّ الْمُلْتَقِطَ قد كان أَشْهَدَ على ذلك فَإِنْ كان لم يُشْهِدْ يَجِبُ عليه الضَّمَانُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجِبُ أَشْهَدَ أو لم يُشْهِدْ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِصَاحِبِهَا على ما ذَكَرْنَا
ثُمَّ تَفْسِيرُ الْإِشْهَادِ على اللُّقْطَةِ أَنْ يَقُولَ الْمُلْتَقِط بِمَسْمَعٍ من الناس إنِّي الْتَقَطْت لُقَطَةً أو عِنْدِي لُقَطَةٌ فَأَيُّ الناس أَنْشَدَهَا فَدُلُّوهُ عَلَيَّ أو يَقُولَ عِنْدِي شَيْءٌ فَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَسْأَلُ شيئا فَدُلُّوهُ عَلَيَّ فإذا قال ذلك ثُمَّ جاء صَاحِبُهَا فقال الْمُلْتَقِطُ قد هَلَكَتْ كان الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَا ضَمَانَ عليه بِالْإِجْمَاعِ
وَإِنْ كان عِنْدَهُ عَشْرُ لُقَطَاتٍ لِأَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ وَاللُّقَطَةِ منكرا ( ( ( منكر ) ) ) إنْ كان يَقَعُ على شَيْءٍ وَاحِدٍ وَلُقَطَةٍ وَاحِدَةٍ لُغَةً لَكِنْ في مِثْلِ هذا الْمَوْضِعِ يُرَادُ بها كُلُّ الْجِنْسِ في الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَا فَرْدٌ من الْجِنْسِ إذْ الْمَقْصُودُ من التَّعْرِيفِ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ
وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَالْمُعْتَادِ فَكَانَ هذا إشْهَادًا على الْكُلِّ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كان أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ لَا يَبْرَأُ عن الضَّمَانِ إلَّا بِالرَّدِّ على الْمَالِكِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ أَخَذَهَا غَصْبًا فَكَانَ الْوَاجِبُ عليه الرَّدُّ إلَى الْمَالِكِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ على الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تَرُدَّهُ فإذا عَجَزَ عن رَدِّ الْعَيْنِ يَجِبُ عليه بَدَلُهَا كما في الْغَصْبِ
وَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ الضَّالَّةَ ثُمَّ أَرْسَلَهَا إلَى مَكَانِهَا الذي أَخَذَهَا منه فَحُكْمُهَا حُكْمُ اللُّقَطَةِ لِأَنَّ هذا أَحَدُ نَوْعَيْ اللُّقَطَةِ وقد رَوَيْنَا في هذا الْبَابِ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي
____________________

(6/201)


اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لِوَاجِدِ الْبَعِيرِ الضَّالِّ أَرْسِلْهُ حَيْثُ وَجَدَتْهُ وَهَذَا يَدُلُّ على انْتِفَاءِ وُجُوبِ الضَّمَانِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُصْنَعُ بها فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إذَا أَخَذَ اللُّقَطَةَ فإنه يُعَرِّفُهَا لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال عَرِّفْهَا حَوْلًا حين سُئِلَ عن اللُّقَطَةِ
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى عبد اللَّهِ بن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما فقال إنِّي وَجَدْت لُقَطَةً فما تَأْمُرُنِي فيها فقال عَرِّفْهَا سَنَةً
وَرَوَيْنَا عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ أَمَرَ بِتَعْرِيفِ الْبَعِيرِ الضَّالِّ ثُمَّ نَقُولُ الْكَلَامُ في التَّعْرِيفِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في مُدَّةِ التَّعْرِيفِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ مَكَانِ التَّعْرِيفِ أَمَّا مُدَّةُ التَّعْرِيفِ فَيَخْتَلِفُ قَدْرُ الْمُدَّةِ لِاخْتِلَافِ قَدْرِ اللُّقَطَةِ إنْ كان شَيْئَا له قِيمَةٌ تَبْلُغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا يُعَرِّفُهُ حَوْلًا وَإِنْ كان شيئا قِيمَتُهُ أَقَلُّ من عَشَرَةٍ يُعَرِّفُهُ أَيَّامًا على قَدْرِ ما يَرَى
وَرَوَى الْحَسَنُ بن زِيَادٍ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال التَّعْرِيفُ على خَطَرِ الْمَالِ إنْ كان مِائَةً وَنَحْوَهَا عَرَّفَهَا سَنَةً وَإِنْ كان عَشَرَةً وَنَحْوَهَا عَرَّفَهَا شَهْرًا وَإِنْ كان ثَلَاثَةً وَنَحْوَهَا عَرَّفَهَا جُمُعَةً أو قال عَشَرَةً وَإِنْ كان دِرْهَمًا وَنَحْوَهُ عَرَّفَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَإِنْ كان دَانَقًا وَنَحْوَهُ عَرَّفَهُ يَوْمًا وَإِنْ كان تَمْرَةً أو كِسْرَةً تَصَدَّقَ بها وَإِنَّمَا تَكْمُلُ مُدَّةَ التَّعْرِيفِ إذَا كان مِمَّا لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ فَإِنْ خَافَ الْفَسَادَ لم تَكْمُلْ وَيَتَصَدَّقُ بها
وَأَمَّا مَكَانُ التَّعْرِيفِ فَالْأَسْوَاقُ وَأَبْوَابُ الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهَا مَجْمَعُ الناس وَمَمَرُّهُمْ فَكَانَ التَّعْرِيفُ فيها أَسْرَعَ إلَى تَشْهِيرِ الْخَبَرِ ثُمَّ إذَا عَرَّفَهَا فَإِنْ جاء صَاحِبُهَا وأقام ( ( ( وتقام ) ) ) الْبَيِّنَةُ أنها مِلْكُهُ أَخَذَهَا لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ لم يُقِمْ الْبَيِّنَةَ وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ الْعَلَامَةَ بِأَنْ وَصَفَ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَوَزْنَهَا وَعَدَدَهَا يَحِلُّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ منه كَفِيلًا لِأَنَّ الدَّفْعَ بِالْعَلَامَةِ مِمَّا قد وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ في الْجُمْلَةِ كما في اللَّقِيطِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يُجْبَرُ على الدَّفْعِ وَهُنَا لَا يُجْبَرُ لِأَنَّ هُنَاكَ يُجْبَرُ على الدَّفْعِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى فَمَعَ الْعَلَامَةِ أَوْلَى رهنا ( ( ( وهنا ) ) ) لَا عِبْرَةَ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى بِالْإِجْمَاعِ فَجَازَ أَنْ يُجْبَرَ على الدَّفْعِ مع الْعَلَامَةِ وَلَكِنْ يَحِلُّ له الدَّفْعُ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ كَفِيلًا لِجَوَازِ مَجِيءِ آخَرَ فيدعها ( ( ( فيدعيها ) ) ) وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ ثُمَّ إذَا عَرَّفَهَا ولم يَحْضُرْ صَاحِبُهَا مُدَّةَ التَّعْرِيفِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا إلَى أَنْ يَحْضُرَ صَاحِبُهَا وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بها على الْفُقَرَاءِ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْتَفِعَ بها فَإِنْ كان غَنِيًّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَفِعَ بها عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا عَرَّفَهَا حَوْلًا ولم يَحْضُرْ صَاحِبُهَا كان له أَنْ يَنْتَفِعَ بها وَإِنْ كان غَنِيًّا وَتَكُونُ قَرْضًا عليه
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال لِمَنْ سَأَلَهُ عن اللُّقَطَةِ عَرِّفْهَا حَوْلًا فَإِنْ جاء صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُك بها وَهَذَا إطْلَاقُ الِانْتِفَاعِ لِلْمُلْتَقِطِ من غَيْرِ السُّؤَالِ عن حَالِهِ أَنَّهُ فَقِيرٌ أو غَنِيٌّ بَلْ إنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا تَحِلُّ اللَّقَطُ فَمَنْ الْتَقَطَ شيئا فَلْيُعَرِّفْهُ سَنَةً فَإِنْ جَاءَهُ صَاحِبُهَا فَلْيَرُدَّهَا عليه وَإِنْ لم يَأْتِ فَلْيَتَصَدَّقْ
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ نَفَى الْحِلَّ مُطْلَقًا وَحَالَةُ الْفَقْرِ غَيْرُ مُرَادَةٍ بِالْإِجْمَاعِ فَتَعَيَّنَ حَالَةُ الْغِنَى
وَالثَّانِي أَنَّهُ أَمَرَ بِالتَّصَدُّقِ وَمَصْرِفُ الصَّدَقَةِ الْفَقِيرُ دُونَ الْغَنِيِّ وإن الِانْتِفَاعَ بِمَالِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ إذَا كان غَنِيًّا
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ له فيه لِأَنَّ قَوْلَهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَشَأْنُك بها إرْشَادٌ إلَى الِاشْتِغَالِ بِالْحِفْظِ لِأَنَّ ذلك كان شَأْنَهُ الْمَعْهُودَ باللقطة ( ( ( باللقط ) ) ) إلَى هذه الْغَايَةِ أو يَحْمِلُهُ على هذا تَوْفِيقًا بين الْحَدِيثَيْنِ صِيَانَةً لَهُمَا عن التَّنَاقُضِ وإذا تَصَدَّقَ بها على الْفُقَرَاءِ فإذا جاء صَاحِبُهَا كان له الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَمْضَى الصَّدَقَةَ وَلَهُ ثَوَابُهَا وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُلْتَقِط أو الْفَقِيرَ إنْ وَجَدَهُ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ كان مَوْقُوفًا على إجَازَتِهِ وَأَيُّهُمَا ضَمِنَ لم يَرْجِعْ على صَاحِبِهِ كما في غَاصِبِ الْغَاصِبِ وَإِنْ كان فَقِيرًا فَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بها على الْفُقَرَاءِ وَإِنْ شَاءَ أَنْفَقَهَا على نَفْسِهِ فإذا جاء صَاحِبُهَا خَيَّرَهُ بين الْأَجْرِ وَبَيْنَ أَنْ يَضْمَنَهَا له على ما ذَكَرْنَا
وَكَذَلِكَ إذَا كان غَنِيًّا جَازَ له أَنْ يَتَصَدَّقَ بها على أبيه وَابْنِهِ وَزَوْجَتِهِ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ في لُقَطَةِ الْحِلِّ فَهُوَ الْجَوَابُ في لُقَطَةِ الْحَرَمِ يُصْنَعُ بها ما يُصْنَعُ بِلُقَطِ الْحِلِّ من التَّعْرِيفِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لُقَطَةُ الْحَرَمِ تُعَرَّفُ أَبَدًا وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بها بِحَالٍ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال في صِفَةِ مَكَّةَ وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ أَيْ لِمُعَرِّفٍ فَالْمُنْشِدُ الْمُعَرِّفُ وَالنَّاشِدُ الطَّالِبُ وهو الْمَالِكُ وَمَعْنَى الحديث أَنَّهُ لَا تَحِلُّ لُقَطَةُ الْحَرَمِ إلَّا لِلتَّعْرِيفِ
وَلَنَا ما ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين لُقَطَةِ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَلَا حُجَّةَ له في الحديث لِأَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِهِ أنه لَا يَحِلُّ الْتِقَاطُهَا إلَّا
____________________

(6/202)


لِلتَّعْرِيفِ وَهَذَا حَالُ كل لُقَطَةٍ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لُقَطَةَ الْحَرَمِ بِذَلِكَ لِمَا لَا يُوجَدُ صَاحِبُهَا عَادَةً فَتَبَيَّنَ أَنَّ ذَا لَا يُسْقِطُ التَّعْرِيفَ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الضَّالَّةِ في جَمِيعِ ما وَصَفْنَا وَتَنْفَرِدُ بِحُكْمٍ آخَرَ وهو النَّفَقَةُ فَإِنْ أَنْفَقَ عليها بِأَمْرِ الْقَاضِي يَكُونُ دَيْنًا على مَالِكِهَا وَإِنْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ إذْنِهِ يَكُونُ مُتَطَوِّعًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي يَنْظُرُ في ذلك فَإِنْ كانت بَهِيمَةً يُحْتَمَلُ الِانْتِفَاعُ بها بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ أَمَرَهُ بِأَنْ يُؤَاجِرَهَا وَيُنْفِقَ عليها من أُجْرَتِهَا نَظَرًا لِلْمَالِكِ
وَإِنْ كانت مِمَّا لَا يُحْتَمَلُ الِانْتِفَاعُ بها بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ وَخَشِيَ أَنْ لو أَنْفَقَ عليها أَنْ تَسْتَغْرِقَ النَّفَقَةُ قِيمَتَهَا أَمَرَهُ بِبَيْعِهَا وَحِفْظِ ثَمَنِهَا مَقَامَهَا في حُكْمِ الْهَلَاكِ وَإِنْ رَأَى الإصلاح ( ( ( الأصلح ) ) ) أَنْ لَا يَبِيعَهَا بَلْ يُنْفِقُ عليها أَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عليها لَكِنْ نَفَقَةً لَا تَزِيدُ على قِيمَتِهَا وَيَكُونُ ذلك دَيْنًا على صَاحِبِهَا حتى إذَا حَضَرَ يَأْخُذُ منه النَّفَقَةَ وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ اللُّقَطَةَ بِالنَّفَقَةِ كما يَحْبِسُ الْمَبِيعَ بِالثَّمَنِ وَإِنْ أَبَى أَنْ يُؤَدِّي النَّفَقَةَ بَاعَهَا الْقَاضِي وَدَفَعَ إلَيْهِ قَدْرَ ما أَنْفَقَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ الْإِبَاقِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِ الْآبِقِ وفي بَيَانِ حَالِهِ وفي بَيَانِ ما يُصْنَعُ بِهِ وفي بَيَانِ حُكْمِ مَالِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْآبِقُ اسْمٌ لِرَقِيقٍ يَهْرَبُ من مَوْلَاهُ وَأَمَّا حَالُهُ فَحَالُ اللُّقَطَةِ قبل الْأَخْذِ وَبَعْدَهُ وقد ذَكَرْنَا تَفَاصِيلَهُ في كِتَابِ اللُّقَطَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُصْنَعُ بِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إذَا أُخِذَ الْآبِقُ لِصَاحِبِهِ فَإِنْ شَاءَ الْآخِذُ أَمْسَكَهُ على صَاحِبِهِ حتى يَجِيءَ فَيَأْخُذَهُ وَإِنْ شَاءَ ذَهَبَ بِهِ إلَى صَاحِبِهِ فَرَدَّهُ عليه فَإِنْ أَمْسَكَهُ فَجَاءَ إنْسَانٌ وَادَّعَى أَنَّهُ عَبْدُهُ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ دَفَعَهُ إلَيْهِ وَأَخَذَ منه كَفِيلًا إنْ شَاءَ لِجَوَازِ أَنْ يَجِيءَ آخَرُ فَيَدَّعِيه وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْثِقَ بِكَفِيلٍ وَإِنْ لم يَكُنْ له بَيِّنَةٌ وَلَكِنْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِذَلِكَ دَفَعَهُ إلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ ادَّعَى شيئا لَا يُنَازِعُهُ فيه أَحَدٌ فَيَكُونُ له وَيَأْخُذُ منه كَفِيلًا إنْ شَاءَ لِمَا قُلْنَا وما أَنْفَقَ عليه فَإِنْ كان بِإِذْنِ الْقَاضِي يَرْجِعُ بِهِ على صَاحِبِهِ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَطَوِّعًا فَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ ولم يجىء ( ( ( يجئ ) ) ) له طَالِبٌ بَاعَهُ الْقَاضِي وَأَخَذَ ثَمَنَهُ يَحْفَظُهُ على صَاحِبِهِ لِأَنَّ ذلك حِفْظٌ له مَعْنًى فَإِنْ بَاعَهُ وَأَخَذَ ثَمَنَهُ ثُمَّ جاء إنْسَانٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ دَفَعَ الثَّمَنَ إلَيْهِ وَلَيْسَ له أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ لِأَنَّ الْبَيْعَ من الْقَاضِي صَدَرَ عن وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ لِأَنَّهُ من بَابِ حِفْظِ مَالِهِ إذْ لو لم يَبِعْ لَأَتَتْ النَّفَقَةُ على جَمِيعِ قِيمَتِهِ فَيَضِيعُ الْمَالُ فَكَانَ بَيْعُهُ حِفْظًا له من حَيْثُ الْمَعْنَى وَالْقَاضِي يَمْلِكُ مَالَ الْغَائِبِ وَلِهَذَا يَبِيعُ ما يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ
وَلَوْ زَعَمَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ قد كان دَبَّرَهُ أو كَاتَبَهُ لم يُصَدَّقْ في نَقْضِ الْبَيْعِ لِمَا قُلْنَا وَيُنْفِقُ الْقَاضِي عليه في مُدَّةِ حَبْسِهِ إيَّاهُ من بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ إذَا جاء صَاحِبُهُ أَخَذَهُ من صحابه ( ( ( صاحبه ) ) ) أو من ثَمَنِهِ إنْ بَاعَهُ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عليه إحْيَاءُ مَالِهِ فَيَكُونُ عليه وإذا جاء بِالْآبِقِ له أَنْ يُمْسِكَهُ بِالْجُعْلِ لِأَنَّهُ إذَا جاء بِهِ فَقَدْ اسْتَحَقَّ الْجُعْلَ على مَالِكِهِ فَكَانَ له حَقُّ حَبْسِهِ بِالْجُعْلِ كما يُحْبَسُ الْمَبِيعُ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ
وَلَوْ هَلَكَ في حَالِ الْحَبْسِ لَا ضَمَانَ عليه لَكِنْ يَسْقُطُ الْجُعْلُ كما لَا ضَمَانَ على الْبَائِعِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ الْمَحْبُوسِ بِالثَّمَنِ لَكِنْ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عن الْمُشْتَرِي وَلَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي في الرَّقِيقِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُقْبَلُ في الْعَبْدِ وَلَا يُقْبَلُ في الْجَارِيَةِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ في كِتَابِ الْقَاضِي في بَيَانِ شَرَائِطِ قَبُولِ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ مَالِهِ فَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْجُعْلِ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَالْكَلَامُ في الْجُعْلِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ وفي بَيَانِ سَبَبِهِ وفي بَيَانِ شَرْطِهِ وفي بَيَانِ ما يُسْتَحَقُّ عليه وفي بَيَانِ قَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ
أَمَّا أَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ فَثَابِتٌ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ أَصْلًا كما لَا يَثْبُتُ بِرَدِّ الضَّالَّةِ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ وَلَا يَثْبُتُ بِدُونِهِ حتى لو شَرَطَ الْآخِذُ الْجُعْلَ على الْمَالِكِ وَجَبَ وَإِلَّا فَلَا
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ رَدُّ مَالِ الْغَيْرِ عليه مُحْتَسِبًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ كما لو رَدَّ الضَّالَّةَ إلَّا إذَا شَرَطَ فَيَجِبُ عليه بِحُكْمِ الشَّرْطِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ
وَلَنَا ما رَوَاهُ محمد بن الْحَسَنِ عليه الرَّحْمَةُ عن أبي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ أَنَّهُ قال كُنْت قَاعِدًا عِنْدَ عبد اللَّهِ
____________________

(6/203)


بن مَسْعُودٍ فَجَاءَ رَجُلٌ فقال قَدِمَ فُلَانٌ بِإِبَاقٍ من الْقَوْمِ فقال الْقَوْمُ لقد أَصَابَ أَجْرًا
فقال عبد اللَّهِ رضي اللَّهُ عنه وَجُعْلًا إنْ شَاءَ من كل رَأْسٍ دِرْهَمًا ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ جُعْلَ الْآبِقِ طَرِيقُ صِيَانَةٍ عن الضَّيَاعِ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالطَّلَبِ عَادَةً إذْ ليس له مَقَامٌ مَعْلُومٌ يُطْلَبُ هُنَاكَ فَلَوْ لم يَأْخُذْهُ لَضَاعَ وَلَا يُؤْخَذُ لِصَاحِبِهِ وَيَتَحَمَّلُ مُؤْنَةَ الْأَخْذِ وَالرَّدِّ عليه مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ عَادَةً وإذا عَلِمَ أَنَّ له عليه جُعْلًا يَحْمِلُ مَشَقَّةَ الْأَخْذِ وَالرَّدِّ طَمَعًا في الْجُعْلِ فَتَحْصُلُ الصِّيَانَةُ عن الضَّيَاعِ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ الْجُعْلِ طَرِيقَ صِيَانَةِ الْآبِقِ عن الضَّيَاع وَصِيَانَةُ الْمَالِ عن الضَّيَاعِ وَاجِبٌ فَكَانَ الْمَالِكُ شَارِطًا لِلْأَجْرِ عِنْدَ الْأَخْذِ وَالرَّدِّ دَلَالَةً بِخِلَافِ الضَّالَّةِ لِأَنَّ الدَّابَّةَ إذَا ضَلَّتْ فَإِنَّهَا تَرْعَى في الْمَرَاعِي الْمَأْلُوفَةِ فَيُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهَا بِالطَّلَبِ عَادَةً فَلَا تَضِيعُ دُونَ الْأَخْذِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الصِّيَانَةِ بِالْجُعَلِ فَإِنْ أَخَذَهُ أَحَدٌ كان في الْأَخْذِ وَالرَّدِّ مُحْتَسِبًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ فَهُوَ الْفَرْقُ وَأَمَّا سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْجُعْلِ فَهُوَ الْأَخْذُ لِصَاحِبِهِ لِأَنَّهُ طَرِيقُ الصِّيَانَةِ على الْمَالِكِ وهو مَعْنَى التَّسَبُّبِ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الِاسْتِحْقَاقِ فَأَنْوَاعٌ منها الرَّدُّ على الْمَالِكِ لِأَنَّ الصِّيَانَةَ تَحْصُلُ عِنْدَهُ وهو مَعْنَى الشَّرْطِ أَنْ تُوجَدَ الْعِلَّةُ عِنْدَ وُجُودِهِ حتى لو أَخَذَهُ فَمَاتَ أو أَبِقَ من يَدِهِ قبل الرَّدِّ لَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ وَلَوْ أَخَذَهُ فَأَبِقَ من يَدِهِ فَأَخَذَهُ غَيْرُهُ فَرَدَّهُ على الْمَالِكِ فَالْجُعْلُ لِلثَّانِي وَلَا شَيْءَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَبِقَ من يَدِهِ فَقَدْ انْفَسَخَ ذلك السَّبَبُ أو بَقِيَ ذلك سَبَبًا مَحْضًا لِانْعِدَامِ شَرْطِهِ وهو الرَّدُّ على الْمَالِكِ وقد وُجِدَ السَّبَبُ وَالشَّرْطُ من الثَّانِي فَكَانَ الْأَوَّلُ صَاحِبَ سَبَبٍ مَحْضٍ وَالسَّبَبُ الْمَحْضُ لَا حُكْمَ له وَالثَّانِي صَاحِبَ عِلَّةٍ فَيَكُونُ الْجُعْلُ له
وَلَوْ كان الرَّادُّ وَاحِدًا وَالْآبِقُ اثْنَيْنِ فَلَهُ جُعْلَانِ لِوُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَشَرْطِهِ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَوْ كان الرَّادُّ اثْنَيْنِ وَالْآبِقُ وَاحِدًا فَلَهُمَا جُعَلٌ وَاحِدٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاشْتِرَاكِهِمَا في مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ وَالشَّرْطِ وَلَوْ كان الرَّادُّ وَاحِدًا وَالْآبِقُ وَاحِدًا وَالْمَالِكُ اثْنَيْنِ فَعَلَيْهِمَا جُعْلٌ وَاحِدٌ على قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا
وَلَوْ جاء بِالْآبِقِ فَوَجَدَ الْمَالِكَ قد مَاتَ فَلَهُ الْجُعْلُ في تَرِكَتِهِ لِوُجُودِ الرَّدِّ على الْمَالِكِ من حَيْثُ الْمَعْنَى بِالرَّدِّ على التَّرِكَةِ ثُمَّ إنْ كان عليه دَيْنٌ مُحِيطٌ بِمَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْعَبْدِ حتى يُعْطَى الْجُعْلَ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ سِوَى الْعَبْدِ يُقَدَّمُ الْجُعْلُ على سَائِرِ الدُّيُونِ فَيُبَاعُ الْعَبْدُ وَيُبْدَأُ بِالْجُعْلِ من ثَمَنِهِ ثُمَّ يُقَسَّمُ الْبَاقِي بين الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ كان أَحَقَّ بِحَبْسِهِ من بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ لِاسْتِيفَاءِ الْجُعْلِ فَكَانَ أَحَقَّ بِثَمَنِهِ بِقَدْرِ الْجُعْلِ كَالْمُرْتَهِنِ هذا إذَا جاء بِهِ أَجْنَبِيٌّ فَوَجَدَ الْمَالِكَ قد مَاتَ فَأَمَّا إذَا جاء بِهِ وَارِثُ الْمَيِّتِ فَوَجَدَ مُوَرِّثَهُ قد مَاتَ فَلَهُ الْجُعْلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا كان الْمَالِكُ حَيًّا وَقْتَ الْأَخْذِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا جُعْلَ له وَإِنْ كان حَيًّا وَقْتَ الْأَخْذِ إذَا مَاتَ قبل الْوُصُولِ إلَيْهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ فَاتَ شَرْطُ الِاسْتِحْقَاقِ وهو الرَّدُّ على الْمَالِكِ لِأَنَّهُ رَدٌّ على نَفْسِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن الْمَجِيءَ بِهِ من مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَثَلًا في حَالِ حَيَاةِ الْمَالِكِ على قَصْدِ الرَّدِّ رُدَّ على الْمَالِكِ فَيَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ كما إذَا وَجَدَهُ حَيًّا وَلِهَذَا لو كان الرَّادُّ أَجْنَبِيًّا اسْتَحَقَّ الْجُعْلَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلَوْ جاء بِهِ فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ قبل أَنْ يَرُدَّهُ عليه أو بَاعَهُ منه فَلَهُ الْجُعْلُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَجِيءَ بِهِ على قَصْدِ الرَّدِّ على الْمَالِكِ رَدٌّ عليه وَيَجِبُ الْجُعْلُ بِرَدِّ الْآبِقِ الْمَرْهُونِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وهو الرَّدُّ على الْمَالِكِ إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ على الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الصِّيَانَةِ رَجَعَتْ إلَيْهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو ضَاعَ يَسْقُطُ دَيْنُهُ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ فإذا كانت الْمَنْفَعَةُ له كانت الْمَضَرَّةُ عليه لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَسَوَاءً كان الرَّادُّ بَالِغًا أو صَبِيًّا حُرًّا أو عَبْدًا لِأَنَّ الصَّبِيَّ من أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ بِالْعَمَلِ وَكَذَا الْعَبْدُ إلَّا أَنَّ الْجُعْلَ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الرَّادُّ على الْمَالِكِ في عِيَالِ الْمَالِكِ حتى لو كان في عِيَالِهِ لَا جُعْلَ له سَوَاءٌ كان وَارِثًا أو أَجْنَبِيًّا لِأَنَّهُ إذَا كان في عِيَالِهِ كان الرَّدُّ منه بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْمَالِكِ وَلِأَنَّهُ إذَا كان في عِيَالِهِ كان في الرَّدِّ عليه عَامِلًا لِنَفْسِهِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الرَّدِّ تَعُودُ إلَيْهِ وَمَنْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ على غَيْرِهِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ الرَّادَّ إذَا كان في عِيَالِ الْمَالِكِ لَا جُعْلَ له كَائِنًا ما كان وَإِنْ لم يَكُنْ في عِيَالِهِ فَلَهُ الْجُعْلُ كَائِنًا ما كان إلَّا الِابْنَ يَرُدُّ آبِقَ أبيه وَالزَّوْجَ يَرُدُّ آبِقَ زَوْجَتِهِ أَنَّهُ لَا جُعْلَ لَهُمَا وَإِنْ لم يَكُونَا في عِيَالِهِمَا لِأَنَّ الِابْنَ وَإِنْ لم يَكُنْ في عِيَالِ أبيه فَالرَّدُّ منه يَجْرِي مَجْرَى الْخِدْمَةِ لِأَبِيهِ وَالِابْنُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِخِدْمَةِ أبيه لِأَنَّهَا
____________________

(6/204)


مُسْتَحَقَّةٌ عليه وَلِهَذَا لو اسْتَأْجَرَ ابْنَهُ لَخِدْمَتِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِخِلَافِ الْأَبِ مع ما أَنَّ الْأَوْلَادَ في الْعَادَاتِ يخفظون ( ( ( يحفظون ) ) ) أَمْوَالَ الْآبَاءِ لِطَمَعِ الِانْتِفَاعِ بها بِطَرِيقِ الْإِرْثَ فَكَانَ رَادًّا عَبْدَ نَفْسِهِ مَعْنًى إذْ كان بِالرَّدِّ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ إذَا رَدَّ عَبْدَ زَوْجَتِهِ فَقَدْ رَدَّ عَبْدَ نَفْسِهِ مَعْنًى لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بمالها عَادَةً وَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ
وَأَمَّا الْأَبُ إذَا رَدَّ عَبْدَ ابْنِهِ فَإِنْ كان في عِيَالِهِ لَا جُعْلَ له لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ الذي في عِيَالِهِ لَا جُعْلَ له فَالْقَرَابَةُ أَوْلَى وَإِنْ لم يَكُنْ في عِيَالِهِ فَلَهُ الْجُعْلُ لِأَنَّ الْأَبَ لَا يُسْتَخْدَمُ طَبْعًا وَشَرْعًا وَعَقْلًا وَلِهَذَا لو خَدَمَ بِالْأَجْرِ وَجَبَ الْأَجْرُ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ على الْخِدْمَةِ فَيُحْمَلُ على طَلَبِ الْأَجْرِ
وَكَذَا الْآبَاءُ لَا يخفظون ( ( ( يحفظون ) ) ) أَمْوَالَ الْأَوْلَادِ لِلِانْتِفَاعِ بها بِطَرِيقِ الأرث لِأَنَّ مَوْتَهُمْ يَتَقَدَّمُ مَوْتَ الْأَوْلَادِ عَادَةً فلم يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الرَّدِّ وَالْعَمَلُ لِنَفْسِهِ لِذَلِكَ افْتَرَقَ الْأَمْرَانِ
وَعَلَى هذا سَائِرُ ذَوِي الْأَرْحَامِ من الْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْخَالِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الرَّادَّ إنْ كان في عِيَالِ الْمَالِكِ لَا جُعْلَ له لِمَا قُلْنَا وَإِنْ لم يَكُنْ في عِيَالِهِ فَلَهُ الْجُعْلُ
وَعَلَى هذا الْوَصِيُّ إذَا رَدَّ عَبْدَ الْيَتِيمِ لَا جُعْلَ له لِأَنَّ الْيَتِيمَ في عِيَالِهِ وَحِفْظُ مَالِهِ مُسْتَحَقٌّ عليه فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ على الرَّدِّ وَكَذَا عبد الْوَصِيِّ إذَا رَدَّ عَبْدَ الْيَتِيمِ لِأَنَّ رَدَّ عَبْدِهِ كَرَدِّهِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ مَرْقُوقًا مُطْلَقًا كَالْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ حتى لو كان مُكَاتَبًا لَا جُعْلَ له لِأَنَّهُ ليس بِمَرْقُوقٍ على الْإِطْلَاقِ بَلْ هو فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَكَاسِبِهِ حُرٌّ وَلِهَذَا لم يَتَنَاوَلْهُ مُطْلَقُ اسْمِ الْمَمْلُوكِ في قَوْلِ الرَّجُلِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لي حُرٌّ إلَّا بِالنِّيَّةِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْجُعْلِ مَعْلُولٌ بِالصِّيَانَةِ عن الضَّيَاعِ وَلَا حَاجَةَ إلَى الصِّيَانَةِ في الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ لَا يَهْرَبُ عَادَةً لِأَنَّ الْعَقْدَ في جَانِبِهِ غَيْرُ لَازِمٍ فَلَوْ لم يَقْدِرْ على بَدَلِ الْكِتَابَةِ يُعَجِّزُ نَفْسَهُ بِالْإِبَاءِ عن الْكَسْبِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّهُمَا يُسْتَخْدَمَانِ عَادَةً فَلَعَلَّهُمَا يُكَلَّفَانِ ما لَا يُطِيقَانِ فَيَحْمِلُهُمَا ذلك على الْهَرَبِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الصِّيَانَةِ بِالْجُعْلِ كما في الْقِنِّ إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْقِنِّ أَنَّهُ إذَا جاء بِالْقِنِّ وقد مَاتَ الْمَوْلَى قبل أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ فَلَهُ الْجُعْلُ وَإِنَّ جاء بِالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وقد مَاتَ الْمَوْلَى قبل الْوُصُولِ إلَيْهِ لَا جُعْلَ له
وَوَجْهُ الْفَرْقِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُمَا يُعْتَقَانِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ فلم يُوجَدْ رَدُّ الْمَرْقُوقِ أَصْلًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ بِخِلَافِ الْقِنِّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يستحقق ( ( ( يستحق ) ) ) عليه فَالْمُسْتَحَقُّ عليه هو الْمَالِكُ إذَا أَبِقَ من يَدِهِ لِأَنَّ الْجُعْلَ مُؤْنَةُ الرَّدِّ وَمَنْفَعَةُ الرَّدِّ عَائِدَةٌ إلَى الْمَالِكِ فَكَانَتْ الْمُؤْنَةُ عليه لِيَكُونَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَلَوْ أَبَقَ عبد الرَّهْنِ من يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَالْجُعْلُ عليه لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الرَّدِّ تَعُودُ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْحَبْسِ الذي هو وَسِيلَةٌ إلَى اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ فَإِنْ كان في قِيمَةِ الْعَبْدِ فَضْلٌ على الدَّيْنِ يَجِبُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ على الْمُرْتَهِنِ وَالزِّيَادَةُ على الرَّاهِنِ
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ قَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ فَيُنْظَرُ إنْ رَدَّهُ من مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا لِمَا رَوَيْنَا من حديث عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما وَإِنْ رَدَّهُ دُونَ ذلك فَبِحِسَابِهِ وَإِنْ رَدَّهُ من أَقْصَى الْمِصْرِ رَضَخَ له على قَدْرِ عَنَائِهِ وَتَعَبِهِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ على مُدَّةِ السَّفَرِ سَقَطَ اعْتِبَارُهَا بِالشَّرْعِ فَيَبْقَى الْوَاجِبُ في الْمُدَّةِ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ فَيَزْدَادُ بِزِيَادَتِهِ وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ
هذا إذَا كانت قِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرَ من الْجُعْلِ فَإِنْ كانت مِثْلَ الْجُعْلِ أو أَنْقَصَ منه يَنْقُصُ من قِيمَتِهِ دِرْهَمٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وقال أبو يُوسُفَ له الْجُعْلُ تَامًّا وَإِنْ كانت قِيمَةُ الْعَبْدِ دِرْهَمًا وَاحِدًا
وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال من كل رَأْسٍ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا اعْتَبَرَ الرَّأْسَ دُونَ الْقِيمَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَاجِبَ مَعْلُولٌ بِمَعْنَى الصِّيَانَةِ عن الضَّيَاعِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا فَائِدَةَ في هذه الصِّيَانَةِ لو اعْتَبَرْنَا الرَّأْسَ دُونَ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ إنْ كان يُصَانُ من وَجْهٍ يَضِيعُ من وَجْهٍ آخَرَ فَلَا فَرْقَ بين الضَّيَاعِ بِتَرْكِ الْأَخْذِ وَالْإِمْسَاكِ وَبَيْنَ الضَّيَاعِ بِالْجُعْلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْقُصَ من قِيمَتِهِ دِرْهَمٌ لِيَكُونَ الصَّوْنُ بِالْأَخْذِ مُفِيدًا
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على ما إذَا كانت قِيمَةُ كل رَأْسٍ أَكْثَرَ من أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ

____________________

(6/205)


كِتَابُ السِّبَاقِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في مَوْضِعَيْنِ في تَفْسِيرِ السِّبَاقِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالسِّبَاقُ فِعَالٌ من السَّبْقِ وهو أَنْ يُسَابِقَ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ في الْخَيْلِ أو الْإِبِلِ وَنَحْوِ ذلك فيقول إنْ سَبَقْتُك فَكَذَا أو إنْ سَبَقْتَنِي فَكَذَا وَيُسَمَّى أَيْضًا رِهَانًا فِعَالًا من الرَّهْنِ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِهِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ في الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ الْحَافِرِ وَالْخُفِّ وَالنَّصْلِ وَالْقَدَمِ لَا في غَيْرِهَا لِمَا رُوِيَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا سَبَقَ إلَّا في خُفٍّ أو حَافِرٍ أو نِصَالٍ إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عليه السَّبْقُ في الْقَدَمِ بِحَدِيثِ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها فَفِيمَا وَرَاءَهُ بَقِيَ على أَصْلِ النَّفْيِ وَلِأَنَّهُ لَعِبٌ وَاللَّعِبُ حَرَامٌ في الْأَصْلِ إلَّا أَنَّ اللَّعِبَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ صَارَ مُسْتَثْنًى من التَّحْرِيمِ شَرْعًا لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلُّ لَعِبٍ حَرَامٌ إلَّا مُلَاعَبَةَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَقَوْسَهُ وَفَرَسَهُ حَرَّمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلَّ لَعِبٍ وَاسْتَثْنَى الْمُلَاعَبَةَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَخْصُوصَةِ فَبَقِيَتْ الْمُلَاعَبَةُ بِمَا وَرَاءَهَا على أَصْلِ التَّحْرِيمِ إذْ الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا وَكَذَا الْمُسَابَقَةُ بِالْخُفِّ صَارَتْ مُسْتَثْنَاةً من الحديث
وَبِمَا رُوِيَ عن سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قال إنَّ الْعَضْبَاءَ نَاقَةُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كانت تَسْبِقُ كُلَّمَا دُفِعَتْ في سِبَاقٍ فَدُفِعَتْ يَوْمًا في إبِلٍ فَسُبِقَتْ فَكَانَتْ على الْمُسْلِمِينَ كَآبَةٌ إذْ سُبِقَتْ فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ الناس إذَا رَفَعُوا شيئا أو أَرَادُوا رَفْعَ شَيْءٍ وَضَعَهُ اللَّهُ وَكَذَا السَّبْقُ بِالْقَدَمِ لِمَا رَوَتْ سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت سَابَقْت النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَسَبَقْتُهُ فلما حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي فقلت هذه بِتِلْكَ فَصَارَتْ هذه الْأَنْوَاعُ مُسْتَثْنَاةً من التَّحْرِيمِ فَبَقِيَ ما وَرَاءَهَا على أَصْلِ الْحُرْمَةِ وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى لَا يُوجَدُ في غَيْرِهَا وهو الرِّيَاضَةُ وَالِاسْتِعْدَادُ لِأَسْبَابِ الْجِهَادِ في الْجُمْلَةِ فَكَانَتْ لَعِبًا صُورَةً وَرِيَاضَةً وَتَعَلُّمَ أَسْبَابِ الْجِهَادِ فَيَكُونُ جَائِزًا إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْجَوَازِ وَلَئِنْ كان لَعِبًا لَكِنَّ اللَّعِبَ إذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ عَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ لَا يَكُونُ حَرَامًا وَلِهَذَا اسْتَثْنَى مُلَاعَبَةَ الْأَهْلِ لِتَعَلُّقِ عَاقِبَةٍ حَمِيدَةٍ بها وهو انْبِعَاثُ الشَّهْوَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى الْوَطْءِ الذي هو سَبَبُ التَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُلِ وَالسُّكْنَى وَغَيْرِ ذلك من الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ في غَيْرِ هذه الْأَشْيَاءِ فلم يَكُنْ في مَعْنَى المستنثى ( ( ( المستثنى ) ) ) فَبَقِيَ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْخَطَرُ فيه من أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إلَّا إذَا وَجَدَ فيه مُحَلِّلًا حتى لو كان الْخَطَرُ من الْجَانِبَيْنِ جميعا ولم يُدْخِلَا فيه مُحَلِّلًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ في مَعْنَى الْقِمَار نحو أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ إنْ سَبَقَتْنِي فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا وَإِنْ سَبَقْتُك فَلِي عليه ( ( ( عليك ) ) ) كَذَا فَقَبِلَ الْآخَرُ
وَلَوْ قال أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ إنْ سَبَقْتَنِي فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا وَإِنْ سَبَقْتُك فَلَا شَيْءَ عَلَيْك فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْخَطَرَ إذَا كان من أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لَا يَحْتَمِلُ الْقِمَارَ فَيُحْمَلُ على التَّحْرِيضِ على اسْتِعْدَادِ أَسْبَابِ الْجِهَادِ في الْجُمْلَةِ بِمَالِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ مَشْرُوعٌ كَالتَّنْفِيلِ من الْإِمَامِ بل ( ( ( وبل ) ) ) أَوْلَى لِأَنَّ هذا يَتَصَرَّفُ في مَالِ نَفْسِهِ بِالْبَدَلِ وَالْإِمَامُ بِالتَّنْفِيلِ يَتَصَرَّفُ فِيمَا لِغَيْرِهِ فيه حَقٌّ في الْجُمْلَةِ وهو الْغَنِيمَةُ فلما جَازَ ذلك فَهَذَا بِالْجَوَازِ أَوْلَى
وَكَذَلِكَ إذَا كان الْخَطَرُ من الْجَانِبَيْنِ وَلَكِنْ أَدْخَلَا فيه مُحَلِّلًا بِأَنْ كَانُوا ثَلَاثَةً لَكِنْ الْخَطَرُ من الإثنين منهم وَلَا خَطَرَ من الثَّالِثِ بَلْ إنْ سَبَقَ أَخَذَ الْخَطَرَ وان لم يَسْبِقْ لَا يَغْرَمُ شيئا فَهَذَا مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ أَيْضًا وَكَذَلِكَ ما يَفْعَلهُ السَّلَاطِينُ وهو أَنْ يَقُولَ السُّلْطَانُ لِرَجُلَيْنِ من سَبَقَ مِنْكُمَا فَلَهُ كَذَا فَهُوَ جَائِزٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ذلك من بَابِ التَّحْرِيضِ على اسْتِعْدَادِ أَسْبَابِ الْجِهَادِ خُصُوصًا من السُّلْطَانِ فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِأَسْبَابِ الْجِهَادِ
ثُمَّ الْإِمَامُ إذَا حَرَّضَ وَاحِدًا من الْغُزَاةِ على الْجِهَادِ بِأَنْ قال من دخل هذا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ من النَّفْلِ كَذَا وَنَحْوَهُ جَازَ كَذَا هذا بل ( ( ( وبل ) ) ) أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا
وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْمُسَابَقَةُ فِيمَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَسْبِقَ وَيُسْبَقَ من الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ حتى لو كانت فِيمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَسْبِقُ غَالِبًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَعْنَى التَّحْرِيضِ في هذه الصُّورَةِ لَا يَتَحَقَّقُ فَبَقِيَ الرِّهَانُ الْتِزَامُ الْمَالِ بِشَرْطٍ لَا مَنْفَعَةَ فيه فَيَكُونُ عَبَثًا وَلَعِبًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

____________________

(6/206)


كِتَابُ الْوَدِيعَةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِ الع ( ( ( العقد ) ) ) وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْعَقْدِ وفي بَيَانِ حَالِ الْمَعْقُودِ عليه وفي بَيَانِ ما يُوجِبُ تَغَيُّرَ حَالِهِ
أَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وهو أَنْ يَقُولَ لِغَيْرِهِ أَوْدَعْتُكَ هذا الشَّيْءَ أو احْفَظْ هذا الشَّيْءَ لي أو خُذْ هذا الشَّيْءَ وَدِيعَةً عِنْدَكَ وما يَجْرِي مَجْرَاهُ وَيَقْبَلُهُ الْآخَرُ فإذا وُجِدَ ذلك فَقَدْ تَمَّ عَقْدُ الْوَدِيعَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ منها عَقْلُ الْمُودَعِ فَلَا يَصِحُّ الْإِيدَاعُ من الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ
وَأَمَّا بُلُوغُهُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا حتى يَصِحَّ الْإِيدَاعُ من الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ لِأَنَّ ذلك مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ التَّاجِرُ فَكَانَ من تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فَيَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ كما يَمْلِكُ التِّجَارَةَ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَمْلِكُ التِّجَارَةَ فَلَا يَمْلِكُ تَوَابِعَهَا على ما نَذْكُرُ في كِتَابِ الْمَأْذُونِ وَكَذَا حُرِّيَّتُهُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَيَمْلِكُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ الْإِيدَاعَ لِمَا قُلْنَا في الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ
وَمِنْهَا عَقْلُ الْمُودَعِ فَلَا يَصِحُّ قَبُولُ الْوَدِيعَةِ من الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ حُكْمَ هذا الْعَقْدِ هو لُزُومُ الْحِفْظِ وَمَنْ لَا عَقْلَ له لَا يَكُونُ من أَهْلِ الْحِفْظِ وَأَمَّا بُلُوغُهُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ حتى يَصِحَّ قَبُولُ الْوَدِيعَةِ من الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ من أَهْلِ الْحِفْظِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَذِنَ له الْوَلِيُّ وَلَوْ لم يَكُنْ من أَهْلِ الْحِفْظِ لَكَانَ الْإِذْنُ له سَفَهًا
وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ عليه فَلَا يَصِحُّ قَبُولُ الْوَدِيعَةِ منه لِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ الْمَالَ عَادَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ مُنِعَ منه مَالُهُ وَلَوْ قَبِلَ الْوَدِيعَةَ فَاسْتَهْلَكَهَا فَإِنْ كانت الْوَدِيعَةُ عَبْدًا أو أَمَةً يَضْمَنْ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كانت سِوَاهُمَا فَإِنْ قَبِلَهَا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ فَكَذَلِكَ وَإِنْ قَبِلَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا ضَمَانَ عليه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَضْمَنُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ إيدَاعَهُ لو صَحَّ فَاسْتَهْلَكَ الْوَدِيعَةَ يُوجِبُ الضَّمَانَ وَإِنْ لم يَصِحْ جُعِلَ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ فَصَارَ الْحَالُ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْحَالِ قَبْلَهُ وَلَوْ اسْتَهْلَكَهَا قبل الْعَقْدِ لَوَجَبَ عليه الضَّمَانُ إذَا كانت الْوَدِيعَةُ عَبْدًا أو أَمَةً
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ إيدَاعَ الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ إهْلَاكٌ لِلْمَالِ مَعْنَى فَكَانَ فِعْلُ الصَّبِيِّ إهْلَاكَ مَالٍ قَائِمٍ صُورَةً لَا مَعْنَى فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عليه وَدَلَالَةُ ما قُلْنَا إنه لَمَّا وَضَعَ الْمَالَ في يَدِهِ فَقَدْ وَضَعَ في يَدِ من لَا يَحْفَظُهُ عَادَةً وَلَا يَلْزَمُهُ الْحِفْظُ شَرْعًا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه حِفْظُ الْوَدِيعَةِ شَرْعًا لِأَنَّ الصَّبِيِّ ليس من أَهْلِ وُجُوبِ الشَّرَائِعِ عليه وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ لَا يَحْفَظُ الْوَدِيعَةَ عَادَةً أَنَّهُ مُنِعَ عنه مَالُهُ وَلَوْ كان يَحْفَظُ الْمَالَ عَادَةً لَدُفِعَ إلَيْهِ قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَإِنْ آنَسْتُمْ منهم رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } وَبِهَذَا فَارَقَ الْمَأْذُونَ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ الْمَالَ عَادَةً
أَلَا تَرَى أَنَّهُ دُفِعَ إلَيْهِ مَالُهُ وَلَوْ لم يُوجَدْ منه الْحِفْظُ عَادَةً لَكَانَ الدَّفْعُ إلَيْهِ سَفَهًا بِخِلَافِ ما إذَا كانت الْوَدِيعَةُ عَبْدًا أو أَمَةً لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يَجِبُ عليه ضَمَانُ الْمَالِ أَيْضًا وَإِنَّمَا يَجِبُ عليه ضَمَانُ الدَّمِ لِأَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ بِقَتْلِ الْعَبْدِ ضَمَانُ الْآدَمِيِّ لَا ضَمَانَ الْمَالِ وَالْعَبْدُ من حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ قَائِمٌ من كل وَجْهٍ قبل الْإِيدَاعِ وَبَعْدَهُ فَهُوَ الْفَرْقُ وَكَذَلِكَ حُرِّيَّةُ الْمُودَعِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ حتى يَصِحَّ الْقَبُولُ من العبد المأذون ويترتب عليه أحكام العقد لأنه يحتاج إلى الإيداع والاستيداع على ما نذكر في كتاب المأذون
وأما الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ فَلَا يَصِحُّ منه الْقَبُولُ لِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ الْمَالَ عَادَةً وَلَوْ قَبِلَهَا فَاسْتَهْلَكَهَا فَإِنْ كانت عَبْدًا أو أَمَةً يُؤْمَرُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ وَإِنْ كانت سِوَاهُمَا فَإِنْ قَبِلَهَا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ قَبِلَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ في الْحَالِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُؤَاخَذُ بِهِ في الْحَالِ وَالْكَلَامُ في الطَّرَفَيْنِ على حَسَبِ ما ذَكَرنَا في الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ
فَصْلٌ وأما بيان حكم العقد فَحُكْمُهُ لُزُومُ الْحِفْظِ لِلْمَالِكِ لِأَنَّ الْإِيدَاعَ من جَانِبِ الْمَالِكِ اسْتِحْفَاظٌ وَمِنْ جَانِبِ الْمُودَعِ الْتِزَامُ الْحِفْظِ وهو من أَهْلِ الِالْتِزَامِ فَيَلْزَمُهُ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ
وَالْكَلَامُ في الْحِفْظِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا فِيمَا يُحْفَظُ بِهِ وَالثَّانِي فِيمَا فيه يُحْفَظُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالِاسْتِحْفَاظُ لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أو مُقَيَّدًا فَإِنْ كان مُطْلَقًا فَلِلْمُودَعِ أَنْ يَحْفَظَ بِيَدِ نَفْسِهِ وَمَنْ هو في عِيَالِهِ وهو الذي يَسْكُنُ معه وَيُمَوِّنُهُ فَيَكْفِيهِ
____________________

(6/207)


طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَكِسْوَتَهُ كَائِنًا من كان قَرِيبًا أو أَجْنَبِيًّا من وَلَدِهِ وَامْرَأَتِهِ وَخَدَمِهِ وَأَجِيرِهِ لَا الذي اسْتَأْجَرَهُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وبيد ( ( ( وبيده ) ) ) من ليس في عِيَالِهِ مِمَّنْ يَحْفَظُ مَالَهُ بِنَفْسِهِ عَادَةً كَشَرِيكِهِ الْمُفَاوِضِ وَالْعِنَانِ وَعَبْدِهِ الْمَأْذُونِ وَعَبْدِهِ الْمَعْزُولِ عن بَيْتِهِ
هذا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس له أَنْ يَحْفَظَ إلَّا بِيَدِ نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ من غَيْرِ أَنْ يَغِيبَ عن عَيْنِهِ حتى لو فَعَلَ يَدْخُلُ في ضَمَانِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَهُ دُونَ غَيْرِهِ فَلَا يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ من غَيْرِهِ كما لَا يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ سَائِرُ الْأَجَانِبِ
وَلَنَا أَنَّ الْمُلْتَزَمَ بِالْعَقْدِ هو الْحِفْظُ وَالْإِنْسَانُ لَا يَلْتَزِمُ بِحِفْظِ مَالِ غَيْرِهِ عَادَةً إلَّا بِمَا يَحْفَظُ بِهِ مَالَ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ بيده مَرَّةً وَبِيَدِ هَؤُلَاءِ أُخْرَى فَلَهُ أَنْ يَحْفَظَ الْوَدِيعَةَ بِيَدِهِمْ أَيْضًا فَكَانَ الْحِفْظُ بِأَيْدِيهِمْ دَاخِلًا تَحْتَ الْعَقْدِ دَلَالَةً وَكَذَا له أَنْ يَرُدَّ الْوَدِيعَةَ على أَيْدِيهِمْ حتى لو هَلَكَتْ قبل الْوُصُولِ إلَى الْمَالِكِ لَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّ يَدَهُمْ يَدُ الْمُودَعِ مَعْنًى فما دَامَ المال في أَيْدِيهِمْ كان مَحْفُوظًا بِحِفْظِهِ وَلَيْسَ له أَنْ يَدْفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى غَيْرِهِمْ إلَّا لِعُذْرٍ حتى لو دَفَعَ تَدْخُلُ في ضَمَانِهِ لِأَنَّ الْمَالِكَ ما رضي بيده أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا يَرْضَى مَالَ نَفْسِهِ بيده فإذا دَفَعَ فَقَدْ صَارَ مُخَالِفًا فَتَدْخُلُ الْوَدِيعَةُ في ضَمَانِهِ إلَّا إذَا كان عن عُذْرٍ بِأَنْ وَقَعَ في دَارِهِ حَرِيقٌ أو كان في السَّفِينَةِ فَخَافَ الْغَرَقَ فَدَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِ في هذه الْحَالَةِ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلْحِفْظِ فَكَانَ الدَّفْعُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ دَلَالَةً فَلَا يَضْمَنُ فَلَوْ أَرَادَ السَّفَرَ فَلَيْسَ له أَنْ يُودِعَ لِأَنَّ السَّفَرَ ليس بِعُذْرٍ
وَلَوْ أَوْدَعَهَا عِنْدَ من ليس له أَنْ يُودِعَهُ فَضَاعَتْ في يَدِ الثَّانِي فَالضَّمَانُ على الْأَوَّلِ لَا على الثَّانِي عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِيَ فَإِنْ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على الثَّانِي وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ يَرْجِعْ بِهِ على الْأَوَّلِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ وَجَدَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ دَفَعَ مَالَ الْغَيْرِ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَيُخَيَّرُ الْمَالِكُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِيَ كَمُودَعِ الْغَاصِبِ مع الْغَاصِبِ غير أَنَّهُ إنْ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على الثَّانِي لِأَنَّهُ مَلَكَ الْوَدِيعَة بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَوْدَعَ مَالَهُ نَفْسَهُ إيَّاهُ فَهَذَا مُودَعٌ هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ في يَدِهِ فَلَا شَيْءَ عليه وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ غَرَّهُ بِالْإِيدَاعِ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْغُرُورِ كَأَنَّهُ كَفَلَ عنه بِمَا يَلْزَمُهُ من الْعُهْدَةِ في هذا الْعَقْدِ إذْ ضَمَانُ الْغُرُورِ ضَمَانُ كَفَالَةٍ لِمَا عُلِمَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ يَدَ الْمُودَعِ الثَّانِي لَيْسَتْ بِيَدٍ مَانِعَةٍ بَلْ هِيَ يَدُ حِفْظٍ وَصِيَانَةِ الْوَدِيعَةِ عن أَسْبَابِ الْهَلَاكِ فَلَا يصح ( ( ( يصلح ) ) ) أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ من بَابِ الْإِحْسَانِ إلَى الْمَالِكِ قال اللَّه جَلَّ شَأْنُهُ { ما على الْمُحْسِنِينَ من سَبِيلٍ } وكان يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ على الْأَوَّلِ أَيْضًا لِأَنَّ الْإِيدَاعَ منه مُبَاشَرَةُ سَبَبِ الصِّيَانَةِ وَالْحِفْظِ له فَكَانَ مُحْسِنًا فيه إلَّا أَنَّهُ صَارَ مَخْصُوصًا عن النَّصِّ فَبَقِيَ الْمُودَعُ الثَّانِي على ظَاهِرِهِ
وَلَوْ أَوْدَعَ غَيْرَهُ وَادَّعَى أَنَّهُ فَعَلَ عن عُذْرٍ لَا يُصَدَّقُ على ذلك إلَّا بِبَيِّنَةٍ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وهو قِيَاسُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى غَيْرِهِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ في الْأَصْلِ فَدَعْوَى الضَّرُورَةِ دَعْوَى أَمْرٍ عَارِضٍ يُرِيدُ بِهِ دَفْعَ الضَّمَانِ عن نَفْسِهِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ هذا إذَا هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ في يَدِ الْمُودَعِ الثَّانِي فَأَمَّا إذَا اسْتَهْلَكَهَا فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِي بِالْإِجْمَاعِ
غير أَنَّهُ إنْ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على الثَّانِي وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على الْأَوَّلِ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ وُجِدَ من الثَّانِي حَقِيقَةً وهو الِاسْتِهْلَاكُ لِوُقُوعِهِ إعْجَازًا لِلْمَالِكِ عن الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ على طَرِيقِ الْقَهْرِ ولم يُوجَدْ من الْأَوَّلِ إلَّا الدَّفْعُ إلَى الثَّانِي على طَرِيقِ الِاسْتِحْفَاظِ دُونَ الْإِعْجَازِ إلَّا أَنَّهُ أَلْحَقَ ذلك بِالْإِعْجَازِ شَرْعًا في حَقِّ اخْتِيَارِ التَّضْمِينِ صُورَةً لِأَنَّهُ بَاشَرَ سَبَبَ الْإِعْجَازِ فَكَانَ الضَّمَانُ في الْحَقِيقَةِ على الثَّانِي لِأَنَّ إقْرَارَ الضَّمَانِ عليه
لِذَلِكَ لم يَرْجِعْ الْأَوَّلُ على الثَّانِي ولم يَرْجِعْ الثَّانِي على الْأَوَّلِ بِخِلَافِ مُودِعِ الْغَاصِبِ إذَا هَلَكَ الْمَغْصُوبُ في يَدِهِ إنَّ الْمَالِكَ يَتَخَيَّرُ بين أَنْ يَضْمَنَ الْغَاصِبُ أو يَضْمَنَ الْمُودَعُ فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على الْمُودَعِ وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُودَعَ يَرْجِعُ بِهِ على الْغَاصِبِ وقد تَقَدَّمَ الْفَرْقُ
وَعَلَى هذا إذَا أَوَدَعَ رَجُلٌ من رَجُلَيْنِ مَالًا فَإِنْ كان مُحْتَمَلًا لِلْقِسْمَةِ اقْتَسَمَاهُ وَحَفِظَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا أُودَعَهُ من رَجُلَيْنِ فَقْد اسْتَحْفَظَهُمَا جميعا فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ الْوَدِيعَةُ في حِفْظِهِمَا جميعا وَلَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ لِيَكُونَ النِّصْفُ في يَدِ هذا وَالنِّصْفُ في يَدِ ذَاكَ 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حديث عبد الله بن عمر

أنَّه طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وهي حَائِضٌ، علَى عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَسَأَلَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَسولَ اللَّ...