Translate

الخميس، 1 يونيو 2023

ج22وج23وج24.بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع علاء الدين الكاساني

ج22. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587.

بِالْإِذْنِ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا ما لم يَعْلَمْ بِإِذْنِ الْأَبِ منهم من أَثْبَتَ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ في جَوَازِ الْإِذْنِ الْقَائِمِ من غَيْرِ عِلْمِ الْعَبْدِ وَمِنْهُمْ من لم يُثْبِتْ الِاخْتِلَافَ
وَفَرَّقَ بين الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ فَجَعَلَ الْعِلْمَ شَرْطًا في الصَّبِيِّ دُونَ الْعَبْدِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ انْحِجَارَ الْعَبْدِ لِحَقِّ مَوْلَاهُ فإذا أَذِنَ أنفك بِمُبَايَعَتِهِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَانْفَكَّ الْحَجْرُ فَصَارَ مَأْذُونًا بِخِلَافِ الصَّبِيِّ لِأَنَّ انْحِجَارَهُ عن التَّصَرُّفِ لِحَقِّ نَفْسِهِ لَا لِحَقِّ أبيه
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُهْدَةَ تَلْزَمُهُ دُونَ أبيه فَشَرْطُ عِلْمِهِ بِالْإِذْنِ الذي هو إزَالَةُ الْحَجْرِ لِيَكُونَ لُزُومُ الْعُهْدَةِ في التِّجَارَةِ مُضَافًا إلَيْهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا من وَجْهٍ آخَرَ وهو أَنَّ الْإِذْنَ على سَبِيلِ الاستفادة ( ( ( الاستفاضة ) ) ) سَبَبٌ لِحُصُولِ الْعِلْمِ لَهُمَا جميعا إلَّا أَنَّ السَّبَبَ لَا يُقَامُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَالضَّرُورَةُ في حَقِّ الْعَبْدِ دُونَ الصَّبِيِّ لِأَنَّ الناس يَحْتَاجُونَ إلَى مُبَايَعَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّ الْإِذْنَ لِلْعَبْدِ بِالتِّجَارَةِ من عَادَاتِ التُّجَّارِ وإذا وُجِدَ الْإِذْنُ على الِاسْتِفَاضَةِ وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْعِلْمِ غَالِبًا فَالنَّاسُ يُعَامِلُونَهُ بِنَاءً على هذه الدَّلَالَةِ ثُمَّ يَظْهَرُ أَنَّهُ ليس بِمَأْذُونٍ لِانْعِدَامِ الْعِلْمِ حَقِيقَةً فَتَتَعَلَّقُ دُيُونُهُمْ بِذِمَّةِ الْمُفْلِسِ وَتَتَأَخَّرُ إلَى ما بَعْدَ الْعِتْقِ فَيُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ بِهِمْ بِخِلَافِ الصِّبْيَانِ لِأَنَّ إذْنَ الصَّبِيِّ بِالتِّجَارَةِ ليس من عَادَةِ التُّجَّارِ وَالنَّاسُ أَيْضًا لَا يُعَامِلُونَ الصِّبْيَانَ عَادَةً
وَلَوْ تَوَقَّفَ الْإِذْنُ على حَقِيقَةِ الْعِلْمِ لَا يَلْحَقُهُمْ الضَّرَرُ إلَّا على سَبِيلِ النُّدْرَةِ
وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَظْهَرُ بِهِ الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ فَنَقُولُ ما يَظْهَرُ بِهِ الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا من جِهَةِ الْمَوْلَى وَالثَّانِي من جِهَةِ الْعَبْدِ
أَمَّا الذي من جِهَةِ الْمَوْلَى فَهُوَ تَشْهِيرُهُ الْإِذْنَ وَإِشَاعَتُهُ بِأَنْ يُنَادِيَ أَهْلَ السُّوقِ إنِّي قد أَذِنْت لِعَبْدِي فُلَانًا بِالتِّجَارَةِ فَبَايِعُوهُ وهو الْمُسَمَّى بِالْإِذْنِ الْعَامِّ
وَأَمَّا الذي من جِهَةِ الْعَبْدِ فَهُوَ إخْبَارُهُ عن كَوْنِهِ مَأْذُونًا بِالتِّجَارَةِ بِأَنْ لم يَكُنْ الْإِذْنُ من الْمَوْلَى عَامًّا أو قَدِمَ مِصْرًا لم يَشْتَهِرْ فيه إذْنُ الْمَوْلَى فقال إنَّ مَوْلَايَ أَذِنَ لي في التِّجَارَةِ وَالْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ يَظْهَرُ بِكُلِّ وَاحِدٍ من النَّوْعَيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا شَكَّ فيه لِحُصُولِ الْعِلْمِ لِلسَّامِعِينَ بِحِسِّ السَّمْعِ من الأذن وَلِغَيْرِ السَّامِعِينَ بِالنَّقْلِ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ في الْمُعَامَلَاتِ وَلَا يُشْتَرَطُ فيه الْعَدَدُ وَلَا الْعَدَالَةُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو جاء عَبْدٌ أو أَمَةٌ إلَى إنْسَانٍ فقال هذه هَدِيَّةٌ بَعَثَنِي بها مَوْلَايَ إلَيْك جَازَ له الْقَبُولُ
كَذَا هذا وَهَذَا لِأَنَّ هذه الْمُعَامَلَاتِ في الْعَادَاتِ يَتَعَاطَاهَا الْعَبِيدُ وَالْخَدَمُ
وَالْفِسْقُ فِيهِمْ غَالِبٌ فَلَوْ لم يُقْبَلْ خَبَرُهُمْ فيها لَوَقَعَ الناس في الْحَرَجِ وإذا قُبِلَ خَبَرُهُ ظَهَرَ الْإِذْنُ فَيَسْعَ الناس أَنْ يُعَامِلُوهُ غير أَنَّهُمْ إنْ بَنَوْا مُعَامَلَاتِهِمْ على الْإِذْنِ الْعَامِّ فَعَامَلُوهُ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ يُبَاعُ فيه كَسْبُهُ وَرَقَبَتُهُ بِدَيْنِ التِّجَارَةِ وَإِنْ عَامَلُوهُ بِنَاءً على إخْبَارِهِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ يُبَاعُ كَسْبُهُ بِالدَّيْنِ وَلَا تُبَاعُ رَقَبَتُهُ ما لم يَحْضُرْ الْمَوْلَى فَيُقِرُّ بِإِذْنِهِ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ من التَّصَرُّفِ وما لَا يَمْلِكُهُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ كُلُّ ما كان من بَابِ التِّجَارَةِ أو تَوَابِعِهَا أو ضَرُورَاتِهَا يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ وما لَا فَلَا لِأَنَّ كُلَّ ذلك دَاخِلٌ في الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ فَيَمْلِكُ الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ وَالْعُرُوضِ لِأَنَّ كُلَّ ذلك من التِّجَارَةِ وَمِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ من التِّجَارَةِ وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه حتى مَلَكَهُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ
وَكَذَا بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ في مَعْنَى التَّبَرُّعِ
أَلَا يَرَى أَنَّهُ لو فَعَلَهُ الْمَرِيضُ يُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ كما في سَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ وَالْمَأْذُونُ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هذا بَيْعٌ وَشِرَاءٌ على الْإِطْلَاقِ لِوُقُوعِ اسْمِ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ عليه مُطْلَقًا فَكَانَ تِجَارَةً مُطْلَقَةً فَدَخَلَتْ تَحْتَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ
ثُمَّ فَرَّقَ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بين الْمَأْذُونِ وَبَيْنَ الْوَكِيلِ حَيْثُ سَوَّى بين الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ في الْمَأْذُونِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا في الْوَكِيلِ حَيْثُ قال إنَّ الْمَأْذُونَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ وَالْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ بِالْإِجْمَاعِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ له أَنَّ امْتِنَاعَ جَوَازِ الشِّرَاءِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ في بَابِ الْوَكَالَةِ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ لِجَوَازِ أَنَّهُ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ فلما ظَهَرَ الْغَبْنُ أَظْهَرَ الشِّرَاءَ لِمُوَكِّلِهِ فلم يَجُزْ التهمة ( ( ( للتهمة ) ) ) حتى إن الْوَكِيلَ لو كان وَكَّلَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ يَنْفُذُ على الْمُوَكَّلِ لِانْعِدَامِ التُّهْمَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ وَمَعْنَى التُّهْمَةِ لَا يَتَقَدَّرُ في الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ فَاسْتَوَى فيه الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَهَلْ يَمْلِكُ الْمَأْذُونُ أَنْ
____________________

(7/194)


يَبِيعَ شيئا من مَوْلَاهُ فَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ لَا يُتَصَوَّرُ الْبَيْعُ من الْمَوْلَى لِاسْتِحَالَةِ بَيْعِ مَالِ الْإِنْسَانِ منه وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ فَإِنْ بَاعَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أو أَكْثَرَ جَازَ وَإِنْ بَاعَهُ بِأَقَلَّ من قِيمَتِهِ لم يَجُزْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ أَصْلًا وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ بِقَدْرِ الْمُحَابَاةِ وَكَذَلِكَ لو بَاعَ الْمَوْلَى شيئا منه فَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ لم يَكُنْ بَيْعًا لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كان عليه فَإِنْ بَاعَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أو بِأَقَلَّ من قِيمَتِهِ جَازَ وَإِنْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ من قِيمَتِهِ لم يَجُزْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ وَتَبْطُلُ الزِّيَادَةُ
وَعَلَى هذا إذَا اشْتَرَى الْمَوْلَى دَارًا بِجَنْبِ دَارِ الْعَبْدِ إنْ لم يَكُنْ على الْعَبْدِ دَيْنٌ فَالشُّفْعَةُ له لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَالدَّارُ الذي ( ( ( التي ) ) ) في يَدِ الْعَبْدِ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى فَلَوْ أَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ لَأَخَذَهَا هو فَكَيْفَ يَأْخُذُ مِلْكَ نَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ من نَفْسِهِ وَإِنْ كان على الْعَبْدِ دَيْنٌ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ
وَلَوْ اشْتَرَى الْعَبْدُ دَارًا بِجَنْبِ دَارِ الْمَوْلَى فَإِنْ لم يَكُنْ على الْعَبْدِ دَيْنٌ فَلَا حَاجَةَ لِلْمَوْلَى إلَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّهَا خَالِصُ مِلْكِهِ وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ في الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ وَالْعُرُوضِ وَالْغَبْنِ الْيَسِيرِ وَالْبَيْعِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ على الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ
وَهَذَا إذَا بَاعَ من أَجْنَبِيٍّ أو اشْتَرَى منه فَإِنْ بَاعَ من أبيه شيئا أو اشْتَرَى منه فَإِنْ بَاعَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أو أَكْثَرَ وَاشْتَرَى بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أو أَقَلَّ جَازَ وَلَوْ كان فيه غَبْنٌ وإن كان مِمَّا يَتَغَابَنُ الناس فيه جَازَ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عنه غَيْرُ مُمْكِنٍ وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ الناس فيه لم يَجُزْ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ مُسْتَفَادَةٍ من قِبَلِ أبيه كَأَنَّهُ نَائِبُهُ في التَّصَرُّفِ فَصَارَ كما لو اشْتَرَى الْأَبُ شيئا من مَالِ ابْنِهِ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ أو اشْتَرَى شيئا من مَالِهِ بِنَفْسِهِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ كان الْجَوَابُ فيه هَكَذَا كَذَا هذا
وَلَوْ بَاعَ من وَصِيِّهِ أو اشْتَرَى منه فَإِنْ لم يَكُنْ فِيهِمَا نَفْعٌ ظَاهِرٌ له لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان فِيهِمَا نَفْعٌ ظَاهِرٌ فَإِنْ كان بِأَكْثَرَ من قِيمَتِهِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ وَلِلْمَأْذُونِ أَنْ يُسَلِّمَ فِيمَا يَجُوزُ فيه السَّلَمُ وَيُقْبَلُ السَّلَمُ فيه لِأَنَّ السَّلَمَ من قِبَلِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ وَمِنْ قِبَلِ رَبِّ السَّلَمِ شِرَاءُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ وَكُلُّ ذلك تِجَارَةٌ
وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِأَنَّ ذلك من عَادَاتِ التُّجَّارِ والتاجر لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَلَّى ذلك كُلَّهُ بِنَفْسِهِ فَكَانَ تَوْكِيلُهُ فيه من أَعْمَالِ التِّجَارَةِ وَكَذَا له أَنْ يَتَوَكَّلَ عن غَيْرِهِ بِالْبَيْعِ بالإجمال ( ( ( بالإجماع ) ) ) وَتَكُونُ الْعُهْدَةُ عليه
وَلَوْ تَوَكَّلَ عن غَيْرِهِ بِالشِّرَاءِ يُنْظَرُ إنْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ أَشْيَاءَ بِالنَّقْدِ جَازَ اسْتِحْسَانًا دَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ أو لم يَدْفَعْ وَتَكُونُ الْعُهْدَةُ عليه وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ هذه الْوَكَالَةُ
وَوَجْهُهُ أنها لو جَازَتْ للزمه ( ( ( للزمته ) ) ) الْعُهْدَةُ وَهِيَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ فَيَصِيرُ في مَعْنَى الْكَفِيلِ بِالثَّمَنِ وَلَا تَجُوزُ كَفَالَتُهُ فَلَا تَجُوزُ وَكَالَتُهُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ في مَعْنَى التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ فَكَانَ هذا في مَعْنَى الْبَيْعِ لَا في مَعْنَى الْكَفَالَةِ وَلَوْ تَوَكَّلَ عن غَيْرِهِ بِشِرَاءِ شَيْءٍ نَسِيئَةً فَاشْتَرَى لم يَجُزْ حتى كان الشِّرَاءُ لِلْعَبْدِ دُونَ الْآخَرِ لِأَنَّ الثَّمَنَ إذَا كان نَسِيئَةً لَا يَمْلِكُ حَبْسَ المشترى لِاسْتِيفَائِهِ بَلْ يَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُوَكَّلِ فَكَانَتْ وَكَالَتُهُ في هذه الصُّورَةِ الْتِزَامَ الثَّمَنِ فَكَانَتْ كَفَالَةً مَعْنًى فَلَا يَمْلِكُهَا الْمَأْذُونُ وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ إنْسَانًا يَعْمَلُ معه أو مَكَانًا يَحْفَظُ فيه أَمْوَالَهُ أو دوابا ( ( ( دواب ) ) ) يَحْمِلُ عليها أَمْتِعَتَهُ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَ هذه الْأَشْيَاءِ من تَوَابِعِ التِّجَارَةِ وَكَذَا له أَنْ يُؤَاجِرَ الدَّوَابَّ وَالرَّقِيقَ وَنَفْسَهُ لِمَا قُلْنَا وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ من التِّجَارَةِ حتى كان الْإِذْنُ بِالْإِجَارَةِ إذْنًا بِالتِّجَارَةِ
وَلَهُ أَنْ يَرْهَنَ وَيَرْتَهِنَ وَيُعِيرَ وَيُودِعَ وَيَقْبَلَ الْوَدِيعَةَ لِأَنَّ ذلك كُلَّهُ من عَادَاتِ التُّجَّارِ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ التَّاجِرُ أَيْضًا وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَيَأْخُذَ من غَيْرِ مُضَارَبَةٍ لِمَا قُلْنَا وَلِأَنَّ الْأَخْذَ وَالدَّفْعَ من بَابِ الْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارِ وَالْمَأْذُونُ يَمْلِكُ ذلك كُلَّهُ
وَلَهُ أَنْ يُشَارِكَ غَيْرَهُ شَرِكَةَ عِنَانٍ لِأَنَّهَا من صَنِيعِ التُّجَّارِ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ التَّاجِرُ وَلَيْسَ له أَنْ يُشَارِكَ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ له وَلَا يَمْلِكُ الْكَفَالَةَ فَلَا يَمْلِكُ الْمُفَاوَضَةَ فإذا فَاوَضَ تَنْقَلِبُ شَرِكَةَ عِنَانٍ لِأَنَّ هذا حُكْمُ فَسَادِ الْمُفَاوَضَةِ
وَلَوْ اشْتَرَكَ عَبْدَانِ مَأْذُونَانِ شَرِكَةَ عِنَانٍ على أَنْ يَشْتَرِيَا بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ جَازَ ما اشْتَرَيَا بِالنَّقْدِ وما اشْتَرَيَا بِالنَّسِيئَةِ فَهُوَ له خَاصَّةً لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ وقد ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ الْمَأْذُونُ من غَيْرِهِ بِالشِّرَاءِ نَقْدًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِغَيْرِهِ بِالشِّرَاءِ نَسِيئَةً وَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ هذا من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ إذْ لو لم يَمْلِكْ لَامْتَنَعَ الناس عن مُبَايَعَتِهِ خَوْفًا من تَوَاءِ أَمْوَالِهِمْ بِالْإِنْكَارِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَكَانَ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ فَيَصِحُّ وَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالْعَيْنِ لِأَنَّ الْعَادَةَ قد جَرَتْ بِشِرَاءِ
____________________

(7/195)


كَثِيرٍ من الْأَشْيَاءِ بِظُرُوفِهَا فَلَوْ عَلِمَ الناس أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْعَيْنِ لَامْتَنَعُوا عن تَسْلِيمِ الْأَعْيَانِ إلَيْهِ فَلَا يَلْتَئِمُ أَمْرُ التِّجَارَةِ وَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْجِنَايَةِ ليس من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ فَلَا يَصِحُّ منه وَلَا يُطَالَبُ بها بَعْدَ الْعَتَاقِ أَيْضًا لِأَنَّ مُوجَبَ الْجِنَايَةِ يَلْزَمُ الْمَوْلَى دُونَ الْعَبْدِ فَكَانَ ذلك شَهَادَةً على الْمَوْلَى لَا إقْرَارًا على نَفْسِهِ فلم يَصِحَّ أَصْلًا إلَّا إذَا صَدَّقَهُ الْمَوْلَى فَيَجُوزُ عليه وَلَا يَجُوزُ على الْغُرَمَاءِ
وَهَلْ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِافْتِضَاضِ أَمَةٍ بِأُصْبُعِهِ غَصْبًا
قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رضي اللَّهُ عنهما لَا يَصِحُّ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِحُّ سَوَاءٌ كان عليه دَيْنٌ أو لَا
وَيَضْرِبُ مولى الْأَمَةِ مع الْغُرَمَاءِ في ثَمَنِ الْعَبْدِ وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ على أَنَّ هذا الْإِقْرَارَ بِالْجِنَايَةِ أَمْ بِالْمَالِ فَعِنْدَهُمَا هذا إقْرَارٌ بِالْجِنَايَةِ فَلَا يَصِحُّ من غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى وَعِنْدَهُ هذا إقْرَارٌ بِالْمَالِ فَيَصِحُّ من غَيْرِ تَصْدِيقِهِ وَعَلَى هذا إذَا أَقَرَّ بِمَهْرٍ وَجَبَ عليه بِنِكَاحٍ جَائِزٍ أو فَاسِدٍ أو شُبْهَةٍ فَإِنْ لم يُصَدِّقْهُ الْمَوْلَى لم يَصِحَّ إقْرَارُهُ حتى لَا يُؤَاخَذَ بِهِ لِلْحَالِ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِالنِّكَاحِ وَأَنَّهُ ليس بِتِجَارَةٍ وَلَا هو في مَعْنَى التِّجَارَةِ فَيَسْتَوِي فيه إقْرَارُ الْمَأْذُونِ وَالْمَحْجُورِ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى جَازَ ذلك عليه ولم يَجُزْ على الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ تَصْدِيقَهُ يُعْتَبَرُ في حَقِّ نَفْسِهِ لَا في إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ فَيُبَاعُ في دَيْنِ الْغُرَمَاءِ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ منه يُصْرَفْ إلَى دَيْنِ الْمَرْأَةِ وَإِلَّا فَيَتَأَخَّرُ ما بَعْدَ الْعِتْقِ وَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّ الْمَحْجُورَ يَمْلِكُ فَالْمَأْذُونُ أَوْلَى وإذا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْمَوْلَى لِلِاسْتِيفَاءِ بِلَا خِلَافٍ
وَهَلْ يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى عِنْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ عليها فيه خِلَافٌ نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ وَهَلْ يَمْلِكُ تَأْخِيرَ دَيْنٍ له وَجَبَ على إنْسَانٍ فَإِنْ وَجَبَ له وَحْدَهُ يَمْلِكُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَكَذَا هو من عَادَةِ التجارة ( ( ( التجار ) ) ) وَإِنْ وَجَبَ له وَلِرَجُلٍ آخَرَ دَيْنٌ على إنْسَانٍ فَأَخَّرَ الْمَأْذُونُ نَصِيبَ نَفْسِهِ فَالتَّأْخِيرُ بَاطِلٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّأْخِيرَ منه تَصَرُّفٌ في مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَصِحُّ كما لو كان كُلُّ الدَّيْنِ له فَأَخَّرَهُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّأْخِيرَ لو صَحَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَصِحَّ في نَصِيبِ شَرِيكِهِ
وَإِمَّا أَنْ يَصِحَّ في نَصِيبِ نَفْسِهِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لإنعدام الْمِلْكِ وَالْوِلَايَةِ وَتَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ لَا يَصِحُّ في غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا وِلَايَةٍ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ قِسْمَةُ الدَّيْنِ قبل الْقَبْضِ
أَلَا تَرَى أَنَّ شَرِيكَهُ لو قَبَضَ شيئا من نَصِيبِهِ قبل حُلُولِ الْأَجَلِ يَخْتَصُّ بِالْمَقْبُوضِ وَلَا يُشَارِكُهُ فيه
وَمَعْنَى الْقِسْمَةِ هو الِاخْتِصَاصُ بِالْمَقْسُومِ وقد وُجِدَ فَثَبَتَ أَنَّ هذا قِسْمَةُ الدَّيْنِ قبل الْقَبْضِ وأنها غَيْرُ جَائِزَةٍ لِأَنَّ الدَّيْنَ اسْمٌ لِفِعْلٍ وَاجِبٍ وهو فِعْلُ تَسْلِيمِ الْمَالِ وَالْمَالُ حُكْمِيٌّ في الذِّمَّةِ وَكُلُّ ذلك عَدَمٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ أُعْطِيَ له حُكْمُ الْوُجُودِ لِحَاجَةِ الناس لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَمْلِكُ ما يَدْفَعُ بِهِ حَاجَتَهُ من الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِقْرَاضِ وَالشِّرَاءِ بِثَمَنِ دَيْنٍ فَأُعْطِيَ له حُكْمُ الْوُجُودِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ
وَلَا حَاجَةَ إلَى قِسْمَتِهِ فَبَقِيَ في حَقِّ الْقِسْمَةِ على أَصْلِ الْعَدَمِ وَالْعَدَمُ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ
وَإِذًا لم يَصِحَّ التَّأْخِيرُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَوْ أَخَذَ شَرِيكُهُ من الدَّيْنِ كان الْمَأْخُوذُ بَيْنَهُمَا على الشَّرِكَةِ كما قبل التَّأْخِيرِ وَعِنْدَهُمَا كان الْمَأْخُوذُ له خَاصَّةً وَلَا يُشَارِكُهُ حتى يَحِلَّ الْأَجَلُ لِأَنَّهُ بِالتَّأْخِيرِ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ وَالْمُطَالَبَةَ فإذا حَلَّ الْأَجَلُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ شَارَكَهُ في الْمَقْبُوضِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ حَقَّهُ من الْغَرِيمِ لِأَنَّ الدَّيْنَ حَلَّ بِحُلُولِ الْأَجَلِ
وَلَوْ كان الدَّيْنُ في الْأَصْلِ مِنْهُمَا جميعا مُؤَجَّلًا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا شيئا قبل حِلِّ الْأَجَلِ شَارَكَهُ فيه صَاحِبُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ شيئا قبل حِلِّ الْأَجَلِ فَقَدْ سَقَطَ الْأَجَلُ عن قَدْرِ الْمَقْبُوضِ وَصَارَ حَالًّا فَصَارَ الْمَقْبُوضُ من النَّصِيبَيْنِ جميعا فَيُشَارِكُهُ فيه صَاحِبُهُ كما في الدَّيْنِ الْحَالِّ
وَلَوْ كان الدَّيْنُ كُلُّهُ بَيْنَهُمَا مُؤَجَّلًا إلَى سَنَةٍ فَأَخَّرَهُ الْعَبْدُ سَنَةً أُخْرَى لم يَجُزْ التَّأْخِيرُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ حتى لو أَخَذَ شَرِيكُهُ من الْغَرِيمِ شيئا في السَّنَةِ الْأُولَى شَارَكَهُ فيه عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا لَا يُشَارِكُهُ حتى يَحِلَّ دَيْنُهُ فإذا حَلَّ فَلَهُ الْخِيَارُ على ما ذَكَرْنَا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَا يَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ عن الدَّيْنِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ ليس من التِّجَارَةِ بَلْ هو تَبَرُّعٌ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ
وَهَلْ يَمْلِكُ الْحَطَّ فَإِنْ كان الْحَطُّ من غَيْرِ عَيْبٍ لَا يَمْلِكُهُ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ كان الْحَطُّ من عَيْبٍ بِأَنْ بَاعَ شيئا ثُمَّ حَطَّ من ثَمَنِهِ يُنْظَرُ إنْ حَطَّ بِالْمَعْرُوفِ بِأَنْ حَطَّ مِثْلَ ما يَحُطُّهُ التُّجَّارُ عَادَةً جَازَ لِأَنَّ مِثْلَ هذا الْحَطِّ من تَوَابِعِ التِّجَارَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ بِالْمَعْرُوفِ بِأَنْ كان فَاحِشًا جَازَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ
وقد ذَكَرْنَا أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا قَبْلُ
وَهَلْ يَمْلِكُ الصُّلْحَ بِأَنْ وَجَبَ له على إنْسَانٍ دَيْنٌ فَصَالَحَهُ على بَعْضِ
____________________

(7/196)


حَقِّهِ فَإِنْ كان له عليه بَيِّنَةٌ لَا يَمْلِكُهُ لِأَنَّهُ حَطَّ بَعْضَ الدَّيْنِ وَالْحَطُّ من غَيْرِ عَيْبٍ ليس من التِّجَارَةِ بَلْ هو تَبَرُّعٌ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ وَإِنْ لم يَكُنْ له عليه بَيِّنَةٌ جَازَ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ عليه بَيِّنَةٌ فَلَا حَقَّ له إلَّا الْخُصُومَةَ وَالْحَلِفَ وَالْمَالُ خَيْرٌ من ذلك فَكَانَ في هذا الصُّلْحِ مَنْفَعَةٌ فَيَصِحُّ
وَكَذَا الصُّلْحُ على بَعْضِ الْحَقِّ عِنْدَ تَعَذُّرِ الاستيفاء ( ( ( استيفاء ) ) ) كُلِّهِ من عَادَاتِ التُّجَّارِ
فَكَانَ دَاخِلًا تَحْتَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ وبملك ( ( ( ويملك ) ) ) الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا فَيَأْذَنُ له بِالتِّجَارَةِ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ من عَادَاتِ التُّجَّارِ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ فإنه لَا يمكلها ( ( ( يملكها ) ) ) الْمَأْذُونُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ من التِّجَارَةِ بَلْ هِيَ اعتاق مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَمْلِكُهَا وَيَمْلِكُ الِاسْتِقْرَاضَ لِأَنَّهُ تِجَارَةٌ حَقِيقَةٌ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ وهو من عَادَاتِ التُّجَّارِ
وَلَيْسَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يُقْرِضَ لِأَنَّ الْقَرْضَ تَبَرُّعٌ لِلْحَالِّ وَلِهَذَا لم يَلْزَمْ فيه الْأَجَلُ وَلَا يَكْفُلُ بِمَالٍ وَلَا بِنَفْسٍ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ إلَّا إذَا أَذِنَ له الْمَوْلَى بِالْكَفَالَةِ ولم يَكُنْ عليه دَيْنٌ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فإنه لَا تَجُوزُ كَفَالَتُهُ أَصْلًا على ما مَرَّ في كِتَابِ الْكَفَالَةِ وَلَا يَهَبُ دِرْهَمًا تَامًّا لَا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَا بِعِوَضٍ وَكَذَا لَا يَتَصَدَّقُ بِدِرْهَمٍ وَلَا يَكْسُو ثَوْبًا لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَيَجُوزُ تَبَرُّعُهُ بِالطَّعَامِ الْيَسِيرِ إذَا وَهَبَ أو أَطْعَمَ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَإِنْ قَلَّ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ وَلِأَنَّ هذا من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ عَادَةً فَكَانَ الْإِذْنُ فيه ثَابِتًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَيَمْلِكُهُ وَلِهَذَا مَلَكَتْ الْمَرْأَةُ التَّصَدُّقَ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ كَالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ من مَالِ زَوْجِهَا لِكَوْنِهَا مَأْذُونَةً في ذلك دَلَالَةً
كَذَا هذا
وَلَا يَتَزَوَّجُ من غَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ لِأَنَّ التَّزَوُّجَ ليس من بَابِ التِّجَارَةِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمَوْلَى وَلَا يَتَسَرَّى جَارِيَةً من اكتسابه ( ( ( إكسابه ) ) ) لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْعَبْدِ حَقِيقَةً وَحِلُّ الْوَطْءِ بِدُونِ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ مَنْفِيٌّ شَرْعًا وَسَوَاءٌ أَذِنَ له الْمَوْلَى بِالتَّسَرِّي أو لم يَأْذَنْ له لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شيئا لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا وَبِالْإِذْنِ لَا يَخْرُجُ عن كَوْنِهِ مَمْلُوكًا فَلَا تَنْدَفِعُ الِاسْتِحَالَةُ وَلَا يُزَوِّجُ عَبْدَهُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ ليس من التِّجَارَةِ وَفِيهِ أَيْضًا ضَرَرٌ بِالْمَوْلَى
وَهَلْ له أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ لَا يُزَوِّجُ وقال أبو يُوسُفَ يُزَوِّجُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا تَصَرُّفٌ نَافِعٌ في حَقِّ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ مُقَابَلَةُ ما ليس بِمَالٍ فَكَانَ أَنْفَعَ من الْبَيْعِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ فَالنِّكَاحُ أَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْإِذْنِ هو التِّجَارَةُ وَإِنْكَاحُ الْأَمَةِ وَإِنْ كان نَافِعًا في حَقِّ الْمَوْلَى فَلَيْسَ بِتِجَارَةٍ إذْ التِّجَارَةُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ ولم تُوجَدْ فَلَا يَمْلِكُهُ وَلَا يَعْتِقُ وَإِنْ كان على مَالٍ لِأَنَّهُ ليس بِتِجَارَةٍ بَلْ هو تَبَرُّعٌ لِلْحَالِّ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَعْتِقُ بِنَفْسِ الْقَبُولِ فَأَشْبَهَ الْقَرْضَ وَلَا يَمْلِكُ الْقَرْضَ فَلَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ على مَالٍ
وَإِنْ أَعْتَقَ على مَالٍ فَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ وَقَفَ على إجَازَةِ الْمَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ فَإِنْ أَجَازَ جَازَ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ يَمْلِكُ الْمَوْلَى إنْشَاءَ الْعِتْقِ فيه فَيَمْلِكُ الْإِجَازَةَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى وَوِلَايَةُ قَبْضِ الْعِوَضِ لِلْمَوْلَى لَا لِلْعَبْدِ لِمَا نَذْكُرُ
وَإِنْ لَحِقَهُ دَيْنٌ بَعْدَ ذلك لم يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ حَقٌّ في هذا لمالك ( ( ( المال ) ) ) لِأَنَّهُ كَسْبُ الْحُرِّ وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ لم يَجُزْ الْإِعْتَاقُ وَإِنْ أَجَازَ الْمَوْلَى عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ وَيَضْمَنُ الْمَوْلَى قِيمَةَ الْعَبْدِ لِلْغُرَمَاءِ وَلَا سَبِيلَ لِلْغُرَمَاءِ على الْعِوَضِ بِخِلَافِ ما إذَا كان مَكَانُ الْإِعْتَاقِ كِتَابَةً أَنَّ عِنْدَهُمَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْبَدَلِ وَهَهُنَا لَا يَتَعَلَّقُ لِأَنَّ هذا كَسْبُ الْحُرِّ وَذَاكَ كَسْبُ الرَّقِيقِ وَحَقُّ الْغَرِيمِ يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِ الرَّقِيقِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِ الْحُرِّ وَلَا يُكَاتِبُ سَوَاءٌ كان عليه دَيْنٌ أو لم يَكُنْ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ فَلَا يمكلها ( ( ( يملكها ) ) ) الْمَأْذُونُ وَلِأَنَّهَا إعْتَاقٌ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ وهو لَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ فَإِنْ كَاتَبَ فَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ وَقَفَ على إجَازَةِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَكَسْبُهُ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فيه فَيَمْلِكُ الْإِجَازَةَ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِنْشَاءَ فَالْإِجَازَةُ أَوْلَى فَإِنْ أَجَازَ نَفَذَ وَصَارَ مُكَاتِبًا لِلْمَوْلَى وَوِلَايَةُ قَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِلْمَوْلَى لَا العبد ( ( ( للعبد ) ) ) لِأَنَّ الْإِجَازَةَ اللَّاحِقَةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ فَكَانَ الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ وَكِيلِ الْمَوْلَى في الْكِتَابَةِ وَحُقُوقُ الْكِتَابَةِ تَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى لَا إلَى الْوَكِيلِ لِذَلِكَ لم يَمْلِكْ الْمَأْذُونُ قَبْضَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَمَلَكَهُ الْمَوْلَى
وَلَوْ لَحِقَ الْعَبْدُ بَعْدَ ذلك دَيْنٌ فَلَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ فِيمَا على الْمُكَاتِبِ حَقٌّ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ مُكَاتَبًا لِلْمَوْلَى فَقَدْ صَارَ كَسْبًا مُنْتَزَعًا من يَدِ الْمَأْذُونِ فَلَا يَكُونُ لِلْغُرَمَاءِ عليه سَبِيلٌ وَإِنْ كان الْمُكَاتَبُ قد أَدَّى جَمِيعَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ إلَى الْمَأْذُونِ قبل إجَازَةِ الْمَوْلَى لم يُعْتَقْ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لم تَنْفُذْ لِانْعِدَامِ شَرْطِ النَّفَاذِ وهو الْإِجَازَةُ وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ مُحِيطٌ بِرَقَبَتِهِ وَبِمَا في يَدِهِ لَا تَصِحُّ إجَازَةُ الْمَوْلَى عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حتى لَا يُعْتَقَ إذَا أَدَّى الْبَدَلَ
____________________

(7/197)


لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ الذي عليه دَيْنٌ مُحِيطٌ لَا يَكُونُ مِلْكًا لِلْمَوْلَى عِنْدَهُ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْكِتَابَةِ فَلَا يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ وَعِنْدَهُمَا تَصِحُّ إجَازَتُهُ كما يَصِحُّ إنْشَاءُ الْكِتَابَةِ منه وَيُعْتَقُ إذَا أَدَّى وَيَضْمَنُ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ فَصَارَ مُتْلِفًا عليهم حَقَّهُمْ وما قَبَضَ الْمَأْذُونُ من بَدَلِ الْكِتَابَةِ قبل الْإِجَازَةِ يُسْتَوْفَى منه الدَّيْنُ عِنْدَهُمَا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ قبل الْإِجَازَةِ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ على مَالٍ وقد ذَكَرْنَا وَجْهَ الْفَرْقِ لَهُمَا فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ في معنى ( ( ( المعنى ) ) ) إنْشَاءَ الْكِتَابَةِ وَلَوْ أَنْشَأَ ضَمِنَ الْقِيمَةَ عِنْدَهُمَا كَذَا هذا
وَإِنْ لم يَكُنْ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِرَقَبَتِهِ وَبِمَا في يَدِهِ جَازَتْ إجزاته ( ( ( إجازته ) ) ) بِالْإِجْمَاعِ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ لِإِتْلَافِ حَقِّهِمْ
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى من التَّصَرُّفِ في الْمَأْذُونِ وَكَسْبِهِ وما لَا يَمْلِكُ وَبَيَانُ حُكْمِ تَصَرُّفِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ إعْتَاقَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ سَوَاءٌ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ أو كان عليه دَيْنٌ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِعْتَاقِ تَقِفُ على مِلْكِ الرَّقَبَةِ وقد وُجِدَ إلَّا أَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ على الْعَبْدِ دَيْنٌ لَا شَيْءَ على الْمَوْلَى وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ فَالْغُرَمَاءُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا اتَّبَعُوا الْمَوْلَى بِالْأَقَلِّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ وَأَتْلَفَ حَقَّ الْغَيْرِ لِتَعَلُّقِ الْغُرَمَاءِ بِالرَّقَبَةِ فيراعي جَانِبُ الْحَقِيقَةِ بِتَنْفِيذِ الْإِعْتَاقِ وَيُرَاعَى جَانِبُ الْحَقِّ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ مُرَاعَاةً لِلْجَانِبَيْنِ عَمَلًا بالدليليين ( ( ( بالدليلين ) ) ) فَيُنْظَرُ إنْ كانت قِيمَةُ الْعَبْدِ مِثْلَ الدَّيْنِ غَرِمَ ذلك وَإِنْ كانت أَكْثَرَ منه غَرِمَ قِيمَةَ الدَّيْنِ وَإِنْ كانت أَقَلَّ منه غَرِمَ ذلك الْقَدْرَ لِأَنَّهُ ما أَتْلَفَ عليهم بِالْإِعْتَاقِ إلَّا الْقَدْرَ الْمُتَعَلِّقَ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ فَيُؤَاخَذُ الْمَوْلَى بِذَلِكَ وَيَتْبَعُ الْغُرَمَاءُ الْعَبْدَ بِالْبَاقِي وَإِنْ شَاءُوا اتَّبَعُوا الْعَبْدَ بِكُلِّ الدَّيْنِ فَيَسْتَسْعُوهُ فيه لِأَنَّ كُلَّ الدَّيْنِ كان وَاجِبًا عليه لِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْوُجُوبِ منه حَقِيقَةً وهو الْمُعَامَلَةُ إلَّا أَنَّ رَقَبَتَهُ تَعَيَّنَتْ لِاسْتِيفَاءِ قَدْرِ ما يَحْتَمِلُهُ من الدَّيْنِ منها بِتَعْيِينِ الْمَوْلَى أو شَرْعًا على ما نذكره ( ( ( نذكر ) ) ) في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ على ذلك في ذِمَّةِ الْعَبْدِ وقد عَتَقَ فَيُطَالَبُ بِهِ وَأَيَّهُمَا اخْتَارُوا اتِّبَاعَهُ لَا يَبْرَأُ الْآخَرُ لِأَنَّ اخْتِيَارَ التَّضْمِينِ في بَابِ الْغَصْبِ يَتَضَمَّنُ الْمَغْصُوبَ وَالتَّمْلِيكُ بِعِوَضٍ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ عنه
فَأَمَّا اخْتِيَارُ اتِّبَاعِ أَحَدِهِمَا هَهُنَا لَا يُوجِبُ مِلْكَ الدَّيْنِ منه وَلَوْ لم يَكُنْ على الْعَبْدِ دَيْنٌ وَلَكِنَّهُ قَتَلَ عَبْدًا آخَرَ خَطَأً وَعَلِمَ الْمَوْلَى بِهِ فَأَعْتَقَهُ وهو عَالِمٌ بِهِ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ يَغْرَمُ الْمَوْلَى تَمَامَ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ إنْ كان قَلِيلَ الْقِيمَةِ وَإِنْ كان كَثِيرَ الْقِيمَةِ بِأَنْ كانت قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ أو أَكْثَرَ غَرِمَ عَشَرَةَ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً فَرَّقَ بين الْجِنَايَةِ وَالدَّيْنِ إذَا أَعْتَقَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وهو عَالِمٌ بِهِ لَا يَلْزَمُهُ تَمَامُ الدَّيْنِ بَلْ الْأَقَلُّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ عَلِمَ بِالدَّيْنِ أو لم يَعْلَمْ وَهَهُنَا يَلْزَمُهُ تَمَامُ الْقِيمَةِ إذَا كان عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ
وَوَجْهُ الْفَرْقَ أن مُوجِبٌ جِنَايَةَ الْعَبْدِ على الْمَوْلَى وهو الدَّفْعُ لَكِنْ جَعَلَ له سَبِيلَ الْخُرُوجِ عنه بِالْفِدَاءِ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ فإذا أَعْتَقَهُ مع الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ فَقَدْ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ فَيَلْزَمُهُ الْفِدَاءُ بِجَمِيعِ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ إلَّا أَنْ تَكُونَ عَشَرَةَ آلَافٍ أو أَكْثَرَ فَيُنْقِصُ منه عَشَرَةً إذْ لَا مَزِيدَ لِدِيَةِ الْعَبْدِ على هذا الْقَدْرِ فَأَمَّا مُوجَبُ مُعَامَلَةِ الْعَبْدِ وهو الدَّيْنُ فَعَلَى الْعَبْدِ حَقًّا لِلْغُرَمَاءِ إلَّا أَنَّ الْقِيمَةَ التي في مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ فَإِنَّهَا تُعَلَّقُ بها وَبِالْإِعْتَاقِ ما أَبْطَلَ عليهم إلَّا ذلك الْقَدْرَ من حَقِّهِمْ فَيَضْمَنُهُ وَالزِّيَادَةُ بَقِيَتْ في ذِمَّةِ الْعَبْدِ فَيُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ
وَكَذَلِكَ إنْ كان قَتَلَ حُرًّا خَطَأً فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وهو عَالِمٌ بِهِ غَرِمَ الْمَوْلَى دِيَةَ الْحُرِّ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مع الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ وَدِيَةُ الْحُرِّ مُقَدَّرَةٌ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَيَغْرَمُهَا الْمَوْلَى
هذا إذَا أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وهو عَالِمٌ بِالْجِنَايَةِ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ يَغْرَمُ قِيمَةَ عَبْدِهِ لِأَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ لم يَكُنْ إعْتَاقُهُ دَلِيلَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ لِأَنَّ هذا النَّوْعَ من الِاخْتِيَارِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْعِلْمِ وَيَلْزَمُهُ قِيمَةُ عَبْدِهِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ على الْمَوْلَى هو دَفْعُ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو هَلَكَ الْعَبْدُ قبل اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ لَا شَيْءَ على الْمَوْلَى وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ من الْعَيْنِ إلَى الْفِدَاءِ بِاخْتِيَارِ الْفِدَاءِ فإذا لم يَكُنْ الْإِعْتَاقُ قبل الْعِلْمِ دَلِيلَ الِاخْتِيَارِ بَقِيَ الدَّفْعُ وَاجِبًا وَتَعَذَّرَ عليه دَفْعُ عَيْنِهِ فَيَلْزَمُهُ دَفْعُ مَالِيَّتِهِ إذْ هو دَفْعُ الْعَيْنِ من حَيْثُ الصُّورَةِ
وَلَوْ كان على الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِرَقَبَتِهِ وَجَنَى جِنَايَاتٍ تُحِيطُ بِقِيمَتِهِ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وهو لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فإنه يَغْرَمُ لِأَصْحَابِ الدَّيْنِ قيمة ( ( ( قيمته ) ) ) كَامِلَةً وَيَغْرَمُ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ قِيمَةً أُخْرَى إلَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ أو أَكْثَرَ فَيُنْقِصُ منها عَشَرَةً لِأَنَّ حَقَّ أَصْحَابِ الدَّيْنِ قد تَعَلَّقَ بِمَالِيَّةِ الْعَيْنِ وَحَقَّ أصح 4 اب الْجِنَايَةِ قد تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ وَالْمَوْلَى بِالْإِعْتَاقِ
____________________

(7/198)


أَبْطَلَ الْحَقَّيْنِ جميعا ( ( ( جمعا ) ) ) فَيَضْمَنُهَا
وَلَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ يَضْمَنُ قِيمَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ بِالْقَتْلِ ضَمَانُ إتْلَافِ النَّفْسِ وَالنَّفْسُ وَاحِدَةٌ فَلَا يَتَعَدَّدُ ضَمَانُهَا
فَأَمَّا الضَّمَانُ الْوَاجِبُ بِالْإِعْتَاقِ فَضَمَانُ إبْطَالِ الْحَقِّ فَيَتَعَدَّدُ ضَمَانُهُ فَهُوَ الحق ( ( ( الفرق ) ) ) وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يُشَارِكُ أَصْحَابُ الدَّيْنِ أَصْحَابَ الْجِنَايَةِ فَالْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ مَحَلِّ الْحَقَّيْنِ فَالدَّفْعُ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ وَالدَّيْنُ يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ الْعَيْنِ وَهُمَا مَحَلَّانِ مُخْتَلِفَانِ فَتَعَذَّرَتْ الْمُشَارَكَةُ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ إعْتَاقَ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ الْمَأْذُونَيْنِ في التِّجَارَةِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ أَعْتَقَهُمَا وَعَلَيْهِمَا دَيْنٌ فَلَا ضَمَانَ على الْمَوْلَى من الدَّيْنِ وَلَا من قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ دَيْنَ التِّجَارَةِ لم يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِمَا فَخُرُوجُهُمَا عن احْتِمَالِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُمَا بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَاءِ فلم يُوجَدْ منه إتْلَافُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ فَلَا يَضْمَنُ
وَهَلْ يَمْلِكُ إعْتَاقَ كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ على الْمَأْذُونِ دَيْنٌ أَصْلًا يَمْلِكُ وَيَنْفُذُ إعْتَاقُهُ وَلَا شَيْءَ عليه لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَ مَحَلًّا هو خَالِصُ مِلْكِهِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فيه فَيَنْفُذُ وَلَا يَضْمَنُ شيئا فإن كان عليه دَيْنٌ كثير يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ لَا يَمْلِكُ وَلَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه إلَّا أَنْ يَسْقُطَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِأَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى دَيْنَهُمْ أو تبرئة الْغُرَمَاءُ من الدَّيْنِ أو يَشْتَرِيَهُ الْمَوْلَى من الْغُرَمَاءِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَمْلِكُ وَيَنْفُذُ إعْتَاقُهُ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ إنْ كان مُوسِرًا وَإِنْ كان مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ فيه وَيَرْجِعُ على الْمَالِكِ
وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ بِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا لِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ
عِنْدَهُ لَا يُمْلَكُ وَعِنْدَهُمَا يُمْلَكُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ رَقَبَةَ الْمَأْذُونِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بها حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَهِيَ مِلْكُ الْمَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَلَكَ إعْتَاقَهُ وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ عِلَّةُ مِلْكِ الْكَسْبِ فَيَمْلِكُ الْكَسْبَ كما يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ شَرْطَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمَوْلَى في كَسْبِ الْعَبْدِ فَرَاغُهُ عن حَاجَةِ الْعَبْدِ ولم يُوجَدْ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ له فيه كما لَا يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ في التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْفَرَاغَ شَرْطٌ أَنَّ الْمِلْكَ لِلْمَوْلَى في كَسْبِ الْعَبْدِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عن الْأَصْلِ لأنه لم يَحْصُلْ بِكَسْبِهِ حَقِيقَةً وقال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَأَنْ ليس لِلْإِنْسَانِ إلَّا ما سَعَى } وَهَذَا ليس من سَعْيِهِ حَقِيقَةً فَلَا يَكُونُ له بِظَاهِرِ النَّصِّ إلَّا أَنَّ الْكَسْبَ الْفَارِغَ عن حَاجَةِ الْعَبْدِ خُصَّ عن عُمُومِ النَّصِّ وَجُعِلَ مِلْكًا لِلْمَوْلَى فَبَقِيَ الْكَسْبُ الْمَشْغُولُ بِحَاجَتِهِ على ظَاهِرِ النَّصِّ
هذا إذَا كان الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالرَّقَبَةِ وَالْكَسْبِ فَإِنْ لم يَكُنْ مُحِيطًا بِهِمَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْمُحِيطَ عِنْدَهُمَا لَا يَمْنَعُ فَغَيْرُ الْمُحِيطِ أَوْلَى
وَأَمَّا أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَقَدْ كان يقول أَوَّلًا يَمْنَعُ حتى لَا يَصِحَّ إعْتَاقُهُ شيئا من كَسْبِهِ ثُمَّ رَجَعَ وقال لَا يَمْنَعُ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَرَاغَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ له فَالشُّغْلُ وَإِنْ قَلَّ يَكُونُ مَانِعًا وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْمَانِعَ من مِلْكِ الْمَوْلَى كَوْنُ الْكَسْبِ مَشْغُولًا لِحَاجَةِ الْعَبْدِ وَبَعْضُهُ مَشْغُولٌ وَبَعْضُهُ فَارِغٌ
فَإِمَّا أَنْ يَعْتَبِرَ جَانِبَ الشُّغْلِ في الْمَنْعِ من ثُبُوتِ الْمِلْكِ له في كُلِّهِ وَإِمَّا أَنْ يَعْتَبِرَ جَانِبَ الْفَرَاغِ في إيجَابِ الْمِلْكِ له في كُلِّهِ وَاعْتِبَارُ جَانِبِ الْفَرَاغِ أَوْلَى لِأَنَّا إذَا اعْتَبَرْنَا جَانِبَ الْفَرَاغِ فَقَدْ رَاعَيْنَا حَقَّ الْمِلْكِ بِإِثْبَاتِ الْمِلْك له وَحَقَّ الْغُرَمَاءِ بِإِثْبَاتِ الْحَقِّ لهم فإذا اعْتَبَرْنَا جَانِبَ الشُّغْلِ فَقَدْ رَاعَيْنَا جَانِبَ الْغُرَمَاءِ وَأَبْطَلْنَا حَقَّ الْمَالِكِ أَصْلًا فَقَضَيْنَا حَقَّ الْمَالِكِ بِتَنْفِيذِ إعْتَاقِهِ وَقَضَيْنَا حَقَّ الْغُرَمَاءِ بِالضَّمَانِ صِيَانَةً لِلْحَقَّيْنِ عن الْإِبْطَالِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَلِهَذَا ثبت ( ( ( أثبت ) ) ) الْمِلْكُ لِلْوَارِثِ في كل التَّرِكَةِ إذَا لم يَكُنْ الدَّيْنُ مُحِيطًا بها كَذَا هذا
وَلَوْ أَعْتَقَهُ ثُمَّ قَضَى الْمَوْلَى دَيْنَ الْغُرَمَاءِ من خَالِصِ مِلْكِهِ أو أَبْرَأهُ الْغُرَمَاءُ نَفَذَ إعْتَاقُهُ عِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَنْفُذُ
وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَ كَسْبًا مَشْغُولًا بِحَاجَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ مَقْصُورًا على حَالِ الْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ فَيُمْنَعُ النَّفَاذُ كما إذَا أَعْتَقَ عبده مُكَاتَبِهِ ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ
كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ النَّفَاذَ كان مَوْقُوفًا على سُقُوطِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وقد سَقَطَ حَقُّهُمْ بِالْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ فَظَهَرَ النَّفَاذُ من حِينِ وُجُودِهِ من كل وَجْهٍ بِخِلَافِ ما إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا من أَكْسَابِ مُكَاتَبِهِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحَقُّ بِأَكْسَابِهِ من الْمَوْلَى لِأَنَّهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى أَكْسَابِهِ كَالْحُرِّ وَبِالْعَجْزِ لَا يُتَبَيَّنُ أَنَّهُ لم يَكُنْ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ فلم يَنْفُذْ إعْتَاقُ الْمَوْلَى وَعَلَى هذا الْخِلَافِ لو أَعْتَقَ الْوَارِثُ عَبْدًا من التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ ثُمَّ قَضَى الْوَارِثُ الدَّيْنَ من مَالِ نَفْسِهِ أو أَبْرَأَ الْغُرَمَاءُ الْمَيِّتَ من الدَّيْنِ أَنَّهُ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ خِلَافًا لِلْحَسَنِ
وَلَوْ وطىء الْمَوْلَى جَارِيَةَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ منه وَصَارَتْ
____________________

(7/199)


الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَغَرِمَ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ لِلْغُرَمَاءِ وَلَا يَغْرَمُ لهم شيئا من عُقْرِهَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا
أَمَّا صِحَّةُ الدَّعْوَةِ فَلِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى إنْ لم يَظْهَرْ في الْكَسْبِ في الْحَالِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَلَهُ فيه حَقُّ الْمِلْكِ فَصَحَّتْ دَعْوَتُهُ
وَأَمَّا لُزُومُ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِلْغُرَمَاءِ فَلِأَنَّهُ بِالدَّعْوَةِ أَبْطَلَ حَقَّهُمْ وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْعُقْرِ فَلِأَنَّ الْمَانِعَ من ظُهُورِ مِلْكِهِ في الْكَسْبِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وقد سَقَطَ حَقُّهُمْ بِالضَّمَانِ فَيَظْهَرُ الْمِلْكُ له فيه من حِينِ اكْتَسَبَهُ الْعَبْدُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وطىء مِلْكَ نَفْسِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ
وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى جَارِيَةَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ ثُمَّ وَطِئَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَالْوَلَدُ حُرٌّ وَيَضْمَنُ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ لِلْغُرَمَاءِ لِمَا قُلْنَا لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ السَّابِقَ منه لم يُحْكَمْ بِنَفَاذِهِ لِلْحَالِ فَكَانَ حَقُّ الْمِلْكِ ثَابِتًا له إلَّا أَنَّ الْجَارِيَةَ هَهُنَا تَصِيرُ حُرَّةً بِالْإِعْتَاقِ السَّابِقِ وَعَلَى الْمَوْلَى الْعُقْرُ لِلْجَارِيَةِ
أَمَّا صَيْرُورَتُهَا حُرَّةً بِالْإِعْتَاقِ السَّابِقِ فَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ السَّابِقَ كان نَفَاذُهُ مَوْقُوفًا على سُقُوطِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وقد سَقَطَ بِدَعْوَةِ الْمَوْلَى فَنَفَذَ فَصَارَتْ حُرَّةً بِذَلِكَ الْإِعْتَاقِ وأمالزوم الْعُقْرِ لِلْجَارِيَةِ فَلِأَنَّ الْوَطْءَ صَادَفَ الْحُرَّةَ من وَجْهٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَيَمْلِكُ الْمَوْلَى بَيْعَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ لِأَنَّهُ خَالِصُ مِلْكِهِ وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ إلَّا بِإِذْنِ الْغُرَمَاءِ أو بِإِذْنِ الْقَاضِي بِالْبَيْعِ لِلْغُرَمَاءِ أو بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَلَوْ أَذِنَ له بَعْضُ الْغُرَمَاءِ بِالْبَيْعِ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ إلَّا بِإِجَازَةِ الْبَاقِينَ لِمَا نَذْكُرُهُ في بَيَانِ حكم ( ( ( حق ) ) ) تَعَلُّقِ الدَّيْنِ وَيَمْلِكُ أَخْذَ كَسْبِ الْعَبْدِ من يَدِهِ إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ لِأَنَّهُ فَارِغٌ عن حَاجَتِهِ لأنه ( ( ( فكان ) ) ) خَالِصَ مِلْكِهِ
وَلَوْ لَحِقَهُ دَيْنٌ بَعْدَ ذلك فَالْمَأْخُوذُ سَالِمٌ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ شَرْطَ خُلُوصِ الْمِلْكِ له فيه كَوْنُهُ فَارِغًا عِنْدَ الْأَخْذِ وقد وُجِدَ
وَلَوْ كان الْكَسْبُ في يَدِ الْعَبْدِ وَلَا دَيْنَ عليه فلم يَأْخُذْ الْمَوْلَى حتى لَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ لَا يَمْلِكُ أَخْذَهُ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ الْفَرَاغُ عِنْدَ الْأَخْذِ فلم يُوجَدْ الشَّرْطُ وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ وفي يَدِهِ كَسْبٌ لَا يَمْلِكُ أَخْذَهُ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ وَلَوْ أَخَذَهُ الْمَوْلَى فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَأْخُذُوهُ منه إنْ كان قَائِمًا وَقِيمَتَهُ إنْ كان هَالِكًا لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِالْمَأْخُوذِ فَعَلَيْهِ رَدُّ عَيْنِهِ أو بَدَلِهِ وَلَوْ لَحِقَهُ دَيْنٌ آخَرُ بعد ما أَخَذَهُ الْمَوْلَى اشْتَرَكَ الْغُرَمَاءُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ في الْمَأْخُوذِ وَأَخَذُوا عَيْنَهُ أو قِيمَتَهُ لِأَنَّ زَمَانَ الْإِذْنِ مع تَعَدُّدِهِ حَقِيقَةٌ في حُكْمِ زَمَانٍ وَاحِدٍ كَزَمَانِ الْمَرَضِ فَكَانَ زَمَانُ تَعَلُّقِ الدُّيُونِ كُلِّهَا وَاحِدًا
لِذَلِكَ اشْتَرَكُوا فيه
وَلَوْ كان الْمَوْلَى يَأْخُذُ الْغَلَّةَ من الْعَبْدِ في كل شَهْرٍ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ فَهَلْ يَجُوزُ له قَبْضُ الْغَلَّةِ مع قِيَامِ الدَّيْنِ يُنْظَرُ إنْ كان يَأْخُذُ عليه مثله جَازَ له ذلك اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّ حَقَّهُمْ يَتَعَلَّقُ بِالْغَلَّةِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ نَظَرًا لِلْغُرَمَاءِ لِأَنَّ الْغَلَّةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالتِّجَارَةِ فَلَوْ مَنَعَ الْمَوْلَى عن أَخْذِ غَلَّةِ الْمِثْلِ لِحَجْرِهِ عن التِّجَارَةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ من الْكَسْبِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْغُرَمَاءُ فَكَانَ إطْلَاقُ هذا الْقَدْرِ وَسِيلَةً إلَى غَرَضِهِمْ فَكَانَ تَحْصِيلًا لِلْغَلَّةِ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَلَيْسَ له أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ من غَلَّةِ الْمِثْلِ وَلَوْ أَخَذَ رَدَّ الْفَضْلَ على الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ ظُهُورِ حَقِّهِمْ في غَلَّةِ الْمِثْلِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ في الزِّيَادَةِ فَيَظْهَرُ حَقُّهُمْ فيها مع ما أَنَّ في إطْلَاقِ ذلك إضْرَارًا بِالْغُرَمَاءِ لِأَنَّ الْمَوْلَى يُوَظَّفُ عليه غَلَّةٌ تَسْتَغْرِقُ كَسْبَ الشَّهْرِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْغُرَمَاءُ
وَعَلَى هذا إذَا كان على الْعَبْدِ دَيْنٌ وفي يَدِهِ مَالٌ فَاخْتَلَفَ الْعَبْدُ وَالْمَوْلَى فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ وَيَقْضِي منه الدَّيْنَ لِأَنَّ الْكَسْبَ في يَدِهِ وَالْمَأْذُونُ في اكسابه التي في يَدِهِ كَالْحُرِّ
وَلَوْ كان الْمَالُ في يَدِهِمَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا في الْيَدِ وَإِنْ كان ثَمَّةَ ثَالِثٌ فَهُوَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَاخْتَلَفَ الْعَبْدُ المولى ( ( ( والمولى ) ) ) وَأَجْنَبِيٌّ فَهُوَ بين الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَلَا عِبْرَةَ لِيَدِهِ فَكَانَتْ يَدُهُ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ فَبَقِيَتْ يَدُ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ فَكَانَ الْكَسْبُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ
وَهَذَا إذَا لم يَكُنْ الْعَبْدُ في مَنْزِلِ الْمَوْلَى
فَإِنْ كان في مَنْزِلِ الْمَوْلَى وفي يَدِهِ ثَوْبٌ فَاخْتَلَفَا فَإِنْ كان الثَّوْبُ من تِجَارَةِ الْعَبْدِ فَهُوَ له لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا في ظَاهِرِ الْيَدِ وَتُرَجَّحُ يَدُ الْعَبْدِ بِالتِّجَارَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ من تِجَارَتِهِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْمَوْلَى
وَلَوْ كان الْعَبْدُ رَاكِبًا على دَابَّةٍ أو لَابِسًا ثَوْبًا فَهُوَ لِلْعَبْدِ سَوَاءٌ كان من تِجَارَتِهِ أو لم يَكُنْ لِأَنَّهُ تُرَجَّحُ يَدُهُ بِالتَّصَرُّفِ فَكَانَتْ أَوْلَى من يَدِ الْمَوْلَى
وَلَوْ تَنَازَعَ الْمَأْذُونُ وَأَجْنَبِيٌّ فِيمَا في يَدِهِ من الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى السَّيِّدِ كَالْحُرِّ
وَلَوْ أجر الْحُرُّ أو الْمَأْذُونُ نَفْسَهُ من خَيَّاطٍ يَخِيطُ معه أو من تَاجِرٍ يَعْمَلُ معه وفي يَدِ الْأَجِيرِ ثَوْبٌ وَاخْتَلَفَا فقال الْمُسْتَأْجِرُ هو لي وقال الْأَجِيرُ هو لي فَإِنْ كان الْأَجِيرُ في حَانُوتِ التَّاجِرِ وَالْخَيَّاطِ فَهُوَ لِلتَّاجِرِ وَالْخَيَّاطِ
____________________

(7/200)


وَإِنْ لم يَكُنْ في مَنْزِلِهِ وكان في السِّكَّةِ فَهُوَ لِلْأَجِيرِ لِأَنَّ الْأَجِيرَ إذَا كان في دَارِ الْخَيَّاطِ وَدَارُ الْخَيَّاطِ في يَدِ الْخَيَّاطِ كان الْأَجِيرُ مع ما في يَدِهِ في يَدِ الْخَيَّاطِ ضَرُورَةً وإذا كان في السِّكَّةِ لم يَكُنْ هو في يَدِهِ فَكَذَا ما في يَدِهِ كما لو كان مَكَانَ الْأَجِيرِ أَجْنَبِيٌّ
وَلَوْ آجَرَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ الْمَحْجُورَ من رَجُلٍ وَمَعَهُ ثَوْبٌ فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى وَالْمُسْتَأْجِرُ فَهُوَ لِلْمُسْتَأْجِرِ سَوَاءٌ كان الْعَبْدُ في مَنْزِلِ الْمُسْتَأْجِرِ أو لم يَكُنْ بِخِلَافِ الْأَجِيرِ إذَا لم يَكُنْ في مَنْزِلِ الْمُسْتَأْجِرِ أَنَّهُ يَكُونُ لِلْأَجِيرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ يَدُ نِيَابَةٍ عن الْمَوْلَى وقد صَارَ مع ما في يَدِهِ بِالْإِجَارَةِ في يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِ الْيَدِ فَأَمَّا يَدُ الْأَجِيرِ فَيَدُ أَصَالَةٍ إذْ هو في حَقِّ الْيَدِ كَالْحُرِّ فَلَا يَصِيرُ بِنَفْسِ الْإِجَارَةِ في يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ
وَلَوْ كان الْمَحْجُورُ في مَنْزِلِ الْمَوْلَى فَهُوَ لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ إذَا كان في مَنْزِلِ الْمَوْلَى كان في يَدِهِ لِكَوْنِ مَنْزِلِهِ في يَدِهِ فَتَزُولُ يَدُ الْمُسْتَأْجِرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ الْغُرُورِ في الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إذَا جاء رَجُلٌ بِعَبْدٍ إلَى السُّوقِ وقال هذا عَبْدِي أَذِنْت له بِالتِّجَارَةِ فَبَايِعُوهُ فَبَايَعَهُ أَهْلُ السُّوقِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أو تُبُيِّنَ أَنَّهُ كان حُرًّا أو مُدَبَّرًا أو أُمَّ وَلَدٍ فَهَذَا لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ كان الرَّجُلُ حُرًّا وَإِمَّا أن كان عَبْدًا فَإِنْ كان حُرًّا فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ من قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ الدَّيْنِ أَمَّا وُجُوبُ أَصْلِ الضَّمَانِ عليه فَلِأَنَّهُ غَرَّهُمْ بِقَوْلِهِ هذا عَبْدِي فَبَايِعُوهُ حَيْثُ أَضَافَ الْعَبْدَ إلَى نَفْسِهِ وَأَمَرَهُمْ بِمُبَايَعَتِهِ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْغُرُورِ
وَهَذَا لِأَنَّ أَمْرَهُ إيَّاهُمْ بِالْمُبَايَعَةِ إخْبَارٌ منه عن كَوْنِهِ مَأْذُونًا في التِّجَارَةِ وَإِضَافَةُ الْعَبْدِ إلَى نَفْسِهِ إخْبَارٌ عن كَوْنِهِ مِلْكًا له وَالْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ مع عبد الْإِذْنِ يُوجِبُ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ فَكَانَ الْإِذْنُ مع الْإِضَافَةِ دَلِيلًا على الْكَفَالَةِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ التي هِيَ مَمْلُوكَةٌ له فَيُؤْخَذُ بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ إذْ ضَمَانُ الْغُرُورِ في الْحَقِيقَةِ ضَمَانُ الْكَفَالَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَأَمَّا وُجُوبُ الْأَقَلِّ من قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ الدَّيْنِ فَلِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْكَفَالَةِ هذا الْقَدْرُ وَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَرْجِعُوا على الذي وُلِّيَ مُبَايَعَتَهُمْ إنْ كان حُرًّا لِأَنَّهُ الذي بَاشَرَ سَبَبَ الْوُجُوبِ حَقِيقَةً وَإِنْ كان مُسْتَحَقًّا أو مُدَبَّرًا أو مُكَاتَبًا أو أُمَّ وَلَدٍ يَرْجِعُ عليهم بَعْدَ الْعَتَاقِ لِأَنَّ رِقَابَهُمْ لَا تَحْتَمِلُ الِاسْتِيفَاءَ قبل الْعَتَاقِ وَسَوَاءٌ قال أَذِنْت له بِالتِّجَارَةِ أو لم يَقُلْ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُبَايَعَةِ يُغْنِي عن التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ وَسَوَاءٌ أَمَرَ بِتِجَارَةٍ عَامَّةٍ أو خَاصَّةٍ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ لَغْوٌ عِنْدَنَا بِخِلَافِ ما إذَا قال ما بَايَعْتُ فُلَانًا من الْبَزِّ فَهُوَ على أَنَّهُ لَا يَصِيرُ كَفِيلًا بِغَيْرِهِ لِأَنَّ هُنَاكَ التَّخْصِيصَ صَحِيحٌ لِوُقُوعِ التَّصَرُّفِ في كَفَالَةٍ مَقْصُودَةٍ وَالْكَفَالَةُ الْمَقْصُودَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِلتَّخْصِيصِ فَأَمَّا هَهُنَا فَالْكَفَالَةُ له ما ثَبَتَتْ مَقْصُودَةً وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ وَالْأَمْرُ لَا يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ فَكَذَا الْكَفَالَةُ هذا إذَا أَضَافَ الْعَبْدَ إلى نَفْسَهُ وَأَمَرَهُمْ بِمُبَايَعَتِهِ فَأَمَّا إذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّ مَعْنَى الْكَفَالَةِ لَا يَثْبُتُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَلَا بُدَّ من وُجُودِهِمَا
وَلَوْ كان هذا الْعَبْدُ الدي ( ( ( الذي ) ) ) أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ وَأَمَرَ الناس بِمُبَايَعَتِهِ مِلْكًا لِلْآمِرِ فَدَبَّرَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ لَحِقَهُ دَيْنٌ بَعْدَ التَّدْبِيرِ لم يَضْمَنْ الْمَوْلَى شيئا لِأَنَّهُ لم يَغُرَّهُمْ حَيْثُ لم يَظْهَرْ الآمر بِخِلَافِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْغُرُورِ وَكَذَا لم يُتْلِفْ عليهم حَقَّهُمْ بِالتَّدْبِيرِ لِانْعِدَامِ الدَّيْنِ عِنْدَهُ وَكَذَا لو أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ بَايَعُوهُ لِمَا قُلْنَا
هذا إذَا كان الْآمِرُ حُرًّا فَأَمَّا إذَا كان عَبْدًا فَإِنْ كان مَحْجُورًا فَلَا ضَمَانَ عليه حتى يُعْتَقَ لِأَنَّ هذا ضَمَانُ كَفَالَةٍ وَكَفَالَةُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ لَا تَنْفُذُ لِلْحَالِّ
وَإِنْ كان مَأْذُونًا أو مُكَاتَبًا وكان الْمَأْذُونُ حُرًّا لَا ضَمَانَ على الْآمِرِ في شَيْءٍ
وَكَذَا لو كان الْآمِرُ صَبِيًّا مَأْذُونًا لِأَنَّ الْمَأْذُونَ وَالْمُكَاتَبَ لَا تَنْفُذُ كَفَالَتُهُمَا لِلْحَالِّ وَلَكِنَّهَا تَنْعَقِدُ فيؤاخذان ( ( ( فيؤاخذن ) ) ) بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَالصَّبِيُّ لَا تَنْعَقِدُ كَفَالَتُهُ فَلَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الدَّيْنِ الذي يَلْحَقُ الْمَأْذُونَ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ حُكْمُهُ تَعَلُّقُهُ بِمَحَلٍّ يستوفي منه إذَا ظَهَرَ فَلَا بُدَّ من بَيَانِ سَبَبِ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ وَبَيَانِ سَبَبِ ظُهُورِ الدَّيْنِ وَبَيَانِ حُكْمِ التَّعَلُّقِ
أَمَّا بَيَانُ سَبَبِ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ فَلِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ أَسْبَابٌ منها التِّجَارَةُ من الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارِ وَالِاسْتِدَانَةِ
وَمِنْهَا ما هو في مَعْنَى التِّجَارَةِ كَالْغَصْبِ وَجُحُودِ الْأَمَانَاتِ من الْوَدَائِعِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ الْغَصْبَ وَجُحُودَ الْأَمَانَةِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْمِلْكِ في الْمَغْصُوبِ وَالْمَجْحُودِ فَكَانَ في مَعْنَى التِّجَارَةِ وَكَذَا الِاسْتِهْلَاكُ مَأْذُونًا كان أو مَحْجُورًا بِأَنْ عَقَرَ دَابَّةً أو خَرَقَ ثَوْبًا خَرْقًا فَاحِشًا
____________________

(7/201)


لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ في الْعَيْنِ قبل الْهَلَاكِ فَكَانَ في مَعْنَى التِّجَارَةِ وَكَذَلِكَ عُقْرُ الْجَارِيَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِأَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ وَإِنْ كان قِيمَةَ مَنَافِعِ الْبُضْعِ لَكِنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ فَتُلْحَقُ بِالْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ فَكَانَ في حُكْمِ ضَمَانِ التِّجَارَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَمِنْهَا النِّكَاحُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ لم يُشْرَعْ بِدُونِ الْمَهْرِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ سَبَبِ ظُهُورِ الدَّيْنِ فَسَبَبُ ظُهُورِهِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ وَبِكُلِّ ما هو سَبَبٌ لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمَحَلٍّ يُسْتَوْفَى منه وهو ما ذَكَرْنَا لِأَنَّ إظْهَارَ ذلك بِالْإِقْرَارِ من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ على ما بَيَّنَّا فَيَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ
وَالثَّانِي قِيَامُ الْبَيِّنَةِ على ذلك عِنْدَ الْإِنْكَارِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُظْهِرَةٌ لِلْحَقِّ وَلَا يُنْتَظَرُ حُضُورُ الْمَوْلَى بَلْ يقضي عليه
وَلَوْ كان مَحْجُورًا فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عليه بِالْغَصْبِ لم يُقْضَ عليه حتى يَحْضُرَ الْمَوْلَى
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الشَّهَادَةَ في الْمَأْذُونِ قَامَتْ عليه لَا على الْمَوْلَى لِأَنَّ يَدَ التَّصَرُّفِ له لَا لِلْمَوْلَى فَيَمْلِكُ الْخُصُومَةَ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ قَائِمَةً عليه لَا على الْمَوْلَى فَلَا مَعْنَى لِشَرْطِ حُضُورِ الْمَوْلَى بِخِلَافِ الْمَحْجُورِ لِأَنَّهُ لَا يَدَ له فَلَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ قَائِمَةً على الْمَوْلَى فَشُرِطَ حُضُورُهُ لِئَلَّا يَكُونَ قَضَاءً على الْغَائِبِ
وَلَوْ ادَّعَى على الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ وَدِيعَةً مُسْتَهْلَكَةً أو بِضَاعَةً أو شيئا كان أَصْلُهُ أَمَانَةً لَا يُقْضَى بها لِلْحَالِّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْضَى بها لِلْحَالِّ بِنَاءً على أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ وَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ لِلْحَالِّ عِنْدَهُمَا وَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ فَيَتَوَقَّفُ الْقَضَاءُ بِالضَّمَانِ إلَيْهِ وَعِنْدَهُ يؤخذ ( ( ( يؤاخذ ) ) ) بِهِ لِلْحَالِّ فَلَا يَتَوَقَّفُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ لو أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ على إقْرَارِ الْمَأْذُونِ بِذَلِكَ قُضِيَ عليه وَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى
وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على إقْرَارِ الْمَحْجُورِ بِالْغَصْبِ لم يُقْضَ عليه وَإِنْ كان الْمَوْلَى حَاضِرًا لِأَنَّ الْمَحْجُورَ لو أَقَرَّ بِذَلِكَ لَمَا نَفَذَ على مَوْلَاهُ لِلْحَالِّ
كَذَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على إقْرَارِهِ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ
وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ أو الْمَحْجُورِ على سَبَبِ قِصَاصٍ أو حَدٍّ من الْقَتْلِ وَالْقَذْفِ وَالزِّنَا وَالشُّرْبِ لم يُقْضَ بها حتى يَحْضُرَ الْمَوْلَى عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُقْضَى بها وَإِنْ كان غَائِبًا وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لو أَقَرَّ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّهَا تُقَامُ من غَيْرِ حَضْرَةِ الْمَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْعَبْدَ أَجْنَبِيٌّ عن الْمَوْلَى فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهِمَا من غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى من غَيْرِ تَصْدِيقِهِ فَكَانَتْ هذه شَهَادَةً قَائِمَةً عليه لَا على الْمَوْلَى فَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُهُ وَلِهَذَا لم يُشْتَرَطْ حَضْرَةُ الْمَوْلَى في الْإِقْرَارِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَبْدَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مَالُ الْمَوْلَى وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ إتْلَافُ مَالِهِ عليه فَيُصَانُ حَقُّهُ عن الْإِتْلَافِ ما أَمْكَنَ وفي شَرْطِ الْحُضُورِ صِيَانَةُ حَقِّهِ عن الْإِتْلَافِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ لِأَنَّهُ لو كان حَاضِرًا عَسَى يَدَّعِي شُبْهَةً مَانِعَةً من الْإِقَامَةِ وَحَقُّ الْمُسْلِمِ تَجِبُ صِيَانَتُهُ عن الْبُطْلَانِ ما أَمْكَنَ
وَمِثْلُ هذه الشُّبْهَةِ مِمَّا لَا يتعد ( ( ( يعد ) ) ) في الْإِقْرَارِ بَعْدَ صِحَّتِهِ لِذَلِكَ افْتَرَقَا
وَكَذَلِكَ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على عَبْدٍ أَنَّهُ سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وهو يَجْحَدُ ذلك أَنَّهُ لو كان الْمَوْلَى حَاضِرًا تقطع ( ( ( يقطع ) ) ) وَلَا يَضْمَنُ السَّرِقَةَ مَأْذُونًا كان أو مَحْجُورًا بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الْقَطْعَ مع الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَإِنْ كان غَائِبًا فإذا كان الْعَبْدُ مَأْذُونًا يَضْمَنُ السَّرِقَةَ وَلَا يُقْطَعُ لِأَنَّ غَيْبَةَ الْمَوْلَى لَا تَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِالضَّمَانِ في حَقِّ الْمَأْذُونِ وَمَتَى وَجَبَ الضَّمَانُ امْتَنَعَ الْقَطْعُ لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ
وَعَلَى قِيَاسِ أبي يُوسُفَ هذا وَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ سَوَاءٌ يُقْطَعُ وَلَا يَضْمَنُ السَّرِقَةَ وَلِأَنَّ حَضْرَةَ الْمَوْلَى عِنْدَهُ ليس بِشَرْطٍ لِلْقَضَاءِ بِالْقَطْعِ وَالْقَطْعُ يَمْنَعُ الضَّمَانَ
وَإِنْ كان مَحْجُورًا لَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ على السَّرِقَةِ فَلَا يُقْضَى عليه بِقَطْعٍ وَلَا ضَمَانٍ عِنْدَهُمَا
أَمَّا الْقَطْعُ فَلِأَنَّ حَضْرَةَ الْمَوْلَى شَرْطٌ ولم يُوجَدْ وَأَمَّا الضَّمَانُ فَلِأَنَّ غَيْبَةَ الْمَوْلَى تَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِالضَّمَانِ في حَقِّ الْمَحْجُورِ وَعِنْدَهُ يُقْطَعُ وَلَا يُضْمَنُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على سَرِقَةِ ما دُونَ النِّصَابِ فَإِنْ كان مَأْذُونًا قُبِلَتْ وَلَزِمَهُ الضَّمَانُ دُونَ الْقَطْعِ سَوَاءٌ حَضَرَ الْمَوْلَى أو غَابَ لِأَنَّ سَرِقَةَ ما دُونَ النِّصَابِ لَا تُوجِبُ الْقَطْعَ فَبَقِيَ دَعْوَى السَّرِقَةِ وَدَعْوَى الضَّمَانِ على الْمَأْذُونِ وَحَضْرَةُ الْمَوْلَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ على الْمَأْذُونِ وَإِنْ كان مَحْجُورًا لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ أَصْلًا
أَمَّا على الْقَطْعِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا على الْمَالِ فَلِأَنَّ حُضُورَ الْمَوْلَى شَرْطُ الْقَضَاءِ على
____________________

(7/202)


الْمَحْجُورِ بِالْمَالِ
وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على إقراره ( ( ( إقرار ) ) ) الْمَأْذُونِ أو الْمَحْجُورِ بِسَبَبِ الْقِصَاصِ أو الْحَدِّ لَزِمَهُ الْقَوَدُ وَحُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَضَرَ الْمَوْلَى أو غَابَ وَلَا يَلْزَمُهُ ما سِوَاهُمَا من الْحُدُودِ وَإِنْ كان الْمَوْلَى حَاضِرًا لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْعَبْدِ
وَكَذَا حَدُّ الْقَذْفِ فيه حَقُّ الْعَبْدِ وَسَائِرُ الْحُدُودِ حُقُوقُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِصًا فَالْبَيِّنَةُ وَإِنْ أَظْهَرَتْ الْإِقْرَارَ فَالْإِنْكَارُ منه رُجُوعٌ عن الْإِقْرَارِ وَالرُّجُوعُ عن الْإِقْرَارِ يَصِحُّ في حُقُوقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا في حُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ وَيَسْقُطُ ما سِوَاهُمَا غير أَنَّهُ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على إقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ إنْ كان مَأْذُونًا سَوَاءٌ بَلَغَ نِصَابًا أو لم يَبْلُغْ حَضَرَ الْمَوْلَى أو غَابَ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَطْعِ لِلرُّجُوعِ وَالرُّجُوعُ في حَقِّ الْمَالِ لم يَصِحَّ فَيَجِبُ الضَّمَانُ سَوَاءٌ كان الْمَوْلَى
وَلَوْ كان مَحْجُورًا لَا قَطْعَ عليه وَلَا ضَمَانَ
أَمَّا الْقَطْعُ فَلِمَكَانِ الرُّجُوعِ وَأَمَّا الضَّمَانُ فَلِأَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ بِالْمَالِ غَيْرُ نَافِذٍ في الْحَالِّ فَلَا تَصِحُّ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عليه
وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ أو الْمَعْتُوهِ الْمَأْذُونِ على قَتْلٍ أو سَبَبِ حَدٍّ قُبِلَتْ على الْقَتْلِ وَتَجِبُ الدِّيَةُ على الْعَاقِلَةِ وَلَا تُقْبَلُ على الْحَدِّ لِتَصَوُّرِ سَبَبِ وُجُوبِ الدِّيَةِ منه وهو الْقَتْلُ الْخَطَأُ لِأَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ خَطَأٌ وَانْعِدَامُ تَصَوُّرِ سَبَبِ وُجُوبِ الْحَدِّ منه من الزِّنَا وَغَيْرِهِ غير أَنَّهُ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عليه على السَّرِقَةِ قُبِلَتْ على الْمَالِ وَضَمَّنَهُ الْقَاضِي لِأَنَّ الصَّبِيَّ الْمَأْذُونَ من أَهْلِ الْقَضَاءِ عليه بِالْمَالِ
وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على إقراه ( ( ( إقراره ) ) ) بِالْقَتْلِ لم تُقْبَلْ لِأَنَّ إقْرَارَ الصَّبِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ فَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عليه
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ التَّعَلُّقِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ لَا خِلَافَ في أَنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ عَيَّنَهُ لِلِاسْتِيفَاءِ أو تَعَيَّنَ شَرْعًا نَظَرًا لِلْغُرَمَاءِ سَوَاءٌ كان كَسْبَ التِّجَارَةِ أو غَيْرَهُ من الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَهَذَا قَوْلُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِكَسْبِ التِّجَارَةِ وَتَكُونُ الْهِبَةُ وَغَيْرُهَا لِلْمَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ التَّعَلُّقَ حُكْمُ الْإِذْنِ وَالْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ لَا لِغَيْرِهَا وَهَذِهِ لَيْسَتْ من كَسْبِ التِّجَارَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بها الدَّيْنُ
وَلَنَا إن شَرْطَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمَوْلَى في كَسْبِ الْعَبْدِ أَيَّ كَسْبٍ كان فَرَاغُهُ عن حَاجَةِ الْعَبْدِ لِلْفِقْهِ الذي ذَكَرْنَا من قَبْلُ ولم يُوجَدْ الْفَرَاغُ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ له وَسَوَاءٌ حَصَلَ الْكَسْبُ بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ أو كان حَاصِلًا قَبْلَهُ إلَّا الْوَلَدَ وَالْأَرْشَ فإن ما وَلَدَتْ الْمَأْذُونَةُ من غَيْرِ مَوْلَاهَا بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ يَتَعَلَّقُ بِهِ وما وَلَدَتْهُ قبل ذلك لَا يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِهِ وَيَكُونُ المولى ( ( ( للمولى ) ) ) وَكَذَلِكَ الْأَرْشُ بِأَنْ فُقِئَتْ عَيْنُهَا فَوَجَبَ الْأَرْشُ على الفاقىء ( ( ( الفاقئ ) ) )
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ التَّعَلُّقَ بِالْوَلَدِ بِحُكْمِ السِّرَايَةِ من الْأُمِّ إلَيْهِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَحْدُثُ على وَصْفِ الْأُمِّ وَمَعْنَى السِّرَايَةِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ في الْحَادِثِ بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ لَا قَبْلَهُ لِأَنَّهُ كان وَلَا دَيْنَ على الْأُمِّ فلما حَدَثَ حَدَثَ على مِلْكِ الْمَوْلَى
وَكَذَلِكَ الْأَرْشُ في حُكْمِ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مُنْفَصِلٌ من الْأَصْلِ وَالْأَرْشُ بَدَلُ جُزْءٍ مُنْفَصِلٍ من الْأَصْلِ وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ
وَأَمَّا تَعَلُّقُهُ بِغَيْرِهِمَا فَلَيْسَ بِحُكْمِ السِّرَايَةِ بَلْ الشُّغْلُ بِحَاجَةِ الْعَبْدِ فإذا لم يَنْزِعْهُ الْمَوْلَى من يَدِهِ حتى لَحِقَهُ دَيْنٌ مُحِيطٌ فَقَدْ صَارَ مَشْغُولًا بِحَاجَتِهِ فَلَا يَظْهَرُ مِلْكُ الْمَوْلَى فيه فَهُوَ الْفَرْقُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَهَهُنَا فَرْقٌ آخَرُ وهو أَنَّ الْوَلَدَ الْمَوْلُودَ بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ يَدْخُلُ في الدَّيْنِ وَوَلَدُ الْجِنَايَةِ لَا يَدْخُلُ في الْجِنَايَةِ لِأَنَّ دُخُولَهُ في الدَّيْنِ بِحُكْمِ السِّرَايَةِ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْأُمِّ فَسَرَى ذلك إلَى الْوَلَدِ فَحَدَثَ على وَصْفِ الْأُمِّ وَالْجِنَايَةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّعَلُّقَ بِالرَّقَبَةِ فَلَا تَحْتَمِلُ السِّرَايَةَ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَلَوْ أَذِنَ له الْمَوْلَى دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا لِيَعْمَلَ بِهِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى وَلَحِقَهُ دَيْنٌ لَا يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِالْمَالِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِ الْعَبْدِ وَذَا ليس كَسْبَهُ أَصْلًا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ
وَأَمَّا رَقَبَةُ الْعَبْدِ فَهَلْ يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بها اُخْتُلِفَ فيه قال عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ يَتَعَلَّقُ وقال زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَتَعَلَّقُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذا إنْ كان دَيْنَ الْعَبْدِ فَالرَّقَبَةُ مِلْكُ الْمَوْلَى وَدَيْنُ الْإِنْسَانِ لَا يقضي من مَالٍ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ ولم يُوجَدْ وَإِنْ كان دَيْنَ الْمَوْلَى فَلَا يَتَعَيَّنُ له مَالٌ دُونَ مَالٍ كَسَائِرِ دُيُونِ الْمَوْلَى وَإِنَّمَا يُقْضَى من الْكَسْبِ لِوُجُودِ التَّعْيِينِ فَالْإِذْنُ من الْمَوْلَى دَلَالَةُ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ لِأَنَّهُ قَضَاءُ دَيْنِ التِّجَارَةِ من كَسْبِ التِّجَارَةِ فَكَانَ مَأْذُونًا فيه دَلَالَةً وَمِثْلُ هذه الدَّلَالَةِ لم يُوجَدْ في الرَّقَبَةِ لِأَنَّ رَقَبَةَ الْعَبْدِ ليس ( ( ( ليست ) ) ) من كَسْبِ التِّجَارَةِ
وَلَنَا أَنْ نَقُولَ هذا دَيْنُ الْعَبْدِ لَكِنْ ظَهَرَ وُجُوبُهُ عِنْدَ
____________________

(7/203)


الْمَوْلَى وَدَيْنُ الْعَبْدِ إذَا ظَهَرَ وُجُوبُهُ عِنْدَ الْمَوْلَى يقضي من رَقَبَتِهِ التي هِيَ مَالُ الْمَوْلَى كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ
أو نَقُولُ هذا دَيْنُ الملولى ( ( ( المولى ) ) ) فَيُقْضَى من الْمَالِ الذي عَيَّنَهُ الْمَوْلَى لِلْقَضَاءِ منه كَالرَّهْنِ وَالْمَوْلَى بِالْإِذْنِ عَيَّنَ الرَّقَبَةَ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ منها فَيَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِ الْمَوْلَى
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وإذا كان الرَّقَبَةُ وَالْكَسْبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحَلًّا لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِهِ فإذا اجْتَمَعَ الْكَسْبُ وَالرَّقَبَةُ يُبْدَأُ بِالِاسْتِيفَاءِ من الْكَسْبِ لِأَنَّ الْكَسْبَ مَحَلٌّ لِلتَّعَلُّقِ قَطْعًا وَمَحَلِّيَّةُ الرَّقَبَةِ لِتَعَلُّقِ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَكَانَتْ الْبَدَلِيَّةُ بِالْكَسْبِ أَوْلَى فإذا قُضِيَ الدَّيْنُ منه فَإِنْ فَضَلَ من الْكَسْبِ شَيْءٌ فَهُوَ لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ كَسْبٌ فَارِغٌ عن حَاجَةِ الْعَبْدِ وَإِنْ فَضَلَ الدَّيْنُ يُسْتَوْفَى من الرَّقَبَةِ عِنْدَنَا فَإِنْ فَضَلَ على الثَّمَنِ يُتْبَعْ الْعَبْدُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ على ما نَذْكُرُهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ التَّعَلُّقِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إنَّ لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ أَحْكَامًا
ومنها وِلَايَةُ طَلَبِ الْبَيْعِ لِلْغُرَمَاءِ من الْقَاضِي لِأَنَّ مَعْنَى تَعَلُّقِ الدَّيْنِ منه ليس إلَّا تَعَيُّنُهُ لِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ منه وهو في الْحَقِيقَةِ تَعَيُّنُ مَالِيَّتِهِ لِلِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ من جِنْسِهِ يَكُونُ وَذَلِكَ مَالِيَّتُهُ لَا عَيْنُهُ وَذَلِكَ بَيْعُهُ وَأَخْذُ ثَمَنِهِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى دُيُونَهُمْ فَتَخْلُصُ له الرَّقَبَةُ لِأَنَّ حَقَّهُمْ في الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ وقد قَضَى حَقَّهُمْ فَبَطَلَ التَّعَلُّقُ
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا بِيعَ الْعَبْدُ كان ثَمَنُهُ بين الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الرَّقَبَةِ فَيَكُونُ لهم على قَدْرِ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِالْمُبْدَلِ وهو الرَّقَبَةُ وكان ذلك بِالْحِصَصِ فَكَذَا الثَّمَنُ كَثَمَنِ التَّرِكَةِ إذَا بِيعَتْ
ثُمَّ إذَا بِيعَ الْعَبْدُ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ من ثَمَنِهِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى وَإِنْ فَضَلَ الدَّيْنُ لَا يُطَالَبُ الْمَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ على الْمَوْلَى وَيَتْبَعُ الْعَبْدَ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ لِأَنَّ الدَّيْنَ كان عليه إلَّا أَنَّ الْقَدْرَ الذي تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ صَارَ مَقْضِيًّا فَبَقِيَ الْفَاضِلُ عليع وَإِنَّمَا يُبَاعُ الْعَبْدُ في الدَّيْنِ إذَا كان حَالًّا فَإِنْ كان مُؤَجَّلًا لَا يُبَاعُ إلَى حِلِّ الْأَجَلِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَتْبَعُ التَّعَلُّقَ وَالتَّعَلُّقَ يَتْبَعُ الْوُجُوبَ وَالْوُجُوبَ على التَّضْيِيقِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ حَلّ الْأَجَلِ فَكَذَا التَّعَلُّقُ
وَلَوْ كان بَعْضُهُ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا فَطَلَبَ أَصْحَابُ الْحَالِّ الْبَيْعَ بَاعَهُ الْقَاضِي وَأَعْطَى أَصْحَابَ الْحَالِّ قَدْرَ حِصَّتِهِمْ وَأَمْسَكَ حِصَّةَ أَصْحَابِ الْأَجَلِ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ على التَّضْيِيقِ ثَبَتَ في حَقِّ أَصْحَابِ الْحَالِّ لَا في حَقِّ أَصْحَابِ الْأَجَلِ
وَكَذَلِكَ لو كان الْغُرَمَاءُ بَعْضُهُمْ حُضُورًا وَبَعْضُهُمْ غُيَّبًا فَطَلَبَ الْحُضُورُ الْبَيْعَ من الْقَاضِي بَاعَهُ الْقَاضِي وَأَعْطَى الْحُضُورَ حِصَّتَهُمْ وَوَقَفَ حِصَّةَ الْغُيَّبِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم على الِانْفِرَادِ دَيْنًا مُتَعَلِّقًا بِالرَّقَبَةِ وَذَا يُوجِبُ التحريج ( ( ( التحويج ) ) ) إلَى الْبَيْعِ فَغَيْبَةُ الْبَعْضِ لَا تَكُونُ مَانِعَةً
وَكَذَلِكَ إذَا كان بَعْضُ الدُّيُونِ ظَاهِرًا وَالْبَعْضُ لَا يَظْهَرُ لَكِنْ ظَهَرَ سَبَبُ وُجُوبِهِ بِأَنْ كان عليه دَيْنٌ فَحَفَرَ بِئْرًا على طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَطَلَبَ الْغَرِيمُ الْبَيْعَ بَاعَهُ الْقَاضِي في دَيْنِهِ وَأَعْطَاهُ دَيْنَهُ وَإِنْ كان لَا يُفْضِلُ الثَّمَنُ عن دَيْنِهِ شيئا لِأَنَّ ظُهُورَ دَيْنِهِ أَوْجَبَ التَّعَلُّقَ بِرَقَبَتِهِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ بِمَا لم يَظْهَرْ ثُمَّ إذَا وَقَعَتْ فيها بَهِيمَةٌ فَعَطِبَتْ رَجَعَ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ على الْغَرِيمِ فَيَتَضَارَبَانِ فَيَضْرِبُ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ بِقِيمَتِهَا وَيَضْرِبُ الْغَرِيمُ بِدَيْنِهِ فَيَكُونُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا بِالْحِصَصِ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُسْتَنِدٌ إلَى وَقْتِ وُجُودِ سَبَبِهِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كان شَرِيكَهُ في الرَّقَبَةِ في تَعَلُّقِ الدَّيْنِ فَيَتَشَارَكَانِ في بَدَلِهَا بِالْحِصَصِ
وَلَوْ كان عليه دَيْنٌ فَأَقَرَّ قبل أَنْ يُبَاعَ لِغَائِبٍ يُصَدَّقُ في ذلك صَدَّقَهُ الْمَوْلَى وَالْغُرَمَاءُ أو كَذَّبُوهُ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ صَحِيحٌ من غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا وإذا بِيعَ وَقَفَ الْقَاضِي من ثَمَنِهِ حِصَّةَ الْغَائِبِ
وَلَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِغَائِبٍ بعدما بِيعَ في الدَّيْنِ لم يَجُزْ إقْرَارُهُ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ إذَا بِيعَ فَقَدْ صَارَ مَحْجُورًا عليه وَإِقْرَارُ الْمَحْجُورِ بِالدَّيْنِ لَا يَصِحُّ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى فَإِنْ قَدِمَ الْغَائِبُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً على الدَّيْنِ اتبع الْغُرَمَاءَ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ لِأَنَّهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ظَهَرَ أنه كان شَرِيكَهُمْ في الرَّقَبَةِ في تَعَلُّقِ الدَّيْنِ فَشَارَكَهُمْ في بَدَلِهَا وَلَا سَبِيلَ له على الْعَبْدِ وَلَا على الْمُشْتَرِي لِأَنَّ حَقَّهُ في الدَّيْنِ وَمَحَلُّ تَعَلُّقِهِ الرَّقَبَةُ لَا غَيْرُ فَلَا سَبِيلَ له على غَيْرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَوْلَى بَيْعُ الْعَبْدِ الذي عليه دَيْنٌ إلَّا بِإِذْنِ الْغُرَمَاءِ أو بِقَضَاءِ الدَّيْنِ أو بِإِذْنِ الْقَاضِي بِالْبَيْعِ لِلْغُرَمَاءِ وَلَوْ بَاعَ لَا يَنْفُذُ إلَّا إذَا وَصَلَ إلَيْهِمْ الثَّمَنُ وَفِيهِ وَفَاءٌ بِدُيُونِهِمْ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِرَقَبَتِهِ وفي الْبَيْعِ إبْطَالُ هذا الْحَقِّ عليهم فَلَا يَنْفُذُ من غَيْرِ رِضَاهُمْ كَبَيْعِ الْمَرْهُونِ إلَّا أَنْ يَصِلَ ثَمَنُهُ إلَيْهِمْ وَفِيهِ وَفَاءٌ بِدُيُونِهِمْ فَيَنْفُذُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّهُمْ في مَعْنَى الرَّقَبَةِ لَا في صُورَتِهَا فَصَارَ كما لو قَضَى الْمَوْلَى الدَّيْنَ من خَالِصِ مَالِهِ
وَدَلَّ إطْلَاقُ هذه الرِّوَايَةِ على أَنَّ الدَّيْنَ حَالَ قِيَامِ الْكَسْبِ يَتَعَلَّقُ بِالْكَسْبِ وَالرَّقَبَةِ جميعا لِأَنَّهُ بَقِيَ جَوَازُ بَيْعِ الْمَوْلَى مُطْلَقًا عن شَرْطِ عَدَمِ الْكَسْبِ وَلَوْ كان قِيَامُ الْكَسْبِ مَانِعًا من التَّعَلُّقِ بِالرَّقَبَةِ
____________________

(7/204)


لَجَازَ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ إذْ ذَاكَ تَكُونُ خَالِصَ مِلْكِ الْمَوْلَى وَتَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ في خَالِصِ مِلْكِهِ نَافِذٌ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ على حَالِ عَدَمِ الْكَسْبِ حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ واللهأعلم ( ( ( والله ) ) )
وَلَوْ أَذِنَ له بَعْضُ الْغُرَمَاءِ بِالْبَيْعِ لم يَجُزْ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْبَاقُونَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ كل وَاحِدٍ بِالرَّقَبَةِ فَكَانَ الْبَيْعُ تَصَرُّفًا في حَقِّ الْكُلِّ فَلَا يَنْفُذُ من غَيْرِ إجَازَتِهِمْ
ثُمَّ فَرْقٌ بين بَيْعِ الْمَوْلَى وَبَيْنَ بَيْعِ الْوَصِيِّ التَّرِكَةَ في الدَّيْنِ من غَيْرِ إذْنِ الْغُرَمَاءِ أَنَّهُ يَنْفُذُ هُنَاكَ وَهُنَا لَا يَنْفُذُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ لِلْغُرَمَاءِ حَقَّ اسْتِسْعَاءِ الْمَأْذُونِ وَهَذَا الْحَقُّ يَبْطُلُ بِالْبَيْعِ فَكَانَ امْتِنَاعُ النَّفَاذِ مُفِيدًا وَلَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ وِلَايَةُ اسْتِسْعَاءِ التَّرِكَةِ لِمَا فيه من تَأْخِيرِ قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ فَكَانَ عَدَمُ النَّفَاذِ لِلْوُصُولِ إلَى الثَّمَنِ خَاصَّةً وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِبَيْعِ الْوَصِيِّ فلم يَكُنْ التَّوَقُّفُ مُفِيدًا فَلَا يَتَوَقَّفُ
هذا إذَا كان الدَّيْنُ حَالًّا فَإِنْ كان مُؤَجَّلًا نَفَذَ الْبَيْعُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْمَانِعَ من النَّفَاذِ هو التعليق ( ( ( التعلق ) ) ) عن التَّضْيِيقِ ولم يُوجَدْ ثُمَّ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ فَإِنْ كانت دُيُونُهُمْ مِثْلَ الثَّمَنِ أو أَقَلَّ أَخَذُوا منه وَإِنْ كانت دُيُونُهُمْ أَكْثَرَ من الثَّمَنِ ضَمَّنُوا الْمَوْلَى إلَى تَمَامِ قِيمَةِ الْعَبْدِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ بَيْعُ الْمَوْلَى لِوُجُودِ أَصْلِ التَّعْلِيقِ
هذا إذَا كان الْعَبْدُ قَائِمًا في يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كان هَالِكًا فَالْغُرَمَاءُ بِالْخِيَارِ إنْ شاؤوا ضَمَّنُوا الْمَوْلَى وَإِنْ شاؤوا ضَمَّنُوا الْمُشْتَرِيَ قِيمَةَ الْعَبْدِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَاصِبٌ لِحَقِّهِمْ فَكَانَ لهم تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شاؤوا فَإِنْ اخْتَارُوا تَضْمِينَ الْمَوْلَى نَفَذَ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ خَلَصَ مِلْكُهُ فيه عِنْدَ الْبَيْعِ بِاخْتِيَارِ الضَّمَانِ فَكَأَنَّهُمْ بَاعُوهُ منه بِثَمَنٍ هو قَدْرُ قِيمَتِهِ وَاشْتَرَاهُ منهم بِهِ حتى لو وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا بَعْدَ هَلَاكِهِ له أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ على الْمَوْلَى وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ بِهِ على الْغُرَمَاءِ وَإِنْ اخْتَارُوا تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي بَطَلَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَمْلِيكُهُ منه بِالضَّمَانِ فَبَطَلَ وَاسْتَرَدَّ الثَّمَنَ
وَلَوْ لم يَهْلِكْ الْعَبْدُ في يَدِ الْمُشْتَرِي وَلَكِنْ غَابَ الْمَوْلَى فَإِنْ وَجَدُوهُ ضَمَّنُوهُ الْقِيمَةَ وَإِنْ لم يَجِدُوهُ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هذا وما إذَا كان الْمَوْلَى حَاضِرًا سَوَاءٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِالرَّقَبَةِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فَأَمَّا حُكْمُ تَعَلُّقِهِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ بِأَنْ اجْتَمَعَ الدَّيْنُ وَالْجِنَايَةُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إذَا اجْتَمَعَ الدَّيْنُ وَالْجِنَايَةُ بِأَنْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ رَجُلًا خَطَأً وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَبْطُلُ الدَّيْنُ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّ حُكْمَ الْجِنَايَةِ في الْأَصْلِ وُجُوبُ الدَّفْعِ وَلَهُ سَبِيلُ الْخُرُوجِ عنه بِالْفِدَاءِ أو التَّخْيِيرِ بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَهَذَا لَا يُنَافِي الدَّيْنَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ مُتَعَلِّقًا رَقَبَتُهُ بِالدَّيْنِ
وَكَذَا لَا يُنَافِيهِ الْفِدَاءُ لَا شَكَّ فيه
فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ فَهَذَا لَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ حَضَرَ أَصْحَابُ الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ مَعًا وَإِمَّا أن حَضَرَ أَصْحَابُ الْجِنَايَةِ وَإِمَّا أن حَضَرَ أَصْحَابُ الدِّينِ
فَإِنْ حَضَرَ أَصْحَابُ الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ جميعا يُدْفَعُ الْعَبْدُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ ثُمَّ يَبِيعُهُ الْقَاضِي لِلْغُرَمَاءِ في دَيْنِهِمْ فَإِنَّا إذَا دَفَعْنَاهُ بِالْجِنَايَةِ فَقَدْ رَاعَيْنَا حَقَّ أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ وَرَاعَيْنَا حَقَّ الْغُرَمَاءِ بِالْبَيْعِ بِدَيْنِهِمْ
وإذا دَفَعْنَاهُ إلَى أَصْحَابِ الدَّيْنِ أَبْطَلْنَا حَقَّ أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ لِتَعَذُّرِ الدَّفْعِ بَعْدَ الْبَيْعِ إذْ الثَّابِتُ لِلْمُشْتَرِي مِلْكٌ جَدِيدٌ خَالٍ عن الْجِنَايَةِ فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالْجِنَايَةِ مُرَاعَاةَ الْحَقَّيْنِ من الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى ثُمَّ في الدَّفْعِ إلَى أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ ثُمَّ الْبَيْعُ بِالدَّيْنِ فَائِدَةٌ وَهِيَ الِاسْتِخْلَاصُ بِالْفِدَاءِ لِأَنَّ الناس ( ( ( للناس ) ) ) في أَعْيَانِ الْأَشْيَاءِ رَغَائِبُ ما ليس في أبدالها
وإذا دَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِلْكًا لهم بِالدَّفْعِ فَكَانَ الدَّفْعُ منه تملكيا ( ( ( تمليكا ) ) ) منهم بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ
وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ الدَّفْعَ وَاجِبٌ عليه وَمَنْ أتى بِفِعْلٍ وَاجِبٍ عليه لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَمْنَعُهُ عن إقَامَةِ الْوَاجِبِ فَيَتَنَاقَضُ
ثُمَّ إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِمْ فَبِيعَ لِلْغُرَمَاءِ فَإِنْ فَضَلَ عن دَيْنِهِمْ شَيْءٌ من الثَّمَنِ صُرِفَ إلَى أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ صَارَ مِلْكًا لهم بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ وَإِنَّمَا بِيعَ على مِلْكِهِمْ إلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الدَّيْنِ أَوْلَى بِثَمَنِهِ بِقَدْرِ دَيْنِهِمْ فَبَقِيَ الْفَاضِلُ من دَيْنِهِمْ على مِلْكِ أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ كما إذَا لم يَكُنْ هُنَاكَ جِنَايَةٌ فَبَاعَهُ الْقَاضِي لِلْغُرَمَاءِ وَفَضَلَ من ثَمَنِهِ شَيْءٌ إن الْفَاضِلَ يَكُونُ لِلْمَوْلَى كَذَا هذا
وَلَوْ دَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى أَصْحَابِ الدَّيْنِ بِدَيْنِهِمْ إنْ كان عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ لَزِمَهُ الْأَرْشُ لِأَنَّهُ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَإِنْ لم يَكُنْ عَالِمًا بها يَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ دَفْعُ عَيْنِ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا الْفِدَاءُ لِلْخُرُوجِ عنه بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ على ما بَيَّنَّا وَالدَّفْعُ من غَيْرِ عِلْمٍ لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ فَبَقِيَ دَفْعُ الْعَيْنِ وَاجِبًا وقد تَعَدَّدَ دَفْعُ عَيْنِهِ بِالدَّفْعِ إلَى أَصْحَابِ الدَّيْنِ فَيَجِبُ دَفْعُ قِيمَتِهِ إذْ هو دَفْعُ الْعَيْنِ مَعْنًى وَإِنْ حَضَرَ أَصْحَابُ الْجِنَايَةِ أَوَّلًا فَكَذَلِكَ يُدْفَعُ الْعَبْدُ إلَيْهِمْ وَلَا
____________________

(7/205)


يَنْتَظِرُ حُضُورَ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُمْ لو كَانُوا حُضُورًا لَكَانَ الْحُكْمُ هَكَذَا فَلَا مَعْنَى لِلِانْتِظَارِ
وَإِنْ حَضَرَ أَصْحَابُ الدَّيْنِ أَوَّلًا فَإِنْ كان الْقَاضِي عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ لَا يَبِيعُهُ في دُيُونِهِمْ لِأَنَّ في الْبَيْعِ إبْطَالَ حَقِّ أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ عَالِمًا بها فَبَاعَهُ بَطَلَ حَقُّ أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ حتى لو حَضَرُوا بَعْدَ ذلك لَا ضَمَانَ على الْقَاضِي وَلَا على الْمَوْلَى
أَمَّا الْقَاضِي فَلِأَنَّهُ لَا عُهْدَةَ تَلْزَمُ الْقَاضِي فِيمَا يَفْعَلُهُ لِكَوْنِهِ أَمِينًا
وَأَمَّا الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ بَاعَهُ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَكَانَ مُضَافًا إلَى الْقَاضِي
وَلَوْ كان بَاعَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي فَإِنْ بَاعَهُ مع عِلْمِهِ بِالْجِنَايَةِ يَلْزَمْهُ الْأَرْشُ لِأَنَّهُ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَإِنْ لم يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ يَلْزَمْهُ الْأَقَلُّ من قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ الْأَرْشِ لِمَا بَيَّنَّا
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ بَعْدَ وُجُودِهِ فَنَقُولُ إنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ يَبْطُلُ بِضِدِّهِ وهو الْحَجْرُ فَيَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ ما يَصِيرُ الْعَبْدُ بِهِ مَحْجُورًا وَذَلِكَ أَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى وَبَعْضُهَا إلَى الْعَبْدِ أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ صَرِيحٌ وَدَلَالَةٌ وَضَرُورَةٌ وَالصَّرِيحُ نَوْعَانِ خَاصٌّ وَعَامٌّ
أَمَّا الْعَامُّ فَهُوَ الْحَجْرُ بِاللِّسَانِ على سَبِيلِ الاشهار وَالْإِشَاعَةِ بِأَنْ يَحْجُرَهُ في أَهْلِ سُوقِهِ بِالنِّدَاءِ بِالْحَجْرِ
وَهَذَا النَّوْعُ من الْحَجْرِ يَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ جميعا لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْبُطْلَانِ وَالشَّيْءُ يَبْطُلُ بثمله ( ( ( بمثله ) ) ) وَبِمَا هو فَوْقَهُ
وَأَمَّا الْخَاصُّ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ بين الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْمَوْلَى وَلَا يَكُونُ على سَبِيلِ الِاسْتِفَاضَةِ وَالِاشْتِهَارِ
وَهَذَا النَّوْعُ لَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ الْعَامُّ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَبْطُلُ بِمَا هو دُونَهُ وَلِأَنَّ الْحَجْرَ إذَا لم يَشْتَهِرْ فَالنَّاسُ يُعَامِلُونَهُ بِنَاءً على الْإِذْنِ الْعَامِّ ثُمَّ يَظْهَرُ الْحَجْرُ فَيَلْحَقُهُمْ ضَرَرُ الْغُرُورِ وهو إتْلَافُ دُيُونِهِمْ في ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ وَمَعْنَى التعزير ( ( ( التغرير ) ) ) لَا يَتَحَقَّقُ في الْإِذْنِ الْعَامِّ لِأَنَّ الناس يَمْتَنِعُونَ عن مُعَامَلَتِهِ فَلَا يَلْحَقُهُمْ ضَرَرُ الْغُرُورِ وَيَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ الْخَاصُّ لِأَنَّ الْحَجْرَ صَحِيحٌ في حَقِّهِمَا حَسَبَ صِحَّةِ الْإِذْنِ فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ بمثله
وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ عِلْمُ الْعَبْدِ بِهِمَا فَإِنْ لم يَعْلَمْ لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا لِأَنَّ الْحَجْرَ مَنْعٌ من تَصَرُّفٍ شَرْعِيٍّ وَحُكْمُ الْمَنْعِ في الشَّرَائِعِ لايلزم الْمَمْنُوعَ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ كما في سَائِرِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ
وَلَوْ أخبره بِالْحَجْرِ رَجُلَانِ أو رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَدْلًا كان أو غير عَدْلٍ صَارَ مَحْجُورًا بِالْإِجْمَاعِ
وَكَذَلِكَ إذَا أخبره وَاحِدٌ عَدْلٌ رَجُلًا كان أو امْرَأَةً حُرًّا كان أو عَبْدًا أو أخبره وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ وَصَدَّقَهُ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ في الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولٌ من غَيْرِ شَرْطِ الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ وَالذُّكُورَةِ وَالْحُرِّيَّةِ إذَا صَدَّقَهُ فيه وَأَمَّا إذَا كَذَّبَهُ فَلَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنْ ظَهَرَ صِدْقُ الْمُخْبِرِ وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ مَحْجُورًا صَدَّقَهُ أو كَذَّبَهُ إذَا ظَهَرَ صِدْقُ الْمُخْبِرِ وَلَوْ كان الْمُخْبِرُ رَسُولًا يَصِيرُ مَحْجُورًا بِالْإِجْمَاعِ صَدَّقَهُ أو كَذَّبَهُ
وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ عَبْدًا فَأَذِنَ له بِالتِّجَارَةِ فَحَجَرَ الْمَوْلَى على أَحَدِهِمَا فَإِنْ حَجَرَ على الْأَسْفَلِ لم يَصِحَّ سَوَاءٌ كان على الْأَعْلَى دَيْنٌ أو لم يَكُنْ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ من جِهَةِ الْأَعْلَى لَا من جِهَةِ الْمَوْلَى وَإِنْ حَجَرَ على الْأَعْلَى يُنْظَرْ إنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ لَا يَصِيرُ الْأَسْفَلُ مَحْجُورًا عليه لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَهُمَا عَبْدَانِ مَمْلُوكَانِ لِلْمَوْلَى فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ أَذِنَ لَهُمَا ثُمَّ حَجَرَ على أَحَدِهِمَا وَلَوْ كان كَذَلِكَ يَنْحَجِرُ أَحَدُهُمَا بِحَجْرِ الْآخَرِ كَذَا هذا
وَإِنْ كان على الْأَعْلَى دَيْنٌ يَصِيرُ مَحْجُورًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا بِنَاءً على أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَمْلِكُ
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّهُ لَمَّا لم يَمْلِكْ عَبْدَهُ وقد اسْتَفَادَ الْإِذْنَ من جِهَةِ الْأَعْلَى لَا من جِهَةِ الْمَوْلَى صَارَ حَجْرُ الْأَعْلَى كَمَوْتِهِ
وَلَوْ مَاتَ لَصَارَ الثَّانِي مَحْجُورًا كَذَا هذا وَلَمَّا مَلَكَ عِنْدَهُمَا صَارَ الْجَوَابُ في هذا وفي الْأَوَّلِ سَوَاءٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَأَنْوَاعٌ منها الْبَيْعُ وهو أَنْ يَبِيعَهُ الْمَوْلَى وَلَا دَيْنَ عليه لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ وَحَدَثَ لِلْمُشْتَرِي فيه مِلْكٌ جَدِيدٌ فَيَزُولُ إذْنُ الْبَائِعِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ ولم يُوجَدْ الْإِذْنُ من الْمُشْتَرِي فَيَصِيرُ مَحْجُورًا
وَمِنْهَا الِاسْتِيلَادُ بِأَنْ كان الْمَأْذُونُ جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا الْمَوْلَى اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ لِأَنَّهَا قَادِرَةٌ على التَّصَرُّفِ بَعْدَ الِاسْتِيلَادِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التِّجَارَةَ لَا بُدَّ لها من الْخُرُوجِ إلَى الْأَسْوَاقِ وَأُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ مَمْنُوعَاتٌ عن الْخُرُوجِ في الْعَادَاتِ فَكَانَ الِاسْتِيلَادُ حَجْرًا دَلَالَةً
وَأَمَّا التَّدْبِيرُ فَلَا يَكُونُ حَجْرًا لِأَنَّهُ لَا يَنْفِي الْإِذْنَ إذْ الْإِذْنُ إطْلَاقٌ وَالتَّدْبِيرُ لَا يُنَافِيهِ وَمِنْهَا لُحُوقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا لِأَنَّ الرِّدَّةَ مع اللُّحُوقِ تُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ وَذَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْإِذْنِ فَكَانَ حَجْرًا دَلَالَةً فَإِنْ لم يَلْحَقْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أبي
____________________

(7/206)


حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ تَصَرُّفُ الْمَأْذُونِ بَعْدَ الرِّدَّةِ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا يَنْفُذُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَأَمَّا الضَّرُورَةُ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا منها مَوْتُهُ لِأَنَّ الْمَوْتَ مُبْطِلٌ لِلْمِلْكِ وَبُطْلَانُ الْمِلْكِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْإِذْنِ على ما بَيَّنَّا
وَمِنْهَا جُنُونُهُ جُنُونًا مُطْبِقًا لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْإِذْنِ شَرْطُ بَقَاءِ الْإِذْنِ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ لِبَقَائِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ ثُمَّ ابْتِدَاءُ الْإِذْنِ لَا يَصِحُّ من غَيْرِ الْأَهْلِ فَلَا يَبْقَى أَيْضًا وَالْجُنُونُ الْمُطْبِقُ مُبْطِلٌ لِلْأَهْلِيَّةِ فَصَارَ مَحْجُورًا
فَإِنْ أَفَاقَ يعود ( ( ( يعد ) ) ) مَأْذُونًا لِأَنَّ بُطْلَانَ الْإِذْنِ لِبُطْلَانِ الْأَهْلِيَّةِ مع احْتِمَالِ الْعَوْدِ فإذا أَفَاقَ عَادَتْ الْأَهْلِيَّةُ فَعَادَ مَأْذُونًا وَصَارَ كَالْمُوَكَّلِ إذَا أَفَاقَ بَعْدَ جُنُونِهِ أَنَّهُ تَعُودُ الْوَكَالَةُ
كَذَا هذا
وَأَمَّا الْإِغْمَاءُ فَلَا يُوجِبُ الْحَجْرَ لِأَنَّهُ لَا يُبْطِلُ الْأَهْلِيَّةَ لِكَوْنِهِ على شَرَفِ الزَّوَالِ سَاعَةً فَسَاعَةً عَادَةً وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْعَبْدِ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا منها إبَاقُهُ لِأَنَّهُ بِالْإِبَاقِ تَنْقَطِعُ مَنَافِعُ تَصَرُّفِهِ عن الْمَوْلَى فَلَا يَرْضَى بِهِ الْمَوْلَى وَهَذَا يُنَافِي الْإِذْنَ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَأْذُونِ بِرِضَا الْمَوْلَى
وَمِنْهَا جُنُونُهُ جُنُونًا مُطْبِقًا لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ أَهْلِيَّةَ التِّجَارَةِ على وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ إلَّا على سَبِيلِ النُّدْرَةِ لِزَوَالِ ما هو مَبْنِيٌّ عليه وهو الْعَقْلُ فلم يَكُنْ في بَقَاءِ الْإِذْنِ فَائِدَةٌ فَيَبْطُلُ
وَلَوْ أَفَاقَ بَعْدَ ذلك لَا يَعُودُ مَأْذُونًا بِخِلَافِ الْمُوَكَّلِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْجُنُونُ الذي هو غَيْرُ مُطْبِقٍ فَلَا يُوجِبُ الْحَجْرَ لِأَنَّ غير الْمُطْبَقِ منه ليس بِمُبْطِلٍ لِلْأَهْلِيَّةِ لِكَوْنِهِ على شَرَفِ الزَّوَالِ فَكَانَ في حُكْمِ الْإِغْمَاءِ
وَمِنْهَا رِدَّتُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا تُوجِبُ الْحَجْرَ بِنَاءً على وُقُوفِ تَصَرُّفَاتِهِ عِنْدَهُ وَنُفُوذِهَا عِنْدَهُمَا
وَمِنْهَا لُحُوقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا لِأَنَّ اللُّحُوقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ فَكَانَ مُبْطِلًا لِلْأَهْلِيَّةِ فَيَصِيرُ مَحْجُورًا لَكِنْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ من وَقْتِ الرِّدَّةِ وَعِنْدَهُمَا من وَقْتِ اللُّحُوقِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْحَجْرِ فَهُوَ انْحِجَارُ الْعَبْدِ في حَقِّ الْمَوْلَى عن كل تَصَرُّفٍ كان يَمْلِكُهُ بِسَبَبِ الْإِذْنِ فَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ إذَا لم يَكُنْ في يَدِهِ مَالٌ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ لِكَوْنِهِ من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ على ما بَيَّنَّا وَلَا يَمْلِكُ التِّجَارَةَ فَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِمَا هو من ضَرُورَاتِهَا في حَقِّ الْمَوْلَى لَكِنْ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ صَحِيحٌ في نَفْسِهِ لِصُدُورِهِ من الْأَهْلِ لَكِنْ لم يَظْهَرْ لِلْحَالِ لِحَقِّ الْمَوْلَى فإذا عَتَقَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيَظْهَرُ
وَإِنْ كان في يَدِهِ مَالٌ يَنْفُذُ إقْرَارُهُ فِيمَا في يَدِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَنْفُذُ لِأَنَّهُ إقْرَارُ الْمَحْجُورِ فَكَيْفَ يَنْفُذُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ غَيْرُ مَحْجُورٍ فِيمَا في يَدِهِ ولم يَصِحَّ الْحَجْرُ في حَقِّ ما في يَدِهِ لِأَنَّهُ لو صَحَّ لَتَبَادَرَ الْمَوَالِي إلَى حَجْرِ عَبِيدِهِمْ الْمَأْذُونِينَ في التِّجَارَةِ إذَا عَلِمُوا أَنَّ عليهم دَيْنًا لِتَسْلَمَ لهم أَكْسَابُهُمْ التي في أَيْدِيهِمْ وقد لَا يَكُونُ لِلْغُرَمَاءِ بَيِّنَةٌ على ذلك فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْغُرَمَاءُ لِتَعَلُّقِ دُيُونِهِمْ بِذِمَّةِ الْعَبْدِ الْمُفْلِسِ فَكَانَ إقْرَارُهُ فِيمَا في يَدِهِ من الْمَالِ من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ فَأَشْبَهَ إقْرَارَ الْمَأْذُونِ بِخِلَافِ ما إذَا لم يَكُنْ في يَدِهِ مَالٌ لِأَنَّ الْحَجْرَ من الْمَوْلَى لِلْوُصُولِ إلَى الْكَسْبِ فإذا لم يَكُنْ في يَدِهِ كَسْبٌ فَلَا يَحْجُرُ فَهُوَ الْفَرْقُ بين الْفَصْلَيْنِ
وَلَوْ ظَهَرَ عليه الدَّيْنُ بِالْبَيِّنَةِ أو الْمُعَايَنَةِ وفي يَدِهِ كَسْبٌ فَحَجَرَهُ الْمَوْلَى لَا سَبِيلَ لِلْمَوْلَى على الْكَسْبِ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ وَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ على نَفْسِهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى أو كَذَّبَهُ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى في نَفْسِهِ في حَقِّ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَاسْتَوَى فيه تَصْدِيقُهُ وَتَكْذِيبُهُ وَلَا يَحْتَاجُ في إقَامَتِهَا إلَى حُضُورِ الْمَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ وَفِيمَا إذَا ثَبَتَ ذلك بِبَيِّنَةٍ قامت ( ( ( قام ) ) ) عليه اخْتِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا قَبْلُ وَالْمَحْجُورُ في الْجِنَايَةِ عَمْدًا أو خَطَأً وَالْمَأْذُونُ سَوَاءٌ وَمَوْضِعُ مَعْرِفَةِ حُكْمِ جِنَايَتِهِمَا كِتَابُ الدِّيَاتِ وَسَنَذْكُرُهُ فيه إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
كِتَابُ الْإِقْرَارِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِ الْإِقْرَارِ وفي بَيَانِ الشَّرَائِطِ التي يَصِيرُ الرُّكْنُ بها إقْرَارًا شَرْعًا وفي بَيَانِ ما يُصَدَّقُ الْمُقِرُّ فِيمَا أَلْحَقَ بِإِقْرَارِهِ من الْقَرَائِنِ ما لَا يَكُونُ رُجُوعًا حَقِيقَةً وما لَا يُصَدَّقُ فيه مِمَّا يَكُونُ رُجُوعًا عنه وفي بَيَانِ ما يَبْطُلُ بِهِ الْإِقْرَارُ بَعْدَ وُجُودِهِ
أَمَّا رُكْنُ الْإِقْرَارِ فَنَوْعَانِ صَرِيحٌ وَدَلَالَةٌ فَالصَّرِيحُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَيَّ كَلِمَةُ إيجَابٍ لُغَةً وَشَرْعًا
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ الْبَيْتِ من اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَكَذَا إذَا قال
____________________

(7/207)


لِرَجُلٍ لي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فقال الرَّجُلُ نعم لِأَنَّ كَلِمَةَ نعم خَرَجَتْ جَوَابًا لِكَلَامِهِ
وَجَوَابُ الْكَلَامِ إعَادَةٌ له لُغَةً كَأَنَّهُ قال لك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ
وَكَذَلِكَ إذَا قال لِفُلَانٍ في ذِمَّتِي أَلْفُ دِرْهَمٍ لِأَنَّ ما في الذِّمَّةِ هو الدَّيْنُ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ علي ( ( ( قبلي ) ) ) أَلْفُ دِرْهَمٍ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إقْرَارٌ بِأَمَانَةٍ في يَدِهِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْقَبَالَةَ هِيَ الْكَفَالَةُ قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عز من قَائِلٍ { وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا } أَيْ كَفِيلًا وَالْكَفَالَةُ هِيَ الضَّمَانُ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } على قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ أَيْ ضَمِنَ الْقِيَامَ بِأَمْرِهَا وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقَبَالَةَ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الضَّمَانِ وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْأَمَانَةِ فإن مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ من قال لَا حَقَّ لي على فُلَانٍ يَبْرَأُ عن الدَّيْنِ
وَمَنْ قال لَا حَقَّ لي عِنْدَ فُلَانٍ أو معه يَبْرَأُ عن الْأَمَانَةِ
وَلَوْ قال لَا حَقَّ لي قِبَلَهُ يَبْرَأُ عن الدَّيْنِ وَالْأَمَانَةِ جميعا فَكَانَتْ الْقَبَالَةُ مُحْتَمِلَةً لِلضَّمَانِ وَالْأَمَانَةِ وَالضَّمَانُ لم يُعْرَفْ وُجُوبُهُ فَلَا يَجِبُ بِالِاحْتِمَالِ
وَلَوْ قال له في دَرَاهِمِي هذه أَلْفُ دِرْهَمٍ يَكُونُ إقْرَارًا بِالشَّرِكَةِ وَلَوْ قال له في مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ هذا إقْرَارٌ له ولم يذكر أَنَّهُ مَضْمُونٌ أو أَمَانَةٌ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال الْجَصَّاصُ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّهُ يَكُونُ إقْرَارًا بِالشَّرِكَةِ له كما في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَالَهُ ظَرْفًا لِلْمُقَرِّ بِهِ وهو الْأَلْفُ فَيَقْتَضِي الْخَلْطَ وهو مَعْنَى الشَّرِكَةِ
وقال بَعْضُهُمْ إنْ كان مَالُهُ مَحْصُورًا يَكُونُ إقْرَارًا بِالشَّرِكَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ مَحْصُورًا يَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ فَظَاهِرُ إطْلَاقِ الْكِتَابِ يَدُلُّ على الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ كَيْفَمَا كان لِأَنَّ كَلِمَةَ الظَّرْفِ في مِثْلِ هذا تُسْتَعْمَلُ في الْوُجُوبِ قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في الرِّقَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ وفي خَمْسٍ من الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ وفي الرِّكَازِ الْخُمُسُ
وَلَوْ قال له في مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بَلْ يَكُونُ هِبَةً لِأَنَّهُ ليس فيه ما يَدُلُّ على الْوُجُوبِ في الذِّمَّةِ لِأَنَّ اللَّامَ الْمُضَافَ إلَى أَهْلِ الْمِلْكِ لِلتَّمْلِيكِ وَالتَّمْلِيكُ بِغَيْرِ عِوَضٍ هِبَةٌ وإذا كان هِبَةً فَلَا يَمْلِكُهَا إلَّا بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ
وَلَوْ قال له في مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا حَقَّ له فيها فَهُوَ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ الْأَلْفَ التي لَا حَقَّ له فيها لَا تَكُونُ دَيْنًا إذْ لو كانت هِبَةً لَكَانَ له فيها حَقٌّ
وَلَوْ قال له عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهُوَ وَدِيعَةٌ لِأَنَّ عِنْدِي لَا تَدُلُّ على الْوُجُوبِ في الذِّمَّةِ بَلْ هِيَ كَلِمَةُ حَضْرَةٍ وَقُرْبٍ وَلَا اخْتِصَاصَ لِهَذَا الْمَعْنَى بِالْوُجُوبِ في الذِّمَّةِ فَلَا يُثْبِتُ الْوُجُوبُ إلَّا بِدَلِيلٍ زَائِدٍ
وَكَذَلِكَ لو قال لِفُلَانٍ مَعِي أو في مَنْزِلِي أو في بَيْتِي أو في صُنْدُوقِي أَلْفُ دِرْهَمٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ وَدِيعَةٌ لِأَنَّ هذه الْأَلْفَاظَ لَا تَدُلُّ إلَّا على قِيَامِ الْيَدِ على الْمَذْكُورِ وَذَا لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ في الذِّمَّةِ لَا مَحَالَةَ فلم يَكُنْ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ فَكَانَتْ وَدِيعَةً لِأَنَّهَا في مُتَعَارَفِ الناس تُسْتَعْمَلُ في الْوَدَائِعِ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ تُصْرَفُ إلَيْهَا
وَلَوْ قال له عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ عَارِيَّةً فَهُوَ قَرْضٌ لِأَنَّ عِنْدِي تُسْتَعْمَلُ في الْأَمَانَاتِ وقد فَسَّرَ بِالْعَارِيَّةِ وَعَارِيَّةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ تَكُونُ قَرْضًا إذْ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بها إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهَا وَإِعَارَةُ ما لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهِ يَكُونُ قَرْضًا في الْمُتَعَارَفِ
وَكَذَلِكَ هذا في كل ما يُكَالُ أو يُوزَنُ لِتَعَذُّرِ الِانْتِفَاعِ بها بِدُونِ الِاسْتِهْلَاكِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِإِعَارَتِهَا إقْرَارًا بِالْقَرْضِ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ له رَجُلٌ لي عَلَيْكَ أَلْفٌ فيقول قد قَضَيْتُهَا لِأَنَّ الْقَضَاءَ اسْمٌ لِتَسْلِيمِ مِثْلِ الْوَاجِبِ في الذِّمَّةِ فَيَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ الْوُجُوبِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْقَضَاءِ إقْرَارًا بِالْوُجُوبِ ثُمَّ يَدَّعِي الْخُرُوجَ عنه بِالْقَضَاءِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ
وَكَذَلِكَ إذَا قال له رَجُلٌ لي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فقال أتزنها لِأَنَّهُ أَضَافَ الِاتِّزَانَ إلَى الْأَلْفِ الْمُدَّعَاةِ وَالْإِنْسَانُ لَا يَأْمَرُ الْمُدَّعِي بِاتِّزَانِ الْمُدَّعَى إلَّا بَعْدَ كَوْنِهِ وَاجِبًا عليه فَكَانَ الْأَمْرُ بِالِاتِّزَانِ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ دَلَالَةً
وَكَذَلِكَ إذَا قال انْتَقِدْهَا لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قال أَتَّزِنُ أو أتنقد ( ( ( أنتقد ) ) ) لم يَكُنْ إقْرَارًا لِأَنَّهُ لم تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمُدَّعَى فَيَحْتَمِلُ الْأَمْرُ بِاتِّزَانِ شَيْءٍ آخَرَ فَلَا يُحْمَلُ على الْإِقْرَارِ بِالِاحْتِمَالِ وَكَذَا إذَا قال أَجِّلْنِي بها لِأَنَّ التَّأْجِيلَ تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ مع قِيَامِ أَصْلِ الدَّيْنِ في الذِّمَّةِ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ قال له رَجُلٌ لي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فقال حَقًّا يَكُونُ إقْرَارًا لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَقَّقْتَ فِيمَا قُلْتَ
لِأَنَّ انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ لَا بُدَّ له من إظْهَارِ صَدْرِهِ وهو الْفِعْلُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ قُلْ حَقًّا أو إلزم حَقًّا وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ
وَكَذَلِكَ إذَا قال الْحَقَّ لِأَنَّهُ تَعْرِيفُ الْمَصْدَرِ وهو قَوْلُهُ حَقًّا وَكَذَلِكَ لو قال صِدْقًا أو الصِّدْقَ أو يَقِينًا أو الْيَقِينَ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قال بِرًّا أو الْبِرَّ لَا يَكُونُ إقْرَارًا لِأَنَّ لَفْظَةَ الْبِرِّ مُشْتَرَكٌ تُذْكَرُ على إرَادَةِ الصِّدْقِ وَتُذْكَرُ على إرَادَةِ التَّقْوَى وَتُذْكَرُ على إرَادَةِ الْخَيْرِ فَلَا يُحْمَلُ على الْإِقْرَارِ بِالِاحْتِمَالِ وَكَذَلِكَ لو قال صَلَاحًا أو
____________________

(7/208)


الصَّلَاحَ لَا يَكُونُ إقْرَارًا لِأَنَّ لَفْظَةَ الصَّلَاحِ لَا تَكُونُ بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ فإنه لو صرخ ( ( ( صرح ) ) ) وقال له صَلَحْتَ لَا يَكُونُ تَصْدِيقًا فَيُحْمَلُ على الْأَمْرِ بِالصَّلَاحِ وَالِاجْتِنَابِ عن الْكَذِبِ هذا إذَا ذَكَرَ لَفْظَةً مُفْرَدَةً من هذه الْأَلْفَاظِ الْخَمْسَةِ فَإِنْ جَمَعَ بين لَفْظَتَيْنِ مُتَجَانِسَتَيْنِ أو مُخْتَلِفَتَيْنِ فَحُكْمُهُ يُعْرَفُ في إقْرَارِ الْجَامِعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
ثُمَّ رُكْنُ الْإِقْرَارِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِقَرِينَةٍ فَالْمُطْلَقُ هو قَوْلُهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا وما يَجْرِي مَجْرَاهُ خَالِيًا عن الْقَرَائِنِ
وَأَمَّا الْمُلْحَقُ بِالْقَرِينَةِ فَبَيَانُهُ يَشْتَمِلُ على فَصْلِ بَيَانِ ما يُصَدَّقُ لِلْمُقِرِّ فِيمَا أَلْحَقَ بِإِقْرَارِهِ من الْقَرَائِنِ ما لَا يَكُونُ رُجُوعًا وما لَا يُصَدَّقُ فيه مِمَّا يَكُونُ رُجُوعًا فَنَقُولُ الْقَرِينَةُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ قَرِينَةٌ مُغَيِّرَةٌ من حَيْثُ الظَّاهِرُ مَبْنِيَّةٌ على الْحَقِيقَةِ وَقَرِينَةٌ مَبْنِيَّةٌ على الْإِطْلَاقِ
أَمَّا الْقَرِينَةُ الْمُغَيِّرَةُ من حَيْثُ الظَّاهِرُ وَالْمَبْنِيَّةُ على الْحَقِيقَةِ فَهِيَ الْمُسْقِطَةُ لِاسْمِ الْجُمْلَةِ فَيُعْتَبَرُ بها الِاسْمُ لَكِنْ يَتَبَيَّنُ بها الْمُرَادُ فَكَانَ تَغْيِيرًا صُورَةً تَبْيِينًا مَعْنًى
وَأَمَّا الْقَرِينَةُ الْمُغَيِّرَةُ فَتَتَنَوَّعُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ يَدْخُلُ في أَصْلِ الْإِقْرَارِ وَنَوْعٌ يَدْخُلُ على وَصْفِ الْمُقَرِّ بِهِ وَنَوْعٌ يَدْخُلُ على قَدْرِهِ وَكُلُّ ذلك قد يَكُونُ مُتَّصِلًا وقد يَكُونُ مُنْفَصِلًا
أَمَّا الذي يَدْخُلُ على أَصْلِ الْإِقْرَارِ فَنَحْوُ التَّعْلِيقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَّصِلًا بِاللَّفْظِ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ أَصْلًا لِأَنَّ تَعْلِيقَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِكَوْنِ الْأَلْفِ في الذِّمَّةِ أمر ( ( ( أمرا ) ) ) لَا يُعْرَفُ فَإِنْ شَاءَ كان وَإِنْ لم يَشَأْ لم يَكُنْ فَلَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ مع الِاحْتِمَالِ وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عن كَائِنٍ وَالْكَائِنُ لَا يَحْتَمِلُ تَعْلِيقَ كَوْنِهِ بِالْمَشِيئَةِ فإن الْفَاعِلَ إذَا قال أنا فَاعِلٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى يَسْتَحِقُّ وَلِهَذَا أَبْطَلْنَا الْقَوْلَ بِالِاسْتِثْنَاءِ في الْأَيْمَانِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَكَذَا إذَا عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ فُلَانٍ لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ أَقَرَّ بِشَرْطِ الْخِيَارِ بَطَلَ الشَّرْطُ وَصَحَّ الْإِقْرَارُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عن ثَابِتٍ في الذِّمَّةِ وَشَرْطُ الْخِيَارِ في مَعْنَى الرُّجُوعِ وَالْإِقْرَارُ في حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ
وَأَمَّا الذي يَدْخُلُ على وَصْفِ الْمُقَرِّ بِهِ فَإِنْ كان مُتَّصِلًا بِاللَّفْظِ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً يَصِحُّ وَيَكُونُ إقْرَارًا بالوديعة وَإِنْ كان مُنْفَصِلًا عنه بِأَنْ سَكَتَ ثُمَّ قال عَنَيْتُ بِهِ الْوَدِيعَةَ لَا يَصِحُّ وَيَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِأَنَّ بَيَانَ الْمُغَيِّرِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِشَرْطِ الْوَصْلِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إخْبَارٌ عن وُجُوبِ الْأَلْفِ عليه من حَيْثُ الظَّاهِرِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو سَكَتَ عليه لَكَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ قَرَنَ بِهِ قَوْلَهُ وَدِيعَةً وَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْحِفْظِ فَقَدْ غَيَّرَ حُكْمَ الظَّاهِرِ من وُجُوبِ الْعَيْنِ إلَى وُجُوبِ الْحِفْظِ فَكَانَ بَيَانَ تَغْيِيرٍ من حَيْثُ الظَّاهِرُ فَلَا يَصِحُّ إلَّا مَوْصُولًا كَالِاسْتِثْنَاءِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ مَوْصُولًا لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ يَحْتَمِلُ وُجُوبَ الحفظ الْحِفْظِ أَيْ عَلَيَّ حِفْظُ أَلْفٍ دِرْهَم وَإِنْ كان خِلَافَ الظَّاهِرِ فَيَصِحُّ بِشَرْطِ الْوَصْلِ
وَلَوْ قال عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً قَرْضًا أو مُضَارَبَةً قَرْضًا أو بِضَاعَةً قَرْضًا أو قال دَيْنًا مَكَانَ قَوْلِهِ قَرْضًا فَهُوَ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ الْجَمْعَ بين اللَّفْظَيْنِ في مَعْنَاهُمَا مُمْكِنٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَمَانَةً في الِابْتِدَاءِ ثُمَّ يَصِيرُ مَضْمُونًا في الِانْتِهَاءِ إذْ الضَّمَانُ قد يَطْرَأُ على الْأَمَانَةِ كَالْوَدِيعَةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ وَنَحْوِهَا سَوَاءٌ وَصَلَ أو فَصَلَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ في الْإِقْرَارِ بِالضَّمَانِ على نَفْسِهِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ
وَأَمَّا الذي يَدْخُلُ على قَدْرِ الْمُقَرِّ بِهِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا الِاسْتِثْنَاءُ
وَالثَّانِي الِاسْتِدْرَاكُ
أَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ في الْأَصْلِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى من جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى منه
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ من خِلَافِ جِنْسِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعَانِ مُتَّصِلٌ وَمُنْفَصِلٌ فَإِنْ كان الْمُسْتَثْنَى من جِنْسِ المستنثى ( ( ( المستثنى ) ) ) منه وَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ فَهُوَ على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ اسْتِثْنَاءُ الْقَلِيلِ من الْكَثِيرِ وَاسْتِثْنَاءُ الْكَثِيرِ من الْقَلِيلِ وَاسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ من الْكُلِّ
أَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْقَلِيلِ من الْكَثِيرِ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَلَا خِلَافَ في جَوَازِهِ وَيَلْزَمُهُ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ في الْحَقِيقَةِ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا كَأَنَّهُ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ إلَّا أَنَّ لِلسَّبْعَةِ اسمان ( ( ( اسمين ) ) ) أَحَدُهُمَا سَبْعَةٌ وَالْآخَرُ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا } مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَبِثَ فِيهِمْ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَامًا وَكَذَلِكَ إذَا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ سِوَى ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ لِأَنَّ سِوَى من أَلْفَاظِ الِاسْتِثْنَاءِ
وَكَذَا إذَا قال غير ثَلَاثَةٍ لِأَنَّ غير بِالنَّصْبِ لِلِاسْتِثْنَاءِ فَإِنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ غير دَانِقٍ يَلْزَمُهُ خَمْسَةُ دَوَانِقَ وَلَوْ قال غَيْرُ دَانِقٍ بِالرَّفْعِ يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ تَامٌّ
وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْكَثِيرِ من الْقَلِيلِ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ إلَّا عَشَرَةً فَجَائِزٌ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ

____________________

(7/209)


إلَّا ما رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِحُّ وَعَلَيْهِ الْعَشَرَةُ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ عن أَئِمَّةِ اللُّغَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثِّنْيَا وَهَذَا الْمَعْنَى كما يُوجَدُ في اسْتِثْنَاءِ الْقَلِيلِ من الْكَثِيرِ يُوجَدُ في اسْتِثْنَاءِ الْكَثِيرِ من الْقَلِيلِ إلَّا أَنَّ هذا النَّوْعَ من الِاسْتِثْنَاءِ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا وَضَعُوا الِاسْتِثْنَاءَ لِحَاجَتِهِمْ إلَى اسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ وَمِثْلُ هذا الْغَلَطِ مِمَّا يَنْدُرُ وُقُوعُهُ غَايَةَ النُّدْرَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِدْرَاكِهِ لَكِنْ يُحْتَمَلُ الْوُقُوعُ في الْجُمْلَةِ فَيَصِحُّ
وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ من الْكُلِّ بِأَنْ يَقُولَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَبَاطِلٌ وَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّ هذا ليس بِاسْتِثْنَاءٍ إذْ هو تَكَلُّمٌ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثِّنْيَا وَلَا حَاصِلَ هَهُنَا بَعْدَ الثِّنْيَا فَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً بَلْ يَكُونُ ابطالا لِلْكَلَامِ وَرُجُوعًا عَمَّا تَكَلَّمَ بِهِ وَالرُّجُوعُ عن الْإِقْرَارِ في حَقِّ الْعِبَادِ لَا يَصِحُّ فَبَطَلَ الرُّجُوعُ وَبَقِيَ الْإِقْرَارُ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا زَائِفًا لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ جِيَادٌ
وقال أبو يُوسُفَ يَصِحُّ وَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ جِيَادٌ لِلْمُقَرِّ له وَعَلَى الْمُقَرِّ له دِرْهَمٌ زَائِفٌ لِلْمُقِرِّ بِنَاءً على أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُقَاصَّةَ لَا تَقِفُ على صِفَةِ الْجَوْدَةِ بَلْ تَقِفُ على الْوَزْنِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا تَتَحَقَّقُ الْمُقَاصَّةُ إلَّا بِهِمَا جميعا
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ أَنَّهُ لو صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ لَوَجَبَ على الْمُقَرِّ له دِرْهَمٌ زَائِفٌ وَحِينَئِذٍ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ لِأَنَّ اخْتِلَافَ صِفَةِ الْجَوْدَةِ لَا تَمْنَعُ الْمُقَاصَّةَ عِنْدَهُ وإذا وَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ يَصِيرُ الْمُسْتَثْنَى دِرْهَمًا جَيِّدًا لَا زَائِفًا وَهَذَا خِلَافُ مُوجَبِ تَصَرُّفِهِ فلم يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا كان اتِّحَادُهُمَا في صِفَةِ الْجَوْدَةِ شَرْطًا لِتَحَقُّقِ الْمُقَاصَّةِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا لَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ وإذا لم تَقَعْ كان الْوَاجِبُ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَدَاءَ ما عليه فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ مُوجَبِ الِاسْتِثْنَاءِ فَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَالصَّحِيحُ أَصْلُ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّ الْجَوْدَةَ في الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ سَاقِطَةُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا لِقَوْلِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ وَالسَّاقِطُ شَرْعًا وَالْعَدَمُ حَقِيقَةً سَوَاءٌ وَلَوْ انْعَدَمَتْ حَقِيقَةً لَوَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ كَذَا إذَا انْعَدَمَتْ شَرْعًا
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمَ سَتُّوق فَقِيَاسُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَعَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا قِيمَةَ دِرْهَمٍ سَتُّوقٍ وَقِيَاسُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ أَصْلًا وَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بِنَاءً على أَنَّ الْمُجَانَسَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ الإستثناء عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ شَرْطٌ على ما سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا قَلِيلًا فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ من نِصْفِ الْأَلْفِ وَالْقَوْلُ في الزِّيَادَةِ على الْخَمْسِمِائَةِ قَوْلُهُ لِأَنَّ الْقَلِيلَ من أَسْمَاء الْإِضَافَةِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ما يُقَابِلُهُ أَكْثَرَ منه لِيَكُونَ هو بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ قَلِيلًا فإذا اسْتَثْنَى الْقَلِيلَ من الْأَلْفِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى منه أَكْثَرَ من الْمُسْتَثْنَى وهو الْأَكْثَرُ من نِصْفِ الْأَلْفِ وَلِهَذَا قال بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ في قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا } إنَّ اسْتِثْنَاءَ الْقَلِيلِ من الْأَمْرِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِقِيَامِ أَكْثَرِ اللَّيْلِ وَالْقَوْلُ في مِقْدَارِ الزِّيَادَةِ على نِصْفِ الْأَلْفِ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ الْمُجْمَلُ في قَدْرِ الزِّيَادَةِ فَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ
وَكَذَلِكَ إذَا قال إلَّا شيئا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِلَفْظَةِ شَيْءٍ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا في الْقَلِيلِ هذا إذَا كان الْمُسْتَثْنَى من جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى منه فَإِنْ كان من خِلَافِ جِنْسِهِ يُنْظَرُ إنْ كان الْمُسْتَثْنَى مِمَّا لَا يُثْبِتُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ مُطْلَقًا كَالثَّوْبِ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ
وَعَلَيْهِ جَمِيعُ ما أَقَرَّ بِهِ عِنْدَنَا بِأَنْ قال له عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا ثَوْبًا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِحُّ وَيَلْزَمُهُ قَدْرُ قِيمَةِ الثَّوْبِ
وَإِنْ كان الْمُسْتَثْنَى مِمَّا يُثْبِتُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ مُطْلَقًا من الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمًا أو إلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ أو مِائَةُ دِينَارٍ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أو دِينَارٌ إلَّا مِائَةَ جَوْزَةٍ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رضي اللَّهُ عنهما وَيَطْرَحُ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ قَدْرَ قِيمَةِ الْمُسْتَثْنَى
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ أَصْلًا
أَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَوَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لِنَصِّ الِاسْتِثْنَاءِ حُكْمًا على حِدَةٍ كما لِنَصِّ الْمُسْتَثْنَى منه من النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ من النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَمِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ لُغَةً
فَقَوْلُهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا مَعْنَاهُ إلَّا دِرْهَمًا فإنه ليس عَلَيَّ فَيَصِيرُ دَلِيلُ النَّفْيِ مُعَارِضًا لِدَلِيلِ الْإِثْبَاتِ في قَدْرِ الْمُسْتَثْنَى وَلِهَذَا قال إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَعْمَلُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ فَصَارَ قَوْلُهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا أَيْ إلَّا ثَوْبًا فإنه ليس عَلَيَّ من الْأَلِفِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَيْنَ
____________________

(7/210)


الثَّوْبِ من الْأَلْفِ ليس عليه فَكَانَ الْمُرَادُ قَدْرَ قِيمَتِهِ أَيْ مِقْدَارَ قِيمَةِ الثَّوْبِ ليس عَلَيَّ من الْأَلْفِ
وَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِنَصِّ الِاسْتِثْنَاءِ إلَّا بَيَانُ أَنَّ الْقَدْرَ الْمُسْتَثْنَى لم يَدْخُلْ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى منه أَصْلًا لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قالوا إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا وَإِنَّمَا يَكُونُ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي إذَا كان ثَابِتًا فَكَانَ انْعِدَامُ حُكْمِ نَصِّ الْمُسْتَثْنَى منه في الْمُسْتَثْنَى لِانْعِدَامِ تَنَاوُلِ اللَّفْظِ إيَّاهُ لَا لِلْمُعَارَضَةِ مع ما أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمُعَارَضَةِ فَاسِدٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُقَارِنٌ لِلْمُسْتَثْنَى منه فَكَانَتْ الْمُعَارَضَةُ مُنَاقِضَةً
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُعَارَضَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِدَلِيلٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ وَنَصُّ الِاسْتِثْنَاءِ ليس بِنَصٍّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا إلَّا أَنْ يُزَادَ عليه قَوْلُهُ إلَّا كَذَا فإنه كَذَا
وَهَذَا تَغْيِيرٌ وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ من غَيْرِ تَغْيِيرٍ كان أَوْلَى
وَالثَّالِثُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمُعَارَضَةِ يَكُونُ رُجُوعًا عن الْإِقْرَارِ وَالرُّجُوعُ عن الْإِقْرَارِ في حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا يَصِحُّ كما إذَا قال له عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَلَيْسَ له عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وإذا كان بَيَانًا فَمَعْنَى الْبَيَانِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا إذَا كان الْمُسْتَثْنَى من جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى منه إمَّا في الِاسْمِ أو في احْتِمَالِ الْوُجُوبِ في الذِّمَّةِ على الْإِطْلَاقِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا على ما نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَقَوْلُهُمْ الِاسْتِثْنَاءُ من الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَمِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ مَحْمُولٌ على الظَّاهِرِ إذْ هو في الظَّاهِرِ كَذَلِكَ دُونَ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ وهي مُحَالٌ على ما ذَكَرْنَا وَجْهَ إحَالَتِهِ فَيَكُونُ بَيَانًا حَقِيقَةً نَفْيًا أو إثْبَاتًا جَمْعًا بين النَّقْلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ في الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ اسْتِخْرَاجُ بَعْضِ ما لَوْلَاهُ لَدَخَلَ تَحْتَ نَصِّ الْمُسْتَثْنَى منه وَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا في الْجِنْسِ وَلِهَذَا لو كان الْمُسْتَثْنَى ثَوْبًا لم يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ قَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَوْصُوفَةٌ بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ مُطْلَقًا مُسَمَّاةٌ بِالدَّرَاهِمِ فَإِنْ لم يُمْكِنْ تَحْقِيقُ مَعْنَى المجالسة ( ( ( المجانسة ) ) ) في اسْمِ الدَّرَاهِمِ أَمْكَنَ تَحْقِيقُهَا في الْوُجُوبِ في الذِّمَّةِ على الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ في احْتِمَالِ الْوُجُوبِ في الذِّمَّةِ على الْإِطْلَاقِ من جِنْسِ الدَّرَاهِمِ
أَلَا تَرَى أنها تَجِبُ دَيْنًا مَوْصُوفًا في الذِّمَّةِ حَالًّا بِالِاسْتِقْرَاضِ وَالِاسْتِهْلَاكِ كما تَجِبُ سَلَمًا وَثَمَنًا حَالًّا كَالدَّرَاهِمِ
فَأَمَّا الثَّوْبُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ في الذِّمَّةِ على الْإِطْلَاقِ بَلْ سَلَمًا أو ثَمَنًا مُؤَجَّلًا
فَأَمَّا ما لَا يَحْتَمِلُهُ اسْتِقْرَاضًا وَاسْتِهْلَاكًا وَثَمَنًا حَالًّا غير مُؤَجَّلِ فَأَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْمُجَانَسَةِ بَيْنَهُمَا في وَصْفِ الْوُجُوبِ في الذِّمَّةِ على الْإِطْلَاقِ إنْ لم يَكُنْ في اسْمِ الدَّرَاهِمِ فَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالِاسْتِثْنَاءِ في تَحَقُّقِ مَعْنَاهُ وهو الْبَيَانُ من وَجْهٍ وَلَا مُجَانَسَةَ بين الثِّيَابِ وَالدَّرَاهِمِ لَا في الِاسْمِ وَلَا في احْتِمَالِ الْوُجُوبِ في الذِّمَّةِ على الْإِطْلَاقِ فَانْعَدَمَ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ أَصْلًا فَهُوَ الْفَرْقُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِدَارٍ وَاسْتَثْنَى بِنَاءَهَا لِنَفْسِهِ فَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لَا يَتَنَاوَلُ الْبِنَاءَ لُغَةً بَلْ وُضِعَ دَلَالَةً على الْعَرْصَةِ في اللُّغَةِ وَإِنَّمَا الْبِنَاءُ فيها بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ فلم يَكُنْ الْمُسْتَثْنَى من جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى منه فلم يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَتَكُونُ الدَّارُ مع الْبِنَاءِ لِلْمُقَرِّ له لِأَنَّهُ إنْ لم يَكُنْ اسْمًا عَامًّا لَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُ هذه الْأَجْزَاءَ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ كَمَنْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِخَاتَمٍ كان له الْحَلْقَةُ وَالْفَصُّ لَا لِأَنَّهُ اسْمٌ عَامٌّ بَلْ هو اسْمٌ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ وهو الْمُرَكَّبُ من الْحَلْقَةِ وَالْفَصِّ وَلَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ
وَكَذَا من أَقَرَّ بِسَيْفٍ لِغَيْرِهِ كان له النَّصْلُ وَالْجَفْنُ وَالْحَمَائِلُ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَا من أَقَرَّ بِحَجْلَةٍ كان له الْعِيدَانُ وَالْكِسْوَةُ بِخِلَافِ ما إذَا اسْتَثْنَى رُبُعَ الدَّارِ أو ثُلُثَهَا أو شيئا منها أَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ فَكَانَ الْمُسْتَثْنَى من جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى منه فَصَحَّ
وَلَوْ قال بِنَاءُ هذه الدَّارِ لي وَالْعَرْصَةُ لِفُلَانٍ صَحَّ لِأَنَّ اسْمَ الْبِنَاءِ لَا يَتَنَاوَلُ الْعَرْصَةَ إذْ هِيَ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إذَا وَرَدَ على الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ فَأَمَّا إذَا وَرَدَ الِاسْتِثْنَاءُ على الِاسْتِثْنَاءِ فَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الدَّاخِلَ على الِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً من الْمُسْتَثْنَى منه لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى منه أَقْرَبُ الْمَذْكُورِ إلَيْهِ فَيُصْرَفُ الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي إلَيْهِ وَيُجْعَلُ الْبَاقِي منه مُسْتَثْنًى من الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ
وَعَلَى هذا إذَا وَرَدَ الِاسْتِثْنَاءُ على الِاسْتِثْنَاءِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَإِنْ كَثُرَ فَالْأَصْلُ فيه أَنْ يُصْرَفَ كُلُّ اسْتِثْنَاءٍ إلَى ما يَلِيهِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ الْمَذْكُورِ إلَيْهِ فَيُبْدَأُ من الِاسْتِثْنَاءِ الْأَخِيرِ فَيُسْتَثْنَى الْبَاقِي مِمَّا يَلِيهِ ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى الْبَاقِي مِمَّا يَلِيهِ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى الْبَاقِي هَكَذَا إلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى الْبَاقِي منه فَيُسْتَثْنَى ذلك من الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ فما بَقِيَ منها فَهُوَ الْقَدْرُ الْمُقَرُّ بِهِ
بَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا يَكُونُ إقْرَارًا بِثَمَانِيَةِ دَرَاهِمَ لِأَنَّا صَرْفنَا
____________________

(7/211)


الِاسْتِثْنَاءَ الْأَخِيرَ إلَى ما يَلِيهِ فَبَقِيَ دِرْهَمَانِ يَسْتَثْنِيهِمَا من الْعَشَرَةِ فَيَبْقَى ثَمَانِيَةٌ
وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَبَرًا عن الْمَلَائِكَة { قالوا إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إلَّا آلَ لُوطٍ إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إنَّهَا لَمِنْ الْغَابِرِينَ }
اسْتَثْنَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى آلَ لُوطٍ من أَهْلِ الْقَرْيَةِ لَا من الْمُجْرِمِينَ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِثْنَاءِ من الْجِنْسِ وَآلُ لُوطٍ لم يَكُونُوا مُجْرِمِينَ ثُمَّ اسْتَثْنَى امْرَأَتَهُ من آلِهِ فَبَقِيَتْ في الْغَابِرِينَ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا يَكُونُ إقْرَارًا بِسَبْعَةٍ لِأَنَّا جَعَلْنَا الدِّرْهَمَ مُسْتَثْنًى مِمَّا يَلِيهِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ فَبَقِيَ دِرْهَمَانِ اسْتَثْنَاهُمَا من خَمْسَةٍ فَبَقِيَ ثَلَاثَةٌ اسْتَثْنَاهَا من الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ فَبَقِيَ سَبْعَةٌ
وَكَذَلِكَ لو قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا سَبْعَةَ دَرَاهِمَ إلَّا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا يَكُونُ إقْرَارًا بِسِتَّةٍ لِمَا ذَكَرْنَا من الْأَصْلِ وَهَذَا الْأَصْلُ لَا يخطىء ( ( ( يخطئ ) ) ) في إيرَادِ الِاسْتِثْنَاءِ على الِاسْتِثْنَاءِ وَإِنْ كَثُرَ
هذا إذَا كان الْأَصْلُ مُتَّصِلًا بِالْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ
فَأَمَّا إذَا كان مُنْفَصِلًا عنها بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَسَكَتَ ثُمَّ قال إلَّا دِرْهَمًا لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ إلَّا ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ يَصِحُّ وَبِهِ أَخَذَ بَعْضُ الناس
وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَيَصِحُّ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا كَبَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالتَّخْصِيصِ لِلْعَامِّ عِنْدَنَا
وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ إن صِيغَةَ الِاسْتِثْنَاءِ إذَا انْفَصَلَتْ عن الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ لَا تَكُونُ كَلَامَ اسْتِثْنَاءٍ لُغَةً لِأَنَّ الْعَرَبَ ما تَكَلَّمَتْ بِهِ أَصْلًا وَلَوْ اشْتَغَلَ بِهِ أَحَدٌ يُضْحَكُ عليه كَمَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا ثُمَّ قال بَعْدَ شَهْرٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُعَدُّ ذلك تَعْلِيقًا بِالْمَشِيئَةِ حتى لَا يَصِحَّ
كَذَا هذا
وَالرِّوَايَةُ عن ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَكَادُ تَصِحُّ بِخِلَافِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْعَامِّ لِأَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَهُمْ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا قال أبو حَنِيفَةَ فِيمَنْ قال أنت حُرٌّ وَحُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّ تَكْرِيرَ صِيغَةِ التَّحْرِيرِ لَغْوٌ فَكَانَ في مَعْنَى السَّكْتَةِ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ وَكُرُّ شَعِيرٍ إلَّا كُرَّ حِنْطَةٍ وَقَفِيزَ شَعِيرٍ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ كُرِّ الْحِنْطَةِ بِالِاتِّفَاقِ لِانْصِرَافِ كُرِّ الْحِنْطَةِ إلَى جِنْسِهِ فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً الكل ( ( ( للكل ) ) ) من الْكُلِّ فلم يَصِحَّ
وَهَلْ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْقَفِيزِ من الشَّعِيرِ قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لم يَصِحَّ اسْتِثْنَاءُ كُرِّ الْحِنْطَةِ فَقَدْ لَغَا فَكَأَنَّهُ سَكَتَ ثُمَّ اسْتَثْنَى قَفِيزَ شَعِيرٍ فلم يَصِحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ أَصْلًا
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الِاسْتِدْرَاكُ فَهُوَ في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ في الْقَدْرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ في الصِّفَةِ فَإِنْ كان في الْقَدْرِ فَهُوَ على ضَرْبَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ في الْجِنْسِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ في خِلَافِ الْجِنْسِ
فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ أَلْفَانِ فَعَلَيْهِ أَلْفَانِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عليه ثَلَاثَةُ آلَافٍ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ قَوْلَهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إقْرَارٌ بِأَلْفٍ وَقَوْلُهُ لَا رُجُوعَ وَقَوْلُهُ بَلْ اسْتِدْرَاكٌ وَالرُّجُوعُ عن الْإِقْرَارِ في حُقُوقِ الْعِبَادِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَالِاسْتِدْرَاكُ صَحِيحٌ فَأَشْبَهَ الِاسْتِدْرَاكَ في خِلَافِ الْجِنْسِ وَكَمَا إذَا قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ اثنتين أَنَّهُ يَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ وَالْمُخْبَرُ عنه مِمَّا يَجْرِي الْغَلَطُ في قَدْرِهِ أو وَصْفِهِ عَادَةً فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى اسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ فيه فَيُقْبَلُ إذَا لم يَكُنْ مُتَّهَمًا فيه وهو غَيْرُ مُتَّهَمٍ في الزِّيَادَةِ على الْمُقَرِّ بِهِ فَتُقْبَلُ منه بِخِلَافِ الِاسْتِدْرَاكِ في خِلَافِ الْجِنْسِ لِأَنَّ الْغَلَطَ في خِلَافِ الْجِنْسِ لَا يَقَعُ عَادَةً فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى استداركه ( ( ( استدراكه ) ) ) وَبِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْشَاءُ الطَّلَاقِ لُغَةً وَشَرْعًا وَالْإِنْشَاءُ لَا يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ حتى لو كان إخْبَارًا بِأَنْ قال لها كنت طَلَّقْتُكِ أَمْسِ وَاحِدَةً لَا بَلْ اثْنَتَيْنِ لَا يَقَعُ عليها إلَّا طَلَاقَانِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ إذَا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ لَا بَلْ كُرَّانِ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ أَلْفَانِ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ في النُّقْصَانِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِدْرَاكُهُ مع ما أَنَّ مِثْلَ هذا الْغَلَطِ نَادِرٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى استدركه ( ( ( استدراكه ) ) ) لإلتحاقه بِالْعَدَمِ
وَأَمَّا في خِلَافِ الْجِنْسِ كما لو قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ مِائَةُ دِينَارٍ أو لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ لَا بَلْ كُرُّ شَعِيرٍ لَزِمَهُ الْكُلُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مِثْلَ هذا الْغَلَطِ لَا يَقَعُ إلَّا نَادِرًا وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ
هذا إذَا وَقَعَ الِاسْتِدْرَاكُ في قَدْرِ الْمُقَرِّ بِهِ فَأَمَّا إذَا وَقَعَ في صِفَةِ الْمُقَرِّ بِهِ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِيضٌ لَا بَلْ سُودٌ يُنْظَرُ فيه إلَى أَرْفَعِ الصِّفَتَيْنِ وَعَلَيْهِ ذلك لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ في زِيَادَةِ الصِّفَةِ مُتَّهَمٌ في النُّقْصَانِ فَكَانَ مُسْتَدْرِكًا في الْأَوَّلِ رَاجِعًا في الثَّانِي
فَيَصِحُّ اسْتِدْرَاكُهُ وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ كما في الْأَلْفِ
____________________

(7/212)


وَالْأَلْفَيْنِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا رَجَعَ الِاسْتِدْرَاكُ إلَى الْمُقَرّ بِهِ فَأَمَّا إذَا رَجَعَ إلَى الْمُقَرِّ له بِأَنْ قال هذه الْأَلْفُ لِفُلَانٍ لَا بَلْ لِفُلَانٍ وَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْفَعُ إلَى الْمُقَرِّ له الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بها لِلْأَوَّلِ صَحَّ إقْرَارُهُ له فَصَارَ وَاجِبَ الدَّفْعِ إلَيْهِ فَقَوْلُهُ لَا بَلْ لِفُلَانٍ رُجُوعٌ عن الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ فَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ في حَقِّ الْأَوَّلِ وَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بها لِلثَّانِي في حَقِّ الثَّانِي ثُمَّ إنْ دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يَضْمَنُ لِلثَّانِي لِأَنَّ إقْرَارَهُ بها لِلثَّانِي في حَقِّ الثَّانِي صَحِيحٌ إن لم يَصِحَّ في حَقِّ الْأَوَّلِ وإذا صَحَّ صَارَ وَاجِبَ الدَّفْعِ إلَيْهِ فإذا دَفَعَهَا إلَى الْأَوَّلِ فَقَدْ أَتْلَفَهَا عليه فَيَضْمَنُ وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ لو ضَمِنَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَضْمَنَ بِالدَّفْعِ وَإِمَّا أَنْ يَضْمَنَ بِالْإِقْرَارِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ في الدَّفْعِ من جِهَةِ الْقَاضِي فَيَكُونُ كَالْمُكْرَهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لِلْغَيْرِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ
وَلَوْ قال غَصَبْتُ هذا الْعَبْدَ من فُلَانٍ لَا بَلْ من فُلَانٍ يَدْفَعُ إلَى الْأَوَّلِ وَيَضْمَنُ لِلثَّانِي سَوَاءٌ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءٍ أو بِغَيْرِ قَضَاءٍ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ إقرار ( ( ( إقرارا ) ) ) بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وهو رَدُّ الْعَيْنِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَقِيمَةِ الْعَيْنِ عِنْدَ الْعَجْزِ وقد عَجَزَ عن رَدِّ الْعَيْنِ إلَى الْمُقَرِّ له الثَّانِي فَيَلْزَمُهُ رَدُّ قِيمَتِهِ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ لِلْغَيْرِ ليس بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لإنعدام الْإِتْلَافِ وَإِنَّمَا التَّلَفُ في تَسْلِيمِ مَالِ الْغَيْرِ إلَى الْغَيْرِ بِاخْتِيَارِهِ على وَجْهٍ يَعْجِزُ عن الْوُصُولِ إلَيْهِ فَلَا جَرَمَ إذَا وُجِدَ يَجِبُ الضَّمَانُ
وَكَذَلِكَ لو قال هذه الْأَلْفُ لِفُلَانٍ أَخَذْتُهَا من فُلَانٍ أو أَقْرَضَنِيهَا فُلَانٌ وَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهِيَ لِلْمُقَرِّ له الْأَوَّلِ وَيَضْمَنُ لِلَّذِي أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَ منه أو أَقْرَضَهُ أَلْفًا مثله لِأَنَّ الْأَخْذَ وَالْقَرْضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهِمَا إقْرَارًا بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَيَرُدُّ الْأَلْفَ الْقَائِمَةَ إلَى الْأَوَّلِ لِصِحَّةِ إقْرَارِهِ بها له وَيَضْمَنُ لِلثَّانِي أَلْفًا أُخْرَى ضَمَانًا لِلْأَخْذِ وَالْقَرْضِ وَلَوْ قال أَوْدَعَنِي فُلَانٌ هذه الْأَلْفَ لَا بَلْ فُلَانٌ يَدْفَعُ إلَى الْمُقَرِّ له الْأَوَّلِ لِمَا بَيَّنَّا ثُمَّ إنْ دَفَعَ إلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يَضْمَنُ لِلثَّانِي بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ دَفَعَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَضْمَنُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْإِيدَاعِ من الثَّانِي صَحِيحٌ في حَقِّ الثَّانِي فَوَجَبَ عليه الْحِفْظُ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ وقد فَوَّتَهُ بِالْإِقْرَارِ لِلْأَوَّلِ بَلْ اسْتَهْلَكَهُ فَكَانَ مَضْمُونًا عليه
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ فَوَاتَ الْحِفْظِ وَالْهَلَاكَ حَصَلَ بِالدَّفْعِ إلَى الْأَوَّلِ بِالْإِقْرَارِ وَالدَّفْعُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ قال دَفَعَ إلَيَّ هذه الْأَلْفَ فُلَانٌ وَهِيَ لِفُلَانٍ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أنها له فَهِيَ لِلدَّافِعِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِدَفْعِ فُلَانٍ قد صَحَّ فَصَارَ وَاجِبَ الرَّدِّ عليه وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ إقْرَارِهِ لِلثَّانِي في حَقِّ الْأَوَّلِ لَكِنْ يَصِحُّ في حَقِّ الثَّانِي
وَلَوْ قال هذه الْأَلْفُ لِفُلَانٍ دَفَعَهَا إلَيَّ فُلَانٌ فَهِيَ لِلْمُقَرِّ له بِالْمِلْكِ وَلَا يَكُونُ لِلدَّافِعِ شَيْءٌ فإذا ادَّعَى الثَّانِي ضَمِنَ له أَلْفًا أُخْرَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ بها لِلْأَوَّلِ يُوجِبُ الرَّدَّ إلَيْهِ وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ إقْرَارِهِ لِلثَّانِي في حَقِّ الْأَوَّلِ لَكِنَّهُ يَصِحُّ في حَقِّ الثَّانِي ثُمَّ إنْ دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يَضْمَنُ وَإِنْ دَفَعَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَضْمَنُ
وَالْحُجَجُ من الْجَانِبَيْنِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا
وَلَوْ قال هذه الْأَلْفُ لِفُلَانٍ أَرْسِلْ بها إلَى فُلَانٍ فإنه يَرُدُّهَا على الذي أَقَرَّ أنها مِلْكُهُ
وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَا قُلْنَا وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِلثَّانِي عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
فَرَّقَ أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ بين الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَبَضْتَهَا من فُلَانٍ فَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ عليه لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ هُنَاكَ أَلْفٌ في الذِّمَّةِ فَيَلْزَمُهُ ذلك بِإِقْرَارِهِ له وَلَزِمَهُ أَلْفٌ أُخْرَى لِفُلَانٍ بِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِهَا منه إذْ الْقَبْضُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَلَزِمَهُ أَلْفَانِ
وَهَهُنَا الْمُقَرُّ بِهِ عَيْنٌ مُشَارٌ إلَيْهَا فَمَتَى صَحَّ إقْرَارُهُ بها لم يَصِحَّ لِلثَّانِي وَذَكَرَ قَوْلَ أبي يُوسُفَ في الْأَصْلِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عليه لِلثَّانِي بِحَالٍ بِانْتِهَاءِ الرِّسَالَةِ بِالْوُصُولِ إلَى الْمُقِرِّ وفي الْآخَرِ أَنَّهُ إنْ دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يَضْمَنُ فَإِنْ قال الذي أَقَرَّ له أنها مِلْكُهُ لَيْسَتْ الْأَلْف لي وَادَّعَاهَا الرَّسُولُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لِلْأَوَّلِ قد ارْتَدَّ بِرَدِّهِ وقد أَقَرَّ بِالْيَدِ لِلرَّسُولِ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ
وَلَوْ كان الذي أَقَرَّ له أنها مِلْكُهُ غَائِبًا وَأَرَادَ الرَّسُولُ أَنْ يَأْخُذَهَا وَادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ لم يَأْخُذْهَا
كَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ لِأَنَّ رِسَالَتَهُ قد انْتَهَتْ بِالْوُصُولِ إلَى الْمُقِرِّ وَلَوْ أَقَرَّ إلَى خَيَّاطٍ فقال هذا الثَّوْبُ أَرْسَلَهُ إلَيَّ فُلَانٌ لِأَقْطَعَهُ قَمِيصًا وهو لِفُلَانٍ فَهُوَ الذي ( ( ( للذي ) ) )
____________________

(7/213)


أَرْسَلَهُ إلَيْهِ وَلَيْسَ لِلثَّانِي شَيْءٌ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْيَدِ لِلْمُرْسِلِ فَصَارَ وَاجِبَ الرَّدِّ عليه وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ إقْرَارِهِ بِالْمِلْكِ الثَّانِي كما إذَا قال دَفَعَ إلَيَّ هذه الْأَلْفَ فُلَانٌ وَهِيَ لِفُلَانٍ على ما بَيَّنَّا
وَلَوْ قال الْخَيَّاطُ هذا الثَّوْبُ الذي في يَدِي لِفُلَانٍ أَرْسَلَهُ إلَيَّ فُلَانٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِيهِ فَهُوَ لِلَّذِي أَقَرَّ له أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَا يَضْمَنُ لِلثَّانِي شيئا في قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَضْمَنُ بِنَاءً على أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ لَا ضَمَانَ عليه فِيمَا هَلَكَ في يَدِهِ عِنْدَهُ فَأَشْبَهَ الْوَدِيعَةَ وَعِنْدَهُمَا عليه الضَّمَانُ فَأَشْبَهَ الْغَصْبَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَلِيمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْقَرِينَةُ الْمَبْنِيَّةُ على الاطلاق فَهِيَ الْمُعَيِّنَةُ لِبَعْضِ ما يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ بِأَنْ كان اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ هذا وَذَاكَ قبل وُجُودِ الْقَرِينَةِ فإذا وُجِدَتْ الْقَرِينَةُ بتعين ( ( ( يتعين ) ) ) الْبَعْضُ مُرَادًا بِاللَّفْظِ من غَيْرِ تَغْيِيرٍ أَصْلًا ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان اللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُمَا على السَّوَاءِ يَصِحُّ بَيَانُهُ مُتَّصِلًا كان أو مُنْفَصِلًا وَإِنْ كان لِأَحَدِهِمَا ضَرْبُ رُجْحَانٍ فَإِنْ كان الْإِفْهَامُ إلَيْهِ أَسْبَقَ عِنْد الْإِطْلَاقِ من غَيْرِ قَرِينَةٍ فَإِنْ كان مُنْفَصِلًا لَا يَصِحُّ وَإِنْ كان مُتَّصِلًا يَصِحُّ إذَا لم يَتَضَمَّنْ الرُّجُوعَ وَإِنْ تَضَمَّنَ مَعْنَى الرُّجُوعِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمُقَرِّ له وَهَذَا النَّوْعُ من الْقَرِينَةِ أَيْضًا يَتَنَوَّعُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ يَدْخُلُ على أَصْلِ الْمُقَرِّ بِهِ وَنَوْعٌ يَدْخُلُ على وَصْفِ الْمُقَرِّ بِهِ وَنَوْعٌ يَدْخُلُ على قَدْرِ الْمُقَرِّ بِهِ
أَمَّا الذي يَدْخُلُ على أَصْلِ الْمُقَرِّ بِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مَجْهُولَ الذَّاتِ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ أو حَقٌّ يَصِحُّ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عن كَائِنٍ وَذَلِكَ قد يَكُونُ مَعْلُومًا وقد يَكُونُ مَجْهُولًا بِأَنْ أَتْلَفَ على آخَرَ شيئا ليس من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَوَجَبَتْ عليه قِيمَتُهُ أو جَرَحَ آخَرَ جِرَاحَةً ليس لها في الشَّرْعِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَأَقَرَّ بِالْقِيمَةِ وَالْأَرْشِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْمَجْهُولِ إخْبَارًا عن الْمُخْبِرِ على ما هو بِهِ وهو حَدُّ الصِّدْقِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمَشْهُودِ بِهِ تَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِالشَّهَادَةِ لِتَعَذُّرِ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَيَصِحُّ وَيُقَالُ له بَيِّنْ لِأَنَّهُ الْمُجْمِلُ فَكَانَ الْبَيَانُ عليه قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فإذا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } وَيَصِحُّ بَيَانُهُ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا لِأَنَّهُ بَيَانٌ مَحْضٌ فَلَا يُشْتَرَطُ فيه الْوَصْلُ كَبَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْمُشْتَرَكَ لَكِنْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُبَيِّنَ شيئا له قِيمَةٌ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا في ذِمَّتِهِ وما لَا قِيمَةَ له لَا يَثْبُتُ في الذِّمَّةِ
ثُمَّ إذَا بَيَّنَ شيئا له قِيمَةٌ فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ صَدَّقَهُ في ذلك وَادَّعَى عليه زِيَادَةً وَإِمَّا أن كَذَّبَهُ وَادَّعَى عليه مَالًا آخَرَ فَإِنْ صَدَّقَهُ فِيمَا بَيَّنَ وَادَّعَى عليه زِيَادَةً أَخَذَ ذلك الْقَدْرَ الْمُبَيَّنَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ على الزِّيَادَةِ وَإِلَّا حَلَّفَهُ عليها إنْ أَرَادَ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مع يَمِينِهِ
وَإِنْ كَذَّبَهُ وَادَّعَى عليه مَالًا آخَرَ أَقَامَ البينة ( ( ( بينة ) ) ) على مَالٍ آخَرَ وَإِلَّا حَلَّفَهُ عليه وَلَيْسَ له أَنْ يَأْخُذَ الْقَدْرَ الْمُبَيَّنَ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ إقْرَارَهُ له بِالتَّكْذِيبِ وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ من فُلَانٍ شيئا ولم يُبَيِّنْ يَلْزَمُهُ الْبَيَانُ لِمَا قُلْنَا وَلَكِنْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُبَيِّنَ شيئا يَتَمَانَعُ في الْعَادَةِ وَيُقْصَدُ بِالْغَصْبِ لِأَنَّ ما لَا يَتَمَانَعُ عَادَةً وَلَا يُقْصَدُ غَصْبُهُ نَحْوُ كَفٍّ من تُرَابٍ أو غَيْرِهِ لَا يُطْلَقُ فيه اسْمُ الْغَصْبِ
وَهَلْ يُشْتَرَطُ مع ذلك أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال مَشَايِخُ الْعِرَاقِ لَا يُشْتَرَطُ وقال مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يُشْتَرَطُ حتى لو بَيَّنَ أَنَّهُ غَصَبَ صَبِيًّا حُرًّا أو غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ أو خَمْرَ مُسْلِمٍ يُصَدَّقُ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ وَلَا يُصَدَّقُ عِنْدَ الْآخَرِينَ حتى يُبَيِّنَ شيئا هو مَالٌ مُتَقَوِّمٌ
وَجْهُ قَوْلِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ وُجُوبُ رَدِّ الْمَغْصُوبِ وَهَذَا لَا يَقِفُ على كَوْنِ الْمَغْصُوبِ مَالًا مُتَقَوِّمًا
وَجْهُ قَوْلِ مَشَايِخِنَا أَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ على الْغَاصِبِ وَلَهُ ضَمَانَانِ أَحَدُهُمَا وُجُوبُ رَدِّ الْعَيْنِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَالثَّانِي وُجُوبُ قِيمَتِهَا عِنْدَ الْعَجْزِ فَكَانَ إقْرَارُهُ بِغَصْبِ شَيْءٍ إقْرَارًا بِغَصْبِ ما يَحْتَمِلُ مُوجِبُهُ وهو الْمَالُ الْمُتَقَوِّمُ
وَلَوْ بَيَّنَ غَصْبَ الْعَقَارِ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُصَدَّقُ وَهَذَا على قِيَاسِ قَوْلِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ
لِأَنَّ الْعَقَارَ وَإِنْ لم يَكُنْ مَضْمُونَ الْقِيمَةِ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَهُوَ مَضْمُونُ الرَّدِّ بِالِاتِّفَاقِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى هو مَضْمُونُ الْقِيمَةِ أَيْضًا فَأَمَّا على قِيَاسِ قَوْلِ مَشَايِخِنَا على قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُصَدَّقُ
وَأَمَّا على قِيَاسِ قَوْلِهِمَا لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونِ الْقِيمَةِ بِالْغَصْبِ عِنْدَهُمَا
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا إذَا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ يُصَدَّقُ في الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ لِأَنَّ الْمَالَ اسْمُ ما يُتَمَوَّلُ وَذَا يَقَعُ على الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَيَصِحُّ بَيَانُهُ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ ولم يُبَيِّنْ فَالْبَيَانُ إلَيْهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

____________________

(7/214)


فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَدْخُلُ على وَصْفِ الْمُقَرِّ بِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مَعْلُومَ الْأَصْلِ مَجْهُولَ الْوَصْفِ نحوأن يَقُولَ غَصَبَ من فُلَانٍ عَبْدًا أو جَارِيَةً أو ثَوْبًا من الْعُرُوضِ فَيُصَدَّقُ في الْبَيَانِ من جِنْسِ ذلك سَلِيمًا كان أو مَعِيبًا لِأَنَّ الْغَصْبَ يُرَدُّ على السَّلِيمِ وَالْمَعِيبِ عَادَةً وقد بَيَّنَ الْأَصْلَ وَأَجْمَلَ الْوَصْفَ فَيَرْجِعُ في بَيَانِ الْوَصْفِ إلَيْهِ فَيَصِحُّ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا وَمَتَى صَحَّ بَيَانُهُ يَلْزَمُهُ الرَّدُّ إنْ قَدَرَ عليه وَإِنْ عَجَزَ عنه تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ على هذا الْوَجْهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ في مِقْدَارِ قِيمَتِهِ مع يَمِينِهِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مع الْيَمِينِ
وَكَذَلِكَ لو أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ من فُلَانٍ دَارًا وقال هِيَ بِالْبَصْرَةِ يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ أَجْمَلَ الْمَكَانَ فَكَانَ الْقَوْلُ في بَيَانِ الْمَكَانِ إلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الدَّارِ إلَيْهِ إنْ قَدَرَ عليه وَإِنْ عَجَزَ عنه بِأَنْ خُرِّبَتْ أو قال هِيَ هذه الدَّارُ التي في يَدَيْ زَيْدٍ وَزَيْدٌ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْآخَر وَلَا يَضْمَنُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ قِيمَةَ الدَّارِ بِنَاءً على أَنَّ الْعَقَارَ غَيْرُ مَضْمُونِ الْقِيمَةِ بِالْغَصْبِ عِنْدَهُمَا خِلَافًا له فإذا أَقَرَّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وقال هِيَ زُيُوفٌ أو نَبَهْرَجَةٌ فَهَذَا في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ مُطْلَقًا من غَيْرِ بَيَانِ الْجِهَةِ وَإِمَّا أن بَيَّنَ الْجِهَةَ فَإِنْ أَطْلَقَ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ولم يذكر له جِهَةً أَصْلًا وقال هِيَ زُيُوفٌ أو نَبَهْرَجَةٌ فَإِنْ وَصَلَ يُصَدَّقُ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ اسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ على الْجِيَادِ وَالزُّيُوفِ فَكَانَ قَوْلُهُ زُيُوفٌ بَيَانًا لِلنَّوْعِ إلَّا أَنَّهُ يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا لِأَنَّهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تُصْرَفُ إلَى الْجِيَادِ فَكَانَ فَصْلُ الْبَيَانِ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يَصِحُّ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ وقال هِيَ زُيُوفٌ أو نَبَهْرَجَةٌ يُصَدَّقُ وَصَلَ أو فَصَلَ لِأَنَّ هذا إقْرَارٌ بالوديعة والوديعة مَالٌ مَحْفُوظٌ عِنْدَ الْمُودَعِ
وقد يَكُونُ ذلك جَيِّدًا وقد يَكُونُ زُيُوفًا على حَسَبِ ما يُودَعُ فَيُقْبَلُ بَيَانُهُ
هذا إذَا أَطْلَقَ ولم يُبَيِّنْ الْجِهَةَ أَمَّا إذَا بَيَّنَ الْجِهَةَ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنَ مَبِيعٍ وقال هِيَ زُيُوفٌ أو نَبَهْرَجَةٌ فَلَا يُصَدَّقُ وَإِنْ وَصَلَ وَعَلَيْهِ الْجِيَادُ إذَا ادَّعَى الْمُقَرُّ له الْجِيَادَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ وَصَلَ يُصَدَّقْ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا ما ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ يَقَعُ على الزُّيُوفِ كما يَقَعُ على الجهاد ( ( ( الجياد ) ) ) إذْ هو اسْمُ جِنْسٍ وَالزِّيَافَةُ عَيْبٌ فيها وَاسْمُ كل جِنْسٍ يَقَعُ على السَّلِيمِ وَالْمَعِيبِ من ذلك الْجِنْسِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ من الْجِنْسِ لَكِنْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْجِيَادِ فَيَصِحُّ بَيَانُهُ مَوْصُولًا لِوُقُوعِهِ تَعْيِينَا لِبَعْضِ ما يَحْتَمِلهُ اللَّفْظُ وَلَا يَصِحُّ مَفْصُولًا لِكَوْنِهِ رُجُوعًا عن الْإِقْرَارِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ قَوْلَهُ هِيَ زُيُوفٌ بَعْدَ النِّسْبَةِ إلَى ثَمَنِ الْمَبِيعِ رُجُوعٌ عن الْإِقْرَارِ فَلَا يَصِحُّ بَيَانُهُ أَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُبَادَلَةٍ فَيَقْتَضِي سَلَامَةَ الْبَدَلَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الْعَاقِدَيْنِ لَا يَرْضَى إلَّا بِالْبَدَلِ السَّلِيمِ فَكَانَ إقْرَارُهُ بِكَوْنِ الدَّرَاهِمِ ثَمَنًا إقْرَارًا بِصِفَةِ السَّلَامَةِ فَإِخْبَارُهُ عن الزِّيَافَةِ يَكُونُ رُجُوعًا فَلَا يَصِحُّ كما إذَا قال بِعْتُكَ هذا الْعَبْدَ على أَنَّهُ مَعِيبٌ لَا يُصَدَّقُ وَإِنْ وَصَلَ
كَذَا هذا
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضًا وقال هِيَ زُيُوفٌ فَالْجَوَابُ فيه كَالْجَوَابِ في الْبَيْعِ إنْ وَصَلَ يُصَدَّقْ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْقَرْضَ في الْحَقِيقَةِ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ كَالْبَيْعِ فَكَانَ في اسْتِدْعَاءِ صِفَةِ السَّلَامَةِ كَالْبَيْعِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْقَرْضَ يُشْبِهُ الْغَصْبَ لِأَنَّهُ يَتِمُّ بِالْقَبْضِ كَالْغَصْبِ ثُمَّ بَيَانُ الزِّيَافَةِ مَقْبُولٌ في الْغَصْبِ كَذَا في الْقَرْضِ وَيُشْبِهُ الْبَيْعَ لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ مَالٍ بِمَالٍ فَلِشَبَهِهِ بِالْغَصْبِ احْتَمَلَ الْبَيَانَ في الْجُمْلَةِ وَلِشَبَهِهِ بِالْبَيْعِ شَرَطْنَا الْوَصْلَ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَلَوْ قال غَصَبَ من فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وقال هِيَ زُيُوفٌ أو نَبَهْرَجَةٌ يُصَدَّقُ سَوَاءٌ وَصَلَ أو فَصَلَ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ إذَا فَصَلَ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْغَصْبَ في الْأَجْوَدِ لَا يَسْتَدْعِي صِفَةَ السَّلَامَةِ لِأَنَّهُ كما يَرِدُ على السَّلِيمِ يَرِدُ على الْمَعِيبِ على حَسَبِ ما يَتَّفِقُ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْبَيَانِ مُتَّصِلًا أو مُنْفَصِلًا لِانْعِدَامِ مَعْنَى الرُّجُوعِ فيه وَلِهَذَا لو كان الْمُقَرُّ بِهِ غَصْبُ عبدا بِأَنْ قال غَصَبْتُ من فُلَانٍ عَبْدًا ثُمَّ قال غَصَبْتُهُ وهو مَعِيبٌ يُصَدَّقُ وَإِنْ فَصَلَ
كَذَا هذا
وَلَوْ قال أَوْدَعَنِي فُلَانٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ وقال هِيَ زُيُوفٌ يُصَدَّقُ بِلَا خِلَافٍ فَصَلَ أو وَصَلَ لِأَنَّ الْإِيدَاعَ اسْتِحْفَاظُ الْمَالِ وَكَمَا يُسْتَحْفَظُ السَّلِيمُ يُسْتَحْفَظُ الْمَعِيبُ فَكَانَ الْإِخْبَارُ عن الزِّيَافَةِ بَيَانًا مَحْضًا فَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ الْوَصْلُ لِانْعِدَامِ تَضَمُّنِ مَعْنَى الرُّجُوعِ
وأبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ على ما رُوِيَ عنه فَرَّقَ بين الْوَدِيعَةِ وَبَيْنَ الْغَصْب حَيْثُ صَدَّقَهُ في الْوَدِيعَةِ مَوْصُولًا كان الْبَيَانُ أو مَفْصُولًا ولم يُصَدِّقْهُ
____________________

(7/215)


في الْغَصْبِ إلَّا مَوْصُولًا
وَوَجْهُ الْفَرْقِ له أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضمان مُبَادَلَةٌ إذ الْمَضْمُونَاتُ تُمْلَكُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ فَأَشْبَهَ ضَمَانَ الْمَبِيعِ وهو الثَّمَنُ وفي بَابِ الْبَيْعِ لَا يُصَدَّقُ إذَا فَصَلَ عِنْدَهُ كَذَا في الْغَصْبِ
فَأَمَّا الْوَاجِبُ في بَابِ الْوَدِيعَةِ فَهُوَ الْحِفْظُ وَالْمَعِيبُ في احْتِمَالِ الْحِفْظِ كَالسَّلِيمِ فَهُوَ الْفَرْقُ له
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
هذا إذَا أَقَرَّ بِالدَّرَاهِمِ وقال هِيَ زُيُوفٌ أو نَبَهْرَجَةٌ فَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بها وقال هِيَ سَتُّوقَةٌ أو رَصَاصٌ فَفِي الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ يُصَدَّقُ إنْ وَصَلَ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ لِأَنَّ السَّتُّوقَ وَالرَّصَاصَ لَيْسَا من جِنْسِ الدَّرَاهِمِ إلَّا أَنَّهُ يُسَمَّى بها مَجَازًا فَكَانَ الْإِخْبَارُ عن ذلك بَيَانًا مُغَيِّرًا فَيَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا كَالِاسْتِثْنَاءِ
وَأَمَّا في الْبَيْعِ إذَا قال ابْتَعْتُ بِأَلْفِ سَتُّوقَةٍ أو رَصَاصٍ فَلَا يُصَدَّقُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَصَلَ أو وَصَلَ وَهَذَا لَا يُشْكِلُ عِنْدَهُ
لِأَنَّهُ لو قال ابْتَعْتُ بِأَلْفٍ زُيُوفٍ لَا يُصَدَّقُ عِنْدَهُ وَصَلَ أو فَصَلَ فَهَهُنَا أَوْلَى
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُصَدَّقُ وَلَكِنْ يَفْسُدُ الْبَيْعُ
أَمَّا التَّصْدِيقُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ سَتُّوقَةٌ أو رَصَاصٌ خَرَجَ بَيَانًا لِوَصْفِ الثَّمَنِ فَيَصِحُّ كما إذَا قال بِأَلْفٍ بِيضٍ أو بِأَلْفٍ سُودٍ
وَأَمَّا فَسَادُ الْبَيْعِ فَلِأَنَّ تَسْمِيَةَ السَّتُّوقَةِ في الْبَيْعِ يُوجِبُ فَسَادَهُ كَتَسْمِيَةِ الْعُرُوضِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِيضٌ زُيُوفٌ أو وَضَحٌ زُيُوفٌ أَنَّهُ يُصَدَّقُ إذَا وَصَلَ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ جِيَادٌ زُيُوفٌ أو فقد ( ( ( نقد ) ) ) بَيْتِ الْمَالِ زُيُوفٌ لَا يُصَدَّقُ وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْبَيَاضَ يَحْتَمِلُ الْجُودَةَ وَالزِّيَافَةَ إذْ الْبِيضُ قد تَكُونُ جِيَادًا وقد تَكُونُ زُيُوفًا فَاحْتَمَلَ الْبَيَانَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ جِيَادٌ لِأَنَّ الْجُودَةَ لَا تَحْتَمِلُ الزِّيَافَةَ لِتَضَادٍّ بين الصِّفَتَيْنِ فَلَا يُصَدَّقُ أَصْلًا
وَعَلَى هذا إذَا أَقَرَّ بِأَلْفٍ ثَمَنِ عَبْدٍ اشْتَرَاهُ لم يَقْبِضْهُ فَهَذَا لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ ذَكَرَ عَبْدًا مُعَيَّنًا مُشَارًا إلَيْهِ بِأَنْ قال ثَمَنُ هذا الْعَبْدِ وَإِمَّا أن ذَكَرَ عَبْدًا من غَيْرِ تَعْيِينٍ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنِ عَبْدٍ اشْتَرَيْتُهُ منه ولم أَقْبِضْهُ فَإِنْ ذكر ( ( ( ذكرا ) ) ) عَبْدًا بِعَيْنِهِ فَإِنْ صَدَّقَهُ في الْبَيْعِ يُقَالُ لِلْمُقَرِّ له إنْ شِئْتَ أَنْ تَأْخُذَ الْأَلْفَ فَسَلِّمْ الْعَبْدَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لك لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ ثَمَنُ الْمَبِيعِ وقد ثَبَتَ الْبَيْعُ بِتَصَادُقِهِمَا وَالْبَيْعُ يَقْتَضِي تَسْلِيمًا بِإِزَاءِ تَسْلِيمٍ وَإِنْ كَذَّبَهُ في الْبَيْعِ وقال ما بِعْتُ مِنْكَ شيئا وَالْعَبْدُ عَبْدِي وَلِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ بِسَبَبٍ آخَرَ فَالْعَبْدُ لِلْمُقَرِّ له لِأَنَّهُ يَدَّعِي عليه الْبَيْعَ وهو يُنْكِرُ وَلَا شَيْءَ له على الْمُقَرِّ من الثَّمَنِ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ ثَمَنُ الْمَبِيعِ لَا غَيْرُهُ ولم يَثْبُتْ الْبَيْعُ
فَإِنْ ذَكَرَ عَبْدًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَلَا يُصَدَّقُ في عَدَمِ الْقَبْضِ سَوَاءٌ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ له في الْبَيْعِ أو كَذَّبَهُ وكان أبو يُوسُفَ أَوَّلًا يقول إنْ وَصَلَ يُصَدَّقُ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقُ
ثُمَّ رَجَعَ وقال يسئل ( ( ( يسأل ) ) ) الْمُقَرُّ له عن الْجِهَةِ فَإِنْ صَدَّقَهُ فيها لَكِنْ كَذَّبَهُ في الْقَبْضِ كان الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقِرِّ سَوَاءٌ وَصَلَ أو فَصَلَ
وَإِنْ كَذَّبَهُ في الْبَيْعِ وَادَّعَى عليه أَلْفًا أُخْرَى إنْ وَصَلَ يُصَدَّقْ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ
وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ
وَجْهُ قول الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ ثَمَنُ الْمَبِيعِ وَالْمَبِيعُ قد يَكُونُ مَقْبُوضًا وقد لَا يَكُونُ إلَّا أَنَّ الْغَالِبَ هو الْقَبْضُ فَكَانَ قَوْلُهُ لم أَقْبِضْهُ بَيَانًا فيه مَعْنَى التَّغْيِيرِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ فَيُصَدَّقُ بِشَرْطِ الْوَصْلِ كَالِاسْتِثْنَاءِ
وَجْهُ قول الْآخَرِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْقَبْضَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْجِهَةِ بِتَصَادُقِهِمَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ لِأَنَّ الْقَبْضَ لَا يَلْزَمُ في الْبَيْعِ فَكَانَ قَوْلُهُ لم أَقْبِضْهُ تَعْيِينًا لِبَعْضِ ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَكَانَ بَيَانًا مَحْضًا فَلَا يُشْتَرَطُ له الْوَصْلُ لِبَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْمُشْتَرَكِ
وإذا كَذَّبَهُ يُشْتَرَطُ الْوَصْلُ لِأَنَّهُ لو اقْتَصَرَ على قَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَوَجَبَ عليه التَّسْلِيمُ للحال ( ( ( للمال ) ) )
فإذا قال ثَمَنُ عَبْدٍ لم أَقْبِضْهُ لَا يَجِبُ عليه التَّسْلِيمُ إلَّا بِتَسْلِيمِ الْعَبْدِ فَكَانَ بَيَانًا فيه مَعْنَى التَّغْيِيرِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِشَرْطِ الْوَصْلِ كَالِاسْتِثْنَاءِ
وَوَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ قَوْلَهُ لم أَقْبِضْهُ رُجُوعٌ عن الْإِقْرَارِ فَلَا يَصِحُّ بَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إقْرَارٌ بِوِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ لِلْمُقَرِّ له بِالْأَلْفِ وَلَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ إلَّا بِقَبْضِ الْمَبِيعِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ إقْرَارًا بِقَبْضِ الْمَبِيعِ فَقَوْلُهُ لم أَقْبِضْهُ يَكُونُ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يَصِحُّ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِرْهَمٍ ثَمَنُ خَمْرٍ أو خِنْزِيرٍ فَعَلَيْهِ أَلْفٌ وَلَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ في ذِمَّةِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ ثَمَنُ خَمْرٍ أو خِنْزِيرٍ وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِ لَا تَحْتَمِلُهُ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ أَصْلًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ قَوْلَهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إقْرَارٌ بِأَلْفٍ وَاجِبٍ في ذِمَّتِهِ وَقَوْلُهُ ثَمَنُ خَمْرٍ أو خِنْزِيرٍ إبْطَالٌ لِمَا أَقَرَّ بِهِ
لِأَنَّ ذِمَّةَ الْمُسْلِمِ لَا تَحْتَمِلُ ثَمَنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَكَانَ رُجُوعًا فَلَا يَصِحُّ
وَلَوْ قال اشْتَرَيْتُ من فُلَانٍ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَكِنِّي لم أَقْبِضْهُ يُصَدَّقُ وَصَلَ أو فَصَلَ لِأَنَّ الشِّرَاءَ قد
____________________

(7/216)


يَتَّصِلُ بِهِ الْقَبْضُ وقد لَا يَتَّصِلُ فَكَانَ قَوْلُهُ لم أَقْبِضْ بَيَانًا مَحْضًا فَيَصِحُّ مُتَّصِلًا أو مُنْفَصِلًا
وَلَوْ قال أَقْرَضَنِي فُلَانٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ ولم أَقْبِضْ إنَّمَا طَلَبْتُ أليه الْقَبْضَ فَأَقْرَضَنِي ولم أَقْبِضْ إنْ وَصَلَ يُصَدَّقْ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ
وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يُصَدَّقَ وَصَلَ أو فَصَلَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ هو الْقَرْضُ وهو اسْمٌ لِلْعَقْدِ لَا لِلْقَبْضِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِهِ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ كما لَا يَكُونُ الْإِقْرَار بِالْبَيْعِ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ تَمَامَ الْقَرْضِ بِالْقَبْضِ كما أَنَّ تَمَامَ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ ظَاهِرًا لَكِنْ يَحْتَمِلُ الِانْفِصَالَ في الْحُكْمِ فَكَانَ قَوْلُهُ لم أَقْبِضْ بَيَانًا مَعْنًى فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِشَرْطِ الْوَصْلِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالِاسْتِدْرَاكِ
وَكَذَلِكَ لو قال أَعْطَيْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أو أَوْدَعْتَنِي أو أَسْلَفْتَنِي أو أَسْلَمْتَ إلَيَّ وقال لم أَقْبِضْ لَا يُصَدَّقُ إنْ فَصَلَ وَإِنْ وَصَلَ يُصَدَّقُ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ وَالْإِيدَاعَ وَالْإِسْلَافَ يَسْتَدْعِي الْقَبْضَ حَقِيقَةً خُصُوصًا عِنْدَ الْإِضَافَةِ فَلَا يَصِحُّ مُنْفَصِلًا لَكِنْ يَحْتَمِلُ الْعَدَمَ في الْجُمْلَةِ فَيَصِحُّ مُتَّصِلًا
وَلَوْ قال بِعْتَنِي دَارَكَ أو آجَرْتَنِي أو أَعَرْتَنِي أو وَهَبْتَنِي أو تَصَدَّقْتَ عَلَيَّ وقال لم أَقْبِضْ يُصَدَّقُ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ
أَمَّا الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالْإِعَارَةُ لِأَنَّ الْقَبْضَ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ هذه التَّصَرُّفَاتِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بها إقْرَارًا بِالْقَبْضِ وَأَمَّا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ فَلِأَنَّ الْهِبَةَ اسْمٌ لِلرُّكْنِ وهو التَّمْلِيكُ وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَإِنَّمَا الْقَبْضُ فِيهِمَا شَرْطُ الْحُكْمِ وَلِهَذَا لو حَلَفَ لَا يَهَبُ وَلَا يَتَصَدَّقُ فَفَعَلَ ولم يَقْبِضْ الْمَوْهُوبُ له وَالْمُتَصَدَّقُ عليه يَحْنَثُ
وَلَوْ قال نَقَدْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أو دَفَعْتَ إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ وقال لم أَقْبِضْ إنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ وَصَلَ لَا يُصَدَّقْ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُصَدَّقُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ النَّقْدَ وَالدَّفْعَ يَقْتَضِي الْقَبْضَ حَقِيقَةً بِمَنْزِلَةِ الْأَدَاءِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْإِعْطَاءِ وَالْإِسْلَامِ وَيَحْتَمِلُ الِانْفِصَالَ في الْجُمْلَةِ فَيَصِحُّ بِشَرِيطَةِ الْوَصْلِ كما في هذه الْأَشْيَاءِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْقَبْضَ من لَوَازِمَ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ أَعْنِي النَّقْدَ وَالدَّفْعَ خُصُوصًا عِنْدَ صَرِيحِ الْإِضَافَةِ وَالْإِقْرَارُ بِأَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ إقْرَارٌ بِالْآخَرِ فَقَوْلُهُ لم أَقْبِضْ يَكُونُ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يَصِحُّ
وَعَلَى هذا إذَا قال لِرَجُلٍ أَخَذْتُ مِنْكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَهَلَكَتْ عِنْدِي فقال الرَّجُلُ لَا بَلْ أَخَذْتَهَا غَصْبًا لَا يُصَدَّقُ فيه الْمُقِرُّ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ له مع يَمِينِهِ وَالْمُقِرُّ ضَامِنٌ
وَلَوْ قال الْمُقَرُّ له لَا بَلْ أَقْرَضْتُكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ مع يَمِينِهِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ في الْأَصْلِ لِقَوْلِ النبي على الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تَرُدَّ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْأَخْذِ إقْرَارًا بِسَبَبِ الْوُجُوبِ فَدَعْوَى الْإِذْنِ تَكُونُ دَعْوَى الْبَرَاءَةِ عن الضَّمَانِ وَصَاحِبُهُ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَقْرَضْتُكَ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْقَبْضِ إقْرَارٌ بِالْأَخْذِ بِالْإِذْنِ فَتَصَادَقَا على أَنَّ الْأَخْذَ كان بِإِذْنٍ وَالْأَخْذُ بِإِذْنٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ في الْأَصْلِ فَكَانَ دَعْوَى الْإِقْرَاضِ دَعْوَى الْأَخْذِ بِجِهَةِ الضَّمَانِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ
وَلَوْ قال أَوْدَعْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أو دَفَعْتَ إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً أو أَعْطَيْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَهَلَكَتْ عِنْدِي وقال الْمُقَرُّ له لَا بَلْ غَصَبْتَهَا مِنِّي كان الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقِرِّ مع يَمِينِهِ لِأَنَّهُ ما أَقَرَّ بِسَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ إذْ الْمُقَرُّ بِهِ هو الْإِيدَاعُ وَالْإِعْطَاءُ وَإِنَّهُمَا لَيْسَا من أَسْبَابِ الضَّمَانِ
وَلَوْ قال له أَعَرْتَنِي ثَوْبَك أو دَابَّتَك فَهَلَكَتْ عِنْدِي وقال الْمُقَرُّ له غَصَبْتَ مِنِّي نُظِرَ في ذلك إنْ هَلَكَ قبل اللُّبْسِ أو الرُّكُوبِ فَلَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ الْإِعَارَةُ وَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ اللُّبْسِ
وَالرُّكُوبِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ لِأَنَّ لُبْسَ ثَوْبِ الْغَيْرِ وَرُكُوبَ دَابَّةِ الْغَيْرِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ في الْأَصْلِ فَكَانَ دَعْوَى الْإِذْنِ دَعْوَى الْبَرَاءَةِ عن الضَّمَانِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ
وَكَذَلِكَ إذَا قال له دَفَعْتَ إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَهَلَكَتْ عِنْدِي فقال الْمُقَرُّ له بَلْ غَصَبْتَهَا مِنِّي أَنَّهُ إنْ هَلَكَ قبل التَّصَرُّفِ فَلَا ضَمَانَ عليه وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَهُ يَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا في الْإِعَارَةِ
وَلَوْ أَقَرَّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مُؤَجَّلَةٍ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَى شَهْرٍ وقال الْمُقَرُّ له لَا بَلْ هِيَ حَالَّةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ له لِأَنَّ هذا إقْرَارٌ على نَفْسِهِ وَدَعْوَى الْأَجَلِ على الْغَيْرِ فَإِقْرَارُهُ مَقْبُولٌ وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَيَحْلِفُ الْمُقَرُّ له على الْأَجَلِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلْأَجَلِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مع الْيَمِينِ وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا أَقَرَّ وقال كَفَلْتُ لِفُلَانٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى شَهْرٍ
وقال الْمُقَرُّ له لَا بَلْ كَفَلْتَ بها حَالَّةً أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقِرِّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْمُقِرِّ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَكُونُ مُؤَجَّلَةً عَادَةً بِخِلَافِ الدَّيْنِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ اقْتَضَى من فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ كانت له عليه وَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ
____________________

(7/217)


له أَنْ يَكُونَ له عليه شَيْءٌ وقال هو مَالِي قَبَضْتَهُ مِنِّي فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مع يَمِينِهِ وَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالِاقْتِضَاءِ إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ وَالْقَبْضُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ في الْأَصْلِ بِالنَّصِّ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْقَبْضِ إقْرَارًا بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ منه فَهُوَ بِدَعْوَةِ الْقَبْضِ بِجِهَةِ الِاقْتِضَاءِ يَدَّعِي بَرَاءَتَهُ عن الضَّمَانِ وَصَاحِبُهُ يُنْكِرُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ
وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ منه أَلْفَ دِرْهَمٍ كانت عِنْدَهُ وَدِيعَةً وَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ له فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ له لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قال أَسْكَنْتُ فُلَانًا بَيْتِي ثُمَّ أَخْرَجْتُهُ وَادَّعَى السَّاكِنُ أَنَّهُ له فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْقَوْلُ قَوْلُ السَّاكِنِ مع يَمِينِهِ
وَلَوْ قال أَعَرْتُهُ دَابَّتِي ثُمَّ أَخَذْتُهَا منه وقال صَاحِبُهُ هِيَ لي فَهُوَ على هذا الِاخْتِلَافِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَهُ أَسْكَنْتُهُ دَارِي ثُمَّ أَخْرَجْتُهُ وَأَعَرْتُهُ دَابَّتِي ثُمَّ أَخَذْتُهَا منه إقْرَارٌ منه بِالْيَدِ لَهُمَا ثُمَّ الْأَخْذُ مِنْهُمَا فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمَا لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ على الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تَرُدَّ وَلِهَذَا لو غَايَبَاهُ سَكَنَ الدَّارَ فَزَعَمَ الْمُقِرُّ أَنَّهُ أَعَارَهُمَا منه لم يُقْبَلْ قَوْلُهُ فَكَذَا إذَا أَقَرَّ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ ليس هو الْيَدُ الْمُطْلَقَةُ بَلْ الْيَدُ بِجِهَةِ الْإِعَارَةِ وَالسُّكْنَى وَهَذَا لِأَنَّ الْيَدَ لَهُمَا ما عُرِفَتْ إلَّا بِإِقْرَارِهِ فَبَقِيَتْ على الْوَجْهِ الذي أَقَرَّ بِهِ فَيُرْجَعُ في بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْيَدِ إلَيْهِ
وَلَوْ أَقَرَّ فقال إنَّ فُلَانًا الْخَيَّاطَ خَاطَ قَمِيصِي بِدِرْهَمٍ وَقَبَضْتُ منه الْقَمِيصَ وَادَّعَى الْخَيَّاطُ أَنَّهُ له فَهُوَ على هذا الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا
وَلَوْ قال خَاطَ لي هذا الْقَمِيصَ ولم يَقُلْ قَبَضَهُ منه لم يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عليه بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ إذَا لم يقل ( ( ( يقبل ) ) ) قَبْضَهُ منه لم يُوجَدْ منه الْإِقْرَارُ بِالْيَدِ لِلْخَيَّاطِ لِجَوَازِ أَنَّهُ خَاطَهُ في بَيْتِهِ فلم تَثْبُتْ يَدُهُ عليه فَلَا يُجْبَرُ على الرَّدِّ
هذا إذَا لم يَكُنْ الدَّارُ وَالثَّوْبُ مَعْرُوفًا له فَإِنْ كان مَعْرُوفًا لِلْمُقِرِّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ مَعْرُوفًا له كان قَوْلُ صَاحِبِهِ هو لي منه دَعْوَى التَّمَلُّكِ فَلَا تسمع ( ( ( يسمع ) ) ) منه إلَّا بِبَيِّنَةٍ
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا سَاكِنٌ في هذا الْبَيْتِ وَالْبَيْتُ لي وَادَّعَى ذلك الرَّجُلُ الْبَيْتَ فَهُوَ له وَعَلَى الْمُقِرِّ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالسُّكْنَى إقْرَارٌ بِالْيَدِ فَصَارَ هو صَاحِبَ يَدٍ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُدَّعِي إلَّا بِبَيِّنَةٍ
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا زَرَعَ هذه الْأَرْضَ أو بَنَى هذه الدَّارَ أو غَرَسَ هذا الْكَرْمَ وَذَلِكَ في يَدَيْ الْمُقِرِّ وَادَّعَى الْمُقَرُّ له أَنَّهُ له فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالزَّرْعِ وَالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْيَدِ لِجَوَازِ وُجُودِهَا في يَدِ الْغَيْرِ فَلَا يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا أَنَّ من أَعْتَقَ عَبْدَهُ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى أَنَّهُ أَخَذَ منه هذا الشَّيْءَ في حَالِ الرِّقِّ وهو قَائِمٌ بِعَيْنِهِ وقال الْعَبْدُ لَا بَلْ أَخَذْتَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ وَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ قَوْلَ الْعَبْدِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الرَّدِّ وَقَوْلَ الْمَوْلَى لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ بَلْ يَقْتَضِيهِ لِأَنَّ الْأَخْذَ في الْأَصْلِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ ضَمَانِ الرَّدِّ وَالْإِضَافَةُ إلَى حَالِ الرِّقِّ لَا تَنْفِي الْوُجُوبَ فإن الْمَوْلَى إذَا أَخَذَ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ يَلْزَمُهُ الرَّدُّ إلَيْهِ
وَلَوْ أَقَرَّ بِالْإِتْلَافِ بِأَنْ قال أَتْلَفْتُ عَلَيْكَ مَالًا وَأَنْتَ عَبْدِي وقال الْعَبْدُ لَا بَلْ أَتْلَفْتَهُ وأنا حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى
وَعَلَى هذا الِاخْتِلَافِ إذَا قال الْمَوْلَى قَطَعْتُ يَدَك قبل الْعِتْقِ وقال الْعَبْدُ لَا بَلْ قَطَعْتَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ
وَلَوْ تَنَازَعَا في الضَّرِيبَةِ فقال الْمَوْلَى أَخَذْتُ مِنْكَ ضَرِيبَةَ كل شَهْرٍ كَذَا وَهِيَ ضَرِيبَةُ مِثْلِهِ وقال الْعَبْدُ لَا بَلْ كان بَعْدَ الْعِتْقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى بِالِاتِّفَاقِ
وَكَذَلِكَ لو ادَّعَى الْمَوْلَى وَطْءَ الْأَمَةِ قبل الْعِتْقِ وَادَّعَتْ الْأَمَةُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمَوْلَى يُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَهَذَا لِأَنَّهُ أَضَافَ الضَّمَانَ إلَى حَالِ الرِّقِّ حَيْثُ قال أَتْلَفْتُ وهو رَقِيقٌ وَالرِّقُّ يُنَافِي الضَّمَانَ إذْ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ عليه لِعَبْدِهِ ضَمَانٌ فَكَانَ مُنْكِرًا وُجُوبَ الضَّمَانِ وَالْعَبْدُ بِقَوْلِهِ أَتْلَفْتَ بَعْدَ الْعِتْقِ يَدَّعِي وُجُوبَ الضَّمَانِ عليه وهو يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلِهَذَا كان الْقَوْلُ قَوْلَهُ في الْغَلَّةِ وَالْوَطْءِ وكذا هذا وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ اعْتِبَارَ قَوْلِ الْعَبْدِ يُوجِبُ الضَّمَانَ على الْمَوْلَى لِأَنَّ إتْلَافَ مَالِ الْحُرِّ يُوجِبُ الضَّمَانَ
وَاعْتِبَارُ قَوْلِ الْمَوْلَى لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْأَخْذِ وَالْأَخْذُ في الْأَصْلِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَالْإِضَافَةُ إلَى حَالِ الرِّقِّ لَا تَنْفِي الْوُجُوبَ فإن إتْلَافَ كَسْبِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا لِلرَّقَبَةِ وَالْكَسْبِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فإذا وُجِدَ الْمُوجِبُ وَانْعَدَمَ الْمَانِعُ بَقِيَ خَبَرُهُ وَاجِبَ الْقَبُولِ بِخِلَافِ الْوَطْءِ وَالْغَلَّةِ لِأَنَّ وَطْءَ الرقيق ( ( ( الرقيقة ) ) ) لَا يُوجِبُ الضَّمَانِ أَصْلًا
وَكَذَلِكَ أَخْذُ ضَرِيبَةِ الْعَبْدِ وَهِيَ الْغَلَّةُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ على الْمَوْلَى فإن الْمَوْلَى إذَا أَخَذَ ضَرِيبَةَ الْعَبْدِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ ليس لِلْغُرَمَاءِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ على ما مَرَّ في كِتَابِ الْمَأْذُونِ فَكَانَ الْمَوْلَى بِقَوْلِهِ
____________________

(7/218)


قبل الْعِتْقِ مُنْكِرًا وُجُوبَ الضَّمَانِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع ما أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْوَطْءِ أَنْ لَا يَكُونَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ إتْلَافُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ
وَالْأَصْلُ في الْمَنَافِعِ أَنْ لَا تَكُونَ مَضْمُونَةً بِالْإِتْلَافِ فَتَرَجَّحَ خَبَرُ الْمَوْلَى بِشَهَادَةِ الْأَصْلِ له فَكَانَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ كما في الْإِخْبَارِ عن طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ
فَأَمَّا الْأَصْلُ في أَخْذِ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْعَبْدِ
وَكَذَلِكَ الْغَلَّةُ لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنَافِعُ في الْأَصْلِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَم
وَعَلَى هذا إذَا اسْتَأْمَنَ الْحَرْبِيُّ أو صَارَ ذِمَّةً فقال له رَجُلٌ مُسْلِمٌ أَخَذْتُ مِنْكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَنْتَ حَرْبِيٌّ في دَارِ الْحَرْبِ
فقال له الْمُقِرُّ لَا بَلْ أَخَذْتَهُ وأنا مُسْتَأْمَنٌ أو ذِمِّيٌّ في دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْأَلْفُ قَائِمَةٌ بعينها ( ( ( بعينهما ) ) ) فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ له وَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ
ولو قال أَخَذْتُ مِنْكَ أَلْفًا فَاسْتَهْلَكْتَهَا وَأَنْتَ حَرْبِيٌّ في دَارِ الْحَرْبِ أو قال قَطَعْت يَدَك وقال الْمُقَرُّ له لَا بَلْ فَعَلْت وأنا مُسْتَأْمَنٌ أو ذِمِّيٌّ في دَارِ الْإِسْلَامِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ له وَيَضْمَنُ له الْمُقِرُّ ما قَطَعَ وَأَتْلَفَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَا يَضْمَنُ شيئا
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الْمَوْلَى مُنْكِرٌ وُجُوبَ الضَّمَانِ لِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلْوُجُوبِ وَهِيَ حَالَةُ الْحِرَابِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْعَبْدِ إذْ الْعِصْمَةُ أَصْلٌ في النُّفُوسِ وَالسُّقُوطُ بِعَارِضِ الْمُسْقِطِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ من يَشْهَدُ له الْأَصْلُ
وَعَلَى هذا إذَا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ولم يذكر الْوَزْنَ يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ وَزْنًا لَا عَدَدًا لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ في الْأَصْلِ مَوْزُونَةٌ إلَّا إذَا كان الْإِقْرَارُ في بَلْدَةٍ دَرَاهِمُهَا عَدَدِيَّةٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْعَدَدِ الْمُتَعَارَفِ
وكذلك إذَا ذَكَرَ الْعَدَدَ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ عَدَدًا يَلْزَمُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَزْنًا وَيَلْغُو ذِكْرُ الْعَدَدِ وَيَقَعُ على ما يَتَعَارَفُهُ أَهْلُ الْبَلَدِ من الْوَزْنِ وهو في دِيَارِنَا وَخُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ وَزْنُ سَبْعَةٍ وهو الذي يَكُونُ كُلُّ عَشَرَةٍ منها سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ فَإِنْ كان الْإِقْرَارُ في هذه الْبِلَادِ يَلْزَمُهُ بهذا الْوَزْنِ وَإِنْ كان الْإِقْرَارُ في بَلَدٍ يَتَعَامَلُونَ فيه بِدَرَاهِمَ وَزْنُهَا يَنْقُصُ عن وَزْنِ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ يَقَعُ إقْرَارُهُ على ذلك الْوَزْنِ لِانْصِرَافِ مُطْلَقِ الْكَلَامِ إلَى الْمُتَعَارَفِ حتى لو ادَّعَى وَزْنًا أَقَلَّ من وَزْنِ بَلَدِهِ يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا وَلَوْ كان في الْبَلَدِ أَوْزَانٌ مُخْتَلِفَةٌ يُعْتَبَرُ فيه الْغَالِبُ كما في نَقْدِ الْبَلَدِ فَإِنْ اسْتَوَتْ يُحْمَلْ على الْأَقَلِّ منها لِأَنَّ الْأَقَلَّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَالزِّيَادَةُ مَشْكُوكٌ فيها وَالْوُجُوبُ في الذِّمَّةِ أو لم يَكُنْ وَالْوُجُوبُ في أَقَلِّهِ لم يَكُنْ فَمَتَى وَقَعَ الشَّكُّ في ثُبُوتِهِ فَلَا يَثْبُتُ مع الشَّكِّ
وَلَوْ سَمَّى زِيَادَةً على وَزْنِ الْبَلَدِ أو أَنْقَصَ منه بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَزْنُ خَمْسَةٍ إنْ كان مَوْصُولًا يُقْبَلْ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ يَحْتَمِلُهُ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَاحْتَمَلَ الْبَيَانَ الْمَوْصُولَ وَلَا يُصَدَّقُ إذَا فَصَلَ لِانْصِرَافِ الْأَفْهَامِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى وَزْنِ الْبَلَدِ فَكَانَ الْإِخْبَارُ عن غَيْرِهِ رُجُوعًا فَلَا يَصِحُّ
وَكَذَلِكَ إذَا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مَثَاقِيلَ يَلْزَمُهُ ذلك لِأَنَّهُ زَادَ على الْوَزْنِ الْمَعْرُوفِ وهو غَيْرُ مُتَّهَمٍ في الْإِقْرَارِ على نَفْسِهِ بِالزِّيَادَةِ فَيُقْبَلُ منه
وَلَوْ أَقَرَّ وهو بِبَغْدَادَ فقال لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ طَبَرِيَّةٍ يَلْزَمُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ طَبَرِيَّةٍ لَكِنْ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ طَبَرِيَّةٍ خَرَجَ وَصْفًا لِلدَّرَاهِمِ أَيْ دَرَاهِمَ مَنْسُوبَةٍ إلَى طَبَرِسْتَانَ فَلَا يُوجِبُ تَغْيِيرَ وَزْنِ للبلد ( ( ( البلد ) ) )
وَكَذَلِكَ إذَا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ مَوْصِلِيَّةٍ وَالْمُقِرُّ بِبَغْدَادَ يَلْزَمُهُ كُرُّ حِنْطَةٍ مَوْصِلِيَّةٍ لَكِنْ بِكَيْلِ بَغْدَادَ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِينَارٌ شَامِيٌّ أو كُوفِيٌّ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ دِينَارًا وَاحِدًا وَزْنُهُ مِثْقَالٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ دِينَارَيْنِ وَزْنُهُمَا جميعا مِثْقَالٌ بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ أَنَّهُ إذَا أَعْطَاهُ دِرْهَمَيْنِ صَغِيرَيْنِ مَكَانَ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ كَبِيرٍ أَنَّهُ يُجْبَرُ على الْقَبُولِ
كَذَا ذَكَرَ في الْكِتَابِ وكان في عُرْفِهِمْ أَنَّ الدِّينَارَ إذَا كان نَاقِصَ الْوَزْنِ يَكُونُ نَاقِصَ الْقِيمَةِ
فَكَانَ نُقْصَانُ الْوَزْنِ فيه وَضِيعَةً
كَذَلِكَ اُعْتُبِرَ الْوَزْنُ وَالْعَدَدُ جميعا وفي الدَّرَاهِمِ بِخِلَافٍ فَأَمَّا في عُرْفِ دِيَارِنَا فَالْعِبْرَةُ لِلْوَزْنِ فَسَوَاءٌ أَعْطَاهُ دِينَارًا وَاحِدًا أو دِينَارَيْنِ يُجْبَرُ على الْقَبُولِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ وَزْنُهُمَا مِثْقَالًا
وَكَذَلِكَ لو قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ قَفِيزُ حِنْطَةٍ فَهُوَ بِقَفِيزِ الْبَلَدِ
وَكَذَلِكَ الْأَوْقَارُ وَالْأَمْنَانُ لِمَا قُلْنَا في الدَّرَاهِمِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَدْخُلُ على قَدْرِ الْمُقَرِّ بِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مَجْهُولَ الْقَدْرِ وَأَنَّهُ في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَذْكُرَ عَدَدًا وَاحِدًا وَإِمَّا أَنْ يَجْمَعَ بين عَدَدَيْنِ فَالْأَوَّلُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ أو دَنَانِيرُ لَا يُصَدَّقُ في أَقَلَّ من ثَلَاثَةٍ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ أَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ فَكَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ وفي الزِّيَادَةِ عليها شَكٌّ وَحُكْمُ الْإِقْرَارِ لَا يَلْزَمُ بِالشَّكِّ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ دُرَيْهِمٌ
____________________

(7/219)


أو دُنَيْنِيرٌ فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ تَامٌّ وَدِينَارٌ كَامِلٌ لِأَنَّ التَّصْغِيرَ له قد يُذْكَرُ لِصِغَرِ الْحَجْمِ وقد يُذْكَرُ لِاسْتِحْقَارِ الدِّرْهَمِ وَاسْتِقْلَالِهِ وقد يُذْكَرُ لِنُقْصَانِ الْوَزْنِ فَلَا يَنْقُصُ عن الْوَزْنِ بِالشَّكِّ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ من دَرَاهِمَ أو شَيْءٌ من الدَّرَاهِمِ أَنَّ عليه ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّهُ أَجْمَلَ الشَّيْءَ وَفَسَّرَهُ بِدَرَاهِمَ أَيْ الشَّيْءِ الذي هو دَرَاهِمُ كما في قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ من الْأَوْثَانِ } أَيْ الرِّجْسِ التي هِيَ أَوْثَانٌ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ مُضَاعَفَةٌ لَا يُصَدَّقُ في أَقَلَّ من سِتَّةٍ لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ لِلدَّرَاهِمِ ثَلَاثَةٌ وَأَقَلُّ التَّضْعِيفِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ فإذا ضَعَّفْنَا الثَّلَاثَةَ مَرَّةً تَصِيرُ سِتَّةً
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ أضاعفا ( ( ( أضعافا ) ) ) مُضَاعَفَةً لَا يُصَدَّقُ في أَقَلَّ من ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّرَاهِمَ الْمُضَاعَفَةَ سِتَّةٌ وَأَقَلُّ أَضْعَافِ السِّتَّةِ ثلاثة ( ( ( ثلاث ) ) ) مَرَّاتٍ فَذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَأَضْعَافُهَا مُضَاعَفَةً لَا يُصَدَّقُ في أَقَلَّ من ثَمَانِينَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَضَاعَفَ عليها أَضْعَافَهَا مُضَاعَفَةً وَأَقَلُّ أَضْعَافِ الْعَشَرَةِ ثَلَاثُونَ فَذَلِكَ أَرْبَعُونَ وَأَقَلُّ تَضْعِيفِ الْأَرْبَعِينَ مَرَّةٌ فَذَلِكَ ثَمَانُونَ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ غَيْرُ أَلْفٍ أَنَّ عليه أَلْفَيْنِ وَلَوْ قال غَيْرُ أَلْفَيْنِ عليه أَرْبَعَةُ آلَافٍ لِأَنَّ غير من أَسْمَاءِ الْإِضَافَةِ فَيَقْتَضِي ما يُغَايِرُهُ لِاسْتِحَالَةِ مُغَايَرَةِ الشَّيْءِ نَفْسَهُ فَاقْتَضَى أَلْفًا تُغَايِرُ الْأَلْفَ الذي عليه فَصَارَ مَعْنَاهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ غَيْرُ أَلْفٍ أَيْ غَيْرُ هذا الْأَلْفِ آخَرُ فَكَانَ إقْرَارًا بِأَلْفَيْنِ
وَكَذَا هذا الِاعْتِبَارُ في قَوْلِهِ غَيْرُ أَلْفَيْنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ غَيْرُ أَلْفٍ أَيْ مِثْلُ أَلْفٍ لِأَنَّ الْمُغَايَرَةَ من لَوَازِمِ الْمُمَاثَلَةِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الشَّيْءِ مُمَاثِلًا لِنَفْسِهِ وَلِهَذَا قِيلَ في حَدِّهَا غير أَنْ يَنُوبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنَابَ صَاحِبِهِ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ وَالْمُلَازَمَةُ بين شَيْئَيْنِ طَرِيقُ الْكِتَابَةِ فَصَحَّتْ الْكِتَابَةُ عن الْمُمَاثَلَةِ بِالْمُغَايَرَةِ فإذا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ غَيْرُ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَكَأَنَّهُ قال مِثْلُ أَلْفٍ
وَمِثْلُ الْأَلْفِ أَلْفٌ مِثْلُهُ فَكَانَ إقْرَارًا بِأَلْفَيْنِ
وَكَذَا هذا الِاعْتِبَارُ في قَوْلِهِ غَيْرُ أَلْفَيْنِ
وَلَوْ قال عَلَيَّ زُهَاءُ أَلْفٍ أو عِظَمُ أَلْفٍ أو جُلُّ أَلْفٍ فَعَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ وَشَيْءٌ لِأَنَّ هذه عِبَارَاتٌ عن أَكْثَرِ هذا الْقَدْرِ في الْعُرْفِ
وَكَذَا إذَا قال قَرِيبٌ من أَلْفٍ لِأَنَّ خَمْسَمِائَةٍ وَشَيْئًا أَقْرَبُ إلَى الْأَلْفِ من خَمْسِمِائَةِ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ لَا يُصَدَّقُ في أَقَلَّ من عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَا يُصَدَّقُ في أَقَلَّ من مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ وما دُونَ الْمِائَتَيْنِ في حَدِّ الْقِلَّةِ وَلِهَذَا لم يُعْتَبَرْ ما دُونَهُ نِصَابُ الزَّكَاةِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ جَعَلَ الْكَثْرَةَ صِفَةً لِلدَّرَاهِمِ وَأَكْثَرُ ما يُسْتَعْمَلُ فيه اسْمُ الدَّرَاهِمِ الْعَشَرَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا زَادَ على الْعَشَرَةِ يُقَالُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا هَكَذَا وَلَا يُقَالُ دَرَاهِمُ فَكَانَتْ الْعَشَرَةُ أَكْثَرَ ما يُسْتَعْمَلُ فيه اسْمُ الدَّرَاهِمِ فَلَا تَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عليها
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ أو كَثِيرٌ لَا يُصَدَّقُ في أَقَلَّ من مِائَتَيْ دِرْهَمٍ في الْمَشْهُورِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ عليه عَشَرَةً
وَجْهُ ما رُوِيَ عنه أَنَّهُ وَصَفَ الْمَالَ بِالْعِظَمِ وَالْعَشَرَةُ لها عِظَمٌ في الشَّرْعِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَّقَ قَطْعَ الْيَدِ بها في بَابِ السَّرِقَةِ وَقَدَّرَ بها بَدَلَ الْبُضْعِ وهو الْمَهْرُ في بَابِ النِّكَاحِ
وَجْهُ الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ أَنَّ الْعَشَرَةَ لَا تُسْتَعْظَمُ في الْعُرْفِ وَإِنَّمَا يُسْتَعْظَمُ النِّصَابُ وَلِهَذَا اسْتَعْظَمَهُ الشَّرْعُ حَيْثُ عَلَّقَ وُجُوبَ الْمُعْظَمِ وهو الزَّكَاةُ بِهِ فَكَانَ هذا أَقَلَّ ما اسْتَعْظَمَهُ الشَّرْعُ عُرْفًا فَلَا يُصَدَّقُ في أَقَلَّ من ذلك
وَقِيلَ إنْ كان الرَّجُلُ غَنِيَّا يَقَعُ على ما يُسْتَعْظَمُ عِنْدَ الْأَغْنِيَاءِ وَإِنْ كان فَقِيرًا يَقَعُ على ما يُسْتَعْظَمُ عِنْدَ الْفُقَرَاءِ
وَلَوْ قال عَلَيَّ أَمْوَالٌ عِظَامٌ فَعَلَيْهِ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ لِأَنَّ عِظَامٌ جَمْعُ عَظِيمٍ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ وَهَذَا على الْمَشْهُورِ من الرِّوَايَاتِ
فَأَمَّا على ما رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَيَقَعُ على ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا
وَلَوْ قال غَصَبْت فُلَانًا إبِلًا كَثِيرَةً فَهُوَ على خَمْسٍ وَعِشْرِينَ لِأَنَّهُ وَصْفٌ بِالْكَثْرَةِ وَلَا تَكْثُرُ إلَّا إذَا بَلَغَتْ نِصَابًا تَجِبُ الزَّكَاةُ فيها في جِنْسِهَا وَأَقَلُّ ذلك خَمْسٌ وَعِشْرُونَ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ حِنْطَةٌ كَثِيرَةٌ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْبَيَانُ إلَيْهِ وَعِنْدَهُمَا لَا يُصَدَّقُ في أَقَلَّ من خَمْسَةِ أَوْسُقٍ بِنَاءً على أَنَّ النِّصَابَ في بَابِ الْعَشْرِ ليس بِشَرْطٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا شَرْطٌ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ ما بين مِائَةٍ إلَى مِائَتَيْنِ أو من مِائَةٍ إلَى مِائَتَيْنِ فَعَلَيْهِ مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عليه مِائَتَانِ وَعِنْدَ زُفَرَ عليه تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ
وَكَذَلِكَ إذَا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ ما بين دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ أو من دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ فَعَلَيْهِ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا
____________________

(7/220)


عليه عَشَرَةٌ وَعِنْدَ زُفَرَ عليه ثَمَانِيَةٌ
وَلَوْ قال ما بين هَذَيْنِ الْحَائِطَيْنِ لِفُلَانٍ لم يَدْخُلْ الْحَائِطَانِ في إقْرَارِهِ بِالْإِجْمَاعِ وكذلك لو وَضَعَ بين يَدَيْهِ عَشَرَةً مُرَتَّبَةً فقال ما بين هذا الدِّرْهَمِ إلَى هذا الدِّرْهَمِ وَأَشَارَ إلَى الدِّرْهَمَيْنِ لِفُلَانٍ لم يَدْخُلْ الدِّرْهَمَانِ تَحْتَ إقْرَارِهِ بِالِاتِّفَاقِ
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الْغَايَتَانِ لَا يَدْخُلَانِ وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلَانِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يَدْخُلُ الْأَوَّلُ دُونَ الْآخَرِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ ما ضُرِبَتْ بِهِ الْغَايَةُ لَا الْغَايَةُ فَلَا تَدْخُلُ الْغَايَةُ تَحْتَ ما ضُرِبَتْ له الْغَايَةُ
وَهُنَا لم يَدْخُلْ في بَابِ الْبَيْعِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُمَا غَايَتَيْنِ فَلَا بُدَّ من وُجُودِهِمَا وَمِنْ ضَرُورَةِ وُجُودِهِمَا لُزُومُهُمَا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ الرُّجُوعُ إلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فإن من تَكَلَّمَ بِمِثْلِ هذا الْكَلَامِ يُرِيدُ بِهِ دُخُولَ الْغَايَةِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قِيلَ سِنُّ فُلَانٍ ما بين تِسْعِينَ إلَى مِائَةٍ لَا يُرَادُ بِهِ دُخُولُ الْمِائَةِ
كَذَا هَهُنَا
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ ما بين كُرِّ شَعِيرٍ إلَى كُرِّ حِنْطَةٍ فَعَلَيْهِ كُرُّ شَعِيرٍ وَكُرُّ 8 حِنْطَةٍ إلَّا قَفِيزًا على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا عليه كُرَّانِ وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ من دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ أو من دِينَارٍ إلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عليه أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ وَخَمْسَةُ دَرَاهِمَ تُجْعَلُ الْغَايَةُ الْأَخِيرَةُ من أَفْضَلِهِمَا وَعِنْدَهُمَا عليه خَمْسَةُ دَنَانِيرَ وَخَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَعِنْدَ زُفَرَ عليه من كل جِنْسٍ أَرْبَعَةٌ
وَلَوْ قال له عَلَيَّ من عَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ عليه عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَتِسْعَةُ دَنَانِيرَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَكَذَلِكَ لو قال له عَلَيَّ من عَشَرَةِ دَنَانِيرَ إلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَدَّمَ أو أَخَّرَ وَعِنْدَهُمَا عليه الْكُلُّ
وَكَذَلِكَ هذا الِاخْتِلَافُ في الْوَصِيَّةِ وَالطَّلَاقِ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ في خَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَنَوَى الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ فَعَلَيْهِ خَمْسَةٌ وقال زُفَرُ عليه خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ خَمْسَةً في خَمْسَةٍ على طَرِيقِ الضَّرْبِ وَالْحِسَابِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فَيَلْزَمُهُ ذلك
وَلَنَا أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَكَثَّرُ في نَفْسِهِ بِالضَّرْبِ وَإِنَّمَا يَتَكَثَّرُ بِأَجْزَائِهِ فَخَمْسَةٌ في خَمْسَةٍ له خَمْسَةُ أَجْزَاءٍ فَيَلْزَمُهُ ذلك بِالْإِقْرَارِ وَإِنْ نَوَى بِهِ خَمْسَةً مع خَمْسَةٍ فَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ لِأَنَّ في تَحْتَمِلُ مع لِمُنَاسِبَةٍ بَيْنَهُمَا في مَعْنَى الِاتِّصَالِ
وَلَوْ أَقَرَّ بِتَمْرٍ في قَوْصَرَّةٍ فَعَلَيْهِ التَّمْرُ وَالْقَوْصَرَّةُ جميعا
وَكَذَلِكَ إذَا قال غَصَبْت من فُلَانٍ ثَوْبًا في مِنْدِيلٍ يَلْزَمُهُ الثَّوْبُ وَالْمِنْدِيلُ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الظَّرْفُ وَلَوْ أَقَرَّ بِدَابَّةٍ في إصْطَبْلٍ لَا يَلْزَمُهُ الْإِصْطَبْلُ بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْإِقْرَارِ التَّمْرُ وَالثَّوْبُ لَا الْقَوْصَرَّةُ وَالْمِنْدِيلُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذلك ظَرْفًا فَالْإِقْرَارُ بِشَيْءٍ في ظَرْفِهِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِهِ وَبِظَرْفِهِ كَالْإِقْرَارِ بِدَابَّةٍ في الْإِصْطَبْلِ وَبِنَخْلَةٍ في الْبُسْتَانِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْإِصْطَبْلِ وَالْبُسْتَانِ
وَلَنَا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالتَّمْرِ في قَوْصَرَّةٍ إقْرَارٌ بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِيهِمَا وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِغَصْبِ الثَّوْبِ في مِنْدِيلٍ لِأَنَّ الثَّوْبَ يُغْصَبُ مع الْمِنْدِيلِ الْمَلْفُوفِ فيه عَادَةً
وَكَذَلِكَ التَّمْرُ مع الْقَوْصَرَّةِ
وَأَمَّا غَصْبُ الدَّابَّةِ مع الْإِصْطَبْلِ فَغَيْرُ مُعْتَادٍ مع ما أَنَّ الْعَقَارَ لَا يَحْتَمِلُ الْغَصْبَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ ثَوْبٌ في ثَوْبٍ فَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قال ثَوْبٌ في عَشَرَةِ أَثْوَابٍ فَلَيْسَ عليه إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عليه أَحَدَ عَشَرَ ثَوْبًا
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ جَعَلَ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ ظَرْفًا لِثَوْبٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ مُحْتَمِلٌ بِأَنْ يَكُونَ في وَسَطِ الْعَشَرَةِ فَأَشْبَهَ الْإِقْرَارَ بِثَوْبٍ في مِنْدِيلٍ أو في ثَوْبٍ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ ما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مُمْكِنٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ لِلْمُعْتَادِ هذا إذَا ذَكَرَ عَدَدًا وَاحِدًا مُجْمَلًا فَإِنْ ذَكَرَ عَدَدًا وَاحِدًا مَعْلُومًا لَكِنْ أَضَافَهُ إلَى صِنْفَيْنِ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَتَا مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ أو كُرَّا حِنْطَةٍ وشعيرا ( ( ( وشعير ) ) ) فَلَهُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ
وَكَذَلِكَ لو سَمَّى أَجْنَاسًا ثَلَاثَةً فَعَلَيْهِ من كل وَاحِدٍ الثُّلُثُ
وَكَذَلِكَ لو تَزَوَّجَ على ذلك لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدًا وَاحِدًا وَأَضَافَهُ إلَى عَدَدَيْنِ من غَيْرِ بَيَانِ حِصَّةِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَتَكُونُ حِصَّةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على السَّوَاءِ كما إذَا أَضَافَهُ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ بِأَنْ أَقَرَّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ لِرَجُلَيْنِ فإن لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ
كَذَا هذا
وَلَوْ قال اسْتَوْدَعَنِي ثَلَاثَةَ أَثْوَابٍ زُطِّيٌّ وَيَهُودِيٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ إنْ شَاءَ جَعَلَ زُطِّيَّيْنِ وَيَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ جَعَلَ يَهُودِيَّيْنِ وَزُطِّيًّا لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَثْوَابَ الثَّلَاثَةَ من جِنْسِ الزُّطِّيِّ وَالْيَهُودِيِّ فَيَكُونُ زُطِّيٌّ وَيَهُودِيٌّ مُرَادًا بِيَقِينٍ فَكَانَ الْبَيَانُ في الْآخَرِ إلَيْهِ لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فيه
وَلَوْ قال اسْتَوْدَعَنِي عَشَرَةَ أَثْوَابٍ هَرَوِيَّةٍ وَمَرْوِيَّةٍ كان من كل صِنْفٍ النِّصْفُ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمُسَاوَاةِ هَهُنَا مُمْكِنٌ
وَأَمَّا إذَا جَمَعَ بين عَدَدَيْنِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ جَمَعَ بين عَدَدَيْنِ مُجْمَلَيْنِ وَإِمَّا أن أَجْمَلَ
____________________

(7/221)


أَحَدَهُمَا وَبَيَّنَ الْآخَرَ فَإِنْ جَمَعَ بين عَدَدَيْنِ مُجْمَلَيْنِ بِأَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا وكذا دِرْهَمًا لَا يُصَدَّقُ في أَقَلَّ من أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا لِأَنَّهُ جَمَعَ بين عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ وَجَعَلَهُمَا اسْمًا وَاحِدًا من غَيْرِ حَرْفِ الْجَمْعِ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَحَدَ عَشَرَ وَاثْنَيْ عَشَرَ هَكَذَا إلَى تِسْعَةَ عَشَرَ إلَّا أَنَّ أَقَلَّ عَدَدٍ يُعَبَّرُ عنه بِهَذِهِ الصِّيغَةِ أَحَدَ عَشَرَ فَيُحْمَلُ عليه لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا بِهِ وَيَلْزَمُهُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا لِأَنَّهُ فَسَّرَ هذا الْعَدَدَ بِالدَّرَاهِمِ لَا بِغَيْرِهَا
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا لَا يُصَدَّقُ في أَقَلَّ من إحْدَى وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا لِأَنَّهُ جَمَعَ بين عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ وَجَعَلَهُمَا اسْمًا وَاحِدًا وَأَقَلُّ ذلك إحْدَى وَعِشْرُونَ
وَأَمَّا إذَا أَجْمَلَ أَحَدَهُمَا وَبَيَّنَ الْآخَرَ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَنَيِّفٌ فَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ في النَّيِّفِ من دِرْهَمٍ أو أَكْثَرَ أو أَقَلَّ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عن مُطْلَقِ الزِّيَادَةِ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ بِضْعٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا لَا يُصَدَّقُ في بَيَانِ الْبِضْعِ في أَقَلَّ من ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الْبِضْعَ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِقِطْعَةٍ من الْعَدَدِ وفي عُرْفِ اللُّغَةِ يُسْتَعْمَلُ في الثَّلَاثَةِ إلَى التِّسْعَةِ فَيُحْمَلُ على أَقَلِّ الْمُتَعَارَفِ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَدَانِقٌ أو قيراط ( ( ( قيراطا ) ) ) فَالدَّانِقُ وَالْقِيرَاطُ من الدَّرَاهِمِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عن جُزْءٍ من الدَّرَاهِمِ كَأَنَّهُ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ وَسُدُسٌ وَلَوْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ فَالْمِائَةُ دَرَاهِمُ
وَلَوْ قال مِائَةٌ وَدِينَارٌ فَالْمِائَةُ دَنَانِيرُ وَيَكُونُ الْمَعْطُوفُ عليه من جِنْسِ الْمَعْطُوفِ
وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ دِرْهَمٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ في الْمِائَةِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ أَبْهَمَ الْمِائَةَ وَعَطَفَ الدِّرْهَمَ عليها فَيُعْتَبَرُ تَصَرُّفُهُ على حَسَبِ ما أَوْقَعَهُ فَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَالْقَوْلُ في الْمُبْهَمِ قَوْلُهُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قَوْلَهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ أَيْ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَدِرْهَمٌ هذا مَعْنَى هذا في عُرْفِ الناس إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الدِّرْهَمَ طَلَبًا لِلِاخْتِصَارِ على ما عليه عَادَةُ الْعَرَبِ من الْإِضْمَارِ وَالْحَذْفِ في الْكَلَامِ
وَكَذَلِكَ لو قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَشَاةٌ فَالْمِائَةُ من الشِّيَاهِ عليه تعرف الناس
وَلَوْ قال لِفُلَانٍ على مِائَةٌ وَثَوْبٌ فَعَلَيْهِ ثَوْبٌ وَالْقَوْلُ في الْمِائَةِ قَوْلُهُ لِأَنَّ مِثْلَ هذا لَا يُسْتَعْمَلُ في بَيَانِ كَوْنِ الْمَعْطُوفِ عليه من جِنْسِ الْمَعْطُوفِ فَبَقِيَتْ الْمِائَةُ مُجْمَلَةً فَكَانَ الْبَيَانُ فِيمَا أَجْمَلَ عليه
وَكَذَلِكَ إذَا قال مِائَةٌ وَثَوْبَانِ
وَلَوْ قال مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ فَالْكُلُّ ثِيَابٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ مِائَةٌ وَثَلَاثَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُجْمَلٌ
وَقَوْلُهُ أَثْوَابٌ يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لَهُمَا فَجُعِلَ تَفْسِيرًا لَهُمَا
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ وَعَبْدٌ أَنَّ عليه عبد ( ( ( عبدا ) ) ) وَالْبَيَانُ في الْعَشَرَةِ إلَيْهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ إذَا قال لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ وَوَصِيفَةٌ أَنَّ عليه وَصِيفَةً وَالْبَيَانُ في الْعَشَرَةِ إلَيْهِ
وَلَوْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِأَلْفٍ في مَجْلِسٍ ثُمَّ أَقَرَّ له بِأَلْفٍ أُخْرَى نُظِرَ في ذلك فَإِنْ أَقَرَّ له في مَجْلِسٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ أَلْفَانِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عليه أَلْفٌ وَاحِدَةٌ وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
أَيْضًا وَإِنْ أَقَرَّ له في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعِنْدَهُمَا لَا يُشْكِلُ أَنَّ عليه أَلْفًا وَاحِدًا
وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ ذُكِرَ عن الْكَرْخِيُّ أَنَّ عليه أَلْفَيْنِ وَذُكِرَ عن الطَّحَاوِيُّ أَنَّ عليه أَلْفًا وَاحِدًا وهو الصَّحِيحُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَادَةَ بين الناس بِتَكْرَارِ الْإِقْرَارِ بِمَالٍ وَاحِدٍ في مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِتَكْثِيرِ الشُّهُودِ كما جَرَتْ الْعَادَةُ بِذَلِكَ في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لِيَفْهَمَ الشُّهُودُ فَلَا يُحْمَلُ على إنْشَاءِ الْإِقْرَارِ مع الشَّكِّ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَلْفَ الْمَذْكُورَ في الْإِقْرَارِ الثَّانِي غَيْرُ الْأَلْفِ الْمَذْكُورِ في الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ كُلَّ وَاحِدٍ من الْأَلْفَيْنِ مُنَكَّرًا
وَالْأَصْلُ أَنَّ النَّكِرَةَ إذَا كُرِّرَتْ يُرَادُ بِالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فإن مع الْعُسْرِ يُسْرًا إنَّ مع الْعُسْرِ يُسْرًا } حتى قال ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هذا الْأَصْلَ في الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ لِلْعَادَةِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ لَكِنَّ بَعْضَهَا يَعُمُّ الْأَقَارِيرَ كُلَّهَا وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ
أَمَّا الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ فَأَنْوَاعٌ منها الْعَقْلُ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ إقْرَارُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ لِأَنَّ ذلك من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْمَأْذُونِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَحْجُورِ لِأَنَّهُ من التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ وَالْقَبُولُ من الْمَأْذُونِ لِلضَّرُورَةِ ولم يُوجَدْ
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ فَيَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا في كِتَابِ الْمَأْذُونِ
وَكَذَا بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ
وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ لَكِنْ لَا يَنْفُذُ على الْمَوْلَى لِلْحَالِ حتى لَا تُبَاعَ رَقَبَتُهُ بِالدَّيْنِ بِخِلَافِ
____________________

(7/222)


الْمَأْذُونِ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَأْذُونِ إنَّمَا صَحَّ لِكَوْنِهِ من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ على ما ذُكِرَ في كِتَابِ الْمَأْذُونِ
وَالْمَحْجُورُ لَا يَمْلِكُ التِّجَارَةَ فَلَا يَمْلِكُ ما هو من ضرورواتها ( ( ( ضروراتها ) ) ) إلَّا أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ في حَقِّ نَفْسِهِ حتى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهُ من أَهْلِ الْإِقْرَارِ لِوُجُودِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ النَّفَاذُ على الْمَوْلَى لِلْحَالِ لِحَقِّهِ فإذا عَتَقَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيُؤَاخَذُ بِهِ
وَكَذَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَيُؤَاخَذُ بِهِ لِلْحَالِ لِأَنَّ نَفْسَهُ في حَقِّ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ كَالْخَارِجِ عن مِلْكِ الْمَوْلَى
وَلِهَذَا لو أَقَرَّ الْمَوْلَى عليه بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِحُّ
وَكَذَلِكَ الصِّحَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَالْمَرَضُ ليس بِمَانِعٍ حتى يَصِحَّ إقْرَارُ الْمَرِيضِ في الْجُمْلَةِ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الصَّحِيحِ يرجحان ( ( ( برجحان ) ) ) جَانِبِ الصِّدْقِ على جَانِبِ الْكَذِبِ وَحَالُ الْمَرِيضِ أَدَلُّ على الصِّدْقِ فَكَانَ إقْرَارُهُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ على ما نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ
وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ في الْإِقْرَارِ على نَفْسِهِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مُتَّهَمًا في إقْرَارِهِ لِأَنَّ التُّهْمَةَ تُخِلُّ بِرُجْحَانِ الصِّدْقِ على جَانِبِ الْكَذِبِ في إقْرَارِهِ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ على نَفْسِهِ شَهَادَةٌ قال اللَّهُ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ } وَالشَّهَادَةُ على نَفْسِهِ إقْرَارٌ دَلَّ أَنَّ الْإِقْرَارَ شَهَادَةٌ وَأَنَّهَا تُرَدُّ بِالتُّهْمَةِ وَفُرُوعُ هذه الْمَسَائِلِ تَأْتِي في خِلَالِ الْمَسَائِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا الطَّوْعُ حتى لَا يَصِحَّ إقْرَارُ الْمُكْرَهِ لِمَا ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْإِكْرَاهِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ مَعْلُومًا حتى لو قال رَجُلَانِ لِفُلَانٍ على وَاحِدٍ مِنَّا أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ مَعْلُومًا لَا يَتَمَكَّنُ الْمُقَرُّ له من الْمُطَالَبَةِ فَلَا يَكُونُ في هذا الْإِقْرَارِ فَائِدَةٌ فَلَا يَصِحُّ
وَكَذَلِكَ إذَا قال أَحَدُهُمَا غَصَبَ وَاحِدٌ مِنَّا وَكَذَلِكَ إذَا قال وَاحِدٌ مِنَّا زَنَى أو سَرَقَ أو شَرِبَ أو قَذَفَ لِأَنَّ من عليه الْحَدُّ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْحَدِّ وَأَمَّا الذي يَخُصُّ بَعْضَ الْأَقَارِيرِ دُونَ الْبَعْضِ فَمَعْرِفَتُهُ مَبْنِيَّةٌ على مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ الْمُقَرِّ بِهِ فَنَقُولُ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى إنَّ الْمُقَرَّ بِهِ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ
وَالثَّانِي حَقُّ الْعَبْدِ
أَمَّا حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَنَوْعَانِ أَيْضًا أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى وهو حَدُّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ لِلْعَبْدِ فيه حَقٌّ وهو حَدُّ الْقَذْفِ وَلِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بها شَرَائِطُ ذَكَرْنَاهَا في كِتَابِ الْحُدُودِ
فَصْلٌ وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَهُوَ الْمَالُ من الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ وَالنَّسَبِ وَالْقِصَاصِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بها ما يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ ما ذَكَرْنَا من الْعَدَدِ ويجلس ( ( ( ومجلس ) ) ) الْقَضَاءِ وَالْعِبَارَةِ حتى إنَّ الْأَخْرَسَ إذَا كَتَبَ الْإِقْرَارَ بيده أو أَوْمَأَ بِمَا يُعْرَفُ أَنَّهُ إقْرَارٌ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَجُوزُ بِخِلَافِ الذي اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ لِأَنَّ لِلْأَخْرَسِ إشَارَةً مَعْهُودَةً فإذا أتى بها يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ وَلَيْسَ ذلك لِمَنْ اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ وَلِأَنَّ إقَامَةَ الْإِشَارَةِ مَقَامَ الْعِبَارَةِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ وَالْخَرَسُ ضَرُورَةٌ لِأَنَّهُ أَصْلِيٌّ
فَأَمَّا اعْتِقَالُ اللِّسَانِ فَلَيْسَ من بَابِ الضَّرُورَةِ لِكَوْنِهِ على شَرَفِ الزَّوَالِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ لِأَنَّهُ لَا يُجْعَلُ ذلك إقْرَارًا بِالْحُدُودِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مبني الْحُدُودِ على صَرِيحِ الْبَيَانِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فإنه غَيْرُ مَبْنِيِّ على صَرِيحِ الْبَيَانِ فإنه إذَا أَقَرَّ مُطْلَقًا عن صِفَةِ التَّعَمُّدِ بِذِكْرِ آلَةٍ دَالَّةٍ عليه وَهِيَ السَّيْفُ وَنَحْوُهُ يستوفي بمثله الْقِصَاصُ
وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بها الصَّحْوُ حتى يَصِحَّ إقْرَارُ السَّكْرَانِ لِأَنَّهُ يُصَدَّقُ في حَقِّ الْمُقَرِّ له أَنَّهُ غَيْرُ صاحي ( ( ( صاح ) ) ) أو لِأَنَّهُ يُنَزَّلُ عَقْلُهُ قَائِمًا في حَقِّ هذه التَّصَرُّفَاتِ فَيُلْحَقُ فيها بِالصَّاحِي مع زَوَالِهِ حَقِيقَةً عُقُوبَةً عليه وَحُقُوقُ الْعِبَادِ تَثْبُتُ مع الشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ الشَّرَائِطُ الْمُخْتَصَّةُ بِالْإِقْرَارِ بِحُقُوقِ الْعِبَاد نَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُقَرِّ له وَنَوْعٌ رجع ( ( ( يرجع ) ) ) إلَى الْمُقَرِّ بِهِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُقَرِّ له فَنَوْعٌ وَاحِدٌ وهو أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مَوْجُودًا كان أو حَمْلًا حتى لو كان مَجْهُولًا بِأَنْ قال لِوَاحِدٍ من الناس عَلَيَّ أو لِزَيْدٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مُطَالَبَتَهُ فَلَا يُفِيدُ الْإِقْرَارُ حتى لو عَيَّنَ وَاحِدًا بِأَنْ قال عَنَيْت بِهِ فُلَانًا يَصِحُّ
وَلَوْ قال لِحَمْلِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَإِنْ بَيَّنَ جِهَةً يَصِحُّ وُجُوبُ الْحَقِّ لِلْحَمْلِ من تِلْكَ الْجِهَةِ بِأَنْ قال الْمُقِرُّ أَوْصَى بها فُلَانٌ له أو مَاتَ أَبُوهُ فَوَرِثَهُ صَحَّ الْإِقْرَارُ لِأَنَّ الْحَقَّ يَجِبُ له من هذه الْجِهَةِ فَكَانَ صَادِقًا في إقْرَارِهِ فَيَصِحُّ وَإِنْ أَجْمَلَ الْإِقْرَارَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ إقْرَارَ الْعَاقِلِ يَجِبُ حَمْلُهُ على الصِّحَّةِ ما أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ حَمْلُهُ على إقْرَارِهِ على جِهَةٍ مُصَحِّحَةٍ له وَهِيَ ما ذَكَرْنَا فَوَجَبَ
____________________

(7/223)


حَمْلُهُ عليه
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْإِقْرَارَ الْمُبْهَمَ له جِهَةُ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ لِأَنَّهُ إنْ كان يَصِحُّ بِالْحَمْلِ على الْوَصِيَّةِ وَالْإِرْثُ يَفْسُدُ بِالْحَمْلِ على الْبَيْعِ وَالْغَصْبِ وَالْقَرْضِ فَلَا يَصِحُّ مع الشَّكِّ مع ما أَنَّ الْحَمْلَ في نَفْسِهِ مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَالشَّكُّ من وَجْهٍ وَاحِدٍ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
هذا إذَا أَقَرَّ لِلْحَمْلِ أَمَّا إذَا أَقَرَّ بِالْحَمْلِ بِأَنْ أَقَرَّ بِحَمْلِ جَارِيَةٍ أو بِحَمْلِ شَاةٍ لِرَجُلٍ صَحَّ أَيْضًا لِأَنَّ حَمْلَ الْجَارِيَةِ وَالشَّاةِ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ في الذِّمَّةِ بِأَنْ أَوْصَى له بِهِ مَالِكُ الْجَارِيَةِ وَالشَّاةِ فَأَقَرَّ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُقَرِّ بِهِ أَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ فَشَرْطُ صِحَّةِ الْفَرَاغِ عن تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ فَإِنْ كان مَشْغُولًا بِحَقِّ الْغَيْرِ لم يَصِحَّ لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ مَعْصُومٌ مُحْتَرَمٌ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ من غَيْرِ رِضَاهُ فَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ وَقْتِ التَّعَلُّقِ وَمَعْرِفَةِ مَحَلِّ التَّعَلُّقِ
أَمَّا وَقْتُ التَّعَلُّقِ فَهُوَ وَقْتُ مَرَضِ الْمَوْتِ فما دَامَ الْمَدْيُونُ صَحِيحًا فَالدَّيْنُ في ذِمَّتِهِ فإذا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ أَيْ يَتَعَيَّنُ فيها وَيَتَحَوَّلُ من الذِّمَّةِ إلَيْهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَوْنُ الْمَرَضِ مَرَضَ الْمَوْتِ إلَّا بِالْمَوْتِ فإذا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَرَضَ كان مَرَضَ الْمَوْتِ من وَقْتِ وُجُودِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّعَلُّقَ يَثْبُتُ من ذلك الْوَقْتِ وَبَيَانُ ذلك الْوَقْتِ بِبَيَانِ حُكْمِ إقْرَارِ الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ وما يَفْتَرِقَانِ فيه وما يَتَّصِلُ بِهِ وما يَسْتَوِيَانِ فيه فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إقْرَارُ الْمَرِيضِ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ لِغَيْرِهِ وَإِقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ من غَيْرِهِ
فَأَمَّا إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ لِغَيْرِهِ فَلَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إما أن أَقَرَّ بِهِ لِأَجْنَبِيٍّ أو لِوَارِثٍ فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ لِوَارِثٍ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِإِجَازَةِ الْبَاقِينَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ جِهَةَ الصِّحَّةِ لِلْإِقْرَارِ هِيَ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ على جَانِبِ الْكَذِبِ
وَهَذَا في الْوَارِثِ مِثْلُ ما في الْأَجْنَبِيِّ ثُمَّ يُقْبَلُ إقْرَارُ الْأَجْنَبِيِّ كَذَا الْوَارِثِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ وَابْنِهِ سَيِّدِنَا عبد اللَّهِ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا إذا إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ لم يَجُزْ وإذا أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ جَازَ
ولم يُرْوَ عن غَيْرِهِمَا خِلَافُ ذلك فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ في هذا الْإِقْرَارِ لِجَوَازِ أَنَّهُ آثَرَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ على بَعْضٍ بِمَيْلِ الطَّبْعِ أو بِقَضَاءِ حَقٍّ مُوجِبٍ لِلْبَعْثِ على الْإِحْسَانِ وهو لَا يَمْلِكُ ذلك بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ وَالْوَصِيَّةِ بِهِ فَأَرَادَ تَنْفِيذَ غَرَضِهِ بِصُورَةِ الْإِقْرَارِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْوَارِثِ عليه دَيْنٌ فَكَانَ مُتَّهَمًا في إقْرَارِهِ فَيُرَدُّ وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يَتَبَرَّعَ عليه بِشَيْءٍ من الثُّلُثِ مع ما أَنَّهُ خَالِصُ مِلْكِهِ لَا حَقَّ لِأَجْنَبِيٍّ فيه فَكَانَ إقْرَارُهُ لِلْبَعْضِ إبْطَالًا لِحَقِّ الْبَاقِينَ فَلَا يَصِحُّ في حَقِّهِمْ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لم تَجُزْ لِوَارِثٍ فَالْإِقْرَارُ أَوْلَى لِأَنَّهُ لو جَازَ الْإِقْرَارُ لَارْتَفَعَ بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ يَمِيلُ إلَى الْإِقْرَارِ اخْتِيَارًا لِلْإِيثَارِ بَلْ هو أَوْلَى من الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَذْهَبُ بِالْوَصِيَّةِ إلَّا الثُّلُثُ وَبِالْإِقْرَارِ يَذْهَبُ جَمِيعُ الْمَالِ فَكَانَ إبْطَالُ الْإِقْرَارِ إبْطَالَ الْوَصِيَّةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى
وَيَصِحُّ إقْرَارُ الصَّحِيحِ لِوَارِثٍ لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من الْمَوَانِعِ مُنْعَدِمَةٌ في إقْرَارِهِ
هذا إذَا أَقَرَّ لِوَارِثٍ فَإِنْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ فَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ في حَالَةِ الصِّحَّةِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ من جَمِيعِ التَّرِكَةِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ إلَّا في الثُّلُثِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ بِمَا زَادَ على الثُّلُثِ مُتَعَلِّقٌ وَلِهَذَا لم يَمْلِكْ التَّبَرُّعَ بِمَا زَادَ على الثُّلُثِ لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْأَثَرِ
وهو ما رُوِيَ عن ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما أَنَّهُ قال إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ لِأَجْنَبِيٍّ جَازَ ذلك من جَمِيعِ تَرِكَتِهِ ولم يُعْرَفْ له فيه من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مُخَالِفٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِأَنَّهُ في الْإِقْرَارِ لِلْأَجْنَبِيِّ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فَيَصِحُّ
وَيَصِحُّ إقْرَارُ الصَّحِيحِ لِلْأَجْنَبِيِّ من جَمِيعِ الْمَالِ لِانْعِدَامِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ في حَالَةِ الصِّحَّةِ بَلْ الدَّيْنُ في الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ حَالَةَ الْمَرَضِ
وَكَذَا لو أَقَرَّ الصَّحِيحُ بِدُيُونٍ لِأُنَاسٍ كَثِيرَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ بِأَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ جَازَ عليه كُلُّهُ لِأَنَّ حالة ( ( ( حال ) ) ) الصِّحَّةِ حَالُ الْإِطْلَاقِ لِوُجُودِ الْمُوجِبِ لِلْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا الِامْتِنَاعُ لِعَارِضِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ أو لِلتُّهْمَةِ وَكُلُّ ذلك هَهُنَا مُنْعَدِمٌ وَيَسْتَوِي فيه الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ لِحُصُولِ الْكُلِّ في حَالَةِ الْإِطْلَاقِ
وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدُيُونٍ لِأُنَاسٍ كَثِيرَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ بِأَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ بِدَيْنٍ جَازَ ذلك كُلُّهُ وَاسْتَوَى فيه الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ اسْتِوَاءَ الْكُلِّ في التَّعَلُّقِ لِاسْتِوَائِهِمَا في زَمَانِ التَّعَلُّقِ وهو زَمَانُ الْمَرَضِ إذْ زَمَنُ الْمَرَضِ مع امْتِدَادِهِ بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهِ حَقِيقَةً بِمَنْزِلَةِ زَمَانٍ وَاحِدٍ في الْحُكْمِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فيه التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ
وَلَوْ أَقَرَّ وهو مَرِيضٌ بِدَيْنٍ ثُمَّ بِعَيْنٍ بِأَنْ أَقَرَّ أَنَّ هذا الشَّيْءَ الذي في يَدِهِ وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ فَهُمَا دَيْنَانِ وَلَا تُقَدَّمُ
____________________

(7/224)


الْوَدِيعَةُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالدَّيْنِ قد صَحَّ فَأَوْجَبَ تَعَلُّقَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِالْعَيْنِ لِكَوْنِهَا مَمْلُوكَةً له من حَيْثُ الظَّاهِرِ وَالْإِقْرَارُ بالوديعة لَا يُبْطِلُ التَّعَلُّقَ لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ يُصَانُ عن الْإِبْطَالِ ما أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ ذلك إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِإِقْرَارِهِ بِاسْتِهْلَاكِ الْوَدِيعَةِ بِتَقْدِيمِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ عليه وإذا صَارَ مُقِرًّا بِاسْتِهْلَاكِ الْوَدِيعَةِ فَالْإِقْرَارُ بِاسْتِهْلَاكِ الْوَدِيعَةِ يَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِذَلِكَ كَانَا دَيْنَيْنِ
وَلَوْ أَقَرَّ بالوديعة أَوَّلًا ثُمَّ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ فَالْإِقْرَارُ بالوديعة أَوْلَى لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بالوديعة لَمَّا صَحَّ خَرَجَتْ الْوَدِيعَةُ من أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّعَلُّقِ لِخُرُوجِهَا عن مِلْكِهِ فَلَا يَثْبُتُ التَّعَلُّقُ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّ حَقَّ غَرِيمِ المرض ( ( ( المريض ) ) ) يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ لَا بِغَيْرِهَا ولم يُوجَدْ
وَكَذَلِكَ لو أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِمَالٍ في يَدِهِ أَنَّهُ بِضَاعَةٌ أو مُضَارَبَةٌ فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الْوَدِيعَةِ سَوَاءٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِالدَّيْنِ وَلَيْسَ عليه دَيْنٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ في حَالِ الصِّحَّةِ يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ
فَأَمَّا إذَا كان عليه دَيْنٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ بِغَيْرِ إقْرَارِهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ آخَرَ نُظِرَ في ذلك فَإِنْ لم يَكُنْ الْمُقَرُّ بِهِ ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِغَيْرِ إقْرَارِهِ تُقَدَّمُ الدُّيُونُ الظَّاهِرَةُ لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ في الْقَضَاءِ فَتُقْضَى دُيُونُهُمْ أَوَّلًا من التَّرِكَةِ فما فَضَلَ يُصْرَفُ إلَى غَيْرِ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَوِيَانِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ غَرِيمَ الْمَرَضِ مع غَرِيمِ الصِّحَّةِ اسْتَوَيَا في سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا كان سَبَبًا لِظُهُورِ الْحَقِّ لِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ على جَانِبِ الْكَذِبِ وَحَالَةُ الْمَرَضِ أَدَلُّ على الصِّدْقِ لِأَنَّهَا حَالَةٌ يَتَدَارَكُ الْإِنْسَانُ فيها ما فَرَّطَ في حَالَةِ الصِّحَّةِ فإن الصِّدْقَ فيها أَغْلَبُ فَكَانَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ
وَلَنَا أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ في حَقِّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ لم يُوجَدْ فَلَا يَصِحُّ في حَقِّهِ وَدَلِيلُ ذلك أَنَّ الشَّرْطَ فَرَاغُ الْمَالِ عن تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ لِمَا بَيَّنَّا ولم يُوجَدْ لِأَنَّ حَقَّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَالِهِ من أَوَّلِ الْمَرَضِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو تَبَرَّعَ بِشَيْءٍ من مَالِهِ لَا يَنْفُذُ تَبَرُّعُهُ وَلَوْلَا تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ لَنَفَذَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كان التَّبَرُّعُ تَصَرُّفًا من الْأَصْلِ في مَحَلٍّ هو خَالِصُ مِلْكِهِ وَحُكْمُ الشَّرْعِ في مِثْلِهِ النَّفَاذُ فَدَلَّ عَدَمُ النَّفَاذِ على تَعَلُّقِ النَّفَاذِ وإذا ثَبَتَ التَّعَلُّقُ فَقَدْ انْعَدَمَ الْفَرَاغُ الذي هو شَرْطُ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ في حَقِّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ فَلَا يَصِحُّ في حَقِّهِ وَلِأَنَّهُ إذَا لم يَعْلَمْ وُجُوبَهُ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ مَعْلُومٍ سِوَى إقْرَارِهِ كان مُتَّهَمًا في هذا الْإِقْرَارِ في حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ له ضَرْبُ عِنَايَةٍ في حَقِّ شَخْصٍ يَمِيلُ طَبْعُهُ إلَى الْإِحْسَانِ إلَيْهِ أو بَيْنَهُمَا حُقُوقٌ تَبْعَثُهُ على الْمَعْرُوفِ وَالصِّلَةِ في حَقِّهِ وَلَا يَمْلِكُ ذلك بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ فَيُرِيدُ بِهِ تَحْصِيلَ مُرَادِهِ بِصُورَةِ الْإِقْرَارِ فَكَانَ مُتَّهَمًا في حَقِّ أَصْحَابِ الدُّيُونِ الظَّاهِرَةِ أَنَّهُ أَظْهَرَ الْإِقْرَارَ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عليه دَيْنٌ فَيُرَدُّ إقْرَارُهُ بِالتُّهْمَةِ
وَكَذَلِكَ إذَا كان عليه دَيْنُ الصِّحَّةِ فَأَقَرَّ بِعَبْدِهِ في يَدِهِ أَنَّهُ لِفُلَانٍ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ في حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَكَانُوا أَحَقَّ بِالْغُرَمَاءِ من الذي أَقَرَّ له لِأَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْعَبْدِ لِمَا بَيَّنَّا وكان الْإِقْرَارُ بِالْعَبْدِ لِفُلَانٍ إبْطَالًا لِحَقِّهِمْ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ في حَقِّهِمْ
هذا الذي ذَكَرْنَا إذَا لم يَكُنْ الدَّيْنُ الْمُقَرُّ بِهِ ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِغَيْرِ إقْرَارِهِ
فَأَمَّا إذَا كان بِأَنْ كان بَدَلًا عن مَالٍ مَلَكَهُ كَبَدَلِ الْقَرْضِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ أو بَدَلًا عن مَالٍ اسْتَهْلَكَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الصِّحَّةِ وَيُقَدَّمَانِ جميعا على دَيْنِ الْمَرَضِ لِأَنَّهُ إذَا كان ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِسَبَبٍ مَعْلُومٍ لم يَحْتَمِلْ الرَّدَّ فَيَظْهَرُ وُجُوبُهُ بِإِقْرَارِهِ وَتَعَلُّقِهِ بِالتَّرِكَةِ من أَوَّلِ الْمَرَضِ
وَكَذَا إذَا كان ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِسَبَبٍ مَعْلُومٍ لَا يُتَّهَمُ في إقْرَارِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً في مَرَضِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ جَازَ ذلك على غُرَمَاءِ الصِّحَّة وَالْمَرْأَةُ تحاصصهم ( ( ( تخاصمهم ) ) ) بِمَهْرِهَا لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ النِّكَاحُ وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِوُجُوبِ الْمَهْرِ كان وُجُوبُهُ ظَاهِرًا مَعْلُومًا لِظُهُورِ سَبَبِ وُجُوبِهِ وهو النِّكَاحُ فلم يَكُنْ وُجُوبُهُ مُحْتَمِلًا لِلرَّدِّ فَيَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ ضَرُورَةً
يُحَقِّقُهُ أَنَّ النِّكَاحَ إذَا لم يَجُزْ بِدُونِ وُجُوبِ الْمَهْرِ وَالنِّكَاحُ من الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ فَكَذَلِكَ وُجُوبُ الْمَهْرِ الذي هو من لَوَازِمِهِ شَرْعًا وَالْمَرِيضُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عن صَرْفِ مَالِهِ إلَى حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ كَثَمَنِ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَإِنْ كان عليه دَيْنُ الصِّحَّةِ
وَلِلصَّحِيحِ أَنْ يُؤْثِرَ بَعْضَ الْغُرَمَاءِ على بَعْضٍ حتى أَنَّهُ لو قَضَى دَيْنَ أَحَدِهِمْ لَا يُشَارِكُهُ فيه الْبَاقُونَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّيْنَ في حَالَةِ الصِّحَّةِ لم يَتَعَلَّقْ بِالْمَالِ بَلْ هو في الذِّمَّةِ فَلَا يَكُونُ في إيثَارِ الْبَعْضِ إبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ إلَّا أَنْ يُقِرَّ لِرَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ وَاحِدٍ فما قَبَضَ أَحَدُهُمَا منه شيئا كان لِصَاحِبِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فيه لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنًا مُشْتَرَكًا فَكَانَ الْمَقْبُوضُ على الشَّرِكَةِ وَلَيْسَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يُؤْثِرَ بَعْضَ غُرَمَائِهِ على بَعْضٍ سَوَاءٌ كَانُوا غُرَمَاءَ الْمَرَضِ أو غُرَمَاءَ الصِّحَّةِ حتى أَنَّهُ لو قَضَى
____________________

(7/225)


دَيْنَ أَحَدِهِمْ شَارَكَهُ الْبَاقُونَ في الْمَقْبُوضِ لِأَنَّ الْمَرَضَ أَوْجَبَ تَعَلُّقَ الْحَقِّ بِالتَّرِكَةِ وَحُقُوقُهُمْ في التَّعَلُّقِ على السَّوَاءِ فَكَانَ في إيثَارِ الْبَعْضِ إبْطَالَ حَقِّ الْبَاقِينَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذلك بَدَلَ قَرْضٍ أو ثَمَنَ مَبِيعٍ بِأَنْ اسْتَقْرَضَ في مَرَضِهِ أو اشْتَرَى شيئا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وكان ذلك ظَاهِرًا مَعْلُومًا فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ الْقَرْضَ وَيَنْقُدَ الثَّمَنَ وَلَا يُشَارِكَهُ الْغُرَمَاءُ في الْمَقْبُوضِ وَالْمَنْقُودِ لِأَنَّ الْإِيثَارَ في هذه الصُّورَةِ ليس إبْطَالًا لِحَقِّ الْبَاقِينَ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعْنَى التَّرِكَةِ لَا بِصُورَتِهَا وَالتَّرِكَةُ قَائِمَةٌ من حَيْثُ الْمَعْنَى لِقِيَامِ بَدَلِهَا لِأَنَّ بَدَلَ الشَّيْءِ يَقُومُ مقامه كَأَنَّهُ هو فلم يَكُنْ ذلك إبْطَالًا مَعْنًى
وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً أو اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَنَقَدَهُمَا الْمَهْرَ وَالْأُجْرَةَ لَا يُسَلِّمُ لَهُمَا الْمَنْقُودَ بَلْ الْغُرَمَاءُ يَتْبَعُونَهُمَا وَيُخَاصِمُونَهُمَا بِدُيُونِهِمْ وَكَانُوا أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ أَعْنِي جَعْلَ الْمَنْقُودِ سَالِمًا لَهُمَا إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ صُورَةً وَمَعْنًى لِأَنَّ الْمَهْرَ بَدَلٌ عن مِلْكِ النِّكَاحِ وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ تَعَلُّقَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ
وَكَذَلِكَ الْأُجْرَةُ بَدَلٌ عن الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَوْفَاةِ وَهِيَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ تَعَلُّقَ الْحَقِّ بِهِ لِذَلِكَ لَزِمَ الِاسْتِوَاءُ في الْقِسْمَةِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ تَقْدِيمُ الدَّيْنِ على الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ
لِأَنَّ الْمِيرَاثَ حَقٌّ وُضِعَ في الْمَالِ الْفَارِغِ عن حَاجَةِ الْمَيِّتِ فإذا مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لِلتَّرِكَةِ وَالتَّرِكَةُ مَشْغُولَةٌ بِحَاجَتِهِ فلم يُوجَدْ شَرْطُ جَرَيَانِ الْإِرْثِ فيه قال اللَّهُ تَعَالَى عز من قَائِلٍ { من بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصي بها أو دَيْنٍ } وقد قَدَّمَ الدَّيْنَ على الْمِيرَاثِ وَسَوَاءٌ كان دَيْنَ الصِّحَّةِ أو دَيْنَ الْمَرَضِ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا وهو ما بَيَّنَّا
وإذا اجْتَمَعَتْ الدُّيُونُ فَالْغُرَمَاءُ يُقَسِّمُونَ التَّرِكَةَ على قَدْرِ دُيُونِهِمْ بِالْحِصَصِ وَلَوْ تَوَى شَيْءٌ من التَّرِكَةِ قبل الْقِسْمَةِ اقْتَسَمُوا الْبَاقِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ وَيُجْعَلُ التَّاوِي كَأَنَّهُ لم يَكُنْ أَصْلًا لِأَنَّ حَقَّ كل وَاحِدٍ منهم تَعَلَّقَ بِكُلِّ جُزْءٍ من التَّرِكَةِ فَكَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ على قَدْرِ دُيُونِهِمْ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ تَعَلُّقِ الْحَقِّ فَمَحَلُّ تَعَلُّقِ الْحَقِّ هو الْمَالُ لِأَنَّ الدَّيْنَ يُقْضَى من الْمَالِ لَا من غَيْرِهِ فَيَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِكُلِّ مَتْرُوكٍ هو مَالٌ من الْعَيْنِ وَالدَّيْنُ وَدِيَةُ الْمَدْيُونِ وَأَرْشُ الْجِنَايَاتِ الْوَاجِبَةُ له بِالْجِنَايَةِ عليه خَطَأً أو عَمْدًا لِأَنَّ كُلَّ ذلك مَالٌ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِصَاصِ في النَّفْسِ وما دُونَهَا حتى لَا يَصِحَّ عَفْوُهُمْ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ
وَلَوْ عَفَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ عن الْقِصَاصِ حتى انْقَلَبَ نَصِيبُ الْبَاقِينَ ما لا يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِهِ ويقضي منه دُيُونُهُمْ لِأَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِ الْمَقْتُولِ فَكَانَ حَقَّهُ فَيُصْرَفُ إلَى دُيُونِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ الْمَتْرُوكَةِ
وَكَذَلِكَ الْمَدْيُونُ إذَا كانت امْرَأَةً يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِمَهْرِهَا وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ لِأَنَّ الْمَهْرَ مَالٌ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وما عُرِفَ من أَحْكَامِ الْأَقَارِيرِ وَتَفَاصِيلِهَا في الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ في إقْرَارِ الْحُرِّ فَهُوَ الْحُكْمُ في إقْرَارِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ لِكَوْنِهِ من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ على ما بَيَّنَّا في كِتَابِ الْمَأْذُونِ فَكَانَ هو في حُكْمِ الْإِقْرَارِ وَالْحُرُّ سَوَاءً
وَلَوْ تَصَرَّفَ الْمَأْذُونُ في مَرَضِهِ جَازَتْ مُحَابَاتُهُ من جَمِيعِ الْمَالِ وَمُحَابَاةُ الْحُرِّ الْمَرِيضِ لَا تَجُوزُ إلَّا من الثُّلُثِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ انْحِجَارَ الْحُرِّ عن الْمُحَابَاةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ وَالْعَبْدُ لَا وَارِثَ له وَحُكْمُ تَصَرُّفِهِ يَقَعُ لِمَوْلَاهُ فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ في مَرَضِ مَوْتِهِ وَحَابَى أَنَّهُ تَجُوزُ مُحَابَاتُهُ من جَمِيعِ الْمَالِ
كَذَا هذا
وَلَوْ كان على الْعَبْدِ دَيْنٌ وفي يَدِهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ أَخَذَ الْغُرَمَاءُ دُيُونَهُمْ وَجَازَتْ الْمُحَابَاةُ فِيمَا بَقِيَ من الْمَالِ وَإِنْ كان الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَا في يَدِهِ يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي إنْ شِئْت فَأَدِّ جَمِيعَ الْمُحَابَاةِ وَإِلَّا فَارْدُدْ الْمَبِيعَ كَالْحُرِّ الْمَرِيضِ إذَا حَابَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ له على غَيْرِهِ فَلَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ له على وَارِثٍ وَإِمَّا أن أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ له على أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ له على أَجْنَبِيٍّ فَإِمَّا أن أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ له في حَالَةِ الصِّحَّةِ وَإِمَّا إنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ له في حَالَةِ الْمَرَضِ فَإِنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ له في حَالَةِ الصِّحَّةِ يَصِحُّ وَيُصَدَّقُ في إقْرَارِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ حتى يَبْرَأَ الْغَرِيمُ عن الدَّيْنِ سَوَاءٌ كان الدَّيْنُ الْوَاجِبُ في حَالَةِ الصِّحَّةِ بَدَلًا عَمَّا ليس بِمَالٍ نحو أَرْشِ جِنَايَةٍ أو بَدَلِ صُلْحٍ عن عَمْدٍ أو كان بَدَلًا عَمَّا هو مَالٌ نحو بَدَلِ قَرْضٍ أو ثَمَنِ مَبِيعٍ وَسَوَاءٌ لم يَكُنْ عليه دَيْنُ الصِّحَّةِ أو كان عليه دَيْنُ الصِّحَّةِ
أَمَّا إذَا وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا هو مَالُ فلأن الْمَرِيضِ
____________________

(7/226)


بهذا الْإِقْرَارِ لم يَبْطُلْ حَقُّ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ اسْتَحَقَّ الْبَرَاءَةَ عن الدَّيْنِ بِالْإِقْرَارِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ حَالَةَ الصِّحَّةِ كما اسْتَحَقَّهَا بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ بِالتَّخْلِيَةِ بين الْمَالِ وَبَيْنَ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَالْعَارِضُ هو الْمَرَضُ وَأَثَرُهُ في حَجْرِ الْمَرِيضِ عَمَّا كان له لَا في حَجْرِهِ عَمَّا كان حَقًّا مُسْتَحَقًّا عليه كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا أَقَرَّ بَعْدَ الْحَجْرِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ ثَبَتَ له في حَالَةِ الْإِذْنِ أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ حَجْرَ الْعَبْدِ أَقْوَى لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَحْجُورًا عن الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْمَرِيضُ لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عن الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ثُمَّ أَثَرُ الْحَجْرِ هُنَاكَ ظَهَرَ فِيمَا له لَا فِيمَا عليه فَهَهُنَا أَوْلَى
وَأَمَّا إذَا وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا ليس بِمَالٍ فَلِأَنَّ بِالْمَرَضِ لم يَتَعَلَّقْ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْمُبْدَلِ وهو النَّفْسُ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَلِ وإذا لم يَتَعَلَّقْ حَقُّهُمْ بِهِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ إبْطَالًا لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ فَيَصِحُّ وَيَبْرَأُ الْغَرِيمُ
وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ الْمَوْلَى بِاسْتِيفَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ الْوَاقِعَةِ في حَالَةِ الصِّحَّةِ يُصَدَّقُ وَيَبْرَأُ الْمُكَاتَبُ لِمَا قُلْنَا
هذا إذَا أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ له في حَالَةِ الصِّحَّةِ فَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ له في حَالَةِ الْمَرَضِ فَإِنْ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا هو مَالٌ لم يَصِحَّ إقْرَارُهُ ولا يُصَدَّقُ في حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَيُجْعَلُ ذلك منه إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْمُبْدَلِ لِأَنَّهُ مَالٌ فَكَانَ الْبَيْعُ وَالْقَرْضُ إبْطَالًا لِحَقِّهِمْ عن الْمُبْدَلِ إلَّا أَنْ يَصِلَ الْبَدَلُ إلَيْهِمْ فَيَكُونُ بَدَلًا مَعْنًى لِقِيَامِ الْبَدَلِ مَقَامَهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالِاسْتِيفَاءِ فَلَا وُصُولَ لِلْبَدَلِ إلَيْهِمْ فلم يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ في حَقِّهِمْ فَبَقِيَ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالِاسْتِيفَاءِ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ كُلَّ من اسْتَوْفَى دَيْنًا من غَيْرِهِ يَصِيرُ الْمُسْتَوْفَى دَيْنًا في ذِمَّةِ الْمُسْتَوْفِي ثُمَّ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالِاسْتِيفَاءِ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالدَّيْنِ وَعَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ لَا يَصِحُّ في حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ
وَكَذَلِكَ لو أَتْلَفَ رَجُلٌ على الْمَرِيضِ شيئا في مَرَضِهِ فَأَقَرَّ الْمَرِيضُ بِقَبْضِ الْقِيمَةِ منه لم يُصَدَّقْ في ذلك إذَا كان عليه دَيْنُ الصِّحَّةِ لِأَنَّ الْحَقَّ كان مُتَعَلِّقًا بِالْمُبْدَلِ حَالَةَ الْمَرَضِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْبَدَلِ
وَلَوْ أَتْلَفَ في حَالَةِ الصِّحَّةِ فَأَقَرَّ في حَالَةِ الْمَرَضِ صَحَّ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِقَبْضِ دَيْنِ الصِّحَّةِ في حَالَةِ الْمَرَضِ صَحِيحٌ وَإِنْ كان بَدَلًا عَمَّا هو بِالْمَالِ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا ليس بِمَالٍ يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ بِالْمَرَضِ لم يَتَعَلَّقْ حَقُّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ بِالْمُبْدَلِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعَلُّقَ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَلِ فَصَارَ الْإِقْرَارُ بِاسْتِيفَائِهِ وَالْإِقْرَارُ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ له في حالة ( ( ( حال ) ) ) الصِّحَّةِ سَوَاءٌ وَذَلِكَ صَحِيحٌ كذا هذا
وَكَذَلِكَ لو أَقَرَّ رَجُلٌ لِلْمَرِيضِ أَنَّهُ قَتَلَ عَبْدًا في مَرَضِهِ خَطَأً أو قَطَعَ يَدَ الْعَبْدِ أو قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على ذلك فَلَزِمَهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ فَأَقَرَّ الْمَرِيضُ بِالِاسْتِيفَاءِ فَهُوَ مُصَدَّقٌ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِقَتْلِ الْعَبْدِ بَدَلُ النَّفْسِ عِنْدَنَا لَا بَدَلُ الْمَالِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ مُقَدَّرًا كَأَرْشِ الْأَحْرَارِ حتى لو قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ قِيمَتُهُ ثَلَاثُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ إلَّا أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا عِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيُنْقِصُ عَشَرَةً عن عَشْرَةِ آلَافٍ لِئَلَّا يَبْلُغَ دِيَةَ الْحُرِّ وَيُنْقِصُ الدِّرْهَمُ الْحَادِيَ عَشَرَ لِئَلَّا تَبْلُغَ بَدَلُ يَدِهِ بَدَلَ نَفْسِهِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ بِقَطْعِ يَدِ هذا الْعَبْدِ خَمْسَةُ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ دَلَّ أَنَّ أَرْشَ يَدِ الْعَبْدِ وَجَبَ مُقَدَّرًا فَكَانَ بَدَلًا عَمَّا ليس بِمَالٍ كَأَرْشِ الْحُرِّ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِالِاسْتِيفَاءِ إبْطَالًا لِحَقِّهِمْ
وَكَذَلِكَ لو كان الْجَانِي قَتَلَ الْعَبْدَ مُتَعَمِّدًا فَصَالَحَهُ الْمَرِيضُ على مَالٍ ثُمَّ أَقَرَّ إنه استوفي بَدَلَ الصُّلْحِ جَازَ وكان مُصَدَّقًا لِأَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ بَدَلٌ عَمَّا ليس بِمَالٍ
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بالصواب
فَصْلٌ وَإِنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ له على وَارِثٍ لَا يَصِحُّ سَوَاءٌ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا هو مَالٌ أو بَدَلًا عَمَّا ليس بِمَالٍ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ وهو أَنْ يَصِيرَ الْمُسْتَوْفَى دَيْنًا في ذِمَّةِ الْمُسْتَوْفِي فَكَانَ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بَاطِلٌ
وَعَلَى هذا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَقَرَّتْ في مَرَضِ مَوْتِهَا أنها اسْتَوْفَتْ مَهْرَهَا من زَوْجِهَا وَلَا يُعْلَمُ ذلك إلَّا بِقَوْلِهَا وَعَلَيْهَا دَيْنُ الصِّحَّةِ ثُمَّ مَاتَتْ قبل أَنْ يُطَلِّقَهَا زَوْجُهَا وَلَا مَالَ لها غَيْرُ الْمَهْرِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهَا وَيُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِرَدِّ الْمَهْرِ إلَى الْغُرَمَاءِ فَيَكُونُ بين الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ لِأَنَّ الزَّوْجَ وَارِثُهَا وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ وَجَبَ له على وَارِثِهِ لَا يَصِحُّ وَإِنْ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا ليس بِمَالٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ذلك إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لِلْوَارِثِ وإنه بَاطِلٌ
وَلَوْ أَقَرَّتْ في مَرَضِهَا أنها اسْتَوْفَتْ الْمَهْرَ من زَوْجِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قبل الدُّخُولِ بها يَصِحُّ إقْرَارُهَا لِأَنَّ الزَّوْجَ بِالطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لها فلم يَكُنْ إقْرَارُهَا بِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ منه إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِلْوَارِثِ فَصَحَّ وَلَيْسَ
____________________

(7/227)


لِلزَّوْجِ أَنْ يُضَارِبَ الْغُرَمَاءَ بِنِصْفِ الْمَهْرِ فيقول إنها أَقَرَّتْ بِاسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الْمَهْرِ مِنِّي وَهِيَ لَا تَسْتَحِقُّ بِالطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ إلَّا نِصْفَ الْمَهْرِ فَصَارَ نِصْفُ الْمَهْرِ دَيْنًا لي عليها فَأَنَا أَضْرِبُ مع غُرَمَائِهَا لِأَنَّ إقْرَارَهَا بِالِاسْتِيفَاءِ إنَّمَا يَصِحُّ في حَقِّ بَرَاءَةِ الزَّوْجِ عن الْمَهْرِ لَا في حَقِّ إثْبَاتِ الشَّرِكَةِ في مَالِهَا مع غُرَمَائِهَا لِأَنَّ دُيُونَهُمْ دُيُونُ الصِّحَّةِ وَإِقْرَارُهَا لِلزَّوْجِ في حَالَةِ الْمَرَضِ فَلَا يَصِحُّ في حَقِّهِمْ
وَلَوْ كان الزَّوْجُ دخل بها فَأَقَرَّتْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ ثُمَّ طَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا أو رَجْعِيًّا ثُمَّ مات ( ( ( ماتت ) ) ) بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِأَنَّ الزَّوْجَ عِنْدَ الْمَوْتِ ليس بِوَارِثٍ
وَلَوْ مَاتَتْ قبل انْقِضَاءِ الْعِدَّة لَا يَصِحُّ إقْرَارُهَا
أَمَّا في الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَلِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ بَاقِيَةٌ وَالْوِرَاثَةَ قَائِمَةٌ وَأَمَّا في الْبَائِنِ فَلِأَنَّ الْعِدَّةَ بَاقِيَةٌ وَكَانَتْ مَمْنُوعَةً من هذا الْإِقْرَارِ لِقِيَامِ النِّكَاحِ في حَالَةِ الْعِدَّةِ فَكَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا من وَجْهٍ فَلَا يَزُولُ الْمَنْعُ ما دَامَ الْمَانِعُ قَائِمًا من وَجْهٍ
وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُعْتَدَّةِ لِزَوْجِهَا
وَإِنْ كان الطَّلَاقُ بَائِنًا وإذا لم يَصِحَّ إقْرَارُهَا وَعَلَيْهَا دُيُونُ الصِّحَّةِ فَيَسْتَوْفِي أَصْحَابُ دُيُونِ الصِّحَّةِ دُيُونَهُمْ فَإِنْ فَضَلَ من مَالِهَا شَيْءٌ يُنْظَرُ إلَى الْمَهْرِ وَإِلَى مِيرَاثِهِ منها فَيُسَلَّمُ له الْأَقَلُّ مِنْهُمَا وَمَشَايِخُنَا يَقُولُونَ إنَّ هذا الْجَوَابَ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
وَأَمَّا على قَوْلِهِمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ إقْرَارُهَا بِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ من الزَّوْجِ صَحِيحًا في حَقِّ التَّقْدِيمِ على الْوَرَثَةِ في جَمِيعِ ما أَقَرَّتْ
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ في كِتَابِ الطَّلَاقِ في الْمَرِيضِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ بِسُؤَالِهَا ثُمَّ يُقِرُّ لها بِمَالٍ أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ لَا مِيرَاثَ لها منه وأبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه يقول لها الْأَقَلُّ من نَصِيبِهَا من الْمِيرَاثِ وَمِمَّا أَقَرَّ لها بِهِ فَهُمَا يَعْتَبِرَانِ ظَاهِرَ كَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً وأبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يقول يَحْتَمِلُ أَنَّهُمَا تَوَاضَعَا على ذلك لِيُقِرَّ لها بِأَكْثَرَ من نَصِيبِهَا فَكَانَ مُتَّهَمًا فِيمَا زَادَ على مِيرَاثِهَا في حَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فلم يَصِحَّ فَهَذَا كَذَلِكَ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ في حَالَةِ الْمَرَضِ في الْإِقْرَارِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ كَالْحُرِّ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ وَقَبْضِهِ كَالْحُرِّ فَكُلُّ ما صَحَّ من الْحُرِّ يَصِحُّ منه وما لَا فَلَا
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالْإِبْرَاءِ بِأَنْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ أَنَّهُ كان أَبْرَأَ فُلَانًا من الدَّيْنِ الذي عليه في صِحَّتِهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْإِبْرَاءِ لِلْحَالِ فَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِقَبْضِ الدَّيْنِ وَأَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْقَبْضِ فَيَمْلِكُ الأخبار عنه بِالْإِقْرَارِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ فَهُوَ الْإِقْرَارُ بِالْوَارِثِ وهو نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا إقْرَارُ الرَّجُلِ بِوَارِثٍ وَالثَّانِي إقْرَارُ الْوَارِثِ بِوَارِثِهِ وَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَانِ حُكْمُ النَّسَبِ وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ أَمَّا الْإِقْرَارُ بِوَارِثٍ فَلِصِحَّتِهِ في حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ شَرَائِطُ منها أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مُحْتَمِلَ الثُّبُوتِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عن كَائِنٍ فإذا اسْتَحَالَ كَوْنُهُ فالأخبار عن كَائِنٍ يَكُونُ كَذِبًا مَحْضًا
وَبَيَانُهُ أنه من أَقَرَّ بِغُلَامٍ أَنَّهُ ابْنُهُ وَمِثْلُهُ لَا يَلِدُ مثله لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ ابْنًا له فَكَانَ كَذِبًا في إقْرَارِهِ بِيَقِينٍ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمُقَرُّ بِنَسَبِهِ مَعْرُوفَ النَّسَبِ من غَيْرِهِ
فَإِنْ كان لم يَصِحَّ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ نَسَبُهُ من غَيْرِهِ لَا يَحْتَمِلُ ثُبُوتَهُ له بَعْدَهُ
وَمِنْهَا تَصْدِيقُ الْمُقَرِّ بِنَسَبِهِ إذَا كان في يَدِ نَفْسِهِ
لِأَنَّ إقْرَارَهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ يَدِهِ فَلَا تَبْطُلُ إلَّا بِرِضَاهُ وَلَا يُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْمُقِرِّ لِصِحَّةِ إقْرَارِهِ بِالنَّسَبِ حتى يَصِحَّ من الصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ جميعا لِأَنَّ الْمَرَضَ ليس بِمَانِعٍ لِعَيْنِهِ بَلْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ أو التُّهْمَةِ فَكُلُّ ذلك مُنْعَدِمٌ أَمَّا التَّعَلُّقُ فَظَاهِرُ الْعَدَمِ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ التَّعَلُّقُ في مَجْهُولِ النَّسَبِ
وَكَذَلِكَ مَعْنَى التُّهْمَةِ لِأَنَّ الْإِرْثَ ليس من لَوَازِمِ النَّسَبِ فإن لِحِرْمَانِ الْإِرْثِ أَسْبَابًا لَا تَقْدَحُ في النَّسَبِ من الْقَتْلِ وَالرِّقِّ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ وَالدَّارِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فيه حَمْلُ النَّسَبِ على الْغَيْرِ سَوَاءٌ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ بِنَسَبِهِ أو صَدَّقَهُ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ حُجَّةٌ على نَفْسِهِ لَا على غَيْرِهِ لِأَنَّهُ على غَيْرِهِ شَهَادَةٌ أو دَعْوَى وَالدَّعْوَى الْمُفْرَدَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ فِيمَا يَطَّلِعُ عليه الرِّجَالُ وهو من بَابِ حُقُوقِ الْعِبَادِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَالْإِقْرَارُ الذي فيه حَمْلُ نَسَبِ الْغَيْرِ على غَيْرِهِ إقْرَارٌ على غَيْرِهِ لَا على نَفْسِهِ فَكَانَ دَعْوَى أو شَهَادَةً وَكُلُّ ذلك لَا يُقْبَلُ إلَّا بِحُجَّةٍ
وَعَلَى هذا يَجُوزُ إقْرَارُ الرَّجُلِ بِخَمْسَةِ نَفَرٍ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ وَالْمَوْلَى وَيَجُوزُ إقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ الْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالْمَوْلَى
وَلَا يَجُوزُ بِالْوَلَدِ لِأَنَّهُ ليس في الْإِقْرَارِ بِهَؤُلَاءِ حَمْلُ نَسَبِ الْغَيْرِ على غَيْرِهِ
أَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْوَلَاءِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ ليس فيه حَمْلُ نَسَبٍ إلَى أَحَدٍ

____________________

(7/228)


وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالزَّوْجِيَّةِ ليس فيه حَمْلُ نَسَبِ الْغَيْرِ على غَيْرِهِ لَكِنْ لَا بُدَّ من التَّصْدِيقِ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ إنْ وُجِدَ التَّصْدِيقُ في حَالِ حَيَاةِ الْمُقِرِّ جَازَ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ وُجِدَ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَإِنْ كان الْإِقْرَارُ من الزَّوْجِ يَصِحُّ تَصْدِيقُ الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ صَدَّقَتْهُ في حَالِ حَيَاتِهِ أو بَعْدَ وَفَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ بِأَنْ أَقَرَّ الرَّجُلُ بِالزَّوْجِيَّةِ فَمَاتَ ثُمَّ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ من وَجْهٍ لِبَقَاءِ بَعْضِ أَحْكَامِهِ في الْعِدَّةِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلتَّصْدِيقِ
وَإِنْ كان الْإِقْرَارُ بِالزَّوْجِيَّةِ من الْمَرْأَةِ فَصَدَّقَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ مَوْتِهَا لَا يَصِحُّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا ما ذَكَرْنَا أَنَّ النِّكَاحَ يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ من وَجْهٍ فَيَجُوزُ التَّصْدِيقُ كما إذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالزَّوْجِيَّةِ وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ النِّكَاحَ لِلْحَالِ عَدَمٌ حَقِيقَةً فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّصْدِيقِ إلَّا أَنَّهُ أُعْطِيَ له حُكْمُ الْبَقَاءِ لِاسْتِيفَاءِ أَحْكَامٍ كانت ثَابِتَةً قبل الْمَوْتِ
وَالْمِيرَاثُ حُكْمٌ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ زَائِلًا في حَقِّ هذا الْحُكْمِ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْوَلَدِ فَلِأَنَّهُ ليس فيه حَمْلُ نَسَبِ غَيْرِهِ على غَيْرِهِ بَلْ على نَفْسِهِ فَيَكُونُ إقْرَارًا على نَفْسِهِ لَا على غير ( ( ( غيره ) ) ) فَيُقْبَلُ لَكِنْ لَا بُدَّ من التَّصْدِيقِ إذَا كان في يَدِ نَفْسِهِ لِمَا قُلْنَا وَسَوَاءٌ وَجَدَهُ في حَالِ حَيَاتِهِ أو بَعْدَ وَفَاتِهِ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَيَجُوزُ التَّصْدِيقُ في الْحَالَيْنِ جميعا
وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالْوَالِدَيْنِ ليس فيه حَمْلُ نَسَبِ غَيْرِهِ على غَيْرِهِ فَيَكُونُ إقْرَارًا على نَفْسِهِ لَا على غَيْرِهِ فَيُقْبَلُ وَكَذَلِكَ إقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِهَؤُلَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا إلَّا الْوَلَدَ لِأَنَّ فيه حَمْلَ نَسَبِ غَيْرِهِ على غَيْرِهِ وهو نَسَبُ الْوَلَدِ على الزَّوْجِ فَلَا يُقْبَلُ إلَّا إذَا صَدَّقَهَا الزَّوْجُ أو تَشْهَدُ امْرَأَةٌ على الْوِلَادَةِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ لِأَنَّ فيه حَمْلَ نَسَبِ الْوَلَدِ على نَفْسِهِ وَلَا يَجُوزُ الْإِقْرَارُ بِغَيْرِ هَؤُلَاءِ من الْعَمِّ وَالْأَخِ لِأَنَّ فيه حَمْلَ نَسَبِ غَيْرِهِ على غَيْرِهِ وهو الْأَبُ وَالْجَدُّ
وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِوَارِثٍ في حَقِّ حُكْمِ الْمِيرَاثِ يُشْتَرَطُ له ما يُشْتَرَطُ لِلْإِقْرَارِ بِهِ في حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ وهو ما ذَكَرْنَا إلَّا شَرْطَ حَمْلِ النَّسَبِ على الْغَيْرِ فإن الْإِقْرَارَ بِنَسَبٍ يَحْمِلُهُ الْمُقِرُّ على غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ في حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ أَصْلًا وَيَصِحُّ في حَقِّ الْمِيرَاثِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ له وَارِثٌ أَصْلًا وَيَكُونَ مِيرَاثُهُ له لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ وَاجِبُ التَّصْحِيحِ ما أَمْكَنَ فَإِنْ لم يُمْكِنْ في حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ لِفَقْدِ شَرْطِ الصِّحَّةِ أَمْكَنَ في حَقِّ الْمِيرَاثِ وَإِنْ كان ثَمَّةَ وَارِثٌ قَرِيبًا كان أو بَعِيدًا لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ أَصْلًا وَلَا شَيْءَ له في الْمِيرَاثِ بِأَنْ أَقَرَّ بِأَخٍ وَلَهُ عَمَّةٌ أو خَالَةٌ فَمِيرَاثُهُ لِعَمَّتِهِ أو لِخَالَتِهِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ له لِأَنَّهُمَا وَارِثَانِ بِيَقِينٍ فَكَانَ حَقُّهُمَا ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بِالصَّرْفِ إلَى غَيْرِهِمَا
وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِأَخٍ أو ابْنِ ابْنٍ وَلَهُ مولى الْمُوَالَاةِ ثُمَّ مَاتَ فَالْمِيرَاثُ لِلْمَوْلَى وَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ له لِأَنَّ الْوَلَاءَ من أَسْبَابِ الْإِرْثِ وَلَا يَكُونُ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ رُجُوعًا عن عَقْدِ الْمُوَالَاةِ لِانْعِدَامِ الرُّجُوعِ حَقِيقَةً فَبَقِيَ الْعَقْدُ وإنه يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِالْمَذْكُورِ وَكَذَلِكَ لو كان مولى الْمُوَالَاةِ هو مولى الْعَتَاقَةِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ عَصَبَتُهُ
وَلَوْ لم يَكُنْ له وَارِثٌ وَلَكِنَّهُ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ لِرَجُلٍ فَالثُّلُثُ لِلْمُوصَى له وَالْبَاقِي لِلْأَخِ الْمُقَرِّ بِهِ لِأَنَّهُ وَارِثٌ في زَعْمِهِ وَظَنِّهِ
وَلَوْ كان مع الْمُوصَى له بِالْمَالِ مولى الْمُوَالَاةِ أَيْضًا فالموصى ( ( ( فللموصى ) ) ) له الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى وَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ له لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ لَكِنَّهَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِالْمَذْكُورِ لِمَا بَيَّنَّا
وَكَذَلِكَ لو كان مَكَانَ مولى الْمُوَالَاةِ مولى الْعَتَاقَةِ لِأَنَّ مولى الْعَتَاقَةِ آخِرُ الْعَصَبَاتِ مُقَدَّمٌ على ذَوِي الْأَرْحَامِ وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ آخِرُ الْوَرَثَةِ مُؤَخَّرٌ عن ذَوِي الْأَرْحَامِ فَأَضْعَفُ الْوِلَاءَيْنِ لَمَّا مَنَعَ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِالْمَذْكُورِ فَأَقْوَاهُمَا أَوْلَى
وَلَوْ أَقَرَّ بِأَخٍ في مَرَضِ الْمَوْتِ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ له ثُمَّ أَنْكَرَ الْمَرِيضُ بَعْدَ ذلك وقال ليس بَيْنِي وَبَيْنَك قَرَابَةٌ بَطَلَ إقْرَارُهُ في حَقِّ الْمِيرَاثِ أَيْضًا حتى إنه لو أَوْصَى بَعْدَ الْإِنْكَارِ بِمَالِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ مَاتَ وَلَا وَارِثَ له فَالْمَالُ كُلُّهُ لِلْمُوصَى له بِجَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ منه رُجُوعٌ وَالرُّجُوعُ عن مِثْلِ هذا الْإِقْرَارِ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْوَصِيَّةَ وَإِنْ لم يَكُنْ وَصِيَّةً في الْحَقِيقَةِ وَالرُّجُوعُ عن الْوَصِيَّةِ صَحِيحٌ
وَلَوْ أَنْكَرَ وَلَيْسَ هُنَاكَ مُوصًى له بِالْمَالِ أَصْلًا فَالْمَالُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِبُطْلَانِ الْإِقْرَارِ أَصْلًا بِالرُّجُوعِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِوَارِثٍ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ وَالثَّانِي في حَقِّ الْمِيرَاثِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَمْرُ فيه لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أن كان الْوَارِثُ وَاحِدًا وَإِمَّا أن كان أَكْثَرَ من وَاحِدٍ بِأَنْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ هل يَثْبُتُ نَسَبُهُ من الْمَيِّتِ اُخْتُلِفَ فيه
قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِ وَارِثٍ وَاحِدٍ
وقال أبو يُوسُفَ يَثْبُتُ وَبِهِ أَخَذَ
____________________

(7/229)


الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَإِنْ كان أَكْثَرَ من وَاحِدٍ بِأَنْ كَانَا رَجُلَيْنِ أو رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ فَصَاعِدًا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ إقْرَارَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ في حَقِّ الْمِيرَاثِ فَيَكُونُ مَقْبُولًا في حَقِّ النَّسَبِ كَإِقْرَارِ الْجَمَاعَةِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأُخُوَّةِ إقْرَارٌ على غَيْرِهِ لِمَا فيه من حَمْلِ نَسَبِ غَيْرِهِ على غَيْرِهِ فَكَانَ شَهَادَةً وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بِخِلَافِ ما إذَا كَانَا اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا لِأَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ أو رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ في النَّسَبِ مَقْبُولَةٌ
وَأَمَّا في حَقِّ الْمِيرَاثِ فَإِقْرَارُ الْوَارِثِ الْوَاحِد بِوَارِثٍ يَصِحُّ وَيُصَدَّقُ في حَقِّ الْمِيرَاثِ بِأَنْ أَقَرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ بِأَخٍ
وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يُشَارِكُهُ فِيمَا في يَدِهِ من الْمِيرَاثِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأُخُوَّةِ إقْرَارٌ بِشَيْئَيْنِ النَّسَبِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ إقْرَارٌ على غَيْرِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِأَنَّهُ دَعْوًى في الْحَقِيقَةِ أو شَهَادَةٌ وَالْإِقْرَارُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ إقْرَارٌ على نَفْسِهِ وَأَنَّهُ مَقْبُولٌ وَمِثْلُ هذا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ الْوَاحِدُ مَقْبُولًا بِجِهَةٍ غير مَقْبُولٍ بِجِهَةٍ أُخْرَى كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ الْبَائِعَ كان أَعْتَقَهُ قبل الْبَيْعِ يُقْبَلُ إقْرَارُهُ في حَقِّ الْعِتْقِ وَلَا يُقْبَلُ في حَقِّ وِلَايَةِ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ على الْبَائِعِ فَعَلَى ذلك هَهُنَا جَازَ أَنْ يُقْبَلَ الْإِقْرَارُ بِوَارِثٍ في حَقِّ الْمِيرَاثِ وَلَا يُقْبَلُ في حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ
وَلَوْ أَقَرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ بِأُخْتٍ أَخَذَتْ ثُلُثَ ما في يَدِهِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ قد صَحَّ في حَقِّ الْمِيرَاثِ وَلَهَا مع الْأَخِ ثُلُثُ الْمِيرَاثِ
ولوأقر بِامْرَأَةٍ أنها زَوْجَةُ أبيه فَلَهَا ثَمَنُ ما في يَدِهِ وَلَوْ أَقَرَّ بِجَدَّةٍ هِيَ أُمُّ الْمَيِّتِ فَلَهَا سُدُسُ ما في يَدِهِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُقِرَّ فِيمَا في يَدِهِ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ ما لو ثَبَتَ النَّسَبُ
وَلَوْ أَقَرَّ ابن الْمَيِّتِ بِابْنِ ابْنٍ الميت ( ( ( للميت ) ) ) وَصَدَّقَهُ لَكِنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ ابْنَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ وَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقَرِّ له وَالْمَالُ كُلُّهُ له ما لم يُقِمْ الْبَيِّنَةَ على النَّسَبِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُمَا تَصَادَقَا على إثْبَاتِ وِرَاثَةِ الْمُقَرِّ له وَاخْتَلَفَا في وِرَاثَةِ الْمُقِرِّ فَيَثْبُتُ الْمُتَّفَقُ عليه وَيَقِفُ الْمُخْتَلَفُ فيه على قِيَامِ الدَّلِيلِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُقَرَّ له إنَّمَا اسْتَفَادَ الْمِيرَاثَ من جِهَةِ الْمُقِرِّ فَلَوْ بَطَلَ إقْرَارُهُ لَبَطَلَتْ وِرَاثَتُهُ
وفي بُطْلَانِ وِرَاثَتِهِ بُطْلَانُ وِرَاثَةِ الْمُقَرِّ له
وَكَذَلِكَ لو أَقَرَّ بإبنة لِلْمَيِّتِ وَصَدَّقَتْهُ لَكِنَّهَا أَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ ابْنَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ اسْتِحْسَانًا لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ أَقَرَّتْ امْرَأَةٌ بِأَخٍ لِلزَّوْجِ الْمَيِّتِ وَصَدَّقَهَا الْأَخُ وَلَكِنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ هِيَ امْرَأَةُ الْمَيِّتِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ له عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وهو الْقِيَاسُ وَعَلَى الْمَرْأَةِ إثْبَاتُ الزَّوْجِيَّةِ بِالْبَيِّنَةِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ وَالْمَالُ بَيْنَهُمَا على قَدْرِ مواريثهما ( ( ( مواريثها ) ) )
وَلَوْ أَقَرَّ زَوْجُ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ بِأَخٍ لها وَصَدَّقَهُ الْأَخُ لَكِنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ هو زَوْجُهَا فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ قِيَاسُ هذه الْمَسْأَلَةِ على الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِالْمَعْنَى الْجَامِعِ الذي ذَكَرْنَاهُ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْفَرْقُ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ
وَوَجْهُهُ أَنَّ النِّكَاحَ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ وَالْإِقْرَارُ بِسَبَبٍ مُنْقَطِعٍ لَا يُسْمَعُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ بِخِلَافِ النَّسَبِ
وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بأخر ( ( ( بأخ ) ) ) ثَالِثٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْأَخُ الْمَعْرُوفُ في ذلك شَارَكَهُمَا في الْمِيرَاثِ كما إذَا أَقَرَّا جميعا لِمَا بَيَّنَّا
وَإِنْ كَذَّبَهُ فيه فإنه يُقْسَمُ الْمَالُ بين الْأَخَوَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ أَوَّلًا نِصْفَيْنِ فَيُدْفَعُ النِّصْفُ إلَى الْأَخِ الْمُنْكِرِ وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ فَيُقْسَمُ بين الْأَخِ الْمُقِرِّ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ له نِصْفَيْنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ ابْنِ أبي لَيْلَى أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِلْمُقِرِّ وَثُلُثُهُ لِلْمُقَرِّ له
وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ أبي لَيْلَى أَنَّ من زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ الْمَالَ بين الأخوة الثَّلَاثَةِ أَثْلَاثٌ وَأَنَّ ثُلُثَ الْمُقَرِّ له نِصْفُهُ في يَدِهِ وَنِصْفُهُ في يَدِ أَخِيهِ الْمُنْكِرِ على الشُّيُوعِ إلَّا أَنَّ إقْرَارَهُ على أَخِيهِ لَا يَنْفُذُ فِيمَا في يَدِ أَخِيهِ فَيَنْفُذُ فِيمَا في يَدِهِ فَيُعْطِيهِ ثُلُثَ ذلك
وَلَنَا أَنَّ من زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ حَقَّ الْمُقَرِّ بِنَسَبِهِ في الْمِيرَاثِ حَقُّهُ وَأَنَّ الْمُنْكِرَ فِيمَا يَأْخُذُ من الزِّيَادَةِ وهو النِّصْفُ التَّامُّ ظَالِمٌ فَيُجْعَلُ ما في يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْهَالِكِ فَيَكُونُ النِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعُ الْمَالِ
وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأُخْتٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْآخَرُ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ وَإِنْ كَذَّبَهُ فَيُقْسَمُ الْمَالُ أَوَّلًا نِصْفَيْنِ بين الْأَخَوَيْنِ النِّصْفُ لِلْأَخِ الْمُنْكِرِ ثُمَّ يُقْسَمُ النِّصْفُ الْبَاقِي بين الْأَخِ الْمُقِرِّ وَأُخْتِهِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِامْرَأَةٍ أنها زَوْجَةُ أَبِينَا فَإِنْ صَدَّقَهُ الْآخَرُ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبْعَةٌ لَا تَسْتَقِيمُ عليها فَتُصَحِّحْ الْمَسْأَلَةَ فَتَضْرِبُ سَهْمَيْنِ في ثَمَانِيَةٍ فَتَصِيرُ سِتَّةَ عَشَرَ لها ثُمُنُهَا وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبْعَةٌ وَإِنْ كَذَّبَهُ فَلَهَا تُسْعُ ما في يَدِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَعِنْدَ ابْنِ أبي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ لها ثُمُنُ ما في يَدِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ في أَنَّ زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ
____________________

(7/230)


لِلْمَرْأَةِ ثُمُنَ ما في يَدَيْ الْأَخَوَيْنِ إلَّا أَنَّ إقْرَارَهُ صَحَّ فِيمَا في يَدِ نَفْسِهِ ولم يَصِحَّ في حَقِّ صَاحِبِهِ وإذا صَحَّ في حَقِّ نَفْسِهِ يُعْطِيهَا ثُمُنَ ما في يَدِهِ
وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ أَنَّ في زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ ثُمُنَ التَّرِكَةِ لها وَسَبْعَةَ أَثْمَانِهَا لَهُمَا بَيْنَهُمَا على السَّوِيَّةِ بأصل ( ( ( أصل ) ) ) الْمَسْأَلَةِ وَقِسْمَتُهَا ما ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّ الْأَخَ الْمُنْكِرَ فِيمَا يَأْخُذُ من الزِّيَادَةِ ظَالِمٌ فَيُجْعَلُ ما في يَدِهِ كَالْهَالِكِ وَيُقْسَمُ النِّصْفُ الذي في يَدِ الْمُقِرِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا على قَدْرِ حَقِّهِمَا وَيُجْعَلُ ما يَحْصُلُ لِلْمُقِرِّ وَذَلِكَ سَبْعَةٌ على تِسْعَةِ أَسْهُمٍ سَهْمَانِ من ذلك لها وَسَبْعَةُ أَسْهُمٍ له وإذا جُعِلَ هذا النِّصْفُ على تِسْعَةٍ صَارَ كُلُّ الْمَالِ على ثَمَانِيَةَ عَشَرَ تِسْعَةٌ منها لِلْأَخِ الْمُنْكِرِ وَسَهْمَانِ لِلْمَرْأَةِ وَسَبْعَةُ أَسْهُمٍ لِلْأَخِ الْمُقِرِّ
هذا إذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ بِوَارِثٍ وَاحِدٍ فَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِوَارِثٍ بَعْدَ وَارِثٍ بِأَنْ أَقَرَّ بِوَارِثٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِوَارِثٍ آخَرَ فَالْأَصْلُ في هذا الْإِقْرَارِ أَنَّهُ إنْ صَدَّقَ الْمُقِرُّ بوارثة ( ( ( بوراثة ) ) ) الْأَوَّلِ في إقْرَارِهِ بِالْوِرَاثَةِ لِلثَّانِي فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ على فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَذَّبَهُ فيه فَإِنْ كان الْمُقِرُّ دَفَعَ نَصِيبَ الْأَوَّلِ إلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَضْمَنُ وَيُجْعَلُ ذلك كَالْهَالِكِ وَيُقْسَمَانِ على ما في يَدِ الْمُقِرِّ على قَدْرِ حَقِّهِمَا وَإِنْ كان الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يَضْمَنُ وَيُجْعَلُ الْمَدْفُوعُ كَالْقَائِمِ في يَدِهِ فيعطي الثَّانِي حَقَّهُ من كل الْمَالِ بَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ فِيمَنْ هَلَكَ وَتَرَكَ ابْنًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ له من أبيه وَأُمِّهِ فإنه يَدْفَعُ إلَيْهِ نِصْفَ الْمِيرَاثِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إقْرَارَهُ بالأخوة صَحِيحٌ في حَقِّ الْمِيرَاثِ فَإِنْ أَقَرَّ بِأَخٍ آخَرَ فَهَذَا على وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ أَقَرَّ بِهِ بَعْدَمَا دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ وَإِمَّا أن أَقَرَّ قبل أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْأَوَّلِ نَصِيبَهُ
فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ بعدما دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ نَصِيبَهُ فَإِنْ كان الدَّفْعُ بِقَضَاءِ فَلِلثَّانِي رُبْعُ الْمَالِ وَيَبْقَى في يَدِ الْمُقِرِّ الرُّبْعُ لِأَنَّ الرُّبْعَ في الْقَضَاءِ في حُكْمِ الْهَالِكِ لِكَوْنِهِ مَجْبُورًا في الدَّفْعِ فَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نصفان ( ( ( نصفين ) ) ) لِأَنَّ في زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ الثَّانِيَ يُسَاوِيهِ في اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ النِّصْفِ وهو رُبْعُ الْكُلِّ
وَكَذَلِكَ إذَا كان لم يَدْفَعْ إلَى الْأَوَّلِ شيئا لِأَنَّ نِصْفَ الْمَالِ صَارَ مُسْتَحَقَّ الصَّرْفِ إلَيْهِ وَالْمُسْتَحَقُّ كالصروف ( ( ( كالمصروف ) ) )
وإن كان دَفَعَ إلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ القضاي ( ( ( القاضي ) ) ) أَعْطَى الثَّانِيَ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الدَّفْعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ مَضْمُونٌ عليه وَالْمَضْمُونُ كَالْقَائِمِ فَيَدْفَعُ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ إلَيْهِ وَيَبْقَى في يَدِهِ الثُّلُثُ فَإِنْ دَفَعَ ثُلُثَ الْمَالِ إلَى الثَّانِي بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي ثُمَّ أَقَرَّ بِأَخٍ ثَالِثٍ وَكَذَّبَهُ الثَّالِثُ في الْإِقْرَارِ بِالْأَوَّلَيْنِ أَخَذَ الثَّالِثُ من الِابْنِ الْمَعْرُوفِ رُبْعَ جَمِيعِ الْمَالِ
لِأَنَّ كُلَّ الْمَالِ قَائِمٌ مَعْنًى لِأَنَّ الدَّفْعَ بغيرالقضاء مَضْمُونٌ على الدَّافِعِ فَيَأْخُذُ السُّدُسَ الذي في يَدِ الْمُقِرِّ وَنِصْفَ سُدُسٍ آخَرَ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى الْأَوَّلَيْنِ من غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لم يَصِحَّ في حَقِّ الثَّالِثِ فَيَضْمَنُ له قَدْرَ نِصْفِ سُدُسٍ فَيَدْفَعُهُ مع السُّدُسِ الذي في يَدِهِ إلَيْهِ
وَعَلَى هذا إذَا تَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ ثُمَّ أَقَرَّ آخَرَ فَإِنْ صَدَّقَهُ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ اشْتَرَكُوا في الْمِيرَاثِ وَإِنْ كَذَّبَهُ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ بِوِرَاثَتِهِ الْأَوَّلُ فَنِصْفُ الْمَالِ بَيْنَهُمْ أثلاثا ( ( ( أثلاث ) ) ) لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْوِرَاثَةِ في حَقِّهِ وفي حَقِّ الْمُقَرِّ بِوِرَاثَتِهِ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ لم يَصِحَّ في حَقِّ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ وكان النِّصْفُ لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَإِنْ كَذَّبَهُ فَإِنْ كان الْمُقِرُّ دَفَعَ نِصْفَ ما في يَدِهِ وهو رُبْعُ جَمِيعِ الْمَالِ إلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي كان الْبَاقِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي نِصْفَيْنِ لِأَنَّ الدَّفْعَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي في حُكْمِ الْهَالِكِ فَكَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُمُنُ الْمَالِ وَإِنْ كان دَفَعَ إلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنْ كان الْمُقِرُّ يُعْطِي الثَّانِيَ مِمَّا في يَدِهِ وهو رُبْعُ الْمَالِ سُدُسَ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّ الدَّفْعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ مَضْمُونٌ على الدَّافِعِ فَيَكُونُ ذلك الرُّبْعُ كَالْقَائِمِ
وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأُخْتٍ وَدَفَعَ إلَيْهَا نَصِيبَهَا ثُمَّ أَقَرَّ بِأُخْتٍ أُخْرَى وَكَذَّبَهُ الْأَخُ فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الْأُخْتُ الْأُولَى فَنِصْفُ الْمَالِ لِلْأَخِ الْمُنْكِرِ وَالنِّصْفُ بين الْأَخِ الْمُقِرِّ وَبَيْنَ الْأُخْتَيْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِنْ كَذَّبَتْهُ فَإِنْ كان دَفَعَ إلَيْهَا نَصِيبَهَا وهو ثُلُثُ النِّصْفِ وَذَلِكَ سُدُسُ الْكُلِّ بِقَضَاءٍ فالباقي ( ( ( والباقي ) ) ) بين الْمُقِرِّ وَبَيْنَ الْأُخْتِ الْأُخْرَى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْمَدْفُوعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ في حُكْمِ الْهَالِكِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا على الدَّافِعِ
وَإِنْ كان الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فإن الْمُقِرَّ يُعْطِي لِلْأُخْتِ الْأُخْرَى مِمَّا في يَدِهِ نِصْفَ رُبْعِ جَمِيعِ الْمَالِ
لِأَنَّ الدَّفْعَ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ إتْلَافٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَائِمٌ في يَدِهِ وقد أَقَرَّ بِأُخْتَيْنِ وَلَوْ كان كَذَلِكَ يَكُونُ لَهُمَا رُبْعُ جَمِيعِ الْمَالِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ الثُّمُنُ كَذَلِكَ هَهُنَا يُعْطِي الْأُخْتَ الْأُخْرَى مِمَّا في يَدِهِ نِصْفَ رُبْعِ جَمِيعِ الْمَالِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
ولو أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِامْرَأَةٍ لِأَبِيهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِأُخْرَى فَإِنْ أَقَرَّ بِهِمَا مَعًا فَذَلِكَ التُّسْعَانِ لَهُمَا جميعا
وَهَذَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ فَرْضَ الزَّوْجَاتِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَإِنْ أَقَرَّ بِالْأُولَى وَدَفَعَ إلَيْهَا ثُمَّ
____________________

(7/231)


بِالْأُخْرَى فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الْأُولَى فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ وَإِنْ كَذَّبَتْهُ فَالنِّصْفُ لِلْأَخِ الْمُنْكِرِ وَتُسْعَانِ لِلْأُولَى فَبَقِيَ هُنَاكَ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ وَالْمَرْأَةُ الْأُخْرَى فَيُنْظَرُ إنْ كان دَفَعَ التُّسْعَيْنِ إلَى الْأُولَى بِالْقَضَاءِ يُجْعَلُ ذلك كَالْهَالِكِ وَيُجْعَلُ كَأَنْ لم يَكُنْ له مَالٌ سِوَى الْبَاقِي وهو سَبْعَةُ أَسْهُمٍ فَيَكُونُ ذلك بين الِابْنِ الْمُقِرِّ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ الْأُخْرَى على ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ ثُمُنٌ من ذلك لِلْمَرْأَةِ وَسَبْعَةٌ لِلِابْنِ الْمُقِرِّ وَإِنْ كان دَفَعَ إلَيْهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ يُعْطِي من التِّسْعَةِ التي هِيَ عِنْدَهُ سَهْمًا لِلْمَرْأَةِ الْأُخْرَى وهو سُبُعُ نِصْفِ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّ الْمَدْفُوعَ القائم ( ( ( كالقائم ) ) ) عِنْدَهُ
وَلَوْ كان نِصْفُ الْمَالِ عِنْدَهُ قَائِمًا يُعْطِي الْأُخْرَى التُّسْعَ وَذَلِكَ سَهْمٌ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ ثُمُنُ الْمَالِ لِلْمَرْأَتَيْنِ جميعا
وَالثُّمُنُ هو تُسْعَانِ تُسْعٌ لِلْأُولَى وَتُسْعٌ لِلْأُخْرَى إلَّا أَنَّ الْأُولَى ظَلَمَتْ حَيْثُ أَخَذَتْ زِيَادَةَ سَهْمٍ وَذَلِكَ الظُّلْمُ حَصَلَ على الآخر ( ( ( الأخ ) ) ) الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ هو الذي دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَيَدْفَعُ التُّسْعَ الثَّانِي إلَى الْأُخْرَى وهو سُبْعُ نِصْفِ الْمَالِ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ وهو سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنًا مَعْرُوفًا وَأَلْفَ دِرْهَمٍ في يَدِهِ فَادَّعَى رَجُلٌ على الْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَدَّقَهُ الِابْنُ أو نَكَلَ عن الْيَمِينِ فَدَفَعَ إلَى الْغَرِيمِ ذلك ثُمَّ ادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ على الْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَدَّقَهُ الِابْنُ أو نَكَلَ عن الْيَمِينِ فَإِنْ كان دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءٍ لم يَضْمَنْ لِلثَّانِي شيئا لِأَنَّهُ في الدَّفْعِ مَجْبُورٌ فَكَانَ في حُكْمِ الْهَالِكِ وَإِنْ كان بِغَيْرِ قَضَاءٍ يَضْمَنُ لِلثَّانِي نِصْفَ الْمَالِ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ في الدَّفْعِ فَكَانَ إتْلَافًا فَيَضْمَنُ كما إذَا أَقَرَّ لَهُمَا ثُمَّ دَفَعَ إلَى أَحَدِهِمَا
وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ بِأَخٍ ثُمَّ رَجَعَ وقال لَسْت بِأَخٍ لي وَإِنَّمَا أَخِي هذا الرَّجُلُ الْآخَرُ وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ بِذَلِكَ وَكَذَّبَهُ في الْإِقْرَارِ الْأَوَّلُ فَإِنْ كان دَفَعَ النِّصْفَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءٍ يُشَارِكُهُ الثَّانِي فِيمَا في يَدِهِ فَيَقْتَسِمَانِ نِصْفَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّفْعَ بِقَضَاءٍ في حُكْمِ الْهَلَاكِ وَإِنْ كان بِغَيْرِ قَضَاءٍ يَدْفَعُ جَمِيعَ ما في يَدِهِ وهو نِصْفُ الْمَالِ إلَى الْآخَرِ لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا وَأَلْفَ دِرْهَمٍ فَادَّعَى رَجُلٌ على الْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَدَّقَهُ الْوَارِثُ وَدَفَعَ إلَيْهِ بِقَضَاءٍ أو بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ على الْمَيِّتِ دَيْنًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَكَذَّبَهُ الْوَارِثُ وَصَدَّقَهُ الْغَرِيمُ الْأَوَّلُ وَأَنْكَرَ الْغَرِيمُ الثَّانِي دَيْنَ الْغَرِيمِ الْأَوَّلِ لم يُلْتَفَتْ إلَى إنْكَارِهِ وَيَقْتَسِمَانِ الْأَلْفَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْغَرِيمِ الثَّانِي إنَّمَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الْغَرِيمِ الْأَوَّلِ وهو يُصَدِّقُهُ وهو ما أَقَرَّ له إلَّا بِالنِّصْفِ وَكَذَلِكَ لو أَقَرَّ الْغَرِيمُ الثَّانِي لِغَرِيمٍ لثالث ( ( ( ثالث ) ) ) فإن الْغَرِيمَ الثَّالِثَ يَأْخُذُ نِصْفَ ما في يَدِهِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ أَلْفًا في يَدِ رَجُلٍ فقال الرَّجُلُ أنا أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَأَنْتَ أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ أَخًا له فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ اسْتِحْسَانًا على ما بَيَّنَّا
وَلَوْ قال الْمُقِرُّ لِلْمُقَرِّ بِهِ أنا وَأَنْتَ أَخَوَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَلِي عليه أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ وَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ بِهِ الدَّيْنَ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِأَنَّ دَعْوَى الدَّيْنِ دَعْوَى أَمْرٍ عَارِضٍ مَانِعٍ من الْإِرْثِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ
وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا وَأَلْفَ دِرْهَمٍ فَادَّعَى رَجُلٌ على الْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَدَّقَهُ الْوَارِثُ بِذَلِكَ وَدَفَعَ إلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى له بِثُلُثِ مَالِهِ أو ادَّعَى أَنَّهُ ابن الْمَيِّتِ وَصَدَّقَهُمَا بِذَلِكَ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ وَكَذَّبَاهُ فِيمَا أَقَرَّ
فَإِنْ كان دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَلَا ضَمَانَ على الدَّافِعِ لِأَنَّ الْإِرْثَ وَالْوَصِيَّةَ مُؤَخَّرَانِ عن الدَّيْنِ فَإِقْرَارُهُ لم يَصِحَّ في حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ في حَقِّ الْمِيرَاثِ ولم يُوجَدْ الْمِيرَاثُ
وَلَوْ أَقَرَّ لَهُمَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَدَفَعَ إلَيْهِمَا ثُمَّ أَقَرَّ لِلْغَرِيمِ كان لِلْغَرِيمِ أَنْ يُضَمِّنَهُ ما دَفَعَ إلَى الْأَوَّلَيْنِ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ فإذا دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَقَدْ أَتْلَفَ على الْغَرِيمِ حَقَّهُ وَإِنْ كان الدَّفْعُ بِقَضَاءٍ لَا ضَمَانَ عليه لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ ثَبَتَ الْوَصِيَّةُ أو الْمِيرَاثُ بِالْبَيِّنَةِ بِقَضَاءٍ أو بِغَيْرِ قَضَاءٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْغَرِيمُ بِدَيْنِهِ فَلَا ضَمَانَ عليه لِلْغَرِيمِ فِيمَا دَفَعَهُ إلَى الوراث ( ( ( الوارث ) ) ) وَالْمُوصَى له لِأَنَّهُ لَمَّا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على الْمِيرَاثِ أو الْوَصِيَّةِ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ وَارِثٌ مَعْرُوفٌ أو مُوصًى له فَالْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّهِمَا وَلَوْ لم يَكُنْ دَفَعَ إلَيْهِ لَا يَجُوزُ له أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْغَرِيمِ وَيُجْبِرُهُ الْقَاضِي على الدَّفْعِ إلَى الْوَارِثِ وَالْمُوصَى له لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَبْطُلُ بِهِ الْإِقْرَارُ بَعْدَ وُجُودِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْإِقْرَارُ بَعْدَ وُجُودِهِ يَبْطُلُ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا تَكْذِيبُ الْمُقَرِّ له في أَحَدِ نَوْعَيْ الْإِقْرَارِ وهو الْإِقْرَارُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ دَلِيلُ لُزُومِ الْمُقَرِّ بِهِ وَتَكْذِيبُ الْمُقِرِّ له دَلِيلُ عَدَمِ اللُّزُومِ وَاللُّزُومُ لم يُعْرَفْ ثُبُوتُهُ فَلَا يَثْبُتُ مع الشَّكِّ
وَالثَّانِي رُجُوعُ الْمُقِرِّ عن إقْرَارِهِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ في أَحَدِ نَوْعَيْ الْإِقْرَارِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَالِصًا كَحَدِّ الزِّنَا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا في الْإِنْكَارِ فَيَكُونُ كَاذِبًا
____________________

(7/232)


في الْإِقْرَارِ ضَرُورَةً فَيُوَرِّثُ شُبْهَةً في وُجُوبِ الْحَدِّ وَسَوَاءٌ رَجَعَ قبل الْقَضَاءِ أو بَعْدَهُ قبل تَمَامِ الْجَلْدِ أو الرَّجْمِ قبل الْمَوْتِ لِمَا قُلْنَا
وَرُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا رُجِمَ بَعْضَ الْحِجَارَةِ هَرَبَ من أَرْضٍ قَلِيلَةِ الْحِجَارَةِ إلَى أَرْضٍ كَثِيرَةِ الْحِجَارَةِ فلما بَلَغَ ذلك إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُبْحَانَ اللَّهِ هَلَّا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ تَلْقِينُ الْمُقِرِّ الرُّجُوعَ بِقَوْلِهِ لَعَلَّك لَمَسْتَهَا أو قَبَّلَتْهَا كما لَقَّنَ عليه السلام ( ( ( وسلم ) ) ) مَاعِزًا وَكَمَا لَقَّنَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ السَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ ما أخاله سَرَقَ أو أَسَرَقْت قُولِي لَا لو لم يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلرُّجُوعِ لم يَكُنْ لِلتَّلْقِينِ مَعْنًى وَفَائِدَةٌ فَكَانَ التَّلْقِينُ منه عليه أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ وَالتَّسْلِيمِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ لِأَنَّهُ أَمَرَنَا بِهِ بِقَوْلِهِ عليه أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ وَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ادْرَءُوا الْحُدُودَ ما اسْتَطَعْتُمْ وَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ عن الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ لِأَنَّ الْحَدَّ الْوَاجِبَ بِهِمَا حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِصًا فَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عن الْإِقْرَارِ بِهِمَا إلَّا أَنَّ في السَّرِقَةِ يَصِحُّ الرُّجُوعُ في حَقِّ الْقَطْعِ لَا في حَقِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْقَطْعَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ على الْخُلُوصِ فَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عنه
فَأَمَّا الْمَالُ فَحَقُّ الْعَبْدِ فَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فيه
وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عن الْإِقْرَارِ فيه
لِأَنَّ لِلْعَبْدِ فيه حَقًّا فَيَكُونُ مُتَّهَمًا في الرُّجُوعِ فَلَا يَصِحُّ كَالرُّجُوعِ عن سَائِرِ الْحُقُوقِ الْمُتَمَحِّضَة لِلْعِبَادِ
وَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ عن الْإِقْرَارِ بِالْقِصَاصِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ خَالِصُ حَقِّ الْعِبَادِ فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
كِتَابُ الْجِنَايَاتِ الْجِنَايَةُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ جِنَايَةٌ على الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ وَجِنَايَةٌ على الْآدَمِيِّ
أَمَّا الْجِنَايَةُ على الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ فَنَوْعَانِ أَيْضًا غَصْبٌ وَإِتْلَافٌ وقد ذَكَرْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في كِتَابِ الْغَصْبِ
وَهَذَا الْكِتَابُ وُضِعَ لِبَيَانِ حُكْمِ الْجِنَايَةِ على الْآدَمِيِّ خَاصَّةً فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ الْجِنَايَةُ على الْآدَمِيِّ في الْأَصْلِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ جِنَايَةٌ على النَّفْسِ مُطْلَقًا وَجِنَايَةٌ على ما دُونَ النَّفْسِ مُطْلَقًا وَجِنَايَةٌ على ما هو نَفْسٌ من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ
أَمَّا الْجِنَايَةُ على النَّفْسِ مُطْلَقًا فَهِيَ قَتْلُ الْمَوْلُودِ وَالْكَلَامُ في الْقَتْلِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ وفي بَيَانِ صِفَةِ كل نَوْعٍ وفي بَيَانِ حُكْمِ كل نَوْعٍ منه
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْقَتْلُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ قَتْلٌ هو عَمْدٌ مَحْضٌ ليس فيه شُبْهَةُ العدم ( ( ( العمد ) ) ) وَقَتْلٌ عَمْدٌ فيه شُبْهَةُ العدم ( ( ( العمد ) ) ) وهو الْمُسَمَّى بشبة الْعَمْدِ وَقَتْلٌ هو خَطَأٌ مَحْضٌ ليس فيه شُبْهَةُ العدم ( ( ( العمد ) ) ) وَقَتْلٌ هو في مَعْنَى الْقَتْلِ الْخَطَأِ
أَمَّا الذي هو عَمْدٌ مَحْضٌ فَهُوَ أَنْ يقص ( ( ( يقصد ) ) ) الْقَتْلَ بِحَدِيدٍ له حَدٌّ أو طَعْنٌ كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ وَالرُّمْحِ والأشفار ( ( ( والإشفى ) ) ) وَالْإِبْرَةِ وما أَشْبَهَ ذلك أو ما يَعْمَلُ عَمَلَ هذه الْأَشْيَاءَ في الْجَرْحِ وَالطَّعْنِ كَالنَّارِ وَالزُّجَاجِ وَلِيطَةِ الْقَصَبِ وَالْمَرْوَةِ وَالرُّمْحِ الذي لَا سِنَانَ له وَنَحْوِ ذلك
وَكَذَلِكَ الْآلَةُ الْمُتَّخَذَةُ من النُّحَاسِ
وَكَذَلِكَ الْقَتْلُ بِحَدِيدٍ لَا حَدَّ له كَالْعَمُودِ وَصَنْجَةِ الْمِيزَانِ وَظَهْرِ الْفَأْسِ وَالْمَرْوِ وَنَحْوُ ذلك عَمْدٌ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ ليس بِعَمْدٍ فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْعِبْرَةُ لِلْحَدِيدِ نَفْسِهِ سَوَاءٌ جَرَحَ أو لَا
وَعَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ الْعِبْرَةُ لِلْجَرْحِ نَفْسِهِ حَدِيدًا كان أو غَيْرَهُ
وَكَذَلِكَ إذَا كان في مَعْنَى الْحَدِيدِ
كَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالْآنُكِ وَالرَّصَاصِ وَالذَّهَب وَالْفِضَّة فَحُكْمُهُ حُكْم الْحَدِيدِ
وَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ على كَوْنِهِ شِبْهُ عَمْدٍ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فيه
أَمَّا الْمُتَّفَقُ عليه فَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْقَتْلَ بِعَصًا صَغِيرَةٍ أو بِحَجَرٍ صَغِيرٍ أو لَطْمَةٍ وَنَحْوِ ذلك مِمَّا لَا يَكُونُ الْغَالِبَ فيه الْهَلَاكُ كَالسَّوْطِ وَنَحْوِهِ إذَا ضَرَبَ ضَرْبَةً أو ضَرْبَتَيْنِ ولم يُوَالِ في الضَّرَبَاتِ
وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فيه فَهُوَ أَنْ يَضْرِبَ بِالسَّوْطِ الصَّغِيرِ وَيُوَالِيَ في الضَّرَبَاتِ إلَى أَنْ يَمُوتَ وَهَذَا شِبْهُ عَمْدٍ بِلَا خِلَافٍ بَيْن أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هو عَمْدٌ وَإِنْ قَصَدَ قَتْلَهُ بِمَا يَغْلِب فيه الْهَلَاكُ مِمَّا ليس بِجَارِحٍ وَلَا طَاعِنٍ كَمِدَقَّةِ الْقَصَّارِينَ وَالْحَجَرِ الْكَبِيرِ وَالْعَصَا الْكَبِيرَةِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا وَالشَّافِعِيِّ هو عَمْدٌ وَلَا يَكُونُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ
فما كان شِبْهُ عَمْدٍ في النَّفْسِ فَهُوَ عَمْدٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِأَنَّ ما دُونَ النَّفْسِ لَا يُقْصَدُ إتْلَافُهُ بِآلَةٍ دُونَ آلَةٍ عَادَةً فَاسْتَوَتْ الْآلَاتُ كُلُّهَا في الدَّلَالَةِ على الْقَصْدِ فَكَانَ الْفِعْلُ عَمْدًا
____________________

(7/233)


مَحْضًا فَيُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ إيجَابُ الْقِصَاصِ يَجِبُ الْقِصَاصُ وَإِنْ لم يُمْكِنْ يَجِبْ الْأَرْشُ
وَأَمَّا الْقَتْلُ الْخَطَأُ فَالْخَطَأُ قد يَكُونُ في نَفْسِ الْفِعْلِ وقد يَكُونُ في ظَنِّ الْفَاعِلِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوُ أَنْ يَقْصِدَ صَيْدًا فَيُصِيبَ آدَمِيًّا وَأَنْ يَقْصِدَ رَجُلًا فَيُصِيبَ غَيْرَهُ فَإِنْ قَصْدَ عُضْوًا من رَجُلٍ فَأَصَابَ عُضْوًا آخَرَ منه فَهَذَا عَمْدٌ وَلَيْسَ بِخَطَأٍ
وَأَمَّا الثَّانِي فَنَحْوَ أَنْ يَرْمِيَ إلَى إنْسَانٍ على ظَنِّ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ أو مُرْتَدٌّ فإذا هو مُسْلِمٌ
وَأَمَّا الذي هو في مَعْنَى الْخَطَأِ فَنَذْكُرُ حُكْمَهُ وَصِفَتَهُ بَعْدَ هذا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَهَذِهِ صِفَاتُ هذه الْأَنْوَاعِ
وَأَمَّا بَيَانُ أَحْكَامِهَا فَوُقُوعُ الْقَتْلِ بِإِحْدَى هذه الصِّفَاتِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ عُلِمَ وَإِمَّا أَنْ لم يُعْلَمْ بِأَنْ وُجِدَ قَتِيلٌ لَا يُعْلَمُ قَاتِلُهُ فَإِنْ عُلِمَ ذلك
أَمَّا الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْمَحْضُ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ منها وُجُوبُ الْقِصَاصِ وَالْكَلَامُ في الْقِصَاصِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ
وفي بَيَانِ من يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ
وفي بَيَانِ من يَلِي اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ وَشَرْطِ جَوَازِ اسْتِيفَائِهِ وفي بَيَانِ ما يستوفي بِهِ الْقِصَاصُ وَكَيْفِيَّةِ الِاسْتِيفَاءِ
وفي بَيَانِ ما يُسْقِطُ الْقِصَاصَ بَعْدَ وُجُوبِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِوُجُوبِ الْقِصَاصِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاتِلِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْتُولِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَتْلِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْقَاتِلِ فَخَمْسَةٌ
أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ بَالِغًا فَإِنْ كان مَجْنُونًا أو صَبِيًّا لَا يَجِبُ لِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ وَهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ الْعُقُوبَةِ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا بِالْجِنَايَةِ وَفِعْلُهُمَا لَا يُوصَفُ بِالْجِنَايَةِ وَلِهَذَا لم تَجِبْ عَلَيْهِمَا الْحُدُودُ
وَأَمَّا ذُكُورَةُ الْقَاتِلِ وَحُرِّيَّتُهُ وَإِسْلَامُهُ فَلَيْسَ من شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّدًا في الْقَتْلِ قَاصِدًا إيَّاهُ فَإِنْ كان مُخْطِئًا فَلَا قِصَاصَ عليه لِقَوْلِ النبي الْعَمْدُ قَوَدٌ أَيْ الْقَتْلُ الْعَمْدُ يُوجِبُ الْقَوَدَ شَرَطَ الْعَمْدَ لِوُجُوبِ الْقَوَدِ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ فَيَسْتَدْعِي جِنَايَةً مُتَنَاهِيَةً
وَالْجِنَايَةُ لَا تَتَنَاهَى إلَّا بِالْعَمْدِ وَالرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ منه عَمْدًا مَحْضًا ليس فيه شُبْهَةُ العدم ( ( ( العمد ) ) ) لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شُرِطَ الْعَمْدُ مُطْلَقًا بِقَوْلِ النبي الْعَمْدُ قَوَدٌ وَالْعَمْدُ الْمُطْلَقُ هو الْعَمْدُ من كل وَجْهٍ وَلَا كَمَالَ مع شُبْهَةِ العدم ( ( ( العمد ) ) ) وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ في هذا الْبَابِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ الْقَتْلُ بِضَرْبَةٍ أو ضَرْبَتَيْنِ على قَصْدِ الْقَتْلِ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ لِأَنَّ الضَّرْبَةَ أو الضَّرْبَتَيْنِ مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ عَادَةً بَلْ التَّأْدِيبُ وَالتَّهْذِيبُ فَتَمَكَّنَتْ في الْقَصْدِ شُبْهَةُ العدم ( ( ( العمد ) ) )
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في الْمُوَالَاةِ في الضَّرَبَاتِ أنها لَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُوَالَاةَ في الضَّرَبَاتِ دَلِيلُ قَصْدِ الْقَتْلِ لِأَنَّهَا لَا يُقْصَدُ بها التَّأْدِيبُ عَادَةً وَأَصْلُ الْقَصْدِ مَوْجُودٌ فَيَتَمَحَّضُ الْقَتْلُ عَمْدًا فَيُوجِبُ الْقِصَاصَ
وَلَنَا أَنَّ شُبْهَةَ عَدَمِ الْقَصْدِ ثَابِتَةٌ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ حُصُولُ الْقَتْلِ بِالضَّرْبَةِ وَالضَّرْبَتَيْنِ على سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى الضَّرَبَاتِ الْأُخَرِ وَالْقَتْلُ بِضَرْبَةٍ أو ضَرْبَتَيْنِ لَا يَكُونُ عَمْدًا فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ وإذا جاء الِاحْتِمَالُ جَاءَتْ الشُّبْهَةُ وَزِيَادَةٌ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ في الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ خِلَافًا لَهُمَا وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الضَّرْبَ بالمثل ( ( ( بالمثقل ) ) ) مُهْلِكٌ عَادَةً
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا في الْقَتْلِ فَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ دَلِيلَ الْقَصْدِ إلَى الْقَتْلِ كَاسْتِعْمَالِ السَّيْفِ وقد انْضَمَّ إلَيْهِ أَصْلُ الْقَصْدِ فَكَانَ الْقَتْلُ الْحَاصِلُ بِهِ عَمْدًا مَحْضًا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ طَرِيقَانِ مُخْتَلِفَانِ على حَسَبِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ عنه
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقَتْلَ بِآلَةٍ غَيْرِ مُعَدَّةٍ لِلْقَتْلِ دَلِيلُ عَدَمِ الْقَصْدِ لِأَنَّ تَحْصِيلَ كل فِعْلٍ بِالْآلَةِ الْمُعَدَّةِ له فَحُصُولُهُ بِغَيْرِ ما أُعِدَّ له دَلِيلُ عَدَمِ الْقَصْدِ وَالْمُثْقَلُ وما يَجْرِي مَجْرَاهُ ليس بِمُعَدٍّ لِلْقَتْلِ عَادَةً فَكَانَ الْقَتْلُ بِهِ دَلَالَةُ عَدَمِ الْقَصْدِ فَيَتَمَكَّنُ في الْعَمْدِيَّةِ شُبْهَةُ العدم ( ( ( العمد ) ) ) بِخِلَافِ الْقَتْل بِحَدِيدٍ لَا حَدَّ له لِأَنَّ الْحَدِيدَ آلَةٌ مُعَدَّةٌ لِلْقَتْلِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فيه بَأْسٌ شَدِيدٌ } وَالْقَتْلُ بِالْعَمُودِ مُعْتَادٌ فَكَانَ الْقَتْلُ بِهِ دَلِيلُ الْقَصْدِ فَيَتَمَحَّضُ عَمْدًا
وَهَذَا على قِيَاسِ ظاهرة الرِّوَايَةِ
وَالثَّانِي وهو قِيَاسُ رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هو اعْتِبَارُ الْجُرْحِ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْقُصُورُ في هذا الْقَتْلِ لِوُجُودِ فَسَادِ الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ وهو نَقْضُ التَّرْكِيبِ وفي الِاسْتِيفَاءِ إفْسَادُ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ جميعا فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا خَنَقَ رَجُلًا فَقَتَلَهُ أو غَرَّقَهُ بِالْمَاءِ أو أَلْقَاهُ من جَبَلٍ أو سَطْحٍ فَمَاتَ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فيه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ وَلَوْ طَيَّنَ على أَحَدٍ بَيْتًا حتى مَاتَ جُوعًا أو عَطَشًا لَا يَضْمَنُ شيئا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ الدِّيَةَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الطِّينَ الذي عليه تَسْبِيبٌ لِإِهْلَاكِهِ لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلْآدَمِيِّ إلَّا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَالْمَنْعُ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ عليه يَكُونُ
____________________

(7/234)


إهْلَاكًا له فَأَشْبَه حَفْرَ الْبِئْرِ على قَارِعَةِ الطَّرِيقِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْهَلَاكَ حَصَلَ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ لَا بِالتَّطْيِينِ وَلَا صُنْعَ لِأَحَدٍ في الْجُوعِ وَالْعَطَشِ بِخِلَافِ الْحَفْرِ فإنه سَبَبٌ لِلْوُقُوعِ وَالْحَفْرُ حَصَلَ من الْحَافِرِ فَكَانَ قَتْلًا تَسْبِيبًا
وَلَوْ أَطْعَمَ غَيْرَهُ سُمًّا فَمَاتَ فَإِنْ كان تَنَاوَلَ بِنَفْسِهِ فَلَا ضَمَانَ على الذي أَطْعَمَهُ لِأَنَّهُ أَكَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ لَكِنَّهُ يُعَزَّرُ وَيُضْرَبُ وَيُؤَدَّبُ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ جِنَايَةً ليس لها حَدٌّ مُقَدَّرٌ وَهِيَ الْغَرُورُ
فَإِنْ أَوْجَرَهُ السُّمَّ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عليه الْقِصَاصُ
وَلَوْ غَرَّقَ إنْسَانًا فَمَاتَ أو صَاحَ على وَجْهِهِ فَمَاتَ فَلَا قَوَدَ عليه عِنْدَنَا وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَعِنْدَهُ عليه الْقَوَدُ
وَالْخَامِسُ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُخْتَارًا اختار ( ( ( اختيار ) ) ) الْإِيثَارِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هذا ليس بِشَرْطٍ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ الْمُكْرَهُ على الْقَتْلِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عليه عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُمَا
وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ في كِتَابِ الْإِكْرَاهِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْتُولِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعِ أَحَدُهَا أَنْ لَا يَكُونَ جُزْءَ الْقَاتِلِ حتى لو قَتَلَ الْأَبُ وَلَدَهُ لَا قِصَاصَ عليه
وَكَذَلِكَ الْجَدُّ أَبُ الْأَبِ أو أَبُ الْأُمِّ وَإِنْ عَلَا وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَ الرَّجُلُ وَلَدَ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلُوا
وَكَذَا الْأُمُّ إذَا قَتَلَتْ وَلَدَهَا أو أُمُّ الْأُمِّ أو أُمُّ الْأَبِ إذَا قَتَلَتْ وَلَدَ وَلَدِهَا وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ وَاسْمُ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَالِدٍ وَإِنْ عَلَا وَكُلَّ وَلَدٍ وَإِنْ سَفَلَ
وَلَوْ كان في وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ وَلَدُ الْقَاتِلِ أو وَلَدُ وَلَدِهِ فَلَا قِصَاصَ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقِصَاصِ لِلْوَلَدِ في نَصِيبِهِ فَلَا يُمْكِنُ الْإِيجَابُ لِلْبَاقِينَ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ لِلْكُلِّ
وَيُقْتَلُ الْوَلَدُ بِالْوَالِدِ لِعُمُومَاتِ الْقِصَاصِ من غَيْرِ فَصْلٍ ثُمَّ خُصَّ منها الْوَالِدُ بِالنَّصِّ الخاص ( ( ( الخالص ) ) ) فَبَقِيَ الْوَلَدُ دَاخِلًا تَحْتَ الْعُمُومِ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ شُرِعَ لِتَحْقِيقِ حِكْمَةِ الْحَيَاةِ بِالزَّجْرِ وَالرَّدْعِ وَالْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ في جَانِبِ الْوَلَدِ لَا في جَانِبِ الْوَالِدِ لِأَنَّ الْوَالِدَ يُحِبُّ وَلَدَهُ لِوَلَدِهِ لَا لِنَفْسِهِ بِوُصُولِ النَّفْعِ إلَيْهِ من جِهَتِهِ أو يُحِبُّهُ لِحَيَاةِ الذِّكْرِ لِمَا يحيى ( ( ( يحيا ) ) ) بِهِ ذِكْرُهُ وَفِيهِ أَيْضًا زِيَادَةُ شَفَقَةٍ تَمْنَعُ الْوَالِدَ عن قَتْلِهِ
فَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِنَّمَا يجب ( ( ( يحب ) ) ) وَالِدَهُ لَا لِوَالِدِهِ بَلْ لِنَفْسِهِ وهو وُصُولُ النَّفْعِ إلَيْهِ من جِهَتِهِ فلم تَكُنْ مَحَبَّتُهُ وَشَفَقَتُهُ مَانِعَةً من الْقَتْلِ فَلَزِمَ الْمَنْعُ بِشَرْعِ الْقِصَاصِ كما في الْأَجَانِبِ
وَلِأَنَّ مَحَبَّةَ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ لَمَّا كانت لِمَنَافِعَ تَصِلُ إلَيْهِ من جِهَتِهِ لَا لِعَيْنِهِ فَرُبَّمَا يَقْتُلُ الْوَالِدَ لِيَتَعَجَّلَ الْوُصُولَ إلَى أَمْلَاكِهِ لَا سِيَّمَا إذَا كان لَا يَصِلُ النَّفْعُ إلَيْهِ من جِهَتِهِ لِعَوَارِضَ
وَمِثْلُ هذا يَنْدُرُ في جَانِبِ الْأَبِ
وَالثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ مِلْكَ الْقَاتِلِ وَلَا له فيه شُبْهَةُ الْمِلْكِ حتى لَا يُقْتَلَ الْمَوْلَى بِعَبْدِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ وَلَا السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ وَلِأَنَّهُ لو وَجَبَ الْقِصَاصُ لَوَجَبَ له وَالْقِصَاصُ الْوَاحِدُ كَيْفَ يَجِبُ له وَعَلَيْهِ
وَكَذَا إذَا كان يَمْلِكُ بَعْضَهُ فَقَتَلَهُ لَا قِصَاصَ عليه لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِ الْقِصَاصِ دُونَ بَعْضٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ متجزىء
وَكَذَا إذَا كان له فيه شُبْهَةُ الْمِلْكِ كَالْمُكَاتَبِ إذَا قَتَلَ عَبْدًا من كَسْبِهِ لِأَنَّ لَلْمُكَاتَبِ شُبْهَةٌ الملك في أَكْسَابِهِ وَالشُّبْهَةُ في هذا الْبَابِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ وَلَا يُقْتَلُ الْمَوْلَى بِمُدَّبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ وَمُكَاتَبِهِ لِأَنَّهُمْ مَمَالِيكُهُ حَقِيقَةً
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو قال كُلُّ مَمْلُوكٍ لي فَهُوَ حُرٌّ عَتَقَ هَؤُلَاءِ إلَّا الْمُكَاتَبُ فإنه لَا يَعْتِقُ إلَّا بِالنِّيَّةِ لِقُصُورٍ في الْإِضَافَةِ إلَيْهِ بِالْمِلْكِ لِزَوَالِ مِلْكِ الْيَدِ وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ بِمَوْلَاهُ وَكَذَا الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبُ لِعُمُومَاتِ النُّصُوصِ وَلِتَحْقِيقِ ما شُرِعَ له الْقِصَاصُ وهو الْحَيَاةُ بِالزَّجْرِ وَالرَّدْعِ بِخِلَافِ الْمَوْلَى إذَا قَتَلَ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ شَفَقَةَ الْمَوْلَى على مَالِهِ تَمْنَعُهُ عن الْقَتْلِ عِنْدَ سَيَحَانِ الْعَدَاوَةِ الْحَامِلِ على الْقَتْلِ إلَّا نَادِرًا فَلَا حَاجَةَ إلَى الزَّجْرِ بِالْقِصَاصِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ
وَلَوْ اشْتَرَكَ اثْنَانِ في قَتْلِ رَجُلٍ أَحَدُهُمَا مِمَّنْ يَجِبُ الْقِصَاصُ عليه لو انْفَرَدَ وَالْآخَرُ لَا يَجِبُ عليه لو انْفَرَدَ مِمَّنْ ذَكَرْنَا كَالصَّبِيِّ مع الْبَالِغِ وَالْمَجْنُونِ مع الْعَاقِلِ والخاطىء ( ( ( والخاطئ ) ) ) مع الْعَامِدِ وَالْأَبِ مع الْأَجْنَبِيِّ وَالْمَوْلَى مع الأجنبى لَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ على الْعَاقِلِ وَالْبَالِغِ وَالْأَجْنَبِيِّ إلَّا الْعَامِدَ فإنه لَا قِصَاصَ عليه إذَا شَارَكَهُ الخاطىء
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وُجِدَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وهو الْقَتْلُ الْعَمْدُ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ الْوُجُوبُ على أَحَدِهِمَا لِمَعْنًى يَخُصُّهُ فَيَجِبُ على الْآخَرِ
وَلَنَا أَنَّهُ تَمَكَّنَتْ شُبْهَةُ عَدَمِ الْقَتْلِ في فِعْلِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ من لَا يَجِبُ عليه الْقِصَاصُ لو انْفَرَدَ مُسْتَقِلًّا في الْقَتْلِ فَيَكُونُ فِعْلُ الْآخَرِ فَضْلًا وَيُحْتَمَلُ على الْقَلْبِ وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ ثَابِتَةٌ في الشَّرِيكَيْنِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَهَا وَأَلْحَقَهَا بِالْعَدَمِ فَتْحًا لِبَابِ الْقِصَاصِ وَسَدًّا لِبَابِ الْعُدْوَانِ لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ ثَمَّ يَكُونُ أَغْلَبَ وَهَهُنَا أَنْدَرَ فلم يَكُنْ في مَعْنَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَلَا يُلْحَقُ
____________________

(7/235)


بِهِ وَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ لِوُجُودِ الْقَتْلِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ ثُمَّ ما يَجِبُ على الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ والخاطىء ( ( ( والخاطئ ) ) ) تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وما يَجِبُ على الْبَالِغِ وَالْعَاقِلِ وَالْعَامِدِ يَكُونُ في مَالِهِ لِأَنَّ الْقَتْلَ عَمْدٌ لَكِنْ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ وفي الْأَبِ وَالْأَجْنَبِيِّ الدِّيَةُ في مَالِهِمَا لِأَنَّ الْقَتْلَ عَمْدٌ وفي الْمَوْلَى مع الْأَجْنَبِيِّ على الْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ في مَالِهِ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ إذَا جَرَحَ نَفْسَهُ وَجَرَحَهُ أَجْنَبِيٌّ فَمَاتَ لَا قِصَاصَ على الْأَجْنَبِيِّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ مَاتَ بِجُرْحَيْنِ أَحَدُهُمَا هَدَرٌ وَالْآخَرُ مُعْتَبَرٌ وَعَلَى هذا مَسَائِلُ تَأْتِي في مَوْضِعٍ آخَرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومَ الدَّمِ مُطْلَقًا فَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ وَلَا ذِمِّيٌّ بِالْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ وَلَا بِالْمُرْتَدِّ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ أَصْلًا وَرَأْسًا وَلَا بِالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
لِأَنَّ عِصْمَتَهُ ما ثَبَتَتْ مُطْلَقَةً بَلْ مُؤَقَّتَةً إلَى غَايَةِ مَقَامِهِ في دَارِ الْإِسْلَامِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ من أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَإِنَّمَا دخل دَارَ الْإِسْلَامِ لَا لِقَصْدِ الْإِقَامَةِ بَلْ لِعَارِضِ حَاجَةٍ يَدْفَعُهَا ثُمَّ يَعُودُ إلَى وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ فَكَانَتْ في عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا لِقِيَامِ الْعِصْمَةِ وَقْتَ الْقَتْلِ
وَهَلْ يُقْتَلُ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْتَأْمَنِ ذَكَرَ في السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يُقْتَلُ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ وَلَا يُقْتَلُ الْعَادِلُ بِالْبَاغِي لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ بِسَبَبِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ أَمْوَالَنَا وَأَنْفُسَنَا وَيَسْتَحِلُّونَهَا وقد قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَاتِلْ دُونَ نَفْسِك وقال قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ وَلَا يُقْتَلُ الْبَاغِي بِالْعَادِلِ أَيْضًا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْتَلُ
لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَعْصُومٌ مُطْلَقًا
وَلَنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ في زَعْمِ الْبَاغِي لِأَنَّهُ يَسْتَحِلُّ دَمَ الْعَادِلِ بِتَأْوِيلٍ وَتَأْوِيلُهُ وَإِنْ كان فَاسِدًا لَكِنَّ له مَنَعَةً وَالتَّأْوِيلُ الْفَاسِدُ عِنْدَ وُجُودِ المتعة ( ( ( المنعة ) ) ) أُلْحِقَ بِالتَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ في حَقِّ وُجُوبِ الضَّمَانِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ عن الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قال وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ فَاتَّفَقُوا على أَنَّ كُلَّ دَمٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا قال الرَّجُلُ لِآخَرَ اُقْتُلْنِي فَقَتَلَهُ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عليه عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَجِبُ الْقِصَاصَ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الأمر بِالْقَتْلِ لم يَقْدَحْ في الْعِصْمَةِ لِأَنَّ عِصْمَةَ النَّفْسِ مِمَّا لَا تَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَأْثَمُ بِالْقَوْلِ فَكَانَ الْأَمْرُ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ بِخِلَافِ الْأَمْرِ بِالْقَطْعِ لِأَنَّ عِصْمَةَ الطَّرَفِ تَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ في الْجُمْلَةِ فَجَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ الْأَمْرُ فيها
وَلَنَا أَنَّهُ تَمَكَّنَتْ في هذه الْعِصْمَةِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ لم يَصِحَّ حَقِيقَةً فَصِيغَتُهُ تُورِثُ شُبْهَةً وَالشُّبْهَةُ في هذا الْبَاب لها حُكْمُ الْحَقِيقَةِ
وإذا لم يَجِبْ الْقِصَاصُ فَهَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ فيه ( ( ( فيها ) ) ) رِوَايَتَانِ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه في رِوَايَةٍ تَجِبُ وفي رِوَايَةٍ لَا تَجِبُ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هذا أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ
وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَصَحُّ هِيَ الْأُولَى لِأَنَّ الْعِصْمَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْحُرْمَةِ وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ وَالشُّبْهَةُ لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ
وَلَوْ قال اقْطَعْ يَدَيَّ فَقَطَعَ لَا شَيْءَ عليه بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بها مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ وَعِصْمَةُ الْأَمْوَالِ تَثْبُتُ حَقًّا له فَكَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلسُّقُوطِ بِالْإِبَاحَةِ وَالْإِذْنِ كما لو قال له اتلف مَالِي فَأَتْلَفَهُ
وَلَوْ قال اُقْتُلْ عَبْدِي أو اقْطَعْ يَدَهُ فَقَتَلَ أو قَطَعَ فَلَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّ عَبْدَهُ مَالُهُ وَعِصْمَةُ مَالِهِ ثَبَتَتْ حَقًّا له فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِإِذْنِهِ كما في سَائِرِ أَمْوَالِهِ وَلَوْ قال اُقْتُلْ أَخِي فَقَتَلَهُ وهو وَارِثُهُ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ وهو قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَسْتَحْسِنُ أَنْ آخُذَ الدِّيَةَ من الْقَاتِلِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْأَخَ الْآمِرَ أَجْنَبِيٌّ عن دَمِ أَخِيهِ فَلَا يَصِحُّ إذْنُهُ بِالْقَتْلِ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقِصَاصَ لو وَجَبَ بِقَتْلِ أَخِيهِ لَوَجَبَ له وَالْقَتْلُ حَصَلَ بِإِذْنِهِ وَالْإِذْنُ إنْ لم يَعْمَلْ شَرْعًا لَكِنَّهُ وُجِدَ حَقِيقَةً من حَيْثُ الصِّيغَةُ فَوُجُودُهُ يُورِثُ شُبْهَةً كَالْإِذْنِ بِقَتْلِ نَفْسِهِ وَالشُّبْهَةُ لَا تُؤَثِّرُ في وُجُوبِ الْمَالِ
وَرَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنهما فِيمَنْ أَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يَقْتُلَ ابْنَهُ فقلته ( ( ( فقتله ) ) ) أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ وَهَذَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ في الْمَسْأَلَتَيْنِ
وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشُجَّهُ فَشَجَّهُ فَلَا شَيْءَ عليه إنْ لم يَمُتْ من الشَّجَّةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّجَّةِ كَالْأَمْرِ بِالْقَطْعِ وَإِنْ مَاتَ منها كانت عليه الدِّيَةُ كَذَا ذُكِرَ في الْكِتَابِ وَيَحْتَمِلُ هذا أَنْ يَكُونَ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خَاصَّةً بِنَاءً على أَنَّ الْعَفْوَ عن الشَّجَّةِ لَا يَكُونُ عَفْوًا عن الْقَتْلِ عِنْدَهُ فَكَذَا الْأَمْرُ بِالشَّجَّةِ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَتْلِ
وَلَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ قَتْلًا من حِينِ وُجُودِهِ لَا شَجًّا وكان
____________________

(7/236)


الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ فَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ عليه شَيْءٌ لِأَنَّ الْعَفْوَ عن الشَّجَّةِ يَكُونُ عَفْوًا عن الْقَتْلِ عِنْدَهُمَا فَكَذَا الْأَمْرُ بِالشَّجَّةِ يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَتْلِ
وروى ( ( ( روى ) ) ) ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيمَنْ أَمَرَ إنْسَانًا بِأَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ فَفَعَلَ فَمَاتَ من ذلك أَنَّهُ لَا شَيْءَ على قَاطِعِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هذا قَوْلَهُمَا خَاصَّةً كما قَالَا فِيمَنْ له الْقِصَاصُ في الطَّرَفِ إذَا قَطَعَ طَرَفَ من عليه الْقِصَاصُ فَمَاتَ أنه لَا شَيْءَ عليه
فَأَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ قَتْلًا وَالْمَأْمُورُ بِهِ الْقَطْعُ لَا الْقَتْلُ وكان الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصَ كما قال فِيمَنْ له الْقِصَاصُ في الطَّرَفِ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ الْحَرْبِيُّ إذَا أَسْلَمَ في دَارِ الْحَرْبِ ولم يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عليه عِنْدنَا لِأَنَّهُ وَإِنْ كان مُسْلِمًا فَهُوَ من أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ
قال اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَإِنْ كان من قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وهو مُؤْمِنٌ } فَكَوْنُهُ من أَهْل دَارِ الْحَرْبِ أَوْرَثَ شُبْهَةً في عِصْمَتِهِ وَلِأَنَّهُ إذَا لم يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَهُوَ مُكَثِّرٌ سَوَادَ الْكَفَرَةِ وَمَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ منهم على لِسَانِ رسول اللَّهِ وهو وَإِنْ لم يَكُنْ منهم دِينًا فَهُوَ منهم دَارًا فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ
وَلَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ تَاجِرَيْنِ أو أَسِيرَيْنِ في دَارِ الْحَرْبِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَلَا قِصَاصَ أَيْضًا وَتَجِبُ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ في التَّاجِرَيْنِ وفي الْأَسِيرَيْنِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ السِّيَرِ
وَلَا يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مِثْلَ الْقَاتِلِ في كَمَالِ الذَّات وهو سَلَامَةُ الْأَعْضَاءِ وَلَا أَنْ يَكُونَ مثله في الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ فَيُقْتَلُ سَلِيمُ الْأَطْرَافِ بِمَقْطُوعِ الْأَطْرَافِ وَالْأَشَلِّ وَيُقْتَلُ الْعَالِمُ بِالْجَاهِلِ وَالشَّرِيفُ بِالْوَضِيعِ وَالْعَاقِلُ بِالْمَجْنُونِ
وَالْبَالِغُ بِالصَّبِيِّ
وَالذَّكَرُ بِالْأُنْثَى وَالْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ الذي يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ وَتَجْرِي عليه أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَوْنُ الْمَقْتُولِ مِثْلَ الْقَاتِلِ في شَرَفِ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ شَرْطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَنُقْصَانُ الْكُفْرِ وَالرِّقِّ يَمْنَعُ من الْوُجُوبِ فَلَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ وَلَا الْحُرُّ بِالْعَبْدِ
وَلَا خِلَافَ في أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا قَتَلَ عَبْدًا ثُمَّ عَتَقَ الْقَاتِلُ
اُحْتُجَّ في عَدَمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِمَا رُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
وَلِأَنَّ في عِصْمَتِهِ شُبْهَةَ الْعَدَمِ لِثُبُوتِهَا مع الْقِيَامِ الْمُنَافِي وهو الْكُفْرُ لِأَنَّهُ مُبِيحٌ في الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ جِنَايَةً مُتَنَاهِيَةً فَيُوجِبُ عُقُوبَةً مُتَنَاهِيَةً وهو الْقَتْلُ لِكَوْنِهِ من أَعْظَمِ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ من قَتْلِهِ لِغَيْرِهِ وهو نَقْضُ الْعَهْدِ الثَّابِتِ بِالذِّمَّةِ فَقِيَامُهُ يُورِثُ شُبْهَةً وَلِهَذَا لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْمُسْتَأْمَنِ فَكَذَا الذِّمِّيُّ
وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ شَرْطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْن الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ مَشْهُودٌ له بِالسَّعَادَةِ وَالْكَافِرُ مَشْهُودٌ له بِالشَّقَاءِ فَأَنَّى يَتَسَاوَيَانِ
وَلَنَا عُمُومَاتُ الْقِصَاصِ من نَحْوِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ في الْقَتْلَى }
وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَكَتَبْنَا عليهم فيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ }
وَقَوْلِهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } من غَيْرِ فَصْلٍ بَيْن قَتِيلٍ وَقَتِيلٍ
وَنَفْسٍ وَنَفْسٍ
وَمَظْلُومٍ وَمَظْلُومٍ
فَمَنْ ادَّعَى التَّخْصِيصَ وَالتَّقْيِيدَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عز من قَائِلٍ { وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ }
وَتَحْقِيقُ مَعْنَى الْحَيَاةِ في قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ أَبْلَغُ منه في قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْمُسْلِمِ
لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ الدِّينِيَّةَ تَحْمِلُهُ على الْقَتْلِ خُصُوصًا عِنْدَ الْغَضَبِ وَيَجِبُ عليه قَتْلُهُ لِغُرَمَائِهِ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى الزَّاجِرِ أَمَسَّ فَكَانَ في شَرْعِ الْقِصَاصِ فيه في تَحْقِيقِ مَعْنَى الْحَيَاةِ أَبْلَغُ
وَرَوَى محمد بن الْحَسَنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِإِسْنَادِهِ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ أَقَادَ مُؤْمِنًا بِكَافِرٍ وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أنا أَحَقُّ من وَفَّى ذِمَّتَهُ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ من الْكَافِرِ الْمُسْتَأْمَنِ لِأَنَّهُ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ عَطَفَ قَوْلَهُ وَلَا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ على الْمُسْلِمِ فَكَانَ مَعْنَاهُ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ بِهِ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ أو نَحْمِلُهُ على هذا تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لها عن التَّنَاقُضِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ في عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ
مَمْنُوعٌ بَلْ دَمُهُ حَرَامٌ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ مع قِيَامِ الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ دَمِ الْمُسْلِمِ مع قِيَامِ الْإِسْلَامِ
وَقَوْلُهُ الْكُفْرُ مُبِيحٌ على الْإِطْلَاقِ
مَمْنُوعٌ بَلْ الْمُبِيحُ هو الْكُفْرُ الْبَاعِثُ على الْحِرَابِ وَكُفْرُهُ ليس بِبَاعِثٍ على الْحِرَابِ فَلَا يَكُونُ مُبِيحًا
وَقَوْلُهُ لَا مُسَاوَاةَ بين الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ
قُلْنَا الْمُسَاوَاةُ في الدِّينِ ليس بِشَرْطٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا في الدِّينِ لَكِنَّ الْقِصَاصَ مِحْنَةٌ اُمْتُحِنُوا الْخَلْقُ بِذَلِكَ فَكُلُّ من كان أَقْبَلَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَأَشْكَرَ لِنِعَمِهِ كان أَوْلَى بِهَذِهِ الْمِحْنَةِ لِأَنَّ الْعُذْرَ له في ارْتِكَابِ الْمَحْذُورِ أَقَلُّ وهو بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى وَنِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى في حَقِّهِ أَكْمَلُ فَكَانَتْ جِنَايَتُهُ أَعْظَمَ
وَاحْتُجَّ في قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ }
____________________

(7/237)


وَفُسِّرَ الْقِصَاصُ الْمَكْتُوبُ في صَدْرِ الْآيَةِ بِقَتْلِ الْحُرِّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدِ بِالْعَبْدِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ قَتْلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ قِصَاصًا وَلِأَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بين النَّفْسَيْنِ في الْعِصْمَةِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحُرَّ آدَمِيٌّ من كل وَجْهٍ وَالْعَبْدَ آدَمِيٌّ من وَجْهٍ مَالٌ من وَجْهٍ وَعِصْمَةُ الْحُرِّ تَكُونُ له وَعِصْمَةُ الْمَالِ تَكُونُ لِلْمَالِكِ
وَالثَّانِي أَنَّ في عِصْمَةِ الْعَبْدِ شُبْهَةَ الْعَدَم لِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرُ الْكُفْرِ وَالْكُفْرُ مُبِيحٌ في الْأَصْلِ فَكَانَ في عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ وَعِصْمَةُ الْحُرِّ تَثْبُتُ مُطْلَقَةً فَأَنَّى يَسْتَوِيَانِ في الْعِصْمَةِ
وَكَذَا لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا في الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ لِأَنَّ الرِّقَّ يُشْعِرُ بِالذُّلِّ وَالنُّقْصَانِ
وَالْحُرِّيَّةَ تنبىء عن الْعِزَّةِ وَالشَّرَفِ
وَلَنَا عُمُومَاتُ الْقِصَاصِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَلِأَنَّ ما شُرِعَ له الْقِصَاصُ وهو الْحَيَاةُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ على الْحُرِّ بِقَتْلِ الْعَبْدِ لِأَنَّ حُصُولَهُ يَقِفُ على حُصُولِ الِامْتِنَاعِ عن الْقَتْلِ خَوْفًا على نَفْسِهِ فَلَوْ لم يَجِبْ الْقِصَاصُ بين الْحُرِّ وَالْعَبْدِ لَا يَخْشَى الْحُرُّ تَلَفَ نَفْسِهِ بِقَتْلِ الْعَبْدِ فَلَا يَمْتَنِعُ عن قَتْلِهِ بَلْ يَقْدُمُهُ عليه عِنْدَ أَسْبَابٍ حامله على الْقَتْل من الْغَيْظِ الْمُفْرِطِ وَنَحْوِ ذلك فَلَا يَحْصُلُ مَعْنَى الْحَيَاةِ وَلَا حُجَّةَ له في الْآيَةِ لِأَنَّ فيها أَنَّ قَتْلَ الْحُرِّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدِ بِالْعَبْدِ قِصَاصٌ وَهَذَا لَا ينافي ( ( ( ينفي ) ) ) أَنْ يَكُونَ قَتْلُ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ قِصَاصًا لِأَنَّ التَّنْصِيصَ لَا يَدُلُّ على التَّخْصِيصِ
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بالثيب جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ ثُمَّ الْبِكْرُ إذَا زَنَى بِالثَّيِّبِ وَجَبَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْحَدِيثِ فَدَلَّ أَنَّهُ ليس في ذِكْرِ شَكْلٍ بِشَكْلٍ تَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِهِ
يَدُلُّ عليه أَنَّ الْعَبْدَ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ وَالْأُنْثَى بِالذَّكَرِ وَلَوْ كان التَّنْصِيصُ على الْحُكْمِ في نَوْعٍ مُوجِبًا تَخْصِيصَ الْحُكْمِ بِهِ لَمَا قُتِلَ
ثَمَّ قَوْله تَعَالَى { وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ قاتل ( ( ( قال ) ) ) الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى مُطْلَقًا فَيَقْتَضِي أَنْ تُقْتَلَ الْحُرَّةُ بِالْأَمَةِ وَعِنْدكُمْ لَا تُقْتَلُ فَكَانَ حُجَّةً عَلَيْكُمْ
وَقَوْلُهُ الْعَبْدُ آدَمِيٌّ من وَجْهٍ
مَالٌ من وَجْهٍ قُلْنَا لَا بَلْ آدَمِيٌّ من كل وَجْهٍ
لِأَنَّ الأدمي اسْمٌ لِشَخْصٍ على هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ مَنْسُوبٍ إلَى سَيِّدِنَا آدَمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْعَبْدُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَكَانَتْ عِصْمَتُهُ مِثْلَ عِصْمَةِ الْحُرِّ بَلْ فَوْقَهَا على أَنَّ نَفْسَ الْعَبْدِ في الْجِنَايَةِ له لَا لِمَوْلَاهُ بِدَلِيلِ أَنَّ الْعَبْدَ لو أَقَرَّ على نَفْسِهِ بِالْقِصَاصِ وَالْحَدِّ يُؤْخَذُ بِهِ
وَلَوْ أَقَرَّ عليه مَوْلَاهُ بِذَلِكَ لَا يُؤْخَذُ بِهِ فَكَانَ نَفْسُ الْعَبْدِ في الْجِنَايَةِ له لَا لِلْمَوْلَى كَنَفْسِ الْحُرِّ لِلْحُرِّ
وَأَمَّا قَوْلُهُ الْحُرُّ أَفْضَلُ من الْعَبْدِ فَنَعَمْ لَكِنَّ التَّفَاوُتَ في الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لو قَتَلَ عَبْدًا ثُمَّ أُعْتِقَ الْقَاتِلُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا وَإِنْ اسْتَفَادَ فَضْلَ الْحُرِّيَّةِ
وَكَذَا الذَّكَرُ يُقْتَلُ بِالْأُنْثَى
وَإِنْ كان الذكر أَفْضَلَ من الْأُنْثَى وَكَذَا لَا تُشْتَرَطُ الْمُمَاثَلَةُ في الْعَدَدِ في الْقِصَاصِ في النَّفْسِ وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ في الْفِعْلِ بِمُقَابَلَةِ الْفِعْلِ زَجْرًا وفي الْفَائِتِ بِالْفِعْلِ جَبْرًا حتى لو قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا يُقْتَلُونَ بِهِ قِصَاصًا وَإِنْ لم يَكُنْ بين الْوَاحِدِ وَالْعَشَرَةِ مُمَاثَلَةٌ لِوُجُودِ الْمُمَاثَلَةِ في الْفِعْلِ وَالْفَائِتِ بِهِ زَجْرًا وَجَبْرًا على ما نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَحَقُّ ما يُجْعَلُ فيه الْقِصَاصُ إذَا قَتَلَ الْجَمَاعَةُ الْوَاحِدَ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يُوجَدُ عَادَةً إلَّا على سَبِيلِ التَّعَاوُنِ والإجتماع فَلَوْ لم يُجْعَلْ فيه الْقِصَاصُ لا نسد بَابُ الْقِصَاصِ إذْ كُلُّ من رَامَ قَتْلَ غَيْرِهِ اسْتَعَانَ بِغَيْرٍ يَضُمُّهُ إلَى نَفْسِهِ لِيُبْطِلَ الْقِصَاصَ عن نَفْسِهِ وَفِيهِ تَفْوِيتُ ما شُرِعَ له الْقِصَاصُ وهو الْحَيَاةُ
هذا إذَا كان الْقَتْلُ على الإجتماع فَأَمَّا إذَا كان على التَّعَاقُبِ بِأَنْ شَقَّ رَجُلٌ بَطْنَهُ ثُمَّ حَزَّ آخَرُ رَقَبَتَهُ فَالْقِصَاصُ على الْحَازِّ إنْ كان عَمْدًا وَإِنْ كان خَطَأً فَالدِّيَةُ على عَاقِلَتِهِ لِأَنَّهُ هو الْقَاتِلُ لَا الشَّاقُّ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قد يَعِيشُ بَعْدَ شَقِّ الْبَطْنِ بِأَنْ يُخَاطَ بَطْنُهُ وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَعِيشَ بَعْدَ حَزِّ رَقَبَتِهِ عَادَةً
وَعَلَى الشَّاقِّ أَرْشُ الشَّقِّ وهو ثُلُثُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ جَائِفَةٌ
وَإِنْ كان الشَّقُّ نَفَذَ من الْجَانِبِ الْآخَرِ فَعَلَيْهِ ثُلُثَا الدِّيَةِ في سَنَتَيْنِ في كل سَنَةٍ ثُلُثُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُمَا جَائِفَتَانِ هذا إذَا كان الشَّقُّ مِمَّا يُحْتَمَلُ أَنْ يَعِيشَ بَعْدَهُ يَوْمًا أو بَعْضَ يَوْمٍ فَأَمَّا إذَا كان لَا يُتَوَهَّمُ ذلك ولم يَبْقَ معه إلَّا غَمَرَاتُ الْمَوْتِ وَالِاضْطِرَابُ فَالْقِصَاصُ على الشَّاقِّ لِأَنَّهُ الْقَاتِلُ وَلَا ضَمَانَ على الْحَازِّ لِأَنَّهُ قَتَلَ الْمَقْتُولَ من حَيْثُ الْمَعْنَى لَكِنَّهُ يُعَزَّرُ لِارْتِكَابِهِ جِنَايَةً ليس لها حد مُقَدَّرٌ
وَكَذَلِكَ لو جَرَحَهُ رَجُلٌ جِرَاحَةً مُثْخِنَةً لَا يَعِيشُ
____________________

(7/238)


مَعَهَا عَادَةً ثُمَّ جَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَةً أُخْرَى فَالْقِصَاصُ على الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ الْقَاتِلُ لِإِتْيَانِهِ بِفِعْلٍ مُؤَثِّرٍ في فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً فَإِنْ كانت الْجِرَاحَتَانِ مَعًا فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا قَاتِلَانِ
وَلَوْ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا جِرَاحَةً وَاحِدَةً وَالْآخَرُ عَشْرَ جِرَاحَاتٍ فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا وَلَا عِبْرَةَ بِكَثْرَةِ الْجِرَاحَاتِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قد يَمُوتُ بِجِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَمُوتُ بِجِرَاحَاتٍ كَثِيرَةٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ الْوَاحِدُ يُقْتَلُ بِالْجَمَاعَةِ قِصَاصًا اكْتِفَاءً وَلَا يَجِبُ مع الْقَوَدِ شَيْءٌ من الْمَالِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ لله إنْ قَتَلَهُمْ على التَّعَاقُبِ يُقْتَلُ بِالْأَوَّلِ قِصَاصًا وَتُؤْخَذُ دِيَاتُ الْبَاقِينَ من تَرِكَتِهِ وَإِنْ قَتَلَهُمْ مَعًا فَلَهُ فيه قَوْلَانِ في قَوْلٍ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ يُقْتَل وَتَجِبُ الدِّيَةُ لِلْبَاقِينَ وفي قَوْلٍ يَجْتَمِعُ أَوْلِيَاءُ الْقَتْلَى فَيَقْتُلُونَهُ وَتُقَسَّمُ دِيَاتُ الْبَاقِينَ بَيْنَهُمْ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ مَشْرُوطَةٌ في بَابِ الْقِصَاصِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بين الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ
فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ الْوَاحِدُ بِالْجَمَاعَةِ على طَرِيقِ الِاكْتِفَاءِ بِهِ فَيُقْتَلُ الْوَاحِدُ بِالْوَاحِدِ وَتَجِبُ الدِّيَاتُ لِلْبَاقِينَ
كما لو قَطَعَ وَاحِدٌ يَمِينَيْ رَجُلَيْنِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِهِمَا اكْتِفَاءً بَلْ يُقْطَعُ بِإِحْدَاهُمَا وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْأُخْرَى لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وكان يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْتَلَ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ قِصَاصًا
إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذلك بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ غير مَعْقُولٍ أو مَعْقُولًا بِحِكْمَةِ الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ لِمَا يَغْلِبُ وُجُودُ الْقَتْلِ بِصِفَةِ الِاجْتِمَاعِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ منهم قَاتِلًا على الْكَمَالِ كَأَنْ ليس معه غَيْرُهُ تَحْقِيقًا لِلزَّجْرِ
وَقَتْلُ الْوَاحِدِ بالجماعة ( ( ( الجماعة ) ) ) لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ بَلْ يَنْدُرُ فلم يَكُنْ في مَعْنَى ما وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ
وَإِنَّا نَقُولُ حَقُّ الْأَوْلِيَاءِ في الْقَتْلِ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ لهم
فَلَوْ أَوْجَبْنَا معه الْمَالَ لَكَانَ زِيَادَةً على الْقَتْلِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْقَتْلَ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ لهم أَنَّ التَّمَاثُلَ في بَابِ الْقِصَاصِ إمَّا أَنْ يُرَاعَى في الْفِعْلِ زَجْرًا وَإِمَّا أَنْ يُرَاعَى في الْفَائِتِ بِالْفِعْلِ جَبْرًا وَإِمَّا أَنْ يراعي فِيهِمَا جميعا وَكُلُّ ذلك مَوْجُودٌ هَهُنَا
أَمَّا في الْفِعْلِ زَجْرًا فَلِأَنَّ الْمَوْجُودَ من الْوَاحِدِ في حَقِّ كل وَاحِدٍ من الْجَمَاعَةِ فِعْلٌ مُؤَثِّرٌ في فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً وَالْمُسْتَحَقُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ من أَوْلِيَاءِ الْقَتْلَى قِبَلَ الْقَاتِلِ قَتْلُهُ فَكَانَ الْجَزَاءُ مِثْلَ الْجِنَايَةِ وَأَمَّا في الْفَائِتِ جَبْرًا فَلِأَنَّهُ بِقَتْلِهِ الْجَمَاعَةَ ظُلْمًا انْعَقَدَ سَبَبُ هَلَاكِ وَرَثَةِ الْقَتْلَى لِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ قَتْلَهُ طَلَبًا لِلثَّأْرِ وَتَشَفِّيًا لِلصَّدْرِ فَيَقْصِدُ هو قَتْلَهُمْ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ عن نَفْسِهِ فَتَقَعُ الْمُحَارَبَةُ بين الْقَبِيلَتَيْنِ وَمَتَى قُتِلَ منهم قِصَاصًا سَكَنَتْ الْفِتْنَةُ وَانْدَفَعَ سَبَبُ الْهَلَاكِ عن وَرَثَتِهِمْ فَتَحْصُلُ الْحَيَاةُ لِكُلِّ قَتِيلٍ مَعْنًى بِبَقَاءِ حَيَاةِ وَرَثَتِهِ بِسَبَبِ الْقِصَاصِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْقَاتِلَ دَخِرَ حَيَاةَ كل قَتِيلٍ تَقْدِيرًا بِدَفْعِ سَبَبِ الْهَلَاكِ عن وَرَثَتِهِ فَيَتَحَقَّقُ الْجَبْرُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ كما في قَتْلِ الْوَاحِدُ بِالْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ من غَيْرِ تَفَاوُتٍ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَتْلِ فَنَوْعٌ وَاحِدٌ وهو أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُبَاشَرَةً فَإِنْ كان تَسْبِيبًا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ
لِأَنَّ الْقَتْلَ تَسْبِيبًا لَا يُسَاوِي الْقَتْلَ مُبَاشَرَةً وَالْجَزَاءُ قَتْلٌ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ من حَفَرَ بِئْرًا على قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ وَمَاتَ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ على الْحَافِرِ لِأَنَّ الْحَفْرَ قَتْلٌ سَبَبًا لَا مُبَاشَرَةً وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ شُهُودُ الْقِصَاصِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ قَتْلِ الْمَشْهُودِ عليه أو جاء الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عليهم عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ وَقَعَتْ قَتْلًا لِأَنَّ الْقَتْلَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤَثِّرٍ في فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً وقد وُجِدَ من الشُّهُودِ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ مُؤَثِّرَةٌ في ظُهُورِ الْقِصَاصِ وَالظُّهُورَ مُؤَثِّرٌ في وُجُوبِ الْقَضَاءِ على الْقَاضِي وَقَضَاءَ الْقَاضِي مُؤَثِّرٌ في وِلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ وَوِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ مُؤَثِّرَةٌ في الِاسْتِيفَاء طَبْعًا وَعَادَةً فَكَانَتْ فَوَاتُ الْحَيَاةِ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ مُضَافَةً إلَى الشَّهَادَةِ السَّابِقَةِ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ قَتْلًا تَسْبِيبًا وَالْقَتْلُ تَسْبِيبًا مِثْلُ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً في حَقّ وُجُوبِ الْقِصَاصِ كَالْإِكْرَاهِ على الْقَتْلِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْقِصَاصَ على الْمُكْرَهِ وَإِنْ لم يَكُنْ قَتْلًا بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ لِوُقُوعِهِ قَتْلًا بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ كَذَا هذا
وَلَنَا ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَتْلَ تَسْبِيبًا لَا يُسَاوِي الْقَتْلَ مُبَاشَرَةً لِأَنَّ الْقَتْلَ تَسْبِيبًا قَتْلٌ مَعْنًى لَا صُورَةً وَالْقَتْلُ مُبَاشَرَةً قَتْلٌ صُورَةً وَمَعْنًى وَالْجَزَاءُ قَتْلٌ مُبَاشَرَةً بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ على الْقَتْلِ لِأَنَّهُ قَتْلٌ مُبَاشَرَةً لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ آلَةَ الْمُكْرِهِ كَأَنَّهُ أَخَذَهُ وَضَرَبَهُ على الْمُكْرَهِ على قَتْلِهِ وَالْفِعْلُ لِمُسْتَعْمِلِ الْآلَةِ لَا لِلْآلَةِ فَكَانَ قَتْلًا مُبَاشَرَةً وَيَضْمَنُونَ الدِّيَةَ لوجود ( ( ( بوجود ) ) ) الْقَتْلِ منهم
وَهَلْ يَرْجِعُونَ بها على الْوَلِيِّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ فيه قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ لَا يَرْجِعُونَ وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُونَ
لهما ( ( ( ولهما ) ) ) أَنَّ الشُّهُودَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ قَامُوا مَقَامَ الْمَقْتُولِ في مِلْكِ بَدَلِهِ إنْ لم يَقُومُوا مَقَامَهُ في مِلْكِ
____________________

(7/239)


عَيْنِهِ فَأَشْبَهَ غَاصِبَ الْمُدَبَّرِ إذَا غَصَبَ منه فَمَاتَ في يَدِ الْغَاصِبِ الثَّانِي أَنَّ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ على الثَّانِي بِمَا ضَمِنَهُ الْمَالِكُ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ النَّفْسِ وَنَفْسُ الْحُرِّ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لهم في الْبَدَلِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلتَّمَلُّكِ لِكَوْنِهِ قَاتِلًا إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فيه لِمُعَارِضٍ وهو التَّدْبِيرُ فَيَثْبُتُ في بَدَلِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بالصواب
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ فَوَاحِدٌ أَيْضًا وهو أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مَعْلُومًا فَإِنْ كان مَجْهُولًا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصَ وُجُوبٌ لِلِاسْتِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءُ من الْمَجْهُولِ مُتَعَذِّرٌ فَتَعَذَّرَ الْإِيجَابُ له وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا قُتِلَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ وَفَاءً وَوَرَثَةً أَحْرَارًا غير الْمَوْلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ على الْقَاتِلِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُشْتَبَهٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هو الْوَارِثَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُون هو الْمَوْلَى لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في مَوْتِهِ حُرًّا أو عَبْدًا فَإِنْ مَاتَ حُرًّا كان وَلِيُّهُ الْوَارِثَ وَإِنْ مَاتَ عَبْدًا كان وَلَيُّهُ الْمَوْلَى وَمَوْضِعُ الِاخْتِلَافِ مَوْضِعُ التَّعَارُضِ وَالِاشْتِبَاهِ فلم يَكُنْ الْوَلِيُّ مَعْلُومًا فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ وَإِنْ اجْتَمَعَا ليس لَهُمَا أَنْ يَسْتَوْفِيَا لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ لَا يَزُولُ بِالِاجْتِمَاعِ
هذا إذَا تَرَكَ وَفَاءً وَوَرَثَةً غير الْمَوْلَى فَأَمَّا إذَا تَرَكَ وَفَاءً ولم يَتْرُكْ وَرَثَةً غير الْمَوْلَى فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه عِنْدَهُمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ أَصْلًا وهو رِوَايَةٌ عن أبي يُوسُفَ أَيْضًا
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ في سَبَبِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ حُرًّا كان سَبَبُ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ القرابة فَلَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِلْمَوْلَى وَإِنْ مَاتَ عَبْدًا كان السَّبَبُ هو الْمِلْكُ فَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ للملوى ( ( ( للمولى ) ) ) فَوَقَعَ الِاشْتِبَاهُ في ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ فَلَا تَثْبُتُ
وَلَهُمَا أَنَّ من له الْحَقُّ مُتَعَيَّنٌ غَيْرُ مُشْتَبَهٍ
لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ مُوجِبٌ الْمُزَاحِمَةَ ولم يُوجَدْ وَلَوْ قُتِلَ ولم يَتْرُكْ وَفَاءً وَجَبَ الْقِصَاصُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَعْلُومٌ وهو الْمَوْلَى لِأَنَّهُ يَمُوتُ رَقِيقًا بِلَا خِلَافٍ فَكَانَ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى كَالْعَبْدِ الْقَنِّ أذا قُتِلَ
وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْقِنِّ لِأَنَّهُمْ قُتِلُوا على مِلْكِ الْمَوْلَى فَكَانَ الْوَلِيُّ مَعْلُومًا وَلَوْ قُتِلَ عبد الْمُكَاتَبِ فَلَا قِصَاصَ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ له نَوْعُ مِلْكِ وَلِلْمَوْلَى أَيْضًا فيه نَوْعُ مِلْكٍ فَاشْتَبَهَ الْوَلِيُّ فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ عَبْدٍ فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ مَاتَ من ذلك أَنَّهُ إنْ كان لِلْعَبْدِ وَارِثٌ حُرٌّ غَيْرُ الْمَوْلَى فَلَا قِصَاصَ لِاشْتِبَاهِ وَلِيِّ الْقِصَاصِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ عِنْدَ الْمَوْتِ مُسْتَنِدًا إلَى الْقَطْعِ السَّابِقِ وَالْحَقُّ عِنْدَ الْقَطْعِ لِلْمَوْلَى لَا لِلْوَرَثَةِ وَعِنْدَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وهو الْوُجُوبُ
وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ الْحَقُّ لِلْوَارِثِ لَا لَلْمَوْلَى فَاشْتَبَهَ الْمَوْلَى فلم يَجِبْ الْقِصَاصُ
وَلَوْ اجْتَمَعَ الْمَوْلَى مع الْوَارِثِ فَلَا قِصَاصَ لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ لَا يَزُولُ بِاجْتِمَاعِهِمَا فَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ قُتِلَ وَاجْتَمَعَا أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصَ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يَشْتَبِهْ الْوَلِيُّ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ مِلْكًا وَلِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ حَقًّا يُشْبِهُ الْمِلْكِ فلم يَشْتَبِهْ الْوَلِيُّ وَهَهُنَا أشتبه الْوَلِيُّ لِأَنَّ وَقْتَ الْقَطْعِ لم يَكُنْ لِلْوَارِثِ فيه حَقٌّ وَوَقْتُ الْمَوْتِ لم يَكُنْ لِلْمَوْلَى فيه حَقٌّ فَصَارَ الْوَلِيُّ مُشْتَبَهًا فَامْتَنَعَ الْوُجُوبَ وَإِنْ لم يَكُنْ وَارِثٌ سِوَى الْمَوْلَى فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا أَنَّ على قَوْلِهِمَا لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ لِأَنَّ الْحَقَّ له وَقْتَ الْقَطْعِ وَوَقْتَ الْمَوْتِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ليس له حَقُّ الِاقْتِصَاصِ لِاشْتِبَاهِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ لِأَنَّ الثَّابِتَ للملوى ( ( ( للمولى ) ) ) وَقْتَ الْقَطْعِ كان وِلَايَةَ الْمِلْكِ وَبَعْدَ المولت ( ( ( الموت ) ) ) له وِلَايَةُ الْعَتَاقَةِ فَاشْتَبَهَ سَبَبُ الْوِلَايَةِ
هذا إذَا كان الْقَطْعُ عَمْدًا فَأَمَّا إذَا كان خَطَأً فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ مَاتَ من ذلك فَلَا شَيْءَ على الْقَاطِعِ غَيْرُ أَرْشِ الْيَدِ وهو نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَإِعْتَاقُهُ إيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ بُرْئِهِ في الْيَدِ لِتَبَدُّلِ الْمَحَلِّ حُكْمًا بِالْإِعْتَاقِ فَتَنْقَطِعُ آيَةُ السِّرَايَةِ
هذا إذَا أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ الْقَطْعِ عَمْدًا أو خَطَأً فَمَاتَ من ذلك فَأَمَّا إذَا لم يُعْتِقْهُ وَلَكِنَّهُ دَبَّرَهُ أو كانت أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ مَاتَ من ذلك فَإِنْ كان الْقَطْعُ عَمْدًا فَلِلْمَوْلَى الْقِصَاصُ لِأَنَّ الْحَقَّ له وَقْتَ الْقَطْعِ وَالْمَوْتِ جميعا فلم يشتبه ( ( ( يشبه ) ) ) الْوَلِيَّ
وَإِنْ كان خَطَأً لَا تَنْقَطِعُ السِّرَايَةُ فَيَجِبُ نِصْفُ الْقِيمَةِ دِيَةُ الْيَدِ وَيَجِبُ ما نَقَصَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ قبل الْمَوْتِ لِحُصُولِ ذلك في مِلْكِ الْمَوْلَى
وَلَوْ كَاتَبَهُ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنْ كان الْقَطْعُ عَمْدًا يُنْظَرُ إنْ مَاتَ عَاجِزًا فَلِلْمَوْلَى الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا وَإِنْ مَاتَ عن وَفَاءٍ فَإِنْ كان له وَارِثٌ يَحْجُبُ الْمَوْلَى أو يُشَارِكُهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِاشْتِبَاهِ الْوَلِيِّ وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْيَدِ لَا غَيْرُ وَلَوْ لم يَكُنْ له وَارِثٌ غير الْمَوْلَى فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ليس له أَنْ يَقْتَصَّ وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْيَدِ وَإِنْ كان الْقَطْعُ خَطَأً لَا شَيْءَ على الْقَاطِعِ إلَّا أَرْشَ الْيَدِ وهو نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلْمَوْلَى وَتَنْقَطِعُ السِّرَايَةُ

____________________

(7/240)


هذا إذَا كان الْقَطْعُ قبل الْكِتَابَةِ فَإِنْ كان بَعْدَهَا فَمَاتَ فَإِنْ كان الْقَطْعُ عَمْدًا يُنْظَرُ إنْ مَاتَ عَاجِزًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا وَإِنْ مَاتَ عن وَفَاءٍ فَإِنْ كان مع الْمَوْلَى وَارِثٌ آخَرَ أو غَيْرُهُ يُشَارِكُهُ في الْمِيرَاثِ فَلَا قِصَاصَ لِاشْتِبَاهِ الْوَلِيِّ وَإِنْ لم يَكُنْ له وَارِثٌ غير الْمَوْلَى فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا وَإِنْ كان الْقَطْعُ خَطَأً فَإِنْ مَاتَ عَاجِزًا فَالْقِيمَةُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا وَإِنْ مَاتَ عن وَفَاءٍ فَالْقِيمَةُ لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّهُ مَاتَ حُرًّا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فَهُوَ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَيْنًا حتى لَا يَمْلِكَ الْوَلِيُّ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ من الْقَاتِلِ من غَيْرِ رِضَاهُ وَلَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ أو عَفَا الْوَلِيُّ سَقَطَ الْمُوجِبُ أَصْلًا
وَهَذَا عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَانِ في قَوْلٍ الْقِصَاصِ ليس واجب ( ( ( بواجب ) ) ) عَيْنًا بَلْ الْوَاجِبُ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ غير عَيْنٍ إمَّا الْقِصَاصُ وَإِمَّا الدِّيَةُ وَلِلْوَلِيِّ خِيَارُ التَّعْيِينِ إنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ من غَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ
فَعَلَى هذا الْقَوْلِ إذَا مَاتَ الْقَاتِلُ يَتَعَيَّنُ الْمَالُ وَاجِبًا فإذا عَفَا الْوَلِيُّ سَقَطَ الْمُوجِبُ أَصْلًا وفي قَوْلٍ الْقِصَاصُ وَاجِبٌ عَيْنًا لَكِنْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ من غَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ وإذا عَفَا له أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ وإذا مَاتَ الْقَاتِلُ سَقَطَ الْمُوجِبُ أَصْلًا
احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ له من أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } مَعْنَاهُ فَلْيَتَتَبَّعْ وَلْيُؤَدِّ الدِّيَةَ
أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على الْقَاتِلِ أَدَاءَ الدِّيَةِ إلَى الْوَلِيِّ مُطْلَقًا عن شَرْطِ الرِّضَا لِأَنَّ أَدَاءَ الدِّيَةِ صِيَانَةُ النَّفْسِ عن الْهَلَاكِ وأنه وَاجِبٌ
قال اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ يَجِبُ حَقًّا لِلْمَقْتُولِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ على حَقِّهِ فَكَانَ الْوَاجِبُ بها حَقًّا له وَحَقُّ الْعَبْدِ ما يَنْتَفِعُ بِهِ
وَالْمَقْتُولُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْقِصَاصِ وَيَنْتَفِعُ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ تُقْضَى منه دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ منه وَصَايَاهُ وكان يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْرَعَ الْقِصَاصُ أَصْلًا إلَّا أَنَّهُ شُرِعَ لِحِكْمَةِ الزَّجْرِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْتَنِعُ من قَتْلِ عَدُوِّهِ خَوْفًا من لُزُومِ الْمَالِ فَشُرِعَ ضَمَانًا زَاجِرًا كان يَنْبَغِي أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا كما في شُرْبِ خَمْرِ الذِّمِّيِّ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ النَّفْسِ وفي الْقِصَاصِ مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَكَتَبْنَا عليهم فيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } والياء ( ( ( والباء ) ) ) تُسْتَعْمَلُ في الأبدال فَتُؤَدِّي إلَى الْجَمْعِ بين الْبَدَلَيْنِ
وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَخُيِّرَ بَيْنَهُمَا
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ في الْقَتْلَى } وَهَذَا يُفِيدُ تَعَيُّنَ الْقِصَاصِ مُوجَبًا وَيَبْطُلُ مَذْهَبُ الْإِبْهَامِ جميعا
أَمَّا الْإِبْهَامُ فَلِأَنَّهُ أَخْبَرَ عن كَوْنِ الْقِصَاصِ وَاجِبًا فَيَصْدُقُ الْقَوْلُ عليه بِأَنَّهُ وَاجِبٌ وَإِنْ كان عليه أَحَدُ حَقَّيْنِ لَا يَصْدُقُ الْقَوْلَ على أَحَدِهِمَا بِأَنَّهُ أَوْجَبُ
وَأَمَّا التَّعْيِينُ فَلِأَنَّهُ إذَا وجب ( ( ( أوجب ) ) ) الْقِصَاصَ على الْإِشَارَةِ إلَيْهِ بَطَلَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ بِضَرُورَةِ النَّصِّ لِأَنَّهُ لَا يُقَابَلُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِاخْتِيَارِ الدِّيَةِ من غَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ
وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ إذَا كان عَيْنَ حَقِّهِ كانت الدِّيَةُ بَدَلَ حَقِّهِ وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَعْدِلَ من غَيْرِ الْحَقِّ إلَى بَدَلِهِ من غَيْرِ رِضَا من عليه الْحَقُّ كَمَنْ عليه حِنْطَةٌ مَوْصُوفَةٌ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يَأْخُذَ منه قِيمَتَهَا من غَيْرِ رِضَاهُ ليس له ذلك كَذَا هذا
وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْعَمْدُ قَوَدٌ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ على نَحْوِ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وَلِأَنَّ ضَمَان الْعُدْوَانِ الْوَارِدِ على حَقِّ الْعَبْدِ مُقَيَّدٌ بِالْمِثْلِ وَالْقِصَاصُ وهو الْقَتْلُ الثَّانِي مِثْلُ الْقَتْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يتوب ( ( ( ينوب ) ) ) مَنَابَ الْأَوَّلِ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ وَمِثْلُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ الذي يَنُوبُ مَنَابَهُ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ وَأَخْذُ الْمَالِ لَا يَنُوبُ مَنَابَ الْقَتْلِ وَلَا يَسُدُّ مَسَدَّهُ فَلَا يَكُونُ مِثْلًا له فَلَا يَصْلُحُ ضَمَانًا لِلْقَتْلِ الْعَمْدِ وكان يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ أَصْلًا إلَّا أَنَّ الْوُجُوبَ في قَتْلِ الْخَطَأِ ثَبَتَ شَرْعًا تَخْفِيفًا على الخاطىء نَظَرًا له إظْهَارًا لِخَطَرِ الدَّمِ صِيَانَةً له عن الْهَدَرِ وَالْعَامِدُ لَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ
وَالصِّيَانَةُ تَحْصُلُ بِالْقِصَاصِ فَبَقِيَ ضَمَانًا أَصْلِيًّا في الْبَابِ
وَأَمَّا الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ فَالْمُرَادُ من قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ له من أَخِيهِ شَيْءٌ } هو الْوَلِيُّ لَا الْقَاتِلُ
لِأَنَّهُ قال تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ له } وَالْقَاتِلُ مَعْفُوٌّ عنه لَا مَعْفُوٌّ له وَلِأَنَّهُ قال تَعَالَى اسْمُهُ { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } فَلْيَتَّبِعْ وأنه أَمْرٌ لِمَنْ دخل تَحْتَ كَلِمَةِ فَمَنْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَتَّبِعُ أَحَدًا بَلْ هو الْمُتَّبَعُ وَإِنَّمَا الْمُتَّبِعُ هو الْوَلِيُّ فَكَانَ هو الدَّاخِلُ تَحْتَ كَلِمَةِ فَمَنْ فَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَمَنْ بُذِلَ له وَأُعْطِيَ له من أَخِيهِ شَيْءُ بِطَرِيقِ الْفَضْلِ وَالسُّهُولَةِ فَلْيَتَّبِعْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْعَفْوِ بِمَعْنَى الْفَضْلِ لُغَةً قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ } أَيْ الْفَضْلَ وَتَقُولُ الْعَرَبُ خُذْ ما أَتَاكَ عَفْوًا أَيْ فَضْلًا
وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ أنه يَجُوزُ أَخْذُ الْمَالِ من الْقَاتِلِ بِرِضَاهُ
وَقِيلَ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ نَزَلَتْ في الصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ
وَقِيلَ نَزَلَتْ في دَمٍ بَيْن نَفَرٍ يَعْفُو أَحَدُهُمْ عن الْقَاتِلِ فَلِلْبَاقِينَ أَنْ يَتَّبِعُوا بِالْمَعْرُوفِ في نَصِيبِهِمْ لِأَنَّهُ قال سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ له من أَخِيهِ شَيْءٌ }
____________________

(7/241)


وهو الْعَفْوُ عن بَعْضِ الْحَقِّ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ أُوقِعَ الِاحْتِمَالُ في الْمُرَادِ بِالْآيَةِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بها مع الِاحْتِمَالِ
وَقَوْلُهُ في دَفْعِ الدِّيَةِ صِيَانَةُ نَفْسِ الْقَاتِلِ عن الْهَلَاكِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ
قُلْنَا نعم لَكِنَّ قَضِيَّتَهُ أَنْ يَصِيرَ آثِمًا بِالِامْتِنَاعِ لَا أَنْ يَمْلِكَ الْوَلِيُّ أَخْذَهُ من غَيْرِ رِضَاهُ
كَمَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ وَعِنْدَ صَاحِبِهِ طَعَامٌ يَبِيعُهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ يَجِبُ عليه أَنْ يَشْتَرِيَهُ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ عن نَفْسِهِ فَإِنْ امْتَنَعَ عن الشِّرَاءِ ليس لِصَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يَدْفَعَ الطَّعَامَ إلَيْهِ وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ من غَيْرِ رِضَاهُ
كَذَا هذا
وَقَوْلُهُ الْمَقْتُولُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْقِصَاصِ
فلنا ( ( ( قلنا ) ) ) مَمْنُوعٌ بَلْ يَنْتَفِعُ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِالْمَالِ لِأَنَّ فيه إحياؤه ( ( ( إحياءه ) ) ) بِإِكْفَاءِ وَرَثَتِهِ أَحْيَاءً
وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِالْمَالِ على ما عُرِفَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ فَنَقُولُ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ
الْمَقْتُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُون حُرًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا
فَإِنْ كان حُرًّا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ له وَارِثٌ وَإِمَّا أَنْ لم يَكُنْ فَإِنْ كان له وَارِثٌ فَالْمُسْتَحِقُّ لِلْقِصَاصِ هو الْوَارِثُ كَالْمُسْتَحِقِّ لِلْمَالِ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ وَالْوَارِثُ أَقْرَبُ الناس إلَى الْمَيِّتِ فَيَكُونُ له
ثُمَّ إنْ كان الْوَارِثُ وَاحِدًا اسْتَحَقَّهُ وَإِنْ كان جَمَاعَةً اسْتَحَقُّوهُ على سَبِيلِ الشَّرِكَةِ كَالْمَالِ الْمَوْرُوثِ عنه
وَجْهُ قَوْلِهِمَا في تَمْهِيدِ هذا الْأَصْلِ أَنَّ الْقِصَاصَ مُوجَبُ الْجِنَايَةِ وإنها وَرَدَتْ على الْمَقْتُولِ فَكَانَ مُوجَبُهَا حَقًّا له إلَّا أَنَّهُ بِالْمَوْتِ عَجَزَ عن الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ فَتَقُومُ الْوَرَثَةُ مَقَامَهُ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ عنه وَيَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ وَلِهَذَا تَجْرِي فيه سِهَامُ الْوَرَثَةِ من النِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالسُّدُسِ وَغَيْرِ ذلك كما تَجْرِي في الْمَالِ
وَهَذَا آيَةُ الشَّرِكَةِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الْمَقْصُودَ من الْقِصَاصِ هو التَّشَفِّي وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ وَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ فَكَانَ حَقًّا لهم ابْتِدَاءً
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم على الْكَمَالِ كَأَنْ ليس معه غَيْرُهُ لَا على سَبِيلِ الشَّرِكَةِ أَنَّهُ حَقٌّ لَا يَتَجَزَّأُ وَالشَّرِكَةُ فِيمَا لَا يَتَجَزَّأُ مُحَالٌ إذْ الشَّرِكَةُ الْمَعْقُولَةُ هِيَ أَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ لِهَذَا وَالْبَعْضُ لِذَلِكَ كَشَرِيكِ الْأَرْضِ وَالدَّارِ وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَتَبَعَّضُ مُحَالٌ
وَالْأَصْلُ أَنَّ ما لَا يَتَجَزَّأُ من الْحُقُوقِ إذَا ثَبَتَ لِجَمَاعَةٍ وقد وُجِدَ سَبَبُ ثُبُوتِهِ في حَقِّ كل وَاحِدٍ منهم يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم على سَبِيلِ الْكَمَالِ كَأَنْ ليس معه غَيْرُهُ كَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ وَوِلَايَةِ الْأَمَانِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا قُتِلَ إنْسَانٌ عَمْدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ فَأَقَامَ الْحَاضِرُ الْبَيِّنَةَ على الْقَتْلِ ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ أَنَّهُ يُعِيدُ الْبَيِّنَةَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يُعِيدُ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ الْقَتْلَ إذَا كان خَطَأً لَا يُعِيدُ وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ
بِأَنْ كان لِأَبِيهِمَا دَيْنٌ على إنْسَانٍ
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَمَّا كان الْقِصَاصُ حَقًّا ثَابِتًا لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً كان كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْنَبِيًّا عن صَاحِبِهِ فَيَقَعُ إثْبَاتُ الْبَيِّنَةِ له لَا لِلْمَيِّتِ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا عن الْمَيِّتِ في الْإِثْبَاتِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ وَلَمَّا كان حَقًّا مَوْرُوثًا على فَرَائِضِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَهُمَا
وَالْوَرَثَةُ خُلَفَاؤُهُ في اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ يَقَعُ الْإِثْبَاتُ لِلْمَيِّتِ وَكُلُّ وَاحِدٍ من آحَادِ الْوَرَثَةِ خَصْمٌ عن الْمَيِّتِ في حُقُوقِهِ كما في الدِّيَةِ وَالدَّيْنِ فَيَصِحُّ منه إثْبَاتُ الْكُلِّ لِلْمَيِّتِ ثُمَّ يَخْلُفُونَهُ كما في الْمَالِ
وَلَوْ قُتِلَ إنْسَانٌ وَلَهُ وَلِيَّانِ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ وَأَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ على الْحَاضِرِ أَنَّ الْغَائِبَ قد عَفَا فَالشَّاهِدُ خَصْمٌ
لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْعَفْوِ من الْغَائِبِ يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الْحَاضِرِ عن الْقِصَاصِ فَكَانَ الْقَاتِلُ مُدَّعِيًا على الْحَاضِرِ بُطْلَانَ حَقِّهِ فَكَانَ خَصْمًا له ويقضى عليه وَمَتَى قضي عليه يَصِيرُ الْغَائِبُ مَقْضِيًّا عليه تَبَعًا له
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَإِنْ لم يَكُنْ لِلْقَاتِلِ بَيِّنَةٌ لم يَكُنْ له أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْحَاضِرَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قد يَنْتَصِبُ خَصْمًا عن غَيْرِهِ في إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ما لَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عن غَيْرِهِ في الْيَمِينِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الْقِصَاصُ إذَا كان بين صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ أَنَّ لِلْكَبِيرِ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا ليس له ذلك وَيُنْتَظَرُ بُلُوغُ الصَّغِيرِ
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا كان الْقِصَاصُ حَقًّا ثَابِتًا لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم على سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ لِاسْتِقْلَالِ سَبَبِ ثُبُوتِهِ في حَقِّ كل وَاحِدٍ منهم وَعَدَمِ تَجَزُّئِهِ في نَفْسِهِ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم على الْكَمَالِ كَأَنْ ليس معه غَيْرُهُ فَلَا مَعْنَى لِتَوَقُّفِ الِاسْتِيفَاءِ على بُلُوغِ الصَّغِيرِ وَعِنْدَهُمَا لَمَّا كان حَقًّا مُشْتَرَكًا بَيْن الْكُلِّ فَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ في مَحَلٍّ مُشْتَرَكٍ بِدُونِ رِضَا شَرِيكِهِ إظْهَارًا لِعِصْمَةِ الْمَحَلِّ وَتَحَرُّزًا عن الضَّرَرِ
وَالصَّحِيحُ أَصْلُ أبي حَنِيفَةَ
____________________

(7/242)


رضي اللَّهُ عنه لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَحْتَمِلُ التَّجْزِئَةَ وَالشَّرِكَةُ في غَيْرِ المتجزىء ( ( ( المتجزئ ) ) ) مُحَالٌ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ إذَا انْقَلَبَ مَالًا لِأَنَّ الْمَالَ مَحَلٌّ قَابِلٌ لِلشَّرِكَةِ على أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنْ سَلَّمَ أَنَّ الْقِصَاصَ مُشْتَرَكٌ بين الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّسْلِيمِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْقَتْلُ بِثُبُوتِ وِلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْكَبِيرِ في نَصِيبِهِ بطريق ( ( ( بطرق ) ) ) الْأَصَالَةِ وفي نَصِيبِ الصَّغِيرِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ شَرْعًا كَالْقِصَاصِ إذَا كان بين إنْسَانٍ وَابْنِهِ الصَّغِيرِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا حَاجَتُهُمَا إلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِاسْتِيفَاءِ النَّفْسِ وَعَجْزُ الصَّغِيرِ عن الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ وَقُدْرَةُ الْكَبِيرِ على ذلك وَكَوْنُ تَصَرُّفِهِ في النَّظَرِ وَالشَّفَقَةُ في حَقِّ الصَّغِيرِ مِثْلُ تَصَرُّفِ الصَّغِيرِ بِنَفْسِهِ لو كان أَهْلًا وَلِهَذَا يَلِي الْأَبُ وَالْجَدُّ اسْتِيفَاءَ قِصَاصٍ وَجَبَ كُلُّهُ لِلصَّغِيرِ فَهَذَا أَوْلَى وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا جَرَحَ ابن مُلْجِمٍ لَعَنَهُ اللَّهُ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فقال لِلْحَسَنِ رضي اللَّهُ عنه إنْ شِئْت فَاقْتُلْهُ وَإِنْ شِئْت فَاعْفُ عنه وإن تَعْفُوَ خَيْرٌ لَك
فَقَتَلَهُ سَيِّدُنَا الْحَسَنُ رضي اللَّهُ عنه وكان في وَرَثَةِ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه صَغَارٌ
وَالِاسْتِدْلَالُ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا بِقَوْلِ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه
وَالثَّانِي بِفِعْلِ سَيِّدِنَا الْحَسَنِ رضي اللَّهُ عنه
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ خَيَّرَ سَيِّدَنَا الْحَسَنَ رضي اللَّهُ عنه حَيْثُ قال إنْ شِئْت فَاقْتُلْهُ مُطْلَقًا من غَيْرِ التَّقْيِيدِ بِبُلُوغِ الصِّغَارِ
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْحَسَنَ رضي اللَّهُ عنه قَتَلَ ابْنَ مُلْجَمٍ لَعَنَهُ اللَّهُ ولم يَنْتَظِرْ بُلُوغَ الصِّغَارِ
وَكُلُّ ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا وَإِنْ لم يَكُنْ له وَارِثٌ وكان له مولى الْعَتَاقَةِ وهو الْمُعْتَقُ فَالْمُسْتَحِقُّ لِلْقِصَاصِ هو لِأَنَّ مولى الْعَتَاقَةِ آخِرُ الْعَصَبَاتِ
ثُمَّ إنْ كان وَاحِدًا اسْتَحَقَّ كُلَّهُ وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً اسْتَحَقُّوهُ
وَإِنْ كان لِلْمَقْتُولِ وَارِثٌ وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَيْضًا فَلَا قِصَاصَ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مُشْتَبَهٌ لِاشْتِبَاهِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ فَالسَّبَبُ في حَقِّ الْوَارِثِ هو الْقَرَابَةُ وفي حَقِّ الْمَوْلَى الْوَلَاءُ وَهُمَا سَبَبَانِ مُخْتَلِفَانِ وَاشْتِبَاهُ الْوَلِيِّ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ لِلْقِصَاصِ
وَكَذَلِكَ إنْ لم يَكُنْ له مولى الْعَتَاقَةِ وَلَهُ مولى الْمُوَالَاةِ لِأَنَّهُ أخر الْوَرَثَةِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْقِصَاصَ كما يَسْتَحِقُّ الْمَالَ وَإِنْ لم يَكُنْ له وَارِثٌ وَلَا له مولى الْعَتَاقَةِ وَلَا مولى الْمُوَالَاةِ كَاللَّقِيطِ وَغَيْرِهِ فَالْمُسْتَحِقُّ هو السُّلْطَانُ في قَوْلِهِمَا
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إذَا كان الْمَقْتُولُ في دَارِ الْإِسْلَامِ
وَالْحُجَجُ تأتى في مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَإِنْ كان الْمَقْتُولُ عَبْدًا فَالْمُسْتَحِقُّ هو الْمَوْلَى لِأَنَّ الْحَقَّ قد ثَبَتَ وَأَقْرَبُ الناس إلَى الْعَبْدِ مَوْلَاهُ
ثُمَّ إنْ كان الْمَوْلَى واحد ( ( ( واحدا ) ) ) اسْتَحَقَّ كُلَّهُ
وَإِنْ كان جَمَاعَةً اسْتَحَقُّوهُ لِوُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ في حَقِّ الْكُلِّ وهو الْمِلْكُ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يَلِي اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ وَشَرْطِ جَوَازِ اسْتِيفَائِهِ فَوِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ تَثْبُتُ بِأَسْبَابٍ منها الْوِرَاثَةُ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْوَارِثَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كان وَاحِدًا وَإِمَّا أن كَانُوا جَمَاعَةً فَإِنْ كان وَاحِدًا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كان كَبِيرًا وَإِمَّا أَنْ كان صَغِيرًا فَإِنْ كان كَبِيرًا فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } وَلِوُجُودِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ في حَقِّهِ على الْكَمَالِ وهو الْوِرَاثَةُ من غَيْرِ مُزَاحِمَةٍ وَإِنْ كان صَغِيرًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ يُنْتَظَرُ بُلُوغُهُ وقال بَعْضُهُمْ يَسْتَوْفِيهِ الْقَاضِي
وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَإِنْ كان الْكُلُّ كِبَارًا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ منهم وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ حتى لو قَتَلَهُ أَحَدُهُمْ صَارَ الْقِصَاصُ مُسْتَوْفًى لِأَنَّ الْقِصَاصَ إنْ كان حَقَّ الْمَيِّتِ فَكُلُّ وَاحِدٍ من آحَادِ الْوَرَثَةِ خَصْمًا في اسْتِيفَاءِ حَقِّ الْمَيِّتِ كما في الْمَالِ وإذا كان حَقُّ الْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً كما قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْحَقِّ في حَقِّ كل وَاحِدٍ منهم إلَّا أَنَّ حُضُورَ الْكُلِّ شَرْطُ جَوَازِ الِاسْتِيفَاءِ وَلَيْسَ لِلْبَعْضِ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ مع غَيْبَةِ الْبَعْضِ لِأَنَّ فيه احْتِمَالُ اسْتِيفَاءِ ما ليس بِحَقٍّ له لِاحْتِمَالِ الْعَفْوِ من الْغَائِبِ
وَإِلَى هذا أَشَارَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فقال لَا أَدْرِي لَعَلَّ الْغَائِبَ عَفَا وَكَذَا إذَا كان الْكُلُّ حُضُورًا لَا يَجُوزُ لهم وَلَا لِأَحَدِهِمْ أَنْ يُوَكِّلَ في اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ على مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مع غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْغَائِبَ قد عَفَا وَلِأَنَّ في اشْتِرَاطِ حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ رَجَاءَ الْعَفْوِ منه عِنْدَ مُعَايَنَةِ حُلُولِ الْعُقُوبَةِ بِالْقَاتِلِ
وقد قال اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ }
فَأَمَّا الِاسْتِيفَاءُ بِالْوَكِيلِ فَجَائِزٌ إذَا كان الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا على ما نَذْكُرُ وَإِنْ كان فِيهِمْ صَغِيرٌ وَكَبِيرٌ فَإِنْ كان الْكَبِيرَ هو الْأَبُ بِأَنْ كان الْقِصَاصُ مُشْتَرَكًا بين الْأَبِ وَابْنِهِ الصَّغِيرِ فَلِلْأَبِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لو كان لم يُقَاصِصْ
____________________

(7/243)


كان لِلْأَبِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ فَهَهُنَا أَوْلَى
وَإِنْ كان الْكَبِيرُ غير الْأَبِ بِأَنْ كان أَخًا فَلِلْكَبِيرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ قبل بُلُوغِ الصَّغِيرِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ليس له ذلك قبل بُلُوغِ الصَّغِيرِ وَالْكَلَامُ فيه يَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ بِدَلَائِلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَمِنْهَا الْأُبُوَّةُ فَلِلْأَبِ وَالْجَدِّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ قِصَاصًا وَجَبَ لِلصَّغِيرِ في النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِأَنَّ هذه وِلَايَةُ نَظَرٍ وَمَصْلَحَةٍ كَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ فَتَثْبُتَ لِمَنْ كان مُخْتَصًّا بِكَمَالِ النَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ في حَقِّ الصَّغِيرِ
وَأَمَّا الْوَصِيُّ فَلَا يَلِي اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ في النَّفْسِ بِأَنْ قَتَلَ شَخْصٌ عبدا ليتيم ( ( ( اليتيم ) ) ) لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَصِيِّ لَا يَصْدُرُ عن كما ( ( ( كمال ) ) ) النَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ في حَقِّ الصَّغِيرِ لِقُصُورٍ في الشَّفَقَةِ الْبَاعِثَةِ عليه بِخِلَافِ الْأَبِ وَالْجَدِّ
وَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِأَنَّ ما دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ على ما نَذْكُرُ وَلِلْوَصِيِّ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْمَالِ
ومنا ( ( ( ومنها ) ) ) الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ وَقْتَ الْقَتْلِ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ إذَا قُتِلَ مَمْلُوكُهُ إذَا لم يَكُنْ في اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ إبْطَالُ حَقِّ الْغَيْرِ من غَيْرِ رِضَاهُ لِأَنَّ الْحَقَّ قد ثَبَتَ له وهو أَقْرَبُ الناس إلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ
وَكَذَا إذَا قُتِلَ مُدَبَّرُهُ وَمُدَبَّرَتُهُ وَأُمُّ وَلَدِهِ وَوَلَدُهَا لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَالِاسْتِيلَادَ لا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ وَكَذَا إذَا قُتِلَ الْمُكَاتَبُ ولم يَتْرُكْ وَفَاءً لِأَنَّهُ مَاتَ رَقِيقًا فَكَانَ مِلْكُ الْمَوْلَى قَائِمًا وَقْتَ الْقَتْلِ
وَذَكَرَ في الْمُنْتَقَى عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه في مُعْتَقِ الْبَعْضِ إذَا قُتِلَ عَاجِزًا أَنَّهُ لَا قِصَاصَ
فَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الماكتب ( ( ( المكاتب ) ) )
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ مَوْت الْمُكَاتَبِ عَاجِزًا يُوجِبُ إنفساخ الْكِتَابَةِ وَجَعْلَهَا كَأَنْ لم تَكُنْ فَالْقَتْلُ صَادَفَهُ وهو قِنٌّ
وَمَوْتُ مُعْتَقِ الْبَعْضِ لَا يُوجِبُ إنفساخ العتاق ( ( ( العتق ) ) ) إذْ الْإِعْتَاقُ بَعْدَ وُجُودِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَالْقَتْلُ صَادَفَهُ وَلَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى في كُلِّهِ وَلَوْ قُتِلَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ وَفَاءً وَوَرَثَةً أَحْرَارًا سِوَى الْمَوْلَى لَا قِصَاصَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْفِيه الْمَوْلَى لِوُقُوعِ الشَّكِّ في قِيَامِ الْمَوْلَى وَقْتَ الْقَتْلِ وَلَا الْوَارِثُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ تعالى عَنْهُمْ أَنَّهُ يَمُوتُ حُرًّا أو عَبْدًا فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ وَإِنْ لم يَكُنْ له وَارِثٌ حُرٌّ غير الْمَوْلَى فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ
وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ في يَدِ الْبَائِعِ قبل الْقَبْضِ فَإِنْ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي إجَازَةَ الْبَيْعِ فَلَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ
بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْمِلْكَ كان له وَقْتُ الْقَتْلِ وقد تَقَرَّرَ بِالْإِجَازَةِ فَكَانَ له أَنْ يَسْتَوْفِيَ وَإِنْ اخْتَارَ فَسْخَ الْبَيْعِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
وقال أبو يُوسُفَ للبائه ( ( ( للبائع ) ) ) الْقِيمَةُ وَلَا قِصَاصَ له
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمِلْكَ لم يَكُنْ ثَابِتًا له وَقْتَ الْقَتْلِ وَإِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ ذلك بِالْفَسْخِ وَالسَّبَبُ حين وُجُودِهِ لم يَنْعَقِدْ مُوجِبًا الْحُكْمَ له فَلَا يَثْبُتُ له بِمَعْنًى وُجِدَ بَعْدَ ذلك وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ رَدَّ الْبَيْعِ فَسْخٌ له من الْأَصْلِ وَجَعْلُ إيَّاهُ كَأَنْ لم يَكُنْ فإذا انْفَسَخَ من الْأَصْلِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ على مِلْكِ الْبَائِعِ فَيُوجَبُ الْقِصَاصُ له فَكَانَ له أَنْ يَسْتَوْفِيَ وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ لِهَذَا الْمَعْنَى أن بِالْفَسْخِ يَظْهَرُ أَنَّ الْعَبْدَ وَقْتَ الْقَتْلِ لم يَكُنْ على مِلْكِ الْبَائِعِ
وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ الذي هو بَدَلُ الصَّدَاقِ في يَدِ الزَّوْجِ أو بَدَلُ الْخُلْعِ في يَدِ الْمَرْأَةِ أو بَدَلُ الصُّلْحِ عن دَمِ العبد ( ( ( العمد ) ) ) في يَدَيْ الذي صَالَحَ عليه فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلصَّدَاقِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ إنْ اخْتَارَ اتباع الْقَاتِلِ فَقَدْ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ له وَإِنْ طَالَبَ بِالْقِيمَةِ فَالْمِلْكُ في الْعَبْدِ قد انْفَسَخَ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ لِلْآخَرِ على ما ذَكَرْنَا في الْبَيْعِ
وَلَوْ قُتِلَ في يَدِ الْمُشْتَرِي وَلِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الشَّرْطِ أو خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فَالْقِصَاصُ لَلْمُشْتَرِي قَبَضَ الْبَائِعُ الثَّمَن أو لم يَقْبِضْ لِأَنَّ الْخِيَارَ قد سَقَطَ بِمَوْتِ الْعَبْدِ وَانْبَرَمَ الْبَيْعُ وَتَقَرَّرَ الْمِلْكُ فيه لِلْمُشْتَرِي فَوَجَبَ الْقِصَاصُ له فَكَانَ له أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ كما إذَا قُتِلَ في يَدِهِ وَلَا خِيَارَ في الْبَيْعِ أَصْلًا
وَلَوْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَإِنْ شَاءَ اتبع الْقَاتِلَ فَقَتَلَهُ قِصَاصًا وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ الْقِيمَةَ
أما اخْتِيَارُ اتباع الْقَاتِلِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ وَقْتَ الْقَتْلِ كان مِلْكًا له
وَأَمَّا اخْتِيَارُ تضمين ( ( ( تضمن ) ) ) الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ فَلِأَنَّهُ كان مَضْمُونًا في يَدِهِ بالقيمة ( ( ( القيمة ) ) )
أَلَا تَرَى لو هَلَكَ بِنَفْسِهِ في يَدِهِ كان عليه قِيمَتُهُ وَلَا قِصَاصَ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ هَلَكَ الْعَبْدُ بِالضَّمَانِ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ له بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ
وَالْمُسْتَنَدُ يَظْهَرُ من وَجْهٍ وَيَقْتَصِرُ من وَجْهٍ فَشِبْهُ الظُّهُورِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِصَاصِ له وَشِبْهُ الِاسْتِنَادِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ فَتَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ في الْوُجُوبِ له فَلَا يَجِبُ
وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ إذَا قُتِلَ في يَدَيْ الْغَاصِبِ وَاخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَهُ لم يَكُنْ لِلْغَاصِبِ الْقِصَاصُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قُتِلَ عَبْدٌ مُوصًى بِرَقَبَتِهِ لِرَجُلٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ لم يَنْفَرِدْ أَحَدُهُمَا بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِأَنَّ الْمُوصَى له بِالْخِدْمَةِ ل
____________________

(7/244)


ا مِلْكَ له في الرَّقَبَةِ فَلَا يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ بِنَفْسِهِ وَالْمُوصَى له بِالرَّقَبَةِ وَإِنْ مَلَكَ الرَّقَبَةَ لَكِنْ في اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُوصَى له بِالْخِدْمَةِ لَا إلَى بَدَلٍ هو مَالٌ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ عليه من غَيْرِ رِضَاهُ وإذا اجْتَمَعَا فَلِلْمُوصَى له بِالرَّقَبَةِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ لِأَنَّ الْمُطْلِقَ لِلِاسْتِيفَاءِ مَوْجُودٌ وهو قِيَامُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَالِامْتِنَاعُ كان لِحَقِّ الْمُوصَى له بِالْخِدْمَةِ فإذا رضي بِسُقُوطِ حَقِّهِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ
وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ لم يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ
أَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ لم يَكُنْ ثَابِتًا له وَقْتَ الْقَتْلِ فلم يُوجَدْ سَبَبُ ثُبُوتِ وِلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ في حَقِّهِ
وَأَمَّا الرَّاهِنُ فَلِأَنَّ اسْتِيفَاءَهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ في الدَّيْنِ من غَيْرِ رِضَاهُ لِأَنَّ الرَّهْنُ يَصِيرُ هَالِكًا من غَيْرِ بَدَلٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا كان رَهْنًا من حَيْثُ أنه مَالٌ وَالْقِصَاصُ لَا يَصْلُحُ بَدَلًا عن الْمَالِيَّةِ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ فَيَصِيرَ الرَّهْنُ هَالِكًا من غَيْرِ بَدَلٍ فَيَسْقُطَ دَيْنُهُ فَكَانَ في اسْتِيفَائِهِ الْقِصَاصَ إبْطَالُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ من غَيْرِ رِضَاهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلَوْ اجْتَمَعَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ كان لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وقد رضي بِسُقُوطِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ليس له أَنْ يَسْتَوْفِيَ وَإِنْ اجْتَمَعَا على الِاسْتِيفَاءِ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ على قَاتِلِهِ ولم يذكر الْخِلَافَ وقد ذَكَرْنَا وَجْهَ كُلٍّ من ذلك في كِتَابِ الرَّهْنِ
وَمِنْهَا الْوَلَاءُ إذَا لم يَكُنْ لِمَوْلَى الْأَسْفَلِ وَارِثٌ لِأَنَّ الْوَلَاءَ سَبَبُ الْوِلَايَةِ في الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ مولى الْعَتَاقَةِ يُزَوِّجُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ آخِرُ الْعَصَبَاتِ وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ يُزَوِّجُ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّهُ آخِرُ الْوَرَثَةِ
فَإِنْ كان له وَارِثٌ فَلَا قِصَاصَ لِاشْتِبَاهِ الْوَلِيِّ فَلَا يُتَصَوَّرُ الِاسْتِيفَاءُ
وَمِنْهَا السَّلْطَنَةُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَرَثَةِ وَالْمِلْكِ وَالْوَلَاءِ كَاللَّقِيطِ وَنَحْوِهِ إذَا قُتِلَ
وَهَذَا قَوْلُهُمَا
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ إذَا كان الْمَقْتُولُ من أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ
وَإِنْ كان من أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَقْتُولَ في دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو عن وَلِيٍّ له عَادَةً إلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا لَا يُعْرَفُ وَقِيَامُ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ تَمْنَعُ وِلَايَةَ السُّلْطَانِ وَبِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ
بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ إذَا دخل دَارَ الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ لَا وَلِيَّ له في دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَهُمَا أَنَّ الْكَلَامَ في قَتِيلٍ لم يُعْرَفْ له وَلَيٌّ عِنْدَ الناس فَكَانَ وَلِيُّهُ السُّلْطَانَ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ السُّلْطَانُ وَلَيُّ من لَا وَلَيَّ له وقدر ( ( ( وقد ) ) ) رُوِيَ أَنَّهُ لَمَا قُتِلَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه خَرَجَ الْهُرْمُزَانُ وَالْخِنْجَرُ في يَدِهِ فَظَنَّ عُبَيْدُ اللَّهِ أَنَّ هذا الذي قَتَلَ سَيِّدَنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فَقَتَلَهُ فَرُفِعَ ذلك إلَى سَيِّدِنَا عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه فقال سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه لِسَيِّدِنَا عُثْمَانَ اُقْتُلْ عُبَيْدَ اللَّهِ فَامْتَنَعَ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ رضي اللَّهُ عنه وقال كَيْفَ أَقْتُلُ رَجُلًا قُتِلَ أَبُوهُ أَمْسِ لَا أَفْعَلُ وَلَكِنْ هذا رَجُلٌ من أَهْلِ الْأَرْضِ وأنا وَلِيُّهُ أَعْفُو عنه وَأُؤَدِّي دِيَتَهُ
وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ أَعْفُو عنه وَأُؤَدِّي دِيَتَهُ الصُّلْحَ على الدِّيَةِ
وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُصَالِحَ على الدِّيَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ بِدَلِيلِ أَنَّ مِيرَاثَهُ لهم وَإِنَّمَا الْإِمَامُ نَائِبٌ عَنْهُمْ في الْإِقَامَةِ وفي الْعَفْوِ إسْقَاطُ حَقِّهِمْ أَصْلًا وَرَأْسًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلِهَذَا لَا يملك ( ( ( يملكه ) ) ) الْأَبُ وَالْجَدُّ وَإِنْ كَانَا يَمْلِكَانِ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ على الدِّيَةِ كما فَعَلَ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ رضي اللَّهُ عنه وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ بِالصَّوَابِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسْتَوْفَى بِهِ الْقِصَاصُ وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِيفَاءِ فَالْقِصَاصُ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِالسَّيْفِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ ما فَعَلَ فَإِنْ مَاتَ وَإِلَّا تُحَزُّ رَقَبَتُهُ حتى لو قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا فَمَاتَ من ذلك فإن الْوَلِيَّ يَقْتُلُهُ وَلَيْسَ له أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ تُقْطَعُ يَدُهُ فَإِنْ مَاتَ في الْمُدَّةِ التي مَاتَ الْأَوَّلُ فيها وَإِلَّا تُحَزُّ رَقَبَتُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ مَبْنَى الْقِصَاصِ على الْمُمَاثَلَةِ في الْفِعْلِ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْفِعْلِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا وهو أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مِثْلُ ما فَعَلَ هو وَالْمَوْجُودُ منه الْقَطْعُ فَيَجِبُ أَنْ يجازي بِالْقَطْعِ وَالظَّاهِرُ في الْقَطْعِ عَدَمُ السِّرَايَةِ فَإِنْ اتَّفَقَتْ السِّرَايَةُ وَإِلَّا تُحَزُّ رَقَبَتُهُ وَيَكُونُ الْحَزُّ تَتْمِيمًا لِلْفِعْلِ الْأَوَّلِ لَا جزاءا ( ( ( حزا ) ) ) مُبْتَدَأً
وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ وَالْقَوَدُ هو الْقِصَاصُ وَالْقِصَاصُ هو الِاسْتِيفَاءُ فَكَانَ هذا نَفْيُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِالسَّيْفِ وَلِأَنَّ الْقَطْعَ إذَا اتَّصَلَتْ بِهِ السِّرَايَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا من حِينِ وُجُودِهِ فَلَا يجازي إلَّا بِالْقَتْلِ
فَلَوْ قُطِعَ ثُمَّ اُحْتِيجَ إلَى الْحَزِّ كان ذلك جَمْعًا بين الْقَتْلِ وَالْحَزِّ فلم
____________________

(7/245)


يَكُنْ مُجَازَاةً بِالْمِثْلِ
وَقَوْلُهُ الْحَزُّ يَقَعُ تَتْمِيمًا لِلْقَطْعِ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْمُتَمِّمَ لِلشَّيْءِ من تَوَابِعِهِ وَالْحَزُّ قَتْلٌ وهو أَقْوَى من الْقَطْعِ فَكَيْفَ يَكُونُ من تَمَامِهِ
وَإِنْ أَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يَقْتُلَ بِغَيْرِ السَّيْفِ لَا يُمَكَّنُ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ فَعَلَ يُعَزَّرُ لَكِنْ لَا ضَمَانَ عليه وَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِأَيِّ طَرِيقٍ قَتَلَهُ سَوَاءٌ قَتَلَهُ بِالْعَصَا أو بِالْحَجَرِ أو أَلْقَاهُ من السَّطْحِ أو أَلْقَاهُ في الْبِئْرِ أو سَاقَ عليه دَابَّةً حتى مَاتَ وَنَحْوَ ذلك لِأَنَّ الْقَتْلَ حَقُّهُ فإذا قَتَلَهُ فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كان إلَّا أَنَّهُ يَأْثَمُ بِالِاسْتِيفَاءِ لَا بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ لِمُجَاوَزَتِهِ حَدَّ الشَّرْعِ
وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ بِنَفْسِهِ وَبِنَائِبِهِ بِأَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِالْقَتْلِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَقْدِرُ على الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ إمَّا لِضَعْفِ بَدَنِهِ أو لِضَعْفِ قَلْبِهِ أو لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ إلَيْهِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْإِنَابَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ من حُضُورِهِ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
ثُمَّ إذَا قَتَلَهُ الْمَأْمُورُ وَالْآمِرُ حَاضِرٌ صَارَ مُسْتَوْفِيًا وَلَا ضَمَان عليه فَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ وَالْآمِرُ غَيْرُ حَاضِرٍ وَأَنْكَرَ وَلَيُّ هذا الْقَتِيلِ الْأَمْرَ فإنه يَجِبُ الْقِصَاصُ على الْقَاتِلِ وَلَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُ الْوَلِيِّ لِأَنَّ الْقَتْلَ عَمْدًا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ في الْأَصْلِ فَلَوْ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ سَبَبًا إنَّمَا يَخْرُجُ بِالْأَمْرِ وقد كَذَّبَهُ وَلَيُّ هذا الْقَتِيلِ في الْأَمْرِ وَتَصْدِيقُ وَلَيِّ الْقِصَاصِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ بعدما بَطَلَ حَقُّهُ عن الْقِصَاصِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ فَصَارَ أَجْنَبِيًّا عنه فَلَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ فلم يَثْبُتْ الْأَمْرُ فَبَقِيَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ مُوجِبًا للقصاص ( ( ( القصاص ) ) )
وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا في دَارِ إنْسَانٍ فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ وَمَاتَ فَادَّعَى وَلَيُّ الْقَتِيلِ الدِّيَةَ فقال الْحَافِرُ حَفَرْتُهُ بِإِذْنِ صَاحِبِ الدَّارِ وَصَدَّقَهُ صَاحِبُ الدَّارِ في ذلك فَلَا ضَمَانَ على الْحَافِرِ وَيُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ في فِعْلٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْأَمْرِ بِهِ لِلْحَالِ وهو الْحَفْرُ في مِلْكِهِ فلم يَكُنْ هذا تَصْدِيقًا بَعْدَ فَوَاتِ الْمَحَلِّ فَاعْتُبِرَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسْقِطُ الْقِصَاصَ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَالْمُسْقِطُ له أَنْوَاعٌ منها فَوَاتُ مَحَلِّ الْقِصَاصِ بِأَنْ مَاتَ من عليه الْقِصَاصُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الشَّيْءِ في غَيْر مَحَلِّهِ وإذا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِالْمَوْتِ لَا تَجِبُ الدِّيَةُ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْقِصَاصَ هو الْوَاجِبُ عَيْنًا عِنْدَنَا وهو أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ تَجِبُ الدِّيَةُ وقد بَيَّنَّا فَسَادَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَكَذَا إذَا قُتِلَ من عليه الْقِصَاصُ بِغَيْرِ حَقٍّ أو بِحَقٍّ بِالرِّدَّةِ وَالْقِصَاصِ بِأَنْ قَتَلَ إنْسَانًا فَقُتِلَ بِهِ قِصَاصًا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَلَا يَجِبُ المال لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ الْوَاجِبُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إذَا فَاتَ ذلك الْعُضْوُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو قُطِعَ بِغَيْرِ حَقٍّ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ من غَيْرِ مَالٍ عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا وَإِنْ قُطِعَ بِحَقٍّ بِأَنْ قَطَعَ يَدَ غَيْرِهِ فَقُطِعَ بِهِ أو سَرَقَ مَالَ إنْسَانٍ فَقُطِعَ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ أَيْضًا لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ لَكِنْ يَجِبُ أَرْشُ الْيَدِ فَيَقَعُ الْفَرْقُ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا بين الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ بِحَقٍّ
وَالثَّانِي بين الْقَطْعِ بِغَيْرِ حَقٍ وَبَيْنَ الْقَطْعِ بِحَقٍّ
وَالْفَرْقُ أَنَّهُ إذَا قَطَعَ طَرَفَهُ بِحَقٍّ فَقَدْ قَضَى حَقًّا وَاجِبًا عليه فَجُعِلَ كَالْقَائِمِ وَجُعِلَ صَاحِبُهُ مُمْسِكًا له تَقْدِيرًا كَأَنَّهُ أَمْسَكَهُ حَقِيقَةً وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِعُذْرِ الْخَطَأِ وَنَحْوِ ذلك وَهُنَاكَ يَجِبُ الْأَرْشُ كَذَا هذا
وَهَذَا الْمَعْنَى لم يُوجَدْ فِيمَا إذَا قُطِعَ بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَنَّهُ لم يَقْضِ حَقًّا وَاجِبًا عليه وفي الْقَتْلِ إنْ قَضَى حَقًّا وَاجِبًا عليه لَكِنْ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُجْعَلَ مُمْسِكًا لِلنَّفْسِ بَعْدَ مَوْتِهِ تَقْدِيرًا لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً بِخِلَافِ الطَّرَفِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمِنْهَا الْعَفْوُ وَالْكَلَامُ فيه في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في بَيَانِ رُكْنِهِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ
وَالثَّالِثُ في بَيَانِ حُكْمِهِ
أَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْعَافِي عَفَوْتُ أو أَسْقَطْتُ أو أَبْرَأْتُ أو وَهَبْتُ وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى
وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَفْوُ من صَاحِبِ الْحَقِّ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ وَلَا حَقَّ مُحَالٌ فَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ من الْأَجْنَبِيِّ لِعَدَمِ الْحَقِّ وَلَا من الْأَبِ وَالْجَدِّ في قِصَاصٍ وَجَبَ لِلصَّغِيرِ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلصَّغِيرِ لَا لَهُمَا وَإِنَّمَا لَهُمَا وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ لِلصَّغِيرِ وَلِأَنَّ وِلَايَتَهُمَا مُقَيَّدَةٌ بِالنَّظَرِ لِلصَّغِيرِ وَالْعَفْوُ ضَرَرٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ أَصْلًا وَرَأْسًا فَلَا يَمْلِكَانِهِ وهذا ( ( ( ولهذا ) ) ) لَا يَمْلِكُهُ السُّلْطَانُ فِيمَا له وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ على ما بَيَّنَّا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَافِي عَاقِلًا
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَالِغًا فَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ من الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَإِنْ كان الْحَقُّ ثَابِتًا لَهُمَا لِأَنَّهُ من التَّصَرُّفَاتِ الْمُضِرَّةِ الْمَحْضَةِ فَلَا يَمْلِكَانِهِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِ ذلك
وَأَمَّا حُكْمُ الْعَفْوِ فَالْعَفْوُ في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ من الْوَلِيِّ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ من الْمَجْرُوحِ فَإِنْ كان من الْوَلِيِّ لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ منه بَعْدَ الْمَوْتِ أو قبل الْمَوْتِ بَعْدَ الْجُرْحِ فَإِنْ كان بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ وَاحِدًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ فَإِنْ كان وَاحِدًا بِأَنْ كان الْقَاتِلُ
____________________

(7/246)


وَالْمَقْتُولُ وَاحِدًا فَعَفَا عن الْقَاتِلِ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَهُ لِتَحَقُّقِ مَعْنَى الْحَيَاةِ وَهَذَا الْمَعْنَى يَحْصُلُ بِدُونِ الِاسْتِيفَاءِ بِالْعَفْوِ لِأَنَّهُ إذَا عَفَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ الثَّأْرَ بَعْدَ الْعَفْوِ فَلَا يَقْصِدُ قَتْلَ الْقَاتِلِ فَلَا يَقْصِدُ الْقَاتِلُ قَتْلَهُ فَيَحْصُلُ مَعْنَى الْحَيَاةِ بِدُونِ الِاسْتِيفَاءِ فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ لِحُصُولِ ما شُرِعَ له اسْتِيفَاؤُهُ بِدُونِهِ
وَهَكَذَا قال الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا الناس جميعا } أَيْ من أَحْيَاهَا بِالْعَفْوِ وَقِيلَ في قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { ذلك تَخْفِيفٌ من رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } أَنَّ ذلك الْعَفْوَ وَالصُّلْحَ على ما قِيلَ أَنَّ حُكْمَ التَّوْرَاةِ الْقَتْلُ لَا غَيْرُ وَحُكْمُ الْإِنْجِيلِ الْعَفْوُ بِغَيْرِ بَدَلٍ لَا غَيْرُ فَخَفَّفَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على هذه الْأُمَّةِ فَشَرَعَ الْعَفْوَ بِلَا بَدَلٍ أَصْلًا وَالصُّلْحَ بِبَدَلٍ سَوَاءٌ عَفَا عن الْكُلِّ أو عن الْبَعْضِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَتَجَزَّأُ
وَذِكْرُ الْبَعْضِ فِيمَا لَا يَتَبَعَّضُ ذِكْرُ الْكُلِّ كَالطَّلَاقِ وَتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ وَغَيْرِهِمَا وإذا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِالْعَفْوِ لَا يَنْقَلِبُ مَالًا عِنْدَنَا لِأَنَّ حَقَّ الْوَلِيِّ في الْقِصَاصِ عَيْنًا وهو أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وقد أَسْقَطَهُ لَا إلَى بَدَلٍ وَمَنْ له الْحَقُّ إذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ مُطْلَقًا وهو من أَهْلِ الْإِسْقَاطِ وَالْمَحَلِّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ يَسْقُطُ مُطْلَقًا كَالْإِبْرَاءِ عن الدَّيْنِ وَنَحْوِ ذلك
وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ الْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا فإذا عَفَا عن الْقِصَاصِ انْصَرَفَ إلى الْوَاجِبُ تَصْحِيحًا لَتَصَرُّفِهِ كَمَنْ له على آخَرَ دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ وَلَا يَنْوِي أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ فَأَبْرَأَهُ الْمَدْيُونُ عن أَحَدِهِمَا ليس له أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْآخَرِ لِمَا قُلْنَا
كَذَا هذا
وَلَوْ عَفَا عنه ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ الْعَفْوِ يَجِبُ عليه الْقِصَاصُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال بَعْضُ الناس لَا يَجِبُ
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } جَعَلَ جَزَاءَ الْمُعْتَدِي وهو الْقَاتِلُ بَعْدَ الْعَفْوِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ وهو عَذَابُ الْآخِرَةِ نَسْتَجِيرُ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من هو له فَلَوْ وَجَبَ الْقِصَاصُ في الدُّنْيَا لَصَارَ الْمَذْكُورُ بَعْضَ الْجَزَاءِ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ في الدُّنْيَا يَرْفَعُ عَذَابَ الْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ وَفِيهِ نَسْخُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ
وَلَنَا عُمُومَاتُ الْقِصَاصِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين شَخْصٍ وَشَخْصٍ وَحَالٍ وَحَالٍ إلَّا شَخْصًا أو حَالًا قُيِّدَ بِدَلِيلٍ
وَكَذَا الْحِكْمَةُ التي لها شُرِعَ الْقِصَاصُ وهو الْحَيَاةُ على ما بَيَّنَّا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قِيلَ في بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ أن الْعَذَابَ الْأَلِيمَ هَهُنَا هو الْقِصَاصُ فإن الْقَتْلَ غَايَةُ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ في الْإِيلَامِ فَعَلَى هذا التَّأْوِيلِ كانت الْآيَةُ حُجَّةً عليهم وَتَحْتَمِلُ هذا وَتَحْتَمِلُ ما قالوا فَلَا تَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ
وَإِنْ كان الْقِصَاصُ أَكْثَرَ بِأَنْ قَتَلَ رَجُلَانِ وَاحِدًا فَإِنْ عَفَا عنهما سَقَطَ الْقِصَاصُ أَصْلًا لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ عَفَا عن أَحَدِهِمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عنه وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْآخَرَ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِصَاصًا كَامِلًا وَالْعَفْوُ عن أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ الْعَفْوَ عن الْآخَرِ
وَذُكِرَ في الْمُنْتَقَى عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عنهما لِأَنَّ طَرِيقَ إيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمَا أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاتِلًا على الِانْفِرَادِ كَأَنْ ليس معه غَيْرُهُ إذْ الْقَتْلُ تَفْوِيتُ الْحَيَاةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ تَفْوِيتُ حَيَاةٍ وَاحِدَةٍ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الْكَمَالِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاتِلًا على الِانْفِرَادِ وَيُجْعَلُ قَتْلُ صَاحِبِهِ عَدَمًا في حَقِّهِ فإذا عَفَا عن أَحَدِهِمَا وَالْعَفْوُ عن الْقَاتِلِ جَعَلَ فِعْلَ الْآخَرِ عَدَمًا تَقْدِيرًا فَيُورِثُ شُبْهَةً وَالْقِصَاصُ لَا يستوفي مع الشُّبْهَةِ وَهَذَا ليس بِسَدِيدٍ لِأَنَّ طَرِيقَ إيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمَا ليس ما ذُكِرَ وَلَيْسَ الْقَتْلُ اسْمًا لِتَفْوِيتِ الْحَيَاةِ بَلْ هو اسْمٌ لَفِعْلٍ مُؤَثِّرٌ في فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً
وَهَذَا حَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الْكَمَالِ فَالْعَفْوُ عن أَحَدِهِمَا لَا يُؤَثِّرُ في الْآخَرِ
هذا إذَا كان الْوَلِيُّ وَاحِدًا فَأَمَّا إذَا كان اثْنَيْنِ أو أَكْثَرَ فَعَفَا أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عن الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ سَقَطَ نَصِيبُ الْعَافِي بِالْعَفْوِ فَيَسْقُطُ نَصِيبُ الْآخَرِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ إذْ الْقِصَاصُ قِصَاصٌ وَاحِدٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ عن عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَابْنٍ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهم أنهم أوجبوا في عفو بعض الأولياء الذين لم يعفوا نصيبهم من الدية وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَحَدٌ عليهم فَيَكُونَ إجْمَاعًا
وَقِيلَ إنَّ قَوْلَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ له من أَخِيهِ شَيْءٌ } نَزَلَتْ في دَمٍ بين شُرَكَاءَ يَعْفُو أَحَدُهُمْ عن الْقَاتِلِ فَلِلْآخَرَيْنِ أَنْ يَتَّبِعُوهُ بِالْمَعْرُوفِ في نَصِيبِهِمْ لِأَنَّهُ قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ له من أَخِيهِ شَيْءٌ } وَهَذَا الْعَفْوُ عن بَعْضِ الْحَقِّ وَيَكُونُ نَصِيبُ الْآخَرِ وهو
____________________

(7/247)


نِصْفُ الدِّيَةِ في مَالِ الْقَاتِلِ لِأَنَّ الْقَتْلَ عَمْدٌ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِمَا ذَكَرْنَا وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ وَيُؤْخَذُ منه في ثَلَاثِ سِنِينَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ في سَنَتَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ نِصْفُ الدِّيَةِ فَيُؤْخَذُ في سَنَتَيْنِ
كما لو قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ خَطَأً وَوَجَبَ عليه نِصْفُ الدِّيَةِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ في سَنَتَيْنِ
كَذَا هَهُنَا
وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِمَّا يُؤْخَذُ في ثَلَاثِ سِنِينَ وَحُكْمُ الْجُزْءِ حُكْمَ الْكُلِّ
بِخِلَافِ الْقَطْعِ فإن الْوَاجِبَ هُنَاكَ كُلٌّ لَا جُزْءٌ لِأَنَّ كُلَّ دِيَةِ يَدٍ وَاحِدَةٍ هذا الْقَدْرُ إلَّا أَنَّهُ قَدَّرَ كُلَّ دِيَتِهَا بِنِصْفِ دِيَةِ النَّفْسِ وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ كُلَّ دِيَةِ الطَّرَفِ وَلَوْ عَفَا أَحَدُهُمَا فَقَتَلَهُ الْآخَرُ يُنْظَرُ إنْ قَتَلَهُ ولم يَعْلَمْ بِالْعَفْوِ أو عَلِمَ بِهِ لَكِنَّهُ لم يَعْلَمْ بِالْحُرْمَةِ لَا قِصَاصَ عليه عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ عليه الْقِصَاصُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ عَادَتْ بِالْعَفْوِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ حَرَّمَ قَتْلَهُ فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْقِصَاصِ كما لو قَتَلَهُ قبل وُجُودِ الْقَتْلِ منه فَلَوْ سَقَطَ إنَّمَا سَقَطَ بِالشُّبْهَةِ وَمُطْلَقُ الظَّنِّ لَا يُورِثُ شُبْهَةً كما لو قَتَلَ إنْسَانًا وقال ظَنَنْتُ أَنَّهُ قَاتِلُ أبي
وَلَنَا أنا في عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ في حَقِّ الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ على ظَنِّ أَنَّ قَتْلَهُ مُبَاحٌ له وهو ظَنٌّ مَبْنِيٌّ على نَوْعِ دَلِيلٍ وهو ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِصَاصَ وَجَبَ حَقًّا لِلْمَقْتُولِ وَكُلُّ وَاحِدٍ من الْأَوْلِيَاءِ بِسَبِيلٍ من اسْتِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ لِلْمَقْتُولِ فَالْعَفْوُ من أَحَدِهِمَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤَثِّرَ في حَقِّ الْآخَرِ وَلِأَنَّ سَبَبَ وِلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ وُجِدَ في حَقِّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الْكَمَالِ وهو الْقَرَابَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤَثِّرَ عَفْوُ أَحَدِهِمَا في حَقِّ صَاحِبِهِ
إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ هذا الدَّلِيلُ عن الْعَمَلِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ما بَيَّنَّا فَقِيَامُهُ يُورِثُ شُبْهَةَ عَدَمِ الْعِصْمَةِ وَالشُّبْهَةُ في هذا الْبَابِ تَعْمَلُ عَمَلَ الْحَقِيقَةِ فَتَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصَ وَيَجِبُ عليه نِصْفُ الدِّيَةِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إذَا تَعَذَّرَ إيجَابُهُ لِلشُّبْهَةِ وَجَبَ عليه كَمَالُ الدِّيَةِ كان على الْقَاتِلِ نصف الدِّيَةُ فَصَارَ النِّصْفُ قِصَاصًا بِالنِّصْفِ فَيُوجَبُ عليه النِّصْفُ الْآخَرُ وَيَكُونُ في مَالِهِ لَا على الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْقَتْلِ وهو عَمْدٌ وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ
وَإِنْ عِلْمَ بِالْعَفْوِ وَالْحُرْمَةِ يَجِبُ عليه الْقِصَاصُ
لِأَنَّ الْمَانِعَ من الْوُجُوبِ الشُّبْهَةُ وَإِنَّهَا نَشَأَتْ عن الظَّنِّ ولم يُوجَدْ فَزَالَ الْمَانِعُ وَلَهُ على الْمَقْتُولِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ قد كان انْقَلَبَ نَصِيبُهُ مَالًا بِعَفْوِ صَاحِبِهِ فَبَقِيَ ذلك على الْمَقْتُولِ
هذا إذَا كان الْقِصَاصُ الْوَاحِدُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَعَفَا أَحَدُهُمَا عن نَصِيبِهِ فَأَمَّا إذَا وَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِصَاصٌ كَامِلٌ قِبَلَ القتل ( ( ( القاتل ) ) ) بِأَنْ قَتَلَ وَاحِدٌ رَجُلَيْنِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا عن الْقَاتِلِ لَا يَسْقُطُ قِصَاصُ الْآخَرِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتَحَقَّ عليه قِصَاصًا كَامِلًا وَلَا اسْتِحَالَةَ له في ذلك لِأَنَّ الْقَتْلَ ليس تَفْوِيتَ الْحَيَاةِ لِيُقَالَ إنَّ الْحَيَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا يُتَصَوَّرُ تَفْوِيتُهَا من اثْنَيْنِ بَلْ هو اسْمٌ لَفِعْلٍ مُؤَثِّرٍ في فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً وَهَذَا يُتَصَوَّرُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا في مَحَلٍّ وَاحِدٍ على الْكَمَالِ فَعَفْوُ أَحَدِهِمَا عن حَقِّهِ وهو الْقِصَاصُ لَا يُؤَثِّرُ في حَقِّ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ الْوَاحِدِ الْمُشْتَرَكِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا عَفَا الْوَلِيُّ عن الْقَاتِلِ بَعْدَ مَوْتِ وَلِيِّهِ فَأَمَّا إذَا عَفَا عنه بَعْدَ الْجُرْحِ قبل الْمَوْتِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ عَفْوُهُ وفي الِاسْتِحْسَانِ يَصِحُّ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْعَفْوَ عن الْقَتْلِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْقَتْلِ وَالْفِعْلُ لَا يَصِيرُ قَتْلًا إلَّا بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ عن الْمَحَلِّ ولم يُوجَدْ
فَالْعَفْوُ لم يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فلم يَصِحَّ
وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْجُرْحَ مَتَى اتَّصَلَتْ بِهِ السِّرَايَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا من حِينِ وُجُودِهِ فَكَانَ عَفْوًا عن حَقٍّ ثَابِتٍ فَيَصِحُّ وَلِهَذَا لو كان الْجُرْحُ خَطَأً فَكَفَّرَ بَعْدَ الْجُرْحِ قبل الْمَوْتِ ثُمَّ مَاتَ جَازَ التَّكْفِيرُ
وَالثَّانِي أَنَّ الْقَتْلَ إنْ لم يُوجَدْ لِلْحَالِ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُودِهِ وهو الْجُرْحُ الْمُفْضِي إلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ وَالسَّبَبُ الْمُفْضِي إلَى الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَ ذلك الشَّيْءِ في أُصُولِ الشَّرْعِ كَالنَّوْمِ مع الْحَدَثِ وَالنِّكَاحِ مع الْوَطْءِ وَغَيْرِ ذلك وَلِأَنَّهُ إذَا وجب سَبَبُ وُجُودِ الْقَتْلِ كان الْعَفْوُ تَعْجِيلَ الْحُكْمِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ وَإِنَّهُ جَائِزٌ كَالتَّكْفِيرِ بَعْدَ الْجُرْحِ قبل الْمَوْتِ في قَتْلِ الخطأ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ الْعَفْوُ من الْمَوْلَى وَاحِدًا كان أو أَكْثَرَ وَالْعَفْوُ من الْوَارِثِ سَوَاءٌ في جَمِيعِ ما وَصَفْنَا إلَّا أَنَّ في الْقِصَاصِ بين الْمَوْلَيَيْنِ إذَا عَفَا أَحَدُهُمَا فَلِلْآخَرِ حِصَّتُهُ من قِيمَةِ الْعَبْدِ وَهَهُنَا من الدِّيَةِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ في دَمِ الْعَمْدِ كَالدِّيَةِ في دَمِ الْحُرِّ
فَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ ذلك ( ( ( ذاك ) ) ) فَلَا يَخْتَلِفَانِ
هذا كُلُّهُ إذَا كان الْعَفْوُ من الْمَوْلَى أو من الْوَلِيِّ فَأَمَّا إذَا كان من الْمَجْرُوحِ بِأَنْ كان الْمَجْرُوحُ عَفَا لَا يَصِحُّ عَفْوُهُ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ حَقًّا لِلْمَوْلَى لَا له وَإِنْ كان حُرًّا فَإِنْ عَفَا عن الْقَتْلِ ثُمَّ مَاتَ
____________________

(7/248)


صَحَّ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحُّ
وَجْهُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا وَإِنْ عَفَا عن الْقَطْعِ أو الْجِرَاحَةِ أو الشَّجَّةِ أو الْجِنَايَةِ ثُمَّ مَاتَ أَوَّلًا فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْجُرْحَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَمْدًا أو خَطَأً فَإِنْ كان عَمْدًا فَالْمَجْرُوحُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَقُول عَفَوْتُ عن الْقَطْعِ أو الْجِرَاحَةِ أو الشَّجَّةِ أو الضَّرْبَةِ وَهَذَا كُلَّهُ قِسْمٌ وَاحِدٌ وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ عَفَوْتُ عن الْجِنَايَةِ
وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ ذَكَر معه ما يَحْدُثُ منها وَإِمَّا أن لم يذكر وَحَالُ الْمَجْرُوحِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ برىء وَصَحَّ وَإِمَّا أن مَاتَ من ذلك فَإِنْ برىء من ذلك صَحَّ الْعَفْوُ في الْفُصُولِ كُلِّهَا لِأَنَّ الْعَفْوَ وَقَعَ عن ثَابِتٍ وهو الْجِرَاحَةُ أو مُوجِبُهَا وهو الْأَرْشُ فَيَصِحُّ وَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ فَإِنْ كان الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أو بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وما يَحْدُثُ منها صَحَّ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا شَيْءَ على الْقَاتِلِ لِأَنَّ لَفْظَ الْجِنَايَةِ يَتَنَاوَلُ الْقَتْلَ وَكَذَا لَفْظُ الْجِرَاحَةِ وما يَحْدُثُ منها فَكَانَ ذلك عَفْوًا عن الْقَتْلِ فَيَصِحُّ
وَإِنْ كان بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ ولم يذكر ما يَحْدُث منها لم يَصِحَّ الْعَفْوُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ وفي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ الدِّيَةُ في مَالِ الْقَاتِلِ وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ الْعَفْوُ وَلَا شَيْءَ على الْقَاتِلِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ السِّرَايَةَ أَثَرُ الْجِرَاحَةِ وَالْعَفْوُ عن الشَّيْءِ يَكُونُ عَفْوًا عن أَثَرِهِ كما إذَا قال عَفَوْتُ عن الْجِرَاحَةِ وما يَحْدُثُ منها
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَفَا عن غَيْرِ حَقِّهِ فإن حَقَّهُ في مُوجَبِ الْجِنَايَةِ لَا في عَيْنِهَا لِأَنَّ عَيْنَهَا عَرَضٌ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ الْعَفْوُ عنها وَلِأَنَّ عَيْنَهَا جِنَايَةٌ وُجِدَتْ من الْخَارِجِ وَالْجِنَايَةُ لَا تَكُونُ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عليه فَكَانَ هذا عَفْوًا عن مُوجَبِ الْجِرَاحَةِ وَبِالسِّرَايَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا مُوجَبَ بِهَذِهِ الْجِرَاحَةِ لِأَنَّ عِنْدَ السِّرَايَةِ يَجِبُ مُوجَبُ الْقَتْلِ بِالْإِجْمَاعِ وهو الْقِصَاصُ إنْ كان عَمْدًا وَالدِّيَةُ إنْ كان خَطَأً
وَلَا يَجِبُ الْأَرْشُ وَقَطْعُ الْيَدِ مع مُوجَبِ الْقَتْلِ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ
وَالثَّانِي إنْ كان الْعَفْوُ عن الْقَطْعِ وَالْجُرْحِ صَحِيحًا لَكِنَّ الْقَطْعَ غَيْرُ وَالْقَتْلَ غَيْرُ فَالْقَطْعُ إبَانَةُ الطَّرَفِ وَالْقَتْلُ فِعْلٌ مُؤَثِّرٌ في فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً وَمُوجَبُ أَحَدِهِمَا الْقَطْعُ وَالْأَرْشُ وَمُوجَبُ الْآخَرِ الْقَتْلُ وَالدِّيَةُ وَالْعَفْوُ عن أَحَدِ الْغَيْرَيْنِ لَا يَكُونُ عَفْوًا عن الْآخَرِ في الْأَصْلِ
فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصَ لِوُجُودِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ وَعَدَمِ ما يُسْقِطُهُ
إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ وَتَكُونُ في مَالِهِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ
هذا إذَا كان الْقَتْلُ عَمْدًا فَأَمَّا إذَا كان خَطَأً فَإِنْ برىء من ذلك صَحَّ الْعَفْوُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا شَيْءَ على الْقَاطِعِ
سَوَاءٌ كان بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أو الْجِرَاحَةِ وَذَكَرَ وما يَحْدُثُ منها أو لم يذكر لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ فَإِنْ كان بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أو الْجِرَاحَةِ وما يَحْدُثُ منها صَحَّ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا
ثُمَّ إنْ كان الْعَفْوُ في حَالِ صِحَّةِ الْمَجْرُوحِ بِأَنْ كان يَذْهَبُ وَيَجِيءُ ولم يَصِرْ صَاحِبَ فِرَاشٍ يُعْتَبَرُ من جَمِيعِ مَالِهِ
وَإِنْ كان في حَالِ الْمَرَضِ بِأَنْ صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ يُعْتَبَرُ عَفْوُهُ من ثُلُثِ مَالِهِ لِأَنَّ الْعَفْوَ تَبَرُّعٌ منه وَتَبَرُّعُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ يُعْتَبَرُ من ثُلُثِ مَالِهِ
فَإِنْ كان قَدْرُ الدِّيَةِ يَخْرُجُ من الثُّلُثِ سَقَطَ ذلك الْقَدْرُ عن الْعَاقِلَةِ وَإِنْ كان لَا يَخْرُجُ كُلُّهُ من الثُّلُثِ فَثُلُثُهُ يَسْقُطُ عن الْعَاقِلَةِ وَثُلُثَاهُ يُؤْخَذُ منهم
وَإِنْ كان بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ ولم يذكر وما يَحْدُثُ منها لم يَصِحَّ الْعَفْوُ وَالدِّيَةُ على الْعَاقِلَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ الْعَفْوُ
وَهَذَا وَقَوْلُهُ عَفَوْتُ عن الْجِرَاحَةِ وَعَنْ الْجِنَايَةِ وما يَحْدُثُ منها سَوَاءٌ وقد بَيَّنَّا حُكْمَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ كان مَكَانَ الْعَفْوِ صُلْحٌ بِأَنْ صَالَحَ من الْقَطْعِ أو الْجِرَاحَةِ على مَالٍ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا أَنَّهُ إنْ برىء الْمَجْرُوحُ فَالصُّلْحُ صَحِيحٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كان
وَسَوَاءٌ كان الْقَطْعُ عَمْدًا أو خَطَأً لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عن حَقٍّ ثَابِتٍ فَيَصِحُّ
وَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ فَإِنْ كان الصُّلْحُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أو بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وما يَحْدُثُ منها فَالصُّلْحُ صَحِيحٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ صُلْحٌ عن حَقٍّ ثَابِتٍ وهو الْقِصَاصُ وَإِنْ كان بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ ولم يذكر وما يَحْدُثُ منها فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ وَيُؤْخَذُ جَمِيعُ الدِّيَةِ من مَالِهِ في الْعَمْدِ وَإِنْ كان خَطَأً يُرَدُّ بَدَلُ الصُّلْحِ وَيَجِبُ جَمِيعُ الدِّيَةِ على الْعَاقِلَةِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ كان مَكَانَ الصُّلْحِ نِكَاحٌ بِأَنْ قَطَعَتْ امْرَأَةٌ يَدَ رَجُلٍ أو جَرَحَتْهُ فَتَزَوَّجَهَا على ذلك فَهُوَ على ما ذَكَرْنَا من التَّفَاصِيلِ أَنَّهُ إنْ برىء من ذلك جَازَ النِّكَاحُ وَصَارَ أَرْشُ ذلك مَهْرًا لها لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ مُوجَبُ ذلك الْأَرْشُ سَوَاءٌ كان الْقَطْعُ عَمْدًا أو خَطَأً لِأَنَّ الْقِصَاصَ بين الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ لَا يَجْرِي فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَكَانَ الْوَاجِبُ هو الْمَالَ فإذا تَزَوَّجَهَا عليه فَقَدْ سَمَّى الْمَالَ فَكَانَ مَهْرًا لها وَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ فَإِنْ كان النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أو بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وما يَحْدُثُ منها
____________________

(7/249)


وكان الْقَطْعُ خَطَأً جَازَ النِّكَاحُ وَصَارَ دَمُ الزَّوْجِ مَهْرًا لها لِأَنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَتْ بِهِ السِّرَايَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا مُوجِبًا لِلدِّيَةِ على الْعَاقِلَةِ فَكَانَ التَّزَوُّجُ على مُوجَبِ الْجِنَايَةِ وهو الدِّيَةُ وَسَقَطَتْ عن الْعَاقِلَةِ لِصَيْرُورَتِهَا مَهْرًا لها
وَهَذَا إذَا كان وَقْتَ النِّكَاحِ صَحِيحًا فَإِنْ كان مَرِيضًا فَبِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ يَسْقُطُ عن الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ ليس بِمُتَبَرِّعٍ في هذا الْقَدْرِ
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ على ذلك فَيُنْظَرُ إنْ كانت تَخْرُجُ من ثُلُثِ مَالِهِ يَسْقُطُ أَيْضًا وَإِنْ كانت لَا تَخْرُجُ من ثُلُثِ مَالِهِ فَبِقَدْرِ الثُّلُثِ يَسْقُطُ أَيْضًا وَالزِّيَادَةُ تَكُونُ لِلزَّوْجِ تَرْجِعُ إلَى وَرَثَتِهِ وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ خُرُوجُ الزِّيَادَةِ من ثُلُثِ مَالِهِ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالزِّيَادَةِ وهو مَرِيضٌ مَرَضَ الْمَوْتِ
هذا في الْخَطَأِ وَأَمَّا في الْعَمْدِ جَازَ النِّكَاحُ وَصَارَ عَفْوًا
أما جَوَازُ النِّكَاحِ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّ جَوَازَهُ لَا يَقِفُ على تَسْمِيَةِ ما هو مَالٌ وَأَمَّا صَيْرُورَةُ النِّكَاحِ على الْقِصَاصِ عَفْوًا له لِأَنَّهُ لَمَّا تَزَوَّجَهَا على الْقِصَاصِ فَقَدْ أَزَالَ حَقَّهُ عنه وَأَسْقَطَهُ وَهَذَا مَعْنَى الْعَفْوِ وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ من تَرِكَةِ الزَّوْجِ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْمَهْرِ وَالْقِصَاصُ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ فَيَجِبُ لها الْعِوَضُ الْأَصْلِيُّ وهو مَهْرُ الْمِثْلِ فَإِنْ كان بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ ولم يذكر وما يَحْدُثُ منها فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَهُمَا في الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَطَلَ الْعَفْوُ إذَا كان عَمْدًا وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ من مَالِ الزَّوْجِ وَتَجِبُ الدِّيَةُ من مَالِهَا فَيَتَنَاقَصَانِ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَتَضْمَنُ الْمَرْأَةُ الزِّيَادَةَ وَإِنْ كانت خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ على عَاقِلَتِهَا وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ من مَالِ الزَّوْجِ وَلَا تَرِثُ الْمَرْأَةُ من مَالِ الزَّوْجِ شيئا لِأَنَّهَا قَاتِلَةٌ وَلَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ كان مَكَانَ النِّكَاحِ خُلْعٌ بِأَنْ قَطَعَ يَدَ امرأة ( ( ( امرأته ) ) ) أو جَرَحَهَا جِرَاحَةً فَخَلَعَهَا على ذلك فَهُوَ على ما ذَكَرْنَا أنها إنْ بَرِئَتْ جَازَ الْخُلْعُ وكان بَائِنًا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ خَلَعَهَا على أَرْشِ الْيَدِ فَصَحَّ الْخُلْعُ وَصَارَ أَرْشُ الْيَدِ بَدَلَ الْخُلْعِ وَالْخُلْعُ على مَالٍ طَلَاقٌ بَائِنٌ وَيَسْتَوِي فيه الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ لِمَا مَرَّ
وَإِنْ سَرَى إلَى نفس ( ( ( النفس ) ) ) وكان خَطَأً فَإِنْ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أو بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وما يَحْدُثُ منها جَازَ الْخُلْعُ وَيَكُونُ بَائِنًا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ قَتْلًا فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ مُوجِبًا لِلدِّيَةِ فَكَانَ الْخُلْعُ وَاقِعًا على مَالِهِ وهو الدِّيَةُ فَيَصِحُّ وَيَكُونُ بَائِنًا
ثُمَّ إنْ كانت الْمَرْأَةُ صَحِيحَةً وَقْتَ الْخُلْعِ جَازَ ذلك من جَمِيعِ الْمَالِ وَإِنْ كانت مَرِيضَةً صَارَتْ الدِّيَةُ بَدَلَ الْخُلْعِ وَيُعْتَبَرُ خُرُوجُ جَمِيعِ الدِّيَةِ من الثُّلُثِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ هُنَاكَ خُرُوجُ الزِّيَادَةِ على قَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ من الثُّلُثِ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَ حَالُ دُخُولِ الْبُضْعِ في مِلْكِ الزَّوْجِ
وَهَذِهِ حَالَةُ الْخُرُوجِ وَالْبُضْعُ يُعَدُّ مَالًا حَالَ الدُّخُولِ في مِلْكِ الزَّوْجِ وَلَا يُعَدُّ مَالًا حَالَ الْخُرُوجِ عن مِلْكِهِ وَإِنْ كان يَخْرُجُ من الثُّلُثِ سَقَطَ عن الْعَاقِلَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ لها مَالٌ يَسْقُطُ وَالثُّلُثَانِ على الْعَاقِلَةِ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ
هذا في الْخَطَأِ فَأَمَّا في الْعَمْدِ جَازَ الْعَفْوُ وَلَا يَكُونُ مَالًا
وَخُلْعُهَا بِغَيْرِ مَالٍ يَكُونُ رَجْعِيًّا وَإِنْ كان الْخُلْعُ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ ولم يذكر وما يَحْدُثُ منها فَعِنْدَهُمَا الْجَوَابُ كذلك وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لم يَصِحَّ الْعَفْوُ وَتَجِبُ جَمِيعُ الدِّيَةَ في مَالِهِ في الْعَمْدِ وفي الْخَطَأِ على الْعَاقِلَةِ وَيَكُونُ الْخُلْعُ بِغَيْرِ مَالٍ فَيَكُونُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الصُّلْحُ على مَالٍ لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ لِلْمَوْلَى وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ في حَقِّهِ اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا إذَا كان من أَهْلِ الْإِسْقَاطِ وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ فَيَمْلِكُ الصُّلْحَ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ من اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وهو الْحَيَاةُ يَحْصُلُ بِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ عِنْدَ أَخْذِ الْمَالِ عن صُلْحٍ وَتَرَاضٍ تَسْكُنُ الْفِتْنَةُ فَلَا يَقْصِدُ الْوَلِيُّ قَتْلَ الْقَاتِلِ فَلَا يَقْصِدُ الْقَاتِلَ قَتْلَهُ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ من اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِدُونِهِ
وَقِيلَ إنَّ قَوْلَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَمِنْ عُفِيَ له من أَخِيهِ شَيْءٌ } الْآيَةُ نزل ( ( ( نزلت ) ) ) في الصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ فَيَدُلُّ على جَوَازِ الصُّلْحِ وَسَوَاءٌ كان بَدَلُ الصُّلْحِ قَلِيلًا أو كَثِيرًا من جِنْسِ الدِّيَةِ أو من خِلَافِ جِنْسِهَا حَالًّا أو مُؤَجَّلًا بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ أو مَجْهُولٍ جَهَالَةً مُتَفَاوِتَةً كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَنَحْوِ ذلك بِخِلَافِ الصُّلْحِ من الدِّيَةِ على أَكْثَرَ مِمَّا تَجِبُ فيه الدِّيَةُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَانِعَ من الْجَوَازِ هُنَاكَ تَمَكُّنُ الرِّبَا ولم يُوجَدْ هَهُنَا لِأَنَّ الرِّبَا يَخْتَصُّ بِمُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالْقِصَاصُ ليس بِمَالٍ وقد ذَكَرْنَا شَرَائِطَ جَوَازِ الصُّلْحِ وَمَنْ يَمْلِكُ الصُّلْحَ وَمَنْ لَا يَمْلِكُهُ في كِتَابِ الصُّلْحِ
وَلَوْ صَالَحَ الْوَلِيُّ الْقَاتِلَ على مَالٍ ثُمَّ قَتَلَهُ يُقْتَصُّ منه عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال بَعْضُ الناس لَا قِصَاصَ عليه وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ في الْعَفْوِ
وَلَوْ كان الْوَلِيُّ اثْنَيْنِ وَالْقِصَاصُ وَاحِدٌ فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عن الْقَاتِلِ وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا لِمَا ذَكَرْنَا في الْعَفْوِ
وَلَوْ قَتَلَهُ الْآخَرُ بَعْد عَفْوِ صَاحِبِهِ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ
____________________

(7/250)


وَالْوِفَاقِ الذي ذَكَرْنَاهُ في الْعَفْوِ
وَلَوْ كان الْقِصَاصُ أَكْثَرَ فَصَالَحَ وَلَيُّ أَحَدِ الْقَتِيلَيْنِ فَلِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ وَكَذَا لو صَالَحَ الْوَلِيُّ مع أَحَدِ الْقَاتِلَيْنِ كان له أَنْ يَقْتَصَّ لِلْآخَرِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْعَفْوِ
وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمَوْلَى في الصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ في جَمِيعِ ما وَصَفْنَا
وَمِنْهَا إرْثُ الْقِصَاصِ بِأَنْ وَجَبَ الْقِصَاصُ لِإِنْسَانٍ فَمَاتَ من له الْقِصَاصُ فَوَرِثَ الْقَاتِلُ الْقِصَاصَ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِاسْتِحَالَةِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ له وَعَلَيْهِ فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً
وَلَوْ قَتَلَ رَجُلَانِ رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابن الْآخَرِ عَمْدًا وَكُلٌّ مِنْهُمَا وَارِثُ الْآخَرِ
قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُوَكِّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلًا يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ فَيَقْتُلُهُمَا الْوَكِيلَانِ مَعًا وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقَالُ لِلْقَاضِي ابتد ( ( ( ابتدئ ) ) ) بِأَيِّهِمَا شِئْتَ وَسَلِّمْهُ إلَى الْآخَرِ حتى يَقْتُلَهُ وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ عن الْآخَرِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقِصَاصَ وَجَبَ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِوُجُودِ السَّبَبِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وهو الْقَتْلُ الْعَمْدُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَمَكَّنُ اسْتِيفَاؤُهُمَا لِأَنَّهُ إذَا استوفى أَحَدُهُمَا يَسْقُطُ الْآخَرُ لِصَيْرُورَةِ الْقِصَاصِ مِيرَاثًا لِلْقَاتِلِ الْآخَرِ فَكَانَ الْخِيَارُ فيه إلَى الْقَاضِي يبتدىء بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَيُسَلِّمُهُ إلَى الْآخَرِ حتى يَقْتُلَهُ وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ عن الْآخَرِ
وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ مِنْهُمَا مُمْكِنٌ بِالْوَكَالَةِ بِأَنْ يَقْتُلَ كُلُّ وَاحِدٍ من الْوَكِيلَيْنِ كُلَّ وَاحِدٍ من الْقَاتِلَيْنِ في زَمَانٍ وَاحِدٍ فَلَا يَتَوَارَثَانِ كما في الْغَرْقَى وَالْحَرْقَى
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ وُجُوبَ الِاسْتِيفَاءِ لَا يُعْقَلُ له مَعْنًى سِوَاهُ وَلَا سَبِيلَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصَ لِأَنَّهُ إذَا استوفى أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْآخَرُ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالِاسْتِيفَاءِ أَوْلَى من الْآخَرِ فعذر ( ( ( فتعذر ) ) ) الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ أَصْلًا وَلِأَنَّ في اسْتِيفَاءِ أَحَدِ الْقَصَاصَيْنِ إبقاء ( ( ( بقاء ) ) ) حَقِّ أَحَدِهِمَا وَإِسْقَاطُ حَقِّ الْآخَرِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَالْقَوْلُ بِاسْتِيفَائِهِمَا بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْفِعْلَيْنِ قل ما يَتَّفِقَانِ في زَمَانٍ وَاحِدٍ بَلْ يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ عَادَةً
وَكَذَا أَثَرُهُمَا الثَّابِتُ عَادَةً وهو فَوَاتُ الْحَيَاةِ وفي ذلك إسْقَاطُ الْقِصَاصِ عن الْآخَرِ
وَقَالُوا في رَجُلٍ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ ابْنَ الْقَاطِعِ عَمْدًا ثُمَّ مَاتَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ من الْقَطْعِ أن على الْقَاطِعِ الْقِصَاصَ وهو الْقَتْلُ لِوَلِيِّ الْمَقْطُوعِ يَدُهُ لِأَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ سَابِقٍ على وُجُودِ الْقَتْلِ منه وهو الْقَطْعُ السَّابِقُ لِأَنَّ ذلك الْقَطْعَ صَارَ بِالسِّرَايَةِ قَتْلًا فَوَجَبَ الْقِصَاصُ على الْقَاطِعِ وَلَا يَسْقُطُ بِقَتْلِ الْمَقْطُوعِ يَدُهُ ابْنَ الْقَاطِعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ لِحُصُولِ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً بِغَيْرِ حَقٍّ وَلِهَذَا يَثْبُتُ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ فَبِالْعَمْدِ أَوْلَى
وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلَا تَجِبُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَجِبُ وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْكَفَّارَةَ لِرَفْعِ الذَّنْبِ وَمَحْوِ الْإِثْمِ وَلِهَذَا وَجَبَتْ في الْقَتْلِ الْخَطَأِ وَالذَّنْبُ في الْقَتْلِ الْعَمْدِ أَعْظَمُ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى الدَّفْعِ أَشَدُّ
وَلَنَا إن التَّحْرِيرَ أو الصَّوْمَ في الْخَطَأِ إنَّمَا وَجَبَ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ حَيْثُ سَلِمَ له أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ في الدُّنْيَا وهو الْحَيَاةُ مع جَوَازِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْقِصَاصِ
وَكَذَا ارْتَفَعَ عنه الْمُؤَاخَذَةِ في الْآخِرَةِ مع جَوَازِ الْمُؤَاخَذَةِ وَهَذَا لم يُوجَدْ في الْعَمْدِ فَيُقَدَّرُ الْإِيجَابُ شُكْرًا أُوجِبَ لِحَقِّ التَّوْبَةِ عن الْقَتْلِ بِطَرِيقِ الْخَطَأِ وَأُلْحِقَ بِالتَّوْبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِخِفَّةِ الذَّنْبِ بِسَبَبِ الْخَطَأِ وَالذَّنْبُ هَهُنَا أَعْظَمُ فَلَا يَصْلُحُ لِتَحْرِيرِ تَوْبَةٍ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ منها وُجُوبُ الدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ على الْعَاقِلَةِ
أَمَّا وُجُوبُ الدِّيَةِ فَلِأَنَّ الْقِصَاصَ امْتَنَعَ وُجُوبُهُ مع وُجُودِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ
وَأَمَّا صِفَةُ التَّغْلِيظِ فَلِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ التَّغْلِيظِ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاخْتِلَافُهُمْ في الْكَيْفِيَّةِ دَلِيلُ ثُبُوتِ الْأَصْلِ
وَأَمَّا الْوُجُوبُ على الْعَاقِلَةِ فَلِأَنَّ الْعَاقِلَةَ إنَّمَا تَعْقِلُ الْخَطَأَ تَخْفِيفًا على الْقَاتِلِ نَظَرًا له لِوُقُوعِهِ فيه لَا عن قَصْدٍ وفي هذا الْقَتْلِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْقَصْدِ لِحُصُولِهِ بِآلَةٍ لَا يُقْصَدُ بها الْقَتْلُ عَادَةً فَكَانَ مُسْتَحِقًّا لِهَذَا النَّوْعِ من التَّخْفِيفِ
وَمِنْهَا حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ
وَمِنْهَا عَدَمُ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ قُتِلَ مُبَاشَرَةً بِغَيْرِ حَقٍّ
وَهَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةَ في هذا الْقَتْلِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أنها تَجِبُ وَأَلْحَقَهُ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ الْمَحْضِ في وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا تَجِبُ وَأَلْحَقَهُ بِالْعَمْدِ الْمَحْضِ في عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ في الْخَطَأِ لما ( ( ( إما ) ) ) لِحَقِّ الشُّكْرِ أو لِحَقِّ التَّوْبَةِ على ما بَيَّنَّا
الداعي ( ( ( والداعي ) ) ) إلَى الشُّكْرِ وَالتَّوْبَةِ هَهُنَا مَوْجُودٌ وهو سَلَامَةُ الْبَدَنِ وَكَوْنُ الْفِعْلِ جِنَايَةً فيها نَوْعُ خِفَّةٍ لِشُبْهَةِ عَدَمِ الْقَصْدِ فَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ
____________________

(7/251)


التَّحْرِيرُ فيه تَوْبَةً
وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ هذه جِنَايَةٌ متغلظة ( ( ( مغلظة ) ) )
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فيها ثَابِتَةٌ بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَلَا يَصْلُحُ التَّحْرِيرُ تَوْبَةً بها كما في الْعَمْدِ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْقَتْلُ الْخَطَأُ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ فَنُفَصِّلُ الْكَلَامَ فيه فَنَقُولُ الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ إمَّا أَنْ يَكُونَا جميعا حُرَّيْنِ وَإِمَّا أَنْ كان الْقَاتِلُ حُرًّا وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا وَإِمَّا أَنْ كان الْقَاتِلُ عَبْدًا وَالْمَقْتُولُ حُرًّا وَإِمَّا أَنْ كَانَا جميعا عَبْدَيْنِ فَإِنْ كَانَا حُرَّيْنِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ منها وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ وُجُودِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَهِيَ نَوْعَانِ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاتِلِ وَبَعْضُهَا إلَى الْمَقْتُولِ أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْقَاتِلِ فَالْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ على الْكَافِرِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ لِأَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ وَالْكَفَّارَةُ عِبَادَةٌ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يخاطبا ( ( ( يخاطبان ) ) ) بِالشَّرَائِعِ أَصْلًا
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْتُولِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَعْصُومًا فَلَا تَجِبُ بِقَتْلِ الْحَرْبِيِّ وَالْبَاغِي لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ وَأَمَّا كَوْنُهُ مُسْلِمًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَجِبُ سَوَاءٌ كان مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا أو مُسْتَأْمَنًا وَسَوَاءٌ كان مُسْلِمًا أَسْلَمَ في دَارِ الْإِسْلَامِ أو في دَارِ الْحَرْبِ ولم يُهَاجِرْ إلَيْنَا لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } إلَى قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ كان من قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وهو مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كان من قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ قد سَلِمَ له الْحَيَاةُ في الدُّنْيَا وَهِيَ من أَعْظَمِ النِّعَمِ وَرُفِعَتْ عنه الْمُؤَاخَذَةُ في الْآخِرَةِ مع جَوَازِ الْمُؤَاخَذَةِ في الْحِكْمَةِ لِمَا في وُسْعِ الخاطىء في الْجُمْلَةِ حِفْظُ نَفْسِهِ عن الْوُقُوعِ في الْخَطَأِ وَهَذَا أَيْضًا نِعْمَةٌ فَكَانَ وُجُوبُ الشُّكْرِ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ مُوَافِقًا لِلْعَقْلِ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مِقْدَارَهُ وَجِنْسَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِيَقْدِرَ الْعَبْدُ على أَدَاءِ ما وَجَبَ عليه من أَصْلِ الشُّكْرِ بتعضية ( ( ( بتعظيمه ) ) ) الْعَقْلَ وَلِأَنَّ فِعْلَ الْخَطَأِ جِنَايَةٌ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْمُؤَاخَذَةُ عليه بِطَرِيقِ الْعَدْلِ لِأَنَّهُ مَقْدُورُ الِامْتِنَاعِ بِالتَّكَلُّفِ وَالْجَهْدِ وإذا كان جِنَايَةً فَلَا بُدَّ لها من التَّكْفِيرِ وَالتَّوْبَةِ فَجُعِلَ التَّحْرِيرُ من الْعَبْدِ بِحَقِّ التَّوْبَةِ عن الْقَتْلِ الْخَطَأِ بِمَنْزِلَةِ التَّوْبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ في غَيْرِهِ من الْجِنَايَاتِ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ التَّحْرِيرُ أو الصَّوْمُ تَوْبَةً له دُونَ التَّوْبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِخِفَّةِ الْجِنَايَةِ بِسَبَبِ الْخَطَأِ إذْ الْخَطَأُ مَعْفُوٌّ في الْجُمْلَةِ وَجَائِزٌ الْعَفْوُ عن هذا النَّوْعِ فَخَفَّتْ تَوْبَتُهُ لِخِفَّةٍ في الْجِنَايَةِ فَكَانَ التَّحْرِيرُ في هذه الْجِنَايَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّوْبَةِ في سَائِرِ الْجِنَايَاتِ
وَمِنْهَا حرمات ( ( ( حرمان ) ) ) الْمِيرَاثِ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْقَتْلُ مُبَاشَرَةً بِغَيْرِ حَقٍّ
أَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فَلَا شَكَّ فيها وَأَمَّا الْخَطَرُ وَالْحُرْمَةُ فَلِأَنَّ فِعْلَ الْخَطَأِ جِنَايَةٌ جَائِزٌ الْمُؤَاخَذَةُ عليها عَقْلًا لِمَا بَيَّنَّا
وَالدَّلِيلُ عليه قَوْلُهُ عز اسْمَهُ { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أو أَخْطَأْنَا } وَلَوْ لم يَكُنْ جَائِزَ الْمُؤَاخَذَةِ لَكَانَ مَعْنَى الدُّعَاءِ اللَّهُمَّ لَا تُجِرْ عَلَيْنَا وَهَذَا مُحَالٌ وَإِنَّمَا رُفِعَ حُكْمُهَا شَرْعًا بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وما اُسْتُكْرِهُوا عليه مع بَقَاءِ وَصْفِ الْفِعْلِ على حَالِهِ وهو كَوْنُهُ جِنَايَةً
وَمِنْهَا وُجُوبُ الدِّيَةِ وَالْكَلَامُ في الدِّيَةِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الدِّيَةِ وفي بَيَانِ ما تَجِبُ منه الدِّيَةُ من الْأَجْنَاسِ
وفي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ من كل جِنْسٍ
وفي بَيَانِ صِفَتِهِ
وفي بَيَانِ من تَجِبُ عليه الدِّيَةُ
وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ
أَمَّا الشَّرَائِطُ فَبَعْضُهَا شَرْطُ أَصْلِ الْوُجُوبِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ كَمَالِ الْوَاجِبِ
أَمَّا شَرْطُ أَصْلِ الْوُجُوبِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا الْعِصْمَةُ وهو أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَعْصُومًا فَلَا دِيَةَ في قَتْلِ الْحَرْبِيِّ وَالْبَاغِي لِفَقْدِ الْعِصْمَةِ فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ من شَرَائِطِ وُجُوبِ الدِّيَةِ لَا من جَانِبِ الْقَاتِلِ وَلَا من جَانِبِ الْمَقْتُولِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ سَوَاءٌ كان الْقَاتِلُ أو الْمَقْتُولُ مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا أو حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا
وَكَذَلِكَ الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ حتى تَجِبَ الدِّيَةُ في مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ
وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا أو حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا تَجِبُ الدِّيَةُ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَإِنْ كان من قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَالثَّانِي التَّقَوُّمُ وهو أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مُتَقَوِّمًا وَعَلَى هذا يُبْنَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا أَسْلَمَ في دَارِ الْحَرْبِ فلم يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ أو ذِمِّيٌّ خَطَأً أَنَّهُ لَا تَجِبُ الدِّيَةَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ بِنَاءً على أَنَّ التَّقَوُّمَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ بِالْإِسْلَامِ وقد ذَكَرْنَا تَقْرِيرَ هذا الْأَصْلِ في كِتَابِ السِّيَرِ ثُمَّ نَتَكَلَّمُ في الْمَسْأَلَةِ ابْتِدَاءً
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَهَذَا مُؤْمِنٌ قُتِلَ خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ
وَلَنَا قَوْلُهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ وَكِبْرِيَاؤُهُ { فَإِنْ كان من قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وهو مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ }
____________________

(7/252)


وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَعَلَ التَّحْرِيرَ جَزَاءَ الْقَتْلِ وَالْجَزَاءُ يَقْتَضِي الْكِفَايَةَ فَلَوْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ معه لَا تَقَعُ الْكِفَايَةُ بِالتَّحْرِيرِ
وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ
وَالثَّانِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ التَّحْرِيرَ كُلَّ الْوَاجِبِ بِقَتْلِهِ لِأَنَّهُ كُلُّ الْمَذْكُورِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا معه الدِّيَةَ لَصَارَ بَعْضَ الْوَاجِبِ وَهَذَا تَغْيِيرُ حُكْمِ النَّصِّ
وَأَمَّا صَدْرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُ هذا الْمُؤْمِنَ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ الْمُؤْمِنَ مُطْلَقًا فَيَتَنَاوَلُ الْمُؤْمِنَ من كل وَجْهٍ وهو الْمُسْتَأْمَنُ دِينًا وَدَارًا وَهَذَا مُسْتَأْمَنٌ دِينًا لَا دَارًا لِأَنَّهُ مُكَثِّرٌ سَوَادَ الْكَفَرَةِ وَمَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ منهم على لِسَانِ رسول اللَّهِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ أَفْرَدَ هذا الْمُؤْمِنَ بِالذَّكَرِ وَالْحُكْمِ وَلَوْ تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ لَعَرَّفَ حُكْمَهُ بِهِ فَكَانَ الثَّانِي تَكْرَارًا
وَلَوْ حُمِلَ على الْمُؤْمِنِ الْمُطْلَقِ لم يَكُنْ تَكْرَارًا فَكَانَ الْحَمْلُ عليه أَوْلَى أو يُحْتَمَلْ ما ذَكَرْنَا فَيُحْمَلُ عليه تَوْفِيقًا بين الدَّلِيلِينَ عَمَلًا بِهِمَا جميعا ثُمَّ عِصْمَةُ الْمَقْتُولِ تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْقَتْلِ أَمْ وَقْتَ الْمَوْتِ أَمْ في الْوَقْتَيْنِ جميعا
على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْقَتْلِ لَا غَيْرُ
وَعَلَى أَصْلِهِمَا تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْقَتْلِ وَالْمَوْتِ جميعا
وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْمَوْتِ لَا غَيْرُ
وَعَلَى هذا تُخَرَّجُ مَسَائِلُ الرَّمْيِ إذَا رَمَى مُسْلِمًا فَارْتَدَّ الْمَرْمِيُّ إلَيْهِ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ وهو مُرْتَدٌّ فَمَاتَ فَعَلَى الرَّامِي الدِّيَةُ
في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كان خَطَأً تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وَإِنْ كان عَمْدًا يَكُونُ في مَالِهِ وَعِنْدَهُمَا لَا شَيْءَ عليه
وَكَذَا عِنْدَ زُفَرَ وَإِنْ رَمَى مُرْتَدًّا أو حَرْبِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ وَقَعَ السَّهْمُ بِهِ وَمَاتَ لَا شَيْءَ عليه عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ عليه الدِّيَةُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِالْقَتْلِ
وَالْفِعْلُ إنَّمَا يَصِيرُ قَتْلًا بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ وَلَا عِصْمَةَ لِلْمَقْتُولِ وَقْتَ فَوَاتِ الْحَيَاةِ فَكَانَ دَمُهُ هَدْرًا كما لو جَرَحَهُ ثُمَّ ارْتَدَّ فَمَاتَ وهو مُرْتَدٌّ
لَهُمَا أَنَّ لِلْقَتْلِ تَعَلُّقًا بِالْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْقَاتِلِ وَأَثَرُهُ يَظْهَرُ في الْمَقْتُولِ بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ فَلَا بُدَّ من اعْتِبَارِ الْعِصْمَةِ في الْوَقْتَيْنِ جميعا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ على الْإِنْسَانِ بِفِعْلِهِ وَلَا فِعْلَ منه سِوَى الرَّمْيِ السَّابِقِ فَكَانَ الرَّمْيُ السَّابِقُ عِنْدَ وُجُودِ زُهُوقِ الرُّوحِ قَتْلًا من حِينِ وُجُودِهِ وَالْمَحِلُّ كان مَعْصُومًا في ذلك الْوَقْتِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ
وَلِهَذَا لو كان مُرْتَدًّا أو حَرْبِيًّا وَقْتَ الرَّمْيِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَأَصَابَهُ السَّهْمُ وهو مُسْلِمٌ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عليه عِنْدَهُمَا وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه عَلَيْهِمَا في اعْتِبَارِ وَقْتِ الرَّمْيِ لَا غَيْرُ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ في بَابِ الصَّيْدِ يُعْتَبَرُ وَقْتُ الرَّمْيِ في قَوْلِهِمْ جميعا حتى لو كان الرَّامِي مُسْلِمًا وَقْتَ الرَّمْيِ ثُمَّ ارْتَدَّ فَأَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ وهو مُرْتَدٌّ يُؤْكَلُ وَإِنْ كان الْبَابُ بَابَ الِاحْتِيَاطِ
وَبِمِثْلِهِ لو كان مَجُوسِيًّا وَقْتَ الرَّمْيِ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ وَقَعَ السَّهْمُ بِالصَّيْدِ وهو مُسْلِمٌ لَا يُؤْكَلُ
وَكَذَلِكَ حَلَالٌ رَمَى صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ ثُمَّ أَصَابَهُ لَا شَيْءَ عليه وَإِنْ رَمَى وهو مُحْرِمٌ ثُمَّ حَلَّ فَأَصَابَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ
فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ حُجَجُ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه في اعْتِبَارِ وَقْتِ الْفِعْلِ وَالْأَصْلُ أَنَّ ما يَرْجِعُ إلَى الْأَهْلِيَّةِ تُعْتَبَرُ فيه أَهْلِيَّةُ الْفَاعِلِ وَقْتَ الْفِعْلِ بِلَا خِلَافٍ وما كان رَاجِعًا إلَى الْمَحِلِّ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا بِخِلَافِ ما إذَا جَرَحَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ الْمَجْرُوحُ فَمَاتَ وهو مُرْتَدٌّ أَنَّهُ يُهْدَرُ دَمُهُ لِأَنَّ الْجُرْحَ السَّابِقَ انْقَلَبَ قَتْلًا بِالسِّرَايَةِ وقد تَبَدَّلَ الْمَحِلُّ حُكْمًا بِالرِّدَّةِ فَيُوجِبُ انْقِطَاعَ السِّرَايَةِ عن ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ كَتَبَدُّلِ الْمَحِلِّ حَقِيقَةً ولم يُوجَدْ هذا الْمَعْنَى في مَسْأَلَتِنَا
وَلَوْ رَمَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ فَمَاتَ فَلَا دِيَةَ عليه وَعَلَيْهِ قِيمَتَهُ لِمَوْلَاهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ
وقال مُحَمَّدٌ على الرَّامِي لِمَوْلَى الْعَبْدِ فَضْلُ ما بين قِيمَتِهِ مَرْمِيًّا إلَى غَيْرِ مَرْمِيٍّ لَا شَيْءَ عليه غَيْرُ ذلك
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَ أبي يُوسُفَ مع قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا رَمَى إلَيْهِ فَقَدْ صَارَ نَاقِصًا بِالرَّمْيِ في مِلْكِ مَوْلَاهُ قبل وُقُوعِ السَّهْمِ بِهِ لِأَنَّهُ أَشْرَفَ على الْهَلَاكِ بِتَوَجُّهِ السَّهْمِ إلَيْهِ فَوَجَبَ عليه ضَمَانُ النُّقْصَانِ فَصَارَ كما لو جَرَحَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ
وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَانْقَطَعَتْ السِّرَايَةُ وَلَا يَضْمَنُ الدِّيَةَ وَلَا الْقِيمَةَ وَإِنَّمَا يَضْمَنُ النُّقْصَانَ
كَذَا هذا
وأبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه مَرَّ على أَصْلِهِ وهو اعْتِبَارُ وَقْتِ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ صَارَ قَاتِلًا بِالرَّمْيِ السَّابِقِ وهو كان مِلْكُ الْمَوْلَى حِينَئِذٍ
وَأَمَّا بَيَانُ ما تَجِبُ فيه الدِّيَةُ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه
قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الذي تَجِبُ منه الدِّيَةَ وَتُقْضَى منه ثَلَاثَةُ أَجْنَاسٍ الْإِبِلُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَعِنْدَهُمَا سِتَّةُ أَجْنَاسٍ الْإِبِلُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالْحُلَلُ
وَاحْتَجَّا بِقَضِيَّةِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فإنه رُوِيَ أَنَّهُ قَضَى بِالدِّيَةِ من هذه الْأَجْنَاس
____________________

(7/253)


بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ من الْإِبِلِ جَعَلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْوَاجِبَ من الْإِبِلِ على الْإِشَارَةِ إلَيْهَا فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ منها على التَّعْيِينِ إلَّا أَنَّ الْوَاجِبَ من الصِّنْفَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ آخَرَ فَمَنْ ادَّعَى الْوُجُوبَ من الْأَصْنَافِ الْأُخَرِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ
وَأَمَّا قَضِيَّةُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ إنَّمَا قَضَى بِذَلِكَ حين كانت الدِّيَاتُ على الْعَوَاقِلِ فلما نَقَلَهَا إلَى الدِّيوَانِ قَضَى بها من الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ
وَذَكَرَ في كِتَابِ الْمَعَاقِلِ ما يُدَلُّ على أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فإنه قال لو صَالَحَ الْوَلِيُّ على أَكْثَرِ من مِائَتَيْ بَقَرَةٍ أو ( ( ( ومائتي ) ) ) مائتي حُلَّةٍ لم يَجُزْ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ لم يَكُنْ ذلك من جِنْسِ الدِّيَةِ لَجَازَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ من كل جِنْسٍ وَبَيَانُ صِفَتِهِ فَقَدْرُ الْوَاجِبِ من كل جِنْسٍ يَخْتَلِفُ بِذُكُورَةِ الْمَقْتُولِ وَأُنُوثَتِهِ فَإِنْ كان ذَكَرًا فَلَا خِلَافَ في أَنَّ الْوَاجِبَ بِقَتْلِهِ من الْإِبِلِ مِائَةٌ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ من الْإِبِلِ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا في أَنَّ الْوَاجِبَ من الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ دِيَةَ كل ذِي عَهْدٍ في عَهْدِهِ أَلْفَ دِينَارٍ وَالتَّقْدِيرُ في حَقِّ الذِّمِّيِّ يَكُونُ تَقْدِيرًا في حَقِّ الْمُسْلِمِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى
وَأَمَّا الْوَاجِبُ من الْفِضَّةِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه
قال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَشَرَةُ آلَافٍ دِرْهَمٍ وَزْنًا وَزْنُ سَبْعَةٍ
وقال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إثنا عَشْرَ أَلْفًا وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال الدِّيَةُ عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه أَحَدٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا مع ما أَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا تُعْرَفُ إلَّا سَمَاعًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سمع من رسول اللَّهِ
وَقَدْرُ الْوَاجِبِ من الْبَقَرِ عِنْدَهُمَا مِائَتَا بَقَرَةٍ وَمِنْ الْحُلَلِ مِائَتَا حُلَّةٍ وَمِنْ الْغَنَمِ أَلْفَا شَاةٍ
ثُمَّ دِيَةُ الْخَطَأِ من الْإِبِلِ أَخْمَاسٌ بِلَا خِلَافٍ عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً
وَهَذَا قَوْلُ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه وقد رَفَعَهُ إلَى النبي أَنَّهُ قال دِيَةُ الْخَطَأِ أَخْمَاسٌ عِشْرُونَ بَنَاتُ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بَنُو مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بَنُو لَبُونٍ وَعِشْرُونَ حِقَّةٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةٌ
وَعِنْدَهُمَا قَدْرُ كل بَقَرَةٍ خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَقَدْرُ كل حُلَّةٍ خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَالْحُلَّةُ اسْمٌ لِثَوْبَيْنِ إزَارٌ وَرِدَاءٌ وَقِيمَةُ كل شَاةٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ
وَدِيَةُ شِبْهِ العبد ( ( ( العمد ) ) ) أَرْبَاعٌ عِنْدَهُمَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً وهو مَذْهَبُ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَثْلَاثٌ
ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعُونَ ما بين ثَنِيَّةٍ إلَى بَازِلِ عَامِهَا كُلِّهِ خِلْفَةٌ وهو مَذْهَبُ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما
وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال في شِبْهِ الْعَمْدِ أَثْلَاثٌ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ خِلْفَةً وَالصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ مَتَى اخْتَلَفَتْ في مَسْأَلَةٍ على قَوْلَيْنِ أو ثَلَاثَةٍ يَجِبُ تَرْجِيحُ قَوْلِ الْبَعْضِ على الْبَعْضِ وَالتَّرْجِيحُ هَهُنَا لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الذي تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ بِالْقَبُولِ وهو قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ من الْإِبِلِ
وفي إيجَابِ الْحَوَامِلِ إيجَابُ الزِّيَادَةِ على الْمِائَةِ لِأَنَّ الْحَمْلَ أَصْلٌ من وَجْهٍ
وَالثَّانِي أَنَّ ما قَالَهُ أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْحَمْلَ مَعْنًى مَوْهُومٌ لَا يُوقَفُ عليه حَقِيقَةً فإن انْتِفَاخَ الْبَطْنِ قد يَكُونُ لِلْحَمْلِ وقد يَكُونُ لِلدَّاءِ وَنَحْوِ ذلك
وَإِنْ كان أُنْثَى فَدِيَةُ الْمَرْأَةِ على النِّصْفِ من دِيَةِ الرَّجُلِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عليهم أَنَّهُمْ قالوا في دِيَةِ الْمَرْأَةِ أنها على النِّصْفِ من دِيَةِ الرَّجُلِ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليهم أَحَدٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا
وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ في مِيرَاثِهَا وَشَهَادَتِهَا على النِّصْفِ من الرَّجُلِ فَكَذَلِكَ في دِيَتِهَا
وَهَلْ يَخْتَلِفُ قَدْرُ الدِّيَةِ بِالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ
قال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَا يَخْتَلِفُ وَدِيَةُ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ
وهو قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَالشَّعْبِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَالزُّهْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَخْتَلِفُ
دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةُ آلَافٍ
وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةٍ
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ جَعَلَ دِيَةَ هَؤُلَاءِ على هذه الْمَرَاتِبِ وَلِأَنَّ الْأُنُوثَةَ لَمَّا أَثَّرَتْ في نُقْصَانِ الْبَدَلِ فَالْكُفْرُ أَوْلَى لِأَنَّ نَقِيصَةَ الْكُفْرِ فَوْقَ كل نَقِيصَةٍ
وَلَنَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَإِنْ كان من قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } أَطْلَقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
____________________

(7/254)


الْقَوْلَ بِالدِّيَةِ في جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ من غَيْرِ فَصْلٍ فَدَلَّ أَنَّ الْوَاجِبَ في الْكُلِّ على قَدْرٍ وَاحِدٍ
وَرَوَيْنَا أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ دِيَةَ كل ذِي عَهْدٍ في عَهْدِهِ أَلْفَ دِينَارٍ
وَرُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بن أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ قَتَلَ مُسْتَأْمَنَيْنِ فَقَضَى رسول اللَّهِ فِيهِمَا بِدِيَةِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ
وَعَنْ الزُّهْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال قَضَى سَيِّدُنَا أبو بَكْرٍ وَسَيِّدُنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما في دِيَةِ الذِّمِّيِّ بِمِثْلِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ
وَكَذَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أنه قال دِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلِأَنَّ وُجُوبَ كَمَالِ الدِّيَةِ يَعْتَمِدُ كَمَالَ حَالِ الْقَتِيلِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَهِيَ الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعِصْمَةُ وقد وُجِدَ وَنُقْصَانُ الْكُفْرِ يُؤَثِّرُ في أَحْكَامِ الدُّنْيَا
وَأَمَّا بَيَانُ من تَجِبُ عليه الدِّيَةُ فَالدِّيَةُ تَجِبُ على الْقَاتِلِ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هو الْقَتْلُ وأنه وُجِدَ من الْقَاتِلِ
ثُمَّ الدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ على الْقَاتِلِ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَجِبُ عليه في مَالِهِ وَنَوْعٌ يَجِبُ عليه كُلِّهِ وَتَتَحَمَّلُ عنه الْعَاقِلَةُ بَعْضَهُ بِطَرِيقِ التَّعَاوُنِ إذَا كان له عَاقِلَةٌ
وَكُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ الْخَطَأِ أو شِبْهِ الْعَمْدِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وما لَا فَلَا فَلَا تَعْقِلُ الصُّلْحَ لِأَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ ما وَجَبَ بِالْقَتْلِ بَلْ بِعَقْدِ الصُّلْحِ وَلَا الْإِقْرَارَ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ لَا بِالْقَتْلِ وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ في حَقِّهِ لَا في حَقِّ غَيْرِهِ فَلَا يَصْدُقُ في حَقِّ الْعَاقِلَةِ حتى لو صَدَقُوا عَقَلُوا وَلَا الْعَبْدَ بِأَنْ قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ الدَّفْعُ لَا الْفِدَاءُ وَالْفِدَاءُ يَجِبُ بِاخْتِيَارِ الْمَوْلَى لَا بِنَفْسِ الْقَتْلِ
وَلَا الْعَمْدَ بِأَنْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا لِأَنَّهَا وَإِنْ وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ فلم تَجِبْ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ أو شِبْهِ الْعَمْدِ
وَهَذَا لِأَنَّ التَّحَمُّلَ من الْعَاقِلَةِ في الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ على طَرِيقِ التَّخْفِيفِ على الخاطىء وَالْعَامِدُ لَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ
وقد رُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا ما دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ
وَقِيلَ في مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَا عَبْدًا أَنَّ الْمُرَادَ منه الْعَبْدُ الْمَقْتُولُ وهو الذي قَتَلَهُ مَوْلَاهُ وهو مَأْذُونٌ مَدْيُونٌ أو الْمُكَاتَبُ لَا الْعَبْدُ الْقَاتِلُ لِأَنَّهُ لو كان كَذَلِكَ لَكَانَ من حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةَ عن عَبْدٍ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ عَقَلْتُ عن فُلَانٍ إذَا كان فُلَانٌ قَاتِلًا وَعَقَلْتُ فُلَانًا إذَا كان فُلَانٌ مَقْتُولًا
كَذَا فَرَّقَ الْأَصْمَعِيُّ
ثُمَّ الْوُجُوبُ على الْقَاتِلِ فِيمَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ قَوْلُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ
وقال بَعْضُهُمْ كُلُّ الدِّيَةِ في هذا النَّوْعِ تَجِبُ على الْكُلِّ ابْتِدَاءً الْقَاتِلُ وَالْعَاقِلَةُ جميعا وَالصَّحِيحُ هو الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَمَعْنَاهُ فَلْيَتَحَرَّرْ وليؤد
وَهَذَا خِطَابٌ لِلْقَاتِلِ لَا لِلْعَاقِلَةِ دَلَّ أَنَّ الْوُجُوبَ على الْقَاتِلِ وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هو الْقَتْلُ وَأَنَّهُ وُجِدَ من الْقَاتِلِ لَا من الْعَاقِلَةِ فَكَانَ الْوُجُوبُ عليه لَا على الْعَاقِلَةِ وَإِنَّمَا الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ دِيَةً وَاجِبَةً عليه
ثُمَّ دُخُولُ الْقَاتِلِ مع الْعَاقِلَةِ في التَّحَمُّلِ مَذْهَبُنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَاتِلُ لَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ بَلْ تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ الْكُلَّ دُونَ الْقَاتِلِ
وقال أبو بَكْرٍ الْأَصَمُّ يَتَحَمَّلُ الْقَاتِلُ دُونَ الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَاخَذَ أَحَدٌ بِذَنْبِ غَيْرِهِ
قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلَّا عليها } وقال جَلَّتْ عَظَمَتُهُ { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وَلِهَذَا لم تَتَحَمَّلْ الْعَاقِلَةُ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ وَلَا ما دُونَ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى بِالْغُرَّةِ على عَاقِلَةِ الضَّارِبَةِ وَكَذَا قَضَى سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه بِالدِّيَةِ على الْعَاقِلَةِ بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ من غَيْرِ نَكِيرٍ
وَأَمَّا الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ فَنَقُولُ بِمُوجَبِهَا لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إن الْحَمْلَ على الْعَاقِلَةِ أَخْذٌ بِغَيْرِ ذَنْبٍ فإن حِفْظَ الْقَاتِلِ وَاجِبٌ على عَاقِلَتِهِ فإذا لم يَحْفَظُوا فَقَدْ فَرَّطُوا وَالتَّفْرِيطُ منهم ذَنْبٌ وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا يَقْتُلُ بِظَهْرِ عَشِيرَتِهِ فَكَانُوا كَالْمُشَارِكِينَ له في الْقَتْلِ وَلِأَنَّ الدِّيَةَ مَالٌ كَثِيرٌ فَإِلْزَامُ الْكُلَّ الْقَاتِلَ إجْحَافٌ بِهِ فَيُشَارَكُهُ الْعَاقِلَةُ في التَّحَمُّلِ تَخْفِيفًا وهو مُسْتَحِقٌّ التَّخْفِيفَ لِأَنَّهُ خاطىء ( ( ( خاطئ ) ) ) وَبِهَذَا فَارَقَ ضَمَانَ الْمَالِ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمَالِ لَا يَكْثُرُ عَادَةً فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّخْفِيفِ وما دُونَ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ ضَمَانِ الْأَمْوَالِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ عليه السَّلَامُ قَضَى بِالدِّيَةِ على الْعَاقِلَةِ فَلَا يَدْخُلُ فيه الْقَاتِلُ وَإِنَّا نَقُولُ نعم لَكِنْ مَعْلُولًا بِالنُّصْرَةِ وَالْحِفْظِ وَذَلِكَ على الْقَاتِلِ أَوْجَبُ فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّحَمُّلِ
ثُمَّ الْكَلَامُ في الْعَاقِلَةِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في تَفْسِيرِ الْعَاقِلَةِ من هُمْ وَالثَّانِي في بَيَانِ الْقَدْرِ الذي تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ من الدِّيَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْقَاتِلُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كان حُرَّ الْأَصْلِ وَإِمَّا أن كان مُعْتَقًا وَإِمَّا إن كان مولى الْمُوَالَاةِ فَإِنْ كان حُرَّ الْأَصْلِ فَعَاقِلَتُهُ أَهْلُ دِيوَانِهِ إنْ كان
____________________

(7/255)


من أَهْلِ الدِّيوَانِ وَهُمْ الْمُقَاتِلَةُ من الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ الْعَاقِلِينَ تُؤْخَذُ من عَطَايَاهُمْ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ من النَّسَبِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ذلك فإنه رُوِيَ عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال كانت الدِّيَاتُ على الْقَبَائِلِ فلما وَضَعَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه الدَّوَاوِينَ جَعَلَهَا على أَهْلِ الدَّوَاوِينِ
فَإِنْ قِيلَ قَضَى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالدِّيَةِ على الْعَاقِلَةِ من النَّسَبِ إذْ لم يَكُنْ هُنَاكَ دِيوَانٌ فَكَيْفَ يُقْبَلُ قَوْلُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه على مُخَالِفَتِهِ فِعْلَ رسول اللَّهِ
فَالْجَوَابُ لو كان سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه فَعَلَ ذلك وَحْدَهُ لَكَانَ يَجِبُ حَمْلُ فِعْلِهِ على وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ فِعْلَ رسول اللَّهِ كَيْفَ وكان فِعْلُهُ بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَا يُظَنُّ من عُمُومِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ مُخَالَفَةُ فِعْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَدَلَّ أَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّهُ كان مَعْلُولًا بِالنُّصْرَةِ وإذا صَارَتْ النُّصْرَةُ في زَمَانِهِمْ الدِّيوَانَ نَقَلُوا الْعَقْلَ إلَى الدِّيوَانِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُخَالَفَةَ وَهَذَا لِأَنَّ التَّحَمُّلَ من الْعَاقِلَةِ لِلتَّنَاصُرِ وَقَبْلَ وَضْعِ الدِّيوَانِ كان التَّنَاصُرُ بِالْقَبِيلَةِ وَبَعْدَ الْوَضْعِ صَارَ التَّنَاصُرُ بِالدِّيوَانِ فَصَارَ عَاقِلَةُ الرَّجُلِ أَهْلَ دِيوَانِهِ
وَلَا تُؤْخَذُ من النِّسَاءِ وَالصَّبِيَّانِ وَالْمَجَانِينِ وَالرَّقِيقِ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا من أَهْلِ النُّصْرَةِ وَلِأَنَّ هذا الضَّمَانَ صِلَةٌ وَتَبَرُّعٌ بِالْإِعَانَةِ
وَالصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ وَالْمَمَالِيكُ لَيْسُوا من أَهْلِ التَّبَرُّعِ وَإِنْ لم يَكُنْ له دِيوَانٌ فَعَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ من النَّسَبِ لِأَنَّ اسْتِنْصَارَهُ بِهِمْ وَإِنْ كان الْقَاتِلُ مُعْتَقًا أو مولى الْمُوَالَاةِ فَعَاقِلَتُهُ مَوْلَاهُ وَقَبِيلَةُ مَوْلَاهُ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مولى الْقَوْمِ منهم ثُمَّ عَاقِلَةُ الْمَوْلَى الْأَعْلَى قَبِيلَتُهُ إذَا لم يَكُنْ من أَهْلِ الدِّيوَانِ فَكَذَا عَاقِلَةُ مَوْلَاهُ وَلِأَنَّ اسْتِنْصَارَهُ بِمَوْلَاهُ وَقَبِيلَتِهِ فَكَانُوا عَاقِلَتَهُ
هذا إذَا كان لِلْقَاتِلِ عَاقِلَةٌ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ له عَاقِلَةٌ كَاللَّقِيطِ وَالْحَرْبِيِّ أو الذِّمِّيِّ الذي أَسْلَمَ فَعَاقِلَتُهُ بَيْتُ الْمَالِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرَوَى مُحَمَّدٌ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ عليه من مَالِهِ لَا على بَيْتِ الْمَالِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأَصْلَ هو الْوُجُوبُ في مَالِ الْقَاتِلِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وُجِدَتْ منه وَإِنَّمَا الْأَخْذُ من الْعَاقِلَةِ بِطَرِيقِ التَّحَمُّلِ فإذا لم يَكُنْ له عَاقِلَةٌ يُرَدُّ الْأَمْرُ فيه إلَى حُكْمِ الْأَصْلِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوُجُوبَ على الْعَاقِلَةِ لِمَكَانِ التَّنَاصُرِ فإذا لم يَكُنْ له عَاقِلَةٌ كان اسْتِنْصَارُهُ بِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ
وَبَيْتُ الْمَالِ ما لهم فَكَانَ ذلك عَاقِلَتُهُ
وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ ما تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ من الدِّيَةِ فَلَا يُؤْخَذُ من كل وَاحِدٍ منهم إلَّا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ أو أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ وَلَا يُزَادُ على ذلك لِأَنَّ الْأَخْذَ منهم على وَجْهِ الصِّلَةِ وَالتَّبَرُّعِ تَخْفِيفًا على الْقَاتِلِ فَلَا يَجُوزُ التَّغْلِيظُ عليهم بِالزِّيَادَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ عن هذا الْقَدْرِ إذَا كان في الْعَاقِلَةِ كَثْرَةٌ
فَإِنْ قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ حتى أَصَابَ الرَّجُلُ أَكْثَرَ من ذلك يُضَمُّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ إلَيْهِمْ من النَّسَبِ سَوَاءٌ كَانُوا من أَهْلِ الدِّيوَانِ أو لَا وَلَا يَعْسُرُ عليهم وَيَدْخُلُ الْقَاتِلُ مع الْعَاقِلَةِ وَيَكُونُ فِيمَا يُؤَدِّي كَأَحَدِهِمْ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ جِنَايَةً وُجِدَتْ منه وَضَمَانًا وَجَبَ عليه فَكَانَ هو أَوْلَى بِالتَّحَمُّلِ
وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الدِّيَةِ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ تَجِبُ مُؤَجَّلَةً على الْعَاقِلَةِ في ثَلَاثِ سِنِينَ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ذلك فإنه رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه قَضَى بِذَلِكَ بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ خَالَفَهُ أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَتُؤْخَذُ من ثَلَاثِ عَطَايَا إنْ كان الْقَاتِلُ من أَهْلِ الدِّيوَانِ لِأَنَّ لهم في كل سَنَةٍ عَطِيَّةً فَإِنْ تَعَجَّلَ الْعَطَايَا الثَّلَاثَ في سَنَةٍ وَاحِدَةٍ يُؤْخَذُ الْكُلُّ في سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ تَأَخَّرَتْ يَتَأَخَّرُ حَقُّ الْأَخْذِ وَإِنْ لم يَكُنْ من أَهْلِ الدِّيوَانِ تُؤْخَذُ منه وَمِنْ قَبِيلَتِهِ من النَّسَبِ في ثَلَاثِ سِنِينَ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ الدِّيَةَ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ تَجِبُ في مَالِهِ في ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَتْلِ إخْبَارٌ عن وُجُودِ الْقَتْلِ وَإِنَّهُ يُوجِبُ حَقًّا مُؤَجَّلًا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصْدُقُ على الْعَاقِلَةِ فَيَجِبُ مُؤَجَّلًا في مَالِهِ وَاخْتُلِفَ في شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْعَمْدِ الذي دَخَلَتْهُ شُبْهَةٌ وهو الْأَبُ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا قال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ إنَّهَا تَجِبُ مُؤَجَّلَةً في ثَلَاثِ سِنِينَ إلَّا أَنَّ دِيَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وَدِيَةُ الْعَمْدِ في مَالِ الْأَبِ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ دِيَةُ الدَّمِ كَدِيَةِ الْعَمْدِ تَجِبُ حَالًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وُجِدَ حَالًا فَتَجِبُ الدِّيَةَ حَالًا إذْ الْحُكْمُ يَثْبُتُ على وَفْقِ السَّبَبِ هو الْأَصْلُ إلَّا أَنَّ التَّأْجِيلَ في الْخَطَأِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عن الْأَصْلِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أو يَثْبُتُ مَعْلُولًا بِالتَّخْفِيفِ على الْقَاتِلِ حتى تَحْمِلَ عنه الْعَاقِلَة وَالْعَامِدُ يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ وَلِهَذَا وَجَبَ في مَالِهِ لَا على الْعَاقِلَةِ
وَلَنَا أَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ لم يُعْرَفْ إلَّا بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وهو قَوْلُهُ
____________________

(7/256)


تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ بِلَفْظِ الْخَطَأِ لَكِنَّ غَيْرَهُ مُلْحَقٌ بِهِ
إلَّا أَنَّهُ مُجْمَلٌ في بَيَانِ الْقَدْرِ وَالْوَصْفِ
فَبَيَّنَ قَدْرَ الدِّيَةِ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ من الْإِبِلِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ وهو الْأَجَلُ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَضِيَّةِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه بِمَحْضَرٍ منهم فَصَارَ الْأَجَلُ وَصْفًا لِكُلِّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِالنَّصِّ
وَقَوْلُهُ دِيَةُ الْخَطَأِ وَجَبَتْ بِطَرِيقِ التَّخْفِيفِ وَالْعَامِدُ يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ
قُلْنَا وقد غَلَّظْنَا عليه من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا بِإِيجَابِ دِيَةٍ مُغَلَّظَةٍ
وَالثَّانِي بِالْإِيجَابِ في مَالِهِ وَالْجَانِي لَا يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ من جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَكَذَلِكَ كُلُّ جُزْءٍ من الدِّيَةِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ أو تَجِبُ في مَالِ الْقَاتِلِ فَذَلِكَ الْجُزْءُ تَجِبُ في ثَلَاثِ سِنِينَ كَالْعَشَرَةِ إذَا قَتَلُوا رَجُلًا خَطَأً أو شِبْهَ عَمْدٍ حتى وَجَبَتْ عليهم دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَعَاقِلَةُ كل وَاحِدٍ منهم تَتَحَمَّلُ عُشْرَهَا في ثَلَاثِ سِنِينَ
وَكَذَلِكَ الْعَشَرَةُ إذَا قَتَلُوا رَجُلًا وَأَحَدُهُمْ أَبُوهُ حتى وَجَبَتْ عليهم دِيَةٌ وَاحِدَةٌ في مَالِهِمْ يَجِبُ على كل وَاحِدٍ منهم عُشْرُهَا في ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ على كل وَاحِدٍ منهم جُزْءٌ من دِيَةٍ مُؤَجَّلَةٍ في ثَلَاثِ سِنِينَ فَكَانَ تَأْجِيلُ الدِّيَةِ تَأْجِيلًا لِكُلِّ جُزْءٍ من أَجْزَائِهَا إذْ الْجُزْءُ لَا يُخَالِفُ الْكُلَّ في وَصْفِهِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ يَجِبُ في مَالِهِ حَالًا لِأَنَّهُ لم يَجِبْ بِالْقَتْلِ وَإِنَّمَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ فَلَا يَتَأَجَّلُ إلَّا بِالشَّرْطِ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَنَحْوِ ذلك وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً وَاخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ يَجِبُ الْفِدَاءُ حَالًا لِأَنَّ الْفِدَاءَ لم يَجِبْ بِالْقَتْلِ بَدَلًا من الْقَتِيلِ وَإِنَّمَا وَجَبَ بَدَلًا عن دَفْعِ الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ لو دَفَعَ يَدْفَعُ حَالًا فَكَذَلِكَ بَدَلُهُ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْقَاتِلُ حُرًّا وَالْمَقْتُولُ حُرًّا فَأَمَّا إذَا كان الْقَاتِلُ حُرًّا وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا فَالْعَبْدُ الْمَقْتُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كان عَبْدَ أَجْنَبِيٍّ وَإِمَّا أَنْ كان عبد ( ( ( عبدا ) ) ) القاتل ( ( ( لقاتل ) ) ) فَإِنْ كان عَبْدَ أَجْنَبِيٍّ فَيَتَعَلَّقُ بهذا الْقَتْلِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا وُجُوبُ الْقِيمَةِ وَالْكَلَامُ في الْقِيمَةِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ منها وفي بَيَانِ من تَجِبُ عليه وفي بَيَانِ من يَتَحَمَّلُهُ وفي بَيَان كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْعَبْدُ لَا يَخْلُو إمَّا أن كان قَلِيلَ الْقِيمَةِ وَإِمَّا أن كان كَثِيرَ الْقِيمَةِ فَإِنْ كان قَلِيلَ الْقِيمَةِ بِأَنْ كان قِيمَتُهُ أَقَلُّ من عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ يَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً ما بَلَغَتْ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ أو أَكْثَرَ اُخْتُلِفَ فيه قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجِبُ عَشَرَةُ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةَ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً ما بَلَغَتْ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه مِثْلُ مَذْهَبِنَا وَرُوِيَ عن سَيِّدنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنهما مِثْلُ مَذْهَبِهِ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَبْدَ آدَمِيٌّ وَمَالٌ لِوُجُودِ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ فيه وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَبَرٌ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ وَالْقِيمَةِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ وَبِالْقَتْلِ فَوْتُ الْمَعْنَيَيْنِ جميعا وَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الضَّمَانِ بِمُقَابَلَةِ كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا على الِانْفِرَادِ فَلَا بُدَّ من إيجَابِهِ بِمُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا وَإِهْدَارِ الْآخَرِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ في التَّرْجِيحِ فَادَّعَى الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّرْجِيحَ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ مَالٌ وَمُقَابَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ أَوْلَى من مُقَابَلَةِ الْمَالِ بِالْآدَمِيِّ لِأَنَّ الْأَصْلَ في ضَمَانِ الْعُدْوَانِ الْوَارِدِ على حَقِّ الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِالْمِثْلِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بين الْمَالِ وَالْآدَمِيِّ فَكَانَ إيجَابُهُ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِ مُوَافِقًا لِلْأَصْلِ فَكَانَ أَوْلَى
وَالثَّانِي أَنَّ الضَّمَانَ وَجَبَ حَقًّا لِلْعَبْدِ وَحُقُوقُ الْعِبَادِ تَجِبُ بِطَرِيقِ الْجَبْرِ
وفي إيجَابِ الضَّمَانِ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِيَّةِ جَبْرُ حَقِّ الْمُفَوَّتِ عليه من كل وَجْهٍ
وَلَنَا النَّصُّ وَدَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولُ
أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَهَذَا مُؤْمِنٌ قُتِلَ خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ وَالدِّيَةُ ضَمَانُ الدَّمِ وَضَمَانُ الدَّمِ لَا يُزَادُ على عَشَرَةِ آلَافٍ بِالْإِجْمَاعِ
وَأَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ أَنَّا أَجْمَعنَا على أَنَّهُ لو أَقَرَّ على نَفْسِهِ بِالْقِصَاصِ يَصِحُّ وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمَوْلَى لَوْلَا أَنَّ التَّرْجِيحَ لِمَعْنَى الْآدَمِيَّةِ لَمَا صَحَّ لِأَنَّهُ يَكُونُ إقْرَارُهُ إهْدَارًا لِمَالِ الْمَوْلَى قَصْدًا من غَيْرِ رِضَاهُ وَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ ذلك
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْآدَمِيَّةَ فيه أَصْلٌ وَالْمَالِيَّةَ عَارِضٌ وَتَبَعٌ وَالْعَارِضُ لَا يُعَارِضُ الْأَصْلَ وَالتَّبَعُ لَا يُعَارِضُ الْمَتْبُوعَ
وَدَلِيلُ أَصَالَةِ الْآدَمِيَّةِ من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ كان خُلِقَ آدَمِيًّا ثُمَّ ثَبَتَ فيه وَصْفُ الْمَالِيَّةِ بِعَارِضِ الرِّقِّ
وَالثَّانِي أَنَّ قِيَامَ الْمَالِيَّةِ فيه بِالْآدَمِيَّةِ وُجُودًا وَبَقَاءً لَا على الْقَلْبِ
وَالثَّالِثُ أَنَّ الْمَالَ خُلِقَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ وَالنَّفْسُ ما خُلِقَتْ وِقَايَةً لِلْمَالِ فَكَانَتْ الْآدَمِيَّةُ فيه أَصْلًا وُجُودًا
____________________

(7/257)


وَبَقَاءً وَعَرَضًا
وَالثَّانِي أَنَّ حُرْمَةَ الْآدَمِيِّ فَوْقَ حُرْمَةِ الْمَالِ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ لِغَيْرِهِ وَحُرْمَةَ الْآدَمِيِّ لِعَيْنِهِ فَكَانَ اعْتِبَارُ النَّفْسِيَّةِ وَإِهْدَارُ الْمَالِيَّةِ أَوْلَى من الْقَلْبِ إلَّا أَنَّهُ نَقَصَتْ دِيَتُهُ عن دِيَةِ الْحُرِّ لِكَوْنِ الْكُفْرِ مُنْقِصًا في الْجُمْلَةِ وَإِظْهَارًا لِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ
وَتَقْدِيرُ النُّقْصَانِ بِالْعَشَرَةِ ثَبَتَ توقيفا ( ( ( توفيقا ) ) )
قال ابن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه يُنْقَصُ من دِيَةِ الْحُرِّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قال ذلك سَمَاعًا منه عليه السلام لِأَنَّهُ من بَابِ الْمَقَادِيرِ أو لِأَنَّ هذا أَدْنَى مَالٍ له في خَطَرِ الشَّرْعِ كما في نِصَابِ السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ في النِّكَاحِ
قَوْلُهُ الْمَالُ ليس بِمِثْلٍ لِلْآدَمِيِّ قُلْنَا نعم لَكِنْ لِشَرَفِ الْآدَمِيِّ وَجْهُ الْمَالِ لم يُجْعَلْ مِثْلًا له عِنْدَ إمْكَانِ إيجَابِ ما هو مِثْلٌ له من كل وَجْهٍ وهو النَّفْسُ
فَأَمَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِهِ من كل وَجْهٍ فَاعْتِبَارُ الْمِثْلِ من وَجْهٍ أَوْلَى من الْإِهْدَارِ
وَقَوْلُهُ الْجَبْرُ في الْمَالِ أَبْلَغُ قُلْنَا بَلَى لَكِنَّ فيه إهْدَارَ الْآدَمِيِّ وَمُقَابَلَةُ الْجَابِرِ بِالْآدَمِيِّ الْفَائِتِ أَوْلَى من الْمُقَابَلَةِ بِالْمَالِ الْهَالِكِ
وَإِنْ كان الْجَبْرُ ثَمَّةَ أَكْثَرَ لَكِنْ فيه اعْتِبَارَ جَانِبِ الْمَوْلَى فَيَكُونُ لِغَيْرِهِ وَفِيمَا قُلْنَا الْجَبْرُ أَقَلُّ لَكِنَّ فيه اعْتِبَارُ جَانِبِ نَفْسِ الْآدَمِيِّ وهو الْعَبْدُ وَحُرْمَةُ الْآدَمِيِّ لَعَيْنِهِ فَكَانَ ما قُلْنَاهُ أَوْلَى
وَلَوْ كان الْمَقْتُولُ أَمَةً فَإِنْ كانت قَلِيلَةَ الْقِيمَةِ بِأَنْ كانت قِيمَتُهَا أَقَلَّ من خَمْسَةِ آلَافٍ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ بِقَدْرِ قِيمَتِهَا بَالِغَةً ما بَلَغَتْ وَإِنْ كانت كَثِيرَةُ الْقِيمَةِ بِأَنْ كانت قِيمَتُهَا خَمْسَةَ آلَافٍ أو أَكْثَرَ يَجِبُ خَمْسَةُ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَعَلَى رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ له فَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَبْلُغُ بَالِغَةً ما بَلَغَتْ
وَالْكَلَامُ في الْأَمَةِ كَالْكَلَامِ في الْعَبْدِ وَإِنَّمَا يَنْقُصُ منها عَشَرَةٌ كما نَقَصَتْ من دِيَةِ الْعَبْدِ
وَإِنْ اخْتَلَفَا في قَدْرِ الْبَدَلِ لِأَنَّ هذه دِيَةُ الْبَدَلِ لِأَنَّ هذه دِيَةٌ كَامِلَةٌ في الْأَمَةِ فَيَنْقُصُ في الْعَبْدِ بِخِلَافِ ما إذَا قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ تَزِيدُ نِصْفُ قِيمَتُهُ على خَمْسَةِ آلَافٍ أَنَّهُ تَجِبُ خَمْسَةُ آلَافٍ إلَّا خَمْسَةً لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ ليس بِدِيَةٍ كَامِلَةٍ بَلْ هو بَعْضُ الدِّيَةِ لِأَنَّ الْيَدَ منه نِصْفٌ فَيَجِبُ نِصْفُ ما يَجِبُ في الْكُلِّ وَالْوَاجِبُ في الْأُنْثَى ليس بَعْضَ دِيَةِ الذَّكَرِ بَلْ هو دِيَةٌ كَامِلَةٌ في نَفْسِهَا لَكِنَّهَا دِيَةُ الْأُنْثَى
وَأَمَّا بَيَانُ من يَجِبُ عليه وَمَنْ يَتَحَمَّلُهَا فَإِنَّهَا تَجِبُ على الْقَاتِلِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ منه وهو الْقَتْلُ وَتَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ في قَوْلِهِمَا
وَعَلَى رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَجِبُ في مَالِ الْقَاتِلِ
وَهَذَا بِنَاءٌ على الْأَصْلِ الذي ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَهُمَا ضَمَانَ الْعَبْدِ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ وَضَمَانَ النَّفْسِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وَكَدِيَةِ الْحُرِّ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِيَّةِ وَضَمَانَ الْمَالِ لَا تتحمل ( ( ( تتحمله ) ) ) الْعَاقِلَةُ بَلْ يَكُونُ في مَالِ الْمُتْلِفِ كَضَمَانِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ في كَثِيرِ الْقِيمَةِ أَنْ يُقَدَّرَ عَشَرَةَ آلَافٍ تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ لِأَنَّ ذلك الْقَدْرَ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِيَّةِ وما زَادَ عليها لَا تَعْقِلُهُ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِيَّةِ
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِ الْقِيمَةِ على الْعَاقِلَةِ عِنْدَنَا وَقَدْرُ ما يَتَحَمَّلُ كُلُّ وَاحِدٍ منهم فما ذَكَرْنَا في دِيَةِ الْحُرِّ من غَيْرِ تَفَاوُتٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَالثَّانِي وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْحُرِّ وَالْعَبْدِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
وَلَوْ كان الْمَقْتُولُ مُدَبَّرَ إنْسَانٍ أو أُمَّ وَلَدِهِ أو مُكَاتَبَهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْقِنِّ في جَمِيعِ ما وَصَفْنَا وَإِنْ كان عَبْدَ الْقَاتِلِ فَجِنَايَةُ الْمَوْلَى عليه هَدْرٌ
وَكَذَا لو كان مُدَبَّرُهُ أو أُمُّ وَلَدِهِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لو وَجَبَتْ لَوَجَبَتْ له عليه وَهَذَا مُمْتَنِعٌ
وَإِنْ كان مُكَاتَبَهُ فَجِنَايَةُ الْمَوْلَى عليه لَازِمَةٌ وَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ في ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى كَسْبِهِ وَأَرْشِ جِنَايَتِهِ حُرٌّ فَكَانَ كَسْبُهُ وَأَرْشُهُ له فَالْجِنَايَةُ عليه من الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ وَلَا تَعْقِلُهَا الْعَاقِلَةُ بَلْ تَكُونُ على مَالِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَالْمُكَاتَبُ عِنْدَنَا عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ على مِلْكِ مَوْلَاهُ وَإِنَّمَا ضَمِنَ جِنَايَتَهُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَالْعَقْدُ ثَابِتٌ بَيْنَهُمَا غَيْرُ ثَابِتٍ في حَقِّ الْعَاقِلَةِ وَلِهَذَا لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ الِاعْتِرَافَ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ حُجَّةٌ في حَقِّهِ لَا في حَقِّ غَيْرِهِ
وَكَذَلِكَ جِنَايَةُ الْمَوْلَى على رَقِيقِ الْمُكَاتَبِ وَعَلَى مَالِهِ لَازِمَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ من الْمَوْلَى
وَالْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ فيه وَكَذَا إذَا كان مَأْذُونًا مَدْيُونًا فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِرَقَبَتِهِ
وَبِالْقَتْلِ أَبْطَلَ مَحَلَّ حَقِّهِمْ فَتَجِبُ عليه قِيمَتُهُ وَتَكُونُ في مَالِهِ بِالنَّصِّ وَتَكُونُ حَالَّةً لِأَنَّهُ ضَمَانُ إتْلَافِ الْمَالِ
هذا إذَا كان الْقَاتِلُ حُرًّا وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا فَأَمَّا إذَا كان الْقَاتِلُ عَبْدًا وَالْمَقْتُولُ حُرًّا فَالْحُرُّ الْمَقْتُولُ لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ أَجْنَبِيًّا أو يَكُونَ وَلِيَ الْعَبْدِ فَإِنْ كان أَجْنَبِيًّا فَالْعَبْدُ الْقَاتِلُ لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ قِنًّا أو مُدَبَّرًا أو أُمَّ وَلَدٍ أو مُكَاتَبًا فَإِنْ كان قنا ( ( ( قلنا ) ) ) يَدْفَعُ إذَا ظَهَرَتْ جِنَايَتُهُ إلَّا أَنْ
____________________

(7/258)


يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ فَلَا بُدَّ من بَيَانِ ما تَظْهَرُ بِهِ هذه الْجِنَايَةُ وَبَيَانِ حُكْمِ هذه الْجِنَايَةِ وَبَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ وَبَيَانِ ما يَصِيرُ بِهِ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَشَرْطِ صِحَّةِ الِاخْتِيَارِ وَبَيَانِ صِفَةِ الْفِدَاءِ الْوَاجِبِ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهَذِهِ الْجِنَايَةُ تَظْهَرُ بِالْبَيِّنَةِ وَإِقْرَارِ الْمَوْلَى وَعِلْمِ الْقَاضِي وَلَا تَظْهَرُ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ مَحْجُورًا كان أو مَأْذُونًا لِأَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ بِالْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ ما كان من مَالِ التِّجَارَةِ وَالْإِقْرَارُ بِالْجِنَايَةِ ليس من التِّجَارَةِ وإذا لم يَصِحَّ إقْرَارُهُ لَا يُؤْخَذُ بِهِ لَا في الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْعَتَاقِ لِأَنَّ مُوجَبَ إقْرَارِهِ لَا يَلْزَمُهُ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مَوْلَاهُ فَكَانَ هذا إقْرَارًا على الْمَوْلَى حتى لو صَدَّقَهُ الْمَوْلَى صَحَّ إقْرَارَهُ
وَكَذَلِكَ لو أَقَرَّ بَعْدَ الْعَتَاقِ أَنَّهُ كان جَنَى في حَالِ الرِّقِّ لَا شَيْءَ عليه لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هذا إقْرَارٌ له على الْمَوْلَى
أَلَّا يُرَى لو صَدَّقَهُ الْمَوْلَى وَأَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وهو يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا حُكْمُ هذه الْجِنَايَةِ فوجوب ( ( ( فوجب ) ) ) دَفْعُ الْعَبْدِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حُكْمُهَا تَعَلُّقُ الْأَرْشِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ يُبَاعُ فيه ويستوفي الْأَرْشُ من ثَمَنِهِ
فَإِنْ فَضَلَ منه شَيْءٌ فَالْفَضْلُ لِلْمَوْلَى وَإِنْ لم يَفِ ثَمَنُهُ بِالْأَرْشِ يُتْبَعُ بِمَا بَقِيَ بَعْدَ الْعَتَاقِ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْلِصَهُ وَيُؤَدِّيَ الْأَرْشَ من مَالٍ آخَرَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَصْلَ في ضَمَانِ الْجِنَايَةِ أَنَّهُ يَجِبُ على الْجَانِي وَالْوَاجِبُ على الْإِنْسَانِ إمَّا أَنْ يَكُونَ في مَالِهِ أو تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ عنه وَالْعَبْدُ لَا مَالَ له وَلَا عَاقِلَةَ فَتَعَذَّرَ الْإِيجَابُ عليه فَتَجِبُ في رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فيه كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ في الْأَمْوَالِ
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَعَنْ عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما مِثْلُ مَذْهَبِنَا بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمَا من أَحَدٍ منهم فَيَكُونَ إجْمَاعًا منهم وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِمُعَارَضَةِ الْإِجْمَاعِ وَدَيْنُ الِاسْتِهْلَاكِ في بَابِ الْأَمْوَالِ يَجِبُ على الْعَبْدِ على ما عُرِفَ
وَأَمَّا صِفَةُ هذا الْحُكْمِ فَصَيْرُورَةُ الْعَبْدِ وَاجِبُ الدَّفْعِ على سَبِيلِ التَّعْيِينِ كَثُرَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أو قَلَّتْ وَعِنْدَ اخْتِيَارِ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ يَنْتَقِلُ الْحَقُّ من الدَّفْعِ إلَى الْفِدَاءِ سَوَاءٌ كان الْمَجْنِيُّ عليه وَاحِدًا أو أَكْثَرَ غير أَنَّهُ إنْ كان وَاحِدًا دَفَعَ إلَيْهِ وَيَصِيرُ كُلُّهُ مَمْلُوكًا له وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً يَدْفَعُ إلَيْهِمْ وكان مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ على قَدْرِ أُرُوشِ جِنَايَتِهِمْ وَسَوَاءٌ كان على الْعَبْدِ دَيْنٌ وَقْتَ الْجِنَايَةِ أو لم يَكُنْ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ في مَسَائِلَ إذَا مَاتَ الْعَبْدُ الْجَانِي قبل اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ بَطَلَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عليه أَصْلًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ دَفْعُ الْعَبْدِ على طَرِيقِ التَّعْيِينِ وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ هَلَاكِ الْعَبْدِ فَيَسْقُطُ الْحَقُّ أَصْلًا وَرَأْسًا
وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ قَوْلَ من يقول حُكْمُ هذه الْجِنَايَةِ تَخَيُّرُ الْمَوْلَى بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ليس بِسَدِيدٍ لِأَنَّهُ لو كان كَذَلِكَ لَتَعَيَّنَ الْفِدَاءُ عِنْدَ هَلَاكِ الْعَبْدِ ولم يَبْطُلْ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عليه أَصْلًا على ما هو الْأَصْلُ في الْمُخَيَّرِ بين شَيْئَيْنِ إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عليه الْآخَرُ
وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ لَا يَبْرَأُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَقَدْ انْتَقَلَ الْحَقُّ من رَقَبَتِهِ إلَى ذِمَّةِ الْمَوْلَى فَلَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِهَلَاكِ الْعَبْدِ بَعْدَ ذلك
وَلَوْ كانت قِيمَةُ الْعَبْدِ أَقَلُّ من الدِّيَةِ فَلَيْسَ على الْمَوْلَى إلَّا الدَّفْعُ لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّفْعِ حُكْمُهُ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يَفْصِلُوا بين قَلِيلِ الْقِيمَةِ وَكَثِيرِهَا فَلَوْ جَنَى الْعَبْدُ على جَمَاعَةٍ فَإِنْ شَاءَ الْمَوْلَى دَفَعَهُ إلَيْهِمْ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عليه لِلْأَوَّلِ لَا يَمْنَعُ حَقَّ الثَّانِي وَالثَّالِثِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى لَمَّا لم يَمْنَعْ التَّعَلُّقَ فَالْحَقُّ أَوْلَى لِأَنَّهُ دُونَهُ وإذا دَفَعَهُ إلَيْهِمْ كان مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ قَدْرَ أُرُوشِ جِنَايَتِهِمْ فإن حِصَّةَ كل وَاحِدٍ منهم من الْعَبْدِ عِوَضٌ عن الْفَائِتِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْفَائِتِ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ الْعَبْدَ وَغُرِّمَ الْجِنَايَاتِ بِكَمَالِ أُرُوشِهَا
وَلَوْ أَرَادَ الْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَ من الْعَبْدِ إلَى بَعْضِهِمْ مِقْدَارَ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّهُ وَيَفْدِي بَعْضَ الْجِنَايَاتِ له ذلك
بِخِلَافِ ما إذَا كان الْقَتِيلُ وَاحِدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَأَرَادَ الْمَوْلَى دَفْعَ الْعَبْدِ إلَى أَحَدِهِمَا وَالْفِدَاءَ إلَى الْآخَرِ أَنَّهُ ليس له ذلك لِأَنَّ الْجِنَايَةَ هُنَاكَ وَاحِدَةٌ وَلَهَا حُكْمٌ وَاحِدٌ وهو وُجُوبُ الدَّفْعِ على التَّعْيِينِ وَعِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ وُجُوبُ الْفِدَاءِ على التَّعْيِين وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ في جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ بين حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِخِلَافِ ما إذَا جَنَى على جَمَاعَةٍ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ هُنَاكَ مُتَعَدِّدَةٌ وَلَهُ خِيَارُ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالدَّفْعُ في الْبَعْضِ وَالْفِدَاءُ في الْبَعْضِ لَا يَكُونُ جَمَعَا بين حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ في جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَلَوْ قَتَلَ إنْسَانًا وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَهُ إلَيْهِمَا أَثَلَاثًا لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمَا بِالْعَبْدِ أَثْلَاثًا وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى عن كل جِنَايَةٍ بِأَرْشِهَا
وَكَذَلِكَ إذَا شَجَّ إنْسَانًا شِجَاجًا مُخْتَلِفَةً أَنَّهُ دَفَعَ الْعَبْدَ إلَيْهِمْ كان مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ على قَدْرِ جِنَايَاتِهِمْ وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى عن الْكُلِّ
____________________

(7/259)


بأروشها ( ( ( بأرشها ) ) )
وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَلَا يَبْطُلُ الدَّيْنُ بِحُدُوثِ الْجِنَايَةِ لأنه مُوجِبَ الْجِنَايَةِ وُجُوبُ الدَّفْعِ وَتَعَلُّقُ الدَّيْنَ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ لَا يَمْنَعُ من الدَّفْعِ إلَّا أَنَّهُ يَدْفَعُهُ مَشْغُولًا بِالدَّيْنِ فَإِنْ فَدَى بِالدِّيَةِ يُبَاعُ الْعَبْدُ في الدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا فَدَى فَقَدْ طَهُرَتْ رَقَبَةُ الْعَبْدِ عن الْجِنَايَةِ فَيُبَاعُ إلَّا أَنْ يَسْتَخْلِصَهُ الْمَوْلَى لِنَفْسِهِ وَيَقْضِيَ دَيْنَ الْغُرَمَاءِ
وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ فَدَفَعَهُ إلَيْهِمْ يُبَاعُ لِأَجْلِ الْغُرَمَاءِ في دَيْنِهِمْ وَإِنَّمَا بدىء بِالدَّفْعِ لَا بِالدَّيْنِ لِأَنَّ فيه رِعَايَةَ الْحَقَّيْنِ حَقَّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ وَحَقَّ أَصْحَابِ الدَّيْنِ بِالْبَيْعِ لهم
وَلَوْ بدىء بِالدَّيْنِ فَبَيْعَ بِهِ لَبَطُلَ حَقُّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ في الدَّفْعِ لِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ يَصِيرُ مِلْكًا لَلْمُشْتَرِي لِذَلِكَ بدىء بِالدَّفْعِ
وَفَائِدَةُ الدَّفْعِ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ ثُمَّ الْبَيْعُ هِيَ أَنْ يَثْبُتَ لهم حَقُّ اسْتِخْلَاصِ الْعَبْدِ بِالْفِدَاءِ لِأَنَّ لِلنَّاسِ أَغْرَاضًا في الْأَعْيَانِ
ثُمَّ إذَا بِيعَ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ من ثَمَنِ الْعَبْدِ كان الْفَضْلُ لِأَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِيعَ على مِلْكِهِمْ لِصَيْرُورَتِهِ مِلْكًا لهم بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ وَإِنْ لم يَفِ ثَمَنُهُ بِالدِّينِ يَتَأَخَّرُ ما بَقِيَ إلَى ما بَعْدِ الْعَتَاقِ كما لو بِيعَ على مِلْكِ الْمَوْلَى الْأَوَّلِ وَلَا يَضْمَنُ الْمَوْلَى لِأَصْحَابِ الدَّيْنِ بِدَفْعِ الْعَبْدِ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ شيئا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِمْ تَمْلِيكٌ منهم بَعْدَ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهُ منهم وَلَوْ بَاعَهُ منهم لَضَمِنَ كَذَا هذا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَاجِبٌ عليه لِمَا فيه من رِعَايَةِ الْحَقَّيْنِ لِمَا بَيَّنَّا
وَمَنْ فَعَلَ ما وَجَبَ عليه لَا يَضْمَنُ وَلَوْ حَضَرَ الْغُرَمَاءُ أَوَّلًا فَبَاعَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ فَإِنْ فَعَلَ ذلك بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي يُنْظَرُ إنْ كان عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَلَزِمَهُ الْأَرْشُ وَإِنْ كان غير عَالَمٍ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ من قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ الْأَرْشِ وهو الدِّيَةُ
وَإِنْ كان رُفِعَ إلَى الْقَاضِي فَإِنْ كان الْقَاضِي عَالَمًا بِالْجِنَايَةِ فإنه لَا يَبِيعُ الْعَبْدَ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ فيه إبْطَالَ حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ فَلَا يَمْلِكُ ذلك وَإِنْ لم يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ فَبَاعَهُ بِالدَّيْنِ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عِنْدَهُ أو بِعِلْمِهِ ثُمَّ حَضَرَ أَوْلِيَاءُ الْجِنَايَةِ وَلَا فَضْلَ في الثَّمَنِ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ وَسَقَطَ حَقُّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ خَرَجَ عن مِلْكِ الْمَوْلَى بِغَيْرِ رِضَاهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ
وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَضْمِينِ الْقَاضِي لِأَنَّهُ فِيمَا يَصْنَعُهُ أَمِينٌ فَلَا تَلْحَقُهُ العهد ( ( ( العهدة ) ) ) وَلَا سَبِيلَ إلَى فَسْخِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لو فَسَخَ الْبَيْعَ وَدَفَعَ بِالْجِنَايَةِ لَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْبَيْعِ ثَانِيًا فَتَعَذَّرَ الْقَوْلُ بِالْفَسْخِ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ وَلَوْ مَاتَ لَبَطَلَ حَقُّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ أَصْلًا
كَذَا هذا وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ الْجَانِيَ قبل الدَّفْعِ فَإِنْ كان الْقَاتِلُ حُرًّا يَأْخُذُ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ وَيَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ إنْ كان وَاحِدًا
وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً يَدْفَعُهَا إلَيْهِمْ على قَدْرِ حُقُوقِهِمْ لِأَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلُ الْعَبْدِ فَتَقُومُ مَقَامَهُ إلَّا أَنَّهُ لَا خِيَارَ لِلْمَوْلَى بين الْقِيمَةِ وَالْفِدَاءِ حتى لو تَصَرَّفَ في تِلْكَ الْقِيمَةِ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَلَوْ تَصَرَّفَ في الْعَبْدِ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ على ما نَذْكُرُ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِيمَةَ دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ فَإِنْ كانت مِثْلَ الْأَرْشِ فَلَا فَائِدَةَ في التَّخْيِيرِ وَكَذَلِكَ إنْ كانت أَقَلَّ من الْأَرْشِ أو أَكْثَرَ منه لِأَنَّهُ يَخْتَارُ الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ بِخِلَافِ الْعَبْدِ فإنه وَإِنْ كان قَلِيلَ الْقِيمَةِ فَلِلنَّاسِ رَغَائِبُ في الْأَعْيَانِ وَكَذَلِكَ إن قَتَلَهُ عبد أَجْنَبِيٍّ فَخُيِّرَ مَوْلَاهُ بين الدَّفْعِ والفدا ( ( ( والفداء ) ) ) وَفَدَى بِقِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ أَنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُ الْقِيمَةَ وَيَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ دَفَعَ الْقَاتِلَ إلَى مولى الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ يُخَيَّرُ مولى الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ حتى لو تَصَرَّفَ في الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْقَاتِلَ قام مَقَامَ الْمَقْتُولِ لَحْمًا وَدَمًا فَكَانَ الْأَوَّلُ قائم ( ( ( قائما ) ) )
وَإِنْ قَتَلَهُ عَبْدٌ آخَرُ لِمَوْلَاهُ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى في شَيْئَيْنِ في الْعَبْدِ الْقَاتِلِ بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ بِالْعَبْدِ جَعَلَ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ فَصَارَ كأنه ( ( ( كأن ) ) ) عَبْدَ أَجْنَبِيٍّ قَتَلَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ وَهُنَاكَ يُخَيَّرُ بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ
كَذَا هَهُنَا
وَكَذَلِكَ لو قَتَلَ عَبْدٌ رَجُلًا خَطَأً وَقَتَلَتْ أَمَةٌ لِمَوْلَاهُ هذا الْعَبْدَ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بين دَفْعِهَا وَفِدَائِهَا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كان الْعَبْدُ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً وَقَتَلَتْ أَمَةٌ لِمَوْلَاهُ رَجُلًا آخَرَ خَطَأً ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ الْأَمَةَ خُيِّرَ الْمَوْلَى بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى بِالدِّيَةِ وَقِيمَةِ الْأَمَةِ وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ ضَرَبَ فيه أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْعَبْدِ بِالدِّيَةِ وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأَمَةِ بِقِيمَةِ الْأَمَةِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عليها كَالْجِنَايَةِ على أَمَةِ أَجْنَبِيٍّ قَتَلَتْ رَجُلًا خَطَأً وَلَوْ كانت قِيمَةُ الْأَمَةِ أَلْفًا كان الْعَبْدُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ على أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا سَهْمٌ لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأَمَةِ وَعَشَرَةُ أَسْهُمٍ لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْعَبْدِ فَإِنْ قَطَعَ عَبْدٌ لِأَجْنَبِيٍّ يَدَ الْعَبْدِ الْجَانِي أو فَقَأَ عَيْنَهُ أو جَرَحَهُ جِرَاحَةً فَخُيِّرَ مولى الْعَبْدِ الْقَاطِعِ أو الفاقىء ( ( ( الفاقئ ) ) ) أو الْجَارِحِ بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَإِنْ دَفَعَ عَبْدَهُ أو فَدَاهُ بِالْأَرْشِ فَمَوْلَى الْعَبْدِ الْمَقْطُوعِ يُخَيَّرُ بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَإِنْ
____________________

(7/260)


شَاءَ دَفَعَ عَبْدَهُ الْمَقْطُوعَ مع الْعَبْدِ الْقَاطِعِ أو مع أَرْشِ يَدِ عَبْدِهِ الْمَقْطُوعِ
وَإِنْ شَاءَ فَدَى عن الْجِنَايَةِ بِالْأَرْشِ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَقْطُوعَ كان وَاجِبَ الدَّفْعِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَأَرْشُ يَدِهِ بَدَلُ جُزْئِهِ وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَدْفُوعُ قَائِمٌ مَقَامَ يَدِهِ فَكَانَ وَاجِبَ الدَّفْعِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْفِدَاءَ فَيُنْقَلُ الْحَقُّ من الْعَبْدِ إلَى الْأَرْشِ
وَلَوْ كَسَبَ الْعَبْدُ الْجَانِي كَسْبًا أو كان الْجَانِي أَمَةً فَوَلَدَتْ بَعْدَ الْجِنَايَةِ فَاخْتَارَ الْمَوْلَى الدَّفْعَ لم يَدْفَعْ الْكَسْبَ وَلَا الْوَلَدَ بِخِلَافِ الْأَرْشِ أَنَّهُ يُدْفَعُ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَرْشَ بَدَلُ جُزْءٍ كان وَاجِبَ الدَّفْعِ وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ بِخِلَافِ الْكَسْبِ وَالْوَلَدِ
وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ فَأَخَذَ الْمَوْلَى الْأَرْشَ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ فَادَّعَى الْمَوْلَى أَنَّ الْقَطْعَ كان قبل جِنَايَتِهِ وَأَنَّ الْأَرْشَ سَالِمٌ له وَادَّعَى وَلِيُّ الْجِنَايَةِ أَنَّهُ كان بَعْدَهَا وَأَنَّهُ مُسْتَحَقُّ الدَّفْعِ مع الْعَبْدِ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْأَرْشَ مِلْكُ الْمَوْلَى كَالْعَبْدِ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ فَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ يَدَّعِي عليه وُجُوبَ تَمْلِيكِ مَالٍ هو مِلْكُهُ منه وهو يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ مع يَمِينِهِ
وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُ عَبْدٍ أو فُقِئَتْ عَيْنُهُ وَأَخَذَ الْمَوْلَى الْأَرْشَ ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً فَإِنْ شَاءَ الْمَوْلَى اخْتَارَ الْفِدَاءَ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْعَبْدَ كَذَلِكَ نَاقِصًا وسلم له ما كان أَخَذَ من الْأَرْشِ لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّفْعِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ وهو كان عِنْدَ الْجِنَايَةِ نَاقِصًا بِخِلَافِ ما إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ أَنَّهُ يَدْفَعُ مع أَرْشِ الْيَدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَقْتَ الْجِنَايَةِ عليه كان وَاجِبَ الدَّفْعِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَالْأَرْشُ بَدَلُ الْجُزْءِ فَيَجِبُ دَفْعُهُ مع الْعَبْدِ
وَلَوْ قَتَلَ قَتِيلًا خَطَأً ثُمَّ قُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ قَتَلَ قَتِيلًا آخَرَ وخطأ ( ( ( خطأ ) ) ) فَأَرْشُ يَدِهِ يُسَلَّمُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى لِأَنَّ حَقَّهُ كان مُتَعَلِّقًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَقْتَ الْجِنَايَةِ وَالْأَرْشُ بَدَلُ الْجُزْءِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ فَيَسْلَمُ له
فَأَمَّا حَقُّ الثَّانِي فلم يَتَعَلَّقْ بِالْجُزْءِ لِانْعِدَامِهِ وَقْتَ الْجِنَايَةِ ثُمَّ يُدْفَعُ الْعَبْدُ فَيَكُونُ بين وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ على تِسْعَةٍ وَثَمَانِينَ جزأ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كانت قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَنَقُولُ حَقُّ وَلِيِّ كل جِنَايَةٍ في عَشَرَةِ آلَافٍ وقد اسْتَوْفَى وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى من حَقِّهِ خَمْسَمِائَةٍ فَيُجْعَلُ كُلُّ خَمْسِمِائَةٍ سَهْمًا فَيَكُونُ كُلُّ الْعَبْدِ أَرْبَعِينَ سَهْمًا حَقُّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا في عِشْرِينَ وقد أَخَذَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى من حَقِّهِ خَمْسَمِائَةٍ أو بَقِيَ حَقُّهُ في تِسْعَةِ عَشَرَ سَهْمًا ولم يَأْخُذْ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ شيئا فَبَقِيَ حَقُّهُ في عِشْرِينَ جزأ من الْعَبْدِ وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى عن كل وَاحِدٍ من الْجِنَايَتَيْنِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ لِأَنَّ ذلك أَرْشُهَا
وَلَوْ شَجَّ إنْسَانًا مُوضِحَةً وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى عن كل وَاحِدَةٍ من الْجِنَايَتَيْنِ بِأَرْشِهَا وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَهُ مَقْسُومًا ما بَيْنَهُمَا على أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا سَهْمٌ لِصَاحِبِ الْمُوضِحَةِ وَعِشْرُونَ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قِسْمَةَ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا على قَدْرِ تَعَلُّقِ حَقِّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ وَصَاحِبُ الْمُوضِحَةِ حَقُّهُ في خَمْسِمِائَةٍ وَحَقُّ وَلِيِّ الْقَتِيلِ في عَشَرَةِ آلَافٍ فَيُجْعَلُ كُلُّ خَمْسِمِائَةٍ سَهْمًا فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ على أَحَدٍ وَعِشْرِينَ وما حَدَثَ من زِيَادَةِ الْقِيمَةِ لِلْعَبْدِ وَالزِّيَادَةُ على الشَّرِكَةِ أَيْضًا لِأَنَّهَا صِفَةُ الْأَصْلِ وإذا ثَبَتَتْ الشَّرِكَةُ في الْأَصْلِ ثَبَتَتْ في الصِّفَةِ
وَكَذَلِكَ لو قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً وَقِيمَتُهُ وَقْتَ الْقَتْلِ أَلْفَانِ ثُمَّ عَمِّي بَعْدَ الْقَتْلِ قبل الشَّجَّةِ ثُمَّ شَجَّ إنْسَانًا مُوضِحَةً كانت الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا على أَحَدٍ وَعِشْرِينَ وما حَدَثَ فيه من النُّقْصَانِ فَهُوَ على الشَّرِكَةِ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَلَوْ جَنَى جِنَايَةً فَفَدَاهُ الْمَوْلَى ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى خُيِّرَ الْمَوْلَى بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ لِأَنَّهُ لَمَّا فَدَى فَقَدْ طَهَّرَ الْعَبْدَ عن الْجِنَايَةِ وَصَارَ كَأَنَّهُ لم يَجْنِ فإذا جَنَى بَعْدَ ذلك فَهَذِهِ جِنَايَةٌ مُبْتَدَأَةٌ فَيُبْتَدَأُ بِحُكْمِهَا وهو الدَّفْعُ أو الْفِدَاءُ بِخِلَافِ ما إذَا جَنَى ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى قبل اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ أَنَّهُ يَدْفَعُ إلَيْهِمَا جميعا أو يَفْدِي لِأَنَّهُ لَمَّا لم يَفْدِ لِلْأُولَى حتى جَنَى ثَانِيًا فَحَقُّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَعَلَّقَ بِالْعَبْدِ فَيَدْفَعُ إلَيْهِمَا أو يَفْدِي
وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى أحدههما ( ( ( أحدهما ) ) ) فَقَتَلَ عَبْدُهُ رَجُلًا آخَرَ ثُمَّ حَضَرُوا يُقَالُ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ ادْفَعْ نِصْفَ الْعَبْدِ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي أو نِصْفَ الدِّيَةِ وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ على الْمَوْلَى بين الدَّفْعِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ وَوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى الذي لم يُدْفَعْ إلَيْهِ
أَمَّا وُجُوبُ دَفْعِ نِصْفِ الْعَبْدِ على الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِيَ أو الْفِدَاءِ فَلِأَنَّهُ مَلَكَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِالدَّفْعِ فَيُخَيَّرُ في جِنَايَتِهِ بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ
وَأَمَّا وُجُوبُ رَدِّ نِصْفِ الْعَبْدِ إلَى الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ على الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تَرُدَّهُ وَلَا يُخَيَّرُ الْمَوْلَى في النِّصْفِ بين الدَّفْعِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ وَبَيْنَ الْفِدَاءِ لِأَنَّ وَقْتَ الْجِنَايَةِ الْأُولَى كان كُلُّ الْعَبْدِ على مِلْكِهِ وَوَقْتَ وُجُودِ الثَّانِيَةِ كان نِصْفُهُ على مِلْكِهِ فَيُوجَبُ الدَّفْعُ أو الْفِدَاءُ
____________________

(7/261)


فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الدِّيَةِ وَإِنْ دَفَعَ دَفَعَ نِصْفَ الْعَبْدِ إلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ الدَّفْعَ على قَدْرِ تَعَلُّقِ الْحَقِّ وَحَقُّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَعَلَّقَ بِنِصْفٍ فَيَكُونُ نِصْفُ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وقد كان وَصَلَ النِّصْفُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ من جِهَةِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ وَوَصَلَ إلَيْهِ بِالدَّفْعِ من الْمَوْلَى الرُّبْعُ فَسَلِمَ له ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ وَسَلِمَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى الذي لم يُدْفَعْ إلَيْهِ الْعَبْدُ الرُّبْعُ فَصَارَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ وَرُبْعُهُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَبَقِيَ إلَى تَمَامِ حَقِّهِ الرُّبْعُ ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كان الْمَوْلَى دَفَعَ كُلَّ الْعَبْدِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنْ كان الدَّفْعُ بِقَضَاءٍ لَا يَضْمَنُ الْمَوْلَى لِأَنَّ الدَّفْعَ إذَا كان بِقَضَاءٍ كان هو مُضْطَرًّا في الدَّفْعِ فَلَا يَضْمَنُ وَلَا سَبِيلَ إلَى تَضْمِينِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْقَاضِيَ فِيمَا يَصْنَعُ أَمِينٌ فَلَا تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ وَيُضَمَّنُ الْقَابِضُ لِأَنَّهُ قَبَضَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْقَبْضُ بِغَيْرِ حَقٍّ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ كَقَبْضِ الْغَصْبِ وَلَا يَخْرُجُ عن الضَّمَانِ بِالرَّدِّ إلَى الْمَوْلَى لِأَنَّهُ لم يَرُدَّهُ على الْوَجْهِ الذي قَبَضَ الْعَبْدَ فَارِغًا وَرَدَّهُ مَشْغُولًا
وَإِنْ كان الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ الذي لم يُدْفَعْ إلَيْهِ الْعَبْدُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْوَلِيَّ رُبْعَ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقَابِضَ لِيَسْلَمَ له نِصْفُ الْعَبْدِ
رُبْعُهُ لَحْمٌ وَدَمٌ وَرُبْعُهُ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ في حَقِّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الدَّفْعُ من الْمَوْلَى وَالْقَبْضُ من الْقَابِضِ فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمَوْلَى فَالْمَوْلَى يَرْجِعُ على الْقَابِضِ وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْقَابِضِ لَا يَرْجِعُ على الْمَوْلَى لِأَنَّ حَاصِلَ الضَّمَانِ عليه
وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ قَتِيلَيْنِ خَطَأً فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى أَحَدِ وَلِيَّيْ الْقَتِيلَيْنِ فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا آخَرَ وَاجْتَمَعُوا فإن الْقَابِضَ يَدْفَعُ نِصْفَ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ أو يَفْدِي نِصْفَ الْجِنَايَةِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ
ثُمَّ يُقَالُ لِلْمَوْلَى ادْفَعْ النِّصْفَ الْبَاقِي إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّالِثَةِ أو أفد بِنِصْفِ الدِّيَةِ خَمْسَةَ آلَافٍ لِأَنَّهُ قد وَصَلَ إلَيْهِ نِصْفُ الْعَبْدِ وَبَقِيَ حَقُّهُ في النِّصْفِ وَيَفْدِي لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ بِكَمَالِ الدِّيَةِ عَشَرَةَ آلَافٍ لِأَنَّهُ لم يَصِلْ إلَيْهِ شَيْءٌ من حَقِّهِ وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ نِصْفَ الْعَبْدِ إلَيْهِمَا فَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِمَا كان مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا على قَدْرِ حَقَّيْهِمَا فَيَضْرِبُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فيه بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّالِثَةِ بِخَمْسَةِ آلَافٍ فَيَصِيرُ نِصْفُ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ وَثُلُثَهُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّالِثَةِ وَبَقِيَ من حَقِّ الثَّانِي السُّدْسُ لِأَنَّ حَقَّهُ في نِصْفِ الْعَبْدِ وقد حَصَلَ له ثُلُثَا النِّصْفِ وهو ثُلُثُ كل الْعَبْدِ فَبَقِيَ إلَى تَمَامِ حَقِّهِ السُّدُسُ فَإِنْ كان الدَّفْعُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ضَمَّنَ الْقَابِضُ الْمَوْلَى وَإِنْ كان بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمَوْلَى وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْقَابِضُ كما في الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ
وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ إنْسَانًا وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ فَدَفَعَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ إلَى الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ فَقَتَلَ في يَدِهِ قَتِيلًا يُقَالُ لِلْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ أدفع ثُلُثَ الْعَبْدِ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي أو افْدِهِ بِالثُّلُثِ وَرُدَّ الثُّلُثَيْنِ على الْمَوْلَى لِأَنَّهُ أَخَذَ الثُّلُثَ بِحَقِّ مِلْكِهِ وَأَخَذَ الثُّلُثَيْنِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَى الْمَوْلَى ثُمَّ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى لِلْأَوَّلِ بِتَمَامِ الدِّيَةِ عَشَرَةِ آلَافٍ وَلِلثَّانِي بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ وَذَلِكَ سِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَ إلَيْهِمَا مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا على قَدْرِ حَقِّهِمَا فَيَتَضَارَبَانِ يَضْرِبُ الْأَوَّلُ بِتَمَامِ الدِّيَةِ عَشَرَةِ آلَافٍ وَالثَّانِي بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ سِتَّةِ آلَافٍ وَسِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ فَاجْعَلْ كُلَّ أَلْفٍ سَهْمًا وَسِتَّمِائَةٍ فَيَصِيرُ ثُلُثَا الدِّيَةِ بَيْنَهُمَا على سِتَّةِ عَشَرَ سَهْمًا وَثُلُثَيْنِ فَيَكُونُ كُلُّ الْعَبْدِ على خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا وقد أَخَذَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ الثَّانِي منه ثُلُثَهُ وهو ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ وَبَقِيَ ثُلُثَاهُ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ عَشَرَةٌ وَلِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ ثُمَّ وَلِيُّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ يَرْجِعُ على الْقَابِضِ وهو الْمَفْقُوءَةُ عَيْنُهُ بِسِتَّةِ أَجْزَاءٍ من سِتَّةَ عَشَرَ جزأ وَثُلُثَيْ جُزْءٍ من ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِأَنَّ هذا الْقَدْرَ لكان حَقَّهُ وقد فَاتَ عليه بِسَبَبٍ كان في يَدِ الْقَابِضِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ هَلَكَ عِنْدَهُ فَيَضْمَنُهُ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ
فَإِنْ كان الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي له أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ كما في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ
وَطَرِيقَةٌ أُخْرَى في الْحِسَابِ أَنَّهُ إذَا دَفَعَ ثُلُثَيْ الْعَبْدِ إلَيْهِمَا وَضَرَبَ أَحَدَهُمَا بِالدِّيَةِ وَالْآخَرَ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ يُجْعَلُ كُلُّ ثُلُثٍ سَهْمًا فَيَصِيرُ كُلُّ الدِّيَةِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَثُلُثَا الدِّيَةِ سَهْمَيْنِ فَيَصِيرُ ثُلُثَا الْعَبْدِ على خَمْسَةِ أَسْهُمٍ لِلْأَوَّلِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْآخَرِ سَهْمَانِ وَيَصِيرُ الثُّلُثُ الْآخَرُ سَهْمَيْنِ وَنِصْفَ فَيَصِيرُ جَمِيعُ الْعَبْدِ على سَبْعَةٍ وَنِصْفٍ فَوَقَعَ فيه كَسْرٌ فَيُضَعَّفُ فَيَصِيرُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَالثُّلُثُ منه خَمْسَةٌ وقد دُفِعَ إلَى الْآخَرِ وَثُلُثَا الْعَبْدِ عَشَرَةٌ فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا فَيُضْرَبُ الْأَوَّلُ بِثَلَاثَةِ أَخْمَاسِهِ وهو سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَالْآخَرُ بِأَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ ثُمَّ
____________________

(7/262)


يَرْجِعُ الْأَوَّلُ على الْقَابِضِ بِخُمُسِ ثُلُثَيْ قِيمَةِ الْعَبْدِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ قَتَلَتْ أَمَةٌ رَجُلًا ثُمَّ وَلَدَتْ بِنْتًا فَقَتَلَتْ الْبِنْتُ رَجُلًا ثُمَّ إنَّ الْبِنْتَ قَتَلَتْ أُمَّهَا فَالْمَوْلَى يُخَيَّرُ بين دَفْعِ الْبِنْتِ إلَى ولي ( ( ( وليي ) ) ) الْجِنَايَتَيْنِ وَبَيْنَ الْفِدَاءِ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْبِنْتِ بِالدِّيَةِ وَلِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ بِقِيمَةِ الْأُمِّ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أن تَعَلَّقَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عليه وهو حَقُّ الدَّفْعِ أُلْحِقَ الْمَوْلَى بِالْأَجْنَبِيِّ فَتَصِيرُ كَأَنَّهَا جَنَتْ على جَارِيَةٍ أُخْرَى لِأَجْنَبِيٍّ وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ ضَرَبَ أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْبِنْتِ بِالدِّيَةِ وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأُمِّ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ فَيُقْسَمُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمْ على ذلك حتى لو كانت قِيمَةُ الْأُمِّ أَلْفَ دِرْهَمٍ كانت الْقِسْمَةُ على إحْدَى عَشَرَ سَهْمًا كُلُّ أَلْفِ دِرْهَمٍ سَهْمٌ سَهْمٌ من ذلك لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ وَعَشَرَةُ أَسْهُمٍ لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْبِنْتِ
وَلَوْ كانت الْبِنْتُ فَقَأَتْ عَيْنَ الْأُمِّ ولم تَقْتُلْهَا فَالْمَوْلَى يُخَيَّرُ بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَخْتَارَ دَفْعَهُمَا جميعا وَإِمَّا أَنْ يَخْتَارَ فِدَاءَهُمَا جميعا وَإِمَّا أَنْ يَخْتَارَ فِدَاءَ الْبِنْتِ وَدَفْعَ الْأُمِّ وَإِمَّا أَنْ يَخْتَارَ فِدَاءَ الْأُمِّ وَدَفْعَ الْبِنْتِ فَإِنْ اخْتَارَ دَفَعَهُمَا جميعا يَدْفَعُ الْأُمَّ إلَى أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ وَهَذَا ظَاهِرٌ وَيَدْفَعُ الْبِنْتَ إلَى أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْبِنْتِ وَإِلَى أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ وَكَانَتْ مَقْسُومَةً بَيْنَهُمْ على قَدْرِ حُقُوقِهِمْ فَيَتَضَارَبُونَ فيها يَضْرِبُ أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْبِنْتِ فيها بِالدِّيَةِ لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَعَلَّقَ بِكُلِّ الْبِنْتِ وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأُمِّ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ لِأَنَّهَا فَقَأَتْ إحْدَى عَيْنَيْهَا وَالْعَيْنُ من الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ فَإِنْ اخْتَارَ فداهما ( ( ( فداءهما ) ) ) جميعا فَدَى لكل ( ( ( الكل ) ) ) فَرِيقٌ من أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَتَيْنِ بِتَمَامِ الدِّيَةِ لِأَنَّ ذلك أَرْشُ كل وَاحِدٍ من الْجِنَايَتَيْنِ وَسَقَطَتْ جِنَايَةُ الْبِنْتِ على الْأُمِّ لِأَنَّهُمَا جميعا مِلْكُ الْمَوْلَى وقد طَهُرَتَا عن الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ وَخَلَصَ مِلْكُ الْمَوْلَى فِيهِمَا فَبَقِيَتْ جِنَايَةُ الْبِنْتِ عَلَيْهِمَا جِنَايَةُ مِلْكِ الْمَوْلَى على مِلْكِهِ فَتَكُونُ هَدْرًا
وَإِنْ اخْتَارَ دَفْعَ الْأُمِّ وَفِدَاءَ الْبِنْتِ دَفَعَ الْأُمَّ إلَى أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ ثُمَّ يَفْدِيَ الْبِنْتَ يَفْدِي لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْبِنْتِ بِالدِّيَةِ وَلِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ لِمَا بَيَّنَّا
وَإِنْ اخْتَارَ دَفْعَ الْبِنْتِ وَفِدَاءَ الْأُمِّ يَدْفَعُ الْبِنْتَ إلَى أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْبِنْتِ وَيَفْدِي لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ بِكَمَالِ الدِّيَةِ وَبَطَلَتْ جِنَايَةُ الْبِنْتِ على الْأُمِّ لِأَنَّ الْأُمَّ طَهُرَتْ بِالْفِدَاءِ وَخَلَصَ مِلْكُ الْمَوْلَى فيها فَصَارَ جِنَايَةُ الْبِنْتِ على أُمِّهَا جِنَايَةَ مِلْكِ الْمَوْلَى على مِلْكِهِ فَتَكُونُ هَدْرًا
وَلَوْ أَنَّ الْأُمَّ بَعْدَ ذلك فَقَأَتْ عَيْنَ الْبِنْتِ قبل أَنْ تُدْفَعَ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا فإن الْمَوْلَى يُخَيَّرُ فِيهِمَا جميعا فَيَبْدَأُ بِالْبِنْتِ لِأَنَّهَا هِيَ التي بَدَأَتْ بِالْجِنَايَةِ فَيَدْفَعُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَتَيْنِ فَيَتَضَارَبُونَ فيها فَيَضْرِبُ فيها أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْبِنْتِ بِالدِّيَةِ وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأُمِّ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ لِمَا بَيَّنَّا في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ثُمَّ يَدْفَعُ الْأُمَّ إلَيْهِمْ فَيَتَضَارَبُونَ فيها فَيَضْرِبُ فيها أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأُمِّ بِالدِّيَةِ إلَّا ما وَصَلَ إلَيْهِمْ من أَرْشِ الْبِنْتِ وَيَضْرِبُ فيها أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْبِنْتِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْبِنْتِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَنَتْ جِنَايَتَيْنِ فَتُدْفَعُ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِجِنَايَتِهَا
طُعِنَ في هذا الْجَوَابِ وَقِيلَ يَنْبَغِي إذَا دَفَعَ الْبِنْتَ في الِابْتِدَاءِ أَنْ يَضْرِبَ فيها أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأُمِّ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْبِنْتِ بِالدِّيَةِ إلَّا ما يَصِلُ إلَيْهِمْ في الْمُسْتَأْنَفِ لِأَنَّهُ يَصِلُ إلَيْهِمْ بَعْضُ الْأُمِّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْرِبُوا بِتَمَامِ الدِّيَةِ وَالصَّحِيحُ ما ذُكِرَ في الْكِتَابِ لِأَنَّ الْبِنْتَ حين دُفِعَتْ كان حَقُّ أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْبِنْتِ في تَمَامِ الدِّيَةِ ولم يَكُنْ وَصَلَ إلَيْهِمْ شَيْءٌ فَوَجَبَ أَنْ يَضْرِبُوا بِجَمِيعِ ذلك وَالزِّيَادَةُ التي تَظْهَرُ لهم في الْمُسْتَأْنَفِ لَا عِبْرَةَ بها لِأَنَّ الْقِسْمَةَ قد صَحَّتْ وَقْتَ الدَّفْعِ فَلَا تَتَغَيَّرُ بَعْدَ ذلك كما قالوا في رَجُلٍ مَاتَ وَعَلَيْهِ لِرَجُلٍ أَلْفٌ وَلِآخَرَ أَلْفَانِ وَتَرَك أَلْفًا فَاقْتَسَمَاهَا أَثْلَاثًا ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْأَلْفَيْنِ أَبْرَأَ الْمَيِّتَ عن أَلْفٍ أن الْقِسْمَةَ الْأُولَى لَا تُنْتَقَضُ كَذَا هذا
وَلَوْ جَنَتْ الْأَمَةُ جِنَايَةً ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا فَقَطَعَ وَلَدُهَا يَدَهَا يَدْفَعُ الْوَلَدَ مع الْأُمِّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلَدَ في حُكْمِ الْجِنَايَةِ على الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَصَارَ كأنه ( ( ( كأن ) ) ) عَبْدَ أَجْنَبِيٍّ قَطَعَ يَدَهَا وَدُفِعَ بِالْجِنَايَةِ وَهُنَاكَ يُدْفَعُ الْعَبْدُ مع الْجَارِيَةِ لِكَوْنِهِ قَائِمًا مَقَام يَدِ الْجَارِيَةِ كَذَا هذا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَصِيرُ بِهِ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَبَيَانُ صِحَّةِ الِاخْتِيَارِ فَنَقُولُ ما يَصِيرُ بِهِ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ نَوْعَانِ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ
أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ الصَّرِيحُ بِلَفْظِ الِاخْتِيَارِ وما يَجْرِي مَجْرَاهُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ اخْتَرْتُ الْفِدَاءَ أو آثَرْتُهُ أو رَضِيتُ بِهِ وَنَحْوَ ذلك سَوَاءٌ كان الْمَوْلَى مُوسِرًا أو مُعْسِرًا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَيَسَارُ الْمَوْلَى ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الِاخْتِيَارِ عِنْدَهُ حتى لو اخْتَارَ الْفِدَاءَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ فَقِيرٌ مُعْسِرٌ صَحَّ اخْتِيَارُهُ وَصَارَتْ الدِّيَةُ دَيْنًا عليه
وَعِنْدَهُمَا يَسَارُ الْمَوْلَى شَرْطُ صِحَّةِ اخْتِيَارِهِ الْفِدَاءَ وَلَا يَصِحُّ اخْتِيَارُهُ إذَا كان مُعْسِرًا إلَّا بِرِضَا الْأَوْلِيَاءِ وَيُقَالُ له إمَّا أَنْ تَدْفَعَ أو تَفْدِيَ حَالًا كَذَا ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ
____________________

(7/263)


في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَذَكَر الطَّحَاوِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مع قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ في جَوَازِ الِاخْتِيَارِ وقال إلَّا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ الدِّيَةُ تَكُونُ في عَيْنِ الْعَبْدِ لِوَلِيِّ الجارية ( ( ( الجناية ) ) ) يَبِيعُهُ فيها الْمَوْلَى لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَهَكَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ هو لُزُومُ الدَّفْعِ وَعِنْدَ الِاخْتِيَارِ يَنْتَقِلُ إلَى الذِّمَّةِ فَيَتَقَيَّدُ الِاخْتِيَارُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَلَا سَلَامَةَ مع الْإِعْسَارِ فَلَا يَنْتَقِلُ إلَيْهَا فَيَبْقَى الْعَبْدُ وَاجِبُ الدَّفْعِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَزِيمَةَ ما قَالَا وهو وُجُوبُ الدَّفْعِ لَكِنَّ الشَّرْعَ رَخَّصَ له الْفِدَاءَ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ وَالْإِعْسَارُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاخْتِيَارِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدَحُ في الْأَهْلِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ وقد وُجِدَ الِاخْتِيَارُ مُطْلَقًا عن شَرْطِ السَّلَامَةِ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمَوْلَى في الْعَبْدِ تَصَرُّفًا يُفَوِّتُ الدَّفْعَ أو يَدُلُّ على إمْسَاكِ الْعَبْدِ مع الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ فَكُلُّ تَصَرُّفٍ يُفَوِّتُ الدَّفْعَ أو يَدُلُّ على إمْسَاكِ الْعَبْدِ مع الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ يَكُونُ اختيار ( ( ( اختيارا ) ) ) لِلْفِدَاءِ لِأَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عليه مُتَعَلِّقٌ بِالْعَبْدِ وهو حَقُّ الدَّفْعِ وفي تَفْوِيتِ الدَّفْعِ تَفْوِيتُ حَقِّهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَرْضَى بِتَفْوِيتِ حَقِّهِ مع الْعِلْمِ بِذَلِكَ إلَّا بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ وهو الْفِدَاءُ فَكَانَ إقْدَامُهُ عليه اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ الْمَسَائِلُ إذَا بَاعَ الْعَبْدَ بَيْعًا بَاتًّا وهو عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مُزِيلٌ لِلْمِلْكِ فَيَفُوتُ الدَّفْعُ
وَكَذَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ خِيَارِ الْمُشْتَرِي
أَمَّا على أَصْلِهِمَا فَلَا يَشْكُلُ لِأَنَّ الْمَبِيعَ دخل في مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي إنْ كان يَمْنَعُ دُخُولَ الْمَبِيعِ في مِلْكِهِ فَلَا يَمْنَعُ زَوَالَهُ عن مِلْكِ الْبَائِعِ وَهَذَا يَكْفِي دَلَالَةَ الِاخْتِيَارِ لِأَنَّهُ يَفُوتُ الدَّفْعُ
وَلَوْ بَاعَ على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَإِنْ مَضَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ قبل مُضِيِّ الْمُدَّةِ كان مُخْتَارًا لِأَنَّ الْبَيْعَ انْبَرَمَ قبل الدَّفْعِ وَلَوْ نَقَضَ الْبَيْعَ لم يَكُنْ مُخْتَارًا لِأَنَّ الْمِلْكَ لم يَزُلْ فلم يَفُتْ الدَّفْعُ وَلَوْ عَرَضَ الْعَبْدَ على الْبَيْعِ لم يَكُنْ ذلك اخْتِيَارًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَكُونُ اخْتِيَارًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْعَرْضَ على الْبَيْعِ دَلِيلُ اسْتِيفَاءِ الْمِلْكِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إذَا عَرَضَ المشتري على الْبَيْعِ بَطَلَ اخْتِيَارُهُ فَكَانَ دَلِيلَ إمْسَاكِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ لِمَا بَيَّنَّا
وَلَنَا أَنَّ الْعَرْضَ على الْبَيْعِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ فَلَا يَفُوتُ الدَّفْعُ وَلَيْسَ دَلِيلَ إمْسَاكِ الْعَبْدِ أَيْضًا بَلْ هو دَلِيلُ الْإِخْرَاجِ من الْمِلْكِ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءَ
وَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا لم يَكُنْ مُخْتَارًا حتى يُسَلِّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَزُولُ قبل التَّسْلِيمِ فَلَا يَفُوتُ الدَّفْعُ
وَلَوْ وَهَبَهُ من إنْسَانٍ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ صَارَ مُخْتَارًا لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالتَّسْلِيمَ يُزِيلَانِ الْمِلْكَ فَيَفُوتُ الدَّفْعُ وَلَوْ كانت الْجِنَايَةُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَوَهَبَهُ الْمَوْلَى من الْمَجْنِيِّ عليه لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا وَلَا شَيْء على الْمَوْلَى وَلَوْ بَاعَهُ من الْمَجْنِيِّ عليه كان مُخْتَارًا لِأَنَّ التَّسْلِيمَ بِالْهِبَةِ في مَعْنَى الدَّفْعِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَوَقَعَتْ الْهِبَةُ مَوْقِعَ الدَّفْعِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ وَالدَّفْعُ تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ فَكَانَ الْإِقْدَامُ على الْبَيْعِ منه اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ وَكَذَلِكَ لو تَصَدَّقَ بِهِ على إنْسَانٍ أو على الْمَجْنِيّ عليه فَهُوَ وَالْهِبَةُ سَوَاءٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ
وَلَوْ أَعْتَقَهُ أو دَبَّرَهُ أو كانت أَمَةٌ فَاسْتَوْلَدَهَا وهو عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا لِأَنَّ هذه التَّصَرُّفَاتِ تُفَوِّتُ الدَّفْعَ إذْ الدَّفْعُ تَمْلِيكٌ وَإِنَّهَا تَمْنَعُ من التَّمْلِيكِ فَكَانَتْ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ
وَلَوْ كانت جِنَايَةُ الْعَبْدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَأَمَرَ الْمَوْلَى الْمَجْنِيَّ عليه بِإِعْتَاقِهِ وهو عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ بِأَمْرِهِ مُضَافٌ إلَيْهِ فَكَانَ دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ كما لو أَعْتَقَ بِنَفْسِهِ
وَلَوْ قال لِعَبْدِهِ إنْ قَتَلْتَ فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَقَتَلَهُ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ إنَّمَا صَارَ مُعْتَقًا بِالْقَوْلِ السَّابِقِ وهو قَوْلُهُ أنت حُرٌّ وَلَا جِنَايَةَ عِنْدَ ذلك وَبَعْدَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ لَا إعْتَاقَ فَكَيْفَ يَصِيرُ مُخْتَارًا
وَلَنَا أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَصِيرُ مُنَجَّزًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِتَنْجِيزٍ مُبْتَدَأٍ كَأَنَّهُ قال له بَعْدَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ أنت حُرٌّ
وَنَظِيرُهُ إذَا قال لِامْرَأَتِهِ وهو صَحِيحٌ إذَا مَرِضْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَمَرِضَ حتى وَقَعَ الطَّلَاقُ عليها يَصِيرُ فَارًّا عن الْمِيرَاثِ حتى تَرِثَهُ الْمَرْأَةُ وَإِنْ كان التَّعْلِيقُ في حَالَةِ الصِّحَّةِ لَمَا قُلْنَا
كَذَا هذا
وَلَوْ أَخْبَرَ الْمَوْلَى إنْسَانٌ أَنَّ عَبْدَهُ قد جَنَى فَأَعْتَقَهُ فَإِنْ صَدَّقَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَذَّبَهُ فَأَعْتَقَهُ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ما لم يَكُنْ الْمُخْبِرَ رَجُلَانِ أو رَجُلٌ
____________________

(7/264)


وَاحِدٌ عَدْلٌ وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ في الْمُخْبِرِ وَلَا عَدَالَتُهُ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ الْوَكَالَةِ
وَلَوْ كَاتَبَهُ وهو عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا اخْتِيَارًا على التَّوَقُّفِ لِفَوَاتِ الدَّفْعِ في الْحَالِ على التَّوَقُّفِ فَإِنْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَعَتَقَ تَقَرَّرَ الِاخْتِيَارُ وَإِنْ عَجَزَ وَرُدَّ في الرِّقِّ يُنْظَرُ في ذلك إنْ خُوصِمَ قبل أَنْ يَعْجِزَ فَقَضَى بِالدِّيَةِ ثُمَّ عَجَزَ لَا يَرْتَفِعُ الْقَضَاءُ لِأَنَّ الدِّيَةَ كانت وَجَبَتْ بِالْكِتَابَةِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ وَتَقَرَّرَ الْوُجُوبُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ وَإِنْ لم يُخَاصَمْ حتى عَجَزَ كان لِلْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَهُ لِأَنَّ الدَّفْعَ كان لم يَثْبُتْ على الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَعْجِزَ فَإِنْ عَجَزَ جُعِلَ كَأَنَّ الْكِتَابَةَ لم تَكُنْ فَكَانَ له أَنْ يَدْفَعَهُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَصِيرُ مُخْتَارًا بِنَفْسِ الْكِتَابَةِ لِتَعَذُّرِ الدَّفْعِ بِنَفْسِهَا لِزَوَالِ يَدِهِ عنه ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ وهو الْعَجْزُ وَلَوْ كَاتَبَهُ كِتَابَةً فَاسِدَةً كان ذلك اخْتِيَارًا منه بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا بِدُونِ التَّسْلِيمِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الْفَاسِدَةَ وَهِيَ تَعَلُّقُ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ تَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ لَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ بَلْ بِوَاسِطَةِ التَّسْلِيمِ
وَأَمَّا الْإِجَارَةُ وَالرَّهْنُ وَالتَّزْوِيجُ بِأَنْ زَوَّجَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ امْرَأَةً أو زَوَّجَ الْأَمَةَ الْجَانِيَةَ إنْسَانًا فَهَلْ يَكُونُ اخْتِيَارًا ذُكِرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا لِأَنَّ الدَّفْعَ لم يَفُتْ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَائِمٌ فَكَانَ الدَّفْعُ مُمْكِنًا في الْجُمْلَةِ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَكُونُ اخْتِيَارًا لِأَنَّ الدَّفْعَ لِلْحَالِ مُتَعَذِّرٌ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ
وَالتَّزْوِيجُ تَعْيِيبٌ فَأَشْبَهَ التَّعْيِيبَ حَقِيقَةً وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا كَذَا ذُكِرَ في الْأَصْلِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِهِ لِغَيْرِهِ لَا يُفَوِّتُ الدَّفْعَ لِأَنَّ الْمُقِرَّ مُخَاطَبٌ بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يَكُونُ مُخْتَارًا لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِهِ لِغَيْرِهِ في مَعْنَى التَّمْلِيكِ منه
إذْ الْعَبْدُ مِلْكُهُ من حَيْثُ الظَّاهِرُ لِوُجُودِ دَلِيلِ الْمِلِكِ وهو الْيَدُ فإذا اقر بِهِ لِغَيْرِهِ فَكَأَنَّهُ مَلَكَهُ منه
وَلَوْ قَتَلَهُ الْمَوْلَى صَارَ مُخْتَارًا لِأَنَّهُ فَوَّتَ الدَّفْعَ بِالْقَتْلِ وَلَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ فَإِنْ كان عَمْدًا بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ وللمولي أَنْ يَقْتُلَهُ قِصَاصًا لِأَنَّهُ فَاتَ مَحَلُّ الدَّفْعِ لَا إلَى خَلَفٍ هو مَالٌ فَتَبْطُلَ الْجِنَايَةُ وَإِنْ كان خَطَأً يَأْخُذُ الْمَوْلَى الْقِيمَةَ وَيَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَلَا يُخَيَّرُ الْمَوْلَى في الْقِيمَةِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَوْ لم يَقْتُلْهُ الْمَوْلَى وَلَكِنْ عَيَّبَهُ بِأَنْ قَطَعَ يَدَهُ أو فَقَأَ عَيْنَهُ أو جَرَحَهُ جِرَاحَةً أو ضَرَبَهُ ضَرْبًا أَثَّرَ فيه وَنَقَّصَهُ وهو عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِأَنَّهُ بِالنُّقْصَانِ حَبَسَ عن الْمَجْنِيِّ عليه جزأ من الْعَبْدِ وَحَبْسُ الْكُلِّ دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ إمْسَاكِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ فَكَذَا حَبْسُ الْجُزْءِ وَلِأَنَّ حُكْمَ الْجُزْءِ حُكْمُ الْكُلِّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ ضَرَبَ الْمَوْلَى عَيْنَهُ فَابْيَضَّتْ وهو عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ حتى جُعِلَ مُخْتَارًا ثُمَّ ذَهَبَ الْبَيَاضُ فَإِنْ ذَهَبَ قبل أَنْ يُخَاصَمَ فيه بَطُلَ الِاخْتِيَارُ وَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ لِأَنَّهُ إنَّمَا جُعِلَ مُخْتَارًا لِأَجْلِ النُّقْصَانِ وقد زَالَ فَجُعِلَ كَأَنَّ ذلك لم يَكُنْ وَإِنْ خُوصِمَ في حَالِ الْبَيَاضِ فَضَمَّنَهُ الْقَاضِي الْقِيمَةَ ثُمَّ زَالَ الْبَيَاضُ فَقَضَاءُ الْقَاضِيَ نَافِذٌ لَا يُرَدُّ وَلَا يَبْطُلُ اخْتِيَارُهُ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ وَقَعَ صَحِيحًا وَوَجَبَ الدَّيْنُ وقد اسْتَقَرَّ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ وَإِنْ اسْتَخْدَمَهُ وهو عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُ الدَّفْعُ بِالِاسْتِخْدَامِ لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَكَذَا الِاسْتِخْدَامُ لَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ وَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا على إمْسَاكِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ فَإِنْ عَطِبَ في الْخِدْمَةِ فَلَا ضَمَانَ عليه وَبَطَلَ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ الاسخدام ( ( ( الاستخدام ) ) ) ليس بِاخْتِيَارٍ لِمَا بَيَّنَّا ولم يُوجَدْ منه تَصَرُّفٌ آخَرُ يَدُلُّ على الِاخْتِيَارِ فَصَارَ كَأَنَّهُ عَطِبَ قبل الِاسْتِخْدَامِ
وَلَوْ كان الْجَانِي أَمَةً فَوَطِئَهَا الْمَوْلَى فَإِنْ كانت بِكْرًا فَقَدْ صَارَ مُخْتَارًا لِأَنَّهُ فَوَّتَ جزأ منها حَقِيقَةً بِإِزَالَةِ الْبَكَارَةِ وَهِيَ إزَالَةُ الْعُذْرَةِ وَإِنْ كانت ثَيِّبًا فَإِنْ عَلِقَتْ منه صَارَ مُخْتَارًا وَإِنْ لم تَعْلَقْ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَصِيرُ مُخْتَارًا سَوَاءٌ عَلِقَتْ منه أو لم تَعْلَقْ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ لَا بُدَّ له من الْمِلْكِ إمَّا مِلْكُ النِّكَاحِ أو مِلْكُ الْيَمِينِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا مِلْكُ النِّكَاحِ فَتَعَيَّنَ مِلْكُ الْيَمِينِ لِثُبُوتِ الحال ( ( ( الحل ) ) ) فَكَانَ إقْدَامُهُ على الْوَطْءِ دَلِيلًا على إمْسَاكِهَا لِنَفْسِهِ فَكَانَ دَلِيلَ الِاخْتِيَارِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوَطْءَ ليس إلَّا اسْتِيفَاءَ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الْعَيْنِ حَقِيقَةً لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ لَا جزأ من الْعَيْنِ حَقِيقَةً إلَّا أنها أُلْحِقَتْ بِالْأَجْزَاءِ وَقُدِّرَ النُّقْصَانُ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ في غَيْرِ الْمِلْكِ إظْهَارًا لِخَطَرِ الْبُضْعِ وَالِاسْتِيفَاءُ هَهُنَا حَصَلَ في الْمِلْكِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِلْحَاقِ فَانْعَدَمَ النُّقْصَانُ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا وَلَوْ أَذِنَ له في التِّجَارَةِ فَرَكِبَهُ دَيْنٌ لم يَصِرْ الْمَوْلَى مُخْتَارًا وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ
أَمَّا عَدَمُ صَيْرُورَتِهِ مُخْتَارًا فَلِأَنَّ الْإِذْنَ لَا يُوجِبُ تَعَذُّرَ الدَّفْعِ لَا قبل لُحُوقِ الدَّيْنِ وَلَا بَعْدَهُ
وَأَمَّا لُزُومُ
____________________

(7/265)


الْقِيمَةِ فَلِأَنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ يُوجِبُ نُقْصَانًا فيه بِسَبَبٍ كان من جِهَةِ الْمَوْلَى وهو الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ فَتَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ حين لو رضي وَلِيُّ الْجِنَايَةِ بِقَبُولِهِ مع النُّقْصَانِ لَا شَيْءَ على الْمَوْلَى ثُمَّ جَمِيعُ ما يَصِيرُ بِهِ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ مِمَّا ذَكَرْنَا إذَا فَعَلَهُ وهو عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ
فَإِنْ كان لم يَعْلَمْ لم يَكُنْ مُخْتَارًا سَوَاءٌ كانت الْجِنَايَةُ على النَّفْسِ أو على ما دُونَ النَّفْسِ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ هَهُنَا اخْتِيَارُ الْإِيثَارِ وَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْعِلْمِ بِمَا يَخْتَارُهُ وهو الْفِدَاءُ عن الْجِنَايَةِ وَاخْتِيَارُ الْفِدَاءِ عن الْجِنَايَةِ اخْتِيَارُ الْإِيثَارَ وَاخْتِيَارُ الْإِيثَارِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ مُحَالٌ
ثُمَّ الْجِنَايَةُ إنْ كانت على النَّفْسِ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ من قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ الدِّيَةِ وَإِنْ كانت على ما دُونَ النَّفْسِ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ الْأَرْشِ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الدَّفْعَ الْمُسْتَحَقَّ من غَيْرِ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ فَيَضْمَنُ الْقِيمَةَ
وَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا بَاتًّا وهو لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فلم يُخَاصَمْ فيها حتى رُدَّ الْعَبْدُ إلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ أو شَرْطٍ يُقَالُ له ادْفَعْ أو افْدِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَعْلَمْ بِالْجِنَايَةِ لم يَصِرْ مُخْتَارًا لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ كان بَعْدَ الْعِلْمِ فَعَلَيْهِ الْفِدَاءُ لِأَنَّهُ إذَا بَاعَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ فَقَدْ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِتَعَذُّرِ الدَّفْعِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ فَلَا يَعُودُ بِالرَّدِّ وَهَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّ الرَّدَّ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ من الْأَصْلِ وَسَيَتَّضِحُ الْمَعْنَى فيه إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ قَطَعَ الْعَبْدُ يَدَ إنْسَانٍ أو جَرَحَهُ جِرَاحَةً فَخُيِّرَ فيه فَاخْتَارَ الدَّفْعَ ثُمَّ مَاتَ من ذلك فَالدَّفْعُ على حَالِهِ لَا يَبْطُلُ لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّفْعِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ في الْحَالَيْنِ جميعا وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ ثُمَّ مَاتَ يَبْطُلُ الِاخْتِيَارُ ثُمَّ يُخَيِّرُ ثَانِيًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ اسْتِحْسَانًا وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبْطُلَ وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَخِيرُ ولم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلُهُ مِثْلَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ
وَلَوْ كان اخْتَارَ الْفِدَاءَ بِالْإِعْتَاقِ بِأَنْ عَتَقَ الْعَبْدَ لِلْحَالِ حتى صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عليه لَا يَبْطُلُ الِاخْتِيَارُ وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الدِّيَةِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَوْلَى لَمَّا اخْتَارَ الْفِدَاءَ عن أَصْلِ الْجِنَايَةِ فَقَدْ صَحَّ اخْتِيَارُهُ وَلَزِمَهُ مُوجَبُهَا وَبِالسِّرَايَةِ لم يَتَغَيَّرْ أَصْلُ الْجِنَايَةِ وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ وَصْفُهَا وَالْوَصْفُ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فَكَانَ اخْتِيَارُ الْفِدَاءِ عن الْمَتْبُوعِ اخْتِيَارًا عن التَّابِعِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ اخْتِيَارَ الْفِدَاءَ عن الْقَطْعِ لَمَا سَرَى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ فَقَدْ صَارَ قَتْلًا وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ فَاخْتِيَارُ الْفِدَاءِ عن أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا عن الْآخَرِ فَيُخَيَّرُ اخْتِيَارًا مُسْتَقْبَلًا بِخِلَافِ ما إذَا كان الِاخْتِيَارُ بِالْإِعْتَاقِ لِأَنَّ إقْدَامَهُ على الْإِعْتَاقِ مع عِلْمِهِ أَنَّهُ رُبَّمَا يَسْرِي إلَى النَّفْسِ فَيَلْزَمُهُ كُلُّ الدِّيَةِ ولايمكنه الدَّفْعُ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ دَلَالَةُ اخْتِيَارِ الْكُلِّ وَالرِّضَا بِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى لم يُوجَدْ هَهُنَا لِأَنَّهُ لم يَرْضَ بِالزِّيَادَةِ على ما كان ثَابِتًا وَقْتَ الِاخْتِيَارِ وَالْعَبْدُ لِلْحَالِ مَحَلٌّ لِلدَّفْعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا صِفَةُ الْفِدَاءِ الْوَاجِبِ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ فَهُوَ أنها تَجِبُ في مَالِهِ حَالًا لَا مُؤَجَّلًا لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ هو وُجُوبُ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءُ كَالْخَلَفِ عنه فَيَكُونُ على نَعْتِ الْأَصْلِ ثُمَّ الدَّفْعُ يَجِبُ حَالًا في مَالِهِ لَا مُؤَجَّلًا فَكَذَلِكَ الْفِدَاءُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ
هذا إذَا كان الْعَبْدُ الْقَاتِلُ قِنًّا فَإِنْ كان مُدَبَّرًا فَجِنَايَتُهُ على مَوْلَاهُ إذَا ظَهَرَتْ فَيَقَعُ الْكَلَامُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ ما تَظْهَرُ بِهِ جِنَايَتُهُ وفي بَيَانِ أَصْلِ الْوَاجِبِ وَمَنْ عليه وفي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ وفي بَيَانِ صِفَتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَجِنَايَتَهُ تَظْهَرُ بِمَا تَظْهَرُ بِهِ جِنَايَةُ الْقِنِّ وقد ذَكَرْنَاهُ وَلَا تَظْهَرُ بِإِقْرَارِهِ حتى لَا يَلْزَمَ الْمَوْلَى شَيْءٌ وَلَا يَتْبَعُ الْمُدَبَّرَ بَعْدَ الْعَتَاقِ كَجِنَايَةِ الْقِنِّ لِأَنَّ هذا إقْرَارٌ على الْمَوْلَى فَلَا يَصِحُّ
وَأَمَّا بَيَانُ أَصْلِ الْوَاجِبِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ فَأَصْلُ الْوَاجِبِ بها قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ على الْمَوْلَى لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَضَيَا بِجِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ على مَوْلَاهُ بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ منهم فَيَكُونُ إجْمَاعًا من الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِمُقَابَلَةِ الْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في جِنَايَةِ الْعَبْدِ هو وُجُوبُ الدَّفْعِ على الْمَوْلَى وَبِالتَّدْبِيرِ مَنْعٌ من الدَّفْعِ من غَيْرِ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ وَالْمَنْعُ من الدَّفْعِ من غَيْرِ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ يُوجِبُ الْقِيمَةَ على الْمَوْلَى كما لو دَبَّرَ الْقِنَّ وهو لَا يَعْلَمُ الْجِنَايَةَ
وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ الْأَقَلُّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ الدِّيَةِ لِأَنَّ الدِّيَةَ إنْ كانت هِيَ الْأَقَلُّ فَلَا حَقَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ في الزِّيَادَةِ وَإِنْ كانت الْقِيمَةُ أَقَلَّ فلم يُمْنَعْ الْمَوْلَى بِالتَّدْبِيرِ إلَّا الرَّقَبَةَ فَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَقَلُّ من الدِّيَةِ فَعَلَيْهِ قَدْرُ قِيمَتِهِ لِمَا قلنا وَلَا يُخَيَّرُ بين قِيمَتِهِ وَبَيْنَ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ يُخَيَّرُ بين الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ وَأَنَّهُ خَارِجٌ عن قَضِيَّةِ الْحِكْمَةِ وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَكْثَرَ من الدِّيَةِ أو مِثْلَ
____________________

(7/266)


الدِّيَةِ فَعَلَيْهِ قَدْرُ الدِّيَةِ وَيُنْقَصُ منها عَشَرَةُ دَرَاهِمَ لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ في الْجِنَايَةِ لَا تُزَادُ على دِيَةِ الْحُرِّ بَلْ يُنْقَصُ منها عَشَرَةٌ وَسَوَاءٌ قَلَّتْ جِنَايَتُهُ أو كَثُرَتْ لَا يَلْزَمُ الْمَوْلَى من جِنَايَاتِهِ أَكْثَرُ من قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هو الْمَنْعُ عِنْدَ الْجِنَايَةِ وَالْمَنْعُ مَنْعٌ وَاحِدٌ فَكَانَ الْوَاجِبُ قِيمَةً وَاحِدَةً وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ في جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْنِ في جِنَايَةِ الْقِنِّ قَلَّتْ جِنَايَتُهُ أو كَثُرَتْ وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ مع الدَّفْعِ كَذَلِكَ هَهُنَا وَتُقَسَّمُ قِيمَتُهُ بين أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَاتِ على قَدْرِ جِنَايَاتِهِمْ يَسْتَوِي فيها الْأَوَّلُ وَالثَّانِي لِأَنَّ الْقِسْمَةَ في دَفْعِ الْعَيْنِ هَكَذَا فَكَذَلِكَ قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ وَسَوَاءٌ قَبَضَ ما على الْمَوْلَى أو لم يَقْبِضْ يَشْتَرِكُونَ فيه فَيَتَضَارَبُونَ بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم يوم الْجِنَايَةِ عليه لَا يوم التَّدْبِيرِ
وَإِنْ كان سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ هو الْمَنْعُ وهو التَّدْبِيرُ السَّابِقُ لَكِنْ إنَّمَا يَصِيرُ ذلك سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ وهو الْجِنَايَةُ فَكَأَنَّهُ أَنْشَأَ التَّدْبِيرَ عِنْدَهُمَا
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ في مَسَائِلَ إذَا مَاتَ الْمُدَبَّرُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ لم تَبْطُلْ على الْمَوْلَى الْقِيمَةَ لِأَنَّ حُكْمَ جِنَايَتِهِ يَلْزَمُ مَوْلَاهُ فَيَسْتَوِي فيه بَقَاءُ الْمُدَبَّرِ وَهَلَاكُهُ بِخِلَافِ الْقِنِّ إذَا جَنَى ثُمَّ هَلَكَ أَنَّهُ يَبْطُلُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ أَصْلًا لِأَنَّ حُكْمَ جِنَايَتِهِ وُجُوبُ الدَّفْعِ وَبِالْمَوْتِ خَرَجَ عن احْتِمَالِ الدَّفْعِ
وَلَوْ انْتَقَصَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ بِأَنْ جَنَى وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ ثُمَّ عَمِيَ لم يُحَطُّ عن الْمَوْلَى شَيْءٌ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ تَامَّةٌ لِأَنَّ نُقْصَانَهُ هَلَاكُ جُزْءٍ منه ثُمَّ هَلَاكُ كُلِّهِ لَا يُسْقِطُ عنه شيئا فَكَذَا هَلَاكُ الْبَعْضِ
وَلَوْ قَتَلَ إنْسَانًا ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ لَا يَلْزَمُ الْمَوْلَى إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ لو جَنَى جِنَايَاتٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى لم يَلْزَمْهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ هو الْمَنْعُ وَأَنَّهُ مُتَّحِدٌ فَكَانَ وُجُودُ الْإِعْتَاقِ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ
وَلَوْ قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً ثُمَّ دَفَعَ الْمَوْلَى الْقِيمَةَ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ فَالدَّفْعُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كان بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنْ كان بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا سَبِيل لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي على الْمَوْلَى لِأَنَّهُ كان مَجْبُورًا على الدَّفْعِ وَالْمَجْبُورُ مَعْذُورٌ وَلَهُ أَنْ يَتْبَعَ وَلِيَّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ قَبَضَ نِصْفَ الْقِيمَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَإِنْ كانت الْجِنَايَتَانِ مُخْتَلِفَتَيْنِ بأن كانت إحْدَاهُمَا نَفْسًا وَالْأُخْرَى ما دُونَ النَّفْسِ فَالثَّانِي يَتْبَعُ الْأَوَّلَ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ من الْقِيمَةِ
وَإِنْ كان الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَوَلِيُّ الْقَتِيلِ الثَّانِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمَوْلَى نِصْفَ الْقِيمَةِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ وَلِيَّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْمَوْلَى مُتَعَدٍّ في دَفْعِ الْعَبْدِ وَالْقَابِضَ مُتَعَدٍّ في قَبْضِهِ فَإِنْ ضَمِنَ الْمَوْلَى فإنه يَرْجِعُ على الْقَابِضِ وَإِنْ ضَمِنَ الْقَابِضُ لَا يَرْجِعُ على الْمَوْلَى
وَلَوْ قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً فَدَفَعَ الْقِيمَةَ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ وَالْأَمْرُ فيه على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا
وَعِنْدَهُمَا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي أَنْ يُضَمِّنَ الْمَوْلَى وَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ وَلِيَّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ كان الدَّفْعُ بِقَضَاءٍ أو بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَهُمَا فَرَّقَا بين الْفَصْلَيْنِ وأبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا
وَجْهُ الْفَرْقِ لَهُمَا أَنَّ الْمَوْلَى هَهُنَا ليس بِمُتَعَدٍّ في حَقِّ وَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الثَّانِيَةَ كانت مُنْعَدِمَةً وَقْتَ الدَّفْعِ فَلَا سَبِيلَ إلَى تَضْمِينِهِ وفي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ كانت الْجِنَايَتَانِ مَوْجُودَتَيْنِ وَقْتَ الدَّفْعِ فَكَانَ الدَّفْعُ منه إلَى الْأَوَّلِ تَعَدِّيًا فَيُضَمَّنُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ على الْمَوْلَى هو الْمَنْعُ وَالْمَنْعُ مَنْعٌ وَاحِدٌ في حَقِّ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي جميعا فَصَارَ كَأَنَّ الْجِنَايَاتِ كُلَّهَا مَوْجُودَةٌ وَقْتَ الدَّفْعِ فَيَصِيرُ الْمَوْلَى مُتَعَدِّيًا في الدَّفْعِ فَكَانَ له تَضْمِينُهُ بِخِلَافِ ما إذَا كان الدَّفْعُ بِقَضَاءٍ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي صَيَّرَهُ مَجْبُورًا في الدَّفْعِ هذا إذَا كانت قِيمَتُهُ وَقْتَ الْجِنَايَتَيْنِ على السَّوَاءِ فَأَمَّا إذَا كانت مُخْتَلِفَةً بِأَنْ قَتَلَ رَجُلًا وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ ثُمَّ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ فَصَارَتْ أَلْفَيْنِ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ يَضْمَنُ الْمَوْلَى لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي أَلْفًا آخَرَ وَلَا حَقَّ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ في الزِّيَادَةِ لِأَنَّهَا لم تَكُنْ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْجِنَايَةِ على الْأَوَّلِ فَيُسَلِّمُ الزِّيَادَةَ إلَى الثَّانِي وَيُقَسِّمُ تِلْكَ الْقِيمَةَ وَهِيَ الْأَلْفُ بين أَوْلِيَاءِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي يَتَضَارَبُونَ فيها فَيَضْرِبُ الْأَوَّلُ فيها بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَالثَّانِيَ بِتِسْعَةِ آلَافٍ أنه قد وَصَلَ إلَيْهِ أَلْفٌ من عَشَرَةِ آلَافٍ فَكَانَتْ قِسْمَةُ تِلْكَ الْأَلْفِ على تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا عَشَرَةُ أَسْهُمٍ لِلْأَوَّلِ وَتِسْعَةُ أَسْهُمٍ لِلثَّانِي وَلَوْ كانت قِيمَتُهُ وَقْتَ قَتْلِ الْأَوَّلِ أَلْفَيْنِ وَوَقْتَ قَتْلِ الثَّانِي أَلْفًا لَا يَضْمَنُ الْمَوْلَى شيئا وَالْأَلْفُ تَكُونُ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ سَالِمًا وَالْأَلْفُ لِلْآخَرِ تُقَسَّمُ بَيْنهمَا على تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا عَشَرَةُ أَسْهُمٍ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي وَتِسْعَةُ أَسْهُمٍ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ وَلَوْ قَتَلَ إنْسَانًا
____________________

(7/267)


وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ ثُمَّ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ وَصَارَتْ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ فَزِيَادَةُ الْخَمْسمِائَةِ سَالِمَةٌ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي لَا حَقَّ فيها لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا لم تَكُنْ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَالْأَلْفُ تَكُونُ بين وَلِيِّ الْقَتِيلَيْنِ يَتَضَارَبُونَ فيها فَيَضْرِبُ وَلِيُّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ بِتَمَامِ الدِّيَةِ عَشَرَةَ آلَافٍ وَالثَّانِي بِتِسْعَةِ آلَافٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ من عَشَرَةِ آلَافٍ فَكَانَتْ قِسْمَةُ الْأَلْفِ بَيْنَهُمَا على تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا لِأَنَّا نَجْعَلُ كُلَّ خَمْسِمِائَةٍ سَهْمًا تِسْعَةُ عَشَرَ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي وَعِشْرُونَ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ فَهِيَ أنها تَجِبُ في مَالِ الْمَوْلَى حَالًا لِأَنَّهُ ضَمَانُ الْمَنْعِ من الدَّفْعِ من غَيْرِ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْقِيمَةَ في مَالِ الْمَوْلَى حَالًا
كما لو دَبَّرَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ وهو لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ وَهَذَا لِأَنَّ ضَمَانَ الْمَنْعِ كَالْخَلَفِ عن ضَمَانِ الدَّفْعِ وَالدَّفْعُ يَجِبُ من مَالِهِ حَالًا كَذَلِكَ هَهُنَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ
وَإِنْ كان الْقَاتِلُ أُمَّ وَلَدٍ فَأُمُّ الْوَلَدِ في جَمِيعِ ما وَصَفْنَا وَالْمُدَبَّرُ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْوَاجِبَ في جِنَايَتِهِمَا ضَمَانُ الْمَنْعِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ جِهَةَ الْمَنْعِ تَخْتَلِفُ فَالْمَنْعُ في أُمِّ الْوَلَدِ بِالِاسْتِيلَادِ وفي الْمُدَبَّرِ بِالتَّدْبِيرِ لِذَلِكَ اسْتَوَيَا في حُكْمِ الْجِنَايَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَإِنْ كان الْقَاتِلُ مُكَاتَبًا فَقَتَلَ أَجْنَبِيًّا خَطَأً فَجِنَايَتُهُ على نَفْسِهِ إذَا ظَهَرَتْ لَا على مَوْلَاهُ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِيمَا تَظْهَرُ بِهِ جِنَايَتُهُ وفي بَيَانِ أَصْلِ الْوَاجِبِ وَمَنْ عليه وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ وفي بَيَانِ صِفَتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَجِنَايَتُهُ تَظْهَرُ بِمَا تَظْهَرُ بِهِ جِنَايَةُ الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَتَظْهَرُ أَيْضًا بِإِقْرَارِهِ بِالْجِنَايَةِ بِخِلَافِ جِنَايَتِهِمْ لِأَنَّ ذلك إقْرَارٌ على الْمَوْلَى فلم يَصِحَّ أَصْلًا وَإِقْرَارُ الْمُكَاتَبِ على نَفْسِهِ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ من الْمَوْلَى فَيَجُوزُ إقْرَارُهُ
وَكَذَا يَجُوزُ صُلْحُهُ من الْجِنَايَةِ على مَالٍ لِأَنَّهُ صَالَحَ عن حَقٍّ ثَابِتٍ له ظَاهِرًا وَلَوْ أَقَرَّ وَصَالَحَ ثُمَّ عَجَزَ فَحُكْمُهُ نَذْكُرهُ بَعْدَ هذا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا أَصْلُ الْوَاجِبِ بِجِنَايَتِهِ وَمَنْ عليه الْوَاجِبُ فَالْوَاجِبُ هو قِيمَةُ نَفْسِهِ عليه لَا على مَوْلَاهُ
لِأَنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ لِنَفْسِهِ لَا لِمَوْلَاهُ فَكَانَ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ عليه لَا على مَوْلَاهُ لِيَكُونَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ بِخِلَافِ الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الدَّفْعِ حَصَلَ بِشَيْءٍ من قِبَلِهِ وهو قَبُولُ الْكِتَابَةِ فَكَانَتْ قِيمَتُهُ عليه
بِخِلَافِ الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْوُجُوبِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه
قال عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ إنَّ قِيمَتَهُ تَصِيرُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ على طَرِيقِ الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ
وَفَائِدَةُ هذا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا جَنَى ثُمَّ عَجَزَ عَقِيبَ الْجِنَايَةِ بِلَا فَصْلٍ أَنَّهُ يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُبَاعُ وَيُدْفَعُ ثَمَنُهُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ
وَكَذَلِكَ إذَا جَنَى ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى عَقِيبَ الْأُولَى بِلَا فَصْلٍ لَا يَجِبُ عليه إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجِبُ عليه قِيمَةٌ أُخْرَى عَقِيبَ الْأُولَى
وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا جَنَى جِنَايَةً وَقَضَى الْقَاضِي عليه بِالْقِيمَةِ ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ تَجِبُ عليه قِيمَةٌ أُخْرَى وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى بِالْقِيمَةِ في الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَقَدْ صَارَتْ الْقِيمَةُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ حَتْمًا من غَيْرِ تَرَدُّدٍ وَالْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ صَادَفَتْ رَقَبَةً فَارِغَةً فَتُقْضَى بِقِيمَةٍ أُخْرَى وَأَمَّا قبل الْقَضَاءِ فَالرَّقَبَةُ مَشْغُولَةٌ بِالْأُولَى وَالْمَشْغُولُ لَا يُشْغَلُ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْقِيمَةِ على الْمُكَاتَبِ هو امْتِنَاعُ الدَّفْعِ لِحَقٍّ ثَبَتَ لِلْمُكَاتَبِ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الدَّفْعِ إذَا كان لِحَقِّهِ كانت الْقِيمَةُ عليه إذْ لَا خَرَاجَ مع الضَّمَانِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ على قَضَاءِ الْقَاضِي
وَلَنَا أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ في جِنَايَةِ الْعَبْدِ هو وُجُوبُ الدَّفْعِ وَامْتِنَاعُهُ هَهُنَا لِعَارِضٍ لم يَقَعْ الْيَأْسُ عن زَوَالِهِ وهو الْكِتَابَةُ لِاحْتِمَالِ الْعَجْزِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَعْجِزُ فَيُرَدُّ في الرِّقِّ فَيَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ صَدَرَتْ من الْقِنِّ فَلَا يُمْكِنُ قَطْعُ الْقَوْلِ بِصَيْرُورَةِ قِيمَتِهِ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ إلَّا من حَيْثُ الظَّاهِرُ وَالْأَمْرُ في الْحَقِيقَةِ على التَّوَقُّفِ وَإِنَّمَا يَرْتَفِعُ التَّوَقُّفُ بِإِحْدَى مَعَانٍ إمَّا بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ لِأَنَّ الْأَدَاءَ كان وَاجِبًا عليه فإذا أَدَّى فَقَدْ وَصَلَ الْحَقُّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ فَلَا يُسْتَرَدُّ منه أو بِالْعِتْقِ
إمَّا بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَإِمَّا بِالْإِعْتَاقِ الْمُبْتَدَأِ وَبِالْمَوْتِ عن وَفَاءٍ أو وَلَدٍ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ في آخِرِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ وإذا عَتَقَ يَتَقَرَّرُ حَقُّهُ في كَسْبِهِ وَيَقَعُ الْيَأْسُ عن الدَّفْعِ فَتَتَقَرَّرُ الْقِيمَةُ
وإذا تَرَكَ وَلَدًا ولم يَتْرُكْ وَفَاءً فَعَقْدُ الْكِتَابَةِ يَبْقَى بِبَقَاءِ الْوَلَدِ فَيَسْعَى على نُجُومِ أبيه فَيُؤَدِّي فَيَعْتِقُ وَيَعْتِقُ أَبُوهُ وَيَسْتَنِدُ عِتْقُهُ إلَى آخِرِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ أو بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ لِأَنَّهَا كانت وَاجِبَةً وَتَقَرَّرَ الْوُجُوبُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ أو بِالصُّلْحِ على الْقِيمَةِ لِأَنَّ الصُّلْحَ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ
هذا إذَا ظَهَرَتْ جِنَايَةٌ بِالْمُعَايَنَةِ أو بِالْبَيِّنَةِ فَأَمَّا إذَا ظَهَرَتْ بِإِقْرَارِهِ فَإِنْ كان قد أَدَّى الْقِيمَةَ ثُمَّ عَجَزَ لم يَبْطُلْ إقْرَارُهُ
____________________

(7/268)


وَلَا يَسْتَرِدُّ الْقِيمَةَ لِأَنَّهُ وَصَّلَ الْحَقَّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ فَلَا يُسْتَرَدُّ
وَكَذَا إذَا لم يُؤَدِّ وَلَكِنَّهُ عَتَقَ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ أو بِإِعْتَاقِ مُبْتَدَأٍ أو بِمَوْتِ الْمُكَاتِبِ عن وَفَاءٍ أو وَلَدٍ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ لم يَعْتِقْ وَلَكِنَّهُ عَجَزَ فَإِنْ كان عَجْزُهُ قبل قَضَاءِ الْقَاضِي عليه بِالْقِيمَةِ فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ في حَقِّ الْمَوْلَى بِلَا خِلَافٍ حتى لَا يُؤْخَذَ بِهِ لِلْحَالِ وَلَكِنْ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ لِأَنَّهُ لَمَّا عَجَزَ قبل الْقَضَاءِ فَقَدْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ من الْأَصْلِ وَعَادَ قِنًّا كما كان فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَقَرَّ على مَوْلَاهُ وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ على الْمَوْلَى بَاطِلٌ إلَّا أَنَّهُ يُتْبَعُ بَعْدَ الْعَتَاقِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ في حَقِّ نَفْسِهِ صَحِيحُ وَإِنْ كان بَعْدَ ما قَضَى الْقَاضِي عليه بِالْقِيمَةِ بَطَلَ إقْرَارَهُ في حَقِّ الْمَوْلَى وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ لِلْحَالِ عِنْدَ أبي حَنِيفَة عليه الرَّحْمَةُ وَيُتْبَعُ بَعْدَ الْعَتَاقِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْطُلُ إقْرَارَهُ في حَقِّ الْمَوْلَى وَيُؤْخَذُ بِهِ لِلْحَالِ وَيُبَاعُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن الْقِيمَةَ قد وَجَبَتْ عليه بِإِقْرَارِهِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ لِصِحَّةِ إقْرَارِهِ ظَاهِرًا أو بِقَضَاءِ الْقَاضِي تَقَرَّرَ الْوُجُوبُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ بِالْعَجْزِ كما لو أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ عَجَزَ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ لم تَكُنْ لِمَكَانِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْكِتَابَةِ ما كان من التِّجَارَةِ وَالْإِقْرَارُ بِالْجِنَايَةِ ليس من التِّجَارَةِ وَإِنَّمَا كانت لِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ من الْمَوْلَى فإذا عَجَزَ فَقَدْ صَارَ الْمَوْلَى أَحَقَّ بأكسابه فَبَطَلَ إقْرَارُهُ
وَلَوْ كان مَكَانَ الْإِقْرَارِ صُلْحٌ بِأَنْ جَنَى الْمُكَاتَبِ جِنَايَةً خَطَأً فَصَالَحَ منها على مَالٍ جَازَ صُلْحَهُ على ما ذَكَرْنَا ثُمَّ إنْ كان قد أَدَّى بَدَلَ الصُّلْحِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ أو كان لم يُؤَدِّ لَكِنَّهُ عَتَقَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كان فَقَدْ تَقَرَّرَ الصُّلْحُ وَلَا يَبْطُلُ وَإِنْ كان لم يُؤَدَّ بَدَلَ الصُّلْحِ وَلَا عَتَقَ حتى عَجَزَ بَطَلَ الْمَالُ عنه في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَيُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْطُلُ وَيَصِيرُ دَيْنًا عليه وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا قَتَلَ الْمُكَاتَبُ إنْسَانًا عَمْدًا ثُمَّ صَالَحَ من دَمِ الْعَمْدِ على مَالٍ ثُمَّ عَجَزَ قبل أَدَاءِ بَدَلِ الصُّلْحِ أنه يَبْطُلُ الصُّلْحُ وَلَا يُؤْخَذُ لِلْحَالِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْطُلُ وَيُؤْخَذُ لِلْحَالِ
وَلَوْ كان وَلِيُّ الْقَتِيلِ اثْنَيْنِ فَصَالَحَ الْمُكَاتَبُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ سَقَطَ الْقِصَاصُ عنه وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى من صَالَحَهُ ما صَالَحَ عليه وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا فَيَغْرَمُ الْمُكَاتَبُ له الْأَقَلَّ من نِصْفِ قِيمَتِهِ وَمِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عليه في كل الْجِنَايَةِ الْأَقَلُّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ الدِّيَةِ فَالْوَاجِبُ في نِصْفِهَا الْأَقَلُّ من نِصْفِ قِيمَتِهِ وَمِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا لِلنِّصْفِ بِالْكُلِّ فَإِنْ عَجَزَ قبل الْأَدَاءِ فَنَصِيبُ الْمُصَالِحِ لَا يُؤْخَذُ لِلْحَالِ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بَعْدَ الْعَتَاقِ
وَأَمَّا نَصِيبُ الْآخَرِ فَيُقَالُ لِلْمَوْلَى ادْفَعْ نِصْفَ الْعَبْدِ أو افْدِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّ الصُّلْحَ قد بَطَلَ عِنْدَهُ وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَدْفَعُ نِصْفَ الْعَبْدِ أو يَفْدِيَ بِنِصْفِ الدِّيَةِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يُبَاعُ في حِصَّةِ الْمَصَالِحِ أو يَقْضِيَ عنه الْمَوْلَى
وَأَمَّا الْقِنُّ إذَا قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَصَالَحَ الْعَبْدُ أَحَدَهُمَا يَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا وَنَصِيبُ الْمُصَالِحِ يُؤْخَذُ بَعْدَ الْعَتَاقِ بِلَا خِلَافٍ وَأَمَّا غَيْرُ الْمَصَالِحِ فَيُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِدَفْعِ نِصْفِ الْعَبْدِ إلَيْهِ أو الْفِدَاءِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ
وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ قبل أَنْ يُؤْخَذَ شَيْءٌ من ذلك ولم يَتْرُكْ شيئا أَصْلًا أو لم يَتْرُكْ وَفَاءً بِالْكِتَابَةِ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ عَاجِزًا فَقَدْ مَاتَ قِنًّا وَالْقِنُّ إذَا جَنَى جِنَايَةً ثُمَّ مَاتَ تَبْطُلُ الْجِنَايَةُ أَصْلًا وَرَأْسَا وما تَرَكَهُ يَكُونُ لِلْوَلِيِّ إذَا مَاتَ عَبْدًا كان الْمَتْرُوكُ مَالَ الْمَوْلَى فَيَكُونَ له
وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ مَالًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَكِتَابَةٌ يُبْدَأُ بِدَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّ دَيْنَ الْمَوْلَى دَيْنٌ ضَعِيفٌ إذْ لَا يَجِبْ لِلْمَوْلَى على عَبْدِهِ دَيْنٌ فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالْأَقْوَى أَوْلَى
وَحُكِيَ عن قَتَادَةَ رضي اللَّهُ عنه قال قلت لِابْنِ الْمُسَيِّبِ إنَّ شُرَيْحًا يقول الْأَجْنَبِيُّ وَالْمَوْلَى يَتَحَاصَّانِ
فقال سَعِيدُ بن الْمُسَيِّبِ أَخْطَأَ شُرَيْحٌ وَإِنْ كان قَاضِيًا قَضَاءَ زَيْدِ بن ثَابِتٍ أَوْلَى
وكان زَيْدٌ يقول يُبْدَأُ بِدَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كان لَا يَخْفَى قَضَاؤُهُ على الصَّحَابَةِ ولم يُعْرَفْ له مُخَالِفٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا
وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ وَفَاءً بِالْكِتَابَةِ وَجِنَايَةً فَالْجِنَايَةُ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَقْوَى وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَكِتَابَةٌ وَجِنَايَةٌ فَإِنْ كان قضي عليه بِالْجِنَايَةِ فَصَاحِبُ الْجِنَايَةِ وَصَاحِبُ الدَّيْنِ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا قضى بها صَارَتْ دَيْنًا فَهُمَا دَيْنَانِ فَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا بِالْبِدَايَةِ بِهِ أَوْلَى من صَاحِبِهِ وَإِنْ كان لم يُقْضَ عليه بِالْجِنَايَةِ يُبْدَأُ بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّتِهِ وَدَيْنُ الْجِنَايَةِ لم يَتَعَلَّقْ بِذِمَّتِهِ بَعْدُ فَكَانَ الْأَوَّلُ آكَدَ وَأَقْوَى فَيُبْدَأُ بِهِ ويقضي الدَّيْنُ منه ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى ما بَقِيَ فَإِنْ كان بِهِ وَفَاءٌ بِالْكِتَابَةِ فَصَاحِبُ الْجِنَايَةِ أَوْلَى فَيُبْدَأُ بِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ بِهِ وَفَاءٌ بِالْكِتَابَةِ فما بَقِيَ يَكُونُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ يَمُوتُ قِنًّا على ما بَيَّنَّا وَهَذَا بِخِلَافِ ما قبل الْمَوْتِ أن الْمُكَاتَبَ يَبْدَأُ بِأَيِّ الدُّيُونِ شَاءَ إنْ شَاءَ بِدَيْنِ الْأَجْنَبِيّ وَإِنْ
____________________

(7/269)


شَاءَ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَإِنْ شَاءَ بِمَالِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي من كَسْبِهِ وَالتَّدْبِيرُ في أكسابه إلَيْهِ فَكَانَ له أَنْ يَبْدَأَ بِأَيِّ دُيُونِهِ شَاءَ
وَعَلَى هذا قالوا في الْمُكَاتَبِ إذَا مَاتَ فَتَرَكَ وَلَدًا أن وَلَدَهُ يَبْدَأُ من كَسْبِهِ بِأَيِّ الدُّيُونِ شَاءَ لِأَنَّهُ قام مَقَامَ الْمُكَاتَبِ فَتَدْبِيرُ كَسْبِهِ إلَيْهِ بِخِلَافِ ما إذَا مَاتَ ولم يَتْرُكْ وَلَدًا لِأَنَّ الْأَمْرَ في مَوْتِهِ إلَى الْقَاضِي فَيُبْدَأُ بِالْأَوْلَى فَالْأَوْلَى
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وولى الْجِنَايَةِ في قِيمَتِهِ وَقْتَ الْجِنَايَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ الْآخَرِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلِ يُنْظَرُ إلَى قِيمَتِهِ لِلْحَالِ لِأَنَّ الْحَالَ يَصْلُحُ حُكْمًا في الْمَاضِي فَيَحْكُمُ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَخِيرِ أَنَّ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ يَدَّعِي زِيَادَةَ الضَّمَانِ وهو يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا قَدْرُ الْوَاجِبِ بِجِنَايَتِهِ فَهُوَ الْأَقَلُّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ لِأَنَّ الْأَرْشَ إنْ كان أَقَلَّ فَلَا حَقَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ في الزِّيَادَةِ وَإِنْ كانت الْقِيمَةُ أَقَلَّ فلم يُوجَدْ من الْكَاتِبِ مَنْعُ الزِّيَادَةِ فَلَا تَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَقَلَّ من الدِّيَةِ وَجَبَتْ قِيمَتُهُ وَلَا يُخَيَّرُ وَإِنْ كانت أَكْثَرَ من الدِّيَةِ أو قَدْرَ الدِّيَةِ يَنْقُصُ من الدِّيَةِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَتَقَوَّمُ في الْجِنَايَةِ بِأَكْثَرَ من هذا الْقَدْرِ سَوَاءٌ كانت الْجِنَايَةُ منه أو عليه وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم الْجِنَايَةِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ كَالْبَدَلِ عن الدَّفْعِ وَالدَّفْعُ يَجِبُ عِنْدَ الْجِنَايَةِ وَكَذَا الْمَنْعُ بِالْكِتَابَةِ السَّابِقَةِ لِحَقِّ الْمُكَاتَبِ إنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ فَيُعْتَبَرُ الْحُكْمُ وهو وُجُوبِ الْقِيمَةِ عِنْدَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فَهِيَ أَنْ يَجِبَ عليه حَالًّا لَا على الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلًا لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ في جِنَايَةِ الْعَبْدِ هو الدَّفْعُ وَهَذَا كَالْخَلْفِ عنه
وَالدَّفْعُ يَجِبُ عليه حَالًّا لَا مُؤَجَّلًا فَكَذَا الْخُلْفُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْمَقْتُولُ أَجْنَبِيًّا فَأَمَّا إذَا كان مولى الْقَاتِلِ فَالْقَاتِلُ لَا يَخْلُو إمَّا أن كان قِنًّا وَإِمَّا أن كان مُدَبَّرًا وَإِمَّا أن كان أُمَّ وَلَدٍ وَإِمَّا أن كان مُكَاتَبًا فَإِنْ كان قِنًّا فَقَتَلَ مَوْلَاهُ خَطَأً فَجِنَايَتُهُ هَدَرٌ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ له على عَبْدِهِ دَيْنٌ وَإِنْ قَتَلَهُ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِمَا مَرَّ وَلَوْ قَتَلَهُ عَمْدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا حتى سَقَطَ الْقِصَاصُ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ وَلَا يَجِبُ لِلَّذِي لم يَعْفُ شَيْءٌ في قَوْلِهِمَا وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقَالُ لِلَّذِي عَفَا إمَّا أَنْ تَدْفَعَ نِصْفَ نُصِيبُكَ وهو رُبْعُ الْعَبْدِ إلَى الذي لم يَعْفُ أو تَفْدِيَهُ بِرُبْعِ الدِّيَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْقِصَاصَ كان مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ فإذا عَفَا أَحَدُهُمَا فقط ( ( ( فقد ) ) ) سَقَطَ نِصْفُ الْقِصَاصَ وَانْقَلَبَ نَصِيبُ صَاحِبِهِ وهو النِّصْفِ مَالًا شَائِعًا في النِّصْفَيْنِ نِصْفُهُ وهو الرُّبْعُ في نَصِيبِهِ وَنِصْفُهُ في نَصِيبِ الشَّرِيكِ فما كان في نَصِيبِهِ يَسْقُطُ وما كان في نَصِيبِ الشَّرِيكِ يَثْبُتُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الدِّيَةَ إمَّا أَنْ تَجِبُ حَقًّا لِلْمَوْلَى وَالْوَارِثُ يَقُومُ مَقَامَهُ في اسْتِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ له وَإِمَّا أَنْ تَجِبَ حَقًّا لِلْوَرَثَةِ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ وكيفما كان فَالْمَوْلَى لَا يَجِبُ له على عَبْدِهِ دَيْنٌ
وَإِنْ كان مُدَبَّرًا فَقَتَلَ مَوْلَاهُ خَطَأً فَجِنَايَتُهُ هَدَرٌ وَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ في قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ لو وَجَبَتْ الدِّيَةُ لَوَجَبَتْ على الْمَوْلَى لِأَنَّهُ لو جَنَى على أَجْنَبِيٍّ لَوَجَبَتْ الدِّيَةُ عليه فَهَهُنَا أَوْلَى وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ له وَعَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ يَسْعَى في قِيمَةِ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ وَالْوَصِيَّةُ لَا تُسَلَّمُ لِلْقَاتِلِ إلَّا أَنَّ الْعِتْقَ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَوَجَبَ عليه قِيمَةُ نَفْسِهِ
وَلَوْ قَتَلَهُ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَيَسْعَى في قِيمَتِهِ لِمَا قُلْنَا وَوَرَثَتُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شاؤوا عَجَّلُوا اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ وَبَطَلَتْ السِّعَايَةُ وَإِنْ شاؤوا اسْتَوْفَوْا السِّعَايَةَ ثُمَّ قَتَلُوهُ قِصَاصًا لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ ثَبَتَا لهم وَاخْتِيَارُ السِّعَايَةِ لَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْقِصَاصِ لِأَنَّ السِّعَايَةَ لَيْسَتْ بِعِوَضٍ عن الْمَقْتُولِ بَلْ هِيَ بَدَلٌ عن الرِّقِّ
وَلَوْ كان لِلْمَوْلَى وَلِيَّانِ عَفَا أَحَدُهُمَا يَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا بِخِلَافِ الْقِنِّ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ لو وَجَبَ لَوَجَبَ لِلْمَوْلَى على عَبْدِهِ وَلَيْسَ يَجِبُ لِلْمَوْلَى على عَبْدِهِ دَيْنٌ وَهَهُنَا يُمْكِنُ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ يَعْتِقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهِ فَيَسْعَى وهو حُرُّ فلم يَكُنْ في إيجَابِ الدِّيَةِ عليه إيجَابُ الدَّيْنِ لِلْمَوْلَى على عَبْدِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَإِنْ كان أُمَّ وَلَدٍ فَقَتَلَتْ مَوْلَاهَا خَطَأً أو عَمْدًا فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُدَبَّرِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ في السِّعَايَةِ فَأُمُّ الْوَلَدِ لَا سِعَايَةَ عليها وَالْمُدَبَّرُ يَسْعَى في قِيمَتِهِ لِأَنَّ الْعِتْقَ هُنَاكَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ وَعِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ ليس بِوَصِيَّةٍ حتى لَا يُعْتَبَرَ من الثُّلُثِ
وَلَوْ قَتَلَتْ أُمُّ الْوَلَدِ مَوْلَاهَا عَمْدًا وَلَهُ ابْنَانِ من غَيْرِهَا فَعَفَا أَحَدُهُمَا سَعَتْ في نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلَّذِي لم يَعْفُ لِأَنَّ الْقِصَاصَ قد سَقَطَ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا وَانْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا وَإِنَّمَا وَجَبَ عليها السِّعَايَةُ في نِصْفِ قِيمَتِهَا لَا في نِصْفِ الدِّيَةِ
وَإِنْ كانت هِيَ حُرَّةً وَقْتَ وُجُوبِ السِّعَايَةِ لأنهاعتقت بِمَوْتِ سَيِّدِهَا
____________________

(7/270)


وَتَسْعَى وَهِيَ حُرَّةٌ لِأَنَّهَا كانت مَمْلُوكَةً وَقْتَ الْجِنَايَةِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ الْحَالَيْنِ حَالَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ وَحَالَ وُجُوبِ السِّعَايَةِ
وَلَوْ كانت مَمْلُوكَةً في الْحَالَيْنِ بِأَنْ قَتَلَتْ أَجْنَبِيًّا خَطَأً لَوَجَبَتْ الْقِيمَةُ وَكَانَتْ على الْمَوْلَى لَا عليها فَإِنْ كانت مَمْلُوكَةً حَالَ الْجِنَايَةِ حُرَّةً حَالِ السِّعَايَةِ اعْتَبَرْنَا بِالْحَالَيْنِ فَأَوْجَبْنَا نِصْفَ الْقِيمَةِ اعْتِبَارًا إلَى وُجُودِ الْجِنَايَةِ وَأَوْجَدْنَا ذلك عليها لَا على الْمَوْلَى اعْتِبَارًا بِحَالِ وُجُوبِ السِّعَايَةِ اعْتِبَارًا لِلْحَالَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَلَوْ كان أَحَدُ الِابْنَيْنِ منها لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عليها وَسَعَتْ في جَمِيعِ قِيمَتِهَا
أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فَلِأَنَّهُ لو وَجَبَ لَوَجَبَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَلَا يُمْكِنُ الْإِيجَابُ في نَصِيبِ وَلَدِهَا إذْ لَا يَجِبُ لِلْوَلَدِ على أُمِّهِ قِصَاصُ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ احْتِرَامًا لِلْأُمِّ
وَأَمَّا لُزُومُ السِّعَايَةِ فَلِأَنَّ الْقِصَاصَ سَقَطَ لِلتَّعَذُّرِ وَلَا تَعَذُّرَ في الْقِيمَةِ فَتَسْعَى في جَمِيعِ قِيمَتِهَا وَتَكُونُ بَيْنَهُمَا
وَإِنْ كان مُكَاتَبًا فَقَتَلَ مَوْلَاهُ خَطَأً فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ من قِيمَتِهِ أو الدِّيَةُ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمُكَاتَبِ على مَوْلَاهُ لَازِمَةٌ كَجِنَايَةِ مَوْلَاهُ عليه لِأَنَّهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إكْسَابِهِ وَأَرْشُ جِنَايَاتِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بأكسابه من الْمَوْلَى وَتَجِبُ الْقِيمَةَ حَالَّةً لِأَنَّهَا تَجِبُ بِالْمَنْعِ من الدَّفْعِ فَتَكُونُ حَالَّةً كما تَجِبُ على الْمَوْلَى بِجِنَايَةِ مدبرة وَإِنْ كان عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ حُرَّيْنِ أو كان الْقَاتِلُ حُرًّا وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا أوكان القتال عَبْدًا وَالْمَقْتُولُ حُرًّا
فَأَمَّا إذَا كَانَا عَبْدَيْنِ بِأَنْ قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدًا خَطَأً فَالْمَقْتُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كان عَبْدًا لِأَجْنَبِيٍّ وَإِمَّا أن كان عَبْدًا لِمَوْلَى الْقَاتِلِ فَإِنْ كان عَبْدًا لِأَجْنَبِيِّ بِأَنْ كان الْقَاتِلُ قِنًّا يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ سَوَاءٌ كان الْمَقْتُولُ قِنًّا أو مُدَبَّرًا أو أُمَّ وَلَدٍ أو مُكَاتَبًا
وَهَذَا وما إذَا كان الْمَقْتُولُ حُرًّا أَجْنَبِيًّا سَوَاءٌ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يُخَاطِبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أو بِالْفِدَاءِ بِالدِّيَةِ وَهَهُنَا يُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ بِالْقِيمَةِ
وَإِنْ كان الْقَاتِلُ مُدَبَّرًا أو أُمَّ وَلَدٍ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَةُ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ سَوَاءٌ كان الْمَقْتُولُ قِنًّا أو مُدَبَّرًا أو مُكَاتَبًا كما إذَا كان الْمَقْتُولُ حُرًّا أَجْنَبِيًّا
وَإِنْ كان الْقَاتِلُ مُكَاتَبًا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ سَوَاءٌ كان الْمَقْتُولُ قِنًّا أو مُدَبَّرًا أو أُمَّ وَلَدٍ أو مُكَاتَبًا كما إذَا كان الْمَقْتُولُ حُرًّا أَجْنَبِيًّا
هذا إذَا كان الْمَقْتُولُ عَبْدًا لِأَجْنَبِيٍّ فَإِنْ كان عَبْدًا لِوَلِيِّ الْقَاتِلِ فَجِنَايَةُ الْقَاتِلِ عليه هَدَرٌ
وَإِنْ كان الْقَاتِلُ قِنًّا أو مُدَبَّرًا أو أُمَّ وَلَدٍ سَوَاءٌ كان الْمَقْتُولُ قِنًّا أو مُدَبَّرًا أو أُمَّ وَلَدٍ أو مُكَاتَبًا
وَإِنْ كان الْقَاتِلُ مُكَاتَبًا فَجِنَايَتُهُ عليه لَازِمَةٌ كَائِنًا من كان الْمَقْتُولُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
هذا إذَا قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدًا خَطَأً فَإِنْ قَتَلَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ كَائِنًا من كان الْمَقْتُولُ وَاَللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ الْمُوفِقُ
وَأَمَّا الْقَتْلُ الذي هو في مَعْنَى الْقَتْلِ الْخَطَأِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ هو في مَعْنَاهُ من كل وَجْهٍ وهو أَنْ يَكُونَ على طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ
وَنَوْعٌ هو في مَعْنَاهُ من وَجْهٍ وهو أَنْ يَكُونَ من طَرِيقِ التَّسْبِيبِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوُ النَّائِمِ يَنْقَلِبُ على إنْسَانٍ فَيَقْتُلَهُ فَهَذَا الْقَتْلُ في مَعْنَى الْقَتْلِ الْخَطَأِ من كل وَجْهٍ لِوُجُودِهِ لَا عن قَصْدٍ لِأَنَّهُ مَاتَ بِثِقَلِهِ فَتَرَتَّبَ عليه أَحْكَامُهُ من وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ وَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ إذَا كان في مَعْنَاهُ من كل وَجْهٍ كان وُرُودُ الشَّرْعِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ هُنَاكَ وُرُودًا هَهُنَا دَلَالَةً وَكَذَلِكَ لو سَقَطَ إنْسَانٌ من سَطْحٍ على قَاعِدٍ فَقَتَلَهُ
أَمَّا وُجُوبُ الدِّيَةِ فَلِوُجُودِ مَعْنَى الْخَطَأِ وهو عَدَمُ الْقَصْدِ وَأَمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ فَلِوُجُودِ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً لِأَنَّهُ مَاتَ بِثِقَلِهِ سَوَاءٌ كان الْقَاعِدُ في طَرِيقِ الْعَامَّةِ أو في مِلْكِ نَفْسِهِ وَلَوْ مَاتَ السَّاقِطُ دُونَ الْقَاعِدِ يُنْظَرُ إنْ كان في مِلْكِ نَفْسِهِ أو في مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ قُعُودَهُ فيه جِنَايَةً لَا شَيْءَ على الْقَاعِدِ لِأَنَّهُ ليس بِمُتَعَدٍّ في الْقُعُودِ فما تَوَلَّدَ منه لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عليه وَيُهْدَرُ دَمُ السَّاقِطِ وَإِنْ كان في مَوْضِعٍ يَكُونُ قُعُودُهُ فيه جِنَايَةً فَدِيَةُ السَّاقِطِ على الْقَاعِدِ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ في الْقُعُودِ فَالْمُتَوَلِّدِ منه يَكُونُ مَضْمُونًا عليه كما في حَفْرِ الْبِئْرِ وَلَا كَفَّارَةَ عليه لِحُصُولِ الْقَتْلِ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ كما في الْبِئْرِ
وَكَذَلِكَ إذَا كان يَمْشِي في الطَّرِيقِ حَامِلًا سَيْفًا أو حَجَرًا أو لَبِنَةً أو خَشَبَةً فَسَقَطَ من يَدِهِ فَقَتَلَهُ لِوُجُودِ مَعْنَى الْخَطَأِ فيه وَحُصُولِهِ على سَبِيلِ الْمُبَاشَرَةِ لِوُصُولِ الْآلَةِ لِبَشَرَةِ الْمَقْتُولِ
وَلَوْ كان لَابِسًا سَيْفًا فَسَقَطَ على غَيْرِهِ فَقَتَلَهُ أو سَقَطَ عنه ثَوْبُهُ أو رِدَاؤُهُ أو طَيْلَسَانُهُ أو عِمَامَتُهُ وهو لَابِسُهُ على إنْسَانٍ فَتَعَقَّلَ بِهِ فَتَلِفَ فَلَا ضَمَانَ عليه أَصْلًا لِأَنَّ في اللَّبْسِ ضَرُورَةً إذْ الناس يَحْتَاجُونَ إلَى لُبْسِ هذه وَالتَّحَرُّزُ عن السُّقُوطِ ليس في وُسْعِهِمْ فَكَانَتْ الْبَلِيَّةُ فيه عَامَّةً فَتَعَذَّرَ التَّضْمِينُ وَلَا ضَرُورَةَ في الْحَمْلِ وَالِاحْتِرَازُ عن سُقُوطِ الْمَحْمُولِ مُمْكِنٌ أَيْضًا
وَإِنْ كان الذي لَبِسَهُ مِمَّا لَا يُلْبَسُ عَادَةً فَهُوَ ضَامِنٌ
وَكَذَلِكَ الرَّاكِبُ إذَا كان يَسِيرُ في الطَّرِيقِ
____________________

(7/271)


الْعَامَّةِ فَوَطِئَتْ دَابَّتُهُ رَجُلًا بيدها ( ( ( بيديها ) ) ) أو بِرِجْلِهَا لِوُجُودِ معن ( ( ( معنى ) ) ) الْخَطَأِ في هذا الْقَتْلِ وَحُصُولِهِ على سَبِيلِ الْمُبَاشَرَةِ لِأَنَّ ثِقَلَ الرَّاكِبِ على الدَّابَّةِ وَالدَّابَّةُ آلَةٌ له فَكَانَ الْقَتْلُ الْحَاصِلِ بِثِقَلِهَا مُضَافًا إلَى الرَّاكِبِ فَكَانَ قَتْلًا مُبَاشَرَةً
وَلَوْ كُدِمَتْ أو صُدِمَتْ أو خُبِطَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ إلَّا أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عليه وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ لِحُصُولِ الْقَتْلِ على سَبِيلِ التَّسَبُّبِ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ وَلَا كَفَّارَةَ على السَّائِقِ وَالْقَائِدِ وَلَا يُحْرَمَانِ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ لِأَنَّ فِعْلَ السَّوْقِ وَالْقَوَدِ يُقَرِّبُ الدَّابَّةَ من الْقَتْلِ فَكَانَ قَتْلًا تَسْبِيبًا لَا مُبَاشَرَةَ وهو ( ( ( والقتل ) ) ) لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ بِخِلَافِ الرَّاكِبِ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ مُبَاشَرَةً على ما بَيَّنَّا
وَالرَّدِيفُ وَالرَّاكِبُ سَوَاءٌ وَعَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةُ وَيُحْرَمَانِ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ لِأَنَّ ثِقَلَهُمَا على الدَّابَّةِ وَالدَّابَّةُ آلَةٌ لَهُمَا فَكَانَا قَاتِلَيْنِ على طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ
وَلَوْ نَفَحَتْ الدَّابَّةُ بِرِجْلِهَا أو بِذَنَبِهَا وهو يَسِيرُ فَلَا ضَمَانَ في ذلك على رَاكِبٍ وَلَا سَائِقٍ وَلَا قَائِدٍ
وَالْأَصْلُ أَنَّ السَّيْرَ وَالسَّوْقَ وَالْقَوْدَ في طَرِيقِ الْعَامَّةِ مَأْذُونٌ فيه بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ فما لم تَسْلَمْ عابقته ( ( ( عاقبته ) ) ) لم يَكُنْ مَأْذُونًا فيه فَالْمُتَوَلَّدُ منه يَكُونُ مَضْمُونًا إلَّا إذَا كان مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عنه بِسَدِّ بَابِ الِاسْتِطْرَاقِ على الْعَامَّةِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ
وَالْوَطْءُ وَالْكَدْمُ وَالصَّدْمُ وَالْخَبْطُ في السَّيْرِ وَالسَّوْقِ وَالْقَوْدِ مِمَّا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عنه بِحِفْظِ الدَّابَّةِ وَذَوْدِ الناس وَالنَّفْحُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزَ عنه وَكَذَا الْبَوْلُ وَالرَّوْثُ وَاللُّعَابِ فَسَقَطَ اعْتِبَارَهُ وَالْتُحِقَ بِالْعَدَمِ
وقد رُوِيَ أَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال الرِّجْلُ جُبَارٌ أَيْ نَفْحُهَا وَلِهَذَا سقط ( ( ( أسقط ) ) ) اعْتِبَارُ ما ثَارَ من الْغُبَارِ من مَشْي الْمَاشِي حتى لو أَفْسَدَ مَتَاعًا لم يَضْمَنْ وَكَذَا ما أَثَارَتْ الدَّابَّةُ بِسَنَابِكِهَا من الْغُبَارِ أو الْحَصَى الصِّغَارِ لا ضَمَانَ فيه لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَأَمَّا الْحَصَى الْكِبَارُ فَيَجِبُ الضَّمَانَ فيها لِأَنَّهُ يُمْكِنُ التَّحَرُّزَ عن إثَارَتِهَا إذْ لَا يَكُونُ ذلك إلَّا بِتَعْنِيفٍ في السَّوْقِ
وَلَوْ كَبَحَ الدَّابَّةَ بِاللِّجَامِ فَنَفَحَتْ بِرِجْلِهَا أو بِذَنَبِهَا فَهُوَ هَدَرٌ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ وَلَوْ أَوْقَفَ الدَّابَّةَ في الطَّرِيقِ فَقَتَلَتْ إنْسَانًا فَإِنْ كان ذلك في غَيْرِ مِلْكِهِ كَطَرِيقِ الْعَامَّةِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ سَوَاءٌ وَطِئَتْ بيدها ( ( ( بيديها ) ) ) أو بِرِجْلِهَا أو كَدَمَتْ أو صَدَمَتْ أو خَبَطَتْ بيدها ( ( ( بيديها ) ) ) أو نَفَحَتْ بِرِجْلِهَا أو بِذَنَبِهَا أو عَطِبَ شَيْءٌ بِرَوْثِهَا أو بَوْلِهَا أو لُعَابِهَا كُلُّ ذلك مَضْمُونٌ عليه وَسَوَاءٌ كان رَاكِبًا أو لَا لِأَنَّ رَوْثَ الدَّابَّةِ في طَرِيقِ الْعَامَّةِ ليس بِمَأْذُونٍ فيه شَرْعًا إنَّمَا الْمَأْذُونُ فيه هو الْمُرُورُ لَا غَيْرُ إذْ الناس يَتَضَرَّرُونَ بِالْوُقُوفِ وَلَا ضَرُورَةَ فيه فَكَانَ الْوُقُوفُ فيه تَعَدِّيًا من غَيْرِ ضَرُورَةٍ فما تَوَلَّدَ منه يَكُونُ مَضْمُونًا عليه سَوَاءٌ كان مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه أو لَا يُمْكِنُ غير أَنَّهُ إنْ كان رَاكِبًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ في الْوَطْءِ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ لِكَوْنِهِ قَاتِلًا من طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ رَاكِبًا لَا كَفَّارَةَ عليه لِوُجُودِ الْقَتْلِ منه تَسْبِيبًا لَا مُبَاشَرَةً
وَكَذَلِكَ لو أَوْقَفَ دَابَّةً على بَابِ الْمَسْجِدِ فَهُوَ مِثْلُ وَقْفِهِ في الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ في الْوَقْفِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ جَعَلَ لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ مَوْقِفًا يَقِفُونَ فيه دَوَابَّهُمْ فَلَا ضَمَانَ عليه فِيمَا أَصَابَتْ في وُقُوفِهَا لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذلك إذَا لم يَتَضَرَّرْ الناس بِهِ فلم يَكُنْ مُتَعَدِّيًا في الْوُقُوفِ فَأَشْبَهَ الْوُقُوفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ إلَّا إذَا كان رَاكِبًا فَوَطِئَتْ دَابَّتُهُ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ لِأَنَّ ذلك قَتْلٌ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ فَيَسْتَوِي في الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو كان في مِلْكِهِ يَضْمَنُ
وَكَذَلِكَ لو أَوْقَفَ دَابَّتَهُ في مَوْضِعٍ أَذِنَ الْإِمَامُ بِالْوُقُوفِ فيه كما في سُوقِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ إذَا أَوْقَفَ دَابَّتَهُ في الْفَلَاةِ لِأَنَّ الْوُقُوفَ في الْفَلَاةِ مُبَاحٌ لِعَدَمِ الْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ فلم يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فيه وَكَذَلِكَ في الطَّرِيقِ إنْ كان وَقَفَ في الْمُحَجَّةِ فَالْوُقُوفُ فيها كَالْوُقُوفِ في سَائِرِ الطُّرُقِ الْعَامَّةِ
وَلَوْ كان سَائِرًا في هذه الْمَوَاضِعِ التي أَذِنَ الْإِمَامُ فيها بِالْوُقُوفِ لِلنَّاسِ أو سَائِقًا أو قَائِدًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِأَنَّ أَثَرَ الْإِذْنِ في سُقُوطِ ضَمَانِ الْوَقْفِ لَا في غَيْرِهِ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْوَقْفِ فيها أستفيد بِالْإِذْنِ لِأَنَّهُ لم يَكُنْ ثَابِتًا قَبْلَهُ فَأَمَّا إبَاحَةُ السَّيْرِ وَالسَّوَقِ وَالْقَوْدِ فلم يَثْبُتْ بِالْإِذْنِ من الْإِمَامِ لِأَنَّهُ كان ثَابِتًا قَبْلَهُ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فيها على ما كان قبل الْإِذْنِ
وَإِنْ كان الْوَقْفُ أو السَّيْرُ أو السَّوْقُ أو الْقَوْدُ في مِلْكِهِ فَلَا ضَمَانَ عليه في شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ إلَّا فِيمَا وَطِئَتْ دَابَّتُهُ بيدها ( ( ( بيديها ) ) ) أو بِرِجْلِهَا وهو رَاكِبٌ لِأَنَّ هذه الْأَفْعَالَ تَقَعُ تَعَدِّيًا في الْمِلْكِ
وَالتَّسْبِيبُ إذَا لم يَكُنْ تَعَدِّيًا لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ
فَأَمَّا الْوَطْءُ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ في حَالِ السَّيْرِ أو الْوُقُوفِ فَهُوَ قَتْلٌ مُبَاشَرَةً لَا تَسْبِيبًا حتى تَجِبَ الْكَفَّارَةُ لِوُجُودِ الضَّمَانِ على كُلٍّ سَوَاءٌ كان في مِلْكِهِ أو في غَيْرِ مِلْكِهِ وَسَوَاءٌ كان الذي لَحِقَتْهُ الْجِنَايَةُ مَأْذُونًا في الدُّخُولِ أو غير مَأْذُونٍ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ مُبَاشَرَةً وَمَنْ دخل مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يُبَاحُ إتْلَافُهُ
وَلَوْ رَبَطَ الدَّابَّةَ في غَيْرِ مِلْكِهِ فما دَامَتْ تَجُولُ في رِبَاطِهَا إذَا أَصَابَتْ شيئا بيدها ( ( ( بيديها ) ) )
____________________

(7/272)


أو بِرِجْلِهَا أو رَاثَتْ أو بَالَتْ فَعَطِبَ بِهِ شَيْءٌ فَذَلِكَ كُلُّهُ مَضْمُونٌ عليه لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ في الْوُقُوفِ في غَيْرِ مِلْكِهِ
وَلَوْ انْفَتَحَ الرِّبَاطُ وَذَهَبَتْ من ذلك الْمَوْضِعِ فما عَطِبَ بِهِ شَيْءٌ فَهُوَ هَدْرٌ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعَدِّي قد زَالَ بِزَوَالِهَا من مَوْضِعِ الْوُقُوفِ وَإِنْ أَوْقَفَهَا غير مَرْبُوطَةٍ فَزَالَتْ عن مَوْضِعِهَا بعدما أَوْقَفَهَا ثُمَّ جَنَتْ على إنْسَانٍ أو عَطِبَ بها شَيْءٌ فَهُوَ هَدَرٌ لِأَنَّهَا لَمَّا زَالَتْ عن مَوْضِعِ الْوَقْفِ فَقَدْ زَالَ التَّعَدِّي فَكَأَنَّهَا دَخَلَتْ في هذه الْمَوَاضِعِ بِنَفْسِهَا وَجَنَتْ
وَلَوْ نَفَرَتْ الدَّابَّةُ من الرَّجُلِ أو انْفَلَتَتْ منه فما أَصَابَتْ في فَوْرِهَا ذلك فَلَا ضَمَانَ عليه لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ أَيْ الْبَهِيمَةُ جُرْحُهَا جُبَارٌ وَلِأَنَّهُ لَا صُنْعَ له في نِفَارِهَا وَانْفِلَاتِهَا وَلَا يُمْكِنْهُ الِاحْتِرَازُ عن فِعْلِهَا فَالْمُتَوَلِّدُ منه لَا يَكُونُ مَضْمُونًا
وَلَوْ أَرْسَلَ دَابَّتَهُ فما أَصَابَتْ من فَوَرِهَا ضَمِنَ لِأَنَّ سَيْرهَا في فَوْرِهَا مُضَافٌ إلَى إرْسَالِهَا فَكَانَ مُتَعَدِّيًا في الْإِرْسَالِ فَصَارَ كَالدَّافِعِ لها أو كَالسَّائِقِ فَإِنْ عَطَفَتْ يَمِينًا وَشِمَالًا ثُمَّ أَصَابَتْ فَإِنْ لم يَكُنْ لها طَرِيقٌ إلَّا ذلك فَذَلِكَ مَضْمُونٌ على الْمُرْسِلِ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ على حُكْمِ الْإِرْسَالِ وَإِنْ كان لها طَرِيقٌ آخَرُ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهَا عَطَفَتْ بِاخْتِيَارِهَا فَيَنْقَطِعُ حُكْمُ الْإِرْسَالِ وَصَارَتْ كَالْمُنْفَلِتَةِ
وَلَوْ أَرْسَلَ طَيْرًا فَأَصَابَ شيئا في فَوْرِهِ ذلك لَا يَضْمَنُ ذلك بِالْإِجْمَاعِ ذَكَرَهُ في الزِّيَادَاتِ فِيمَنْ أَرْسَلَ بَازِيًا في الْحَرَمِ فَأَتْلَفَ طِيبَةَ الْحَرَمِ أنه لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ يَفْعَلُ بِاخْتِيَارِهِ وَفِعْلُهُ جُبَارٌ
ولوأغرى بِهِ كَلْبًا حتى عَقَرَ رَجُلًا فَلَا ضَمَانَ عليه في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه كما لو أَرْسَلَ طَيْرًا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَضْمَنُ كما لو أَرْسَلَ الْبَهِيمَةَ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كان سَائِقًا له أو قَائِدًا يَضْمَنُ وَإِنْ لم يَكُنْ سَائِقًا له وَلَا قَائِدًا لَا يَضْمَنُ وَبِهِ أَخَذَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَقْرَ فِعْلُ الْكَلْبِ بِاخْتِيَارِهِ فَالْأَصْلُ هو الِاقْتِصَارُ عليه وَفِعْلُهُ جُبَارٌ إلَّا أَنَّهُ بِالسَّوْقِ أو الْقَوْدِ يَصِيرُ مُغْرِيًا إيَّاهُ إلَى الْإِتْلَافِ فَيَصِيرُ سَبَبًا لِلتَّلَفِ فَأَشْبَهَ سَوْقِ الدَّابَّةِ وَقَوْدِهَا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أن إغرار ( ( ( إغراء ) ) ) الْكَلْبِ بِمَنْزِلَةِ إرْسَالِ الْبَهِيمَةِ فَالْمُصَابُ على فَوْرِ الْإِرْسَالِ مَضْمُونٌ على الْمُرْسِلِ فَكَذَا هذا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الْكَلْبَ يَعْقِرُ بِاخْتِيَارِهِ وَالْإِغْرَاءُ لِلتَّحْرِيضِ وَفِعْلُهُ جُبَارٌ
وَلَوْ دخل رَجُلٌ دَارَ غَيْرِهِ فَعَقَرَهُ كَلْبَهُ لَا يَضْمَنُ سَوَاءٌ دخل دَارِهِ بِإِذْنِهِ أو بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّ فِعْلَ الْكَلْبِ جُبَارٌ ولم يُوجَدْ من صَاحِبِهِ التَّسْبِيبُ إلَى الْعَقْرِ إذْ لم يُوجَدْ منه إلَّا الْإِمْسَاكُ في الْبَيْتِ وإنه مُبَاحٌ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وهو أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ { مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ }
وَلَوْ أَلْقَى حَيَّةً أو عَقْرَبًا في الطَّرِيقِ فَلَدَغَتْ إنْسَانًا فَضَمَانُهُ على الْمُلْقِي لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ في الْإِلْقَاءِ إلَّا إذَا عَدَلَتْ عن ذلك الْمَوْضِعِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا يَضْمَنُ لِارْتِفَاعِ التَّعَدِّي بِالْعُدُولِ
إذَا اصْطَدَمَ فَارِسَانِ فَمَاتَا فَدِيَةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على عَاقِلَةِ الْآخَرِ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ على عَاقِلَةِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ الْآخَرِ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاتَ بِفِعْلَيْنِ فِعْلِ نَفْسِهِ وَفِعْلِ صَاحِبِهِ وهو صَدْمَةُ صَاحِبِهِ وَصَدْمَةُ نَفْسِهِ فَيُهْدَرَ ما حَصَلَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَيُعْتَبَرُ ما حَصَلَ بِفِعْلِ صَاحِبِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ على عَاقِلَةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ دِيَةِ الْآخَرِ كما لو جَرَحَ نَفْسَهُ وَجَرَحَهُ أَجْنَبِيُّ فَمَاتَ أَنَّ على الْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلَنَا ما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال مِثْلَ مَذْهَبِنَا وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَاتَ من صَدْمِ صَاحِبِهِ إيَّاهُ فَيَضْمَنُ صَاحِبَهُ كَمَنْ بَنَى حَائِطًا في الطَّرِيقِ فَصَدَمَ رَجُلًا فَمَاتَ أن الدِّيَةَ على صَاحِبِ الْحَائِطِ كَذَا هذا
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ صَدْمَةَ نَفْسِهِ مع صَدْمِ صَاحِبِهِ إيَّاهُ فيه غَيْرُ مُعْتَبَرٍ إذْ لو اُعْتُبِرَ لَمَا لَزِمَ بَانِي الْحَائِطِ على الطَّرِيقِ جَمِيعُ الدِّيَةِ لِأَنَّ الرَّجُلَ قد مَشَى إلَيْهِ وَصَدْمَهُ
وَكَذَلِكَ حَافِرُ الْبِئْرِ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الدِّيَةِ وَإِنْ كان الْمَاشِي قد مَشَى إلَيْهَا
رَجُلَانِ مَدَّا حَبْلًا حتى انْقَطَعَ فَسَقَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ سَقَطَا على ظَهْرِهِمَا فَمَاتَا فَلَا ضَمَانَ فيه أَصْلًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لم يَمُتْ من فِعْلِ صَاحِبِهِ إذْ لو مَاتَ من فِعْلِ صَاحِبِهِ لَخَرَّ على وَجْهِهِ فلما سَقَطَ على قَفَاهُ عُلِمَ أَنَّهُ سَقَطَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وهو مَدُّهُ فَقَدْ مَاتَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا من فِعْلِ نَفْسِهِ فَلَا ضَمَانَ على أَحَدٍ وَإِنْ سَقَطَا على وَجْهَيْهِمَا فَمَاتَا فَدِيَةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على عَاقِلَةِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَّ على وَجْهِهِ عُلِمَ أَنَّهُ مَاتَ من جَذْبِهِ وَإِنْ سَقَطَ أَحَدُهُمَا على ظَهْرِهِ وَالْآخَرُ على وَجْهِهِ فَمَاتَا جميعا فَدِيَةُ الذي سَقَطَ على وَجْهِهِ على عَاقِلَةِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِ وهو جَذْبُهُ
وَدِيَةُ الذي سَقَطَ على ظَهْرِهِ هَدَرٌ لِأَنَّهُ مَاتَ من فِعْلِ نَفْسِهِ وَلَوْ قَطَعَ قَاطِعٌ الْحَبْلَ فَسَقَطَا جميعا فَمَاتَا فَالضَّمَانُ على الْقَاطِعِ
____________________

(7/273)


لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ في إتْلَافِهِمَا وَالْإِتْلَافُ تَسْبِيبًا يُوجِبُ الضَّمَانَ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَنَحْوُ ذلك
صَبِيٌّ في يَدِ أبيه جَذَبَهُ رَجُلٌ من يَدِهِ وَالْأَبُ يُمْسِكُهُ حتى مَاتَ فَدِيَتُهُ على الذي جَذَبَهُ وَيَرِثَهُ أَبُوهُ لِأَنَّ الْأَبَ مُحِقٌّ في الْإِمْسَاكِ وَالْجَاذِبُ مُتَعَدٍّ في الْجَذْبِ فَالضَّمَانُ عليه
وَلَوْ تَجَاذَبَ رجلان ( ( ( رجلا ) ) ) صَبِيًّا وَأَحَدُهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ ابن ( ( ( ابنه ) ) ) وَالْآخَرُ يَدَّعِي أَنَّهُ عَبْدُهُ فَمَاتَ من جَذْبِهِمَا فَعَلَى الذي يَدَّعِي أَنَّهُ عَبْدُهُ دِيَتَهُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ في الْجَذْبِ لِأَنَّ الْمُتَنَازِعَيْنِ في الصَّبِيِّ إذَا زَعَمَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَبُوهُ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ من الذي يَدَّعِي أَنَّهُ عَبْدُهُ فَكَانَ إمْسَاكُهُ بِحَقٍّ وَجَذْبُ الْآخَرِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَضْمَنُ
رَجُلٌ في يَدِهِ ثَوْبٌ تَشَبَّثَ بِهِ رَجُلٌ فَجَذَبَهُ صَاحِبُ الثَّوْبِ من يَدِهِ فَخَرَقَ الثَّوْبَ ضَمِنَ الْمُمْسِكُ نِصْفَ الْخَرْقِ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الثَّوْبِ في دَفْعِ الْمُمْسِكِ وَعَلَيْهِ دَفْعُهُ بِغَيْرِ جَذْبٍ فإذا جَذَبَ فَقَدْ حَصَلَ التَّلَفُ من فِعْلِهِمَا فَانْقَسَمَ الضَّمَانُ بَيْنَهُمَا
رَجُلٌ عَضَّ ذِرَاعَ رَجُلٍ فَجَذَبَ الْمَعْضُوضُ ذِرَاعَهُ من فيه فَسَقَطَتْ أَسْنَانُ الْعَاضِّ وَذَهَبَ لَحْمُ ذِرَاعِ هذا تُهْدَرُ دِيَةُ الْأَسْنَانِ وَيَضْمَنُ الْعَاضُّ أَرْشَ الذِّرَاعِ لِأَنَّ الْعَاضَّ مُتَعَدٍّ في الْعَضِّ وَالْجَاذِبُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ في الْجَذْبِ لِأَنَّ الْعَضَّ ضَرَرٌ وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عن نَفْسِهِ
رَجُلٌ جَلَسَ إلَى جَنْبِ رَجُلٍ فَجَلَسَ على ثَوْبِهِ وهو لَا يَعْلَمُ فَقَامَ صَاحِبُ الثَّوْبِ فَانْشَقَّ ثَوْبُهُ من جُلُوسِ هذا عليه يَضْمَنُ الْجَالِسُ نِصْفَ ذلك لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ من الْجُلُوسِ وَالْجَذْبِ وَالْجَالِسُ مُتَعَدٍّ في الْجُلُوسِ إذْ لم يَكُنْ له أَنْ يَجْلِسَ عليه فَكَانَ التَّلَفُ حَاصِلًا من فِعْلَيْهِمَا فَيَنْقَسِمُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا
رَجُلٌ أَخَذَ بِيَدِ إنْسَانٍ فَصَافَحَهُ فَجَذَبَ يَدَهُ من يَدِهِ فَانْقَلَبَ فَمَاتَ فَلَا شَيْءَ عليه لِأَنَّ الْآخِذَ غَيْرُ متعد ( ( ( معتد ) ) ) في الْأَخْذِ لِلْمُصَافَحَةِ بَلْ هو مُقِيمٌ سُنَّةً وَإِنَّمَا الْجَاذِبُ هو الذي تَعَدَّى على نَفْسِهِ حَيْثُ جَذَبَ يَدَهُ لَا لِدَفْعِ ضَرَرٍ لَحِقَهُ من الْآخِذِ وَإِنْ كان أَخَذَ يَدَهُ لِيَعْصِرَهَا فَآذَاهُ فَجَرَّ يَدَهُ ضَمِنَ الْآخِذُ دِيَتَهُ لِأَنَّهُ هو الْمُتَعَدِّي وَإِنَّمَا صَاحِبُ الْيَدِ دَفَعَ الضَّرَرَ عن نَفْسِهِ بِالْجَرِّ وَلَهُ ذلك فَكَانَ الضَّمَانُ على الْمُتَعَدِّي فَإِنْ انْكَسَرَتْ يَدُ الْمُمْسِكِ وهو الْآخِذُ بِالْجَذْبِ لم يَضْمَنْ الْجَاذِبُ لِأَنَّ التَّعَدِّيَ من الْمُمْسِكِ فَكَانَ جَانِيًا على نَفْسِهِ فَلَا ضَمَانَ على غَيْرِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الثَّانِي فَنَحْوُ جِنَايَةِ الْحَافِرِ وَمَنْ في مَعْنَاهُ مِمَّنْ يُحْدِثُ شيئا في الطَّرِيقِ أو الْمَسْجِدِ وَجِنَايَةُ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ وَجِنَايَةُ النَّاخِسِ وَجِنَايَةُ الْحَائِطِ
أَمَّا جِنَايَةُ الْحَافِرِ فَالْحَفْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أن كان في غَيْرِ الْمِلْكِ أَصْلًا وإما أن كان في الْمِلْكِ فَإِنْ كان في غَيْرِ الْمِلْكِ يُنْظَرُ إنْ كان في غَيْرِ الطَّرِيقِ بِأَنْ كان في الْمَفَازَةِ لَا ضَمَانَ على الْحَافِرِ لِأَنَّ الْحَفْرَ ليس بِقَتْلٍ حَقِيقَةً بَلْ هو تَسْبِيبٌ إلَى الْقَتْلِ إلَّا أَنَّ التَّسْبِيبَ قد يُلْحَقُ بِالْقَتْلِ إذ كان الْمُسَبِّبُ مُتَعَدِّيًا في التَّسْبِيبِ وَالْمُتَسَبِّبُ هَهُنَا ليس بِمُتَعَدٍّ لِأَنَّ الْحَفْرَ في الْمَفَازَةِ مُبَاحٌ مُطْلَقٌ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ فَانْعَدَمَ الْقَتْلُ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانَ
وَإِنْ كان في طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ فَمَاتَ فَلَا يَخْلُو إما أن مَاتَ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ وَإِمَّا أن مَاتَ غَمًّا أو جُوعًا فَإِنْ مَاتَ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ فَالْحَافِرُ لَا يَخْلُو إمَّا أن كان حُرًّا وَإِمَّا أن كان عَبْدًا فَإِنْ كان حُرًّا يَضْمَنُ الدِّيَةَ لِأَنَّ حَفْرَ الْبِئْرِ على قَارِعَةِ الطَّرِيقِ سَبَبٌ لِوُقُوعِ الْمَارِّ فيها إذَا لم يُعْلَمْ وهو مُتَعَدٍّ في هذا التَّسْبِيبِ فَيَضْمَنُ الدِّيَةَ وَتَتَحَمَّلُ عنه الْعَاقِلَةُ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ في الْقَتْلِ الْخَطَأِ الْمُطْلَقِ لِلتَّخْفِيفِ على الْقَاتِلِ نَظَرًا له وَالْقَتْلُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ دُونَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّخْفِيفِ أَبْلُغَ وَلَا كَفَّارَةَ عليه لِأَنَّ وُجُوبَهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْقَتْلِ مُبَاشَرَةً وَالْحَفْرُ ليس بِقَتْلٍ أَصْلًا حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالْقَتْلِ في حَقِّ وُجُوبِ الدِّيَةِ فَبَقِيَ في حَقِّ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ على الْأَصْلِ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ في الْخَطَأِ الْمُطْلَقِ إنَّمَا وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْحَيَاةِ بِالسَّلَامَةِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ فَوْتِ السَّلَامَةِ وَذَلِكَ بِالْقَتْلِ فإذا لم يُوجَدْ لم يَجِبْ الشُّكْرَ
وَكَذَا لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ إنْ كان وَارِثًا لِلْمَجْنِيِّ عليه وَلَا الْوَصِيَّةَ إنْ كان أَجْنَبِيًّا لِأَنَّ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَتْلِ
قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ ولم يُوجَدْ الْقَتْلُ حَقِيقَةً
وَإِنْ مَاتَ غَمًّا أو جُوعًا فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه
قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لَا يَضْمَنُ وقال مُحَمَّدٌ يَضْمَنُ
وقال أبو يُوسُفُ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ مَاتَ غَمًّا يَضْمَنُ وَإِنْ مَاتَ جُوعًا لَا يَضْمَنُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أن الضَّمَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ بِسَبَبِ السُّقُوطِ إنَّمَا وَجَبَ لِكَوْنِ الْحَفْرُ تَسْبِيبًا إلَى الْهَلَاكِ وَمَعْنَى التَّسْبِيبِ مَوْجُودٌ هَهُنَا لِأَنَّ الْوُقُوعَ سَبَبُ الْغَمِّ وَالْجُوعِ لِأَنَّ الْبِئْرَ يَأْخُذُ نَفْسَهُ وإذا طَالَ مُكْثُهُ يَلْحَقُهُ الْجُوعُ وَالْوُقُوعُ بِسَبَبِ الْحَفْرِ فَكَانَ مُضَافًا إلَيْهِ كما إذَا حَبَسَهُ في مَوْضِعٍ حتى مَاتَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْغَمَّ من آثَارِ
____________________

(7/274)


الْوُقُوعِ فَكَانَ مُضَافًا إلَى الْحَفْرِ فَأَمَّا الْجُوعُ فَلَيْسَ من آثَارِهِ فَلَا يُضَافُ إلَى الْحَفْرِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا صُنْعَ لِلْحَافِرِ في الْغَمِّ وَلَا في الْجُوعِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُمَا يَحْدُثَانِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِمَا أَصْلًا لَا مُبَاشَرَةً وَلَا تَسْبِيبًا
أَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فَلَا شَكَّ في انتفائها ( ( ( انتقائها ) ) ) وَأَمَّا التَّسْبِيبُ فَلِأَنَّ الْحَفْرَ ليس بِسَبَبٍ لِلْجُوعِ لَا شَكَّ فيه لِأَنَّهُ لَا يَنْشَأُ منه بَلْ من سَبَبٍ آخَرَ وَالْغَمُّ ليس من لَوَازِمِ الْبِئْرِ فَإِنَّهَا قد تَغُمُّ وقد لَا تَغُمُّ فَلَا يُضَافُ ذلك إلَى الْحَفْرِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ جِنَايَةٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَضَمَانُهَا على الْحَافِرِ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ وَالْوُقُوعُ بِسَبَبِ الْحَفْرِ ثُمَّ إنْ بَلَغَ الْقَدْرَ الذي تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ حَمَلَهُ عليهم وَإِلَّا فَيَكُونُ في مَالِهِ
وَكَذَا إذَا كان الْوَاقِعُ غير بَنِي آدَمَ لِأَنَّ ضَمَانُ الْمَالِ لَا تتحمل ( ( ( تتحمله ) ) ) الْعَاقِلَةُ كما لَا تَتَحَمَّلُ سَائِرَ الدُّيُونِ ثُمَّ إنَّ جِنَايَاتِ الْحَفْرِ وَإِنْ كَثُرَتْ من الْحُرِّ يَجِبُ عليه لِكُلِّ جِنَايَةٍ أَرْشُهَا وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من ذلك بِشَيْءٍ منه وَلَا يُشْرَكُ الْمَجْنِيُّ عليهم فِيمَا يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم لِأَنَّهُ بِالْحَفْرِ جَنَى على كُلّ وَاحِدٍ منهم بِحِيَالِهِ فَيُؤْخَذُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ من الْجِنَايَاتِ بِحِيَالِهَا
هذا هو الْأَصْلُ وَإِنْ كان الْحَافِرُ عَبْدًا فَإِنْ كان قِنًّا فَجِنَايَتُهُ بِالْحَفْرِ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ بيده وقد ذَكَرْنَا حُكْمَ ذلك فِيمَا تَقَدَّمَ وهو أَنْ يُخَاطِبَ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ قَلَّتْ جِنَايَتُهُ أو كَثُرَتْ غير أَنَّهُ إنْ كان الْمَجْنِيُّ عليه وَاحِدًا يَدْفَعُ إلَيْهِ أو يَفْدِي وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً يَدْفَعُ إلَيْهِمْ أو يَفْدِي بِجَمِيعِ الْأُرُوشِ لِأَنَّ جِنَايَاتِ الْقِنِّ في رَقَبَتِهِ يُقَالُ لِلْمَوْلَى ادْفَعْ أو افد وَالرَّقَبَةُ تَتَضَايَقُ عن الْحُقُوقِ فَيَتَضَارَبُونَ في الرَّقَبَةِ وَالْوَاجِبُ بِجِنَايَةِ الْحُرِّ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْعَاقِلَةِ وَالذِّمَّةُ لَا تَتَضَايَقُ عن الْحُقُوقِ فَإِنْ وَقَعَ فيها وَاحِدٌ فَمَاتَ فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى وَلِيِّ جِنَايَتِهِ ثُمَّ وَقَعَ آخَرُ يُشَارِكُ الْأَوَّلَ في الرَّقَبَةِ الْمَدْفُوعَةِ وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ فكل ما يَحْدُثُ من جِنَايَةٍ بَعْدَ الدَّفْعِ فَإِنَّهُمْ يُشَارِكُونَ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ الْأَوَّلَ في رَقَبَةِ الْعَبْدِ وَكُلُّ وَاحِدٍ منهم يَضْرِبُ بِقَدْرِ جِنَايَتِهِ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ إلَى الْأَوَّلِ خَرَجَ عن عُهْدَةِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ فَعَلَ ما وَجَبَ عليه فَخَرَجَ عن عُهْدَةِ الْوَاجِبِ
ثُمَّ الْجِنَايَةُ في حَقِّ الثَّانِي وَالثَّالِثِ حَصَلَتْ بِسَبَبِ الْحَفْرِ أَيْضًا وَالْحُكْمُ فيها وُجُوبُ الدَّفْعِ فَكَانَ الدَّفْعُ إلَى الْأَوَّلِ دَفْعًا إلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ في سَبَبِ الْوُجُوبِ كَأَنَّهُ دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ دَفْعَةً وَاحِدَةً
وَلَوْ حَفَرَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ الْحَفْرِ قبل الْوُقُوعِ ثُمَّ لَحِقَتْ الْجِنَايَاتُ فَذَلِكَ على الْمَوْلَى في قِيمَتِهِ يوم عَتَقَ يَشْتَرِكُ فيها أَصْحَابُ الْجِنَايَاتِ التي كانت قبل الْعِتْقِ وَبَعْدَهُ يَضْرِبُ في ذلك كُلَّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْقِنِّ وَإِنْ كَثُرَتْ فَالْوَاجِبُ فيها الدَّفْعُ وَالْوَلِيُّ بِالْإِعْتَاقِ فوات ( ( ( فوت ) ) ) الدَّفْعَ من غَيْرِ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّ فَوَاتَ الدَّفْعِ حَصَلَ بِالْإِعْتَاقِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم الْإِعْتَاقِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم التَّدْبِيرِ بَلْ يوم الْجِنَايَةِ
وَإِنْ كان فَوَاتُ الدَّفْعِ بِالتَّدْبِيرِ لَكِنَّ التَّدْبِيرَ إنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ وهو الْجِنَايَةُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ حِينَئِذٍ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَإِنْ كان الْحَافِرُ مُدَبَّرًا أو أُمَّ وَلَدٍ فَعَلَى قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ قَلَّتْ الْجِنَايَةُ أو كَثُرَتْ وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم الْجِنَايَةِ وهو يَوْمُ الْحَفْرِ وَلَا تُعْتَبَرُ زِيَادَةُ الْقِيمَةِ وَنُقْصَانُهَا لِأَنَّهُ صَارَ جَانِيًا بِسَبَبِ الْحَفْرِ عِنْدَ الْوُقُوعِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْجِنَايَةِ كما إذَا جَنَى بيده وَإِنْ كان مُكَاتَبًا فَجِنَايَتُهُ على نَفْسِهِ لَا على مَوْلَاهُ كما إذَا جَنَى بيده وَتُعْتَبَرُ قِيمَتَهُ يوم الْحَفْرِ لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا في الطَّرِيقِ فَجَاءَ إنْسَانٌ وَدَفَعَ إنْسَانًا وَأَلْقَاهُ فيها فَالضَّمَانُ على الدَّافِعِ لَا على الْحَافِرِ لِأَنَّ الدَّافِعَ قَاتِلٌ مُبَاشَرَةً
وَلَوْ وَضَعَ رَجُلٌ حَجَرًا في قَعْرِ الْبِئْرِ فَسَقَطَ إنْسَانٌ فيها لَا ضَمَانَ على الْحَافِرِ مع الْوَاضِعِ هَهُنَا كَالدَّافِعِ مع الْحَافِرِ وَلَوْ جاء رَجُلٌ فَحَفَرَ من أَسْفَلِهَا ثُمَّ وَقَعَ فيها إنْسَانٌ فَالضَّمَان على الْأَوَّلِ كَذَا ذَكَر الْكَرْخِيُّ رحمه الله
وَذَكَر مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْكِتَابِ يَنْبَغِي في الْقِيَاسِ أَنْ يَضْمَنَ الْأَوَّلُ ثُمَّ قال وَبِهِ نَأْخُذُ ولم يذكر الِاسْتِحْسَانَ
وَذَكَر الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في الِاسْتِحْسَانِ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِاشْتِرَاكِهِمَا في الْجِنَايَةِ وَهِيَ الْحَفْرُ فَيَشْتَرِكَانِ في الضَّمَانِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ سَبَبَ الْوُقُوعِ حَصَلَ من الْأَوَّلِ وهو الْحَفْرُ بِإِزَالَةِ الْمَسْكَةِ وَالْحَفْرُ من الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ نَصْبِ السِّكِّينِ أو وَضْعِ الْحَجَرِ في قَعْرِ الْبِئْرِ فَكَانَ الْأَوَّلُ كَالدَّافِعِ فَكَانَ الضَّمَانُ عليه وَلَوْ حَفَرَ رَجُلٌ بِئْرًا فَجَاءَ إنْسَانٌ وَوَسَّعَ رَأْسَهَا فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ
هَكَذَا أَطْلَقَ في الْكِتَابِ ولم يُفَصَّلْ
وَقِيلَ جَوَابُ الْكِتَابِ مَحْمُولٌ على ما إذَا وَسَّعَ قَلِيلًا بِحَيْثُ يَقَعُ رَجُلٌ في حَفْرِهِمَا
فَأَمَّا إذَا وَسَّعَ كَثِيرًا بِحَيْثُ يَقَعُ قَدَمُهُ في حَفْرِ الثَّانِي فَالضَّمَانُ على الثَّانِي لَا على الْأَوَّلِ لِأَنَّ التَّوَسُّعَ إذَا كان قَلِيلًا بِحَيْثُ يَقَعُ قَدَمُهُ في حَفْرِهِمَا كان الْوُقُوعُ بِسَبَبٍ
____________________

(7/275)


وُجِدَ مِنْهُمَا وهو حَفْرُهُمَا فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا وإذا كان كَثِيرًا كان الْوُقُوعُ بِسَبَبٍ وُجِدَ من الثَّانِي فَكَانَ الضَّمَانُ عليه
وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا ثُمَّ كَبَسَهَا فَجَاءَ رَجُلٌ وَأَخْرَجَ ما كُبِسَ فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ فَالْكَبْسُ لَا يَخْلُو إمَّا أن كان بِالتُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ وإما كان بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فَإِنْ كان بِالْأَوَّلِ فَالضَّمَانُ على الثَّانِي وَإِنْ كان بِالثَّانِي فَالضَّمَانُ على الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْكَبْسَ بِالتُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ يُعَدُّ طَمًّا لِلْبِئْرِ وَإِلْحَاقًا له بِالْعَدَمِ فَكَانَ إخْرَاجُ ذلك منها بِمَنْزِلَةِ إخْرَاجِ بِئْرٍ أُخْرَى
فَأَمَّا الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَنَحْوِهِمَا فَلَا يُعَدُّ ذلك طَمًّا بَلْ يُعَدُّ شَغْلًا لها
أَلَا يَرَى أَنَّهُ بَقِيَ أَثَرُ الْحَفْرِ بَعْدَ الْكَبْسِ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَلَا يَبْقَى أَثَرُهُ بَعْدَ الْكَبْسِ بِالتُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا وَسَدَّ الْحَافِرَ رَأْسَهَا ثُمَّ جاء إنْسَانٌ فَنَقَضَهُ فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ فَالضَّمَان على الْحَافِرِ لِأَنَّ أَثَرَ الْحَفْرِ لم يَنْعَدِمْ بِالسَّدِّ لَكِنَّ السَّدَّ صَارَ مَانِعًا من الْوُقُوعِ وَالْفَاتِحُ بِالْفَتْحِ أَزَالَ الْمَانِعَ وَزَوَالُ الْمَانِعِ شَرْطٌ لِلْوُقُوعِ وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ لَا إلَى الشَّرْطِ
وَلَوْ وَضَعَ رَجُلٌ حَجَرًا في الطَّرِيقِ فَتَعَثَّرَ عليه رَجُلٌ فَوَقَعَ في بِئْرٍ حَفَرَهَا آخَرُ فَالضَّمَانُ على وَاضِعِ الْحَجَرِ لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِسَبَبِ التَّعَثُّرِ وَالتَّعَثُّرُ بِسَبَبِ وَضْعِ الْحَجَرِ وَالْوَضْعُ تَعَدٍّ منه فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَى وَضْعِ الْحَجَرِ
فَكَانَ الضَّمَانُ على وَاضِعِهِ وَإِنْ كان لم يَضَعْهُ أَحَدٌ وَلَكِنَّهُ حِمْلُ السَّيْلِ فَالضَّمَانُ على الْحَافِرِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُضَافَ إلَى الْحَجَرِ لِعَدَمِ التَّعَدِّيَ منه فَيُضَافُ إلَى الْحَافِرِ لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا في الْحَفْرِ
وَلَوْ اخْتَلَفَ الْحَافِرُ وَوَرَثَةُ الْمَيِّتِ فقال الْحَافِرُ هو أَلْقَى نَفْسَهُ فيها مُتَعَمِّدًا
وقال الْوَرَثَةُ بَلْ وَقَعَ فيها فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَافِرِ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ الْآخَرِ
وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ
وَجْهُ القول الْأَوَّلُ أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يُلْقِي نَفْسَهُ في الْبِئْرِ عَمْدًا وَالْقَوْلُ قَوْلُ من يَشْهَدُ له الظَّاهِرُ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ حَاصِلَ الِاخْتِلَافِ يَرْجِعُ إلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ فَالْوَرَثَةُ يَدَّعُونَ على الْحَافِرِ الضَّمَانَ وهو يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مع يَمِينِهِ ما ( ( ( وما ) ) ) ذَكَرَ من الظَّاهِرِ مُعَارَضٌ بِظَاهِرٍ آخَرَ وهو أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَارَّ على الطَّرِيقِ الذي يَمْشِي فيه يَرَى الْبِئْرَ فَتَعَارَضَ الظَّاهِرَانِ فَبَقِيَ الضَّمَانُ على أَصْلِ الْعَدَمِ
وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا في الطَّرِيقِ فَوَقَعَ رَجُلٌ فيها فَتَعَلَّقَ بِآخَرَ وَتَعَلَّقَ الثَّانِي بِثَالِثٍ فَوَقَعُوا فَمَاتُوا فَهَذَا في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إما أن عَلِمَ حَالَ مَوْتِهِمْ بِأَنْ خَرَجُوا أَحْيَاءً فَأَخْبَرُوا عن حَالِهِمْ
وَإِمَّا أن لم يَعْلَمْ فَإِنْ عَلِمَ ذلك فَأَمَّا مَوْتُ الْأَوَّلِ فَلَا يَخْلُو من سَبْعَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أن عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ في الْبِئْرِ خَاصَّةً
وأما إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّانِي عليه خَاصَّةً
وَإِمَّا أن عَلِمَ أنه مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّالِثِ عليه خَاصَّةً
وَإِمَّا أن عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عليه وَإِمَّا أن عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ في الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّانِي عليه
وَإِمَّا أن عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ في الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّالِثِ عليه
وَإِمَّا أن عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ في الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عليه
فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ في الْبِئْرِ خَاصَّةً فَالضَّمَان على الْحَافِرِ لِأَنَّ الْحَافِرَ هو الْقَاتِلُ تَسْبِيبًا وهو مُتَعَدٍّ فيه فَكَانَ الضَّمَانُ عليه فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّانِي عليه خَاصَّةً فَدَمُهُ هَدَرٌ لِأَنَّهُ هو الذي قَتَلَ نَفْسَهُ حَيْثُ جَرَّهُ على نَفْسِهِ وَجِنَايَةُ الْإِنْسَانِ على نَفْسِهِ هَدَرٌ
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّالِثِ عليه خَاصَّةً فَالضَّمَانُ على الثَّانِي لِأَنَّ الثَّانِيَ هو الذي جَرَّ الثَّالِثَ على الْأَوَّلِ حتى أَوْقَعَهُ عليه
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عليه فَنِصْفُهُ هَدَرٌ وَنِصْفُهُ على الثَّانِي لِأَنَّ جَرَّهُ الثَّانِيَ على نَفْسِهِ هَدَرٌ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ على نَفْسِهِ وَجَرُّ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عليه مُعْتَبَرُ فَهُدِرَ النِّصْفُ وَبَقِيَ النِّصْفُ
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ في الْبِئْرِ وَوُقُوعُ الثَّانِيَ عليه فَالنِّصْفُ على الْحَافِرِ لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ منه بِالْحَفْرِ وَالنِّصْفُ هَدَرٌ لِجَرِّهِ الثَّانِيَ على نَفْسِهِ
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ في الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّالِثِ عليه فَالنِّصْفُ على الْحَافِرِ وَالنِّصْفُ على الثَّانِي لِأَنَّهُ هو الذي جَرَّ الثَّالِثَ على الْأَوَّلِ
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ في الْبِئْرِ ووقع ( ( ( ووقوع ) ) ) الثَّانِي وَالثَّالِثِ عليه فَالثُّلُثُ هَدَرٌ وَالثُّلُثُ على الْحَافِرِ وَالثُّلُثُ على الثَّانِي لِأَنَّهُ مَاتَ بِثَلَاثِ جِنَايَاتٍ أحدها ( ( ( أحدهما ) ) ) هَدَرٌ وَهِيَ جَرُّهُ الثَّانِيَ على نَفْسِهِ فَبَقِيَتْ جِنَايَةُ الْحَافِرِ وَجِنَايَةُ الثَّانِي بجره الثَّالِثَ على الْأَوَّلِ فَتُعْتَبَرُ
وَأَمَّا مَوْتُ الثَّانِي فَلَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أن عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ في الْبِئْرِ خَاصَّةً وَإِمَّا أن عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّالِثِ عليه خَاصَّةً وَإِمَّا أن عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بوقوعه ( ( ( بوقوع ) ) ) في الْبِئْرِ ووقع ( ( ( ووقوع ) ) ) الثَّالِثِ عليه فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِسُقُوطِهِ في الْبِئْرِ خَاصَّةً فَدِيَتُهُ على الْأَوَّلِ وَلَيْسَ على الْحَافِرِ شَيْءٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هو الذي جَرَّهُ إلَى الْبِئْرِ فَكَانَ كَالدَّافِعِ
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّالِثِ عليه خَاصَّةً فَدَمُهُ هَدَرٌ لِأَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِ
____________________

(7/276)


نَفْسِهِ حَيْثُ جَرَّ الثَّالِثَ على نَفْسِهِ فَهُدِرَ دَمُهُ
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِسُقُوطِهِ في الْبِئْرِ ووقع ( ( ( ووقوع ) ) ) الثَّالِثِ عليه فَالنِّصْفُ هَدَرٌ وَالنِّصْفُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مَاتَ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا فِعْلُ نَفْسِهِ وهو جَرُّهُ الثَّالِثَ على نَفْسِهِ وَجِنَايَتُهُ على نَفْسِهِ هَدَرٌ وَالثَّانِي فِعْلُ غَيْرِهِ وهو جَرُّ الْأَوَّلِ وَإِيقَاعُهُ في الْبِئْرِ وَأَمَّا مَوْتُ الثَّالِثِ فَلَهُ وَجْهٌ وَاحِدٌ لَا غَيْرُ وهو سُقُوطُهُ في الْبِئْرِ وَدِيَتُهُ على الثَّانِي لِأَنَّهُ هو الذي جَرَّهُ إلَى الْبِئْرِ وَأَوْقَعَهُ فيه
هذا كُلُّهُ إذَا عُلِمَ حَالُ وُقُوعِهِمْ وَأَمَّا إذَا لم يُعْلَمْ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وُجِدَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ وَإِمَّا أن وُجِدُوا مُتَفَرِّقِينَ فَإِنْ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ فَدِيَةُ الْأَوَّلِ على الْحَافِرِ وَدِيَةُ الثَّانِي على الْأَوَّلِ وَدِيَةُ الثَّالِثِ على الثَّانِي
وَإِنْ كان بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ فَالْقِيَاسُ هَكَذَا أَيْضًا وهو أَنْ يَكُونَ دِيَةُ الْأَوَّلِ على الْحَافِرِ وَدِيَةُ الثَّانِي على الْأَوَّلِ وَدِيَةُ الثَّالِثِ على الثَّانِي
وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
وفي الِاسْتِحْسَانِ دِيَةُ الْأَوَّلِ أَثْلَاثٌ ثُلُثٌ على الْحَافِرِ وَثُلُثٌ على الثَّانِي وَثُلُثٌ هَدَرٌ
وَدِيَةُ الثَّانِي نِصْفَانِ نِصْفٌ هَدَرٌ وَنِصْفٌ على الْأَوَّلِ وَدِيَةُ الثَّالِثِ كُلُّهَا على الثَّانِي ولم يذكر مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ قَوْلُ من وَجَّهَ الْقِيَاسَ أَنَّهُ وُجِدَ لِمَوْتِ كل وَاحِدٍ سَبَبٌ ظَاهِرٌ وهو الْحَفْرُ لِلْأَوَّلِ وَالْجَرُّ من الْأَوَّلِ لِلثَّانِي وَالْجَرُّ من الثَّانِي لِلثَّالِثِ وَإِضَافَةُ الْأَحْكَامِ إلَى الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ أَصْلٌ في الشَّرِيعَةِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ في الْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ كُلُّ وَاحِدٍ منها صَالِحٌ لِلْمَوْتِ وُقُوعُهُ في الْبِئْرِ وَوُقُوعُ الثَّانِي وَوُقُوعُ الثَّالِثِ عليه إلَّا أَنَّ وُقُوعَ الثَّانِي عليه حَصَلَ بِجَرِّهِ إيَّاهُ على نَفْسِهِ فَهَدَرَ الثُّلُثُ وَبَقِيَ الثُّلُثَانِ ثُلُثٌ على الْحَافِرِ بِحَفْرِهِ وَثُلُثٌ على الثَّانِي بِجَرِّهِ الثَّالِثَ على نَفْسِهِ وَوُجِدَ في الثَّانِي شَيْئَانِ الْحَفْرُ وَوُقُوعُ الثاني ( ( ( الثالث ) ) ) عليه إلَّا أَنَّ وُقُوعَهُ عليه حَصَلَ بِجَرِّهِ فَهَدَرَ نِصْفَ الدِّيَةِ وَبَقِيَ النِّصْفُ على الْحَافِرِ ولم يُوجَدْ في الثَّالِثِ إلَّا سَبَبٌ وَاحِدً وهو جَرُّ الثَّانِي إيَّاهُ إلَى الْبِئْرِ وَالْأَصْلُ في الْأَسْبَابِ اعْتِبَارُهَا ما أَمْكَنَ وَاعْتِبَارُهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ما ذَكَرْنَا
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْفِرَ له بِئْرًا في الطَّرِيقِ فَحَفَرَ فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ فَإِنْ كانت الْبِئْرُ في فِنَاءِ الْمُسْتَأْجِرِ فَالضَّمَانُ عليه لَا على الْأَجِيرِ لِأَنَّ له وِلَايَةُ الِانْتِفَاعِ بِفِنَائِهِ إذَا لم يَتَضَمَّنْ الضَّرَرَ بِالْمَارَّةِ على أَصْلِهِمَا مُطْلَقًا وَعَلَى أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا لم يَمْنَعْ منه مَانِعٌ فَانْصَرَفَ مُطْلَقُ الْأَمْرِ بِالْحَفْرِ إلَيْهِ فإذا حَفَرَ في فِنَائِهِ انْتَقَلَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ إلَيْهِ كَأَنَّهُ حَفَرَ بِنَفْسِهِ فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ
وَلَوْ كان كَذَلِكَ وَجَبَ الضَّمَانُ عليه كَذَا هذا وَإِنْ لم يَكُنْ ذلك في فِنَائِهِ فَإِنْ أَعْلَمَ الْمُسْتَأْجِرُ الْأَجِيرَ أَنَّ ذلك ليس من فِنَائِهِ فَالضَّمَانُ على الْأَجِيرِ لَا على الْآمِرِ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لم يَحْفِرْ بِأَمْرِهِ فَبَقِيَ فِعْلَهُ مَقْصُورًا عليه كَأَنَّهُ ابْتَدَأَ الْحَفْرُ من نَفْسِهِ من غَيْرِ أَمْرٍ فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ وَإِنْ لم يُعْلِمْهُ فَالضَّمَانُ على الْآمِرِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ بِالْأَمْرِ بِحَفْرِ الْبِئْرِ في الطَّرِيقِ مُطْلَقًا إنَّمَا يَأْمُرُ بِمَا يَمْلِكَهُ مُطْلَقًا عَادَةً فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْغُرُورِ وهو ضَمَانُ الْكَفَالَةِ في الْحَقِيقَةِ كَأَنَّهُ ضَمِنَ له ما يَلْزَمُهُ من الْحَفْرِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الدَّرَكِ
وَلَوْ أَمَرَ عَبْدَهُ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا في الطَّرِيقِ فَحَفَرَ فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ فَإِنْ كان الْحَفْرُ في فِنَائِهِ فَالضَّمَانُ على عَاقِلَةِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْأَمْرَ بِالْحَفْرِ في هذا الْمَكَانِ فَيَنْتَقِلُ فِعْلُهُ إلَى الْمَوْلَى كَأَنَّهُ حَفَرَ بِنَفْسِهِ وَإِنْ كان في غَيْرِ فِنَائِهِ فَالضَّمَانُ في رَقَبَةِ الْعَبْدِ يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ لِأَنَّ الآمر بِالْحَفْرِ لَا يَنْصَرِفُ إلَى غَيْرِ فِنَائِهِ فَصَارَ مُبْتَدِئًا في الْحَفْرِ بِنَفْسِهِ سَوَاءٌ أَعْلَمَ الْعَبْدَ أَنَّهُ ليس من فِنَائِهِ أو لم يُعْلِمْهُ بِخِلَافِ الْأَجِيرِ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ على الْآمِرِ هُنَاكَ بِمَعْنَى الْغُرُورِ على ما بَيَّنَّا وَلَا يَتَحَقَّقُ الْغُرُورُ فِيمَا بين الْعَبْدِ وَبَيْنَ مَوْلَاهُ فَيَسْتَوِي فيه الْعِلْمُ وَالْجَهْلُ وَإِنْ كان الْحَفْرُ في الْمِلْكِ فَإِنْ كان في مِلْكِ غَيْرِهِ بِأَنْ حَفَرَ بِئْرًا في دَارِ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ يَضْمَنُ الْحَافِرُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ في التَّسْبِيبِ
وَلَوْ قال صَاحِبُ الدَّارِ أنا أَمَرْتُهُ بِالْحَفْرِ وَأَنْكَرَ أَوْلِيَاءُ الْمَيِّتِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُصَدَّقَ صَاحِبُ الدَّارِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ وفي الِاسْتِحْسَانِ يُصَدَّقُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَافِرِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْحَفْرَ وَقَعَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ ظَاهِرًا لِأَنَّهُ صَادَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ وَأَنَّهُ مَحْظُورٌ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا في الْحَفْرِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ فَصَاحِبُ الدَّارِ بِالتَّصْدِيقِ يُرِيدُ إبْرَاءَ الْجَانِي عن الضَّمَانِ فَلَا يُصَدَّقُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قَوْلَ صَاحِبِ الدَّارِ أَمَرْتُهُ بِذَلِكَ إقْرَارٌ منه بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ لِلْحَالِ وهو الْأَمْرُ بِالْحَفْرِ فَيُصَدَّقُ
وَإِنْ كان في مِلْكِ نَفْسِهِ لَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّ الْحَفْرَ مُبَاحٌ مُطْلَقٌ له فلم يَكُنْ مُتَعَدِّيًا في التَّسْبِيبِ وَإِنْ كان في فعله ( ( ( فنائه ) ) ) يَضْمَنُ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ مُبَاحٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالسَّيْرِ في الطَّرِيقِ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْبَعَةً يَحْفِرُونَ له بِئْرًا فَوَقَعَتْ عليهم من حَفْرِهِمْ فَمَاتَ أَحَدُهُمْ فَعَلَى كل وَاحِدٍ من الثَّلَاثَةِ رُبْعُ الدِّيَةِ وَهَدَرَ
____________________

(7/277)


الرُّبْعُ لِأَنَّهُ مَاتَ من أَرْبَعِ جِنَايَاتٍ إلَّا أَنَّ جِنَايَةَ الْمَرْءِ على نَفْسِهِ هَدَرٌ فَبَطَلَ الرُّبْعُ وَبَقِيَ جِنَايَاتُ أَصْحَابِهِ عليه فَتُعْتَبَرُ وَيَجِبُ عليهم ثلاثة ( ( ( ثلاث ) ) ) أَرْبَاعِ الدِّيَةِ على كل وَاحِدٍ منهم الرُّبْعُ
وقد رَوَى الشَّعْبِيُّ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قَضَى على الْقَارِصَةِ وَالْقَامِصَةِ وَالْوَاقِصَةِ بِالدِّيَةِ أَثْلَاثًا وَهُنَّ ثَلَاثُ جواري ( ( ( جوار ) ) ) رَكِبَتْ إحْدَاهُنَّ الْأُخْرَى فَقَرَصَتْ الثَّالِثَةُ الْمَرْكُوبَةَ فَقَمَصَتْ فَسَقَطَتْ الرَّاكِبَةُ فَقَضَى لِلَّتِي وَقَصَتْ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ على صَاحِبَتِهَا وَأَسْقَطَ الثُّلُثَ
لِأَنَّ الْوَاقِصَةَ أَعَانَتْ على نَفْسِهَا
وَرُوِيَ أَنَّ عَشَرَةً مَدُّوا نَخْلَةً فَسَقَطَتْ على أَحَدِهِمْ فَمَاتَ فَقَضَى سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه على كل وَاحِدٍ منهم بِعُشْرِ وَأَسْقَطَ الْعُشْرَ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ أَعَانَ على نَفْسِهِ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ حُرًّا وَعَبْدًا مَحْجُورًا وَمُكَاتَبًا يَحْفِرُونَ له بِئْرًا فَوَقَعَتْ الْبِئْرُ عليهم من حَفْرِهِمْ فَمَاتُوا فَلَا ضَمَانَ على الْمُسْتَأْجِرِ في الْحُرِّ وَلَا في الْمُكَاتَبِ وَيَضْمَنُ قِيمَةَ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ لِمَوْلَاهُ أَمَّا الْحُرُّ وَالْمُكَاتَبُ فَلِأَنَّهُ لم يُوجَدْ فِيهِمَا من الْمُسْتَأْجِرِ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَهُمَا وَقَعَ صَحِيحًا فَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ إيَّاهُمَا في الْحَفْرِ بِنَاءً على عَقْدٍ صَحِيحٍ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ
وَوُقُوعُ الْبِئْرِ عَلَيْهِمَا حَصَلَ من غَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عليه وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّ اسْتِئْجَارَهُ لم يَصِحَّ فَصَارَ الْمُسْتَأْجِرُ بِاسْتِعْمَالِهِ في الْحَفْرِ غَاصِبًا إيَّاهُ فَدَخَلَ في ضَمَانِهِ فإذا هَلَكَ فَقَدْ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَوْلَاهُ
ثُمَّ إذَا دَفَعَ قِيمَتَهُ إلَى الْمَوْلَى فَالْمَوْلَى بدفع ( ( ( يدفع ) ) ) الْقِيمَةَ إلَى وَرَثَةِ الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ فَيَتَضَارَبُونَ فيها فَيَضْرِبُ وَرَثَةُ الْحُرِّ بِثُلُثِ دِيَةِ الْحُرِّ وَوَرَثَةُ الْمُكَاتَبِ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ مَوْتَ كل وَاحِدٍ منهم حَصَلَ بِثَلَاثِ جِنَايَاتٍ بِجِنَايَةِ نَفْسِهِ وَجِنَايَةِ صَاحِبَيْهِ فَصَارَ قَدْرُ الثُّلُثِ من الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ تَالِفًا بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ وَجِنَايَةُ الْقِنِّ تُوجِبُ الدَّفْعَ وَلَوْ كان قِنًّا لَوَجَبَ دَفْعُهُ إلَى وَرَثَةِ الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ يَتَضَارَبُونَ في رَقَبَتِهِ على قَدْرِ حُقُوقِهِمْ فإذا هَلَكَ وَجَبَ دَفْعُ الْقِيمَةِ إلَيْهِمْ يَتَضَارَبُونَ فيها أَيْضًا فَيَضْرِبُ وَرَثَةُ الْحُرِّ فيها بِثُلُثِ دِيَةِ الْحُرِّ وَوَرَثَةُ الْمُكَاتَبِ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْحُرَّ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ وَالْمُكَاتَبَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى على الْمُسْتَأْجِرِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ مَرَّةً أُخْرَى وَيُسَلِّمُ له تِلْكَ الْقِيمَةَ لِأَنَّهُ وَإِنْ رَدَّ الْمَغْصُوبَ إلَى الْمَغْصُوبِ منه يرد ( ( ( برد ) ) ) قِيمَتِهِ إلَيْهِ لَكِنَّهُ رَدَّهُ مَشْغُولًا وقد كان غَصْبُهُ فَارِغًا فلم يَصِحَّ رَدُّهُ في حَقِّ الشُّغْلِ فَيَضْمَنُ الْقِيمَةَ مَرَّةً أُخْرَى وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَرْجِعَ على عَاقِلَةِ الْحُرِّ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ مِلْكَ الْعَبْدِ بِالضَّمَانِ من وَقْتِ الْغَصْبِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ من الْحُرِّ على ثُلُثِ عبد الْمُسْتَأْجِرِ فَيَضْمَنُ ثُلُثَ قِيمَتِهِ فَتُؤْخَذُ من عَاقِلَتِهِ وَيَأْخُذُ وَرَثَةُ الْمُكَاتَبِ أَيْضًا من عَاقِلَةِ الْحُرِّ ثُلُثَ قِيمَةَ الْمُكَاتَبِ لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ من الْحُرِّ على ثُلُثِ قِيمَتِهِ فَيَضْمَنُ ثُلُثَ قِيمَتِهِ فَتُؤْخَذُ من عَاقِلَتِهِ ثُمَّ يُؤْخَذُ من تَرِكَةِ الْمُكَاتَبِ مِقْدَارُ قِيمَتِهِ فَتَكُونُ بين وَرَثَةِ الْحُرِّ وَبَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ منه على الْحُرِّ وَعَلَى الْعَبْدِ يَضْرِبُ وَرَثَةُ الْحُرِّ بِثُلُثِ دِيَةِ الْحُرِّ وَيَضْرِبُ الْمُسْتَأْجِرُ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ جَنَى على ثُلُثِ الْحُرِّ وَعَلَى ثُلُثِ الْعَبْدِ فَأَتْلَفَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَهُ وَالْحُرُّ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ وَالْعَبْدُ بِالْقِيمَةِ وقد مَلَكَ الْمُسْتَأْجِرُ الْعَبْدَ بِالضَّمَانِ فَكَانَ ضَمَانُ الْوَارِدَةِ على مِلْكِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَقَالُوا فِيمَنْ حَفَرَ بِئْرًا في سُوقِ الْعَامَّةِ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ وَمَاتَ أَنَّهُ إنْ كان الْحَفْرُ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ لَا يَضْمَنُ وَإِنْ كان بِغَيْرِ إذْنِهِ يَضْمَنُ وَكَذَلِكَ إذا اتَّخَذَ قَنْطَرَةً لِلْعَامَّةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ
وَوَجْهُهُ أَنَّ ما كان من مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كان الْإِذْنُ بِهِ ثَابِتًا دَلَالَةً وَالثَّابِتُ دَلَالَةً نص ( ( ( كالثابت ) ) )
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ ما يَرْجِعُ إلَى مَصَالِحِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ كان حَقًّا لهم وَالتَّدْبِيرُ في أَمْرِ الْعَامَّةِ إلَى الْإِمَامِ فَكَانَ الْحَفْرُ فيه بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ كَالْحَفْرِ في دَارِ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِ الدَّارِ
هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ الْحَافِرِ في الطَّرِيقِ وَكَذَلِكَ من كان في مَعْنَى الْحَافِرِ مِمَّنْ يُحْدِثُ شيئا في الطَّرِيقِ كَمَنْ أَخْرَجَ جَنَاحًا إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أو نَصَبَ فيه مِيزَابًا فَصَدَمَ إنْسَانًا فَمَاتَ أو بَنَى دُكَّانًا أو وَضَعَ حَجَرًا أو خَشَبَةً أو مَتَاعًا أو قَعَدَ في الطَّرِيقِ لِيَسْتَرِيحَ فَعَثَرَ بِشَيْءٍ من ذلك عَاثِرٌ فَوَقَعَ فَمَاتَ أو وَقَعَ على غَيْرِهِ فَقَتَلَهُ أو حَدَثَ بِهِ أو بِغَيْرِهِ من ذلك الْعَثْرَةِ وَالسُّقُوطِ جِنَايَةٌ من قَتْلٍ أو غَيْرِهِ أو صَبَّ مَاءً في الطَّرِيقِ فَزُلِقَ بِهِ إنْسَانٌ فَهُوَ في ذلك كُلِّهِ ضَامِنٌ
وَكَذَلِكَ ما عَطِبَ بِذَلِكَ من الدَّوَابِّ لِأَنَّهُ سَبَّبَ التَّلَفَ بِإِحْدَاثِ هذه الْأَشْيَاءَ وهو مُتَعَدٍّ في التَّسْبِيبِ فما تَوَلَّدَ منه يَكُونُ مَضْمُونًا عليه كَالْمُتَوَلِّدِ من الرَّمْيِ
ثُمَّ ما كان من الْجِنَايَةِ في بَنِي آدَمَ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةَ إذَا بَلَغَتْ
____________________

(7/278)


الْقَدْرَ الذي تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةَ وهو نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ الرَّجُلِ وما لم يَبْلُغْ ذلك الْقَدْرَ
أو كان منها في غَيْرِ بَنِي آدَمَ يَكُونُ في مَالِهِ لِأَنَّ تَحْمِيلَ الْعَاقِلَةِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ منهم وقد قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } عَرَفْنَاهُ بِنَصٍّ خَاصٍّ في بَنِي آدَمَ بهذا الْقَدْرِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيمَا دُونَهُ وفي غَيْرِ بَنِي آدَمَ على الْأَصْلِ وَلَا كَفَّارَةَ عليه وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لو كان وَارِثًا لِلْمَجْنِيِّ عليه وَلَا الْوَصِيَّةَ لو كان أَجْنَبِيًّا لِأَنَّهُ لم يُبَاشِرْ الْقَتْلَ
وقد قالوا فِيمَنْ وَضَعَ كُنَاسَةً في الطَّرِيقِ فَعَطِبَ بها إنْسَانٌ أنه يَضْمَنُ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِوَضْعِهِ وهو في الْوَضْعِ متعد ( ( ( معتد ) ) )
وقال مُحَمَّدٌ إنْ وَضَعَ ذلك في طَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ وهو من أَهْلِهِ لم يَضْمَنْ لِعَدَمِ التَّعَدِّي منه إذْ الطَّرِيقُ مُشْتَرَكٌ بين أَهْلِ السِّكَّةِ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ من أَهْلِهَا الِانْتِفَاعُ بِهِ كَالدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ
وَلَوْ سَقَطَ الْمِيزَابُ الذي نَصَبَهُ صَاحِبُ الدَّارِ إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ على إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ إنْ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الدَّاخِلُ في الْحَائِطِ لم يَضْمَنْ لِأَنَّهُ في ذلك الْقَدْرِ مُتَصَرِّفٌ في مِلْكِ نَفْسِهِ فلم يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فيه وَإِنْ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الْخَارِجُ إلَى الطَّرِيقِ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ في إخْرَاجِهِ إلَى الطَّرِيقِ وَإِنْ أَصَابَهُ الطَّرَفَانِ جميعا يَضْمَنُ النِّصْفَ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ في النِّصْفِ لَا غَيْرُ وَإِنْ كان لَا يَدْرِيَ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَضْمَنُ شيئا لِأَنَّهُ إنْ كان أَصَابَهُ الطَّرَفُ الدَّاخِلُ لَا يَضْمَنُ وَإِنْ كان أَصَابَهُ الطَّرَف الْخَارِج يَضْمَنُ وَالضَّمَانُ لم يَكُنْ وَاجِبًا فَوَقَعَ الشَّكُّ في وُجُوبِهِ فَلَا يَجِبُ الشك ( ( ( بالشك ) ) )
وفي الِاسْتِحْسَانِ يَضْمَنُ النِّصْفَ لِأَنَّهُ إذَا لم يَعْرِفْ الطَّرَفَ الذي أَصَابَهُ أنه الدَّاخِلُ أو الْخَارِجُ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ أَصَابَهُ الطَّرَفَانِ جميعا كما في الْغَرْقَى وَالْحَرْقَى أنه إذَا لم يُعْرَفْ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ في مَوْتِهِمْ يُجْعَلُ كَأَنَّهُمْ مَاتُوا جُمْلَةً وَاحِدَةً في أَوَانٍ وَاحِدٍ حتى لَا يَرِثَ الْبَعْضُ من الْبَعْضِ كَذَا هذا
وَلَوْ أَحْدَثَ شيئا مِمَّا ذَكَرْنَا في الْمَسْجِدِ بِأَنْ حَفَرَ بِئْرًا في الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ الْمَاءَ أو بَنَى فيه بِنَاءً دُكَّانًا أو غَيْرَهُ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَإِنْ كان الْحَافِرُ وَالْبَانِي من أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَلَا ضَمَانَ عليه وَإِنْ كان من غَيْرِ أَهْلِهِ فَإِنْ فَعَلَ بِإِذْنِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ تَدْبِيرَ مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ إلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ فما فَعَلُوهُ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عليهم كَالْأَبِ أو الْوَصِيِّ إذَا فَعَلَ شيئا من ذلك في دَارِ الْيَتِيمِ وَمُتَوَلِّي الْوَقْفِ إذَا فَعَلَ في الْوَقْفِ
وَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَلَيْسَ له وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ في الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فإذا فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ كان مُتَعَدِّيًا فَكَانَ مَضْمُونًا عليه
وَلَوْ عَلَّقَ قِنْدِيلًا أو بَسَطَ حَصِيرًا أو أَلْقَى فيه الْحَصَى فَإِنْ كان من أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَلَا ضَمَانَ عليه وَإِنْ لم يَكُنْ من أَهْلِ ذلك الْمَسْجِدِ فَإِنْ فَعَلَهُ بِإِذْنِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ يَضْمَنُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وفي قَوْلِهِمَا لَا يَضْمَنُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَسْجِدَ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدِ من آحَادِ الْمُسْلِمِينَ بِسَبِيلٍ من إقَامَةِ مَصَالِحِهِ وَلِأَنَّ هذه الْمَصَالِحَ من عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ وقد قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ من آمَنَ بِاَللَّهِ } من غَيْرِ تَخْصِيصٍ إلَّا أَنَّ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ ضَرْبَ اخْتِصَاصٍ بِهِ فَيَظْهَرُ ذلك في التَّصَرُّفِ في نَفْسِهِ بِالْحَفْرِ وَالْبِنَاءِ لَا في الْقِنْدِيلِ وَالْحَصِيرِ كَالْمَالِكِ مع الْمُسْتَعِيرِ أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ وِلَايَةَ بَسْطِ الْحَصِيرِ وَتَعْلِيقِ الْقِنْدِيلِ في دَارِ الْإِعَارَةِ وَلَيْسَ له وِلَايَةُ الْحَفْرِ وَالْبِنَاءِ
كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ التَّدْبِيرَ في مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ إلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ لَا إلَى غَيْرِهِمْ بِدَلِيلِ أَنَّ لهم وِلَايَةَ مَنْعِ غَيْرِهِمْ عن التَّعْلِيقِ وَالْبَسْطِ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ فَكَانَ الْغَيْرُ مُتَعَدِّيًا في فِعْلِهِ فَالْمُتَوَلِّدُ منه يَكُونُ مَضْمُونًا عليه كما لو وَضَعَ شيئا في دَارِ غَيْرِهِ يغير ( ( ( بغير ) ) ) إذْنِهِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ وَلِهَذَا ضَمِنَ بِالْحَفْرِ وَالْبِنَاءِ
كَذَا هذا وَكَوْنُ الْمَسْجِدَ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَمْنَعُ اخْتِصَاصَ أَهْلِهِ بِالتَّدْبِيرِ وَالنَّظَرِ في مَصَالِحِهِ كَالْكَعْبَةِ فَإِنَّهَا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ اُخْتُصَّ بَنُو شَيْبَةَ بِمَفَاتِحِهَا حتى رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَخَذَ مفتاح ( ( ( مفاتح ) ) ) الْكَعْبَةِ منهم وَدَفَعَهُ إلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ رضي اللَّهُ عنه عِنْدَ طَلَبِهِ ذلك أَمَرَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِرَدِّهِ إلَى بَنِي شَيْبَةَ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا }
وَلَوْ جَلَسَ في الْمَسْجِدِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ إنْ كان في الصَّلَاةِ لَا يَضْمَنُ الْجَالِسُ سَوَاءٌ كان الْجَالِسُ من أَهْلِ الْمَسْجِدِ أو لم يَكُنْ من أَهْلِهِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِلصَّلَاةِ فَلَوْ أُخِذَ الْمُصَلِّي بِالضَّمَانِ لَصَارَ الناس مَمْنُوعِينَ عن الصَّلَاةِ في الْمَسَاجِدِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَإِنْ جَلَسَ لِحَدِيثٍ أو نَوْمٍ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ يَضْمَنُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وفي قَوْلِهِمَا لَا يَضْمَنُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجُلُوسَ في الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ من الحديث وَالنَّوْمِ مُبَاحٌ فلم
____________________

(7/279)


يَكُنْ الْهَلَاكُ حَاصِلًا بِسَبَبٍ هو مُتَعَدٍّ فيه فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ كما لو جَلَسَ في دَارِهِ فَعَبَرَ عليه إنْسَانٌ فَعَطِبَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِلصَّلَاةِ لَا لِلْحَدِيثِ وَالنَّوْمِ فإذا شَغَلَهُ بِذَلِكَ صَارَ مُتَعَدِّيًا فَيَضْمَنُ كما لو جَلَسَ في الطَّرِيقِ لِلِاسْتِرَاحَةِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ أَنَّهُ يَضْمَنُ لِأَنَّ الطَّرِيقَ جُعِلَ لِلِاجْتِيَازِ لَا لِلْجُلُوسِ وإذا جَلَسَ فَقَدْ صَارَ مُتَعَدِّيًا فَيَضْمَنُ
كَذَا هذا
وَقَوْلُهُمَا الْحَدِيثُ وَالنَّوْمُ مُبَاحٌ في الْمَسْجِدِ مُسَلَّمٌ لَكِنْ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ ولم يُوجَدْ الشَّرْطُ فَكَانَ تَعَدِّيًا
وَلَوْ جَلَسَ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ أو لِقِرَاءَةِ قُرْآنٍ أو لِعِبَادَةٍ من الْعِبَادَاتِ غَيْرِ الصَّلَاةِ فَلَا شَكَّ أَنَّ على أَصْلِهِمَا لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ لو جَلَسَ لِغَيْرِ قُرْبَةٍ لَا يَضْمَنُ فإذا جَلَسَ لِقُرْبَةٍ فَهُوَ أَوْلَى
وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ الْمُنْتَظِرَ لِلصَّلَاةِ في الصَّلَاةِ على لِسَانِ رسول اللَّهِ وقال بَعْضُهُمْ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ ليس في الصَّلَاةِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا أُلْحِقَ بِالْمُصَلِّي في حَقِّ الثَّوَابِ لَا غَيْرُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْ هذا الْجِنْسِ جِنَايَةُ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ بِأَنْ سَاقَ دَابَّةً في طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أو قَادَهَا فَوَطِئَتْ إنْسَانًا بيدها ( ( ( بيديها ) ) ) أو بِرِجْلِهَا أو كَدَمَتْ أو صَدَمَتْ أو خَبَطَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا ذَكَرْنَا من الْأَصْلِ أَنَّ السَّوْقَ وَالْقَوْدَ في الطَّرِيقِ مُبَاحٌ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ فإذا حَصَلَ التَّلَفُ بِسَبَبِهِ ولم يُوجَدْ الشَّرْطُ فَوَقَعَ تَعَدِّيًا فَالْمُتَوَلِّدُ منه فِيمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزَ عنه يَكُونُ مَضْمُونًا وَهَذَا مِمَّا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عنه بِأَنْ يَذُودَ الناس عن الطَّرِيقِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا وَسَوَاءٌ كان السَّائِقُ أو الْقَائِدُ رَاجِلًا أو رَاكِبًا إلَّا أَنَّهُ إذَا كان رَاكِبًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إذَا وَطِئَتْ دَابَّتُهُ إنْسَانًا بيدها ( ( ( بيديها ) ) ) أو بِرِجْلِهَا وَيُحْرَمُ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ وَإِنْ كان رَاجِلًا لَا كَفَّارَةَ عليه وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ لِأَنَّ هذه الْأَحْكَامَ يَتَعَلَّقُ ثُبُوتِهَا بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ لَا بِالتَّسْبِيبِ وَالْمُبَاشَرَةِ من الرَّاكِبِ لَا من غَيْرِهِ
وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا سَائِقًا وَالْآخَرُ قَائِدًا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا في التَّسْبِيبِ فَيَشْتَرِكَانِ في الضَّمَانِ
وَكَذَلِكَ إذَا كان أَحَدُهُمَا سَائِقًا وَالْآخَرُ رَاكِبًا أو كان أَحَدُهُمَا قَائِدًا وَالْآخَرُ رَاكِبًا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ على الرَّاكِبِ وَحْدَهُ فِيمَا وَطِئَتْ دَابَّتُهُ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ لِوُجُودِ الْقَتْلِ منه وَحْدَهُ مُبَاشَرَةً فَإِنْ قَادَ قِطَارًا فما أَصَابَ الْأَوَّلُ أو الْآخِرُ أو الْأَوْسَطُ إنْسَانًا بِيَدٍ أو رِجْلٍ أو صَدَمَ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا هو سَبَبُ حُصُولِ التَّلَفِ فَيَضْمَنُ وهو مِمَّا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عنه كما إذَا وَضَعَ حَجَرًا في الطَّرِيقِ أو حَفَرَ فيه بِئْرًا فَإِنْ كان معه سَائِقٌ في آخِرِ الْقِطَارِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبُ التَّلَفِ وَإِنْ كان السَّائِقُ في وَسَطِ الْقِطَارِ فما أَصَابَ مِمَّا خَلْفَ هذا السَّائِقِ وما بين يَدَيْهِ شيئا فَهُوَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ ما بين يَدَيْهِ هو له سَائِقٌ وَالْأَوَّلُ له قَائِدٌ وما خَلْفَهُ هُمَا له قَائِدَانِ أَمَّا قَائِدُ الْقِطَارِ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّ بَعْضَهُ مَرْبُوطٌ بِبَعْضٍ
وَأَمَّا السَّائِقُ الذي في وَسَطِ الْقِطَارِ فَلِأَنَّهُ يسوقه ( ( ( بسوقه ) ) ) ما بين يَدَيْهِ قَائِدٌ لِمَا خَلْفَهُ لِأَنَّ ما خَلْفَهُ يَنْقَادُ بِسَوْقِهِ فَكَانَ قَائِدًا له وَالْقَوْدُ وَالسَّوْقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لِمَا بَيَّنَّا
وَإِنْ كان أَحْيَانًا في وَسَطِ الْقِطَارِ وَأَحْيَانًا يَتَأَخَّرُ وَأَحْيَانًا يَتَقَدَّمُ وهو يَسُوقُهَا في ذلك فَهُوَ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ سَائِقٌ وَقَائِدٌ وَالسَّوْقُ وَالْقَوْدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ
وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً أَحَدُهُمْ في مُقَدَّمَةِ الْقِطَارِ وَالْآخَرُ في مؤخر ( ( ( مؤخرة ) ) ) الْقِطَارِ وَآخَرُ في وَسَطِهِ فَإِنْ كان الذي في الْوَسَطِ وَالْمُؤَخَّرِ لَا يَسُوقَانِ وَلَكِنَّ الْمُقَدَّمَ يَقُودُ فما أَصَابَ الذي قُدَّامُ الْوَسَطِ شيئا فَذَلِكَ كُلُّهُ على الْقَائِدِ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِسَبَبِ الْقَوْدِ وما أَصَابَ الذي خَلْفَهُ فَذَلِكَ على الْقَائِدِ الْأَوَّلِ وَعَلَى الذي في الْوَسَطِ لِأَنَّهُمَا قَائِدَانِ لِمَا بَيَّنَّا وَعَلَى الْمُؤَخَّرِ أَيْضًا إنْ كان يَسُوقُ هو وَإِنْ كان لَا يَسُوقُ لَا شَيْءَ عليه لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه صُنْعٌ وَإِنْ كَانُوا جميعا يَسُوقُونَ فما تَلِفَ بِذَلِكَ فَضَمَانُهُ عليهم جميعا لِوُجُودِ التَّسْبِيبِ منهم جميعا
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْكَيْسَانِيَّاتِ لو أَنَّ رَجُلًا يَقُودُ قِطَارًا وَآخَرُ من خَلْفِ الْقِطَارِ يَسُوقُهُ يَزْجُرُ الْإِبِلَ فَيَنْزَجِرْنَ بِسَوْقِهِ وَعَلَى الْإِبِلِ قَوْمٌ في الْمَحَامِلِ نِيَامٌ فوطىء ( ( ( فوطئ ) ) ) بَعِيرٌ منها إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَالدِّيَةُ على عَاقِلَةِ الْقَائِدِ وَالسَّائِقِ وَالرَّاكِبِ على الْبَعِيرِ الذي وطىء وَعَلَى الرَّاكِبِينَ على الَّذِينَ قُدَّامَ الْبَعِيرِ الذي وطىء على عَوَاقِلِهِمْ جميعا على عَدَدِ الرؤوس وَالْكَفَّارَةُ على رَاكِبِ الْبَعِيرِ الذي وطىء خَاصَّةً أَمَّا السَّائِقُ وَالْقَائِدُ فَلِأَنَّهُمَا مُقَرِّبَانِ الْقِطَارَ إلَى الْجِنَايَةِ فَكَانَا مُسَبِّبَيْنِ لِلتَّلَفِ
وَأَمَّا الرَّاكِبُ لِلْبَعِيرِ الذي وطىء فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ

____________________

(7/280)


وَأَمَّا الرَّاكِبُونَ أَمَام الْبَعِيرِ الذي وطىء فَلِأَنَّهُمْ قَادَةٌ لِجَمِيعِ ما خَلْفَهُمْ فَكَانُوا قَائِدِينَ لِلْبَعِيرِ الواطىء ضَرُورَةً فَكَانُوا مُسَبِّبِينَ لِلتَّلَفِ أَيْضًا فَاشْتَرَكُوا في سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَانْقَسَمَ الضَّمَانُ عليهم وَإِنَّمَا كانت الْكَفَّارَةُ على رَاكِبِ الْبَعِيرِ الذي وطىء خَاصَّةً لِأَنَّهُ قَاتِلٌ بِالْمُبَاشَرَةِ لِحُصُولِ التَّلَفِ بِثِقَلِهِ وَثِقَلِ الدَّابَّةِ إلَّا أَنَّ الدَّابَّةَ آلَةٌ له فَكَانَ الْأَثَرُ الْحَاصِلُ بِفِعْلِهِ مُضَافًا إلَيْهِ فَكَانَ قَاتِلًا بِالْمُبَاشَرَةِ
وَمَنْ كان من الرُّكْبَانِ خَلْفَ الْبَعِيرِ الذي وطىء لَا يَزْجُرُ الْإِبِلَ وَلَا يَسُوقُهَا رَاكِبًا على بَعِيرٍ منها أو غَيْرِ رَاكِبٍ فَلَا ضَمَانَ على أَحَدٍ منهم لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منهم سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ إذْ لم يسوقوا ( ( ( يسرقوا ) ) ) الْبَعِيرَ الذي وطىء ولم يَقُودُوهُ فَصَارُوا كمتاع ( ( ( كالمتاع ) ) ) على الْإِبِلِ
وَلَوْ قَادَ قِطَارًا أو ( ( ( وعلى ) ) ) على بَعِيرٍ في وَسَطِ الْقِطَارِ رَاكِبٌ لَا يَسُوقُ منه شيئا فَضَمَانُ ما كان بين يَدَيْهِ على الْقَائِدِ خَاصَّةً وَضَمَانُ ما خَلْفَهُ عَلَيْهِمَا جميعا لِأَنَّ الرَّاكِبَ غَيْرُ سَائِقٍ لِمَا بين يَدَيْهِ لِأَنَّ رُكُوبَهُ لِهَذَا الْبَعِيرِ لَا يَكُونُ سَوْقًا لِمَا بين يَدَيْهِ كما أَنَّ مَشْيَهُ إلَى جَانِبِ الْبَعِيرِ لَا يَكُونُ سَوْقًا إيَّاهُ إذَا لم يَسُقْهُ وَلَكِنَّهُ سَائِقٌ لِمَا رَكِبَهُ لِأَنَّ الْبَعِيرَ إنَّمَا يَسِيرُ بِرُكُوبِ الرَّاكِبِ وَحَثِّهِ وإذا كان سَائِقًا له كان قَائِدًا لِمَا خَلْفَهُ فَكَانَ ضَمَانُهُ عَلَيْهِمَا
وإذا كان الرَّجُلُ يَقُودُ قِطَارًا فَجَاءَ رَجُلٌ وَرَبَطَ إلَيْهِ بَعِيرًا فوطىء ( ( ( فوطئ ) ) ) الْبَعِيرُ إنْسَانًا فَالْقَائِدُ لَا يَخْلُو إمَّا أن كان لَا يَعْلَمُ بِرَبْطِهِ وَإِمَّا أن عَلِمَ ذلك فَإِنْ لم يَعْلَمْ فَالدِّيَةُ على الْقَائِدِ تَتَحَمَّلُ عنه عَاقِلَتُهُ ثُمَّ عَاقِلَتُهُ يَرْجِعُونَ على عَاقِلَةِ الرَّابِطِ
أَمَّا وُجُوبُ الدِّيَةِ على الْقَائِدِ فَلِأَنَّهُ قَاتِلٌ تَسْبِيبًا وَضَمَانُ الْقَتْلِ ضَمَانُ إتْلَافٍ وأنه لَا يَخْتَلِفُ بِالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ
وَأَمَّا رُجُوعُ عَاقِلَةِ الْقَائِدِ على عَاقِلَةِ الرَّابِطِ فَلِأَنَّ الرَّابِطَ مُتَعَدٍّ في الرَّبْطِ وهو السَّبَبُ في لُزُومِ الضَّمَانِ لِلْقَائِدِ فَكَانَ الرُّجُوعُ عليه
وَكَذَلِكَ لو كانت الْإِبِلُ وُقُوفًا لَا تُقَادُ فَجَاءَ رَجُلٌ وَرَبَطَ إلَيْهَا بَعِيرًا وَالْقَائِدُ لَا يَعْلَمُ فَقَادَ الْبَعِيرَ مَعَهَا فوطىء ( ( ( فوطئ ) ) ) الْبَعِيرُ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَالدِّيَةُ على الْقَائِدِ يَتَحَمَّلُ عنه عَاقِلَتُهُ إلَّا أَنَّ هَهُنَا لَا تَرْجِعُ عَاقِلَةُ الْقَائِدِ على عَاقِلَةِ الرَّابِطِ لِأَنَّ الرَّابِطَ وَإِنَّ تَعَدَّى في الرَّبْطِ وإنه سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لَكِنَّ الْقَائِدَ لَمَّا قَادَ الْبَعِيرَ عن ذلك الْمَكَانِ فَقَدْ أَزَالَ تَعَدِّيَهُ فَيَزُولُ الضَّمَانُ عنه وَيَتَعَلَّقُ بِالْقَائِدِ كَمَنْ وَضَعَ حَجَرًا في الطَّرِيق فَجَاءَ إنْسَانٌ فَدَحْرَجَهُ عن ذلك الْمَكَانِ ثُمَّ عَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَالضَّمَانُ على الثَّانِي لَا على الْأَوَّلِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ هُنَاكَ وُجِدَ الرَّبْطُ وَالْإِبِلُ سَائِرَةٌ فلم يَسْتَقِرَّ مَكَانُ التَّعَدِّي لِيَزُولَ بِالِانْتِقَالِ عنه فَبَقِيَ التَّعَدِّيَ بِبَقَاءِ الرَّبْطِ
وَإِنْ كان الْقَائِدُ عَلِمَ بِالرَّبْطِ في الْمَسْأَلَتَيْنِ جميعا فَقَادَهُ على ذلك فوطىء ( ( ( فوطئ ) ) ) الْبَعِيرُ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَالدِّيَةُ على الْقَائِدِ تَتَحَمَّلُ عنه عَاقِلَتُهُ وَلَا تَرْجِعُ عَاقِلَتُهُ على عَاقِلَةِ الرَّابِطِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَادَ مع عِلْمِهِ بِالرَّبْطِ فَقَدْ رضي بِمَا يلحقه ( ( ( لحقه ) ) ) من الْعُهْدَةِ في ذلك فَصَارَ عِلْمُهُ بِالرَّبْطِ بِمَنْزِلَةِ أَمْرِهِ بِالرَّبْطِ وَلَوْ رَبَطَ بِأَمْرِهِ كان الْأَمْرُ على ما وَصَفْنَا كَذَا هذا
وَلَوْ سَقَطَ سَرْجُ دَابَّةٍ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَالدِّيَةُ على السَّائِقِ أو الْقَائِدِ لِأَنَّ السُّقُوطَ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَقْصِيرٍ منه في شَدِّ الْحِزَامِ فَكَانَ مُسَبِّبًا لِلْقَتْلِ مُتَعَدِّيًا في التَّسْبِيبِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْ هذا النَّوْعِ جِنَايَةُ النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الدَّابَّةَ الْمَنْخُوسَةَ أو الْمَضْرُوبَةَ إمَّا أَنْ يَكُونَ عليها رَاكِبٌ وَإِمَّا أن لَا يَكُونَ عليها رَاكِبٌ فَإِنْ كان عليها رَاكِبٌ فَالرَّاكِبُ لَا يَخْلُو إمَّا أن كان سَائِرًا وَإِمَّا أن كان وَاقِفًا وَالسَّيْرُ وَالْوُقُوفُ إمَّا أَنْ يَكُونَ في مَوْضِعٍ أُذِنَ له بِذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ في مَوْضِعٍ لم يُؤْذَنْ له بِهِ وَالنَّاخِسُ أو الضَّارِبُ لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ نَخَسَ أو ضَرَبَ بِغَيْرِ أَمْرِ الرَّاكِبِ أو بِأَمْرِهِ فَإِنْ فَعَلَ ذلك بِغَيْرِ أَمْرِ الرَّاكِبِ فَنَفَحَتْ الدَّابَّةُ بِرِجْلِهَا أو ذَنَبِهَا أو نَفَرَتْ فَصَدَمَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَإِنْ فَعَلَتْ شيئا من ذلك على فَوْرِ النَّخْسَةِ وَالضَّرْبَةِ فَالضَّمَانُ على النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ يَتَحَمَّلُ عنهما عَاقِلَتُهُمَا لَا على الرَّاكِبِ سَوَاءٌ كان الرَّاكِبُ وَاقِفًا أو سَائِرًا وَسَوَاءٌ كان في سَيْرِهِ أو وُقُوفِهِ فِيمَا أُذِنَ له بِالسَّيْرِ فيه وَالْوُقُوفِ أو فِيمَا لم يُؤْذَنْ بِأَنْ كان يَسِيرُ في مِلْكِهِ أو في طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أو في مِلْكِ الْغَيْرِ أو كان يَقِفُ في مِلْكِهِ أو في سُوقِ الْخَيْلِ وَنَحْوِهِ أو في طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِسَبَبِ النَّخْسِ أو الضَّرْبِ وهو مُتَعَدٍّ في السَّبَبِ فَيَضْمَنُ ما تَوَلَّدَ منه كما لو دَفَعَ الدَّابَّةَ على غَيْره وَالرَّاكِبُ الْوَاقِفُ على طَرِيقِ الْعَامَّةِ وَإِنْ كان مُتَعَدِّيًا أَيْضًا لَكِنَّهُ ليس بِمُتَعَدٍّ في التَّعَدِّي وَالنَّاخِسُ مُتَعَدٍّ في التَّعَدِّي وَكَذَا الضَّارِبُ فَأَشْبَهَ الدَّافِعَ مع الْحَافِرِ وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ ضَمَّنَ النَّاخِسَ دُونَ الرَّاكِبِ
وَكَذَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ فَعَلَ هَكَذَا وكان ذلك مِنْهُمَا بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُعْرَفْ
____________________

(7/281)


الْإِنْكَارُ من أَحَدٍ فَيَكُونُ إجْمَاعًا من الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا شُرِطَ الْفَوْرُ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ على النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ لِأَنَّ الْهَلَاكَ عِنْدَ سُكُونِ الْفَوْرِ يَكُونُ مُضَافًا إلَى الدَّابَّةِ لَا إلَى النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ
وَلَوْ نَخَسَهَا أو ضَرَبَهَا وهو سَائِرٌ عليها فَوَطِئَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ
لم يُذْكَرْ هذا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِثِقَلِ الرَّاكِبِ وَفِعْلِ النَّاخِسِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَقَدْ اشْتَرَكَا في سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ
وَكَذَلِكَ إذَا كان وَاقِفًا عليها لِمَا قُلْنَا
وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ على الرَّاكِبِ لِوُجُودِ الْقَتْلِ منه مُبَاشَرَةً كما قُلْنَا في الرَّاكِبِ مع السَّائِقِ أو الْقَائِدِ
وَلَوْ نَخَسَهَا أو ضَرَبَهَا فَوَثَبَتْ وَأَلْقَتْ الرَّاكِبَ فَالنَّاخِسُ أو الضَّارِبُ ضَامِنٌ لِحُصُولِ التَّلَفِ بِسَبَبٍ هو مُتَعَدٍّ فيه وهو النَّخْسُ وَالضَّرْبُ فَيَضْمَنُ ما تَوَلَّدَ منه فَإِنْ لم تُلْقِهِ وَلَكِنَّهَا جَمَحَتْ بِهِ فما أَصَابَتْ في فَوْرِهَا ذلك فَعَلَى النَّاخِسِ أو الضَّارِبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِعْلَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقَعَ سَبَبًا لِلْهَلَاكِ وهو مُتَعَدٍّ في التَّسْبِيبِ فَإِنْ نَفَحَتْ الدَّابَّةُ النَّاخِسَ أو الضَّارِبَ فَقَتَلَتْهُ فَدَمُهُ هَدَرٌ لِأَنَّهُ هَلَكَ من جِنَايَةِ نَفْسِهِ وَجِنَايَةُ الْإِنْسَانِ على نَفْسِهِ هَدَرٌ
هذا إذَا نَخَسَ أو ضَرَبَ بِغَيْرِ أَمْرِ الرَّاكِبِ فَأَمَّا إذَا فَعَلَ ذلك بِأَمْرِ الرَّاكِبِ فَإِنْ كان الرَّاكِبُ سَائِرًا فِيمَا أُذِنَ له بِالسَّيْرِ فيه بِأَنْ كان يَسِيرُ في مِلْكِ نَفْسِهِ أو في طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أو وَاقِفًا فِيمَا أُذِنَ له بِالْوُقُوفِ بِأَنْ وَقَفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ أو في سُوقِ الْخَيْلِ وَغَيْرِهِ من الْمَوَاضِعِ التي أُذِنَ بِالْوُقُوفِ فيها فَنَفَحَتْ الدَّابَّةُ بِرِجْلِهَا إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَلَا ضَمَانَ على النَّاخِسِ وَلَا على الضَّارِبِ وَلَا على الرَّاكِبِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِمَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ فَصَحَّ أَمْرُهُ بِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَخَسَ أو ضَرَبَ بِنَفْسِهِ فَنَفَحَتْ وقد ذَكَرْنَا أَنَّ النَّفْحَةَ في حَالِ السَّيْرِ وَالْوُقُوفَ في مَوْضِعٍ إذن بِالسَّيْرِ أو الْوُقُوفِ فيه غَيْرُ مَضْمُونٍ على أَحَدٍ لَا على الرَّاكِبِ وَلَا على السَّائِقِ وَلَا على الْقَائِدِ وَإِنْ كان الرَّاكِبُ سَائِرًا فِيمَا لم يُؤْذَنْ له بِالسَّيْرِ بِأَنْ كان يَسِيرُ في مِلْكِ الْغَيْرِ أو كان وَاقِفًا فِيمَا لم يُؤْذَنْ له بِالْوُقُوفِ فيه كما إذَا كان وَاقِفًا في مِلْكِ غَيْرِهِ أو في طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَنَفَحَتْ فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ نِصْفٌ على النَّاخِسِ أو الضَّارِبِ وَنِصْفٌ على الرَّاكِبِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا
كَذَا ذُكِرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرَوَى ابْنَ سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الضَّمَانَ على الرَّاكِبِ
وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّاخِسَ أو الضَّارِبَ نَخَسَ أو ضَرَبَ لها بِإِذْنِ الرَّاكِبِ وهو رَاكِبٌ وهو يَمْلِكُ ذلك بِنَفْسِهِ فَانْتَقَلَ فِعْلُهُ إلَيْهِ فَكَانَ فِعْلَهُ بِنَفْسِهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عليه
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ النَّاخِسَ أو الضَّارِبَ مع الرَّاكِبِ اشْتَرَكَا في سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ
أَمَّا النَّاخِسُ أو الضَّارِبُ فَلَا يُشْكَلُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْقَتْلِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على سَبِيلِ التَّعَدِّي
وَأَمَّا الرَّاكِبُ فَلِأَنَّهُ صَارَ بِالْأَمْرِ بِالنَّخْسِ أو الضَّرْبِ نَاخِسًا أو ضَارِبًا وَالنَّفْحَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ من نَخْسِهِ وَضَرْبِهِ في هذه الْمَوَاضِعِ مَضْمُونَةٌ عليه إلَّا أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا لِحُصُولِ الْقَتْلِ بِالتَّسْبِيبِ لَا بِالْمُبَاشَرَةِ
هذا إذَا نَفَحَتْ فَأَمَّا إذَا صَدَمَتْ فَإِنْ كان الرَّاكِبُ سَائِرًا أو وَاقِفًا في مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا ضَمَانَ على النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ وَلَا على الرَّاكِبِ لِأَنَّ فِعْلَ النَّخْسِ وَالضَّرْبِ مُضَافٌ إلَى الرَّاكِبِ لِحُصُولِهِ بِأَمْرِهِ وَالصَّدْمَةُ في الْمِلْكِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ على الرَّاكِبِ سَوَاءٌ كان سَائِرًا أو وَاقِفًا وَإِنْ كان سَيْرُهُ أو وُقُوفُهُ في طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أو في مِلْكِ الْغَيْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في النَّفْحَةِ إذَا كان الرَّاكِبُ وَاقِفًا في مَوْضِعٍ لم يُؤْذَنْ بِالْوُقُوفِ فيه لِأَنَّ الصَّدْمَةَ مَضْمُونَةٌ على الرَّاكِبِ إذَا كان في طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَاقِفًا كان أو سَائِرًا وَكَذَا في مِلْكِ الْغَيْرِ فيتأتى ( ( ( فيأتي ) ) ) فيه الْخِلَافُ الذي ذَكَرْنَا في النَّفْحَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا نَفَحَتْ أو صَدَمَتْ فَأَمَّا إذَا وَطِئَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ كان الرَّاكِبُ سَائِرًا أو وَاقِفًا في أَيِّ مَوْضِعٍ كان فِيمَا أُذِنَ فيه أو لم يُؤْذَنْ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا في سَبَبِ الْقَتْلِ لِحُصُولِ الْمَوْتِ بِثِقَلِ الرَّاكِبِ وَالدَّابَّةِ وَفِعْلِ النَّاخِسِ وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ على الرَّاكِبِ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ مُبَاشَرَةً فَصَارَ الرَّاكِبُ مع النَّاخِسِ كَالرَّاكِبِ مع السَّائِقِ وَالْقَائِدِ أَنَّ الدِّيَةَ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ وَالْكَفَّارَةُ على الرَّاكِبِ خَاصَّةً كَذَا هَهُنَا
هذا الذي ذَكَرْنَا إذَا كان على الدَّابَّةِ الْمَنْخُوسَةِ أو الْمَضْرُوبَةِ رَاكِبٌ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ عليها رَاكِبٌ
فَإِنْ لم يَكُنْ لَا سَائِقٌ وَلَا قَائِدٌ فَنَخَسَهَا إنْسَانٌ أو ضَرَبَهَا فما أَصَابَتْ شيئا على فَوْرِ النَّخْسَةِ وَالضَّرْبَةِ فَضَمَانُهُ على النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ في أَيِّ مَوْضِعٍ كانت الدَّابَّةُ لِأَنَّهُ سَبَّبَ الْإِتْلَافَ بِالنَّخْسِ وَالضَّرْبِ وهو مُتَعَدٍّ في التَّسْبِيبِ فما تَوَلَّدَ منه يَكُونُ مَضْمُونًا عليه
وَإِنْ كان عليها سَائِقٌ أو قَائِدٌ فَنَخَسَ أو ضَرَبَ
____________________

(7/282)


بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَنَفَحَتْ أو نَفَرَتْ فَصَدَمَتْ أو وَطِئَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَالضَّمَانُ على النَّاخِسِ أو الضَّارِبِ لَا على السَّائِقِ وَالْقَائِدِ في أَيِّ مَوْضِعٍ كان النَّاخِسُ وَالْقَائِدُ لِأَنَّ النَّاخِسَ مع السَّائِقِ وَالْقَائِدِ كَالدَّافِعِ مع الْحَافِرِ لِأَنَّهُ بِالنَّخْسِ أو الضَّرْبِ كَأَنَّهُ دَفَعَ الدَّابَّةَ على غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ إذَا كان لها سَائِقٌ وَقَائِدٌ يَقُودُ أَحَدُهُمَا وَيَسُوقُ الْآخَرُ فَنَخَسَ أو ضَرَبَ بِغَيْرِ إذْنِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالضَّمَانُ على النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ لَا عَلَيْهِمَا في أَيِّ مَوْضِعٍ كان النَّاخِسُ وَالْقَائِدُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّاخِسَ مُتَعَمِّدٌ كَالدَّافِعِ لِلدَّابَّةِ وَكَذَا الضَّارِبُ وَلَا تَعَمُّدَ من السَّائِقِ وَالْقَائِدِ
وَإِنْ كان كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَنَفَحَتْ فَإِنْ كان سَوْقُهُ أو قَوْدُهُ فِيمَا أُذِنَ له بِالسَّوْقِ وَالْقَوْدِ فيه فَلَا ضَمَانَ على النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ وَإِنْ فَعَلَ ذلك بِأَمْرِ السَّائِقِ أو الْقَائِدِ فَإِنْ كان يَسُوقُ أو يَقُودُ فِيمَا أُذِنَ له بِالسَّوْقِ وَالْقَوْدِ فيه بِأَنْ كان في مِلْكِهِ أو في طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لَا ضَمَانَ على أَحَدٍ لِأَنَّ فِعْلَهُ يُضَافُ إلَيْهِ كَالسَّائِقِ أو الْقَائِدِ
وَإِنْ كان يَسُوقُ أو يَقُودُ فِيمَا أُذِنَ له بِذَلِكَ بِأَنْ كان في مِلْكِ الْغَيْرِ فَعَلَى قِيَاسِ ما ذَكَرْنَا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الضَّمَانُ على النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ وَعَلَى السَّائِقِ أو الْقَائِدِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا وَعَلَى قِيَاسِ ما ذَكَرَهُ ابن رُسْتُمَ عن أبي يُوسُفَ الضَّمَانُ على السَّائِقِ أو الْقَائِدِ خَاصَّةً وَإِنْ صَدَمَتْ فَقَتَلَتْ إنْسَانًا فَإِنْ كان السَّائِقُ يَسُوقُ في مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا ضَمَانَ على أَحَدٍ لِأَنَّ فِعْلَ النَّاخِسِ أو الضَّارِبِ بِأَمْرِ السَّائِقِ أو الْقَائِدِ مُضَافٌ إلَيْهِ وَالصَّدْمَةُ في الْمِلْكِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ على السَّائِقِ وَالْقَائِدِ وَالرَّاكِبِ
وَإِنْ كان يَسُوقُ أو يَقُودُ في طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أو في مِلْكِ الْغَيْرِ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ
وَإِنْ وَطِئَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ أَيْضًا سَوَاءٌ كان سَوْقُهُ أو قَوْدُهُ فِيمَا أُذِنَ له بِالسَّوْقِ أو الْقَوْدِ فيه أو لم يَكُنْ لِأَنَّ الْوَطْأَةَ مَضْمُونَةٌ على كل حَالٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَإِنْ وَطِئَتْ تَجِبُ الْقِيمَةُ بِلَا خِلَافٍ لَكِنْ في قِيَاسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ على النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ وَعَلَى السَّائِقِ وَالْقَائِدِ نِصْفَانِ وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ على السَّائِقِ وَالْقَائِدِ خَاصَّةً
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَمِنْ هذا الْقَبِيلِ جِنَايَةُ الْحَائِطِ الْمَائِلِ إذَا سَقَطَ على رَجُلٍ فَقَتَلَهُ أو على مَتَاعٍ فَأَفْسَدَهُ أو على دَارٍ فَهَدَمَهَا أو على حَيَوَانٍ فَعَطِبَ بِهِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْحَائِطَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ بُنِيَ مُسْتَوِيًا مُسْتَقِيمًا ثُمَّ مَالَ
وَإِمَّا أن بُنِيَ مَائِلًا من الْأَصْلِ فَإِنْ بنى مُسْتَقِيمًا ثُمَّ مَالَ فَمَيَلَانُهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ إلَى الطَّرِيقِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إلَى مِلْكِ إنْسَانٍ فَإِنْ كان إلَى الطَّرِيقِ لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ نَافِذًا وهو طَرِيقُ الْعَامَّةِ أو غير نَافِذٍ وهو السِّكَّةُ التي لَيْسَتْ بِنَافِذَةٍ فَإِنْ كان نَافِذًا فَسَقَطَ فَعَطِبَ بِهِ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا يَجِبُ الضَّمَانُ على صَاحِبِ الْحَائِطِ إذَا وُجِدَ شَرَائِطُ وُجُوبِهِ فَيَقَعُ الْكَلَامَ في سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ ماهية الضَّمَانِ الْوَاجِبِ وَكَيْفِيَّتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَسَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ هو التَّعَدِّي بِالتَّسْبِيبِ إلَى الْإِتْلَافِ بِتَرْكِ النَّقْضِ الْمُسْتَحَقِّ مع الْقُدْرَةِ على النَّقْضِ لِأَنَّهُ إذَا مَالَ إلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ فَقَدْ حَصَلَ الْهَوَاءُ في يَدِ صَاحِبِ الْحَائِطِ من غَيْرِ فِعْلِهِ وهو الطَّرِيقُ حَقُّ الْعَامَّةِ كَنَفْسِ الطَّرِيقِ فَقَدْ حَصَلَ حَقُّ الْغَيْرِ في يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فإذا طُولِبَ بِالنَّقْضِ فَقَدْ لَزَمَهُ إزَالَةُ يَدِهِ عنه بِهَدْمِ الْحَائِطِ فإذا لم يَفْعَلْ مع الْإِمْكَانِ فَقَدْ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِاسْتِبْقَاءِ يَدِهِ عليه كَثَوْبٍ هَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ فَأَلْقَتْهُ في دَارِ إنْسَانٍ فَطُولِبَ بِهِ فَامْتَنَعَ من الرَّدِّ مع إمْكَانِ الرَّدِّ حتى هَلَكَ يَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وقد رُوِيَ عن جَمَاعَةٍ من التَّابِعِينَ مِثْلِ الشُّعَبِيِّ وَشُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمْ رحمه ( ( ( رحمهم ) ) ) اللَّهُ أَنَّهُمْ قالوا إذَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ في الْحَائِطِ فلم يَهْدِمْهُ وَجَبَ عليه الضَّمَانُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ منها ( ( ( فمنها ) ) ) الْمُطَالَبَةُ بِالنَّقْضِ حتى لو سَقَطَ قبل الْمُطَالَبَةِ فَعَطِبَ بِهِ شَيْءٌ لَا ضَمَانَ على صَاحِبِ الْحَائِطِ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِتَرْكِ النَّقْضِ الْمُسْتَحَقِّ لِأَنَّ بِهِ يَصِيرُ مُتَعَدِّيًا في التَّسْبِيبِ إلَى الْإِتْلَافِ وَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِدُونِ الْمُطَالَبَةِ وَصُورَةُ الْمُطَالَبَةِ هِيَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ وَاحِدٌ من عَرَضِ الناس فيقول له إنَّ حَائِطَكَ هذا مَائِلٌ أو مَخُوفٌ فَارْفَعْهُ فإذا قال ذلك لَزِمَهُ رَفْعُهُ لِأَنَّ هذا حَقُّ الْعَامَّةِ فإذا قام بِهِ الْبَعْضُ صَارَ خَصْمًا عن الْبَاقِينَ سَوَاءٌ كان الذي تَقَدَّمَ إلَيْهِ مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا حُرًّا أو عَبْدًا بَعْدَ أن كان أَذِنَ له مَوْلَاهُ بِالْخُصُومَةِ فيه بَالِغًا أو صَبِيًّا بَعْدَ أن كان عَاقِلًا وقد أَذِنَ له وَلِيُّهُ بِالْخُصُومَةِ فيه لِأَنَّ الطَّرِيقَ حَقُّ جَمِيعِ أَهْلِ الدَّارِ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ من أَهْلِ الدَّارِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِإِزَالَةِ سَبَبِ الضَّرَرِ عنه إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ من عَقْلِ الطَّالِبِ وَكَوْنِهِ مَأْذُونًا بِالتَّصَرُّفِ لِأَنَّ كَلَامَ الْمَجْنُونِ وَالْمَحْجُورِ عليه غَيْرُ مُعْتَبَرٍ في الشَّرْعِ فَكَانَ=ج23=

ج23. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587.

مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ وَيَنْبَغِيَ أَنْ يَشْهَدَ على الطَّلَبِ
وَتَفْسِيرُ الْإِشْهَادِ ما ذَكَره مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وهو أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ اشْهَدُوا أَنِّي قد تَقَدَّمْتُ إلَى هذا الرَّجُلِ في هَدْمِ حَائِطِهِ هذا وَالْإِشْهَادُ لِلتَّحَرُّزِ عن الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ لِجَوَازِ أَنْ يُنْكِرَ صَاحِبُ الْحَائِطِ الْمُطَالَبَةَ بِالنَّقْضِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْإِشْهَادِ لِإِثْبَاتِ الطَّلَبِ عِنْدَ الْقَاضِي لَا لِصِحَّةِ الطَّلَبِ فإن الطَّلَبَ يَصِحُّ بِدُونِ الْإِشْهَادِ حتى لو اعْتَرَفَ صَاحِبُ الدَّارِ بِالطَّلَبِ يَجِبُ عليه الضَّمَانُ وَإِنْ لم يَشْهَدْ عليه وَكَذَا إذَا أَنْكَرَ يَجِبُ عليه الضَّمَانُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَنَظِيرُهُ ما قُلْنَا في الشُّفْعَةِ أَنَّ الشَّرْطَ فيها الطَّلَبُ لَا الْإِشْهَاد وَإِنَّمَا الْإِشْهَادُ لِلْحَاجَةِ إلَى إثْبَاتِ الطَّلَبِ على تَقْدِيرِ الْإِنْكَارِ
حتى لو أَقَرَّ الْمُشْتَرِيَ بِالطَّلَبِ يَثْبُتُ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَإِنْ لم يَشْهَدْ على الطَّلَبِ وَكَذَا لو جَحَدَ الطَّلَبَ يَثْبُتُ الْحَقُّ له فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَكَذَا الْإِشْهَادُ في بَابِ اللُّقْطَةِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ من هذا الْقَبِيلِ وقد ذَكَرْنَا ذلك في كِتَابِ اللُّقَطَةِ
وَلَوْ طُولِبَ صَاحِبُ الْحَائِطِ بِالنَّقْضِ فلم يَنْقُضْ حتى سَقَطَ إلى الطَّرِيقِ فَعَثَرَ بِنَقْضِهِ إنْسَانٌ فَعَطِبَ بِهِ فَإِنْ كان قد طُولِبَ برفع ( ( ( بدفع ) ) ) النَّقْضِ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ إذَا طُولِبَ بِالرَّفْعِ لَزِمَهُ الرَّفْعُ فإذا لم يَرْفَعْ صَارَ مُتَعَدِّيًا فَيَضْمَنُ ما تَوَلَّدَ منه وَإِنْ كان لم يُطَالَبْ بِرَفْعِهِ لَا ضَمَانَ عليه عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا طُولِبَ بِالنَّقْضِ فلم يَنْقُضْ حتى سَقَطَ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ فَحَصَلَ التَّلَفُ بِسَبَبٍ هو مُتَعَدٍّ فيه فَيَضْمَنُ وَلِهَذَا ضَمِنَ إذَا وَقَعَ على إنْسَانٍ كَذَا إذَا عَطِبَ بِنَقْضِهِ إنْسَانٌ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْحَائِطَ قد زَالَ عن الْمَوْضِعِ الذي طُولِبَ فيه لِانْتِقَالِهِ عن مَحِلِّ الْجِنَايَةِ وهو الْهَوَاءُ إلَى مَحِلٍّ آخَرَ بِغَيْرِ صُنْعِ صَاحِبِهِ فَلَا بُدَّ من مُطَالَبَةٍ أُخْرَى كَمَنْ وَضَعَ حَجَرًا في الطَّرِيقِ فَدَحْرَجَتْهُ الرِّيحُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ على الْوَاضِعِ كَذَا هَهُنَا بِخِلَافِ ما إذَا سَقَطَ على إنْسَانٍ لِأَنَّهُ لَمَّا زَالَ عن مَحِلِّ الْمُطَالَبَةِ وهو الْهَوَاءُ الذي هو مَحَلُّ الْجِنَايَةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى مُطَالَبَةٍ أُخْرَى
وَإِنْ كان الطَّرِيقُ غير نَافِذٍ فَالْخُصُومَةُ إلَى وَاحِدٍ من أَهْلِ تِلْكَ السِّكَّةِ لِأَنَّ الطَّرِيقَ حَقُّهُمْ فكانت ( ( ( فكان ) ) ) لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم وِلَايَةُ التَّقَدُّمِ إلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ وَإِنْ كان مَيَلَانُ الْحَائِطِ إلَى مِلْكِ رَجُلٍ فَالْمُطَالَبَةُ بِالنَّقْضِ وَالْإِشْهَادِ إلَى صَاحِبِ الْمِلْكِ لأن هَوَاءٌ مَلَكَهُ حَقُّهُ وقد شَغَلَ الْحَائِطَ حَقُّ صَاحِبِ الْمِلْكِ فكان ( ( ( فكانت ) ) ) الْمُطَالَبَةُ بِالتَّفْرِيغِ إلَيْهِ
فَإِنْ كان في الدَّارِ سَاكِنٌ كَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ فَالْمُطَالَبَةُ وَالْإِشْهَادُ إلَى السَّاكِنِ فَيُشْتَرَطُ طَلَبُ السَّاكِنِ أو الْمَالِكِ لِأَنَّ السَّاكِنَ له حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِإِزَالَةِ ما يَشْغَلُ الدَّارَ
فَكَانَ له وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِإِزَالَةِ ما يُشْغِلُ الْهَوَاءَ أَيْضًا
وَلَوْ طُولِبَ صَاحِبُ الْحَائِطِ بِالنَّقْضِ فَاسْتَأْجَلَ الذي طَالَبَهُ أو اسْتَأْجَلَ الْقَاضِيَ فَأَجَّلَهُ فَإِنْ كان مَيَلَانُ الْحَائِطِ إلَى الطَّرِيقِ فَالتَّأْجِيلُ بَاطِلٌ وَإِنْ كان مَيَلَانُهُ إلَى دَارِ رَجُلٍ فَأَجَّلَهُ صَاحِبُ الدَّارِ أو أَبْرَأَهُ منه أو فَعَلَ ذلك سَاكِنُ الدَّارِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَلَا ضَمَانَ عليه فِيمَا تَلِفَ بِالْحَائِطِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَقَّ في الطَّرِيقِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فإذا طَالَبَ وَاحِدٌ منهم بالقبض ( ( ( بالنقض ) ) ) فَقَدْ تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِالْحَائِطِ لِحَقِّ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ التَّأْجِيلُ وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطًا لِحَقِّ الْجَمَاعَةِ فَلَا يَمْلِكُ ذلك بِخِلَافِ ما إذَا كان الْمَيَلَانُ إلَى دَارِ إنْسَانٍ لِأَنَّ هُنَاكَ الْحَقَّ لِصَاحِبِ الدَّارِ خَاصَّةً وَكَذَلِكَ السَّاكِنُ فَكَانَ التَّأْجِيلُ وَالْإِبْرَاءُ منه إسْقَاطًا لِحَقِّ نَفْسِهِ فَيَمْلِكَهُ
وَكَذَلِكَ لو وَضَعَ رَجُلٌ في دَارِ غَيْرِهِ حَجَرًا أو حَفَرَ بِئْرًا أو بَنَى فيها بِنَاءً وَأَبْرَأَهُ صَاحِبُ الدَّارِ منه كان بَرِيئًا وَلَا يَلْزَمُهُ ما عَطِبَ بِشَيْءٍ من ذلك سَوَاءٌ عَطِبَ بِهِ صَاحِبُ الدَّارِ أو دَاخِلٌ دخل لِأَنَّ الْحَقَّ له فَيَمْلِكُ إسْقَاطَهُ كَأَنَّهُ فَعَلَ ذلك بِإِذْنِهِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُطَالَبُ بِالنَّقْضِ مِمَّنْ يَلِي النَّقْضَ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالنَّقْضِ مِمَّنْ لَا يَلِي النَّقْضَ سَفَهٌ فَكَانَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا تَصِحُّ مُطَالَبَةُ الْمُسْتَوْدَعِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ ليس لهم وِلَايَةُ النَّقْضِ فَتَصِحُّ مُطَالَبَةُ الرَّاهِنِ لِأَنَّ له وِلَايَةَ النَّقْضِ لِقِيَامِ الْمِلْكِ فَيَنْقُضُ وَيَقْضِيَ الدِّينَ فَيَصِيرُ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ
وَتَصِحُّ مُطَالَبَةُ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ في هَدْمِ حَائِطِ الصَّغِيرِ لِثُبُوتِ وِلَايَةِ النَّقْضِ لَهُمَا فَإِنْ لم يَنْقُضَا حتى سَقَطَ يَجِبُ الضَّمَانُ على الصَّبِيِّ لِأَنَّ التَّلَفَ بِتَرْكِ النَّقْضِ الْمُسْتَحَقِّ على الْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ مُضَافٌ إلَى الصَّبِيِّ لِقِيَامِهِمَا مَقَامَ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيُّ مُؤَاخَذٌ بِأَفْعَالِهِ فَيَضْمَنُ وَتَتَحَمَّلُ عنه عَاقِلَتُهُ فِيمَا تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ وَيَكُونُ في مَالِهِ فِيمَا لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ كَالْبَالِغِ سَوَاءٌ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا كان الْحَائِطُ الْمَائِلُ لِجَمَاعَةٍ فَطُولِبَ بَعْضُهُمْ بِالنَّقْضِ فلم يَنْقُضْ حتى سَقَطَ فَعَطِبَ بِهِ شَيْءٌ أَنَّ الْقِيَاسَ
____________________

(7/284)


أَنْ لَا يَضْمَنَ أَحَدٌ منهم شيئا
وفي الِاسْتِحْسَانِ يَضْمَنُ الذي طُولِبَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لم يُوجَدْ من أَحَدٌ منهم تَرَكَ النَّقْضَ الْمُسْتَحَقَّ
أَمَّا الَّذِينَ لم يُطَالَبُوا بِالنَّقْضِ فَظَاهِرٌ وأما الذي طُولِبَ بِهِ فَلِأَنَّ أَحَدَ الشُّرَكَاءِ لَا يَلِي النَّقْضَ بِدُونِ الْبَاقِينَ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُطَالَبَ بِالنَّقْضِ تَرَكَ النَّقْضَ مع الْقُدْرَةِ عليه لِأَنَّهُ يُمْكِنهُ أَنْ يُخَاصِمَ الشُّرَكَاءَ وَيُطَالِبَهُمْ بِالنَّقْضِ إنْ كَانُوا حُضُورًا وَإِنْ كَانُوا غُيَّبًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي حتى يَأْمُرَهُ الْقَاضِي بِالنَّقْضِ لِأَنَّ فيه حَقًّا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْإِمَامُ يَتَوَلَّى ذلك لهم فَيَأْمُرُ الْحَاضِرَ بِنَقْضِ نَصِيبِهِ وَنَصِيبِ الْغَائِبِينَ فإذا لم يَفْعَلْ فَقَدْ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ الْمُسْتَحَقِّ فَيَضْمَنُ ما تَوَلَّدَ منه لَكِنْ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ من الْحَائِطِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وفي قَوْلِهِمَا عليه ضَمَانُ النِّصْفِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ انصباء الشُّرَكَاءِ الْآخَرِينَ لم يَجِبْ بها ضَمَانٌ فَكَانَتْ كَنَصِيبِ وَاحِدٍ كَمَنْ جَرَحَهُ رَجُلٌ وَعَقَرَهُ سَبْعٌ وَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ فَمَاتَ من ذلك كُلِّهِ أَنَّ على الْجَارِحِ النِّصْفَ لِأَنَّ عَقْرَ السَّبْعِ وَنَهْشَ الْحَيَّةِ لم يَجِبْ بِهِمَا ضَمَانٌ فَكَانَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِثِقَلِ الْحَائِطِ وَلَيْسَ ذلك مَعْنًى مُخْتَلِفًا في نَفْسِهِ فَيَضْمَنُ بِمِقْدَارِ نَصِيبِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا قِيَامُ وِلَايَةِ النَّقْضِ وَقْتَ السُّقُوطِ وَلَا يَكْتَفِي بِثُبُوتِهَا وَقْتَ الْمُطَالَبَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ عِنْدَ السُّقُوطِ كَأَنَّهُ أَسْقَطَهُ فإذا لم يَبْقَ له وِلَايَةُ النَّقْضِ عِنْدَ السُّقُوطِ لم يَصِرْ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عليه وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا طُولِبَ بِالنَّقْضِ فلم يَنْقُضْ حتى بَاعَ الدَّارَ التي فيها الْحَائِطُ من إنْسَانٍ وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي أو لم يَقْبِضْهُ ثُمَّ سَقَطَ على شَيْءٍ فَعَطِبَ بِهِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ على الْبَائِعِ لِانْعِدَامِ وِلَايَةِ النَّقْضِ وَقْتَ السُّقُوطِ بِخُرُوجِ الْحَائِطِ عن مِلْكِهِ وَلَا على الْمُشْتَرِي أَيْضًا لِانْعِدَامِ الْمُطَالَبَةِ في حَقِّهِ
فَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ ما إذَا شَرَعَ جَنَاحًا إلَى الطَّرِيقِ ثُمَّ بَاعَ الدَّارَ مع الْجَنَاحِ ثُمَّ وَقَعَ على إنْسَانٍ أنه يَضْمَنُ الْبَائِعَ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ هُنَاكَ على الْبَائِعِ قُبَيْلَ الْبَيْعِ لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا بِإِشْرَاعِ الْجَنَاحِ وَالْإِشْرَاعُ على حَالِهِ لم يَتَغَيَّرْ فَلَا يَتَغَيَّرُ ما تَعَلَّقَ بِهِ من الضَّمَانِ وَوُجُوبُ الضَّمَانِ لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ الْمُسْتَحَقِّ وَذَلِكَ عِنْدَ سُقُوطِ الْحَائِطِ وقد بَطَلَ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْبَيْعِ فلم يُوجَدْ التَّعَدِّي عِنْدَ السُّقُوطِ بِتَرْكِ النَّقْضِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا طُولِبَ الْأَبُ بِنَقْضِ حَائِطِ الصَّغِيرِ فلم يَنْقُضْ حتى مَاتَ الْأَبُ أو بَلَغَ الصَّبِيُّ ثُمَّ سَقَطَ الْحَائِطُ أنه لَا ضَمَانَ فيه لِأَنَّ قِيَامَ الْوِلَايَةِ وَقْتَ السُّقُوطِ شَرْطٌ وقد بَطَلَتْ بِالْمَوْتِ وَالْبُلُوغِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا إمْكَانُ النَّقْضِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ وهو أَنْ يَكُونَ سُقُوطُ الْحَائِطِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ بِالنَّقْضِ في مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ نَقْضُهُ فيها لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِتَرْكِ النَّقْضِ الْوَاجِبِ وَلَا وُجُوبَ بِدُونِ الْإِمْكَانِ حتى لو طُولِبَ بِالنَّقْضِ فلم يُفَرِّطْ في نَقْضِهِ وَلَكِنَّهُ ذَهَبَ يَطْلُبُ من يَنْقُضُهُ فَسَقَطَ الْحَائِطُ فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ لَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّهُ إذَا لم يَتَمَكَّنُ من النَّقْضِ لم يَكُنْ بِتَرْكِ النَّقْضِ مُتَعَدِّيًا فَبَقِيَ حَقُّ الْغَيْرِ حَاصِلًا في يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عليه وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مَاهِيَّةِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ وَكَيْفِيَّتِهِ فَالْوَاجِبُ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ ما هو الْوَاجِبُ بِجِنْسِهَا من جِنَايَةِ الْحَافِرِ وَمَنْ في مَعْنَاهُ وَجِنَايَةُ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ وَالنَّاخِسِ وهو ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْجِنَايَةَ إنْ كانت على بَنِي آدَمَ وَكَانَتْ نَفْسًا فَالْوَاجِبُ بها الدِّيَةُ وَإِنْ كانت ما دُونَ النَّفْسِ فَالْوَاجِبُ بها الْأَرْشُ فإذا بَلَغَ الْوَاجِبُ بها نِصْفَ عُشْرِ دِيَةِ الذَّكَرِ وهو عُشْرُ دِيَةِ الْأُنْثَى فما فَوْقَهُ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وَلَا تَتَحَمَّلُ ما دُونَ ذلك وَلَا ما يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ على غَيْرِ بَنِي آدَمَ بَلْ يَكُونُ في مَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ إلَّا أَنَّ ظُهُورَ الْمِلْكِ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ في الدَّارِ عِنْدَ الْإِنْكَارِ بِحَجَّةٍ مُطْلَقَةٍ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ شَرْطُ تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ حتى لو أَنْكَرَتْ الْعَاقِلَةُ كَوْنَ الدَّارِ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْحَائِطِ لَا عَقْلَ عليهم حتى يُقِيمَ صَاحِبُ الدَّارِ الْبَيِّنَةَ على الْمِلْكِ كَذَا ذَكَر مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فقال لَا تَضْمَنُ الْعَاقِلَةَ حتى يَشْهَدُ الشُّهُودُ على ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ على التَّقْدِيمِ إلَيْهِ من سُقُوطِ الْحَائِطِ وَعَلَى أَنَّ الدَّارَ له يُرِيدُ بِهِ عِنْدَ الْإِنْكَارِ
أَمَّا الشَّهَادَةُ على الْمِلْكِ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كان ثَابِتًا له بِظَاهِرِ الْيَدِ لَكِنَّ الظَّاهِرَ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ حَقٌّ على غَيْرِهِ إذْ هو حُجَّةٌ لِلدَّفْعِ لَا حُجَّةُ الِاسْتِحْقَاقِ لِحَيَاةِ الْمَفْقُودِ وَغَيْرِ ذلك فَلَا بُدَّ من الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةَ بِظَاهِرِ الْيَدِ وهو على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في الشُّفْعَةِ
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ على الْمُطَالَبَةِ
____________________

(7/285)


فلأن الْمُطَالَبَةَ شَرْطُ وُجُوبِ الضَّمَانِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَلَا بُدَّ من إثْبَاتِهَا بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْإِنْكَارِ
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ على الْمَوْتِ من سُقُوطِ الْحَائِطِ فَلِأَنَّ بِهِ يَظْهَرُ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وهو التَّعَدِّي لِأَنَّهُ ما لم يُعْلَمْ أَنَّهُ مَاتَ من السُّقُوطِ لَا يُعْلَمُ كَوْنَ صَاحِبِ الْحَائِطِ مُتَعَدِّيًا عليه
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فصل في الْقَسَامَةِ هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ قَتْلِ نَفْسٍ عُلِمَ قَاتِلُهَا فَأَمَّا حُكْمُ نَفْسٍ لم يُعْلَمْ قَاتِلُهَا فَوُجُوبُ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وُجُوبُ الْقَسَامَةِ وَالْقِصَاصِ وَالْكَلَامُ في الْقَسَامَةِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِ الْقَسَامَةِ وَبَيَانِ مَحَلِّهَا وفي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ
وفي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ وفي بَيَانِ من يَدْخُلُ في الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ وفي بَيَانِ ما يَكُونُ إبْرَاءً عن الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ
أَمَّا تَفْسِيرُ الْقَسَامَةِ وَبَيَانُ مَحَلِّهَا فَالْقَسَامَةُ في اللُّغَةِ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْوَسَامَةِ وهو الْحُسْنُ وَالْجَمَالُ يُقَالُ فُلَانٌ قَسِيمٌ أَيْ حَسَنٌ جَمِيلٌ وفي صِفَاتِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسِيمٌ وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْقَسَمِ وهو الْيَمِينُ إلَّا أَنَّ في عُرْفِ الشَّرْعِ تُسْتَعْمَلُ في الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِسَبَبٍ مَخْصُوصٍ وَعَدَدٍ مَخْصُوصٍ وَعَلَى شَخْصٍ مَخْصُوصٍ وهو الْمُدَّعَى عليه على وَجْهٍ مَخْصُوصٍ وهو أَنْ يَقُولَ خَمْسُونَ من أَهْلِ الْمَحَلَّةِ إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فيها بِاَللَّهِ ما قَتَلْنَاهُ وَلَا عِلْمنَا له قَاتِلًا فإذا حَلَفُوا يَغْرَمُونَ الدِّيَةَ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كان هُنَاكَ لَوْثٌ يُسْتَحْلَفُ الْأَوْلِيَاءُ خَمْسِينَ يَمِينًا فإذا حَلَفُوا يُقْتَصُّ من المدعي عليه
وَتَفْسِيرُ اللَّوْثِ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ عَلَامَةُ الْقَتْلِ في وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ أو يَكُونَ هُنَاكَ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كان هُنَاكَ لَوْثٌ أَيْ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ وكان بين دُخُولِهِ الْمَحَلَّةَ وَبَيْنَ وُجُودِهِ قَتِيلًا مُدَّةٌ يَسِيرَةٌ يُقَالُ لِلْوَلِيِّ عَيِّنْ الْقَاتِلَ فَإِنْ عَيَّنَ الْقَاتِلَ يُقَالُ لِلْوَلِيِّ احْلِفْ خَمْسِينَ يَمِينًا فَإِنْ حَلَفَ فَلَهُ قَوْلَانِ في قَوْلٍ يُقْتَلُ الْقَاتِلُ الذي عَيَّنَهُ كما قال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وفي قَوْلٍ يُغَرِّمُهُ الدِّيَةَ فَإِنْ عَدِمَ أَحَدَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا يَحْلِفُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ فإذا حَلَفُوا لَا شَيْءَ عليهم كما في سَائِرِ الدعاوي
احْتَجَّا لِوُجُوبِ الْقَسَامَةِ على الْمُدَّعِي بِحَدِيثِ سَهْلِ بن أبي خيثمة ( ( ( حثمة ) ) ) أَنَّهُ قال وَجَدَ عبد اللَّهِ بن سَهْلٍ قَتِيلًا في قَلِيبِ خَيْبَرَ فَجَاءَ أَخُوهُ عبد الرحمن بن سَهْلٍ وَعَمَّاهُ حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةَ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَذَهَبَ عبد الرحمن يَتَكَلَّمُ عِنْدَ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْكُبْرَ الْكُبْرَ فَتَكَلَّمَ أَحَدُ عَمَّيْهِ
إمَّا حُوَيِّصَةُ وَإِمَّا مُحَيِّصَةُ الْكَبِيرُ مِنْهُمَا فقال يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا وَجَدْنَا عَبْدَ اللَّهِ قَتِيلًا في قَلِيبٍ من قلب ( ( ( قليب ) ) ) خَيْبَرَ
وَذَكَرَ عَدَاوَةَ الْيَهُودِ لهم فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَحْلِفُ لَكُمْ الْيَهُودُ خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّهُمْ لم يَقْتُلُوهُ فَقَالُوا كَيْفَ نَرْضَى بِأَيْمَانِهِمْ وَهُمْ مُشْرِكُونَ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
فَيُقْسِمُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ فَقَالُوا كَيْفَ نُقْسِمُ على ما لم نَرَهُ فَوَدَاهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من عِنْدِهِ
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَرَضَ الْأَيْمَانَ على أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ فَدَلَّ أَنَّ الْيَمِينَ على الْمُدَّعِي
وَلَنَا ما رُوِيَ عن زِيَادِ بن أبي مَرْيَمَ أَنَّهُ قال جاء رَجُلٌ إلَى النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فقال يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي وَجَدْتُ أَخِي قَتِيلًا في بَنِي فُلَانٍ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اجْمَعْ منهم خَمْسِينَ فَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ ما قَتَلُوهُ وَلَا عَلِمُوا له قَاتِلًا فقال يا رَسُولَ اللَّهِ ليس لي من أَخِي إلَّا هذا
فقال بَلْ لك مِائَةٌ من الْإِبِلِ فَدَلَّ الْحَدِيثُ على وُجُوبِ الْقَسَامَةِ على الْمُدَّعَى عليهم وَهُمْ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ لَا على الْمُدَّعِي وَعَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ عليهم من ( ( ( مع ) ) ) الْقَسَامَةِ
وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال وُجِدَ قَتِيلٌ بِخَيْبَرَ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُخْرُجُوا من هذا الدَّمِ فقالت الْيَهُودُ كان وُجِدَ في بَنِي اسرائيل على عَهْدِ سَيِّدِنَا مُوسَى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَضَى في ذلك فَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَاقْضِ
فقال لهم النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا ثُمَّ يَغْرَمُونَ الدِّيَةَ فَقَالُوا قَضَيْتَ بِالنَّامُوسِ أَيْ بِالْوَحْيِ
وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ بِهِ لِأَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَرَّمَهُمْ الدِّيَةَ لَا الْقِصَاصَ وَلَوْ كان الْوَاجِبُ هو الْقِصَاصَ لَغَرَّمَهُمْ الْقِصَاصَ لَا الدِّيَةَ
وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه حَكَمَ في قَتِيلٍ وُجِدَ بين قَرْيَتَيْنِ فَطَرَحَهُ على أَقْرَبِهِمَا وَأَلْزَمَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ
وَكَذَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا على رضي اللَّهُ عنه ولم يُنْقَلْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمَا من أَحَدٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا
وَأَمَّا حَدِيثُ سَهْلٍ فَفِيهِ ما يَدُلُّ علي عَدَمِ الثُّبُوتِ وَلِهَذَا ظَهَرَ النَّكِيرُ فيه من السَّلَفِ فإن فيه أَنَّهُ
____________________

(7/286)


عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَعَاهُمْ إلَى أَيْمَانِ الْيَهُودِ فَقَالُوا كَيْفَ نَرْضَى بِأَيْمَانِهِمْ وَهُمْ مُشْرِكُونَ وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى الرَّدِّ لِمَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ مع ما أَنَّ رِضَا الْمُدَّعِي لَا مَدْخَلَ له في يَمِينِ الْمُدَّعَى عليه وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا قال لهم يَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ قالوا كَيْفَ نَحْلِفُ على ما لم نَشْهَدْ
وَهَذَا أَيْضًا يَجْرِي مَجْرَى الرَّدِّ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثُمَّ إنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذلك لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْمَحْلُوفِ عليه وَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا عِلْمَ لهم بِذَلِكَ فَكَيْفَ استجاز ( ( ( استخار ) ) ) عَرْضَ الْيَمِينِ عليهم وَلَئِنْ ثَبَتَ فَهُوَ مُؤَوَّلٌ وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُمْ لَمَّا قالوا لَا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ فقال لهم عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ على الِاسْتِفْهَامِ أَيْ أَيَحْلِفُ إذْ الِاسْتِفْهَامُ قد يَكُونُ بِحَذْفِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ كما قال اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا } أَيْ أَتُرِيدُونَ
كما رُوِيَ في بَعْضِ أَلْفَاظِ حديث سَهْلٍ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ على سَبِيلِ الرَّدِّ والانكار عليهم كما قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } حَمَلْنَاهُ على هذا تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ وَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ دَلِيلٌ على ما قُلْنَا وهو قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْبَيِّنَةُ على الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ على الْمُدَّعَى عليه جَعَلَ جِنْسَ الْيَمِينِ على الْمُدَّعَى عليه فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ من الايمان على الْمُدَّعِي
فَإِنْ قِيلَ رُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال الْبَيِّنَةُ على الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ على الْمُدَّعَى عليه إلَّا في الْقَسَامَةِ اسْتَثْنَى الْقَسَامَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَكُونَ الْيَمِينُ على الْمُدَّعَى عليه في الْقَسَامَةِ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى يُخَالِفُ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى منه
فَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لو ثَبَتَ فَلَهُ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا الْيَمِينُ على الْمُدَّعَى عليه بِعَيْنِهِ إلَّا في الْقَسَامَةِ فإنه يَحْلِفُ من لم يُدَّعَ عليه الْقَتْلُ بِعَيْنِهِ وَالثَّانِي الْيَمِينُ كُلُّ الْوَاجِبِ على الْمُدَّعَى عليه إلَّا في الْقَسَامَةِ فإنه تَجِبُ مَعَهَا الدِّيَةُ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَإِنَّمَا جَمَعْنَا في الْقَسَامَةِ بين الْيَمِينِ الْبَتَاتِ وَالْعِلْمِ إلَى آخِرِهِ لِأَنَّ إحْدَى الْيَمِينَيْنِ كانت على فِعْلِهِمْ فَكَانَتْ على الْبَتَاتِ وَالْأُخْرَى على فِعْلِ غَيْرِهِمْ فَكَانَتْ على الْعِلْمِ وَاَللَّهُ تَعَالَى عز وجل أَعْلَمُ
فَإِنْ قِيلَ أَيُّ فَائِدَةٍ في الِاسْتِحْلَافِ على الْعِلْمِ وَهُمْ لو عَلِمُوا الْقَاتِلَ فَأَخْبَرُوا بِهِ لَكَانَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ لِأَنَّهُمْ يُسْقِطُونَ بِهِ الضَّمَانَ عن أَنْفُسِهِمْ فَكَانُوا مُتَّهَمِينَ دَافِعِينَ الْغُرْمَ عن أَنْفُسِهِمْ وقد قال عليه السلام لا شهادة للمتهم قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا شَهَادَةَ لِجَارِ الْمَغْنَمِ وَلَا لِدَافِعِ الْمَغْرَمِ قِيلَ إنَّمَا اُسْتُحْلِفُوا على الْعِلْمِ اتباعا لِلسَّنَةِ لِأَنَّ السُّنَّةَ هَكَذَا وَرَدَتْ لِمَا رَوَيْنَا من الْأَخْبَارِ فَاتَّبَعْنَا السُّنَّةَ من غَيْرِ أَنْ نَعْقِلَ فيه الْمَعْنَى
ثُمَّ فيه فَائِدَةٌ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ من الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ عَبْدًا لِوَاحِدٍ منهم فَيُقِرُّ عليه بِالْقَتْلِ فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى على عَبْدِهِ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ صَحِيحٌ فَيُقَالُ له ادْفَعْهُ أو افده وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عن غَيْرِهِ فَكَانَ التَّحْلِيفُ على الْعِلْمِ مُفِيدًا وَجَائِزٌ أَنْ يُقِرَّ على عبد غَيْرِهِ وَيُصَدِّقَهُ مَوْلَاهُ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عن غَيْرِهِ فَكَانَ مُفِيدًا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ التَّحْلِيفُ على الْعِلْمِ لِهَذَا الْمَعْنَى في الْأَصْلِ ثُمَّ بَقِيَ هذا الْحُكْمُ
وَإِنْ لم يَكُنْ لِوَاحِدٍ من الحالفين ( ( ( الحالين ) ) ) عَبْدٌ كَالرَّمَلِ في الطَّوَافِ لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان يَرْمُلُ في الطَّوَافِ إظْهَارًا لِلْجَلَادَةِ وَالْقُوَّةِ مراآة ( ( ( مرآة ) ) ) لِلْكَفَرَةِ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَظْهَرَ الْيَوْمَ الْجَلَادَةَ من نَفْسِهِ ثُمَّ زَالَ ذلك الْيَوْمُ ثُمَّ بَقِيَ الرَّمَلُ سَنَةً في الطَّوَافِ حتى رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه كان يَرْمُلُ في الطَّوَافِ وَيَقُولُ ما أَهُزُّ كَتِفِي ولم أَحَدًا رَأَيْتُهُ لَكِنِّي رأيت رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَفْعَلُ ذلك كَذَا هذا
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدٌ منهم أَمَرَ صَبِيًّا أو مَجْنُونًا أو عَبْدًا مَحْجُورًا عليه بِالْقَتْلِ وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ يَلْزَمُهُ في مَالِهِ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ ما عَلِمْتَ له قَاتِلًا لِأَنَّهُ لو قال عَلِمْتَ له قَاتِلًا وهو الصَّبِيُّ الذي أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ لَكَانَ حَاصِلُ الضَّمَانِ عليه وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عن غَيْرِهِ فَكَانَ مقيدا ( ( ( مفيدا ) ) ) وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ قَتِيلًا وهو أَنْ يَكُونَ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ من جِرَاحَةٍ أو أَثَرِ ضَرْبٍ أو خَنْقٍ فَإِنْ لم يَكُنْ شَيْءٌ من ذلك فَلَا قَسَامَةَ فيه وَلَا دِيَةَ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَلَا يَجِبُ فيه شَيْءٌ فإذا اُحْتُمِلَ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَاحْتُمِلَ أَنَّهُ قُتِلَ احْتِمَالًا على السَّوَاءِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ وَلِهَذَا لو وُجِدَ في الْمَعْرَكَةِ ولم يَكُنْ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ لم يَكُنْ شَهِيدًا حتى يُغَسَّلَ
وَعَلَى هذا قالوا إذَا وُجِدَ وَالدَّمُ يَخْرُجُ من فَمِهِ أو من أَنْفِهِ أو دُبُرِهِ أو ذَكَرِهِ لَا شَيْءَ فيه لِأَنَّ الدَّمَ يَخْرُجُ من هذه الْمَوَاضِعِ عَادَةً بِدُونِ الضَّرْبِ بِسَبَبِ الْقَيْءِ وَالرُّعَافِ وَعَارِضٍ آخَرَ فَلَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ قَتِيلًا وَإِنْ كان يَخْرُجُ من عَيْنِهِ أو أُذُنِهِ فَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ لِأَنَّ الدَّمَ
____________________

(7/287)


لَا يَخْرُجُ من هذه الْمَوَاضِعِ عَادَةً فَكَانَ الْخُرُوجُ مُضَافًا إلَى ضَرْبٍ حَادِثٍ فَكَانَ قَتِيلًا وَلِهَذَا وُجِدَ هَكَذَا في الْمَعْرَكَةِ كان شَهِيدًا وفي الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ شَهِيدًا
وَلَوْ مَرَّ في مَحَلَّةٍ فَأَصَابَهُ سَيْفٌ أو خَنْجَرٌ فَجَرَحَهُ وَلَا يَدْرِي من أَيِّ مَوْضِعٍ أَصَابَهُ فَحُمِلَ إلَى أَهْلِهِ فَمَاتَ من تِلْكَ الْجِرَاحَةِ فَإِنْ كان لم يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حتى مَاتَ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَبِيلَةِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ وَإِنْ لم يَكُنْ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ وَهَذَا قَوْلُهُمَا
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا قَسَامَةَ فيه وَلَا ضَمَانَ في الْوَجْهَيْنِ جميعا وهو قَوْلُ ابْنِ أبي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمَجْرُوحَ إذَا لم يَمُتْ في الْمَحَلَّةِ كان الْحَاصِلُ في الْمَحَلَّةِ ما دُونَ النَّفْسِ وَلَا قَسَامَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ كما لو وُجِدَ مَقْطُوعَ الْيَدِ في الْمَحَلَّةِ وَلِهَذَا لو لم يَكُنْ صَاحِبُ فراش ( ( ( الفراش ) ) ) فَلَا شَيْءَ فيه كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا لم يَبْرَأْ عن الْجِرَاحَةِ وكان لم يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حتى مَاتَ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ من الْجِرَاحَةِ فَعُلِمَ أَنَّ الْجِرَاحَةَ حَصَلَتْ قَتْلًا من حِينِ وُجُودِهَا فَكَانَ قَتِيلًا في ذلك الْوَقْتِ كَأَنَّهُ مَاتَ في الْمَحَلَّةِ بِخِلَافِ ما إذَا لم يَكُنْ صَاحِبُ فِرَاشٍ لِأَنَّهُ إذَا لم يَصِرْ صَاحِبَ فِرَاشٍ لم يُعْلَمْ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ من الْجِرَاحَةِ فلم يُوجَدْ قَتِيلًا في الْمَحَلَّةِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمَهُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا وُجِدَ من الْقَتِيلِ أَكْثَرُ بَدَنِهِ أَنَّ فيه الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ لِأَنَّهُ يُسَمَّى قَتِيلًا لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ
وَلَوْ وُجِدَ عُضْوٌ من أَعْضَائِهِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ أو وُجِدَ أَقَلُّ من نِصْفِ الْبَدَنِ فَلَا قَسَامَةَ فيه وَلَا دِيَةَ لِأَنَّ الْأَقَلَّ من النِّصْفِ لَا يُسَمَّى قَتِيلًا وَلِأَنَّا لو أَوْجَبْنَا في هذا الْقَدْرِ الْقَسَامَةَ لَأَوْجَبْنَا في الْبَاقِي قَسَامَةً أُخْرَى فَيُؤَدِّي إلَى اجْتِمَاعِ قَسَامَتَيْنِ في نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ وُجِدَ النِّصْفُ فَإِنْ كان النِّصْفُ الذي فيه الرَّأْسُ فَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ وَإِنْ كان النِّصْفُ الْآخَرَ فَلَا قَسَامَةَ فيه وَلَا دِيَةَ لِأَنَّ الرَّأْسَ إذَا كان معه يُسَمَّى قَتِيلًا وإذا لم يَكُنْ لَا يُسَمَّى قَتِيلًا لِأَنَّ الرَّأْسَ أَصْلٌ وَلِأَنَّا لو أَوْجَبْنَا في النِّصْفِ الذي لَا رَأْسَ فيه لَلَزِمَنَا الْإِيجَابُ في النِّصْفِ الذي معه الرَّأْسُ فَيُؤَدِّي إلَى ما قُلْنَا
وَإِنْ وُجِدَ الرَّأْسُ وَحْدَهُ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ لِأَنَّ الرَّأْسَ وَحْدَهُ لَا يُسَمَّى قَتِيلًا وَإِنْ وُجِدَ النِّصْفُ مَشْقُوقًا فَلَا شَيْءَ فيه لِأَنَّ النِّصْفَ الْمَشْقُوقَ لَا يُسَمَّى قَتِيلًا وَلِأَنَّ في اعْتِبَارِهِ إيجَابَ الْقَسَامَتَيْنِ على ما بَيَّنَّا
وَنَظِيرُ هذا ما قُلْنَا في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ إذَا وُجِدَ أَكْثَرُ الْبَدَنِ أو أقل ( ( ( أقله ) ) ) أو نِصْفُهُ على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يُعْلَمَ قَاتِلُهُ فَإِنْ عُلِمَ فَلَا قَسَامَةَ فيه وَلَكِنْ يَجِبُ الْقِصَاصُ إنْ كان قَتِيلًا يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَتَجِبُ الدِّيَةُ إنْ كان قَتِيلًا يُوجِبُ الدِّيَةَ وقد ذَكَرْنَا جَمِيعَ ذلك فِيمَا تَقَدَّمَ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْقَتِيلُ من بَنِي آدَمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَا قَسَامَةَ في بَهِيمَةٍ وُجِدَتْ في مَحَلَّةِ قَوْمٍ وَلَا غُرْمَ فيها لِأَنَّ لُزُومَ الْقَسَامَةَ في نَفْسِهَا أَمْرٌ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ تَكْرَارَ الْيَمِينِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَاعْتِبَارُ عَدَدِ الْخَمْسِينَ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلِهَذَا لم يُعْتَبَرْ في سَائِرِ الدعاوي وَكَذَا وُجُوبُ الدِّيَةِ مَعَهَا لِأَنَّ الْيَمِينَ في الشَّرْعِ جُعِلَتْ دَافِعَةً لِلِاسْتِحْقَاقِ بِنَفْسِهَا كما في سَائِرِ الدعاوي إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذلك بِالنُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ في بَنِي آدَمَ خاصة فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيمَا وَرَاءَهُمْ على الْأَصْلِ وَلِهَذَا لم تَجِبْ الْقَسَامَةُ وَالْغَرَامَةُ في سَائِرِ الْأَمْوَالِ كَذَا في الْبَهَائِمِ
وَتَجِبُ في الْعَبْدِ الْقَسَامَةُ وَالْقِيمَةُ إذَا وُجِدَ قَتِيلًا في غَيْرِ مِلْكِ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ من كل وَجْهٍ وَلِهَذَا يَجِبُ فيه الْقِصَاصُ في الْعَمْدِ وَالْكَفَّارَةُ في الْخَطَأِ وَتَغْرَمُ الْعَاقِلَةُ قِيمَتَهُ في الْخَطَأِ وَهَذَا على أَصْلِهِمَا
فَأَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ فَلَا قَسَامَةَ فيه وَلَا دِيَةَ لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُ مَضْمُونٌ بِالْخَطَأِ من حَيْثُ أنه مَالٌ لَا من حَيْثُ أنه آدَمِيٌّ وَلِهَذَا قال تَجِبُ قِيمَتُهُ في الْقَتْلِ الْخَطَأِ بَالِغَةً ما بَلَغَتْ وَلَا تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْبَهِيمَةِ
وَكَذَا الْجَوَابُ في الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ لِمَا قُلْنَا وَسَوَاءٌ كان الْقَتِيلُ مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا عَاقِلًا أو مَجْنُونًا بَالِغًا أو صَبِيًّا ذَكَرًا أو أُنْثَى لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَطْلَقَ الْقَضِيَّةَ بِالْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ في مُطْلَقِ قَتِيلٍ أُخْبِرَ بِهِ في بَعْضِ الْأَحَادِيثِ ولم يَسْتَفْسِرْ وَلَوْ كان الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ لاستفسر ( ( ( لاستفسروا ) ) ) ولأن دَمَ هَؤُلَاءِ مَضْمُونٌ بِالْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ في الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ وَسَوَاءٌ وُجِدَ الْمُسْلِمُ قَتِيلًا في مَحَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ أو في مَحَلَّةٍ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّ رضي اللَّهُ عنه وُجِدَ قَتِيلًا في قَلِيبٍ من قلب ( ( ( قليب ) ) ) خَيْبَرَ وَأَوْجَبَ رسول اللَّهِ الْقَسَامَةَ على الْيَهُودِ وَكَذَا الذِّمِّيُّ لِأَنَّ لهم ما لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ ما عليهم إلَّا ما نُصَّ بِدَلِيلٍ
وَمِنْهَا الدَّعْوَى من أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ يَمِينٌ وَالْيَمِينُ لَا تَجِبُ بِدُونِ الدَّعْوَى كما في سَائِرِ الدعاوي وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا إنْكَارُ الْمُدَّعَى
____________________

(7/288)


عليه لِأَنَّ الْيَمِينَ وَظِيفَةُ الْمُنْكِرِ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْيَمِينُ على من أَنْكَرَ جَعَلَ جِنْسَ الْيَمِينِ على الْمُنْكِرِ فَيَنْفِي وُجُوبَهَا على غَيْرِ الْمُنْكِرِ
وَمِنْهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْقَسَامَةِ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي وَحَقُّ الْإِنْسَانِ يُوَفَّى عِنْدَ طَلَبِهِ كما في سَائِرِ الْأَيْمَانِ وَلِهَذَا كان الِاخْتِيَارُ في حَالِ الْقَسَامَةِ إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ حَقُّهُمْ فَلَهُمْ أَنْ يَخْتَارُوا من يَتَّهِمُونَهُ وَيَسْتَحْلِفُونَ صَالِحِي الْعَشِيرَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَحْلِفُونَ كَذِبًا
وَلَوْ طُولِبَ من عليه الْقَسَامَةُ بها فَنَكَلَ عن الْيَمِينِ حُبِسَ حتى يَحْلِفَ أو يُقِرَّ لِأَنَّ الْيَمِينَ في بَابِ الْقَسَامَةِ حَقٌّ مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ لَا أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ وهو الدِّيَةُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدِّيَةِ وَلِهَذَا قال الحرث ( ( ( الحارث ) ) ) بن الْأَزْمَعِ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه انبذ ( ( ( أنبذل ) ) ) أَيْمَانَنَا وَأَمْوَالَنَا فقال نعم
وَرُوِيَ أَنَّ الْحَارِثَ قال أَمَا تُجْزِي هذه عن هذه فقال لَا
وَرُوِيَ أَنَّهُ قال فَبِمَ يَبْطُلُ دَمُ صَاحِبِكُمْ فإذا كانت مَقْصُودَةً بِنَفْسِهَا فَمَنْ امْتَنَعَ عن أَدَاءِ حَقٍّ مَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ وهو قَادِرٌ على الْأَدَاءِ يُجْبَرُ عليه بِالْحَبْسِ كَمَنْ امْتَنَعَ عن قَضَاءِ دَيْنٍ عليه مع الْقُدْرَةِ على الْقَضَاءِ بِخِلَافِ الْيَمِينِ في سَائِرِ الْحُقُوقِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مَقْصُودَةً بِنَفْسِهَا بَلْ هِيَ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ وهو الْمَالُ الْمُدَّعَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بَلْ إذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عليه برىء أو لَا تَرَى أَنَّهُ إذَا لم يَحْلِفْ الْمُدَّعَى عليه ولم يُقِرَّ وَبَذَلَ الْمَالَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَهَهُنَا لو لم يَحْلِفُوا ولم يُقِرُّوا وَبَذَلُوا الدِّيَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ الْقَسَامَةُ فَدَلَّ أنها مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا فَيُجْبَرُونَ عليها بِالْحَبْسِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُمْ لَا يُحْبَسُونَ وَالدِّيَةُ على الْعَاقِلَةِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَذَكَرَ فيه أَيْضًا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَيِسَ عن الْحَلْفِ وَسَأَلَهُ الْأَوْلِيَاءُ أَنْ يُغَرِّمَهُمْ الدِّيَةَ يقضي عليهم بِالدِّيَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الذي وُجِدَ فيه الْقَتِيلِ مِلْكًا لِأَحَدٍ أو في يَدِ أَحَدٍ فَإِنْ لم يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَا في يَدِ أَحَدٍ أَصْلًا فَلَا قَسَامَةَ فيه وَلَا دِيَةَ وَإِنْ كان في يَدِ أَحَدٍ يَدُ الْعُمُومِ لَا يَدُ الْخُصُوصِ وهو أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ فيه لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا لِوَاحِدٍ منهم وَلَا لِجَمَاعَةٍ يُحْصَوْنَ لَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ أو الدِّيَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِتَرْكِ الْحِفْظِ اللَّازِمِ على ما نَذْكُرُ فإذا لم يَكُنْ مِلْكَ أَحَدٍ وَلَا في يَدِ أَحَدٍ أَصْلًا لَا يَلْزَمُ أَحَدًا حِفْظُهُ فَلَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ وإذا كان في يَدِ الْعَامَّةِ فَحِفْظُهُ على الْعَامَّةِ لَكِنْ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الْقَسَامَةِ على الْكُلِّ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ من الْكُلِّ وَأَمْكَنَ إيجَابُ الدِّيَةِ على الْكُلِّ لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ منهم بِالْأَخْذِ من بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ مَالُهُمْ فَكَانَ الْأَخْذُ من بَيْتِ الْمَالِ اسْتِيفَاءً منهم
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ في فَلَاةٍ من الْأَرْضِ ليس بِمِلْكٍ لِأَحَدٍ أَنَّهُ لَا قَسَامَةَ فيه وَلَا دِيَةَ إذَا كان بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ الصَّوْتُ من الْأَمْصَارِ وَلَا من قَرْيَةٍ من الْقُرَى فَإِنْ كان بِحَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ على أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ فَإِنْ كان أَقْرَبَ إلَى الْقُرَى فَعَلَى أَقْرَبِ الْقُرَى وَإِنْ كان أَقْرَبَ إلَى الْمِصْرِ فَعَلَى أَقْرَبِ مَحَالِّ الْمِصْرِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ إذَا كان بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ الصَّوْتُ وَالْغَوْثُ لَا يُلْحَقُ ذلك الْمَوْضِعُ فلم يَكُنْ الْمَوْضِعُ في يَدِ أَحَدٍ فلم يُوجَدْ الْقَتِيلُ في مِلْكِ أَحَدٍ وَلَا في يَدِ أَحَدٍ أَصْلًا فَلَا تَجِبُ فيه الْقَسَامَةُ وَلَا الدِّيَةُ وإذا كانت بِحَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ وَالْغَوْثُ يُلْحَقُ فَكَانَ من تَوَابِعِ أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ
وقد وَرَدَ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ حَدِيثٌ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَضَى بِهِ أَيْضًا سَيِّدُنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه على ما نَذْكُرُ
وَلَوْ وُجِدَ في نَهْرٍ عَظِيمٍ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَسَيْحُونُ وَنَحْوِهَا فَإِنْ كان النَّهْرُ يَجْرِي بِهِ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ لِأَنَّ النَّهْرَ الْعَظِيمَ ليس مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَا في يَدِ أَحَدٍ وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَجِبُ على أَقْرَبِ الْقُرَى من ذلك الْمَوْضِعِ كما إذَا وُجِدَ على الدَّابَّةِ وَهِيَ تَسِيرُ وَلَيْسَتْ في يَدِ أَحَدٍ وَهَذَا الْقِيَاسُ ليس بِسَدِيدٍ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الذي تَسِيرُ فيه الدَّابَّةُ تَابِعٌ لِأَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ فَكَانَ في يَدِ أَهْلِهِ بِخِلَافِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ فإنه لَا يَدْخُلُ تَحْتَ يَدِ أَحَدٍ لَا بِالْأَصَالَةِ وَلَا بِالتَّبَعِيَّةِ
وَإِنْ كان النَّهْرُ لَا يَجْرِي بِهِ وَلَكِنَّهُ كان محتبسا ( ( ( محتسبا ) ) ) في الشَّطِّ أو مَرْبُوطًا على الشَّطِّ أو مُلْقَى على الشَّطِّ فَإِنْ كان الشَّطُّ مِلْكًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَرْضِ الْمَمْلُوكَةِ أو الدَّارِ الْمَمْلُوكَةِ إذَا وُجِدَ فيها قَتِيلٌ وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ لم يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ فَعَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ من الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى من حَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ لِأَنَّهُمْ يَسْتَقُونَ منه الْمَاءَ وَيُورِدُونَ دَوَابَّهُمْ فَكَانَ لهم تَصَرُّفٌ في الشَّطِّ فَكَانَ الشَّطُّ في أَيْدِيهِمْ
وَكَذَلِكَ لو كان في الْجَزِيرَةِ فَعَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَى الْجَزِيرَةِ من الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى من حَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ لِأَنَّ الْجَزِيرَةَ تَكُونُ في تَصَرُّفِهِمْ فَكَانَتْ
____________________

(7/289)


في أَيْدِيهِمْ
وَإِنْ وُجِدَ في نَهْرٍ صَغِيرٍ مِمَّا يقضي فيه بِالشُّفْعَةِ لِلشُّرَكَاءِ في الشُّرْبِ فَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ على أَهْلِ النَّهْرِ لِأَنَّ النَّهْرَ مَمْلُوكٌ لهم وَسَوَاءٌ كان الْقَتِيلُ مُحْتَبَسًا أو مَرْبُوطًا على الشَّطِّ أو كان النَّهْرُ يَجْرِي بِهِ بِخِلَافِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ لِأَنَّهُ إذَا كان مِلْكًا لِأَرْبَابِهِ كان الْمَوْضِعُ الذي يَجْرِي بِهِ مَمْلُوكًا لهم وَلَيْسَ كَذَلِكَ النَّهْرُ الْكَبِيرُ
وَلَا قَسَامَةَ في قَتِيلٍ يُوجَدُ في مَسْجِدِ الْجَامِعِ وَلَا في شَوَارِعِ الْعَامَّةِ وَلَا في جُسُورِ الْعَامَّةِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ الْمِلْكُ وَلَا يَدُ الْخُصُوصِ وَتَجِبُ الدِّيَةُ على بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ تَدْبِيرَ هذه الْمَوَاضِعِ وَمَصْلَحَتَهَا إلَى الْعَامَّةِ فَكَانَ حِفْظُهَا عليهم فإذا قَصَّرُوا ضَمَّنُوا وبيت ( ( ( بيت ) ) ) الْمَالِ مَالَهُمْ فَيُؤْخَذُ من بَيْتِ الْمَالِ
وَكَذَلِكَ لَا قَسَامَةَ في قَتِيلٍ في سُوقِ الْعَامَّةِ وَهِيَ الْأَسْوَاقُ التي لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ وَهِيَ سُوقُ السُّلْطَانِ لِأَنَّهَا إذَا لم تَكُنْ مَمْلُوكَةً وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عليها يَدُ الْخُصُوصِ كانت كَالشَّوَارِعِ الْعَامَّةِ لِأَنَّ سُوقَ السُّلْطَانِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ لِأَنَّ حِفْظَهَا وَالتَّدْبِيرَ فيها إلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَضْمَنُونَ بِالتَّقْصِيرِ فَبَيْتُ الْمَالِ مَالُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَيُؤْخَذُ منه
وَكَذَا إذَا وُجِدَ في مَسْجِدِ جَمَاعَتِهِمْ لا قَسَامَةَ وَالدِّيَةُ في بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فيه وَلَا يَدُ الْخُصُوصِ وَيَدُ الْعُمُومِ تُوجِبُ الدِّيَةَ لَا الْقَسَامَةَ لِمَا بَيَّنَّا فَإِنْ كان السَّوْقُ مِلْكًا تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ لَكِنْ على من تَجِبُ فيه اخْتِلَافٌ نَذْكُرهُ في مَوْضِعه إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَا قَسَامَةَ في قَتِيلٍ يُوجَدُ في السِّجْنِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَيَدِ الْخُصُوصِ لِأَنَّهُ لَا تَصَرُّفَ لِأَهْلِ السِّجْنِ في السِّجْنِ لِكَوْنِهِمْ مَقْهُورِينَ فيه وَتَجِبُ الدِّيَةُ على بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ يَدَ الْعُمُومِ ثَابِتَةٌ عليه وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ السِّجْنِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ بُنِيَ لِاسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِمْ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ وَيَدُ الْعُمُومِ تُوجِبُ الدِّيَةَ لَا الْقَسَامَةَ وَهَذَا قَوْلُهُمَا
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ على أَهْلِ السِّجْنِ لِأَنَّ لهم ضَرْبَ تَصَرُّفٍ في السِّجْنِ فَكَأَنَّ لهم يَدًا على السِّجْنِ فَعَلَيْهِمْ حِفْظُهُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْقَتِيلُ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْمِلْكِ الذي وُجِدَ فيه فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ في قِنٍّ أو مُدَبَّرٍ أو أُمِّ وَلَدٍ أو مُكَاتَبٍ أو مَأْذُونٍ وُجِدَ قَتِيلًا في دَارِ مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَوُجُودُهُ في دَارِهِ قَتِيلًا كَمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ منه وَقَتْلُ الْمَمْلُوكِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ إلَّا أَنَّ في الْمُكَاتَبِ تَجِبُ على الْمَوْلَى قِيمَتُهُ لِأَنَّهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى كَسْبِهِ وَأَرْشُ جِنَايَتِهِ حُرٌّ فَكَانَ كَسْبُهُ وَأَرْشُهُ له
وَالْمَوْلَى فيه كَالْأَجْنَبِيِّ وَلَا تَعْقِلَهُ الْعَاقِلَةُ لِأَنَّهُ إذًا صَارَ مَضْمُونًا بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وَالْعَقْدُ ثَبَتَ في حَقِّ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبِ لَا في حَقِّ الْعَاقِلَةِ وفي الْمَأْذُونِ عليه قِيمَتُهُ لِغُرَمَائِهِ إنْ كان له دَيْنٌ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِيَّتِهِ وقد اسْتَهْلَكَ حَقَّهُمْ بِالْقَتْلِ بِاسْتِهْلَاكِ مَحَلِّ الْحَقِّ فَيَجِبُ عليه قِيمَتُهُ لِغُرَمَائِهِ وَتَكُونُ حَالَّةً في مَالِهِ لِأَنَّ هذا ليس ضَمَانَ النَّفْسِ لِأَنَّ نَفْسَهُ مِلْكُ الْمَوْلَى بَلْ هذا ضَمَانُ الْمَالِ لِتَعَلُّقِ الْغُرَمَاءُ بِمَالِيَّتِهِ فَكَانَ هذا ضَمَانَ الِاسْتِهْلَاكِ فَتَكُونُ في مَالِهِ حَالَّةً لَا مُؤَجَّلَةً كما لو اسْتَهْلَكَهُ بِالْإِعْتَاقِ
وَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ لَا شَيْءَ فيه وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَهُ عَمْدًا وَكَذَلِكَ لو كان الْعَبْدُ جَنَى جِنَايَةً ثُمَّ وُجِدَ قَتِيلًا في دَارِ مَوْلَاهُ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ حَالَّةً وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَهُ خَطَأً وهو لَا يَعْلَمُ بِجِنَايَتِهِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ وُجِدَ الْعَبْدُ الرَّهْنُ قَتِيلًا في دَارِ الرَّاهِنِ أو الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ وُجِدَ قَتِيلًا في دَارِ الرَّاهِنِ فَلَا قَسَامَةَ وَالْقِيمَةُ على رَبِّ الدَّارِ دُونَ الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَقَتْلُ الْإِنْسَانِ مِلْكَ نَفْسِهِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عليه وَإِنَّمَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِعَقْدِ الرَّهْنِ وَالْعَقْدُ ثَبَتَ في حَقِّ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ لَا في حَقِّ الْعَاقِلَةِ فَلَا يَلْزَمُ حُكْمَهُ الْعَاقِلَةُ وَإِنْ وُجِدَ في دَارِ الْمُرْتَهِنِ فَالْقَسَامَةُ وَالْقِيمَةُ على عَاقِلَتِهِ لِأَنَّ هذا الضَّمَانَ لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّ وُجُودَهُ في دَارِهِ قَتِيلًا كَمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ منه كَعَبْدٍ ليس بِرَهْنٍ وُجِدَ في دَارِهِ قَتِيلًا وَثَمَّةَ الْقَسَامَةُ وَالْقِيمَةُ عليه
كَذَا هَهُنَا
وَأَمَّا بَيَانُ سَبَبِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ فَنَقُولُ سَبَبُ وُجُوبِهِمَا هو التَّقْصِيرُ في النُّصْرَةِ وَحِفْظُ الْمَوْضِعِ الذي وُجِدَ فيه الْقَتِيلُ مِمَّنْ وَجَبَ عليه النُّصْرَةُ وَالْحِفْظُ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ عليه الْحِفْظُ فلم يُحْفَظْ مع الْقُدْرَةِ على الْحِفْظِ صَارَ مُقَصِّرًا بِتَرْكِ الْحِفْظِ الْوَاجِبِ فَيُؤَاخَذُ بِالتَّقْصِيرِ زَجْرًا عن ذلك وَحَمْلًا على تَحْصِيلِ الْوَاجِبِ وَكُلُّ من كان أَخَصَّ بِالنُّصْرَةِ وَالْحِفْظ كان أَوْلَى بِتَحَمُّلِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةَ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ فَكَانَ التَّقْصِيرُ منه أَبْلَغَ وَلِأَنَّهُ إذَا اخْتَصَّ بِالْمَوْضِعِ مِلْكًا أو يَدًا بِالتَّصَرُّفِ كانت مَنْفَعَتُهُ له فَكَانَتْ النُّصْرَةُ عليه إذْ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ على لِسَانِ رسول اللَّهِ وقال تَبَارَكَ وَتَعَالَى { لها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا ما اكْتَسَبَتْ } وَلِأَنَّ الْقَتِيلَ إذَا وُجِدَ في مَوْضِعٍ اُخْتُصَّ بِهِ وَاحِدٌ أو جَمَاعَةٌ إمَّا بِالْمِلْكِ أو بِالْيَدِ وهو التَّصَرُّفُ فيه فَيُتَّهَمُونَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ فَالشَّرْعُ أَلْزَمَهُمْ الْقَسَامَةَ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ
____________________

(7/290)


وَالدِّيَةِ لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بين أَظْهُرِهِمْ
وَإِلَى هذا الْمَعْنَى أَشَارَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه حِينَمَا قِيلَ أَنَبْذُلُ أَمْوَالَنَا وَأَيْمَانَنَا فقال أَمَّا أَيْمَانُكُمْ فَلِحَقْنِ دِمَائِكُمْ وَأَمَّا أَمْوَالُكُمْ فَلِوُجُودِ الْقَتِيلِ بين أَظْهُرِكُمْ
وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ الْقَتِيلُ إذَا وُجِدَ في الْمَحَلَّةِ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ على أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِلْأَحَادِيثِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ما ذَكَرْنَا وَلِأَنَّ حَفِظَ الْمَحَلَّةِ عليهم وَنَفْعُ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ في الْمَحَلَّةِ عَائِدٌ إلَيْهِمْ وَهُمْ الْمُتَّهَمُونَ في قَتْلِهِ فَكَانَتْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عليهم
وَكَذَا إذَا وُجِدَ في مَسْجِدِ الْمَحَلَّةِ أو في طَرِيقِ الْمَحَلَّةِ لِمَا قُلْنَا فَيَحْلِفُ منهم خَمْسُونَ فَإِنْ لم يَكْمُلْ الْعَدَدُ خَمْسِينَ رَجُلًا تُكَرَّرُ الْأَيْمَانُ عليهم حتى تَكْمُلَ خَمْسِينَ يَمِينًا لِمَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه أَنَّهُ حَلَّفَ رِجَالَ الْقَسَامَةِ فَكَانُوا تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ رَجُلًا فَأَخَذَ منهم وَاحِدًا وَكَرَّرَ عليه الْيَمِينَ حتى كَمُلَتْ خَمْسِينَ يَمِينًا وكان ذلك بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ خَالَفَهُ أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ هذه الْأَيْمَانَ حَقُّ وَلِي الْقَتِيلِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا مِمَّنْ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا منه فَإِنْ أَمْكَنَ الِاسْتِيفَاءُ من عَدَدِ الرِّجَالِ الْخَمْسِينَ اسْتَوْفَى وَإِنْ لم يُمْكِنْ يَسْتَوْفِي عَدَدَ الْأَيْمَانِ التي هِيَ حَقُّهُ
وَإِنْ كان الْعَدَدُ كَامِلًا فَأَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يُكَرِّرَ الْيَمِينَ على بَعْضِهِمْ ليس له ذلك كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ مَوْضُوعَ هذه الْأَيْمَانِ على عَدَدِ الْخَمْسِينَ في الْأَصْلِ لَا على وَاحِدٍ وَإِنَّمَا التَّكْرَارُ على وَاحِدٍ لِضَرُورَةِ نُقْصَانِ الْعَدَدِ وَلَا ضَرُورَةَ عِنْدَ الْكَمَالِ
وَإِنْ كان في الْمَحَلَّةِ قَبَائِلُ شَتَّى فَإِنْ كان فيها أَهْلُ الْخُطَّةِ وَالْمُشْتَرُونَ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ على أَهْلِ الْخُطَّةِ ما بَقِيَ منهم وَاحِدٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عليهم وَعَلَى الْمُشْتَرِينَ جميعا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْوُجُوبَ على أَهْلِ الْخُطَّةِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ ثَابِتٌ لِلْمُشْتَرِينَ وَلِهَذَا إذَا لم يَكُنْ من أَهْلِ الْخُطَّةِ أَحَدٌ كانت الْقَسَامَةُ على الْمُشْتَرِينَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أَهْلَ الْخُطَّةِ أُصُولٌ في الْمِلْكِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ ثَبَتَ لهم وَإِنَّمَا انْتَقَلَ عَنْهُمْ إلَى الْمُشْتَرِينَ فَكَانُوا أَخَصَّ بِنُصْرَةِ الْمَحَلَّةِ وَحِفْظِهَا من الْمُشْتَرِينَ فَكَانُوا أَوْلَى بِإِيجَابِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عليهم وكان الْمُشْتَرِي بَيْنَهُمْ كَالْأَجْنَبِيِّ فما بَقِيَ وَاحِدٌ منهم لَا يُنْتَقَلُ إلَى الْمُشْتَرِي
وَقِيلَ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ بَنَى الْجَوَابَ على ما شَاهَدَ بِالْكُوفَةِ وكان تَدْبِيرُ أَمْرِ الْمَحَلَّةِ فيها إلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ وأبو يُوسُفَ رَأَى التَّدْبِيرَ إلَى الأشراف ( ( ( الأشرف ) ) ) من ( ( ( ومن ) ) ) أَهْلِ الْمَحَلَّةِ كَانُوا من أَهْلِ الْخُطَّةِ أو لَا فَبَنَى الْجَوَابَ على ذلك فَعَلَى هذا لم يَكُنْ بَيْنَهُمَا خِلَافٌ في الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَوَّلَ على مَعْنَى الْحِفْظِ وَالنُّصْرَةِ فَإِنْ فُقِدَ أَهْلُ الْخُطَّةِ وكان في الْمَحَلَّةِ مُلَّاكٌ وَسُكَّانٌ فَالدِّيَةُ على الْمُلَّاكِ لَا على السَّكَّانِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ عليهم جميعا له ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ على أَهْلِ خَيْبَرَ وَكَانُوا سُكَّانًا وَلِأَنَّ لِلسَّاكِنِ اخْتِصَاصًا بِالدَّارِ يَدًا كما أَنَّ لِلْمَالِكِ اخْتِصَاصًا بها مِلْكًا وَيَدُ الْخُصُوصِ تَكْفِي لِوُجُوبِ الْقَسَامَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَالِكَ أَخَصُّ بِحِفْظِ الْمَوْضِعِ وَنُصْرَتِهِ من السُّكَّانِ لِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ اخْتِصَاصُ مِلْكٍ وإنه أَقْوَى من اخْتِصَاصِ الْيَدِ أَلَا يُرَى أَنَّ السُّكَّانَ يَسْكُنُونَ زَمَانًا ثُمَّ يَنْتَقِلُونَ
وَأَمَّا إيجَابُ الْقَسَامَةِ على يَهُودِ خَيْبَرَ فَمَمْنُوعٌ أَنَّهُمْ كَانُوا سُكَّانًا بَلْ كَانُوا مُلَّاكًا فإنه رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَرَّهُمْ على أَمْلَاكِهِمْ وَوَضَعَ الْجِزْيَةَ على رؤوسهم وما كان يُؤْخَذُ منهم كان يُؤْخَذُ على وَجْهِ الْجِزْيَةِ لَا على سَبِيلِ الْأُجْرَةِ
وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ في سَفِينَةٍ فَإِنْ لم يَكُنْ مَعَهُمْ رُكَّابٌ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ على أَرْبَابِ السَّفِينَةِ وَعَلَى من يَمُدُّهَا مِمَّنْ يَمْلِكُهَا أو لَا يَمْلِكُهَا وَإِنْ كان مَعَهُمْ فيها رُكَّابٌ فَعَلَيْهِمْ جميعا
وَهَذَا في الظَّاهِرِ يُؤَيِّدُ قَوْلَ أبي يُوسُفَ في إيجَابِهِ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ على الْمُلَّاكِ وَالسَّكَّانِ جميعا وأبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُفَرِّقَانِ بين السَّفِينَةِ وَالْمَحَلَّةِ لِأَنَّ السَّفِينَةَ تَنْقُلُ وَتُحَوِّلُ من مَكَان إلَى مَكَان فَتُعْتَبَرُ فيها الْيَدُ دُونَ الْمِلْكِ كَالدَّابَّةِ إذَا وُجِدَ عليها قَتِيلٌ بِخِلَافِ الدَّارِ فَإِنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَالتَّحْوِيلَ فَيُعْتَبَرُ فيها الْمِلْكُ وَالتَّحْوِيلُ ما أَمْكَنَ لَا الْيَدُ وَكَذَلِكَ الْعَجَلَةُ حُكْمُهَا حُكْمُ السَّفِينَةِ لِأَنَّهَا تَنْقُلُ وَتُحَوِّلُ
وَلَوْ وُجِدَ الْقَتِيلُ معه رَجُلٌ يَحْمِلُهُ على ظَهْرِهِ فَعَلَيْهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ لِأَنَّ الْقَتِيلَ في يَدِهِ
وَلَوْ وُجِدَ جَرِيحٌ معه بِهِ رَمَقٌ يَحْمِلُهُ حتى أتى بِهِ أَهْلَهُ فَمَكَثَ يَوْمًا أو يَوْمَيْنِ ثُمَّ مَاتَ لَا يَضْمَنُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وقال أبو يُوسُفَ وفي قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه يَضْمَنُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْحَامِلَ قد ثَبَتَتْ يَدُهُ عليه مَجْرُوحًا فإذا مَاتَ من الْجُرْحِ فَكَأَنَّهُ مَاتَ في يَدِهِ وَهَذَا تَفْرِيعٌ على من جُرِحَ في قَبِيلَةٍ فَتَحَامَلَ إلَى قَبِيلَةٍ أُخْرَى
____________________

(7/291)


فَمَاتَ فِيهِمْ وقد ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَكَذَلِكَ إذَا كان على دَابَّةٍ وَلَهَا سَائِقٌ أو قَائِدٌ أو عليها رَاكِبٌ فَعَلَيْهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ لِأَنَّهُ في يَدِهِ وَإِنْ اجْتَمَعَ السَّائِقُ وَالْقَائِدُ وَالرَّاكِبُ فَعَلَيْهِمْ جميعا لِأَنَّ الْقَتِيلَ في أَيْدِيهِمْ فَصَارَ كَأَنَّهُ وُجِدَ في دَارِهِمْ وَإِنْ وُجِدَ على دَابَّةٍ لَا سَائِقَ لها وَلَا قَائِدَ وَلَا رَاكِبَ عليها فَإِنْ كان ذلك الْمَوْضِعُ مِلْكًا لِأَحَدٍ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ على الْمَالِكِ وَإِنْ كان لَا مَالِكَ له فَعَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ من حَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ من الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى وَإِنْ كان بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ فَهُوَ هَدَرٌ لِمَا قُلْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَإِنْ وُجِدَتْ الدَّابَّةُ في مَحَلَّةٍ فَعَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ وَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ في فَلَاةٍ من الْأَرْضِ أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كان ذلك الْمَكَانُ الذي وُجِدَ فيه مِلْكًا لِإِنْسَانٍ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عليه وَإِنْ لم يَكُنْ له مَالِكٌ فَعَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِع إلَيْهِ من الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى إذَا كانت بِحَيْثُ يَبْلُغُ الصَّوْتُ منها إلَيْهِ فَإِنْ كان بِحَيْثُ لَا يَبْلُغُ فَهُوَ هَدَرٌ لِمَا قُلْنَا
وَذُكِرَ في الْأَصْلِ في قَتِيلٍ وُجِدَ بين قَرْيَتَيْنِ أَنَّهُ يُضَاف إلَى أَقْرَبِهِمَا لِمَا رُوِيَ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِأَنْ يُوَزَّعَ بين قَرْيَتَيْنِ في قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَهُمَا
وَكَذَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه في قَتِيلٍ وُجِدَ بين وادعة ( ( ( وداعة ) ) ) وَأَرْحَبَ وَكَتَبَ إلَيْهِ عَامِلُهُ بِذَلِكَ فَكَتَبَ إلَيْهِ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه أَنْ قِسْ بين الْقَرْيَتَيْنِ فَأَيُّهُمَا كان أَقْرَبَ فَأَلْزِمْهُمْ فَوَجَدَ الْقَتِيلَ إلَى وادعة ( ( ( وداعة ) ) ) أَقْرَبَ فَأُلْزِمُوا الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَحْمُولٌ على ما إذَا كان بِحَيْثُ يَبْلُغُ الصَّوْتُ إلَى الْمَوْضِعِ الذي وُجِدَ فيه الْقَتِيلُ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ حَكَاهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْفِقْهُ ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَكَذَا إذَا وُجِدَ بين سِكَّتَيْنِ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ على أَقْرَبِهِمَا
فَإِنْ وُجِدَ في الْمُعَسْكَرِ في فَلَاةٍ من الْأَرْضِ فَإِنْ كانت الْأَرْضُ التي وُجِدَ فيها لها أَرْبَابٌ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ على أَرْبَابِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُمْ أَخَصُّ بِنُصْرَةِ الْمَوْضِعِ وَحِفْظِهِ فَكَانُوا أَوْلَى بِإِيجَابِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عليهم وَهَذَا على أَصْلِهِمَا لِأَنَّ الْمُعَسْكَرَ كَالسُّكَّانِ وَالْقَسَامَةُ على الْمُلَّاكِ لَا على السَّكَّانِ على أَصْلِهِمَا
فَأَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عليهم جميعا وَإِنْ يَكُنْ في مِلْكِ أَحَدٍ بِأَنْ وُجِدَ في خِبَاءٍ أو فُسْطَاطٍ فَعَلَى من يَسْكُنْ الْخِبَاءَ وَالْفُسْطَاطَ وَعَلَى عَوَاقِلِهِمْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ لِأَنَّ صَاحِبَ الْخَيْمَةِ خُصَّ بِمَوْضِعِ الْخَيْمَةِ من أَهْلِ الْعَسْكَرِ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الدَّارِ مع أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ثُمَّ الْقَسَامَةُ على صَاحِبِ الدَّارِ إذَا وُجِدَ فيها قَتِيلٌ لَا على أَهْلِ الْمَحَلَّةِ كَذَا هَهُنَا
وَإِنْ وُجِدَ خَارِجًا من الْفُسْطَاطِ وَالْخِبَاءِ فَعَلَى أَقْرَبِ الْأَخْبِيَةِ وَالْفَسَاطِيطِ منهم الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ
كَذَا ذُكِرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْأَقْرَبَ أَوْلَى بِإِيجَابِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه إذَا وُجِدَ بين الْخِيَامِ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ على جَمَاعَتِهِمْ كَالْقَتِيلِ يُوجَدُ في الْمَحَلَّةِ جَعَلَ الْخِيَامَ الْمَحْمُولَةَ كَالْمَحَلَّةِ على هذه الرِّوَايَةِ
هذا إذَا لم يَكُنْ الْعَسْكَرُ لَقُوا عَدُوًّا فَإِنْ كَانُوا قد لَقُوا عَدُوًّا فَقَاتَلُوا فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ في قَتِيلٍ يُوجَدُ بين أَظْهُرِهِمْ لِأَنَّهُمْ إذَا لَقُوا عَدُوًّا وَقَاتَلُوا فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَدُوَّ قَتَلَهُ لَا الْمُسْلِمُونَ إذْ الْمُسْلِمُونَ لَا يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ في أَرْضِ رَجُلٍ إلَى جَانِبِ قَرْيَةٍ ليس صَاحِبُ الْأَرْضِ من أَهْلِ الْقَرْيَةِ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ على صَاحِبِ الْأَرْضِ لَا على أَهْلِ الْقَرْيَةِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ أَخَصُّ بِنُصْرَةِ أَرْضِهِ وَحِفْظِهَا من أَهْلِ الْقَرْيَةِ فَكَانَ أَوْلَى بِإِيجَابِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عليه كَصَاحِبِ الدَّارِ مع أَهْلِ الْمَحَلَّةِ
ولو وُجِدَ قَتِيلٌ في دَارِ إنْسَانٍ وَصَاحِبُ الدَّارِ من أَهْلِ الْقَسَامَةِ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ على صَاحِبِ الدَّارِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ
كَذَا ذُكِرَ في الْأَصْلِ ولم يَفْصِلْ بين ما إذَا كانت الْعَاقِلَةُ حُضُورًا أو غُيَّبًا
وَذُكِرَ في اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْقَسَامَةَ على رَبِّ الدَّارِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ حُضُورًا كَانُوا أو غُيَّبًا
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا قَسَامَةَ على الْعَاقِلَةِ
هَكَذَا ذَكَرَ فيه
وقال الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كانت الْعَاقِلَةُ حُضُورًا في الْمِصْرِ دَخَلُوا في الْقَسَامَةِ وَإِنْ كانت غَائِبَةً فَالْقَسَامَةُ على صَاحِبِ الدَّارِ تُكَرَّرُ عليه الْأَيْمَانُ وَالدِّيَةُ عليه وَعَلَى عَاقِلَتِهِ
أَمَّا دُخُولُ الْعَاقِلَةِ في الْقَسَامَةِ إذَا كَانُوا حُضُورًا فَهُوَ قَوْلُهُمَا وَظَاهِرُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ لَا قَسَامَةَ على الْعَاقِلَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَدْخُلُوا في الْقَسَامَةِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَتْهُمْ الدِّيَةُ لَزِمَتْهُمْ الْقَسَامَةُ كَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ أَخَصُّ بِالنُّصْرَةِ وَبِالْوِلَايَةِ وَالتُّهْمَةِ فَلَا يشارك ( ( ( يشاركه ) ) ) الْعَاقِلَةُ كما لَا يُشَارِكُ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ غَيْرُهُمْ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَاقِلَةَ إذَا كَانُوا حُضُورًا يَلْزَمُهُمْ حِفْظُ الدَّارِ وَنُصْرَتُهَا كما يَلْزَمُ صَاحِبُ الدَّارِ
وَكَذَا يُتَّهَمُونَ بِالْقَتْلِ كما يُتَّهَمُ صَاحِبُ الدَّارِ فَقَدْ شاركوه ( ( ( شاركوا ) ) ) في سَبَبِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ
____________________

(7/292)


فَيُشَارِكُونَهُ في الْقَسَامَةِ أَيْضًا وَبِهَذَا يَقَعُ الْفَرْقُ بين حَالِ الْحُضُورِ وَالْغَيْبَةِ على ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ مَعْنَى التُّهْمَةِ ظَاهِرُ الِانْتِفَاءِ من الْغَيْبِ
وَكَذَا مَعْنَى النُّصْرَةِ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ ذلك الْمَوْضِعَ نُصْرَةٌ من جِهَتِهِمْ إلى أَنَّهُ تَجِبُ عليهم الدِّيَةُ لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةَ على الْعَاقِلَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالتُّهْمَةِ فَإِنَّهُمْ يَتَحَمَّلُونَ عن الْقَاتِلِ الْمُعَيَّنِ إذَا كان صَبِيًّا أو مَجْنُونًا أو خَاطِئًا وَسَوَاءٌ كانت الدَّارُ فيها سَاكِنٌ أو كانت مُفَرَّغَةٌ مُغْلَقَةٌ فَوُجِدَ فيها قَتِيلٌ فَعَلَى رَبِّ الدَّارِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ
أما على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رضي اللَّهُ عنهما فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْمِلْكَ دُونَ السُّكْنَى فَكَانَ وُجُودُ السُّكْنَى فيها وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ
وَأَمَّا أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّمَا يُوجِبُ على السَّاكِنِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالدَّارِ يَدًا ولم يُوجَدْ هَهُنَا وَسَوَاءٌ كان الْمِلْكُ الذي وُجِدَ فيه الْقَتِيلُ خَاصًّا أو مُشْتَرَكًا فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ على أَرْبَابِ الْمِلْكِ لِمَا قُلْنَا وَسَوَاءٌ اتَّفَقَ قَدْرُ أَنْصِبَاءِ الشُّرَكَاءِ أو اخْتَلَفَ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ حتى لو كانت الدَّارُ بين رَجُلَيْنِ لِأَحَدِهِمَا الثُّلُثَانِ وَلِلْآخِرِ الثُّلُثَ فَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى عَاقِلَتِهِمَا نِصْفَانِ وَيُعْتَبَرُ في ذلك عَدَدُ الرؤوس لَا قَدْرُ الْأَنْصِبَاءِ كما في الشُّفْعَةِ لِأَنَّ حِفْظَ الدَّارِ وَاجِبٌ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالْحِفْظُ لَا يَخْتَلِفُ وَلِهَذَا تَسَاوَيَا في اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لِدَفْعِ ضَرَرِ الدَّخِيلِ وَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ قَدْرِ الْمِلْكِ
وَذُكِرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِيمَنْ بَاعَ دَارًا ووجد فيها قَتِيلٌ قبل أَنْ يَقْبِضَهَا الْمُشْتَرِي أَنَّ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ على الْبَائِعِ إذَا لم يَكُنْ في الْبَيْع خِيَارٌ فَإِنْ كان فيه خِيَارٌ فَعَلَى من الدَّارُ في يَدِهِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الدِّيَةُ على مَالِكِ الدَّارِ إنْ لم يَكُنْ في الْبَيْعِ خِيَارٌ فَإِنْ كان فيه خِيَارٌ فَعَلَى من تَصِيرُ الدَّارَ له
وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ الدِّيَةُ على الْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْبَائِعِ خِيَارٌ فَتَكُونَ الدِّيَةُ عليه
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي إذَا لم يَكُنْ فيه خِيَارٌ
وَكَذَا إذَا كان الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ دُخُولَ الْمَبِيعِ في مِلْكِهِ عِنْدَهُ فإذا كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَالْمِلْكُ له لِأَنَّ خِيَارَهُ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عن مِلْكِهِ بِلَا خِلَافٍ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ فيه خِيَارٌ فَالْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي وَإِنَّمَا لِلْبَائِعِ صُورَةُ يَدٍ من غَيْرِ تَصَرُّفٍ وَصُورَةُ الْيَدِ لَا مَدْخَلَ لها في الْقَسَامَةِ كَيَدِ الْمُودِعِ فَكَانَتْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ على الْمُشْتَرِي وإذا كان فيه خِيَارٌ فَعَلَى من تَصِيرُ الدَّارَ له لِأَنَّهَا إذَا صَارَتْ لِلْبَائِعِ فَقَدْ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ وَإِنْ صَارَتْ لِلْمُشْتَرِي فَقَدْ انْبَرَمَ الْبَيْعَ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مَلَكهَا بِالْعَقْدِ من حِينِ وُجُودِهِ
وَأَمَّا تَصْحِيحُ مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَمُشْكِلٌ من حَيْثُ الظَّاهِرُ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْمِلْكَ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَالتَّحْوِيلَ لَا الْيَدَ وَإِنْ كانت الْيَدُ يَدَ تَصَرُّفٍ كَيَدِ السَّاكِنِ وَالثَّابِتُ لِلْبَائِعِ صُورَةُ يَدٍ من غَيْرِ تَصَرُّفٍ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَعْتَبِرَهُ لَكِنْ لَا إشْكَالَ في الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِتَرْكِ الْحِفْظِ وَالْحِفْظُ بِالْيَدِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ يُضَافُ الْحِفْظُ إلَى الْمِلْكِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ بِهِ عَادَةً فَيُقَامُ مَقَامَ الْيَدِ فكان ( ( ( فكانت ) ) ) الْإِضَافَةُ إلَى ما بِهِ حَقِيقَةُ الْحِفْظِ أَوْلَى إلَّا أَنَّ مُطْلَقَ الْيَدِ لَا يُعْتَبَرُ بَلْ الْيَدُ الْمُسْتَحَقَّةُ بِالْمِلْكِ وَهَذِهِ يَدٌ مُسْتَحَقَّةٌ بِالْمِلْكِ بِخِلَافِ يَدِ السَّاكِنِ
وإذا وُجِدَ رَجُلٌ قَتِيلًا في دَارِ نَفْسِهِ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ على عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وفي قَوْلِهِمَا رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا شَيْءَ فيه وهو قَوْلُ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بن زِيَادٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ
وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْقَتْلَ صَادَفَهُ وَالدَّارُ مِلْكُهُ وَإِنَّمَا صَارَ مِلْكَ الْوَرَثَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْمَوْتُ ليس بِقَتْلٍ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِعْلُ الْقَاتِلِ وَلَا صُنْعَ لِأَحَدٍ في الْمَوْتِ بَلْ هو من صُنْعِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فلم يُقْتَلْ من مِلْكِ الْوَرَثَةِ فَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الضَّمَانِ على الْوَرَثَةِ وَعَوَاقِلهمْ وَلِأَنَّ وُجُودَهُ قَتِيلًا في دَارِ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ بِنَفْسِهِ كَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ هَدَرًا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الْمُعْتَبَرَ في الْقَسَامَةِ وَقْتَ ظُهُورِ الْقَتِيلِ لَا وَقْتَ وُجُودِ الْقَتْلِ بِدَلِيلِ أَنْ من مَاتَ قبل ذلك لَا يَدْخُلُ في الدِّيَةِ وَالدَّارُ وَقْتَ ظُهُورِ الْقَتِيلِ لِوَرَثَتِهِ فَكَانَتْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عليهم وَعَلَى عَوَاقِلهمْ تَجِبُ كما لو وَجَدَ قَتِيلًا في دَارِ ابْنِهِ
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَجِبُ الدِّيَةُ عليهم وَعَلَى عَوَاقِلِهِمْ وَأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ لهم فَكَيْفَ تَجِبُ لهم وَعَلَيْهِمْ وَكَذَا عَاقِلَتُهُمْ تَتَحَمَّلُ عَنْهُمْ لهم أَيْضًا وَفِيهِ إيجَابٌ لهم أَيْضًا وَعَلَيْهِمْ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ
فَالْجَوَابُ مَمْنُوعٌ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ لهم بَلْ لِلْقَتِيلِ لِأَنَّهَا بَدَلُ نَفْسِهِ فَتَكُونُ له وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ يُجَهَّزُ منها وَتُقْضَى منها دُيُونَهُ وَتُنَفَّذُ منها وَصَايَاهُ ثُمَّ ما فَضَلَ عن حَاجَتِهِ تَسْتَحِقُّهُ وَرَثَتُهُ لِاسْتِغْنَاءِ الْمَيِّتِ عنه وَالْوَرَثَةُ أَقْرَبُ الناس إلَيْهِ وَصَارَ كما لو وُجِدَ الْأَبُ قَتِيلًا في دَارِ ابْنِهِ أو في بِئْرٍ حَفَرَهَا ابْنُهُ أَلَيْسَ أَنَّهُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ على الِابْنِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ وَلَا
____________________

(7/293)


يَمْتَنِعُ ذلك لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَإِنْ اعْتَبَرْنَا وَقْتَ وُجُودِ الْقَتْلِ فَهُوَ مُمْكِنٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ تَجِبُ على عَاقِلَتِهِ لِتَقْصِيرِهِمْ في حِفْظِ الدَّارِ فَتَجِبُ عليهم الدِّيَةُ حَقًّا لِلْمَقْتُولِ ثُمَّ تَنْتَقِلُ منه إلَى وَرَثَتِهِ عِنْدَ فَرَاغِهِ عن حَاجَتِهِ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ إذَا وُجِدَ ابن الرَّجُلَ أو أَخُوهُ قَتِيلًا في دَارِهِ أَنَّ على عَاقِلَتِهِ دِيَةَ ابْنِهِ وَدِيَةَ أَخِيهِ وَإِنْ كان هو وَارِثَهُ لِمَا قُلْنَا أن وُجُودَ الْقَتِيلِ في الدَّارِ كَمُبَاشَرَةِ صَاحِبِهَا الْقَتْلَ فَيَلْزَمُ عَاقِلَتُهُ ذلك لِلْمَقْتُولِ ثُمَّ يَسْتَحِقُّهَا صَاحِبُ الدَّارِ بِالْإِرْثِ
وَلَوْ وُجِدَ مُكَاتَبٌ قَتِيلًا في دَار نَفْسِهِ فَدَمُهُ هَدَرٌ لِأَنَّ دَارِهِ في وَقْتِ ظُهُورِ الْقَتِيلِ لَيْسَتْ لِوَرَثَتِهِ بَلْ هِيَ على حُكْمِ مِلْكِ نَفْسِهِ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قتيل ( ( ( قتل ) ) ) نَفْسَهُ فَهَدَرَ دَمُهُ
رَجُلَانِ كَانَا في بَيْتٍ ليس مَعَهُمَا ثَالِثٌ وُجِدَ أَحَدُهُمَا مَذْبُوحًا
قال أبو يُوسُفَ يَضْمَنُ الْآخَرُ الدِّيَةَ وقال مُحَمَّدٌ لَا ضَمَانَ عليه
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَتَلَهُ صَاحِبُهُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَتَلَهُ صَاحِبُهُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا وَاحْتِمَالُ خِلَافِ الظَّاهِرِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ أَلَا تَرَى أَنَّ مِثْلَ هذا الِاحْتِمَالِ ثَابِتٌ في قَتِيلِ الْمَحَلَّةِ ولم يُعْتَبَرْ


فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يَدْخُلُ في الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ بَعْدَ وُجُوبِهِمَا وَمَنْ لَا يَدْخُلُ في ذلك فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يَدْخُلَانِ في الْقَسَامَةِ في أَيِّ مَوْضِعٍ وُجِدَ الْقَتِيلُ سَوَاءٌ وُجِدَ في غَيْرِ مِلْكِهِمَا أو في مِلْكِهِمَا لِأَنَّ الْقَسَامَةَ يَمِينٌ وَهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ اليمين ( ( ( اليمن ) ) ) وَلِهَذَا لَا يُسْتَحْلَفَانِ في سَائِرِ الدعاوي وَلِأَنَّ الْقَسَامَةَ تَجِبُ على من هو من أَهْلِ النُّصْرَةِ وَهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ النُّصْرَةِ فَلَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِمَا وَتَجِبُ على عَاقِلَتِهِمَا إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ في مِلْكِهِمَا لِتَقْصِيرِهِمْ بِتَرْكِ النُّصْرَةِ اللَّازِمَةِ وَهَلْ يَدْخُلَانِ في الدِّيَةِ مع الْعَاقِلَةِ فَإِنْ وُجِدَ الْقَتِيلُ في غَيْرِ مِلْكِهِمَا كَالْمَحَلَّةِ وَمِلْكِ إنْسَانٍ لَا يَدْخُلَانِ فيها وَإِنْ وُجِدَ في مِلْكِهِمَا يَدْخُلَانِ لِأَنَّ وُجُودَ الْقَتِيلِ في مِلْكِهِمَا كَمُبَاشَرَتِهِمَا الْقَتْلَ وَهُمَا مُؤَاخَذَانِ بِضَمَانِ الْأَفْعَالِ
وَعَلَى قِيَاسِ ما ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَدْخُلَانِ في الدِّيَةِ مع الْعَاقِلَةِ أَصْلًا لَكِنَّهُ ليس بِسَدِيدٍ لِأَنَّ هذا ضَمَانُ الْقَتْلِ وَالْقَتْلُ فِعْلٌ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ مُؤَاخَذَانِ بِأَفْعَالِهِمَا وَلَا يَدْخُلُ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ في الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُسْتَنْصَرُ بِهِمْ عَادَةً وَلَيْسُوا من أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ أَيْضًا فَلَا تَلْزَمُهُمْ الدِّيَةَ
وَأَمَّا الْمَأْذُونُ وَالْمُكَاتَبُ فَلَا يَدْخُلَانِ في قَسَامَةٍ وَجَبَتْ في قَتِيلٍ وُجِدَ في غَيْرِ دَارِهِمَا وَإِنْ وُجِدَ في دَارِهِمَا
أَمَّا الْمَأْذُونُ إنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَلَا قَسَامَةَ عليه بَلْ على مَوْلَاهُ وَعَاقِلَتَهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ تَجِبَ عليه الْقَسَامَةُ وإذا حَلَفَ يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أو النداء ( ( ( الفداء ) ) )
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْعَبْدَ من أَهْلِ الْيَمِينِ
أَلَا ترى ( ( ( يرى ) ) ) أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ في الدعاوي وَوُجُودُ الْقَتِيلِ في دَارِهِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ خَطَأً
وَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ كَذَا هذا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ فَائِدَةَ الِاسْتِحْلَافِ جَرَيَانُ الْقَسَامَةِ لِسَبَبٍ هو النُّكُولُ لِأَنَّهُ لَا يقضي بِالنُّكُولِ في هذا الْبَابِ بَلْ يُحْبَسُ حتى يَحْلِفَ أو يُقِرَّ وَلَوْ قر ( ( ( أقر ) ) ) بِالْقَتْلِ خَطَأً لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ على مَوْلَاهُ فلم يَكُنْ الِاسْتِحْلَافُ مُفِيدًا فَلَا تَجِبُ عليه الْقَسَامَةُ وَتَجِبُ على الْمَوْلَى وَعَلَى عَاقِلَتِهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ له وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ فَيَنْبَغِي في قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أنه تَجِبُ الْقَسَامَةُ على الْعَبْدِ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ عِنْدَهُ فَلَا يَمْلِكُ الدَّارَ
وفي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ على الْمَوْلَى لِأَنَّ الْمَوْلَى إنْ كان لَا يَمْلِكُهَا فَالْغُرَمَاءُ لَا يَمْلِكُونَهَا أَيْضًا وَالْعَبْدُ لَا مِلْكَ له وَالْمَوْلَى أَقْرَبُ الناس إلَيْهِ فَكَانَتْ الْقَسَامَةُ عليه مع ما أَنَّ لِلْمَوْلَى حَقًّا في الدَّارِ وهو حَقُّ اسْتِخْلَاصِهَا لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْغُرَمَاءِ فَكَانَ أَوْلَى بِإِيجَابِ الْقَسَامَةِ
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ إذَا وَجَدَ قَتِيلًا في دَارِهِ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّارِ لِأَنَّ وُجُودَ التقيل ( ( ( القتيل ) ) ) في دَارِهِ كَمُبَاشَرَتِهِ القتيل ( ( ( القتل ) ) ) فَلَا يَكُونُ على مَوْلَاهُ كما لَا يَكُونُ عليه في مُبَاشَرَتِهِ
وَهَلْ تَجِبُ عليه الْقَسَامَةُ ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يُكَرَّرُ عليه الْأَيْمَانُ فَإِنْ حَلَفَ يَجِبُ عليه الْأَقَلُّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ الدِّيَةِ إلَّا قَدْرَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ لِأَنَّ عَاقِلَةَ الْمُكَاتَبِ نَفْسُهُ وَتَكُونُ الْقِيمَةُ حَالَّةً لِأَنَّهَا تَجِبُ بِالْمَنْعِ من الدَّفْعِ فَتَكُونُ حَالَّةً كما تَجِبُ على الْمَوْلَى بِجِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ
وَلَوْ كان الْقَتِيلُ مولى الْمُكَاتَبِ كان عليه الْأَقَلُّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ الدِّيَةِ لِأَنَّ وُجُودَ الْقَتِيلِ في دَارِهِ كمباشرة ( ( ( كمباشرته ) ) ) الْقَتْلُ وَتَكُونُ الْقِيمَةُ حَالَّةً لَا مُؤَجَّلَةً لِمَا قُلْنَا
وَلَا تَدْخُلُ الْمَرْأَةُ في الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ في قَتِيلٍ يُوجَدُ في غَيْرِ مِلْكهَا لِأَنَّ وُجُوبَهُمَا بِطَرِيقِ النُّصْرَةِ وَهِيَ لَيْسَتْ من أَهْلِهَا
وَإِنْ وُجِدَ في دَارِهَا أو في قَرْيَةٍ لها لَا يَكُونُ بها غَيْرُهَا عليها الْقَسَامَةُ فَتُسْتَحْلَفُ
____________________

(7/294)


وَيُكَرَّرُ عليها الْأَيْمَانُ وَهَذَا قَوْلُهُمَا وقال أبو يُوسُفَ عليها لَا على عَاقِلَتِهَا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ لُزُومَ الْقَسَامَةِ لِلُزُومِ النُّصْرَةِ وَهِيَ لَيْسَتْ من أَهْلِ النُّصْرَةِ فَلَا تَدْخُلُ في الْقَسَامَةِ
وَلِهَذَا لم تَدْخُلْ مع أَهْلِ الْمَحَلَّةِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ على الْمَالِكِ هو الْمِلْكُ مع أَهْلِيَّةِ الْقَسَامَةِ وقد وُجِدَ في حَقِّهَا
أَمَّا الْمِلْكُ فَثَابِتٌ لها وَأَمَّا الْأَهْلِيَّةُ فَلِأَنَّ الْقَسَامَةَ يَمِينٌ وإنها من أَهْلِ الْيَمِينِ أَلَا يرى أنها تُسْتَحْلَفُ في سَائِرِ الْحُقُوقِ وَمَعْنَى النُّصْرَةِ يُرَاعَى وُجُودُهُ في الْجُمْلَةِ لَا في كل فَرْدٍ كَالْمَشَقَّةِ في السَّفَرِ
وَهَلْ تَدْخُلُ مع الْعَاقِلَةِ في الدِّيَةِ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ ما يَدُلُّ على أنها لَا تَدْخُلُ فإنه قال لَا يَدْخُلُ الْقَاتِلَ في التَّحَمُّلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا عَاقِلًا بَالِغًا فإذا لم تَدْخُلْ عِنْدَ وُجُودِ الْقَتْلِ منها عَيْنًا فَهَهُنَا أَوْلَى
وَأَصْحَابُنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ قالوا إنَّ الْمَرْأَةَ تَدْخُلُ مع الْعَاقِلَةِ في الدِّيَةِ في هذه الْمَسْأَلَةِ وَأَنْكَرُوا على الطَّحَاوِيِّ قَوْلَهُ وَقَالُوا إنَّ الْقَاتِلَ يَدْخُلُ في الدِّيَةِ بِكُلِّ حَالٍ
وَيَدْخُلُ في الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ الْأَعْمَى وَالْمَحْدُودُ في الْقَذْفِ وَالْكَافِرُ لِأَنَّهُمْ من أَهْلِ الِاسْتِحْلَافِ وَالْحِفْظِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ

فصل وَأَمَّا ما يَكُونُ إبْرَاءً عن الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ فَنَوْعَانِ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ
أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ وما يَجْرِي مَجْرَاهُ كَقَوْلِهِ أَبْرَأْتُ أو أَسْقَطْتُ أو عَفَوْتُ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ رُكْنَ الْإِبْرَاءِ صَدَرَ مِمَّنْ هو من أَهْلِ الابراء في مَحِلٍّ قَابِلٍ لِلْبَرَاءَةِ فَيَصِحُّ
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَدَّعِيَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ على رَجُلٍ من غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فَيَبْرَأُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ عن الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ لِأَنَّ ظُهُورَ الْقَتِيلِ في الْمَحَلَّةِ لم يَدُلُّ على كَوْنِ هذا الْمُدَّعَى عليه قَاتِلًا فَإِقْدَامُ الْوَلِيِّ على الدَّعْوَى عليه يَكُون نَفْيًا لِلْقَتْلِ عن أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فَيَتَضَمَّنُ بَرَاءَتَهُمْ عن الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على الْمُدَّعَى عليه وَإِلَّا حَلَفَ فَإِنْ حَلَفَ برىء وَإِنْ نَكَلَ حُبِسَ حتى يَحْلِفَ أو يُقِرَّ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يقضي بِالدِّيَةِ
وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ من أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِلْوَلِيِّ بِهَذِهِ الدَّعْوَى لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَانِعَ من الْقَبُولِ قبل الدَّعْوَى كانت التُّهْمَةُ وقد زَالَتْ بِالْبَرَاءَةِ فَلَا مَعْنَى لِرَدِّ الشَّهَادَةِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ تَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ في شَهَادَتِهِمْ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ من الْجَائِزِ أَنَّهُ أَبْرَأَهُمْ لِيُتَوَسَّلَ بِالْإِبْرَاءِ إلَى تَصْحِيحِ شَهَادَتِهِمْ
وَالثَّانِي أَنَّهُ أَحْسَنَ إلَيْهِمْ بِالْإِبْرَاءِ حَيْثُ أَسْقَطَ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَنْهُمْ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالْمُكَافَأَةِ على ذلك وَالشَّهَادَةُ تُرَدُّ بِالتُّهْمَةِ من وَجْهٍ وَاحِدٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَوْلَى وَلِأَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ كَانُوا خُصَمَاءَ في هذه الدَّعْوَى فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ
وَإِنْ خَرَجُوا بِالْإِبْرَاءِ عن الْخُصُومَةِ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِكَوْنِهِمْ خُصَمَاءَ قَائِمٌ وهو وُجُودُ الْقَتِيلِ فِيهِمْ كَالْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ إذَا خَاصَمَ ثُمَّ عُزِلَ فَشَهِدَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَذَا هذا
وَلَوْ ادَّعَى وَلِيُّ الْقَتِيلِ على رَجُلٍ بِعَيْنِهِ من أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ بِحَالِهَا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرَوَى عبد اللَّهِ بن الْمُبَارَكِ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الْقَسَامَةَ تَسْقُطُ
وَكَذَا رَوَى مُحَمَّدٌ
لوقال أبو يُوسُفَ الْقِيَاسُ أَنْ تَسْقُطَ الْقَسَامَةُ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ لِلْأَثَرِ
وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ تَعْيِينَ الْوَلِيِّ وَاحِدًا منهم إبْرَاءً عن الْبَاقِينَ دَلَالَةٌ فَتَسْقُطُ عَنْهُمْ الْقَسَامَةُ كما لو أَبْرَأَهُمْ نَصًّا
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقَاتِلَ أَحَدُ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ظَاهِرًا وَالْوَلِيُّ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ عَيَّنَ وهو مُتَّهَمٌ في التَّعْيِينِ فَلَا يُعْتَبَرُ تَعْيِينُهُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ فَلَا تعتبر ( ( ( يعتبر ) ) ) حُكْمُ الْقَسَامَةِ إلَّا بها فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ من غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ على دَعْوَاهُ يقضي بها فَيَجِبُ الْقِصَاصُ في الْعَمْدِ وَالدِّيَةُ في الْخَطَأِ
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ من الْمَحَلَّةِ عليه لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا على ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّ الْخُصُومَةَ بَعْدَ هذه الدَّعْوَى قَائِمَةٌ فَكَانَ الشَّاهِدُ خَصْمًا لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الْخُصُومَةَ عن نَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ وَلَا شَهَادَةَ لِلْخَصْمِ وإذا لم تُقْبَلْ شَهَادَةُ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عليه ولم يُقِمْ بَيِّنَةً أُخْرَى وَبَقِيَتْ الْقَسَامَةُ على أَهْلِ الْمَحَلَّةِ على حَالِهَا يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عليه وَالشَّاهِدَانِ مع أَهْلِ الْمَحَلَّةِ حتى يَكْمُلَ خَمْسُونَ رَجُلًا من أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ثُمَّ كَيْفَ يُسْتَحْلَفُ الشُّهُودُ مع أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عِنْدَهُمَا يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ماقتلناه وَلَا عَلِمْنَا له قَاتِلًا غير فُلَانٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ ما قَتَلْنَاهُ وَلَا يُزَادُونَ على ذلك لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَشْهُودَ عليه قَاتِلٌ فَلَا سَبِيلَ إلَى اسْتِحْلَافهمْ على الْعِلْمِ
وما قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَوْلَى
لِأَنَّ فِيمَا قَالَاهُ مُرَاعَاةُ مَوْضُوعِ الْقَسَامَةِ وهو الْجَمْعُ بين الْيَمِينِ على الْبَتَاتِ وَالْعِلْمِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فِيمَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى وَفِيمَا قَالَهُ أبو يُوسُفَ تَرْكُ الْيَمِينِ على الْعِلْمِ أَصْلًا فَكَانَ ما قَالَاهُ
____________________

(7/295)


أَوْلَى
وَلَوْ ادَّعَى أَهْلِ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ على رَجُلٍ منهم أو من غَيْرِهِمْ تَصِحُّ دَعْوَاهُمْ
فَإِنْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ على ذلك الرَّجُلِ يَجِبُ الْقِصَاصُ في الْعَمْدِ وَالدِّيَةُ في الْخَطَأِ إنْ وَافَقَهُمْ الْأَوْلِيَاءُ في الدَّعْوَى على ذلك الرَّجُلِ وَإِنْ لم يوافقوهم ( ( ( يوافقهم ) ) ) في الدَّعْوَى عليه لَا يَجِبُ عليه شَيْءٌ لِأَنَّ الْأَوْلِيَاءَ قد أبرؤوه ( ( ( أبرءوه ) ) ) حَيْثُ أَنْكَرُوا وُجُودَ الْقَتْلِ منه وَلَا يَجِبُ على أَهْلِ الْمَحَلَّةِ أَيْضًا شيء لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْقَتْلَ على غَيْرِهِمْ وَإِنْ لم يَقُمْ لهم الْبَيِّنَةُ وَحَلَفَ ذلك الرَّجُلُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ على أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ثُمَّ كَيْفَ يَحْلِفُونَ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ
فصل وَأَمَّا الْجِنَايَةُ على ما دُونَ النَّفْسِ مُطْلَقًا فَالْكَلَامُ في هذه الْجِنَايَةِ يَقَعُ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ أَنْوَاعِهَا
وَالثَّانِي في بَيَانِ حُكْمِ كل نَوْعٍ منها
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْجِنَايَةُ على ما دُونَ النَّفْسِ مُطْلَقًا أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ أَحَدُهَا إبَانَةُ الْأَطْرَافِ وما يَجْرِي مَجْرَى الْأَطْرَافِ
وَالثَّانِي إذْهَابُ مَعَانِي الْأَطْرَافِ مع إبْقَاءِ أَعْيَانِهَا
وَالثَّالِثُ الشِّجَاجُ
وَالرَّابِعُ الْجِرَاحُ
أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَقَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالْأُصْبُعِ وَالظُّفْرِ وَالْأَنْفِ وَاللِّسَانِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالْأُذُنِ وَالشَّفَةِ وَفَقْءُ الْعَيْنَيْنِ وَقَطْعُ الْأَشْفَارِ وَالْأَجْفَانِ وَقَلْعُ الْأَسْنَانِ وَكَسْرُهَا وَحَلْقُ شَعْرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَالْحَاجِبَيْنِ وَالشَّارِبِ
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَتَفْوِيتُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَالْكَلَامِ وَالْجِمَاعِ وَالْإِيلَادِ وَالْبَطْشِ وَالْمَشْيِ وَتَغَيُّرُ لَوْنِ السِّنِّ إلَى السَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ وَالْخُضْرَةِ وَنَحْوِهَا مع قِيَامِ الْمَحَالِّ الذي تَقُومُ بها هذه الْمَعَانِي
وَيُلْحَقُ بهذا الْفَصْلِ إذْهَابُ الْعَقْلِ
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ فَالشِّجَاجُ أَحَدَ عَشَرَ
أَوَّلُهَا الْخَارِصَةُ ثُمَّ الدَّامِعَةُ ثُمَّ الدَّامِيَةُ ثُمَّ الْبَاضِعَةُ ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ ثُمَّ السِّمْحَاقُ ثُمَّ الْمُوضِحَةُ ثُمَّ الْهَاشِمَةُ ثُمَّ الْمُنَقِّلَةُ ثُمَّ الْآمَّةُ ثُمَّ الدَّامِغَةُ
فَالْخَارِصَةُ هِيَ التي تَخْرُصُ الْجِلْدَ أَيْ تَشُقُّهُ وَلَا يَظْهَرُ منها الدَّمُ
وَالدَّامِعَةُ هِيَ التي يَظْهَرُ منها الدَّمُ وَلَا يَسِيلُ كَالدَّمْعِ في الْعَيْنِ
وَالدَّامِيَةُ هِيَ التي يَسِيلُ منها الدَّمُ
وَالْبَاضِعَةُ هِيَ التي تَبْضَعُ اللَّحْمَ أَيْ تَقْطَعُهُ
وَالْمُتَلَاحِمَةُ هِيَ التي تَذْهَبُ في اللَّحْمِ أَكْثَرَ مِمَّا تَذْهَبُ الْبَاضِعَةُ فيه
هَكَذَا رَوَى أبو يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ الْمُتَلَاحِمَةُ قبل الْبَاضِعَةُ وَهِيَ التي يَتَلَاحَمُ منها الدَّمُ وَيَسْوَدُّ وَالسِّمْحَاقُ اسْمٌ لَتِلْكَ الْجِلْدَةِ إلَّا أَنَّ الْجِرَاحَةَ سُمِّيَتْ بها وَالْمُوضِحَةُ التي تَقْطَعُ السِّمْحَاقَ وَتُوَضِّحُ الْعَظْمَ أَيْ تُظْهِرُهُ
وَالْهَاشِمَةُ هِيَ التي تُهَشِّمُ الْعَظْمَ أَيْ تُكَسِّرُهُ وَالْمُنَقِّلَةُ هِيَ التي تَنْقُلُ الْعَظْمَ بَعْدَ الْكَسْرِ أَيْ تُحَوِّلُهُ من مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ وَالْآمَّةُ هِيَ التي تَصِلُ إلَى أُمِّ الدِّمَاغِ وَهِيَ جِلْدَةٌ تَحْتَ الْعَظْمِ فَوْقَ الدِّمَاغِ وَالدَّامِغَةُ هِيَ التي تَخْرِقُ تِلْكَ الْجِلْدَةِ وَتَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ
فَهَذِهِ إحْدَى عَشْرَ شَجَّةً
وَمُحَمَّدٌ ذَكَرَ الشِّجَاجَ تِسْعًا ولم يذكر الْخَارِصَةَ وَلَا الدَّامِغَةَ لِأَنَّ الْخَارِصَةَ لَا يَبْقَى لها أَثَرٌ عَادَةً وَالشَّجَّةُ التي لَا يَبْقَى لها أَثَرٌ لَا حُكْمَ لها في الشَّرْعِ وَالدَّامِغَةُ لَا يَعِيشُ الْإِنْسَانُ مَعَهَا عَادَةً بَلْ تَصِيرُ نَفْسًا ظَاهِرًا وَغَالِبًا فَتَخْرُجُ من أَنْ تَكُونَ شَجَّةً فَلَا مَعْنَى لِبَيَانِ حُكْمِ الشَّجَّةِ فيها لِذَلِكَ تَرَكَ مُحَمَّدٌ ذِكْرَهُمَا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ فَالْجِرَاحُ نَوْعَانِ جَائِفَةٌ وَغَيْرُ جَائِفَةٍ فَالْجَائِفَةُ هِيَ التي تَصِلُ إلَى الْجَوْفِ
وَالْمَوَاضِعُ التي تَنْفُذُ الْجِرَاحَةُ منها إلَى الْجَوْفِ هِيَ الصَّدْرُ وَالظَّهْرُ وَالْبَطْنُ وَالْجَنْبَانِ وما بين الْأُنْثَيَيْنِ وَالدُّبُرِ وَلَا تَكُونُ في الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَلَا في الرَّقَبَةِ وَالْحَلْقِ جَائِفَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ إنَّ ما وَصَلَ من الرَّقَبَةِ إلَى الْمَوْضِعِ الذي لو وَصَلَ إلَيْهِ من الشَّرَابِ قَطْرَةٌ يَكُونُ جَائِفَةً لِأَنَّهُ لَا يَقْطُرُ إلَّا إذَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ وَلَا تَكُونُ الشَّجَّةُ إلَّا في الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وفي مَوَاضِعِ الْعَظْمِ مِثْلِ الْجَبْهَةِ وَالْوَجْنَتَيْنِ وَالصُّدْغَيْنِ وَالذَّقَنِ دُونَ الْخَدَّيْنِ وَلَا تَكُونُ الْآمَّةُ إلَّا في الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وفي الْمَوْضِعِ الذي تَتَخَلَّصُ منه إلَى الدِّمَاغِ وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ هذه الْجِرَاحَاتِ إلَّا في هذه الْمَوَاضِعِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال بَعْضُ الناس يَثْبُتُ حُكْمَ هذه الْجِرَاحَاتِ في كل الْبَدَنِ
وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ هذا القاتل ( ( ( القائل ) ) ) إنْ رَجَعَ في ذلك إلَى اللُّغَةِ فَهُوَ غَلَطُ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَفْصِلُ بين الشَّجَّةِ وَبَيْنَ مُطْلَقِ الْجِرَاحَةِ فَتُسَمِّي ما كان في الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ في مَوَاضِعِ الْعَظْمِ منها شَجَّةً
وما كان في سَائِرِ الْبَدَنِ جِرَاحَةً فَتَسْمِيَةُ الْكُلِّ شَجَّةً يَكُونُ غَلَطًا في اللُّغَةِ وَإِنْ رَجَعَ فيه إلَى الْمَعْنَى فَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّ حُكْمَ هذه الشِّجَاجِ يَثْبُتُ لِلشَّيْنِ الذي يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ بِبَقَاءِ أَثَرِهَا بِدَلِيلِ أنها لو برأت ( ( ( برئت ) ) ) ولم يَبْقَ لها أَثَرٌ لم يَجِبْ بها أَرْشُ وَالشَّيْنُ إنَّمَا يَلْحَقُ فِيمَا يَظْهَرُ في الْبَدَنِ وَذَلِكَ هو الْوَجْهُ وَالرَّأْسُ وَأَمَّا ما سِوَاهُمَا فَلَا يَظْهَرُ بَلْ يُغَطَّى عَادَةً فَلَا يَلْحَقُ الشَّيْنُ فيه مِثْلَ ما يَلْحَقُ في الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ
____________________

(7/296)


وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا أَحْكَامُ هذه الْأَنْوَاعِ فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ مُخْتَلِفَةُ الْأَحْكَامِ منها ما يَجِبُ فيه الْقِصَاصُ وَمِنْهَا ما يَجِبُ فيه دِيَةٌ كَامِلَةٌ
وَمِنْهَا ما يَجِبُ فيه أَرْشٌ مُقَدَّرٌ
وَمِنْهَا ما يَجِبُ فيه أَرْشٌ غَيْرُ مُقَدَّرٍ أَمَّا الذي فيه الْقِصَاصُ فَهُوَ الذي اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْوُجُوبِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقِصَاصُ
وَالثَّانِي في بَيَانِ وَقْتِ الْحُكْمِ بِالْقِصَاصِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ شَرَائِطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ أَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَعُمُّ النَّفْسَ وما دُونَهَا وَبَعْضُهَا يَخُصُّ ما دُونَ النَّفْسِ
أَمَّا الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ فما ذَكَرْنَا في بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ في النَّفْسِ من كَوْنِ الْجَانِي عَاقِلًا بَالِغًا مُتَعَمِّدًا مُخْتَارًا
وَكَوْنِ الْمَجْنِيِّ عليه مَعْصُومًا مُطْلَقًا لَا يَكُونُ جُزْءَ الْجَانِي وَلَا مِلْكَهُ وَكَوْنِ الْجِنَايَةِ حَاصِلَةً على طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ لِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ
وَأَمَّا الشَّرَائِطُ التي تَخُصُّ الْجِنَايَةُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَمِنْهَا الْمُمَاثَلَةُ بين الْمَحَلَّيْنِ في الْمَنَافِعِ وَالْفِعْلَيْنِ وَبَيْنَ الْأَرْشَيْنِ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فَانْعِدَامُهَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا النص ( ( ( للنص ) ) ) وَالْمَعْقُولُ
أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَكَتَبْنَا عليهم فيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ }
إلَى قَوْله جَلَّ شَأْنُهُ { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ }
فَإِنْ قِيلَ ليس في كِتَابِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَيَانُ حُكْمِ ما دُونَ النَّفْسِ إلا في هذه الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وَأَنَّهُ إخْبَارٌ عن حُكْمِ التَّوْرَاةِ فَيَكُونُ شَرِيعَةَ من قَبْلَنَا
وَشَرِيعَةُ من قَبْلَنَا لَا تَلْزَمُنَا
فَالْجَوَابُ أَنَّ من الْقُرَّاءِ الْمَعْرُوفِينَ من ابْتَدَأَ الْكَلَامِ من قَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } بِالرَّفْعِ إلَى قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ } على ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ لَا على الْإِخْبَارِ عَمَّا في التَّوْرَاةِ فَكَانَ هذا شَرِيعَتَنَا لَا شَرِيعَةَ من قَبْلَنَا على أَنَّ هذا إنْ كان إخْبَارًا عن شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ لَكِنْ لم يَثْبُتْ نسخة بِكِتَابِنَا وَلَا بِسُنَّةِ رَسُولِنَا فَيَصِيرُ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا مُبْتَدَأَةً فَيَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِهِ على أَنَّهُ شَرِيعَةُ رَسُولِنَا لَا على أَنَّهُ شَرِيعَةُ من قَبْلَهُ من الرُّسُلِ على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ إلَّا أَنَّهُ لم يذكر وُجُوبَ الْقِصَاصِ في الْيَدِ وَالرِّجْلِ نَصًّا لَكِنَّ الْإِيجَابَ في الْعَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْأُذُنِ وَالسِّنِّ إيجَابٌ في الْيَدِ وَالرِّجْلِ دَلَالَةً لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِالْمَذْكُورِ من السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالشَّمِّ وَالسِّنِّ إلَّا صَاحِبَهُ
وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ غَيْرُ صَاحِبِهِمَا فَكَانَ الْإِيجَابُ في الْعُضْوِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ في حَقِّهِ على الْخُصُوصِ إيجَابًا فِيمَا هو مُنْتَفَعٌ بِهِ في حَقِّهِ وفي حَقِّ غَيْرِهِ من طَرِيقِ الْأُولَى فَكَانَ ذِكْرُ هذه الْأَعْضَاءِ ذِكْرًا لِلْيَدِ وَالرِّجْلِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ له كما في التَّأَفُّفِ مع الضَّرْبِ في الشَّتْمِ على أَنَّ في كِتَابِنَا حُكْمُ ما دُونَ النَّفْسِ قال اللَّهُ تعالى { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عليه بِمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُمْ }
قال اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ } وَأَحَقُّ ما يُعْمَلُ فيه بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ما دُونَ النَّفْسِ
وقال تَبَارَكَ وَتَعَالَى { من عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إلَّا مِثْلَهَا } وَنَحْوُ ذلك من الْآيَاتِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ إن ما دُونَ النَّفْسِ له حُكْمُ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ خُلِقَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ كَالْأَمْوَالِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يستوفي في الْحِلِّ وَالْحُرَمِ كما يستوفي الْمَالُ
وَكَذَا الْوَصِيُّ يَلِي اسْتِيفَاءَ ما دُونَ النَّفْسِ لِلصَّغِيرِ كما يَلِي اسْتِيفَاءَ مَالِهِ فَتُعْتَبَرُ فيه الْمُمَاثَلَةُ كما تُعْتَبَرُ في إتْلَافِ الْأَمْوَالِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ مُمْكِنَ الِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ بِدُونِ إمْكَانِ اسْتِيفَائِهِ مُمْتَنَعٌ فَيُمْتَنَعُ وُجُوبُ الِاسْتِيفَاءِ ضَرُورَةً ويبني ( ( ( وينبني ) ) ) على هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ مَسَائِلُ
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ لَا يُؤْخَذُ شَيْءٌ من الْأَصْلِ إلَّا بمثله فَلَا تُؤْخَذُ الْيَدُ إلَّا بِالْيَدِ
لِأَنَّ غير الْيَدِ ليس من جِنْسهَا فلم يَكُنْ مِثْلًا لها إذْ التَّجَانُسُ شَرْطٌ لِلْمُمَاثِلَةِ
وَكَذَا الرِّجْلُ وَالْأُصْبُعُ وَالْعَيْنُ وَالْأَنْفُ وَنَحْوُهَا لِمَا قُلْنَا وَكَذَا الْإِبْهَامُ لَا تُؤْخَذُ إلَّا بِالْإِبْهَامِ وَلَا السَّبَّابَةُ إلَّا بِالسَّبَّابَةِ وَلَا الْوُسْطَى إلَّا بِالْوُسْطَى وَلَا الْبِنْصِرِ إلَّا بِالْبِنْصِرِ وَلَا الْخِنْصَرُ إلَّا بِالْخِنْصَرِ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَصَابِعِ مُخْتَلِفَةٌ فَكَانَتْ كَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ
وَكَذَلِكَ لَا تُؤْخَذُ الْيَدُ الْيَمِينُ إلَّا بِالْيَمِينِ وَلَا الْيُسْرَى إلَّا بِالْيُسْرَى لِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا على الْيَسَارِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ يَمِينًا وَكَذَلِكَ الرِّجْلُ وَكَذَلِكَ أَصَابِعُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لَا تُؤْخَذُ الْيَمِينُ منها ( ( ( منهما ) ) ) إلَّا بِالْيَمِينِ وَلَا الْيُسْرَى إلَّا بِالْيُسْرَى
وَكَذَلِكَ الْأَعْيُنُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ الْأَسْنَانُ لَا تُؤْخَذُ الثَّنِيَّةُ إلَّا بِالثَّنِيَّةِ وَلَا النَّابُ إلَّا بِالنَّابِ وَلَا الضِّرْسُ إلَّا بِالضِّرْسِ لِاخْتِلَافِ مَنَافِعِهَا فإن بَعْضَهَا قَوَاطِعُ وَبَعْضَهَا طَوَاحِنُ وَبَعْضَهَا ضَوَاحِكُ وَاخْتِلَافُ الْمَنْفَعَةِ بين الشَّيْئَيْنِ يَلْحَقهُمَا بِجِنْسَيْنِ وَلَا مُمَاثَلَةَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ
وَكَذَا لَا يُؤْخَذُ الْأَعْلَى منها بِالْأَسْفَلِ وَلَا الْأَسْفَلُ
____________________

(7/297)


بِالْأَعْلَى لِتَفَاوُتٍ بين الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ في الْمَنْفَعَةِ وَلَا يُؤْخَذُ الصَّحِيحُ من الْأَطْرَافِ إلَّا بِالصَّحِيحِ منها فَلَا تُقْطَعُ الْيَدُ الصَّحِيحَةُ وَلَا كَامِلَةُ الْأَصَابِعِ بِنَاقِصَةِ الْأَصَابِع أو مَفْصِلٌ من الْأَصَابِعِ
وَكَذَلِكَ الرِّجْلُ وَالْأُصْبُعُ وَغَيْرُهَا لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ بين الصحيح ( ( ( الصحيحين ) ) ) وَالْمَعِيبِ
وَإِنْ كان الْعَيْبُ في طَرَفِ الْجَانِي فَالْمَجْنِيّ عليه بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَرْشَ الصَّحِيحِ لِأَنَّ حَقَّهُ في الْمِثْلِ وهو السَّلِيمُ وَلَا يُمْكِنْهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ من كل وَجْهٍ مع فَوَاتِ صِفَةِ السَّلَامَةِ وَأَمْكَنَهُ الِاسْتِيفَاءُ من وَجْهٍ وَلَا سَبِيلَ إلَى إلْزَامِ الِاسْتِيفَاءِ حَتْمًا لِمَا فيه من إلْزَامِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ نَاقِصًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَيُخَيَّرُ إنْ شَاءَ رضي بِقَدْرِ حَقِّهِ وَاسْتَوْفَاهُ نَاقِصًا وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إلَى بَدَلِ حَقِّهِ وهو كَمَالُ الْأَرْشِ كما ( ( ( كمن ) ) ) أَتْلَفَ على إنْسَانٍ شيئا له مِثْلٌ وَالْمُتْلَفُ جَيِّدٌ فَانْقَطَعَ عن أَيْدِي الناس ولم يَبْقَ منه إلَّا الرَّدِيءُ أن صَاحِبَ الْحَقِّ يَكُونُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَوْجُودَ نَاقِصًا وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إلَى قِيمَةِ الْجَيِّدِ لِمَا قُلْنَا
كَذَا هذا
وَلَوْ أَرَادَ الْمَجْنِيّ عليه أَنْ يَأْخُذَهُ وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ هل له ذلك قال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ليس له ذلك
وقال الشَّافِعِيُّ له ذلك
وجه قَوْلُهُ أن حَقَّهُ في الْمِثْلِ وَلَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاؤُهُ من هذه الْيَدِ من كل وَجْهٍ فَيَسْتَوْفِي حَقَّهُ منها بِقَدْرِ ما يُمْكِنُ وَيُضَمِّنُهُ الْبَاقِيَ كما لو أَتْلَفَ على آخَرَ شيئا من الْمِثْلِيَّاتِ فَانْقَطَعَ عن أَيْدِي الناس إلَّا قَدْرَ بَعْضِ حَقِّهِ أنه يَأْخُذُ الْقَدْرَ الْمَوْجُودِ من الْمُتْلَفِ وَيُضَمِّنُهُ الْبَاقِيَ
كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّهُ قَادِرٌ على اسْتِيفَاءِ أَصْلِ حَقِّهِ وَإِنَّمَا الْفَائِتُ هو الْوَصْفُ وهو صِفَةُ السَّلَامَةِ فإذا رضي بإستيفاء أَصْلِ حَقِّهِ نَاقِصًا كان ذلك رِضًا منه بِسُقُوطِ حَقِّهِ عن الصِّفَةِ كما لو أَتْلَفَ شيئا من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وهو جَيِّدٌ فَانْقَطَعَ عن أَيْدِي الناس نَوْعُ الْجَيِّدِ وَلَا يُوجَدُ إلَّا الرَّدِيءُ منه أنه ليس له إلَّا أَنْ يَأْخُذَهُ أو قِيمَةُ الْجَيِّدِ كَذَلِكَ
هذا بِخِلَافِ ما ذَكَرَهُ من الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ حَقَّ الْمُتْلَفِ عليه مُتَعَلِّقٌ بِمِثْلِ الْمُتْلِفِ بِكُلِّ جُزْءٍ من أَجْزَائِهِ صُورَةً وَمَعْنًى فَكَانَ له أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمَوْجُودَ وَيَأْخُذَ قِيمَةَ الْبَاقِي وَهَهُنَا حَقُّ الْمَجْنِيِّ عليه لم يَتَعَلَّقْ إلَّا بِالْقَطْعِ من الْمِفْصَلِ دُونَ الْأَصَابِعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ الْأَصَابِعَ وَيَبْرَأَ عن الْكَفِّ ليس له ذلك فلم تَكُنْ الْأَصَابِعُ عَيْنَ حَقِّهِ إنْ كان الْبَعْضُ قَطْعَ الْأَصَابِعِ بِأَنْ كانت جَارِيَةً مَجْرَى الصِّفَةِ كَالْجَوْدَةِ في الْمَكِيلِ فَلَا يَكُونُ له أَنْ يُطَالِبَ بِشَيْءٍ آخَرَ كما في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ
وَلَوْ ذَهَبَتْ الْجَارِحَةُ الْمُعَيَّنَةُ قبل أَنْ يَخْتَارَ الْمَجْنِيُّ عليه أَخَذَهَا أو قَطَعَهَا قَاطِعٌ بَطَلَ حَقُّ الْمَجْنِيّ عليه في الْقِصَاصِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ
وَهَلْ يَجِبُ الْأَرْشُ على الْجَانِي فَالْكَلَامُ فيه كَالْكَلَامِ فِيمَا إذَا قَطَعَ يَدًا صَحِيحَةً وهو على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أنها إنْ سَقَطَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو قُطِعَتْ ظُلْمًا لَا شَيْءَ عليه وَلَوْ قُطِعَتْ بِحَقٍّ من قِصَاصٍ أو سَرِقَةٍ فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عليه الْأَرْشُ في الْوَجْهَيْنِ وَالْكَلَامُ فيه رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ وقد تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وهو أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقِصَاصُ عَيْنًا عِنْدَنَا في النَّفْسِ وما دُونَهُ وَعِنْدَهُ أَحَدُهُمَا غَيْرُ عَيْنٍ في قَوْلٍ وفي قَوْلٍ الْقِصَاصُ عَيْنًا لَكِنْ مع حَقِّ الْعُدُولِ إلَى الْمَالِ وقد ذَكَرْنَا هذا الْأَصْلَ بِفُرُوعِهِ في بَيَانِ حُكْمِ الْجِنَايَةِ على النَّفْسِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كان الْقَطْعُ بِحَقٍّ يَجِبُ الْأَرْشَ لِأَنَّهُ قَضَى بِالطَّرَفِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عليه فَصَارَ كَأَنَّهُ قَائِمٌ وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِعُذْرِ الْخَطَأِ وَغَيْرِهِ على ما مَرَّ ذِكْرُهُ
وإذا ثَبَتَ هذا في الصَّحِيحَةِ فَنَقُولُ حَقُّ الْمَجْنِيّ عليه كان مُتَعَلِّقًا بِالْيَدِ الْمُعَيَّنَةِ بِعَيْنِهَا وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ عنها إلَى الْأَرْشِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ فإذا لم يَخْتَرْ حتى هَلَكَتْ بَقِيَ حَقُّهُ مُتَعَلِّقًا بِالْيَدِ
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ مُخَيَّرًا بين الْقِصَاصِ وَالْأَرْشِ فإذا فَاتَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ قِيلَ لَا بَلْ حَقُّهُ كان في الْيَدِ على التَّعْيِينِ إلَّا أَنَّ له أَنْ يَعْدِلَ عنه إلَى بَدَلِهِ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ فإذا هَلَكَ قبل الِاخْتِيَارِ بَقِيَ حَقُّهُ في الْيَدِ فإذا هَلَكَتْ فَقَدْ بَطَلَ مَحَلُّ الْحَقِّ فَبَطَلَ الْحَقُّ أَصْلًا وَرَأْسًا
وَاَللَّهُ تَعَالَى عز وجل الْمُوَفِّقُ
وَلَوْ كانت يَدُ القطع ( ( ( القاطع ) ) ) صَحِيحَةً وَقْتَ الْقَطْعِ ثُمَّ شُلَّتْ بَعْدَهُ فَلَا حَقَّ لِلْمَقْطُوعِ في الْأَرْشِ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَبَتَ في الْيَدِ عَيْنًا بِالْقَطْعِ فَلَا يُنْتَقَلُ إلَى الْأَرْشِ بِالنُّقْصَانِ كما إذَا ذَهَبَ الْكُلُّ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّهُ أَصْلًا وَلَا يَنْتَقِلُ إلَى الْأَرْشِ لِمَا قُلْنَا
كَذَا هذا
وَلَا قِصَاصَ إلَّا فِيمَا يُقْطَعُ من الْمَفَاصِلِ مِفْصَلِ الزَّنْدِ أو مَفْصِلِ الْمِرْفَقِ أو مِفْصَلِ الْكَتِفِ في الْيَدِ أو مِفْصَلِ الْكَعْبِ أو مِفْصَلِ الرُّكْبَةِ أو مِفْصَلِ الْوِرْكِ في الرِّجْلِ وما كان من غَيْرِ الْمَفَاصِلِ فَلَا قِصَاصَ فيه كما إذَا قُطِعَ من السَّاعِدِ أو الْعَضُدِ أو السَّاقِ أو الْفَخِذِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ من الْمَفَاصِلِ وَلَا يُمْكِنُ من غَيْرِهَا وَلَيْسَ في لَحْمِ السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ وَالسَّاقِ وَالْفَخِذِ وَلَا
____________________

(7/298)


في الْأَلْيَةِ قِصَاصٌ وَلَا في لَحْمِ الْخَدَّيْنِ وَلَحْمِ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَلَا في جِلْدَةِ الرَّأْسِ وَجِلْدَةِ الْيَدَيْنِ إذَا قُطِعَتْ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ وَلَا في اللَّطْمَةِ وَالْوَكْزَةِ وَالْوَجْأَةِ وَالدَّقَّةِ لِمَا قُلْنَا
وَلَا يُؤْخَذُ الْعَدَدُ بِالْعَدَدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِمَّا يَجِبُ على أَحَدِهِمَا فيه الْقِصَاصُ لو انْفَرَدَ كَالِاثْنَيْنِ إذَا قَطَعَا يَدَ رَجُلٍ أو رِجْلَهُ أو أصبعه أو أَذْهَبَا سَمْعَهُ أو بَصَرَهُ أو قَلَعَا سِنًّا له أو نحو ذلك من الْجَوَارِحِ التي على الْوَاحِدِ مِنْهُمَا فيها الْقِصَاصُ لو انْفَرَدَ بِهِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا وَعَلَيْهِمَا الْأَرْشُ نِصْفَانِ
وَكَذَلِكَ ما زَادَ على الثَّلَاثِ من الْعَدَدِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاثْنَيْنِ وَلَا قِصَاصَ عليهم وَعَلَيْهِمْ الْأَرْشُ على عَدَدِهِمْ بِالسَّوَاءِ وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ الْقِصَاصُ عليهم وَإِنْ كَثُرُوا كما في النَّفْسِ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا بين يَدَيْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه على رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهِ ثُمَّ جَاءَا بِآخَرَ وَقَالَا أُوهِمْنَا إنَّمَا السَّارِقُ هذا يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فقال سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه لَا أُصَدِّقُكُمَا على هذا وَأُغَرِّمُكُمَا دِيَةَ الْأَوَّلِ وَلَوْ عَلِمْتَ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُ أَيْدِيَكُمَا
فَقَدْ اعْتَقَدَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه قَطْعَ الْيَدَيْنِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ وَإِنَّمَا قال ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه أَحَدٌ منهم فَيَكُونُ إجْمَاعًا
وَلِأَنَّ الْيَدَ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ ثُمَّ الْأَنْفُسُ تُقْتَلُ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَكَذَا الْأَيْدِي تُقْطَعُ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ حُكْمَ التَّبَعِ حُكْمُ الْأَصْلِ
وَلَنَا أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بين الْأَيْدِي وَيَدٍ وَاحِدَةٍ لَا في الذَّاتِ وَلَا في الْمَنْفَعَةِ وَلَا في الْفِعْلِ
أَمَّا في الذَّاتِ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّهُ لَا مُمَاثَلَةَ بين الْعَدَدِ بين الْفَرْدِ من حَيْثُ الذَّاتُ يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ الصَّحِيحَةُ بِالشَّلَّاءِ وَالْفَائِتُ هو الْمُمَاثَلَةُ من حَيْثُ الْوَصْفُ فَقَطْ فَفَوَاتُ الْمُمَاثَلَةِ في الْوَصْفِ لَمَّا مَنَعَ جَرَيَانَ الْقِصَاصِ فَفَوَاتُهَا في الذَّاتِ أَوْلَى
وَأَمَّا في الْمَنْفَعَةِ فَلِأَنَّ من الْمَنَافِعِ ما لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالْيَدَيْنِ كَالْكِتَابَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَنَحْوِ ذلك
وَكَذَا مَنْفَعَةُ الْيَدَيْنِ أَكْثَرُ من مَنْفَعَةِ يَدٍ وَاحِدَةٍ عَادَةً وَأَمَّا في الْفِعْلِ فَلِأَنَّ الْمَوْجُودَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَطْعُ بَعْضِ الْيَدِ كَأَنَّهُ وَضَعَ أَحَدُهُمَا السِّكِّينَ من جَانِبٍ وَالْآخَرَ من جَانِبٍ آخَرَ وَالْجَزَاءُ قَطْعُ كل وَاحِدٍ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقَطْعُ كل الْيَدِ أَكْثَرُ من قَطْعِ بَعْضِ الْيَدِ وَانْعِدَامُ الْمُمَاثَلَةِ من وَجْهٍ تَكْفِي لِجَرَيَانِ الْقِصَاصِ
كَيْفَ وقد انْعَدَمَتْ من وُجُوهٍ وَأَمَّا قَوْلُ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه فَلَا حُجَّةَ له فيه لِأَنَّهُ إنَّمَا قال ذلك على سَبِيلِ السِّيَاسَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَضَافَ الْقَطْعَ إلَى نَفْسِهِ وَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقِ السِّيَاسَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ قَطَعَ رَجُلٌ يميني ( ( ( يمينا ) ) ) رَجُلَيْنِ تُقْطَعُ يَمِينُهُ ثُمَّ إنْ حَضَرَا جميعا فَلَهُمَا أَنْ يَقْطَعَا يَمِينَهُ وَيَأْخُذَا منه دِيَةَ يَدٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا كان على التَّعَاقُبِ يُقْطَعُ الأول ( ( ( للأول ) ) ) وَيَغْرَمُ الدِّيَةَ لِلثَّانِي كما في الْقَتْلِ وَإِنْ كان على الِاجْتِمَاعِ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَيَقْطَعُ لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ وَيَغْرَمُ لِلْآخَرِ الدِّيَةِ كما قال في النَّفْسِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ إذَا قَطَعَ على التَّرْتِيبِ صَارَتْ يَدُهُ حَقًّا لِلْأَوَّلِ فَلَا تَصِيرُ حَقًّا لِلثَّانِي فَتَجِبُ الدِّيَةُ لِلثَّانِي وإذا قَطَعَ الْيَدَيْنِ على الِاجْتِمَاعِ فَقَدْ صَارَتْ يَدُهُ حَقًّا لِأَحَدِهِمَا غير عَيْنٍ وَتَتَعَيَّنُ بِالْقُرْعَةِ
وَلَنَا أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا في سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الْقِصَاصِ فَيَسْتَوِيَانِ في الِاسْتِحْقَاقِ وَدَلِيلُ الْوَصْفِ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ قَطْعُ الْيَدِ وقد وُجِدَ قَطْعُ الْيَدِ في حَقِّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَطْعَ يَدِهِ وَلَا يَحْصُلُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا في يَدٍ وَاحِدَةٍ الأقطع بَعْضِهَا فلم يَسْتَوْفِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقَطْعِ إلَّا بَعْضَ حَقِّهِ فيستوفي الْبَاقِي من الْأَرْشِ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَّا اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ بِقَطْعِ الْيَدِ صَارَ الْقَاطِعُ قَاضِيًا بِبَعْضِ يَدِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عليه فَيُجْعَلُ كَأَنَّ يَدَهُ قَائِمَةٌ وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِعُذْرٍ فَتَجِبُ الدِّيَةُ
وَقَوْلُهُ صَارَتْ يَدُهُ حَقًّا لِمَنْ له الْقِصَاصُ مَمْنُوعٌ فإن مِلْكَ الْقِصَاصِ ليس مِلْكَ الْمَحَلِّ بَلْ هو مِلْكُ الْفِعْلِ وهو إطْلَاقُ الِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّ حُرِّيَّةَ من عليه تَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِأَنَّهَا تنبىء عن الْخُلُوصِ وَالْمِلْكُ في الْمَحَلِّ بِثُبُوتٍ فيه فَيُنَافِيهِ الْخُلُوصُ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ لو قُطِعَتْ يَدُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ثَابِتٍ كانت الدِّيَةُ له وَلَوْ صَارَتْ يَدُهُ مَمْلُوكَةً لِمَنْ له الْقِصَاصُ لَكَانَتْ الدِّيَةُ له دَلَّ أَنَّ مِلْكَ الْقِصَاصِ ليس هو مِلْكُ الْمَحَلِّ بَلْ مِلْكُ الْفِعْلِ وهو إطْلَاقُ الِاسْتِيفَاءِ وَلَا تَنَافِيَ فيه فَإِطْلَاقُ الِاسْتِيفَاءِ لِلْأَوَّلِ لَا يَمْنَعُ إطْلَاقَ اسْتِيفَاءِ الثَّانِي
وَهَذَا بِخِلَافِ النَّفْسِ لأن الْوَاحِدَ يُقْتَلُ بِالْجَمَاعَةِ اكْتِفَاءً لِأَنَّ هُنَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ منهم اسْتَوْفَى حَقَّهُ على الْكَمَالِ لِأَنَّ حَقَّهُ في الْقَتْلِ وَكُلُّ وَاحِدٍ منهم اسْتَوْفَى الْقَتْلَ بِكَمَالِهِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْجِنَايَةِ على النَّفْسِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ حَضَرَ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ غَائِبٌ فَلِلْحَاضِرِ
____________________

(7/299)


أَنْ يَقْتَصَّ وَلَا يَنْتَظِرَ الْغَائِبَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَقَّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ في كل الْيَدِ وَإِنَّمَا التَّمَانُعُ في اسْتِيفَاءِ الْكُلِّ بِحُكْمِ التَّزَاحُمِ بِحُكْمِ الْمُشَارَكَةِ في الِاسْتِيفَاءِ فإذا كان أَحَدُهُمَا غَائِبًا فَلَا يُزَاحِمْ الْحَاضِرُ فَكَانَ له أَنْ يَسْتَوْفِيَ كَأَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ إذَا حَضَرَ يقضي له بِالشُّفْعَةِ في كل الْمَبِيعِ
وَلِأَنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ إذَا كان ثَابِتًا في كل الْيَدِ وَأَرَادَ الِاسْتِيفَاءَ وَالْغَائِبُ قد يَحْضُرُ وقد لَا يَحْضُرُ وقد يُطَالِبُ بعد ( ( ( بعض ) ) ) الْحُضُورِ وقد يَعْفُو فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ حَقِّ الْحَاضِرِ في الِاسْتِيفَاءِ وَالْمَنْعِ منه لِلْحَالِ بَعْدَ طَلَبِهِ لِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ وَلِهَذَا قُضِيَ بِالشُّفْعَةِ لِأَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ إذَا حَضَرَ وَطَلَبَ وَلَا يُنْتَظَرُ حُضُورُ الْغَائِبِ
كَذَا هذا
وَلِلْآخَرِ دِيَةُ يَدِهِ على الْقَاطِعِ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَيُصَارُ إلَى الْبَدَلِ وَلِأَنَّ الْقَاطِعَ قَضَى بِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عليه فَيَلْزَمُهُ الدِّيَةُ
وَإِنْ عَفَا أَحَدُهُمَا بَطَلَ حَقُّهُ وكان لِلْآخَرِ الْقِصَاصُ إذَا كان الْعَفْوُ قبل قَضَاءِ الْقَاضِي بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ حَقَّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ في الْيَدِ على الْكَمَالِ فَالْعَفْوُ من أَحَدِهِمَا لَا يُؤَثِّرُ في حَقِّ الْآخَرِ كما في الْقِصَاصِ في النَّفْسِ
وَكَذَلِكَ لو عَدَا أَحَدُهُمَا على الْقَاطِعِ فَقَطَعَ يَدَهُ فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فَلِلْآخَرِ الدِّيَةُ لِمَا ذَكَرْنَا
وَأَمَّا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا فَلِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ في قَوْلِهِمَا اسْتِحْسَانًا
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ في الْيَدِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ودية ( ( ( وبدية ) ) ) الْيَدِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا بَطَلَ الْقِصَاصُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ حَقَّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ كان ثَابِتًا في كل الْيَدِ لَكِنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى بِالْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا فَقَدْ أَثْبَتَ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا فَصَارَ حَقُّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا في الْبَعْضِ فإذا عَفَا أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْبَعْضُ وَلَا يَتَمَكَّنُ الْآخَرُ من اسْتِيفَاءِ الْكُلِّ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن قَضَاءَ الْقَاضِي بِالشَّرِكَةِ لم يُصَادِفْ مَحَلَّهُ لِأَنَّ الشَّرْعَ ما وَرَدَ بِوُجُوبِ الْقَطْعِ في بَعْضِ الْيَدِ فَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ أو يُجْعَلُ مَجَازًا عن الْفَتْوَى كَأَنَّهُ أَفْتَى بِمَا يَجِبُ لَهُمَا وهو أَنْ يَجْتَمِعَا على الْقَطْعِ وَيَأْخُذَ الدِّيَةَ بَيْنَهُمَا فَكَانَ عَفْوُ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ كَعَفْوِهِ قَبْلَهُ
وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِالدِّيَةِ بَيْنَهُمَا فَقَبَضَاهَا ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا لم يَكُنْ لِلْآخَرِ الْقِصَاصُ وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُهُ مَالًا لِأَنَّهُمَا لَمَّا قَبَضَا الدِّيَةَ فَقَدْ مَلَكَاهَا وَثُبُوتُ الْمِلْكِ في الدِّيَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَبْقَى الْحَقُّ في كل الْيَدِ فَسَقَطَ حَقُّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن نِصْفِ الْيَدِ فإذا عَفَا أَحَدُهُمَا لَا يَثْبُتُ لِلْآخَرِ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ كل الْيَدِ
وَكَذَلِكَ لو أَخَذَ بِالدِّيَةِ رَهْنًا لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ لِأَنَّ الدَّيْنَ كَأَنَّهُ في الرَّهْنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا هَلَكَ يَسْقُطُ الدَّيْنُ فَصَارَ قَبْضُهُمَا الرَّهْنَ كَقَبْضِهِمَا الدَّيْنَ
وَلَوْ أخذا ( ( ( أخذ ) ) ) بِالدِّيَةِ كَفِيلًا ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا فَلِلْآخَرِ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ ليس في الْكَفَالَةِ مَعْنَى الِاسْتِيفَاءِ بَلْ هو لِلتَّوَثُّقِ لِجَانِبِ الْوُجُوبِ فَكَانَ الْحُكْمُ بَعْدَ الْكَفَالَةِ كَالْحُكْمِ قَبْلَهَا
وَلَوْ قَطَعَ من رَجُلٍ يَدَيْهِ أو رِجْلَيْهِ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ مُمْكِنٌ
وَلَوْ قَطَعَ من رَجُلٍ يَمِينَهُ وَمِنْ آخَرَ يَسَارَهُ قُطِعَتْ يَمِينُهُ لِصَاحِبِ الْيَمِينِ وَيَسَارُهُ لِصَاحِبِ الْيَسَارِ لِأَنَّ تَحْقِيقَ الْمُمَاثَلَةِ فيه وَأَنَّهُ مُمْكِنٌ
فَإِنْ قِيلَ الْقَاطِعُ ما أَبْطَلَ عَلَيْهِمَا مَنْفَعَةَ الْجِنْسَيْنِ فَكَيْفَ نبطل ( ( ( تبطل ) ) ) عليه مَنْفَعَةُ الْجِنْسِ فَالْجَوَابُ إن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ما اسْتَحَقَّ عليه إلَّا قَطْعَ يَدٍ وَاحِدَةٍ وَلَيْسَ في قَطْعِ يَدٍ وَاحِدَةٍ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فَكَانَ الْجَزَاءُ مِثْلَ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنَّ فَوَاتَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْفِعْلَيْنِ حَصَلَ ضَرُورَةً غير مُضَافٍ إلَيْهِمَا
وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ كُلَّهَا من الْمَفْصِلِ ثُمَّ قَطَعَ يَدَ آخَرَ أو يَدًا بِالْيَدِ ثُمَّ يَقْطَعُ الْأُصْبُعَ وَذَلِكَ كُلُّهُ في يَدٍ وَاحِدَةٍ في الْيَمِينِ أو في الْيَسَارِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إن جَاءَا جميعا يَطْلُبَانِ الْقِصَاصَ وَإِمَّا إنْ جَاءَا مُتَفَرِّقَيْنِ
فَإِنْ جَاءَا جميعا يُبْدَأُ بِالْقِصَاصِ في الْأُصْبُعِ فَتُقْطَعُ الْأُصْبُعُ بِالْأُصْبُعِ ثُمَّ يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْيَدِ فَإِنْ شَاءَ قَطَعَ ما بَقِيَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ من مَالِ الْقَاطِعِ لِأَنَّ حَقَّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا في مِثْلِ ما قُطِعَ منه فَحَقُّ صَاحِبِ الْيَدِ في قَطْعِ الْيَدِ وَحَقُّ صَاحِبِ الْأُصْبُعِ في قَطْعِ الْأُصْبُعِ فَيَجِبُ إيفَاءُ حَقِّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ في الْبِدَايَةِ بِالْقِصَاصِ في الْأُصْبُعِ
لِأَنَّا لو بَدَأْنَا بِالْقِصَاصِ في الْيَدِ لَبَطَلَ حَقُّ صَاحِبِ الْأُصْبُعِ في الْقِصَاصِ أَصْلًا وَرَأْسًا وَلَوْ بَدَأْنَا بِالْقِصَاصِ في الْأُصْبُعِ لم يَبْطُلْ حَقُّ الْآخَرِ في الْقِصَاصِ أَصْلًا وَرَأْسًا لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ من اسْتِيفَائِهِ مع النُّقْصَانِ فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالْأُصْبُعِ أَوْلَى وَإِنَّمَا خُيِّرَ صَاحِبُ الْيَدِ بَعْدَ قَطْعِ الْأُصْبُعِ لِأَنَّ الْكَفَّ صَارَتْ مَعِيبَةً بِقَطْعِ الْأُصْبُعِ فَوَجَدَ حَقَّهُ نَاقِصًا فَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ كَالْأَشَلِّ إذَا قَطَعَ يَدَ الصَّحِيحِ
وَإِنْ جَاءَا مُتَفَرِّقَيْنِ فَإِنْ جاء صَاحِبُ الْيَدِ وَصَاحِبُ الْأُصْبُعِ غَائِبٌ تُقْطَعْ الْيَدُ لِصَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبَ الْيَدِ ثَابِتٌ في الْيَدِ فَلَا يَجُوزُ مَنْعُهُ من اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ لِحَقِّ غَائِبٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْضُرَ وَيُطَالَبُ وَيُحْتَمَلُ
____________________

(7/300)


أَنْ لَا يَحْضُرَ وَلَا يُطَالِبَ فَإِنْ جاء صَاحِبُ الْأُصْبُعِ بَعْدَ ذلك أَخَذَ الْأَرْشَ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ عليه بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَيَأْخُذُ بَدَلَهُ وَلِأَنَّ الْقَاطِعَ قَضَى بِطَرَفِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عليه فَصَارَ كَأَنَّهُ قَائِمٌ وَتَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ لِمَانِعٍ فَيَلْزَمُهُ الْأَرْشُ
وَإِنْ جاء صَاحِبُ الْأُصْبُعِ وَصَاحِبُ الْيَدِ غَائِبٌ تُقْطَعُ الْأُصْبُعُ لِصَاحِبِ الْأُصْبُعِ لِمَا ذَكَرْنَا في صَاحِبِ الْيَدِ
ثُمَّ إذَا جاء صَاحِبُ الْيَدِ بَعْدَ ذلك أَخَذَ الْأَرْشَ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قَطَعَ أُصْبَعَ رَجُلٍ من مَفْصِلٍ ثُمَّ قَطَعَ أُصْبَعَ رَجُلٍ آخَرَ من مَفْصِلَيْنِ ثُمَّ قَطَعَ أُصْبَعَ آخَرَ كُلَّهَا وَذَلِكَ كُلُّهُ في أُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا إن الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ جاؤوا جميعا يَطْلُبُونَ الْقِصَاصَ وَإِمَّا إنْ جاؤوا مُتَفَرِّقِينَ فَإِنْ جاؤوا جميعا يُبْدَأُ بِقَطْعِ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى لِصَاحِبِ الْأَعْلَى ثُمَّ يُخَيِّرُ صَاحِبُ الْمَفْصِلَيْنِ فَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْأَوْسَطَ بِحَقِّهِ كُلِّهِ وَلَا شَيْءَ له من الْأَرْشِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ ثُلُثَيْ دِيَةَ أُصْبُعِهِ من مَالِهِ ثُمَّ يُخَيِّرُ صَاحِبُ الْأُصْبُعِ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ ما بَقِيَ بِأُصْبُعِهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ أُصْبُعِهِ من مَالِ الذي قَطَعَهَا وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا في مِثْلِ ما قُطِعَ منه فَيَجِبُ إيفَاءِ حُقُوقِهِمْ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ في الْبِدَايَةِ بِمَا لَا يُسْقِطُ حَقَّ بَعْضِهِمْ وهو أَنْ يُبْدَأَ بِقَطْعِ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى لِصَاحِبِ الْأَعْلَى
لِأَنَّ الْبِدَايَةَ لَا تُبْطِلُ حَقَّ الْبَاقِينَ في الْقِصَاصِ أَصْلًا لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ حقهما ( ( ( حقيهما ) ) ) مع النُّقْصَانِ وفي الْبِدَايَةِ بِالْقِصَاصِ في الْأُصْبُعِ إبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ أَصْلًا وَرُبَّ رَجُلٍ يَخْتَارُ الْقِصَاصَ وَإِنْ كان نَاقِصًا تَشَفِّيًا لِلصَّدْرِ
وإذا قُطِعَ منه الْمَفْصِلُ الْأَعْلَى لِصَاحِبِ الْأَعْلَى يُخَيِّرُ الْبَاقِيَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجَدَ حَقَّهُ نَاقِصًا لِحُدُوثِ الْعَيْبِ بِالطَّرَفِ
وَإِنْ جاؤوا مُتَفَرِّقِينَ فَإِنْ جاء صَاحِبُ الْأُصْبُعِ أَوَّلًا تُقْطَعُ له الْأُصْبُعُ لِمَا ذَكَرْنَا في الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فإذا جاء الْبَاقِيَانِ بَعْدَ ذلك يُقْضَى لَهُمَا بِالْأَرْشِ لِصَاحِبِ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ وَلِصَاحِبِ الْمَفْصِلَيْنِ ثُلُثَا دِيَةِ الْأُصْبُعِ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ جاء صَاحِبُ الْمَفْصِلَيْنِ أَوَّلًا يُقْطَعُ له الْمَفْصِلَانِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَيُقْضَى لِصَاحِبِ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى بِالْأَرْشِ لِمَا مَرَّ وَصَاحِبُ الْأُصْبُعِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ ما بَقِيَ وَاسْتَوْفَى حَقَّهُ نَاقِصًا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ الْأُصْبُعِ لِمَا مَرَّ
وَإِنْ جاء صَاحِبُ الْأَعْلَى أَوَّلًا فَهُوَ كما إذَا جاؤوا مَعًا وقد ذَكَرنَا حُكْمَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ قَطَعَ كَفَّ رَجُلٍ من مَفْصِلٍ ثُمَّ قَطَعَ يَدَ آخَرَ من الْمِرْفَقِ أو بَدَأَ بِالْمِرْفَقِ ثُمَّ بِالْكَفِّ وَهُمَا في يَدٍ وَاحِدَةٍ في الْيَمِينِ أو في الْيَسَارِ ثُمَّ اجْتَمَعَا فإن الْكَفَّ يُقْطَعُ لِصَاحِبِ الْكَفِّ ثُمَّ يُخَيِّرُ صَاحِبُ الْمِرْفَقِ فَإِنْ شَاءَ قَطَعَ ما بَقِيَ بِحَقِّهِ كُلِّهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ لِمَا بَيَّنَّا
وَإِنْ جاء أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ غَائِبٌ فَإِنْ جاء صَاحِبُ الْكَفِّ قُطِعَ له الْكَفُّ وَلَا يُنْتَظَرُ الْغَائِبُ لِمَا مَرَّ ثُمَّ إذَا جاء صَاحِبُ الْمِرْفَقِ أَخَذَ الْأَرْشَ وَإِنْ جاء صَاحِبُ الْمِرْفَقِ أَوَّلًا يُقْطَعُ له الْمِرْفَقُ أَوَّلًا ثُمَّ إذَا جاء صَاحِبُ الْيَدِ بَعْدَ ذلك يَأْخُذُ أَرْشَ الْيَدِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الْأَعْلَى من سَبَّابَةِ رَجُلٍ ثُمَّ عَادَ فَقَطَعَ الْمَفْصِلَ الثَّانِيَ منها فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ من الْمَفْصِلِ الْأَوَّلِ وَلَا قِصَاصَ عليه في الْمَفْصِلِ الثَّانِي وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْأَرْشِ
وَكَذَلِكَ لو قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ من أَصْلِهَا ثُمَّ قَطَعَ الْكَفَّ التي منها الْأُصْبُعُ كان عليه الْقِصَاصُ في الْأُصْبُعِ وَلَا قِصَاصَ عليه في الْكَفِّ وَعَلَيْهِ الْأَرْشُ في الْكَفِّ نَاقِصَةً بِأُصْبُعٍ
وَكَذَلِكَ لو قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ وَهِيَ صَحِيحَةٌ ثُمَّ قَطَعَ سَاعِدَهُ من الْمِرْفَقِ من الْيَدِ التي قَطَعَ منها الْكَفَّ عليه في الْيَدِ الْقِصَاصُ وَلَا قِصَاصَ عليه في السَّاعِدِ بَلْ فيه أَرْشُ حُكُومَةٍ
كَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه ولم يُفَصِّلْ بين ما إذَا كانت الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ بُرْءِ الْأُولَى أو قَبْلَهَا
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إذَا كانت الثَّانِيَةُ بَعْدَ بُرْءِ الْأُولَى فَهُمَا جِنَايَتَانِ مُتَفَرِّقَتَانِ وَإِنْ كانت قبل الْبُرْءِ فَهِيَ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ
ذَكَرَ قَوْلَهُمَا في الزِّيَادَاتِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ إذَا كَانَتَا قبل الْبُرْءِ فَهُمَا في حُكْمِ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّ من قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ وَجَبَتْ عليه دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَطَعَ الْمَفْصِلَيْنِ مَعًا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا
وإذا بَرِئَتْ الْأُولَى فَقَدْ اسْتَقَرَّتْ وَاسْتَقَرَّ حُكْمُهَا فَكَانَتْ الثَّانِيَةُ جِنَايَةً مُفْرَدَةً في مَفْصِلٍ مُفْرَدٍ فَتُفْرَدُ بِحُكْمِهَا فَيَجِبُ الْقِصَاصُ في الْأُولَى وَالْأَرْشُ في الثَّانِيَةِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه إن وَقْتَ قَطْعِ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى كانت الْأُصْبُعَانِ صَحِيحَتَيْنِ أعلى ( ( ( أعني ) ) ) أُصْبُعَ الْقَاطِعِ وَالْمَقْطُوعِ له الْمَفْصِلُ أَوَّلًا فَكَانَتْ بين الْأُصْبُعَيْنِ مُمَاثَلَةٌ فَأَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ على وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ ولم يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُمَاثَلَةٌ وَقْتَ قَطْعِ الْمَفْصِلِ الثَّانِي لِأَنَّ
____________________

(7/301)


أُصْبُعَ الْقَاطِعِ كَامِلٌ وَقْتَ الْقَطْعِ فَيَكُونُ اسْتِيفَاءَ الْكَامِلِ بِالنَّاقِصِ
وَهَذَا لَا يَجُوزُ
فَإِنْ قِيلَ وَقْتُ قَطْعِ الْمَفْصِلِ كان الْقِصَاصُ مُسْتَحَقًّا في الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى من الْقَاطِعِ وَالْمُسْتَحَقُّ كالمستوفي فَكَانَ اسْتِيفَاءَ النَّاقِصِ بِالنَّاقِصِ
فَالْجَوَابُ عنه من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا إنَّ نَفْسَ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يُوجِبُ النُّقْصَانَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو جاء الْأَجْنَبِيُّ وَقَطَعَ ذلك الْمَفْصِلَ عَمْدًا وَجَبَ الْقِصَاصُ عليه
وَلَوْ ثَبَتَ الْقِصَاصُ بِنَفْسِ الِاسْتِحْقَاقِ لَمَا وَجَبَ فَثَبَتَ أَنَّ النُّقْصَانَ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْقَاقِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالِاسْتِيفَاءِ ولم يُوجَدْ فَلَوْ وَجَبَ النُّقْصَانُ لَكَانَ اسْتِيفَاءَ الْكَامِلِ بِالنَّاقِصِ
وَالثَّانِي إنْ سَلَّمَ إن النُّقْصَانَ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْوُجُوبِ لَكِنْ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً وَالْأَوَّلُ نَاقِصٌ حَقِيقَةً فلم يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُمَاثَلَةٌ
وَلَوْ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الْأَعْلَى منها فَاقْتُصَّ منه ثُمَّ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الثَّانِيَ وبرىء اُقْتُصَّ منه لِأَنَّ أُصْبُعَ الْقَاطِعِ كانت نَاقِصَةً وَقْتَ قَطْعِ الْمَفْصِلِ الثَّانِي فَيَكُونُ اسْتِيفَاءَ النَّاقِصِ بِالنَّاقِصِ فَتَحَقَّقَتْ الْمُمَاثَلَةُ
وَلَوْ كان غَيْرُهُ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الْأَعْلَى منها ثُمَّ قَطَعَ هو الْمَفْصِلَ الثَّانِيَ منها فَلَا قِصَاصَ عليه لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ بين أُصْبُعِ الْقَاطِعِ وَالْمَقْطُوعِ وَعَلَيْهِ ثُلُثُ دِيَةِ الْيَدِ وَلَوْ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الْأَعْلَى فبرأ ( ( ( فبرئ ) ) ) ثُمَّ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الثَّانِيَ فَمَاتَ فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ الْمَفْصِلَ ثُمَّ قَتَلَ لِأَنَّ فيه اسْتِيفَاءُ مِثْلِ حَقِّهِ في الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الْمَفْصِلَ وَقَتَلَ لِأَنَّ في إتْلَاف النَّفْسِ إتْلَافُ الطَّرَفِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا بِخِلَافِ ما إذَا كانت الْجِنَايَتَانِ من رَجُلَيْنِ فَمَاتَ من إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى أَنَّهُ إنْ كان ذلك كُلُّهُ عَمْدًا فَعَلَى صَاحِبِ النَّفْسِ الْقِصَاصُ في النَّفْسِ وَعَلَى صَاحِبِ الْجِنَايَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ الْقِصَاصُ في ذلك إنْ كان يُسْتَطَاعُ وَإِنْ كان لَا يُسْتَطَاعُ فَالْأَرْشُ وَإِنْ كان ذلك خَطَأً فَعَلَى صَاحِبِ النَّفْسِ دِيَةُ النَّفْسِ وَعَلَى صَاحِبِ الْجِرَاحَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ أَرْشُ ذلك وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرُ خَطَأً فَعَلَى الْعَامِدِ الْقِصَاصُ وَعَلَى الخاطىء الْأَرْشُ وَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا في الْآخَرِ
سَوَاءٌ كان بَعْدَ الْبُرْءِ أو قبل الْبُرْءِ وَلِأَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ إذَا كَانَتَا من شَخْصٍ وَاحِدٍ يُمْكِنُ جَعْلُهُمَا كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ كَأَنَّهُمَا حَصَلَا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ وإذا كَانَتَا من شَخْصَيْنِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَا كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ جَعْلَ فِعْلِ أَحَدِهِمَا فِعْلُ الْآخَرِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَا بُدَّ أَنْ نَعْتَبِرَ فِعْلَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ سَوَاءٌ برأت ( ( ( برئت ) ) ) الْجِنَايَةُ الْأُولَى أو لم تَبْرَأْ على ما نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ قَطَعَ من رَجُلٍ نِصْفَ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى من السَّبَّابَةِ ثُمَّ قَطَعَ نِصْفَ الْمَفْصِلِ الْبَاقِي إنْ كان قبل الْبُرْءِ يُقْتَصُّ منه فَيَقْطَعُ منه الْمَفْصِلُ كُلُّهُ لِأَنَّهُ إذَا كان قبل الْبُرْءِ صَارَ كَأَنَّهُ قَطَعَ الْمَفْصِلَيْنِ جميعا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ
وَلَوْ كان كَذَلِكَ يُقْتَصُّ منه وَيُقْطَعُ منه الْمَفْصِلُ كُلُّهُ كَذَا هذا
وَإِنْ كان بَعْدَ الْبُرْءِ لَا يُقْتَصُّ منه وَتَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ في كل نِصْفٍ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ من نِصْفِ الْمَفْصِلِ وَلَيْسَ له أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَتَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ
وَلَوْ قَطَعَ من رَجُلٍ نِصْفَ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى من السَّبَّابَةِ ثُمَّ عَادَ فَقَطَعَ الْمَفْصِلَ الثَّانِيَ فَإِنْ كان قبل الْبُرْءِ فَلَا قِصَاصَ عليه وَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ في الْمَفْصِلِ وَالْحُكُومَةُ في نِصْفِ الْمَفْصِلِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَطَعَهُمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً وَلَوْ فَعَلَ ذلك لَا قِصَاصَ عليه لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ فَكَانَ عليه الْأَرْشُ في الْمَفْصِلِ وَحُكُومَةُ الْعَدْلِ في نِصْفِ الْمَفْصِلِ كَذَا هذا
وَإِنْ كان بَعْدَ الْبُرْءِ يَجِبُ الْقِصَاصُ في الْمَفْصِلِ وَحُكُومَةُ الْعَدْلِ في نِصْفِ الْمَفْصِلِ لِأَنَّهُ إذَا برىء الْأَوَّلُ فَقَدْ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ
وَالِاسْتِيفَاءُ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ مُمْكِنٌ فَثَبَتَ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ في نِصْفِ الْمَفْصِلِ وَلَيْسَ له أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَتَجِبُ فيه حُكُومَةُ الْعَدْلِ
وَلَوْ قَطَعَ من رَجُلٍ يَمِينَهُ من الْمَفْصِلِ فَاقْتُصَّ منه ثُمَّ إنَّ أَحَدَهُمَا قَطَعَ من الْآخَرِ الذِّرَاعَ من الْمَرْفِقِ فَلَا قِصَاصَ فيه وَفِيهِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ
كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْخِلَافَ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عليه الرَّحْمَةُ الْخِلَافَ بين أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رضي اللَّهُ عنهما
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَزُفَرَ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ على سَبِيلِ الْمُمَاثَلَةِ مُمْكِنٌ لِأَنَّ الْمَحَلَّيْنِ اسْتَوَيَا وَالْمِرْفَقُ مَفْصِلٌ فَكَانَ الْمِثْلُ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ إلَى الْحُكُومَةِ كما لو قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ من مَفْصِلِ الزَّنْدِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إن الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ في الْأَرْشِ لِأَنَّ ما دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ لِمَا بَيَّنَّا وَالْمُسَاوَاةُ في إتْلَافِ الْأَمْوَالِ مُعْتَبَرَةٌ وَلِهَذَا لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بين طَرَفَيْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ
____________________

(7/302)


لِاخْتِلَافِ الْأَرْشِ
وَهَهُنَا لَا يُعْرَفُ التَّسَاوِي في الْأَرْشِ لِأَنَّ أَرْشَ الذِّرَاعِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ وَذَلِكَ يَكُونُ بالحرز ( ( ( بالحزر ) ) ) وَالظَّنِّ فَلَا يُعْرَفُ التَّسَاوِي بين أَرْشَيْهِمَا لِأَنَّ قَطْعَ الْكَفِّ يُوجِبُ وَهْنَ السَّاعِدِ وَضَعْفِهِ وَلَيْسَ له أَرْشٌ مُقَدَّرٌ وَقِيمَةُ الْوَهْنِ وَالضَّعْفِ فيه لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ بين أرش ( ( ( أرشي ) ) ) السَّاعِدَيْنِ فَيَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا قُطِعَ يَدُ رَجُلٍ وَفِيهَا أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ وفي يَدِ الْقَاطِعِ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ مِثْلُ ذلك إنه لَا قِصَاصَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَفِيهِمَا حُكُومَةُ الْعَدْلِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ بين الْيَدَيْنِ
وَلَهُمَا إن الْأُصْبُعَ الزَّائِدَةُ في الْكَفِّ نَقْصٌ فيها وَعَيْبٌ وهو نَقْصٌ يَعْرِفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ بين الْكَفَّيْنِ
وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا زَائِدَةً وفي يَدِهِ مِثْلُهَا فَلَا قِصَاصَ عليه بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْأُصْبُعَ الزَّائِدَةَ في مَعْنَى التَّزَلْزُلِ وَلَا قِصَاصَ في الْمُتَزَلْزِلِ وَلِأَنَّهَا نَقْصٌ وَلَا تُعْرَفُ قِيمَةُ النُّقْصَانِ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ وَلِأَنَّهُ ليس لَهُمَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَلَا تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ
وَلَوْ قَطَعَ الْكَفَّ التي فيها أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ فَإِنْ كانت تِلْكَ الْأُصْبُعُ تُوهِنُ الْكَفَّ وَتَنْقُصُهَا فَلَا قِصَاصَ فيها وَإِنْ كانت لَا تَنْقُصُهَا فَفِيهَا الْقِصَاصُ وَلَا قِصَاصَ بين الْأَشَلَّيْنِ
كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كانت يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَقَلَّهُمَا شَلَلًا أو أكثرهما ( ( ( أكثر ) ) ) أو هُمَا سَوَاءٌ وهو قَوْلِ أبي يُوسُفَ
وقال زُفَرُ إنْ كَانَا سَوَاءً فَفِيهِمَا الْقِصَاصُ وَإِنْ كانت يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَقَلَّهُمَا شَلَلًا كان بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَ الْقَاطِعِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ أَرْشَ يَدِهِ شَلَّاءَ وَإِنْ كانت يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَكْثَرَهُمَا شَلَلًا فَلَا قِصَاصَ وَلَهُ أَرْشُ يَدِهِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ بَعْضَ الشَّلَلِ في يَدَيْهِمَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ أَرْشَيْهِمَا وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا تُعْرَف الْمُمَاثَلَةُ
وَكَذَلِكَ مَقْطُوعُ الْإِبْهَامِ كُلِّهَا إذَا قَطَعَ يَدًا مِثْلَ يَدِهِ لم يَكُنْ بَيْنَهُمَا قِصَاصٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ قَطْعَ الْإِبْهَامِ يُوهِنُ الْكَفَّ وَيُسْقِطُ تَقْدِيرَ الْأَرْشِ فَلَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ
وَلَوْ قَطَعَ يَدُ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَهُ فَإِنْ كان بَعْدَ الْبُرْءِ لَا تَدْخُلُ الْيَدُ في النَّفْسِ بِلَا خِلَافٍ وَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ وَإِنْ شَاءَ اكْتَفَى بِالْقَتْلِ وَإِنْ شَاءَ عفى ( ( ( عفا ) ) ) عن النَّفْسِ وَقَطَعَ يَدَهُ وَإِنْ كان قبل الْبُرْءِ فَكَذَلِكَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وفي قَوْلِهِمَا تَدْخُلُ الْيَدُ في النَّفْسِ وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ وَلَيْسَ له أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجِنَايَةَ على ما دُونَ النَّفْسِ إذَا لم يَتَّصِلْ بها الْبُرْءُ لَا حُكْمَ لها مع الْجِنَايَةِ على النَّفْسِ في الشَّرِيعَةِ بَلْ يَدْخُلُ ما دُونَ النَّفْسِ في النَّفْسِ كما إذَا قَطَعَ يَدَهُ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ قبل الْبُرْءِ حتى لَا يَجِبَ عليه إلَّا دِيَةُ النَّفْسِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عليه في الْمِثْلِ وَذَلِكَ في الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ وَالِاسْتِيفَاءُ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ مُمْكِنٌ فإذا قَطَعَ الْمَوْلَى يَدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ كان مُسْتَوْفِيًا لِلْمِثْلِ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ مِثْلَ الْجِنَايَةِ جَزَاءً
وِفَاقًا بِخِلَافِ الْخَطَأِ لِأَنَّ الْمِثْلَ هُنَاكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بَلْ الْمُسْتَحَقُّ غَيْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّ الْمَالَ ليس بِمِثْلِ النَّفْسِ وكان يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ أَصْلًا إلَّا أَنَّ وُجُوبَهُ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عن الْأَصْلِ عِنْدَ اسْتِقْرَارِ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ حَالَ عَدَمِ اسْتِقْرَارِ السَّبَبِ لِعَدَمِ الْبُرْءِ مَرْدُودَةً إلَى حُكْمِ الْأَصْلِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا كَانَا جميعا عَمْدًا فَأَمَّا إذَا كَانَا جميعا خَطَأً فَإِنْ كان بَعْدَ الْبُرْءِ لَا يَدْخُلُ ما دُونَ النَّفْسِ في النَّفْسِ وَتَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ وَنِصْفُ دِيَةٍ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وَتُؤَدَّى في ثَلَاثِ سِنِينَ في السَّنَةِ الْأُولَى ثُلُثَا الدِّيَةِ ثُلُثٌ من الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ وَثُلُثٌ من نِصْفِ الدِّيَةِ وفي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ ثُلُثٌ من الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ وَسُدُسٌ من النِّصْفِ وفي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ لِأَنَّ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ تُؤَدَّى في ثَلَاثِ سِنِينَ وَنِصْفُ الدِّيَةِ يُؤَدَّى في سَنَتَيْنِ من الثَّلَاثِ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْرُ المؤدي مِنْهُمَا وَإِنَّمَا لم يَدْخُلْ ما دُونَ النَّفْسِ في النَّفْسِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا برأ فَقَدْ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ فَكَانَ الْبَاقِي جِنَايَةَ مبتدأة ( ( ( مبتدأ ) ) ) فَيُبْتَدَأُ بِحُكْمِهَا وَإِنْ كان قبل الْبُرْءِ يَدْخُلُ ما دُونَ النَّفْسِ في النَّفْسِ وتجب ( ( ( ويجب ) ) ) دِيَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَوَّلِ لم يَسْتَقِرَّ
وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرُ خَطَأً لَا يَدْخُلُ ما دُونَ النَّفْسِ في النَّفْسِ بَلْ يُعْتَبَرُ كُلُّ واحد ( ( ( واحدة ) ) ) مِنْهُمَا بِحُكْمِهِ سَوَاءٌ كان بَعْدَ الْبُرْءِ أو قَبْلَهُ لِأَنَّ الْعَمْدَ مع الْخَطَأِ جِنَايَتَانِ مختلفتان ( ( ( مختلفان ) ) ) فَلَا يُحْتَمَلَانِ التَّدَاخُلَ فَيُعْطَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ نَفْسِهَا فَيَجِبُ في الْعَمْدِ الْقِصَاصُ وفي الْخَطَأِ الْأَرْشُ
هذا كُلُّهُ إذَا كان الْجَانِي وَاحِدًا فَقَطَعَ ثُمَّ قَتَلَ فَأَمَّا إذَا كَانَا اثْنَيْنِ فَقَطَعَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ الْآخَرُ فَلَا يَدْخُلُ ما دُونَ النَّفْسِ في النَّفْسِ كيف ما كان بَعْدَ الْبُرْءِ أو قَبْلَهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ كل جِنَايَةٍ بِحِيَالِهَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنَايَةٌ على حِدَةٍ فَكَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ التَّدَاخُلِ
____________________

(7/303)


وَإِفْرَادُ كل جِنَايَةٍ بِحُكْمِهَا إلَّا أَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجَانِي وَعَدَمِ الْبُرْءِ قد يُجْعَلَانِ كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ كَأَنَّهُمَا حَصَلَا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ تَقْدِيرًا وَلَا يُمْكِنُ هذا التَّقْدِيرُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجَانِي لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِعْلًا لِصَاحِبِهِ حَقِيقَةً فَتَعَذَّرَ التَّقْدِيرُ فَبَقِيَ فِعْلُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنَايَةً مُفْرَدَةً حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَيُفْرَدُ حُكْمُهَا فَإِنْ كَانَتَا جميعا عَمْدًا يَجِبُ الْقِصَاصُ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ
وَإِنْ كَانَتَا جميعا خَطَأً يَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِمَا يَتَحَمَّلُ عنهما عَاقِلَتُهُمَا في الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرُ خَطَأً يَجِبُ الْقِصَاصُ في الْعَمْدِ وَالْأَرْشُ في الْخَطَأِ
وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعَ يَدِ رَجُلٍ عَمْدًا وَقَطَعَ آخَرُ يَدَهُ من الزَّنْدِ فَمَاتَ فَالْقِصَاصُ على الثَّانِي في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمَا جميعا وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ إن السِّرَايَةَ بِاعْتِبَارِ الْأَلَمِ وَالْقَطْعُ الْأَوَّلُ اتَّصَلَ أَلَمُهُ بِالنَّفْسِ وَتَكَامَلَ بِالثَّانِي فَكَانَتْ السِّرَايَةُ مُضَافَةً إلَى الْفِعْلَيْنِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا
وَلَنَا أَنَّ السِّرَايَةَ بِاعْتِبَارِ الْآلَامِ الْمُتَرَادِفَةِ التي لَا تَتَحَمَّلُهَا النَّفْسُ إلَى أَنْ يَمُوتَ وَقَطْعُ الْيَدِ يَمْنَعُ وُصُولَ الْأَلَمِ من الْأُصْبُعِ إلَى النَّفْسِ فَكَانَ قَطْعًا لِلسِّرَايَةِ فَبَقِيَتْ السِّرَايَةُ مُضَافَةً إلَى قَطْعِ الْيَدِ وَصَارَ كما لو قَطَعَ الْأُصْبُعَ فَبَرِئَتْ ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ يَدَهُ فَمَاتَ وَهُنَاكَ الْقِصَاصُ على الثَّانِي كَذَا هذا بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الْقَطْعَ في الْمَنْعِ من الْأَثَرِ وهو وُصُولُ الْأَلَمِ إلَى النَّفْسِ فَوْقَ الْبُرْءِ إذْ الْبُرْءُ يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاصَ وَالْقَطْعُ لَا يَحْتَمِلُ ثُمَّ زَوَالُ الْأَثَرِ بِالْبُرْءِ يَقْطَعُ السِّرَايَةَ فَزَوَالُهُ بِالْقَطْعِ كان أَوْلَى وَأَحْرَى
وَلَوْ جَنَى على ما دُونَ النَّفْسِ فَسَرَى فَالسِّرَايَةُ لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كانت إلَى النَّفْسِ وَإِمَّا إنْ كانت إلَى عُضْوٍ آخَرَ فَإِنْ كانت إلَى النَّفْسِ فَالْجَانِي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كان مُتَعَدِّيًا في الْجِنَايَةِ وَإِمَّا إنْ لم يَكُنْ فَإِنْ كان مُتَعَدِّيًا في الْجِنَايَةِ وَالْجِنَايَةُ بِحَدِيدٍ أو بِخَشَبَةٍ تَعْمَلُ عَمَلَ السِّلَاحِ فَمَاتَ من ذلك فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ سَوَاءٌ كانت الْجِنَايَةُ مِمَّا تُوجِبُ الْقِصَاصَ لو بَرِئَتْ أولا تُوجِبُ كما إذَا قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ من الزَّنْدِ أو من السَّاعِدِ أو شَجَّهُ مُوضِحَةً أو آمَّةً أو جَائِفَةً أو أَبَانَ طَرَفًا من أَطْرَافِهِ أو جَرَحَهُ جِرَاحَةً مُطْلَقَةً فَمَاتَ من ذلك فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ لَمَّا سَرَى بَطَلَ حُكْمُ ما دُونَ النَّفْسِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا من حِينِ وُجُودِهِ وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتُلَهُ وَلَيْسَ له أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ ما فَعَلَ حتى لو كان قَطَعَ يَدَهُ ليس له أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ ما فَعَلَ فَإِنْ مَاتَ من ذلك وَإِلَّا قَتَلَهُ
وَكَذَلِكَ إذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ وَرَجُلَيْهِ فَمَاتَ من ذلك تُحَزُّ رَقَبَتُهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ ما فَعَلَ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ فَعَفَا الْمَقْطُوعُ عن الْقَطْعِ ثُمَّ سَرَى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ فَإِنْ عَفَا عن الْجِنَايَةِ أو عن الْقَطْعِ وما يَحْدُثُ منه أو الْجِرَاحَةُ وما يَحْدُثُ منها فَهُوَ عن النَّفْسِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ عَفَا عن الْقَطْعِ أو الْجِرَاحَةِ ولم يَقُلْ وما يَحْدُثُ منها لَا يَكُونُ عَفْوًا عن النَّفْسِ وَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ النَّفْسِ في مَالِهِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وفي قَوْلِهِمَا يَكُونُ عَفْوًا عن النَّفْسِ وَلَا شَيْءَ عليه
وَالْمَسْأَلَةُ بِأَخَوَاتِهَا قد مَرَّتْ في مَسَائِلِ الْعَفْوِ عن الْقِصَاصِ في النَّفْسِ
وَلَوْ كان له على رَجُلٍ قِصَاصٌ في النَّفْسِ فَقَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ عَفَا عن النَّفْسِ وبرأت ( ( ( وبرئت ) ) ) الْيَدُ ضَمِنَ دِيَةَ الْيَدِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا ضَمَان عليه
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ بِالْقَتْلِ صَارَتْ حَقًّا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ وَالنَّفْسُ اسْمٌ لِجُمْلَةِ الْأَجْزَاءِ فإذا قَطَعَ يَدَهُ فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّ نَفْسِهِ فَلَا يَضْمَنُ وَلِهَذَا لو قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ لَا يَجِبُ عليه ضَمَانُ الْيَدِ وَلَوْ لم تَكُنْ الْيَدُ حَقَّهُ لَوَجَبَ الضَّمَانُ عليه دَلَّ أَنَّهُ بِالْقَطْعِ اسْتَوْفَى حَقَّ نَفْسِهِ فَبَعْدَ ذلك إنْ عَفَا عن النَّفْسِ فَالْعَفْوُ يَنْصَرِفُ إلَى الْقَائِمِ لَا إلَى المستوفى كَمَنْ اسْتَوْفَى بَعْضَ دينه ( ( ( ديته ) ) ) ثُمَّ أَبْرَأَ الْغَرِيمَ إنَّ الْإِبْرَاءَ يَنْصَرِفُ إلَى ما بَقِيَ لَا إلَى المستوفى
كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه إنَّ حَقَّ من له الْقِصَاصُ في الْفِعْلِ وهو الْقَتْلُ لَا في الْمَحَلِّ وهو النَّفْسُ أو يُقَالُ حَقُّهُ في النَّفْسِ لَكِنْ في الْقَتْلِ لَا في حَقِّ الْقَطْعِ لِأَنَّ حَقَّهُ في الْمِثْلِ وَالْمَوْجُودُ منه الْقَتْلُ لَا الْقَطْعُ وَمِثْلُ الْقَتْلِ هو الْقَتْلُ فَكَانَ أَجْنَبِيًّا عن الْيَدِ فإذا قَطَعَ الْيَدَ فَقَدْ اسْتَوْفَى ما ليس بِحَقٍّ له وهو مُتَقَوِّمٌ فَيَضْمَنُ وكان الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ إلَّا أَنَّهُ إذَا قَطَعَ الْيَدَ ثُمَّ قَتَلَهُ لَا يَجِبُ عليه ضَمَانُ الْيَدِ وَإِنْ كان مُتَعَدِّيًا في الْقَطْعِ مُسِيئًا فيه لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لها مع إتْلَافِ النَّفْسِ بِالْقِصَاصِ فَلَا يَضْمَنُ كما لو قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ وَإِنْ كان مُتَعَدِّيًا في الْقَطْعِ لِمَا قُلْنَا
كَذَا هذا
وَلِأَنَّهُ كان مُخَيَّرًا بين الْقِصَاصِ وَبَيْنَ الْعَفْوِ فإذا عَفَا اسْتَنَدَ الْعَفْوُ إلَى الْأَصْلِ كَأَنَّهُ عَفَا ثُمَّ قَطَعَ فَكَانَ الْقَطْعُ اسْتِيفَاءَ غَيْرِ حَقِّهِ فَيَضْمَنُ
هذا إذَا كان مُتَعَدِّيًا في الْجِنَايَةِ على
____________________

(7/304)


ما دُونَ النَّفْسِ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فيها فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ وَتَجِبُ الدِّيَةُ في بَعْضِهَا وَلَا تَجِبُ في الْبَعْضِ
وَبَيَانُ ذلك في مَسَائِلَ إذَا قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا حتى وَجَبَ عليه الْقِصَاصُ فَقَطَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ فَمَاتَ من ذلك ضَمِنَ الدِّيَةَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وفي قَوْلِهِمَا لَا شَيْءَ عليه
وَلَوْ قَطَعَ الْإِمَامُ يَدَ السَّارِقِ فَمَاتَ منه لَا ضَمَانَ على الْإِمَامِ وَلَا على بَيْتِ الْمَالِ وَكَذَلِكَ الْفَصَّادُ وَالْبَزَّاغُ وَالْحَجَّامُ إذَا سَرَتْ جِرَاحَاتُهُمْ لَا ضَمَانَ عليهم بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن الْمَوْتَ حَصَلَ بِفِعْلٍ مَأْذُونٍ فيه وهو الْقَطْعُ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا كَالْإِمَامِ إذَا قَطَعَ يد السَّارِقَ فَمَاتَ منه
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ اسْتَوْفَى غير حَقِّهِ لِأَنَّ حَقَّهُ في الْقَطْعِ وهو أتى بِالْقَتْلِ لِأَنَّ الْقَتْلَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يُؤَثِّرُ في فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً وقد وُجِدَ فَيَضْمَنُ كما إذَا قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ ظُلْمًا فَسَرَى إلَى النَّفْسِ وكان الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةَ
وَهَكَذَا نَقُولُ في الْإِمَامِ إن فِعْلَهُ وَقَعَ قَتْلًا إلَّا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الضَّمَانِ لِلضَّرُورَةِ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ مُسْتَحَقَّةٌ عليه وَالتَّحَرُّزَ عن السِّرَايَةِ ليس في وُسْعِهِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ لَامْتَنَعَ الْأَئِمَّةُ عن الْإِقَامَةِ خَوْفًا عن لُزُومِ الضَّمَانِ وَفِيهِ تَعْطِيلُ الْحُدُودِ وَالْقَطْعُ ليس بِمُسْتَحَقٍّ على من له الْقِصَاصُ بَلْ هو مُخَيَّرٌ فيه وَالْأَوْلَى هو الْعَفْوُ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إسْقَاطِ الضَّمَانِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ
وَلَوْ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ لِلنُّشُوزِ فَمَاتَتْ منه يَضْمَنُ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ فيه هو التَّأْدِيبُ لَا الْقَتْلُ وَلَمَّا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا
وَلَوْ ضَرَبَ الْأَبُ أو الْوَصِيُّ الصَّبِيَّ لِلتَّأْدِيبِ فَمَاتَ ضَمِنَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وفي قَوْلِهِمَا لَا يَضْمَنُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ مَأْذُونَانِ في تَأْدِيبِ الصَّبِيِّ وَتَهْذِيبِهِ وَالْمُتَوَلِّدُ من الْفِعْلِ الْمَأْذُونِ فيه لَا يَكُونُ مَضْمُونًا كما لو عَزَّرَ الْإِمَامُ إنْسَانًا فَمَاتَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ التَّأْدِيبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يبقي الْمُؤَدَّبُ حَيًّا بَعْدَهُ فإذا سَرَى تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَتْلٌ وَلَيْسَ بِتَأْدِيبٍ وَهُمَا غَيْرُ مَأْذُونَيْنِ في الْقَتْلِ
وَلَوْ ضَرَبَهُ الْمُعَلِّمُ أو الْأُسْتَاذُ فَمَاتَ إنْ كان الضَّرْبُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْأَبِ أو الْوَصِيِّ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ في الضَّرْبِ وَالْمُتَوَلِّدُ منه يَكُونُ مَضْمُونًا عليه وَإِنْ كان بِإِذْنِهِ لَا يَضْمَنُ لِلضَّرُورَةِ لِأَنَّ الْمُعَلِّمَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ بِالسِّرَايَةِ وَلَيْسَ في وُسْعِهِ التَّحَرُّزُ عنها يَمْتَنِعُ عن التَّعْلِيمِ فَكَانَ في التَّضْمِينِ سَدُّ بَابِ التَّعْلِيمِ وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى ذلك فَسَقَطَ اعْتِبَارُ السِّرَايَةِ في حَقِّهِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لم تُوجَدْ في الْأَبِ لِأَنَّ لُزُومَ الضَّمَانِ لَا يَمْنَعُهُ عن التَّأْدِيبِ لِفَرْطِ شَفَقَتِهِ على وَلَدِهِ فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ السِّرَايَةِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ
وَلَوْ قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ فَلَا شَيْءَ على الْقَاطِعِ
وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه في اعْتِبَارِ وَقْتِ الْفِعْلِ وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا وَرَدَتْ على ما ليس بِمَضْمُونٍ فَالسِّرَايَةُ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِالْفِعْلِ السَّابِقِ وَالْفِعْلُ صَادَفَ مَحَلًّا غير مَضْمُونٍ
وَكَذَلِكَ لو قَطَعَ يَدَ حَرْبِيٍّ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ من الْقَطْعِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ على الْقَاطِعِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ على مَحَلٍّ غَيْرِ مَضْمُونٍ فَلَا تَكُونُ مَضْمُونَةً
وَهَكَذَا لو قَطَعَ يَدَ عَبْدِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ ثُمَّ مَاتَ لم يَضْمَنْ السِّرَايَةَ لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ في حَقِّهِ
وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ وهو مُسْلِمٌ ثُمَّ ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ مَاتَ فَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ الْيَدِ لَا غَيْرُ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ عِصْمَةَ نَفْسِهِ بِالرِّدَّةِ فَصَارَتْ الرِّدَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ عن السِّرَايَةِ وَلَوْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ مَاتَ فَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ النَّفْسِ في قَوْلِهِمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عليه دِيَةُ الْيَدِ لَا غَيْرُ
وَجْهُ قَوْلِهِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا ارْتَدَّ فَكَأَنَّهُ أَبْرَأَ الْقَاطِعَ عن السِّرَايَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجِنَايَةَ يَتَعَلَّقُ حُكْمُهَا بِالِابْتِدَاءِ أو بِالِانْتِهَاءِ وما بَيْنَهُمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ وَالْمَحَلُّ هَهُنَا مَضْمُونٌ في الْحَالَيْنِ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ مَضْمُونَةً فِيهِمَا فَلَا تُعْتَبَرُ الرِّدَّةُ الْعَارِضَةُ فِيمَا بَيْنَهُمَا
وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدٍ الرِّدَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَرَاءَةِ فَنَعَمْ لَكِنْ بِشَرْطِ الْمَوْتِ عليها لِأَنَّ حُكْمَ الرِّدَّةِ مَوْقُوفٌ على الْإِسْلَامِ وَالْمَوْتِ وقد كانت الْجِنَايَةُ مَضْمُونَةً فَوَقَفَ حُكْمُ السِّرَايَةِ أَيْضًا
وَكَذَلِكَ لو لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ولم يَقْضِ الْقَاضِي بِلُحُوقِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْنَا مُسْلِمًا ثُمَّ مَاتَ من الْقَطْعِ فَهُوَ على هذا الْخِلَافِ
وَإِنْ كان الْقَاضِي قَضَى بِلُحُوقِهِ ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا ثُمَّ مَاتَ من الْقَطْعِ فَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ يَدِهِ لَا غَيْرُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ لُحُوقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ يَقْطَعُ حُقُوقَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقَسَّمُ مَالُهُ بين وَرَثَتِهِ بَعْدَ اللُّحُوقِ وَلَا يُقَسَّمُ قَبْلَهُ فَصَارَ كَالْإِبْرَاءِ عن الْجِنَايَةِ
وَلَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ خَطَأً فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ مَاتَ منها فَلَا شَيْءَ على الْقَاطِعِ غَيْرُ أَرْشِ الْيَدِ وَعِتْقُهُ كَبُرْءِ الْيَدِ لِأَنَّ السِّرَايَةَ لو كانت مَضْمُونَةً على الْجَانِي فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عليه لِلْمَوْلَى وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عليه لِلْعَبْدِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَوْلَى ليس بِمَالِكٍ له بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَا
____________________

(7/305)


وَجْهَ لِلثَّانِي لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السِّرَايَةَ تَكُونُ تَابِعَةً لِلْجِنَايَةِ فَالْجِنَايَةُ لَمَّا لم تَكُنْ مَضْمُونَةً لِلْعَبْدِ لَا تَكُونُ سِرَايَتَهَا مَضْمُونَةً له وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا بَاعَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ الْقَطْعِ سَقَطَ حُكْمُ السِّرَايَةِ وَلَيْسَ قَطْعُ الْيَدِ في هذا مِثْلَ الرَّمْيِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ أَوْجَبَ عليه بِالرَّمْيِ الْقِيمَةَ وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى ولم يُوجِبْ في الْقَطْعِ إلَّا أَرْشَ الْيَدِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّمْيَ سَبَبُ الْإِصَابَةِ لَا مَحَالَةَ فَصَارَ جَانِيًا بِهِ وَقْتَ الرَّمْيِ فَأَمَّا الْقَطْعُ فَلَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلسِّرَايَةِ لَا مَحَالَةَ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَإِنْ كان قَطَعَ يَدَ الْعَبْدِ عَمْدًا فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ يُنْظَرُ إنْ كان الْمَوْلَى هو وَارِثُهُ لَا وَارِثَ له غَيْرُهُ فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْجَانِيَ في قَوْلِهِمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ
وَإِنْ كان له وَارِثٌ غَيْرَهُ يَحْجُبُهُ عن مِيرَاثِهِ وَيَدْخُلُ معه في مِيرَاثِهِ فَلَا قِصَاصَ لِاشْتِبَاهِ الْوَلِيِّ على ما مَرَّ
وَلَوْ لم يُعْتِقْهُ بَعْدَ الْقَطْعِ وَلَكِنَّهُ دَبَّرَهُ أو كانت أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا فإنه لَا تَنْقَطِعُ السِّرَايَةَ وَيَجِبُ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَيَجِبُ ما نَقَصَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ قبل الْمَوْتِ
هذا إذَا كان خَطَأً وَإِنْ كان عَمْدًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ بِالْإِجْمَاعِ
وَلَوْ كَاتَبَهُ وَالْمَسْأَلَةُ بحالتها ( ( ( بحالها ) ) ) فَبِالْكِتَابَةِ برىء عن السِّرَايَةِ فَيَجِبُ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلْمَوْلَى فإذا مَاتَ وكان خَطَأً لَا يَجِبُ عليه شَيْءٌ آخَرُ وَإِنْ كان عَمْدًا فَإِنْ كان عَاجِزًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا
وَإِنْ مَاتَ عن وَفَاءٍ فَقَدْ مَاتَ حُرًّا فَيُنْظَرُ إنْ كان له وَارِثٌ يَحْجُبُ الْمَوْلَى أو يُشَارِكُهُ فَلَا قِصَاصَ عليه وَيَجِبُ عليه أَرْشُ الْيَدِ لَا غَيْرُ وَإِنْ لم يَكُنْ له وَارِثٌ غير الْمَوْلَى فَلِلْمُوَلَّى أَنْ يَقْتَصَّ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس له أَنْ يَقْتَصَّ وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْيَدِ لَا غَيْرُ
وَإِنْ كان الْقَطْعُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ فَمَاتَ وكان الْقَطْعُ خَطَأً أو مَاتَ عَاجِزًا فَالْقِيمَةُ لِلْمَوْلَى
وَإِنْ مَاتَ عن وَفَاءٍ فَالْقِيمَةُ لِلْوَرَثَةِ وَإِنْ كان عَمْدًا فَإِنْ مَاتَ عَاجِزًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ وَإِنْ مَاتَ عن وَفَاءٍ مَاتَ حُرًّا ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان مع الْمَوْلَى وَارِثٌ يَحْجُبُهُ أو يُشَارِكُهُ في الْمِيرَاثِ فَلَا قِصَاصَ وَإِنْ لم يَكُنْ له وَارِثٌ غير الْمَوْلَى فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا كانت السِّرَايَةُ إلَى النَّفْسِ فَأَمَّا إذَا كانت إلَى الْعُضْوِ فَالْأَصْلُ أَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا حَصَلَتْ في عُضْوٍ فَسَرَتْ إلَى عُضْوٍ آخَرَ وَالْعُضْوُ الثَّانِي لَا قِصَاصَ فيه فَلَا قِصَاصَ في الْأَوَّلِ أَيْضًا
وَهَذَا الْأَصْلُ يَطَّرِدُ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ في مَسَائِلَ إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا من يَدِ رَجُلٍ فَشُلَّتْ الْكَفُّ فَلَا قِصَاصَ فِيهِمَا وَعَلَيْهِ دِيَةُ الْيَدِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ من الْقَاطِعِ قَطْعٌ مُشِلٌّ لِلْكَفِّ وَلَا يُقَدَّرُ الْمَقْطُوعُ على مِثْلِهِ فلم يَكُنْ الْمِثْلُ مُمْكِنَ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ فَلَا يَجِبُ بها ضَمَانَانِ مُخْتَلِفَانِ وهو الْقِصَاصُ وَالْمَالُ خُصُوصًا عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْكَفَّ مع الْأُصْبُعِ بِمَنْزِلَةِ عُضْوٍ وَاحِدٍ
وَكَذَا إذَا قَطَعَ مَفْصِلًا من أُصْبُعٍ فَشُلَّ ما بَقِيَ أو شُلَّتْ الْكَفُّ لِمَا قُلْنَا
فَإِنْ قال الْمَقْطُوعُ أنا أَقْطَعُ الْمَفْصِلَ وَأَتْرُكُ ما يَبِسَ ليس له ذلك لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْقِصَاصِ من الْأَصْلِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ على وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ على ما بَيَّنَّا فَكَانَ الِاقْتِصَارُ على الْبَعْضِ اسْتِيفَاءَ ما لَا حَقَّ له فيه فَيُمْنَعُ من ذلك كما لو شَجَّهُ مُنَقِّلَةً فقال الْمَشْجُوجُ أنا أَشُجُّهُ مُوضِحَةً وَأَتْرُكُ أَرْشَ ما زَادَ لم يَكُنْ له ذلك
وَكَذَلِكَ إذَا كَسَرَ بَعْضَ سِنِّ إنْسَانٍ وَاسْوَدَّ ما بَقِيَ فَلَيْسَ في شَيْءٍ من ذلك قِصَاصٌ لِأَنَّ قِصَاصَهُ هو كَسْرٌ مُسْوَدٌّ لِلْبَاقِي وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ فَلَا تُوجِبُ ضَمَانَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ
وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا فَشُلَّتْ إلَى جَنْبِهَا أُخْرَى فَلَا قِصَاصَ في شَيْءٍ من ذلك في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعَلَيْهِ دِيَةُ الْأُصْبُعَيْنِ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ في الْأَوَّلِ لَا قِصَاصَ وفي الثَّانِي الْأَرْشُ
وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْمَحَلَّ مُتَعَدِّدٌ وَالْفِعْلُ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمَحَلِّ حُكْمًا وَإِنْ كان مُتَّحِدًا حَقِيقَةً لِتَعَدُّدِ أَثَرِهِ وَهَهُنَا تَعَدَّدَ الْأَثَرُ فَيُجْعَلُ فِعْلَيْنِ فَيُفْرَدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ في الْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ في الثَّانِي كما لو قَطَعَ أُصْبُعَ إنْسَانٍ فَانْسَلَّ السِّكِّينُ إلَى أُصْبُعٍ أُخْرَى خَطَأً فَقَطَعَهَا حتى يَجِبَ الْقِصَاصَ في الْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ في الثَّانِي
وَكَمَا لو رَمَى سَهْمًا إلَى إنْسَانٍ فَأَصَابَهُ وَنَفَذَ منه وَأَصَابَ آخَرَ حتى يَجِبُ الْقِصَاصُ في الْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ في الثَّانِي لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ هذا وإذا تَعَدَّدَتْ الْجِنَايَةُ تُفْرَدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهَا فَيَجِبُ الْقِصَاصُ في الْأُولَى وَالْأَرْشُ في الثَّانِيَةِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ هو الْمِثْلُ وَالْمِثْلُ وهو الْقَطْعُ المثل ( ( ( المشل ) ) ) هَهُنَا غَيْرُ مَقْدُورِ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ مُتَّحِدَةٌ حَقِيقَةً وَهِيَ قَطْعُ الْأُصْبُعِ وقد تَعَلَّقَ بِهِ ضَمَانُ الْمَالِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانُ الْقِصَاصِ بِخِلَافِ ما إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا عَمْدًا فَنَفَذَ السِّكِّينُ إلَى أُخْرَى خَطَأً لِأَنَّ الْمَوْجُودَ
____________________

(7/306)


هُنَاكَ فِعْلَانِ حَقِيقَةً فَجَازَ أَنْ يُفْرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمٍ
وفي مَسْأَلَةِ الرَّمْيِ جُعِلَ الْفِعْلُ الْمُتَّحِدُ حَقِيقَةً مُتَعَدِّدًا شَرْعًا
بِخِلَافِ الْحَقِيقَةِ وَمَنْ ادَّعَى خِلَافَ الْحَقِيقَةِ هَهُنَا يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ
وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا فسقطت ( ( ( فسقط ) ) ) إلَى جَنْبِهَا أُخْرَى فَلَا قِصَاصَ في شَيْءٍ من ذلك في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عنهما يَجِبُ في الْأَوَّلِ الْقِصَاصُ وفي الثَّانِي الْأَرْشُ وفي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا لِأَنَّ من أَصْلِهِ على هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْجِرَاحَةَ التي فيها الْقِصَاصُ إذَا تَوَلَّدَ منها ما يُمْكِنُ فيه الْقِصَاصُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا جميعا وَهَهُنَا يُمْكِنُ وَفِيمَا إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا فَشُلَّتْ أُخْرَى بِجَنْبِهَا لَا يُمْكِنُ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ في الْأُولَى وَالْأَرْشُ في الثَّانِيَةِ
وَجْهُ ظَاهِرِ قَوْلِهِمَا على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَحَلَّ مُتَعَدِّدٌ وَأَنَّهُ يُوجِبُ تَعَدُّدَ الْفِعْلِ عِنْدَ تَعَدُّدِ الْأَثَرِ وقد وُجِدَ هَهُنَا فَيُجْعَلُ كَجِنَايَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُكْمُهَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ على وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ لِأَنَّ ذلك هو الْقَطْعُ الْمُسْقِطُ لِلْأُصْبُعِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ حَقِيقَةً فَلَا تُوجِبُ إلَّا ضَمَانًا وَاحِدًا وقد وَجَبَ الْمَالُ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصَ
وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ عَمْدًا فَسَقَطَتْ الْكَفُّ من الْمَفْصِلِ فَلَا قِصَاصَ في ذلك في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِيهِ دِيَةُ الْيَدِ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ وهو الْقَطْعُ الْمُسْقِطُ لِلْكَفِّ مُتَعَذِّرٌ فَيُمْتَنَعُ الْوُجُوبُ وَلِأَنَّ الْكَفَّ مع الْأُصْبُعِ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ وَاحِدَةً حَقِيقَةً وَحُكْمًا وقد تَعَلَّقَ بِهِمَا ضَمَانُ الْمَالِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا الْقِصَاصُ
لوقال أبو يُوسُفَ يُقْتَصُّ منه فَتُقْطَعُ يَدُهُ من الْمَفْصِلِ
فَرَّقَ أبو يُوسُفَ بين هذا وَبَيْنَ ما إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا فَسَقَطَتْ أُخْرَى إلَى جَنْبِهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ في الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْأُصْبُعَ جُزْءٌ من الْكَفِّ وَالسِّرَايَةُ تَتَحَقَّقُ من الْجُزْءِ إلَى الْجُمْلَةِ كما تَتَحَقَّقُ من الْيَدِ إلَى النَّفْسِ وَالْأُصْبُعَانِ عُضْوَانِ مُفْرَدَانِ ليس أَحَدُهُمَا جُزْءَ الْآخَرِ فَلَا تَتَحَقَّقُ السِّرَايَةُ من أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ في الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ
وَعَلَى ما رَوَى مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في النَّوَادِرِ يَجِبُ الْقِصَاصُ هَهُنَا أَيْضًا كما قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ وقد سَرَتْ إلَى ما يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فيه فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَطَعَ الْكَفَّ من الزَّنْدِ
وَلَوْ كَسَرَ بَعْضَ سِنِّ إنْسَانٍ فَسَقَطَتْ لَا قِصَاصَ فيه في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاقْتِصَاصُ بِكَسْرِ مُسْقِطٍ لِلسِّنِّ
وقال أبو يُوسُفَ يَجِبُ الْقِصَاصُ كما قال في الْأُصْبُعِ إذَا قُطِعَتْ فَسَقَطَتْ منها الْكَفُّ
وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ على رِوَايَةِ النَّوَادِرِ لِمَا ذَكَرْنَا من أَصْلِهِ
وَكَذَلِكَ لو ضَرَبَ سِنَّ إنْسَانٍ فَتَكَسَّرَ بَعْضُهَا وَتَحَرَّكَ الْبَاقِي وَاسْتَوْفَى حَوْلًا أنها إنْ اسْوَدَّتْ فَلَا قِصَاصَ فيها لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ وهو الْكَسْرُ الْمُسْوَدُّ
وَإِنْ سَقَطَتْ فَكَذَلِكَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِيهَا الْأَرْشُ لِعَدَمِ إمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ هو الْكَسْرُ الْمُسْقِطُ فَيَجِبُ فيها الْأَرْشُ وقال أبو يُوسُفَ فيها الْقِصَاصُ كما قال في الْأُصْبُعِ إذَا قُطِعَتْ الْكَفُّ
وَلَوْ شَجَّ إنْسَانًا مُوضِحَةً مُتَعَمِّدًا فَذَهَبَ منها بَصَرُهُ فَلَا قِصَاصَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَفِيهَا وفي الْبَصَرِ الْأَرْشُ وَقَالَا في الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ وفي الْبَصَرِ الدِّيَةُ
هذه رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عن مُحَمَّدٍ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ عنه أَنَّ فِيهِمَا جميعا الْقِصَاصَ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّهُ تَوَلَّدَ من جِنَايَةِ الْعَمْدِ إلَى عُضْوٍ يُمْكِنُ فيه الْقِصَاصُ فَيَجِبُ فيه الْقِصَاصُ كما إذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ
وَجْهُ ظَاهِرِ قَوْلِهِمَا إن تَلَفَ الْبَصَرِ حَصَلَ من طَرِيقِ التَّسْبِيبِ لَا من طَرِيقِ السِّرَايَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّجَّةَ تَبْقَى بَعْدَ ذَهَابِ الْبَصَرِ وَحُدُوثُ السِّرَايَةِ يُوجِبُ تَغَيُّرَ الْجِنَايَةِ كَالْقَطْعِ إذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ أَنَّهُ لَا يَبْقَى قَطْعًا بَلْ يَصِيرُ قَتْلًا وَهُنَا الشَّجَّةُ لم تَتَغَيَّرْ بَلْ بَقِيَتْ شَجَّةً كما كانت فَدَلَّ أَنَّ ذَهَابَ الْبَصَرِ ليس من طَرِيقِ السِّرَايَةِ بَلْ من طَرِيقِ التَّسْبِيبِ وَالْجِنَايَةُ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ لَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ كما في حَفْرِ الْبِئْرِ وَنَحْوِ ذلك
وَلَوْ ذَهَبَتْ عَيْنَاهُ وَلِسَانُهُ وَسَمْعُهُ وَجِمَاعُهُ فَلَا قِصَاصَ في شَيْءٍ من ذلك على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعَلَى قَوْلِهِمَا في الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ وَلَا قِصَاصَ في الْعَيْنَيْنِ في ظَاهِرِ قَوْلِهِمَا بَلْ فِيهِمَا الْأَرْشُ
وَعَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ عن مُحَمَّدٍ فِيهِمَا الْقِصَاصُ دُونَ اللِّسَانِ وَالسَّمْعِ وَالْجِمَاعِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِيهِمَا الْقِصَاصُ إذْ لَا قِصَاصَ في ذَهَابِ مَنْفَعَةِ اللِّسَانِ وَالسَّمْعِ وَالْجِمَاعِ في الشَّرْعِ وفي ذَهَابِ الْبَصَرِ قِصَاصٌ في الشَّرِيعَةِ
وَلَوْ ضَرَبَهُ بِعَصًا فَأَوْضَحَهُ ثُمَّ عَادَ فَضَرَبَهُ أُخْرَى إلَى جَنْبِهَا ثُمَّ تَآكَلَتَا حتى صَارَتْ وَاحِدَةً فَهُمَا مُوضِحَتَانِ وَلَا قِصَاصَ فِيهِمَا
أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ
____________________

(7/307)


اللَّهُ فَلِعَدَمِ إمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ وَهُمَا شَجَّتَانِ مُوضِحَتَانِ تآكل بَيْنَهُمَا
وَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّ ما تآكل بين الْمُوضِحَتَيْنِ تَلِفَ بِسَبَبِ الْجِرَاحَةِ وَالْإِتْلَافُ تَسْبِيبًا لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ
وَلَا قِصَاصَ في الْعَيْنِ إذَا قُوِّرَتْ أو فُسِخَتْ لِأَنَّا إذَا فَعَلْنَا ما فَعَلَ وهو التَّقْوِيرُ وَالْفَسْخُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ إذْ ليس له حَدٌّ مَعْلُومٌ وَإِنْ أَذْهَبْنَا ضَوْءَهُ فلم نَفْعَلْ مِثْلَ ما فَعَلَ فَتَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ وَصَارَ كَمَنْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ من السَّاعِدِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْقَطْعِ من السَّاعِدِ وَلَا من الزَّنْدِ لِمَا قُلْنَا فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ
كَذَا هذا وَإِنْ ضُرِبَ عليها فَذَهَبَ ضَوْءُهَا مع بَقَاءِ الْحَدَقَةِ على حَالِهَا لم تَنْخَسِفْ فَفِيهَا الْقِصَاصُ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { والعين ( ( ( العين ) ) ) بِالْعَيْنِ } وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ على سَبِيلِ الْمُمَاثَلَةِ مُمْكِنٌ بِأَنْ يُجْعَلَ على وجه ( ( ( وجهه ) ) ) الْقُطْنُ الْمَبْلُولُ وتحمي الْمِرْآةُ وَتُقَرَّبُ من عَيْنِهِ حتى يَذْهَبَ ضَوْءُهَا
وَقِيلَ أَوَّلُ من اهْتَدَى إلَى ذلك سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه وَأَشَارَ إلَى ما ذَكَرْنَا فإنه رُوِيَ أَنَّهُ وَقَعَتْ هذه الْحَادِثَةُ في زَمَنِ سَيِّدِنَا عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه فَجَمَعَ الصَّحَابَةَ الْكِرَامَ رضي اللَّهُ تعالى عَنْهُمْ وَشَاوَرَهُمْ في ذلك فلم يَكُنْ عِنْدَهُمْ حُكْمُهَا حتى جاء سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه وَأَشَارَ إلَى ما ذَكَرْنَا فلم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ فَقَضَى بِهِ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَإِنْ انْخَسَفَتْ فَلَا قِصَاصَ لِأَنَّ الثَّانِيَ قد لَا يَقَعُ خَاسِفًا بها فَلَا يَكُونُ مِثْلَ الْأَوَّلِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ في عَيْنِ الْأَحْوَلِ لِأَنَّ الْحَوَلَ نَقْصٌ في الْعَيْنِ فَيَكُونُ اسْتِيفَاءَ الْكَامِلِ بِالنَّاقِصِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ وَلِهَذَا لَا تُقْطَعُ الْيَدُ الصَّحِيحَةُ بِالْيَدِ الشَّلَّاءِ
كَذَا هذا
وَلَا قِصَاصَ في الْأَشْفَارِ وَالْأَجْفَانِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فيها
وَأَمَّا الْأُذُنُ فَإِنْ اسْتَوْعَبَهَا فَفِيهَا الْقِصَاصُ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ } وَلِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ فيها مُمْكِنٌ فَإِنْ قَطَعَ بَعْضَهَا فَإِنْ كان له حَدٌّ يُعْرَفُ فَفِيهِ الْقِصَاصُ وَإِلَّا فَلَا
وَأَمَّا الْأَنْفُ فَإِنْ قُطِعَ الْمَارِنُ فَفِيهِ الْقِصَاصُ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ } وَلِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ فيه مُمْكِنٌ لِأَنَّ له حَدًّا مَعْلُومًا وهو مالان منه فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُ الْمَارِنِ فَلَا قِصَاصَ فيه لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ
وَإِنْ قُطِعَ قَصَبَةُ الْأَنْفِ فَلَا قِصَاصَ فيه لِأَنَّهُ عَظْمٌ وَلَا قِصَاصَ في الْعَظْمِ وَلَا في السِّنِّ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وقال أبو يُوسُفَ إنْ اسْتَوْعَبَ فَفِيهِ الْقِصَاصُ وقال مُحَمَّدٌ لَا قِصَاصَ فيه وَإِنْ اسْتَوْعَبَ وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا في الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَرَادَ اسْتِيعَابَ الْمَارِنِ وَفِيهِ الْقِصَاصُ بِلَا خِلَافٍ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرَادَ بِهِ اسْتِيعَابَ الْقَصَبَةِ وَلَا قِصَاصَ فيها بِلَا خِلَافٍ
وَأَمَّا الشَّفَةُ فَقَدْ رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال إذَا قَطَعَ شَفَةَ الرَّجُلِ السُّفْلَى أو الْعُلْيَا وكان يُسْتَطَاعُ أَنْ يُقْتَصَّ منه فَفِيهِ الْقِصَاصُ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إنْ اسْتَقْصَاهَا بِالْقَطْعِ فَفِيهَا الْقِصَاصُ لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ عِنْدَ الِاسْتِقْصَاءِ وَإِنْ قَطَعَ بَعْضَهَا فَلَا قِصَاصَ فيه لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ وَلَا قِصَاصَ في عَظْمٍ إلَّا في السِّنِّ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ وَلَا يُؤْمَنُ فيه عن التَّعَدِّي أَيْضًا وقد رُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ في عَظْمٍ وفي السِّنِّ الْقِصَاصُ سَوَاءٌ كُسِرَ أو قُلِعَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ } وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فيه بِأَنْ يُؤْخَذَ في الْكَسْرِ من سِنِّ الْكَاسِرِ مِثْلُ ما كُسِرَ بِالْمِبْرَدِ
وفي الْقَلْعِ يُؤْخَذُ سِنُّهُ بِالْمِبْرَدِ إلَى أَنْ يَنْتَهِي إلَى اللَّحْمِ وَيَسْقُطُ ما سِوَى ذلك
وَقِيلَ في الْقَلْعِ أَنَّهُ يُقْلَعُ سِنُّهُ لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْمُمَاثَلَةِ فيه وَالْأَوَّلُ اسْتِيفَاءٌ على وَجْهِ النُّقْصَانِ إلَّا أَنَّ في الْقَلْعِ احْتِمَالَ الزِّيَادَةِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ فيه أَنْ يَفْعَلَ الْمَقْلُوعُ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَ الْقَالِعُ
وَأَمَّا اللِّسَانُ فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُهُ فَلَا قِصَاصَ فيه لِعَدَمِ إمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ وَإِنْ اسْتَوْعَبَ فَقَدْ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ اللِّسَانَ لَا يُقْتَصُّ فيه
وقال أبو يُوسُفَ فيه الْقِصَاصُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْقَطْعَ إذَا كان مُسْتَوْعِبًا أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فيه بِالِاسْتِيعَابِ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ مِثْلَ الْجِنَايَةِ
وَجْهُ ما ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ اللِّسَانَ يَنْقَبِضُ وَيَنْبَسِطُ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فيه بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ
وَإِنْ قَطَعَ الْحَشَفَةَ فَفِيهَا الْقِصَاصُ لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ لِأَنَّ لها حَدًّا مَعْلُومًا وَإِنْ قَطَعَ بَعْضَهَا أو بَعْضَ الذَّكَرِ فَلَا قِصَاصَ فيه لِأَنَّهُ لَا حَدَّ لِذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ الْقَطْعُ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ فصار كما لو قَطَعَ بَعْضَ اللِّسَانِ
وَلَوْ قَطَعَ الذَّكَرَ من أَصْلِهِ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فيه
وقال أبو يُوسُفَ فيه الْقِصَاصُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ عِنْدَ الِاسْتِيعَابِ أَمْكَنَ الِاسْتِيفَاءُ على وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ وَجْهُ ما ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ الذَّكَرَ يَنْقَبِضُ مَرَّةً وَيَنْبَسِطُ أُخْرَى فَلَا يُمْكِنُ مُرَاعَاةُ
____________________

(7/308)


الْمُمَاثَلَةِ فيه فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ وَلَا قِصَاصَ في جَزِّ شَعْرِ الرَّأْسِ وَحَلْقِهِ وَحَلْقِ الْحَاجِبَيْنِ وَالشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ وَإِنْ لم يَنْبُتْ بَعْدَ الْحَلْقِ وَالنَّتْفِ
أَمَّا الْجَزُّ فَلِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ فَلَا يُمْكِنُ أَخْذُ الْمِثْلِ وَأَمَّا الْحَلْقُ وَالنَّتْفُ الْمَوْجُودُ من الْحَالِقِ وَالنَّاتِفِ فَلِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ حَلْقُ وَنَتْفُ غَيْرِ مَنْبَتٍ وَذَلِكَ ليس في وُسْعِ الْمَحْلُوقِ وَالْمَنْتُوفِ لِجَوَازِ أَنْ يَقَعَ حَلْقُهُ وَنَتْفُهُ مَنْبَتًا فَلَا يَكُونُ مِثْلَ الْأَوَّلِ
وَذَكَرَ في النَّوَادِرِ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ إذَا لم يَنْبُتْ ولم يذكر حُكْمَ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَنَّهُ هل يَجِبُ فيه الْقِصَاصُ أَمْ لَا
وَكَذَا لم يذكر حُكْمَ الانثيين في وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِمَا وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الْقِصَاصُ فِيهِمَا لِأَنَّ كُلَّ ذلك ليس له مَفْصِلٌ مَعْلُومٌ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ
وَأَمَّا حَلَمَةُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ فيها لِأَنَّ لها حَدًّا مَعْلُومًا فَيُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فيها كَالْحَشَفَةِ
وَلَوْ ضَرَبَ على رَأْسِ إنْسَانٍ حتى ذَهَبَ علقه ( ( ( عقله ) ) ) أو سَمْعُهُ أو كَلَامُهُ أو شَمُّهُ أو ذَوْقُهُ أو جِمَاعُهُ أو مَاءُ صُلْبِهِ فَلَا قِصَاصَ في شَيْءٍ من ذلك لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُضْرَبَ ضَرْبًا تَذْهَبُ بِهِ هذه الْأَشْيَاءُ فلم يَكُنْ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ مُمْكِنًا فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ
وَكَذَلِكَ لو ضَرَبَ على يَدِ رَجُلٍ أو رِجْلِهِ فَشُلَّتْ لَا قِصَاصَ عليه لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُضْرَبَ ضَرْبًا مُشِلًّا فلم يَكُنْ الْمِثْلُ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الشِّجَاجُ فَلَا خِلَافَ في أَنَّ الْمُوضِحَةَ فيها الْقِصَاصُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فيها على سَبِيلِ الْمُمَاثَلَةِ لِأَنَّ لها حَدًّا تَنْتَهِي إلَيْهِ السِّكِّينُ وهو الْعَظْمُ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيمَا بَعْدَ الْمُوضِحَةِ لِتَعَدُّدِ الِاسْتِيفَاءِ فيه على وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ لِأَنَّ الْهَاشِمَةَ تَهْشِمُ الْعَظْمَ وَالْمُنَقِّلَةَ تَهْشِمُ وَتُنَقِّلُ بَعْدَ الْهَشِمِ وَلَا قِصَاصَ في هَشْمِ الْعَظْمِ لِمَا بَيَّنَّا وَالْآمَّةُ لَا يُؤْمَنُ فيها من أَنْ يَنْتَهِيَ السِّكِّينُ إلَى الدِّمَاغِ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ في هذه الشِّجَاجِ على وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِخِلَافِ الْمُوضِحَةِ
وَأَمَّا ما قبل الْمُوضِحَةِ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ في الْمُوضِحَةِ وَالسِّمْحَاقِ وَالْبَاضِعَةِ وَالدَّامِيَةِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَا قِصَاصَ في الشِّجَاجِ إلَّا في الْمُوضِحَةِ وَالسِّمْحَاقِ إنْ أَمْكَنَ الْقِصَاصُ في السِّمْحَاقِ
وروى عن النَّخَعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال ما دُونَ الْمُوضِحَةِ خُدُوشٌ وَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ
وَكَذَا رُوِيَ عن عُمَرَ بن عبد الْعَزِيزِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَعَنْ الشُّعَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال ما دُونَ الْمُوضِحَةِ فيه أُجْرَةُ الطَّبِيبِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ ما دُونَ الْمُوضِحَةِ مِمَّا ذَكَرْنَا لَا حَدَّ له يَنْتَهِي إلَيْهِ السِّكِّينُ فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءُ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ فيه مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ غَوْرِ الْجِرَاحَةِ بِالْمِسْبَارِ
ثُمَّ إذَا عُرِفَ قَدْرُهُ بِهِ يُعْمَلُ حَدِيدَةٌ على قَدْرِهِ فَتَنْفُذُ في اللَّحْمِ إلَى آخِرِهَا فَيَسْتَوْفِي منه مِثْلَ ما فَعَلَ ثُمَّ ما يَجِبُ فيه الْقِصَاصُ من الشِّجَاجِ لَا يُقْتَصُّ من الشَّاجِّ إلَّا في مَوْضِعِ الشَّجَّةِ من الْمَشْجُوجِ من مُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَمُؤَخَّرِهِ وَوَسَطِهِ وَجَنْبَيْهِ لأنه وُجُوبَ الْقِصَاصُ لِلشَّيْنِ الذي يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ وَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ من الرَّأْسِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْنَ في مُؤَخَّرِ الرَّأْسِ لَا يَكُونُ مِثْلَ الشَّيْنِ الذي في مُقَدَّمِهِ وَلِهَذَا يستوفي على مِسَاحَةِ الشَّجَّةِ من طُولِهَا وَعَرْضِهَا ما أَمْكَنَ لِاخْتِلَافِ الشَّيْنِ بِاخْتِلَافِ الشَّجَّةِ في الصِّغَرِ وَالْكِبْرِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً فَأَخَذَتْ الشَّجَّةُ ما بين قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ وَهِيَ لَا تَأْخُذُ ما بين قَرْنَيْ الشَّاجِّ لِصِغَرِ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ وَكِبَرِ رَأْسِ الشَّاجِّ أَنَّهُ لَا يُسْتَوْعَبُ ما بين قَرْنَيْ الشَّاجِّ في الْقِصَاصِ لِأَنَّ في الِاسْتِيعَابِ اسْتِيفَاءَ الزِّيَادَةِ وَفِيهِ زِيَادَةُ شين ( ( ( الشين ) ) ) وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَكِنْ يُخَيَّرُ الْمَشْجُوجُ إنْ شَاءَ اقْتَصَّ من الشَّاجِّ حتى يَبْلُغَ مِقْدَارَ شَجَّتِهِ في الطُّولِ ثُمَّ يَكُفُّ وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إلَى الْأَرْشِ لِأَنَّهُ وَجَدَ حَقَّهُ نَاقِصًا لِأَنَّ الشَّجَّةَ الْأُولَى وَقَعَتْ مُسْتَوْعَبَةٌ وَالثَّانِيَةُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهَا فَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ فَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى حَقَّهُ نَاقِصًا تَشَفِّيًا لِلصَّدْرِ وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إلَى الْأَرْشِ كما قُلْنَا في الْأَشَلِّ إذَا قَطَعَ يَدَ الصَّحِيحِ فَإِنْ اخْتَارَ الْقِصَاصَ فَلَهُ أَنْ يَبْدَأَ من أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَ لِأَنَّ كُلَّ ذلك حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ يبتدىء ( ( ( يبتدأ ) ) ) من أَيِّهِمَا شَاءَ
وَإِنْ كانت الشَّجَّةُ تَأْخُذُ ما بين قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ وَلَا تَفْضُلُ وَهِيَ ما بين قَرْنَيْ الشَّاجِّ وَتَفْضُلُ عن قَرْنَيْهِ لِكِبَرِ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ وَصِغَرِ رَأْسِ الشَّاجِّ فَلِلْمَشْجُوجِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ ما بين قَرْنَيْ الشَّاجِّ لَا يَزِيدُ على ذلك شيئا لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ على ما بين قَرْنَيْ الشَّاجِّ لِأَنَّهُ ما زَادَ على ما بين قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ فَلَا يُزَادُ على ما بين قَرْنَيْهِ فَيُخَيَّرُ الْمَشْجُوجُ لِأَنَّهُ وَجَدَ حَقَّهُ نَاقِصًا إذْ الثَّانِيَةُ دُونَ الْأُولَى في قَدْرِ الْجِرَاحَةِ فَإِنْ شَاءَ رضي
____________________

(7/309)


بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ نَاقِصًا وَاقْتَصَرَ على ما بين قَرْنَيْ الشَّاجِّ طَلَبًا لِلتَّشَفِّي وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إلَى الْأَرْشِ
وَإِنْ كانت الشَّجَّةُ لَا تَأْخُذُ بين قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ وَهِيَ تَأْخُذُ ما بين قَرْنَيْ الشَّاجِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَوْعَبَ بين قَرْنَيْ الشَّاجِّ كُلِّهِ بِالْقِصَاصِ لِأَنَّ الشَّجَّةَ الْأُولَى وَقَعَتْ غير مُسْتَوْعَبَةٍ فَالِاسْتِيعَابُ في الْجُزْءِ يَكُونُ زِيَادَةً وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ كان ذلك مِقْدَارَ شَجَّتِهِ في الْمِسَاحَةِ كما لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ ما فَضَلَ عن قَرْنَيْ الشَّاجِّ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَإِنْ كان ذلك مِقْدَارَ الشَّجَّةِ الْأُولَى في الْمِسَاحَةِ وَلَهُ الْخِيَارُ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ مِثْلِ شَجَّتِهِ في مِقْدَارِهَا في الْمِسَاحَةِ في الطُّولِ فَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَنَقَصَ عَمَّا بين قَرْنَيْ الشَّاجِّ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَأَخَذَ الْأَرْشَ
وَإِنْ كانت الشَّجَّةُ في طُولِ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ وَهِيَ تَأْخُذُ من جَبْهَتِهِ إلَى قَفَاهُ وَلَا تَبْلُغُ من الشَّاجِّ إلَى قَفَاهُ يُخَيَّرُ الْمَشْجُوجُ إنْ شَاءَ اقْتَصَّ مِقْدَارَ شَجَّتِهِ إلَى مِثْلِ مَوْضِعِهَا من رَأْسِ الشَّاجِّ لَا يَزِيدُ عليه وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عن عَلِيِّ بن الْعَبَّاسِ الرَّازِيّ أَنَّهُ قال إذَا اسْتَوْعَبَتْ الشَّجَّةُ ما بين قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ ولم تَسْتَوْعِبْ ما بين قَرْنَيْ الشَّاجِّ يُقْتَصُّ من الشَّاجِّ ما بين قَرْنَيْهِ كُلِّهِ وَإِنْ زَادَ ذلك على طُولِ الشَّجَّةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلصِّغَرِ وَالْكِبَرِ في الْقِصَاصِ بين الْعُضْوَيْنِ كما في الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ أَنَّهُ يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا
وَإِنْ كانت إحْدَاهُمَا أَكْبَرَ من الْأُخْرَى فَكَذَا في الشَّجَّةِ وَهَذَا الِاعْتِبَارُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ هُنَاكَ لِفَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ وإنها لَا تَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ
أَلَا يَرَى أَنَّ الْيَدَ الصَّغِيرَةَ قد تَكُونُ أَكْثَرَ مَنْفَعَةً من الْكَبِيرَةِ فإذا لم يَخْتَلِفْ ما وَجَبَ له لم يَخْتَلِفْ الْوُجُوبُ بِخِلَافِ الشَّجَّةِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فيها لِلشَّيْنِ الذي يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ وإنه يَخْتَلِفُ فَيَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الشَّجَّةِ وَيُنْتَقَصُ بِنُقْصَانِهَا لِذَلِكَ افْتَرَقَ الْأَمْرَانِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَأَمَّا الْجِرَاحُ فَإِنْ مَاتَ من شَيْءٍ منها الْمَجْرُوحُ وَجَبَ الْقِصَاصُ لِأَنَّ الْجِرَاحَةَ صَارَتْ بِالسِّرَايَةِ نَفْسًا وَإِنْ لم يَمُتْ فَلَا قِصَاصَ في شَيْءٍ منها سَوَاءٌ كانت جَائِفَةً أو غَيْرَهَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فيها على وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيُّ عليه حُرَّيْنِ فَإِنْ كان أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا أو كَانَا عَبْدَيْنِ فَلَا قِصَاصَ فيه
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَا ذَكَرَيْنِ أو أُنْثَيَيْنِ عِنْدَنَا فَإِنْ كان أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى فَلَا قِصَاصَ فيه عِنْدَ أَصْحَابِنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هذا ليس بِشَرْطٍ وَيَجْرِي الْقِصَاصُ بين الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِيمَا دُونَ النَّفْسِ كما يجري في النَّفْسِ وَهَذَانِ الشَّرْطَانِ في الْحَقِيقَةِ عِنْدَنَا مُتَدَاخِلَانِ لِأَنَّهُمَا دَخَلَا في شَرْطِ الْمُمَاثَلَةِ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ في الْأُرُوشِ شَرْطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحِيحَ لَا يُقْطَعُ بِالْأَشَلِّ وَلَا كَامِلَ الْأَصَابِعِ بِنَاقِصِ الْأَصَابِعِ وَلِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ ما دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ
وَالْمُمَاثَلَةُ في الْأَمْوَالِ في بَابِ الْأَمْوَالِ مُعْتَبَرَةٌ
ولم تُوجَدْ الْمُمَاثَلَةُ بين الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ في الْأُرُوشِ لِأَنَّ أَرْشَ طَرَفِ الْعَبْدِ ليس بِمُقَدَّرٍ بَلْ يَجِبُ بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهِ وَأَرْشُ طَرَفِ الْحُرِّ مُقَدَّرٌ فَلَا يُوجَدُ التَّسَاوِي بين أَرْشَيْهِمَا
وَلَئِنْ اتَّفَقَ اسْتِوَاؤُهُمَا في الْقَدْرِ فَلَا يُعْتَبَرُ ذلك لِأَنَّ قِيمَةَ طَرَفِ الْعَبْدِ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَلَا تُعْرَفُ الْمُسَاوَاةُ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ
وَكَذَا لم يُوجَدْ بين الْعَبِيدِ وَالْعَبِيدِ لِأَنَّهُمْ إنْ اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُمْ فلم يُوجَدْ التَّسَاوِي في الْأَرْشِ وَإِنْ اسْتَوَتْ قِيمَتُهُمْ فَلَا يُعْرَفُ ذلك إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ فَلَا يُعْرَفُ التَّسَاوِي في أُرُوشِهِمْ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ أو تبقى فيه شُبْهَةُ الْعَدَمِ وَالشُّبْهَةُ في بَابِ الْقِصَاصِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ وَلَا بين الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِأَنَّ أَرْشَ الْأُنْثَى نِصْفُ أَرْشِ الذَّكَرِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمُسَاوَاةُ في الْأُرُوشِ في الْأَحْرَارِ غَيْرُ مُعْتَبِرَةٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْقِصَاصَ جَرَى بين نَفْسَيْهِمَا فَيَجْرِي بين طَرَفَيْهِمَا لِأَنَّ الطَّرَفَ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ
وَلَنَا أَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بين أَرْشَيْهِمَا فَلَا قِصَاصَ في طَرَفَيْهِمَا كَالصَّحِيحِ مع الْأَشَلِّ وَلَا قِصَاصَ في الْأَظْفَارِ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ في أُرُوشِهَا لِأَنَّ أَرْشَ الظُّفْرِ الْحُكُومَةُ وإنها مُعْتَبَرَةٌ بالحرز ( ( ( بالحزر ) ) ) وَالظَّنِّ
وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
فصل وَأَمَّا كَوْنُ الْجِنَايَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِالسِّلَاحِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فيه فَسَوَاءٌ كانت بِسِلَاحٍ أو غَيْرِهِ يَجِبُ فيه الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ ليس فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شُبْهَةُ عَمْدٍ وَإِنَّمَا فيه عَمْدٌ أو خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَاسْتَوَى فِيهِمَا السِّلَاحُ وَغَيْرُهُ هذا الذي ذَكَرْنَا شَرَائِطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ
وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ الْحُكْمِ بِالْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَوَقْتُهُ ما بَعْدَ الْبُرْءِ فَلَا يَحْكُمُ بِالْقِصَاصِ فيه ما لم يَبْرَأْ وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ
____________________

(7/310)


اللَّهُ وَقْتُهُ ما بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَلَا يُنْتَظَرُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ وَجَبَ الْقِصَاصُ لِلْحَالِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْوَاجِبَ لِلْحَالِ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال لَا يُسْتَقَادُ من الْجِرَاحَةِ حتى يَبْرَأَ
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَرَحَ حَسَّانَ بن ثَابِتٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في فَخِذِهِ بِعَظْمٍ فَجَاءَ الْأَنْصَارُ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَطَلَبُوا الْقِصَاصَ
فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ انْتَظِرُوا ما يَكُونُ من صَاحِبِكُمْ فَأَنَا وَاَللَّهِ مُنْتَظِرُهُ وهو أَنَّهُ يَحْتَمِلُ السِّرَايَةَ
وَالْجِرَاحَةُ عِنْدَ السِّرَايَةِ تَصِيرُ قَتْلًا فَيُتَبَيَّنُ أَنَّهُ اسْتَوْفَى غير حَقِّهِ
وَهَذَا فَرْعُ مَسْأَلَةٍ ذَكَرْنَاهَا وَهِيَ أَنَّ الْمَجْرُوحَ إذَا مَاتَ بِالْجِرَاحَةِ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالنَّفْسِ عِنْدَنَا لَا في الطَّرَفِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ ما فَعَلَ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
فصل وَأَمَّا الذي فيه دِيَةٌ كَامِلَةٌ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ سَبَبِ الْوُجُوبِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ شَرَائِطِهِ
أَمَّا السَّبَبُ فَهُوَ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ من الْعُضْوِ على الْكَمَالِ
وَذَلِكَ في الْأَصْلِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إبَانَةُ الْعُضْوِ وَإِذْهَابُ مَعْنَى الْعُضْوِ مع بَقَاءِ الْعُضْوِ صُورَةً
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَعْضَاءُ التي تَتَعَلَّقُ بِانْتِهَاءِ كَمَالِ الدِّيَةِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةِ نَوْعٌ لَا نَظِيرَ له في الْبَدَنِ وَنَوْعٌ في الْبَدَنِ منه اثْنَانِ
وَنَوْعٌ في الْبَدَنِ منه أَرْبَعَةٌ
أَمَّا الذي لَا نَظِيرَ له في الْبَدَنِ فَسِتَّةُ أَعْضَاءٍ أَحَدُهَا الْأَنْفُ سَوَاءٌ اسْتَوْعَبَ جَدْعًا أو قُطِعَ الْمَارِنُ منه وَحْدَهُ وهو ما لآن من الْأَنْفِ
وَالثَّانِي اللِّسَانُ سَوَاءٌ اسْتَوْعَبَ قَطْعًا أو قُطِعَ منه ما يَذْهَبُ بِالْكَلَامِ كُلِّهِ
وَالثَّالِثُ الذَّكَرُ سَوَاءٌ اسْتَوْعَبَ قَطْعًا أو قُطِعَ الْحَشَفَةُ منه وَحْدَهَا
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهُ قال في النَّفْسِ الدِّيَةُ وفي اللِّسَانِ الدِّيَةُ وفي الذَّكَرِ الدِّيَةُ وفي الْأَنْفِ الدِّيَةُ وفي الْمَارِنِ الدِّيَةُ
وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَتَبَ في كِتَابِ عَمْرِو بن حَزْمٍ في النَّفْسِ الدِّيَةُ وفي الْأَنْفِ الدِّيَةُ وفي اللِّسَانِ الدِّيَةُ وَلِأَنَّهُ أَبْطَلَ الْمَنَافِعَ الْمَقْصُودَةَ من هذه الْأَعْضَاءِ وَالْجَمَالَ أَيْضًا من بَعْضِهَا فَالْمَقْصُودُ من الْأَنْفِ الشَّمُّ وَالْجَمَالُ أَيْضًا وَمِنْ اللِّسَانِ الْكَلَامُ
وَمِنْ الذَّكَرِ الْجِمَاعُ
وَالْحَشَفَةُ يَتَعَلَّقُ بها مَنْفَعَةُ الْإِنْزَالِ وقد زَالَ ذلك كُلَّهُ بِالْقَطْعِ
وَإِنْ كان ذَهَبَ بَعْضُ الْكَلَامِ بِقَطْعِ بَعْضِ اللِّسَانِ دُونَ بَعْضٍ فَفِيهِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ على سَبِيلِ الْكَمَالِ وَقِيلَ تُقَسَّمُ الدِّيَةُ على عَدَدِ حُرُوفِ الْهِجَاءِ فَيَجِبُ من الدِّيَةِ بِقَدْرِ ما فَاتَ من الْحُرُوفِ وَنُقِلَتْ هذه الْقَضِيَّةُ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من اللِّسَانِ هو الْكَلَامُ وقد فَاتَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ فَيَجِبُ من الدِّيَةِ بِقَدْرِ الْفَائِتِ منها لَكِنْ إنَّمَا يَدْخُلُ في الْقِسْمَةِ الْحُرُوفُ التي تَفْتَقِرُ إلَى اللِّسَانِ فَأَمَّا ما لَا يَفْتَقِرُ إلَى اللِّسَانِ من الشَّفَوِيَّةِ وَالْحَلْقِيَّةِ كَالْبَاءِ وَالْفَاءِ وَالْهَاءِ وَنَحْوِهِمَا فَلَا تَدْخُلُ في الْقِسْمَةِ
وَالرَّابِعُ الصُّلْبُ إذَا احْدَوْدَبَ بِالضَّرْبِ وَانْقَطَعَ الْمَاءُ وهو الْمَنِيُّ فيه دِيَةٌ كَامِلَةٌ لِوُجُودِ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ
وَالْخَامِسُ مَسْلَكُ الْبَوْلِ
وَالسَّادِسُ مَسْلَكُ الْغَائِطِ من الْمَرْأَةِ إذَا أَفْضَاهَا إنْسَانٌ فَصَارَتْ لَا تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ أو الْغَائِطَ فَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ فَإِنْ صَارَتْ لَا تَسْتَمْسِكهُمَا فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً بِالْعُضْوِ على الْكَمَالِ فَيَجِبُ عليه كَمَالُ الدِّيَةِ
وَأَمَّا الْأَعْضَاءُ التي في الْبَدَنِ منها اثْنَانِ فَالْعَيْنَانِ وَالْأُذُنَانِ وَالشَّفَتَانِ وَالْحَاجِبَانِ إذَا ذَهَبَ شَعْرُهُمَا ولم يَنْبُتْ وَالثَّدْيَانِ وَالْحَلَمَتَانِ وَالْأُنْثَيَانِ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال وفي الْأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ وفي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ وفي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ وَلِأَنَّ في الْقَطْعِ كُلَّ اثْنَيْنِ من هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً أو تفويت الْجَمَالِ على الْكَمَالِ كَمَنْفَعَةِ الْبَصَرِ في الْعَيْنَيْنِ وَالْبَطْشِ في الْيَدَيْنِ وَالْمَشْيِ في الرِّجْلَيْنِ وَالْجَمَالِ في الْأُذُنَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ إذَا لم يَنْبُتَا وَالشَّفَتَيْنِ وَمَنْفَعَةِ إمْسَاكِ الرِّيقِ في إحْدَاهُمَا وَهِيَ السُّفْلَى
وَالثَّدْيَانِ وِكَاءٌ لِلَّبَنِ وفي الْحَلَمَتَيْنِ مَنْفَعَةُ الرَّضَاعِ وَالْأُنْثَيَانِ وِكَاءُ الْمَنِيِّ
وَأَمَّا الْأَعْضَاءُ التي منها أَرْبَعَةٌ في الْبَدَنِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَشْفَارُ الْعَيْنَيْنِ وَهِيَ مَنَابِتُ الْأَهْدَابِ إذَا لم تَنْبُتْ لِمَا في تَفْوِيتِهَا تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْبَصَرِ وَالْجَمَالِ أَيْضًا على الْكَمَالِ وفي كل شَفْرٍ منها رُبْعُ الدِّيَةِ
وَالثَّانِي الْأَهْدَابُ وَهِيَ شَعْرُ الأشفارء ( ( ( الأشفار ) ) ) إذَا لم تَنْبُتْ لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا إذْهَابُ مَعْنَى الْعُضْوِ مع بَقَاءِ صُورَتِهِ فَنَحْوُ الْعَقْلِ وَالْبَصَرِ وَالشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَالْجِمَاعِ وَالْإِيلَادِ بِأَنْ ضُرِبَ على إنْسَانٍ فَذَهَبَ عَقْلُهُ أو سَمْعُهُ أو كَلَامُهُ أو شَمُّهُ أو ذَوْقُهُ أو جِمَاعُهُ أو إيلَادُهُ بِأَنْ ضُرِبَ على ظَهْرِهِ فَذَهَبَ مَاءُ صُلْبِهِ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قَضَى في رَجُلٍ وَاحِدٍ
____________________

(7/311)


بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ ضُرِبَ على رَأْسِهِ فَذَهَبَ عَقْلُهُ وَكَلَامُهُ وَبَصَرُهُ وَذَكَرُهُ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْمَنَافِعَ الْمَقْصُودَةَ عن هذه الْأَعْضَاءِ على سَبِيلِ الْكَمَالِ
أَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ تَفْوِيتَهُ تَفْوِيتُ مَنَافِعِ الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بها فِيمَا وُضِعَتْ له بِفَوْتِ الْعَقْلِ
أَلَا تَرَى أَنَّ أَفْعَالَ الْمَجَانِينِ تَخْرُجُ مَخْرَجَ أَفْعَالِ الْبَهَائِمِ فَكَانَ إذْهَابُهُ إبْطَالًا لِلنَّفْسِ مَعْنًى
وَأَمَّا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَالْجِمَاعُ وَالْإِيلَادُ فَكُلُّ وَاحِدٍ منها ( ( ( منهما ) ) ) مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ وقد فَوَّتَهَا كُلَّهَا
وَلَوْ ضُرِبَ على رَأْسِ رَجُلٍ فَسَقَطَ شَعْرُهُ أو على رَأْسِ امْرَأَةٍ فَسَقَطَ شَعْرُهَا أو حَلَقَ لَحَيَّةَ رَجُلٍ أو نَتَفَهَا أو حَلَقَ شَعْرَ امْرَأَةٍ ولم يَنْبُتْ فَإِنْ كان حُرًّا فَفِيهِ الدِّيَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فيه حُكُومَةٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ إلَّا بِإِتْلَافِ النَّفْسِ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ النَّفْسِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِذَلِكَ عِنْدَ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ كما في قَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ تَفْوِيتَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ يَجْعَلُ النَّفْسَ تَالِفَةً من وَجْهٍ ولم يُوجَدْ ذلك في حَلْقِ الشَّعْرِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فيه مَرْدُودًا إلَى الْأَصْلِ وَلِهَذَا لم يَجِبْ في حَلْقِ شَعْرِ سَائِرِ الْبَدَنِ
وَلَنَا أَنَّ الشَّعْرَ لِلنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ جَمَالٌ كَامِلٌ وَكَذَا اللِّحْيَةُ لِلرِّجَالِ
وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ من الحديث أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عز وجل خَلَقَ في سَمَاءِ الدُّنْيَا مَلَائِكَةً من تَسْبِيحِهِمْ سُبْحَانَ الذي زَيَّنَ الرِّجَالَ بِاللِّحَى وَالنِّسَاءَ بِالذَّوَائِبِ وَتَفْوِيتُ الْجَمَالِ على الْكَمَالِ في حَقِّ الْحُرِّ يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ كَالْمَارِنِ وَالْأُذُنِ الشَّاخِصَةِ
وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا إظْهَارُ شَرَفِ الْآدَمِيِّ وَكَرَامَتِهِ وَشَرَفُهُ في الْجَمَالِ فَوْقَ شَرَفِهِ في الْمَنَافِعِ ثُمَّ تَفْوِيتُ الْمَنَافِعِ على الْكَمَالِ لَمَّا أَوْجَبَ كَمَالَ الدِّيَةِ فَتَفْوِيتُ الْجَمَالِ على الْكَمَالِ أَوْلَى بِخِلَافِ شَعْرِ سَائِرِ الْبَدَنِ لِأَنَّهُ لَا جَمَالَ فيه على الْكَمَالِ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ فَتَفْوِيتُهُ لَا يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ
وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال في الرَّأْسِ إذَا حُلِقَ فلم يَنْبُتْ الدِّيَةُ كَامِلَةً
وَكَذَا رُوِيَ عنه أَنَّهُ قال في اللِّحْيَةِ إذَا حُلِقَتْ فلم تَنْبُتْ الدِّيَةُ
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَغْلَى مَاءً فَصَبَّهُ على رَأْسِ رَجُلٍ فَانْسَلَخَ جِلْدُ رَأْسِهِ فَقَضَى سَيِّدُنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه بِالدِّيَةِ
وَعَنْ الْفَقِيهِ أبي حعفر ( ( ( جعفر ) ) ) الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ قال إنَّمَا يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ في اللِّحْيَةِ إذَا كانت كَامِلَةً بِحَيْثُ يُتَجَمَّلُ بها فَأَمَّا إذَا كانت طَاقَاتٍ مُتَفَرِّقَةً لَا يُتَجَمَّلُ بها فَلَا شَيْءَ فيها وَإِنْ كانت غير مُتَوَفِّرَةٍ بِحَيْثُ يَقَعُ بها الْجَمَالُ الْكَامِلُ وَلَيْسَتْ مِمَّا يَشِينُ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ
وَأَمَّا شَعْرُ الْعَبْدِ وَلِحْيَتُهُ فذكر في الْأَصْلِ أَنَّ فيه حُكُومَةً
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ فيه الْقِيمَةَ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقِيمَةَ في الْعَبِيدِ كَالدِّيَةِ في الْأَحْرَارِ فلما وَجَبَتْ في الْحُرِّ الدِّيَةُ تَجِبُ في الْعَبْدِ الْقِيمَةُ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الْجَمَالَ في العبيد ( ( ( العبد ) ) ) ليس بِمَقْصُودٍ بَلْ الْمَقْصُودُ منهم الْخِدْمَةُ وَتَفْوِيتُ ما ليس بِمَقْصُودٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ
وَلَوْ حَلَقَ رَأْسَ إنْسَانٍ أو لِحْيَتَهُ ثُمَّ نَبَتَ فَلَا شَيْءَ عليه لِأَنَّ النَّابِتَ قام مَقَامَ الْفَائِتِ فَكَأَنَّهُ لم يَفُتْ الْجَمَالُ أَصْلًا وفي الصغر ( ( ( الصعر ) ) ) وهو اعْوِجَاجُ الرَّقَبَةِ كَمَالُ الدِّيَةِ لِوُجُودِ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ وَتَفْوِيتِ الْجَمَالِ على الْكَمَالِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ خَطَأً فِيمَا في عَمْدِهِ الْقِصَاصُ وَأَمَّا ما لَا قِصَاصَ في عَمْدِهِ فَيَسْتَوِي فيه الْعَمْد وَالْخَطَأُ وقد بَيَّنَّا ما في عَمْدِهِ الْقِصَاصُ وما لَا قِصَاصَ فيه فِيمَا تَقَدَّمَ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَجْنِيُّ عليه ذَكَرًا فَإِنْ كان أُنْثَى فَعَلَيْهِ دِيَةُ أُنْثَى وهو نِصْفُ دِيَةِ الذَّكَرِ سَوَاءٌ كان الْجَانِي ذَكَرًا أو أُنْثَى لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ذلك وهو تَنْصِيفُ دِيَةِ الْأُنْثَى من دِيَةِ الذَّكَرِ على ما ذَكَرْنَا في دِيَةِ النَّفْسِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيُّ عليه حُرَّيْنِ فَإِنْ كان الْجَانِي حُرًّا وَالْمَجْنِيُّ عليه عَبْدًا فَلَا دِيَةَ فيه وَفِيهِ الْقِيمَةُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه ثُمَّ إنْ كان قَلِيلَ الْقِيمَةِ وَجَبَتْ جَمِيعُ الْقِيمَةِ وَإِنْ كان كَثِيرَ الْقِيمَةِ بِأَنْ بَلَغَتْ الدِّيَةُ يُنْقَصُ من قِيمَتِهِ عَشَرَةٌ كَذَا رَوَى أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كُلُّ شَيْءٍ من الْحُرِّ فيه الدِّيَةُ فَهُوَ من الْعَبْدِ فيه الْقِيمَةُ وَكُلُّ شَيْءٍ من الْحُرِّ فيه نِصْفُ الدِّيَةِ فَهُوَ من الْعَبْدِ فيه نِصْفُ الْقِيمَةِ
وَكَذَلِكَ الْجِرَاحَاتُ وَعُمُومُ هذه الرِّوَايَةِ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ من الْحُرِّ فيه قَدْرٌ من الدِّيَةِ فَمِنْ الْعَبْدِ فيه ذلك الْقَدْرُ من قِيمَتِهِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين ما يُقْصَدُ بِهِ الْمَنْفَعَةُ كَالْعَيْنِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَبَيْنَ ما يُقْصَدُ بِهِ الْجَمَالُ وَالزِّينَةُ مِثْلُ الْحَاجِبِ وَالشَّعْرِ وَالْأُذُنِ
وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ عنه أَنَّهُ إنْ حَلَقَ أَحَدَ حَاجِبَيْهِ فلم يَنْبُتْ أو نَتَفَ أَشْفَارَ عَيْنَيْهِ الْأَسْفَلِ أو الْأَعْلَى يَعِنِي أَهْدَابَهُ فلم تَنْبُتْ أو قَطَعَ إحْدَى شَفَتَيْهِ الْعُلْيَا أو السُّفْلَى أَنَّ عليه في كل وَاحِدٍ من ذلك نِصْفَ الْقِيمَةِ
وقال أبو يُوسُفَ
____________________

(7/312)


رَجَعَ أبو حَنِيفَةَ في حَاجِبِ الْعَبْدِ وفي أُذُنَيْهِ وقال فيه حُكُومَةُ الْعَدْلِ
وَكَذَا قال مُحَمَّدٌ اسْتَقْبَحَ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَضْمَنَ في أُذُنِ الْعَبْدِ نِصْفَ الْقِيمَةِ وَهَذَا دَلِيلُ الرُّجُوعِ أَيْضًا
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَنْفَعَةُ هو الْقِيمَةُ رِوَايَةً وَاحِدَةً عنه وَفِيمَا يُقْصَدُ بِهِ الزِّينَةُ وَالْجَمَالُ عنه رِوَايَتَانِ
وقال مُحَمَّدٌ الْوَاجِبُ في ذلك كُلِّهِ النُّقْصَانُ يُقَوَّمُ الْعَبْدُ مَجْنِيًّا عليه وَيُقَوَّمُ وَلَيْسَ بِهِ الْجِنَايَةُ فَيَغْرَمُ الْجَانِي ما بين الْقِيمَتَيْنِ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْآخَرُ وَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ مع أبي حَنِيفَةَ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ ما دُونَ النَّفْسِ من الْعَبْدِ له حُكْمُ الْمَالِ لِأَنَّهُ خُلِقَ لِمَصْلَحَةِ النَّفْسِ كَالْمَالِ وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فيه الْقِصَاصُ وَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ فَكَانَ ضَمَانُهُ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بَلْ يَجِبُ بِقَدْرِ نُقْصَانِ الْمَالِ كما في سَائِرِ الْأَمْوَالِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَمْعِ لِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الْقِيمَةَ في الْعَبْدِ كَالدِّيَةِ في الْحُرِّ فلما جَازَ تَقْدِيرُ ضَمَانِ جِنَايَةِ الْحُرِّ بِدِيَتِهِ جَازَ تَقْدِيرُ ضَمَانِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ بِقِيمَتِهِ وَلِأَنَّ التَّقْدِيرَ قد دخل على الْجِنَايَةِ عليه في النَّفْسِ حتى لَا يَبْلُغَ الدِّيَةَ إذَا كان كَثِيرَ الْقِيمَةِ فَجَازَ أَنْ يَدْخُلَ في ضَمَانِ الْجِنَايَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ كَالْحُرِّ
وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْفَرْقِ له أَنَّ الْجَمَالَ ليس بِمَقْصُودٍ في الْعَبِيدِ بَلْ الْمَقْصُودُ منهم الْخِدْمَةُ فَأَمَّا الْمَنْفَعَةُ فَمَقْصُودَةٌ من الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ جميعا وَلِأَنَّ ما دُونَ النَّفْسِ من الْعَبِيدِ له شِبْهُ النَّفْسِ وَشِبْهُ الْمَالِ
أَمَّا شِبْهُ النَّفْسِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ من أَجْزَاءِ النَّفْسِ حَقِيقَةً
وَأَمَّا شِبْهُ الْمَالِ فإنه لَا يَجِبُ فيه الْقِصَاصُ وَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ فَيُعْمَلُ بِشِبْهِ النَّفْسِ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَنْفَعَةُ بِتَقْدِيرِ ضَمَانِهِ بِالْقِيمَةِ كما لو جَنَى على النَّفْسِ وَيُعْمَلُ بِشِبْهِ الْمَالِ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ الْجَمَالُ فلم يُقَدَّرْ ضَمَانُهُ بِالْقِيمَةِ كما إذَا أَتْلَفَ الْمَالَ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ من عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ لِأَنَّ ذلك عَمَلٌ بِشِبْهِ الْمَالِ وإنه لَا يَنْفِي الْعَمَلَ بشبهة ( ( ( بشبه ) ) ) النَّفْسِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا جميعا وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا
ثُمَّ الْحُرُّ إذَا فَقَأَ عَيْنَيْ عبد إنْسَانٍ أو قَطَعَ يَدَيْهِ أو رِجْلَيْهِ حتى وَجَبَ عليه كَمَالُ الْقِيمَةِ فَمَوْلَاهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَلَّمَهُ إلَى الفاقىء ( ( ( الفاقئ ) ) ) وَأَخَذَ قِيمَتَهُ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ وَلَا شَيْءَ له
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ له أَنْ يَمْسِكَهُ وَيَأْخُذَ ما نَقَصَهُ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ له أَنْ يَمْسِكَهُ وَيَأْخُذَ جَمِيعَ الْقِيمَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ فيه وهو الْقِيمَةُ ضَمَانُ الْعُضْوَيْنِ الْفَائِتَيْنِ لَا غَيْرُ فَيَبْقَى الباقى على مِلْكِهِ كما لو فَقَأَ إحْدَى عَيْنَيْهِ أو قَطَعَ إحْدَى يَدَيْهِ أَنَّهُ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ وَيَبْقَى الْبَاقِي على مِلْكِ مَالِكِهِ
كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الضَّمَانَ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنَيْنِ كما قال الشَّافِعِيُّ عليه الرَّحْمَةُ لَكِنَّ الرَّقَبَةَ هَلَكَتْ من وَجْهٍ لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فَيُخَيَّرُ الْمَوْلَى إنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ الْهَلَاكِ وَضَمِنَهُ الْقِيمَةَ وسلم الْعَبْدَ إلَى الفاقىء ( ( ( الفاقئ ) ) ) لِوُصُولِ عِوَضِ الرَّقَبَةِ إلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ الْقِيَامِ وَأَمْسَكَهُ وَضَمِنَ النُّقْصَانَ وهو بَدَلُ الْعَيْنَيْنِ كما يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْمَالِ عِنْدَ النُّقْصَانِ الْفَاحِشِ في الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إلَى الْمَوْلَى بَدَلُ النَّفْسِ فَلَوْ بقى الْعَبْدُ على مِلْكِهِ لَاجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ في مِلْكِ رَجُلٍ واحد فِيمَا يَصِحُّ تَمْلِيكُهُ بِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ كما لَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ في مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلَا يَلْزَمُ ما إذَا غَصَبَ مُدَبَّرًا فَأَبَقَ من يَدِهِ أَنَّ الْمَوْلَى يَضْمَنُهُ قِيمَتَهُ وَالْمُدَبَّرُ على مِلْكِهِ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ التَّمْلِيكُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَلَا تَلْزَمُ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ إذَا سَلَّمَ الْهِبَةَ ولم يَقْبِضْ الْعِوَضَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ على مِلْكِ الْمَوْهُوبِ له الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ لِأَنَّ الْعِوَضَ قبل الْقَبْضِ لَا يَكُونُ عِوَضًا فلم يَجْتَمِعْ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ وَلَا يَلْزَمُ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ ولم يُسَلِّمْ الثَّمَنَ لِأَنَّ الثَّمَنَ ليس بِبَدَلٍ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ
إنَّمَا الْبَدَلُ الْقِيمَةُ وقد مَلَكَهَا الْبَائِعُ حين مَلَكَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ فلم يَجْتَمِعْ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ في مِلْكِهِ وَلَا يَلْزَمُ ما إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِجَارِيَةٍ على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَقَبَضَ الْعَبْدَ فَأَعْتَقَهُمَا جميعا أَنَّهُ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ فِيهِمَا جميعا وقد اجْتَمَعَ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ على مِلْكِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا عتقهما ( ( ( أعتقهما ) ) ) فَسَدَ الْبَيْعُ في الْجَارِيَةِ وَصَارَ الْعِوَضُ عن الْعَبْدِ الْقِيمَةَ وَمَلَكَهَا الْبَائِعُ في مُقَابَلَةِ مِلْكِ الْعَبْدِ فلم يَجْتَمِعْ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ وَلَا يَلْزَمُ ما إذَا اسْتَأْجَرَ شيئا وَعَجَّلَ الْأُجْرَةَ أَنَّ الْمُؤَاجِرَ يَمْلِكُهَا وَالْمَنَافِعُ على مِلْكِهِ
فَقَدْ اجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ في مِلْكِ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُمْلَكُ عِنْدَنَا إلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا
وَكُلَّمَا وُجِدَ جُزْءٌ منها حَدَثَ على مِلْكِ الْمُسْتَأْجَرِ فلم يَجْتَمِعْ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ على مِلْكِ الْمُؤَاجِرِ وَلَا يَلْزَمُ ما إذَا غَصَبَ عَبْدًا فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً ثُمَّ رَدَّهُ على مَوْلَاهُ فَجَنَى عِنْدَهُ
____________________

(7/313)


جِنَايَةً أُخْرَى وَدَفَعَهُ بِالْجِنَايَتَيْنِ أَنَّهُ يَرْجِعُ على الْغَاصِبِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فَيَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى
وَمَعْلُومٌ أَنَّ نِصْفَ الْقِيمَةِ عِوَضٌ عن نَصْفِ الرَّقَبَةِ الذي سَلَّمَ له فَقَدْ اجْتَمَعَ في مِلْكِهِ وهو نِصْفُ الْعَبْدِ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ اجْتِمَاعُ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ في مِلْكِ رَجُلٍ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ ولم يُوجَدْ هُنَاكَ لِأَنَّ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ
إنَّمَا يَأْخُذُ عِوَضًا عن جِنَايَتِهِ لَا عن الْمَالِ وَاجْتِمَاعُ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ في مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِغَيْرِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ جَائِزٌ كَمَنْ اسْتَوْهَبَ الْمَبِيعَ من الْبَائِعِ وَالثَّمَنَ من الْمُشْتَرِي أو وَرِثَهُمَا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَإِنْ كان الْجَانِي عَبْدًا وَالْمَجْنِيُّ عليه حُرًّا أو كَانَا جميعا عَبْدَيْنِ فَحُكْمُ هذه الْجِنَايَةِ وُجُوبُ الدَّفْعِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ على ما ذَكَرْنَا في جِنَايَاتِ الْعَبِيدِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فصل وَأَمَّا الذي يَجِبُ فيه أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَفِي كل اثْنَيْنِ من الْبَدَنِ فِيهِمَا كَمَالُ الدِّيَةِ في أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ من إحْدَى الْعَيْنَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ إذَا لم تَنْبُتْ وَالشَّفَتَيْنِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالثَّدْيَيْنِ وَالْحَلَمَتَيْنِ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَتَبَ في كِتَابِ عَمْرِو بن حَزْمٍ وفي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ وفي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وفي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وفي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَلِأَنَّ كُلَّ الدِّيَةِ عِنْدَ قَطْعِ الْعُضْوَيْنِ يُقَسَّمُ عَلَيْهِمَا
فَيَكُونُ في أَحَدِهِمَا النِّصْفُ لِأَنَّ وُجُوبَ الْكُلِّ في الْعُضْوَيْنِ لِتَفْوِيتِ كل الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ من الْعُضْوَيْنِ وَالْفَائِتُ بِقَطْعِ أَحَدِهِمَا النِّصْفُ فَيَجِبُ فيه نِصْفُ الدِّيَةِ وَيَسْتَوِي فيه الْيَمِينُ وَالْيَسَارُ لِأَنَّ الحديث لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا وَسَوَاءٌ ذَهَبَ بِالْجِنَايَةِ على الْعَيْنِ نُورُ الْبَصَرِ دُونَ الشَّحْمَةِ أو ذَهَبَ الْبَصَرُ مع الشَّحْمَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الْعَيْنِ الْبَصَرُ وَالشَّحْمَةُ فيه تَابِعَةٌ
وَكَذَا الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى من الشَّفَتَيْنِ سَوَاءٌ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عليهم
وَرُوِيَ عن زَيْدٍ بن ثَابِتٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَهُمَا فَأَوْجَبَ في السُّفْلَى الثُّلُثَيْنِ وفي الْعُلْيَا الثُّلُثُ لِزِيَادَةِ جَمَالٍ في الْعُلْيَا وَمَنْفَعَةٍ في السُّفْلَى وَبَقِيَّةُ الصَّحَابَةِ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا
وهو قَوْلُ جَمَاعَةٍ من التَّابِعِينَ مِثْلِ شُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ رضي اللَّهُ عنهما وَغَيْرِهِمَا سَوَاءٌ قَطَعَ الْحَلَمَةَ من ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أو قَطَعَ الثَّدْيَ وَفِيهِ الْحَلَمَةُ فَفِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِلْحَلَمَةِ وَالثَّدْيُ تَبَعٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الثَّدْيِ وهو مَنْفَعَةُ الرَّضَاعِ يَفُوتُ بِفَوَاتِ الْحَلَمَةِ
وَسَوَاءٌ كان ذلك بِضَرْبَةٍ أو ضَرْبَتَيْنِ إذَا كان قبل الْبُرْءِ من الْأُولَى
لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَسْتَقِرُّ قبل الْبُرْءِ
فإذا أَتْبَعَهَا الثَّانِيَةَ قبل اسْتِقْرَارِهَا صَارَ كَأَنَّهُ أَوْقَعَهُمَا مَعًا
وفي أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ في كل وَاحِدَةٍ منها عُشْرُ الدِّيَةِ وَهِيَ في ذلك سَوَاءٌ لَا فَضْلَ لِبَعْضٍ على بَعْضٍ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عنه أَنَّهُ قال في كل أُصْبُعٍ عَشْرٌ من الْإِبِلِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين أُصْبُعٍ وَأُصْبُعٍ
وَرُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال هذه وَهَذِهِ سَوَاءٌ وَأَشَارَ إلَى الْخِنْصَرِ وَالْإِبْهَامِ وَسَوَاءٌ قَطَعَ أَصَابِعَ الْيَدِ وَحْدَهَا أو قَطَعَ الْكَفَّ وَمَعَهَا الْأَصَابِعُ
وَكَذَلِكَ الْقَدَمُ مع الْأَصَابِعِ لِمَا رُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال في الْأَصَابِعِ في كل أُصْبُعٍ عَشْرٌ من الْإِبِلِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين ما إذَا قَطَعَ الْأَصَابِعَ وَحْدَهَا أو قَطَعَ الْكَفَّ التي فيها الْأَصَابِعُ وَلِأَنَّ الْأَصَابِعَ أَصْلٌ وَالْكَفُّ تَابِعَةٌ لها لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ من الْيَدِ الْبَطْشُ وإنها تَحْصُلُ بِالْأَصَابِعِ فَكَانَ إتْلَافُهَا إتْلَافًا لِلْيَدِ وَسَوَاءٌ قَطَعَ الْأَصَابِعَ أو شُلَّ من الْجِرَاحَةِ أو يَبِسَ فَفِيهِ عَقْلُهُ تَامًّا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منه يَفُوتُ وما كان من الْأَصَابِعِ فيه ثَلَاثُ مَفَاصِلَ فَفِي كل مِفْصَلٍ ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ وما كان فيه مَفْصِلَانِ فَفِي كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ الأصبع لِأَنَّ ما في الأصبع يَنْقَسِمُ على مَفَاصِلِهَا كما يَنْقَسِمُ ما في الْيَدِ على عَدَدِ الْأَصَابِعِ
وفي إحْدَى أَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ رُبْعُ الدِّيَةِ وفي الأثنين نِصْفُ الدِّيَةِ وفي الثلاثة ( ( ( الثلاث ) ) ) ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ إنْ لم يَنْبُتْ لِأَنَّ في الْأَشْفَارِ كُلِّهَا الدِّيَةِ فَتُقَسَّمُ الدِّيَةُ على عَدَدِهَا كما تُقَسَّمُ الدِّيَةُ على الْيَدَيْنِ
وَإِنْ نَبَتَ فَلَا شَيْءَ فيه وسواء ( ( ( سواء ) ) ) قَطَعَ الشَّفْرَ وَحْدَهُ أو قَطَعَ معه الْجَفْنَ لِأَنَّ الْجَفْنَ تَبَعٌ لِلشَّفْرِ كَالْكَفِّ وَالْقَدَمِ لِلْأَصَابِعِ
وَكَذَا أَهْدَابُ الْعَيْنَيْنِ إذَا لم تَنْبُتْ حُكْمُهَا حُكْمُ الْأَشْفَارِ
وفي كل سِنٍّ خَمْسٌ من الْإِبِلِ يَسْتَوِي فيه الْمُقَدَّمُ وَالْمُؤَخَّرُ وَالثَّنَايَا وَالْأَضْرَاسُ وَالْأَنْيَابُ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال في كل سِنٍّ خَمْسٌ من الْإِبِلِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين سِنٍّ وَسِنٍّ
وَمِنْ الناس من فَضَّلَ أَرْشَ الطَّوَاحِنِ على أَرْشِ الضَّوَاحِكِ
وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الحديث
____________________

(7/314)


لَا يُوجِبُ الْفَضْلَ
وَهَذَا لَا يَجْرِي على قِيَاسِ الْأَصَابِعِ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ في كل سِنٍّ بِخَمْسٍ من الْإِبِلِ لِأَنَّ الْأَسْنَانَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ فَيَزِيدُ الْوَاجِبُ في جُمْلَتِهَا على قَدْرِ الدِّيَةِ
وَلَوْ ضَرَبَ رَجُلًا ضَرْبَةً فَأَلْقَى أَسْنَانَهُ كُلَّهَا فَعَلَيْهِ دِيَةٌ وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ
لِأَنَّ جُمْلَةَ الْأَسْنَانِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ سِنًّا
عِشْرُونَ ضِرْسًا وَأَرْبَعَةُ أَنْيَابٍ وَأَرْبَعُ ثَنَايَا وَأَرْبَعُ ضَوَاحِكَ في كل سِنٍّ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ فَيَكُونُ جُمْلَتُهَا سِتَّةَ عَشْرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَهِيَ دِيَةٌ وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ دِيَةٍ تُؤَدَّى هذه الْجُمْلَةُ في ثَلَاثِ سِنِينَ في السَّنَةِ الْأُولَى ثُلُثَا الدِّيَةِ
ثُلُثٌ من ذلك من الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ وَهِيَ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ
وَثُلُثٌ من ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ وَهِيَ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وفي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ الثُّلُثُ من الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ وَالْبَاقِي من ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ وفي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وهو ما بَقِيَ من الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ تؤدي في ثَلَاثِ سِنِينَ في كل سَنَةٍ ثُلُثُهَا وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ وَهِيَ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ تؤدي في سَنَتَيْنِ من السِّنِينَ الثَّلَاثِ
وَهَذَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الْمُؤَدَّى من الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ وَالنَّاقِصَةِ في السَّنَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَقَدْرُ المؤدي من الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ في السَّنَةِ الثَّالِثَةِ ما وَصَفْنَا
وَلَوْ ضَرَبَ أَسْنَانَ رَجُلٍ وَتَحَرَّكَتْ يُنْتَظَرُ بها حَوْلًا لِمَا رُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال يُسْتَأْنَى بِالْجِرَاحِ حتى تَبْرَأَ وَالتَّقْدِيرُ بِالسَّنَةِ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ يَظْهَرُ فيها حَقِيقَةُ حَالِهَا من السُّقُوطِ وَالتَّغَيُّرِ وَالثُّبُوتِ
وَسَوَاءٌ كان الْمَضْرُوبُ صَغِيرًا أو كَبِيرًا
كَذَا رُوِيَ في الْمُجَرَّدِ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ يُؤَجَّلُ سنه سَوَاءٌ كان صَغِيرًا أو كَبِيرًا
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُنْتَظَرُ في الصَّغِيرِ وَلَا يُنْتَظَرُ في الرَّجُلِ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُنْتَظَرُ إذَا تَحَرَّكَتْ وإذا سَقَطَتْ لَا يُنْتَظَرُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ السِّنَّ إذَا تَحَرَّكَتْ قد تَثْبُتُ وقد تَسْقُطُ
فَأَمَّا إذَا سَقَطَتْ فَالظَّاهِرُ أنها لَا تَثْبُتُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ في الْفَرْقِ بين الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ أَنَّ سِنَّ الصَّغِيرِ يَثْبُتُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا وَسِنُّ الْكَبِيرِ لَا تَثْبُتُ ظَاهِرًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ احْتِمَالَ النَّبَاتِ ثَابِتٌ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فيه
فَإِنْ اشْتَدَّتْ ولم تَسْقُطْ فَلَا شَيْءَ فيها
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فيها حُكُومَةُ عَدْلٍ
وَإِنْ تَغَيَّرَتْ فَإِنْ كان التَّغَيُّرُ إلَى السَّوَادِ أو إلَى الْحُمْرَةِ أو إلَى الْخُضْرَةِ فَفِيهَا الْأَرْشُ تَامًّا لِأَنَّهُ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا وَذَهَابُ مَنْفَعَةِ الْعُضْوِ بِمَنْزِلَةِ ذَهَابِ الْعُضْوِ وَإِنْ كان التَّغَيُّرُ إلَى الصُّفْرَةِ فَفِيهَا حُكُومَةُ الْعَدْلِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ إنْ كان حُرًّا فَلَا شَيْءَ فيه وَإِنْ كان مَمْلُوكًا فَفِيهِ الْحُكُومَةُ
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَكَادُ تَصِحُّ عنه لِأَنَّ الْحُرَّ أَوْلَى بِإِيجَابِ الْأَرْشِ من الْعَبْدِ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ في الصُّفْرَةِ الْأَرْشُ تَامًّا كما في السَّوَادِ لِأَنَّ كُلَّ ذلك يُفَوِّتُ الْجَمَالَ
وَلَنَا أَنَّ الصُّفْرَةَ لَا تُوجِبُ فَوَاتَ الْمَنْفَعَةِ وَإِنَّمَا تُوجِبُ نُقْصَانَهَا فَتُوجِبُ حُكُومَةَ الْعَدْلِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَثُرَتْ الصُّفْرَةُ حتى تَكُونَ عَيْبًا كَعَيْبِ الْحُمْرَةِ وَالْخُضْرَةِ فَفِيهَا عَقْلُهَا تَامًّا وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هذا قَوْلُهُمْ جميعا
وَإِنْ سَقَطَتْ فَإِنْ نَبَتَ مَكَانَهَا أُخْرَى يُنْظَرُ إنْ نَبَتَتْ صَحِيحَةً فَلَا شَيْءَ فيها في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
وقال أبو يُوسُفَ عليه الْأَرْشُ كَامِلًا
كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ على قَوْلِ أبي يُوسُفَ فيها حُكُومَةَ الْعَدْلِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ فَوَّتَ السِّنَّ وَالنَّابِتُ لَا يَكُونُ عِوَضًا عن الْفَائِتِ لِأَنَّ هذا الْعِوَضَ من اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الضَّمَانُ الْوَاجِبُ كَمَنْ أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ
ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَزَقَ الْمُتْلَفَ عليه مِثْلَ الْمُتْلَفِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ السِّنَّ يُسْتَأْنَى بها فَلَوْلَا أَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِالنَّبَاتِ لم يَكُنْ لِلِاسْتِينَاءِ فيه مَعْنًى لِأَنَّهُ لَمَّا نَبَتَتْ فَقَدْ عَادَتْ الْمَنْفَعَةُ وَالْجَمَالُ وَقَامَتْ الثَّانِيَةُ مَقَام الْأُولَى كَأَنَّ الْأُولَى قَائِمَةٌ كَسِنِّ الصَّبِيِّ
هذا إذَا نَبَتَتْ بِنَفْسِهَا فَأَمَّا إذَا رَدَّهَا صَاحِبُهَا إلَى مَكَانِهَا فَاشْتَدَّتْ وَنَبَتَ عليها اللَّحْمُ فَعَلَى الْقَالِعِ الْأَرْشُ بِكَمَالِهِ لِأَنَّ الْمُعَادَةَ لَا يُنْتَفَعُ بها لِانْقِطَاعِ الْعُرُوقِ بَلْ يَبْطُلُ بِأَدْنَى شَيْءٍ فَكَانَتْ إعَادَتُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَلِهَذَا جَعَلَهَا مُحَمَّدٌ في حُكْمِ الْمَيْتَةِ حتى قال إنْ كانت أَكْثَرَ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ لم تَجُزْ الصَّلَاةُ مَعَهَا
وأبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَرَّقَ بين سِنِّ نَفْسِهِ وَسِنِّ غَيْرِهِ فَأَجَازَ الصَّلَاةَ في سِنِّ نَفْسِهِ دُونَ سِنِّ غَيْرِهِ
وَعَلَى هذا إذَا قَطَعَ أُذُنَهُ فَخَاطَهَا فَالْتَحَمَتْ أنه لَا يَسْقُطُ عنه الْأَرْشُ لِأَنَّهَا لَا تَعُودُ إلَى ما كانت عليه فَلَا يَعُودُ الْجَمَالُ
هذا إذَا نَبَتَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى صَحِيحَةً فَأَمَّا إذَا نَبَتَتْ مُعْوَجَّةً فَفِيهَا حُكُومَةُ الْعَدْلِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ نَبَتَتْ مُتَغَيِّرَةً بِأَنْ نَبَتَتْ سَوْدَاءَ أو حَمْرَاءَ أو خَضْرَاءَ أو صَفْرَاءَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ ما لو كانت قَائِمَةً فَتَغَيَّرَتْ بِالضَّرْبَةِ لِأَنَّ النَّابِتَ قام مَقَامَ
____________________

(7/315)


الذَّاهِبِ فَكَأَنَّ الْأُولَى قَائِمَةٌ وَتَغَيَّرَتْ وقد بَيَّنَّا حُكْمَ ذلك
وَأَمَّا سِنُّ الصَّبِيِّ إذَا ضُرِبَ عليها فَسَقَطَتْ فَإِنْ كان قد ثُغِرَ فَسِنُّهُ وَسِنُّ الْبَالِغِ سَوَاءٌ وقد ذَكَرْنَاهُ
وَإِنْ كان قبل أَنْ يُثْغَرَ فَإِنْ لم تَنْبُتْ أو نَبَتَتْ مُتَغَيِّرَةً فَكَذَلِكَ وَإِنْ نَبَتَتْ صَحِيحَةً فَلَا شَيْءَ فيها في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه كما في سِنِّ الْبَالِغِ وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فيها حُكُومَةُ الْأَلَمِ
فَرَّقَ أبو يُوسُفَ على ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بين سِنِّ الْبَالِغِ وَالصَّبِيِّ لِأَنَّ سِنَّ الصَّبِيِّ إذَا لم يُثْغَرْ لَا نَبَاتَ له الأعلى شَرَفِ السُّقُوطِ بِخِلَافِ سِنِّ الْبَالِغِ وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ مَسْأَلَةِ الشَّجَّةِ إذَا الْتَحَمَتْ وَنَبَتَ الشَّعْرُ عليها أَنَّهُ لَا شَيْءَ على الشَّاجِّ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ عليه الرَّحْمَةُ فيها حُكُومَةُ الْأَلَمِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عليه الرَّحْمَةُ فيها أُجْرَةُ الطَّبِيبِ وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي في بَيَانِ حُكْمِ الشِّجَاجِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ ضَرَبَ على سِنِّ إنْسَانٍ فَتَحَرَّكَ فَأَجَّلَهُ الْقَاضِي سَنَةً ثُمَّ جاء الْمَضْرُوبَ وقد سَقَطَتْ سِنُّهُ فقال إنَّمَا سَقَطَتْ من ضَرْبَتِك وقال الضَّارِبُ ما سَقَطَتْ بِضَرْبَتِي فَالْمَضْرُوبُ لَا يَخْلُو إمَّا إن جاء في السَّنَةِ وَإِمَّا إن جاء بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ
فَإِنْ جاء في السَّنَةِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الضَّارِبِ وفي الِاسْتِحْسَانِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَضْرُوبِ
وَلَوْ شَجَّ رَأْسَ إنْسَانٍ مُوضِحَةً فَصَارَتْ مُنَقِّلَةً فَاخْتَلَفَا في ذلك فقال الْمَشْجُوجُ صَارَتْ مُنَقِّلَةً بِضَرْبَتِك وَعَلَيْك أَرْشُ الْمُنَقِّلَةِ
وقال الشَّاجُّ لَا بَلْ صَارَتْ مُنَقِّلَةً بِضَرْبَةٍ أُخْرَى حَدَثَتْ فَالْقِيَاسُ على السِّنِّ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الشَّاجِّ وفي الِاسْتِحْسَانِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَشْجُوجِ
والقياس ( ( ( وللقياس ) ) ) وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَضْرُوبَ وَالْمَشْجُوجَ يَدَّعِيَانِ على الضَّارِبِ وَالشَّاجِّ الضَّمَانَ وَهُمَا يُنْكِرَانِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مع يَمِينِهِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ وَقَعَ التَّعَارُضَ بين قَوْلَيْهِمَا وَالضَّمَانُ لم يَكُنْ وَاجِبًا فَلَا تَجِبُ بِالشَّكِّ
وَإِلَى هذا أَشَارَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ فقال اُسْتُحْسِنَ في السِّنِّ لِوُرُودِ الْأَثَرِ وَالْأَثَرُ عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ من الْفَرْقِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْمَضْرُوبِ في مَسْأَلَةِ السِّنِّ لِأَنَّ سَبَبَ السُّقُوطِ حَصَلَ من الضَّارِبِ وهو الضَّرْبُ الْمُحَرِّكُ لِأَنَّ التَّحَرُّكَ سَبَبُ السُّقُوطِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمَضْرُوبِ بِخِلَافِ الشَّجَّةِ لِأَنَّ الشَّجَّةَ الْمُوضِحَةُ لَا تَكُون سَبَبًا لِصَيْرُورَتِهَا مُنَقِّلَةً فلم يَكُنْ الظَّاهِرُ شَاهِدًا له وَالْقَوْلُ قَوْلُ من يَشْهَدُ له الظَّاهِرُ
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا جَرَى التَّأْجِيلُ حَوْلًا في السِّنِّ وَالتَّأْجِيلُ مُدَّةَ الْحَوْلِ لِانْتِظَارِ ما يَكُونُ من الضَّرْبَةِ فإذا جاء في الْحَوْلِ وقد سَقَطَتْ سِنُّهُ فَقَدْ جاء بِمَا وَقَعَ له الِانْتِظَارُ من الضَّرْبَةِ في مُدَّةِ الِانْتِظَارِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا له
فَأَمَّا الشَّجَّةُ فلم يُقَدَّرْ في انْتِظَارِهَا وَقْتٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الشَّاجِّ في قَدْرِ الشَّجَّةِ وَإِنْ جاء بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الضَّارِبِ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ مُدَّةَ الْحَوْلِ لِاسْتِقْرَارِ حَالِ السِّنِّ لِظُهُورِ حَالِهَا في هذه الْمُدَّةِ عَادَةً فإذا لم يجىء ( ( ( يجئ ) ) ) دَلَّ على سَلَامَتِهَا عن السُّقُوطِ بِالضَّرْبَةِ فَكَانَ السُّقُوطُ مُحَالًا إلَى سَبَبٍ حَادِثٍ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلضَّارِبِ أو لم يَشْهَدْ لِأَحَدِهِمَا فَيَبْقَى الْمَضْرُوبُ مُدَّعِيًا ضَمَانًا على الضَّارِبِ وهو يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أو يَقَعُ التَّعَارُضَ فَيَقَعُ الشَّكُّ في وُجُوبِ الضَّمَانِ وَالضَّمَانُ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ وَكَذَا على الْوَجْهِ الثَّانِي زَمَانُ ما بَعْدَ الْحَوْلِ لم يُجْعَلْ لِانْتِظَارِ حَالِ السِّنِّ فَاحْتُمِلَ السُّقُوطُ من ضَرْبَةٍ أُخْرَى من غَيْرِهِ وَاحْتُمِلَ من ضَرْبَتِهِ فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ مع وُقُوعِ الشَّكِّ في وُجُوبِهِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَأَمَّا الشِّجَاجُ فَالْكَلَامُ في الشَّجَّةِ يَقَعُ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ حُكْمِهَا بِنَفْسِهَا وَالثَّانِي في بَيَانِ حُكْمِهَا بِغَيْرِهَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُوضِحَةُ إذَا بَرِئَتْ وَبَقِيَ لها أَثَرٌ فَفِيهَا خَمْسٌ من الْإِبِل وفي الْهَاشِمَة عَشْرٌ وفي الْمُنَقِّلَةِ خمسة ( ( ( خمس ) ) ) عشر وفي الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ
هَكَذَا رُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال في الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ من الْإِبِلِ وفي الْهَاشِمَةِ عَشْرٌ وفي الْمُنَقِّلَةِ خمسة ( ( ( خمس ) ) ) عشر وفي الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَلَيْسَ فِيمَا قبل الْمُوضِحَةِ من الشِّجَاجِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ
وَإِنْ لم يَبْقَ لها أَثَرٌ بِأَنْ الْتَحَمَتْ وَنَبَتَ عليها الشَّعْرُ فَلَا شَيْءَ فيها في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
وقال أبو يُوسُفَ عليه حُكُومَةُ الْأَلَمِ
وقال مُحَمَّدٌ عليه أُجْرَةُ الطَّبِيبِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ أُجْرَةَ الطَّبِيبِ إنَّمَا لَزِمَتْهُ بِسَبَبِ هذه الشَّجَّةِ فَكَأَنَّهُ أَتْلَفَ عليه هذا الْقَدْرَ من الْمَالِ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشَّجَّةَ قد تَحَقَّقَتْ وَلَا سَبِيلَ إلَى إهْدَارِهَا وقد تَعَذَّرَ إيجَابُ أَرْشِ الشَّجَّةِ فَيَجِبُ أَرْشُ الْأَلَمِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأَرْشَ إنَّمَا يَجِبُ بِالشَّيْنِ الذي يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ بِالْأَثَرِ وقد زَالَ ذلك فَسَقَطَ الْأَرْشُ

____________________

(7/316)


وَالْقَوْلُ بِلُزُومِ حُكُومَةِ الْأَلَمِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْأَلَمِ لَا ضَمَانَ له في الشَّرْعِ كَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا ضَرْبًا وَجِيعًا وَكَذَا إيجَابُ أُجْرَةِ الطَّبِيبِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لَا تَتَقَوَّمُ مَالًا بِالْعَقْدِ أو شُبْهَةِ الْعَقْدِ ولم يُوجَدْ في حَقِّ الْجَانِي الْعَقْدُ وَلَا شُبْهَتُهُ فَلَا يَجِبُ عليه أُجْرَةُ الطَّبِيبِ
وَأَمَّا حُكْمُهَا بِغَيْرِهَا بِأَنْ شَجَّ رَأْسَ إنْسَانٍ مُوضِحَةً فَسَقَطَ شَعْرُ رَأْسِهِ أو ذَهَبَ عَقْلُهُ أو بَصَرُهُ أو سَمْعُهُ أو كَلَامُهُ أو شَمُّهُ أو ذَوْقُهُ أو جِمَاعُهُ أو إيلَادُهُ فَلَا شَكَّ في أَنَّهُ يَجِبُ عليه أَرْشُ هذه الْأَشْيَاءَ
وَهَلْ يَجِبُ عليه أَرْشُ الْمُوضِحَةِ أَمْ يَدْخُلُ في أَرْشِهَا عِنْدَهُمَا لَا يَدْخُلُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ إلَّا في الشَّعْرِ وَالْعَقْلِ وَلَا يَدْخُلُ فِيمَا وَرَاءَ ذلك
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْإِمْلَاءِ يَدْخُلُ في الْكُلِّ إلَّا في الْبَصَرِ
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَدْخُلُ إلَّا في الشَّعْرِ فَقَطْ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَدْخُلُ في شَيْءٍ من ذلك أَصْلًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الشَّجَّةَ وَإِذْهَابَ الشَّعْرِ وَالْعَقْلِ وَغَيْرِهِمَا جِنَايَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ فَلَا يَدْخُلُ إحْدَاهُمَا في الْأُخْرَى كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ من قَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَنَحْوِ ذلك
وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمَا جِنَايَتَانِ اخْتَلَفَ مَحَلُّهُمَا وَالْمَقْصُودُ مِنْهُمَا فَلَا يَدْخُلُ أَرْشُ إحْدَاهُمَا في الْأُخْرَى كَأَرْشِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ السَّمْعَ وَالْكَلَامَ وَالشَّمَّ وَالذَّوْقَ وَنَحْوَهَا من الْبَوَاطِنِ فَيَدْخُلَ فيها أَرْشُ الْمُوضِحَةِ كَالْعَقْلِ وَأَمَّا الْبَصَرُ فَظَاهِرٌ فَلَا يَدْخُلُ فيه الْمُوضِحَةُ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ
وَهَذَا الْفَرْقُ يَبْطُلُ بِالشَّعْرِ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ وَيَدْخُلُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فيه
لولأبي ( ( ( ولأبي ) ) ) حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْفَرْقُ بين الشَّعْرِ وَالْعَقْلِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا وَوَجْهُهُ أَنَّ في الشَّعْرِ الْجِنَايَةَ حَلَّتْ في عُضْوٍ وَاحِدٍ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ
وَأَمَّا اتِّحَادُ الْعُضْوِ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّ كُلَّ ذلك حَصَلَ في الرَّأْسِ
وَأَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه إلَّا الشَّجَّةُ
وَأَمَّا اتِّحَادُ السَّبَبِ فَلِأَنَّ دِيَةَ الشَّعْرِ تَجِبُ بِفَوَاتِ الشَّعْرِ وَأَرْشُ الْمُوضِحَةُ يَجِبُ بِفَوَاتِ جُزْءٍ من الشَّعْرِ فَكَانَ سَبَبُ وُجُوبِهَا وَاحِدًا فَيَدْخُلُ الْجُزْءُ في الْكُلِّ كما إذَا قَطَعَ رَجُلٌ أُصْبُعَ رَجُلٍ فَشُلَّتْ الْيَدُ أن أَرْشَ الْأُصْبُعِ يَدْخُلُ في دِيَةِ الْيَدِ
كَذَا هذا
وفي الْعَقْلِ الْوَاجِبِ دِيَةُ النَّفْسِ من حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ جَمِيعَ مَنَافِعِ النَّفْسِ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَكَانَ تَفْوِيتُهُ تَفْوِيتَ النَّفْسِ مَعْنًى فَكَانَ الْوَاجِبُ دِيَةَ النَّفْسِ فَيَدْخُلَ فيه أَرْشُ الْمُوضِحَةِ كما إذَا شَجَّ رَأْسَهُ مُوضِحَةً فَسَرَى إلَى النَّفْسِ فَمَاتَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَنَحْوُهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ السَّبَبُ وَالْمَحَلُّ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ في كل وَاحِدٍ منها ( ( ( منهما ) ) ) تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ منه فَاخْتَلَفَ الْمَحَلُّ وَالسَّبَبُ وَالْمَقْصُودُ فَامْتَنَعَ التَّدَاخُلَ وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قَضَى في شَجَّةٍ وَاحِدَةٍ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ فَإِنْ اخْتَلَفَا في ذَهَابِ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَالْكَلَامِ وَالشَّمِّ فَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهَا اعْتِرَافُ الْجَانِي وَتَصْدِيقُ الْمَجْنِيِّ عليه أو نُكُولُهُ عن الْيَمِينِ وقد يُعْرَفُ الْبَصَرُ بِنَظَرِ الْأَطِبَّاءِ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ طَبِيبَانِ عَدْلَانِ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ تُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ
وقد قِيلَ يُمْتَحَنُ بِإِلْقَاءِ حَيَّةٍ بين يَدَيْهِ وفي السَّمْعِ يُسْتَغْفَلُ الْمُدَّعِي كما رُوِيَ عن إسْمَاعِيلَ بن حَمَّادِ بن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ امْرَأَةً فَادَّعَتْ عِنْدَهُ ذَهَابَ سَمْعِهَا فَتَشَاغَلَ عنها بِالنَّظَرِ في الْقَضَاءِ ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيْهَا وقال يا هذه غَطِّي عَوْرَتَكِ فَجَمَعَتْ ذَيْلَهَا فَعَلِمَ أنها كَاذِبَةٌ في دَعْوَاهَا وفي الْكَلَامِ يُسْتَغْفَلُ أَيْضًا وفي الشَّمِّ يُخْتَبَرُ بِالرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ وَسَوَاءٌ ذَهَبَ جَمِيعُ هذه الْأَشْيَاءِ بِالشَّجَّةِ أو ذَهَبَ بَعْضُهَا دُونَ الْبَعْضَ الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ في هذا سَوَاءٌ لِأَنَّ التَّدَاخُلَ فِيمَا يَجْرِي فيه التَّدَاخُلُ ليس لِلْكَثْرَةِ بَلْ لِمَا ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَلَا تَدْخُلُ دِيَاتُ هذه الْأَشْيَاءِ بَعْضُهَا في بَعْضٍ إلَّا عِنْدَ السِّرَايَةِ أنه يَسْقُطُ ذلك كُلُّهُ وَعَلَيْهِ دِيَةُ النَّفْسِ لَا غَيْرُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من هذه الْأَشْيَاءِ من السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِهَا أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمَحَلٍّ مَخْصُوصٍ وَمَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ فَلَا يُجْعَلُ تَبَعًا لِصَاحِبِهِ في الْأَرْشِ وَإِنَّمَا دَخَلَتْ أُرُوشُهَا في دِيَةِ النَّفْسِ عِنْدَ السِّرَايَةِ لِأَنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ فَتَدْخُلُ أُرُوشُهَا في دِيَةِ النَّفْسِ
ثُمَّ إنْ كان الْأَوَّلُ خَطَأً تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ وَإِنْ كان عَمْدًا فَدِيَةُ النَّفْسِ في مَالِهِ وَكُلُّ ذلك في ثَلَاثِ سِنِينَ وَسَوَاءٌ كانت الشَّجَّةُ مُوضِحَةً أو هَاشِمَةً أو مُنَقِّلَةً أو آمَّةً فَالشِّجَاجُ كُلُّهَا في التَّدَاخُلِ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ وَسَوَاءٌ قَلَّتْ الشِّجَاجُ أو كَثُرَتْ بَعْدَ أَنْ لَا يُجَاوِزَ أَرْشُهَا الدِّيَةَ حتى لو كانت آمَّتَيْنِ أو ثَلَاثَ أَوَامَّ وَذَهَبَ منها الشَّعْرُ أو الْعَقْلُ يَدْخُلُ أَرْشُهَا في الشَّعْرِ وَالْعَقْلِ
وَإِنْ كانت أَرْبَعَ أَوَامَّ
____________________

(7/317)


يَدْخُلُ قَدْرُ الدِّيَةِ لَا غَيْرُ وَيَجِبُ فيها دِيَةٌ وَثُلُثُ دِيَةٍ لِأَنَّ الْكَثِيرَ لَا يَتْبَعُ الْقَلِيلَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ
وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رحمة اللَّهُ عليه دِيَتَانِ وَثُلُثُ دِيَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَرَى التَّدَاخُلَ في الشِّجَاجِ أَصْلًا وَرَأْسًا
وَلَوْ سَقَطَ بِالْمُوضِحَةِ بَعْضُ شَعْرِ رَأْسِهِ يُنْظَرُ إلَى أَرْشِ الْمُوضِحَةِ وَإِلَى حُكُومَةِ الْعَدْلِ في الشَّعْرِ فَإِنْ كَانَا سَوَاءً لَا يَجِبُ إلَّا أَرْشُ الْمُوضِحَةِ وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ يَدْخُلُ الْأَقَلُّ في الْأَكْثَرِ أَيُّهُمَا كان لِأَنَّهُمَا يَجِبَانِ لِمَعْنًى وَاحِدٍ فَيَتَدَاخَلُ الْجُزْءُ في الْجُمْلَةِ
وَلَوْ كانت الشَّجَّةُ في حَاجِبِهِ فَسَقَطَ ولم يَنْبُتْ يَدْخُلُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ في أَرْشِ الْحَاجِبِ وهو نِصْفُ الدِّيَةِ كما يَدْخُلُ في أَرْشِ الشَّعْرِ لِمَا قُلْنَا وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ من الشِّجَاجِ الْخَطَأِ
فَأَمَّا إذَا كانت الشَّجَّةُ عَمْدًا فَذَهَبَ منها الْعَقْلُ أو الشَّعْرُ أو السَّمْعُ أو غَيْرُهُ فَفِيهِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَمِمَّا يُلْحَقُ بِمَسَائِلِ التَّدَاخُلِ ما إذَا قُطِعَتْ الْيَدُ وَفِيهَا أُصْبُعٌ وَاحِدَةٌ أو أُصْبُعَانِ أو ثَلَاثٌ أو أَكْثَرُ من ذلك أو أَقَلُّ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّهُ إذَا قُطِعَ الْكَفُّ وَفِيهَا ثَلَاثُ أَصَابِعً فَصَاعِدًا تَجِبُ دِيَةُ الْأَصَابِعِ وَلَا شَيْءَ في الْكَفِّ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّ الْكَفَّ تَبَعٌ لِجَمِيعِ الْأَصَابِعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا قُطِعَ الْكَفُّ يَجِبُ عليه أَرْشُ الْأَصَابِعِ لَا غَيْرُ وَلَا يَجِبُ لِأَجْلِ الْكَفِّ شَيْءٌ فإذا بَقِيَ أَكْثَرُ الْأَصَابِعِ فَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ وَإِنْ بَقِيَ من الْكَفِّ أَقَلُّ من ثَلَاثِ أَصَابِعً يَجِبُ أَرْشُ ما بَقِيَ منها وَإِنْ كان مَفْصِلًا وَاحِدًا وَلَا يَجِبُ في الْكَفِّ شَيْءٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَالْأَصْلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا بَقِيَ من الْأَصَابِعِ شَيْءٌ له أَرْشٌ مَعْلُومٌ وَلَوْ مَفْصِلًا وَاحِدًا دخل أَرْشُ الْيَدِ فيه حتى لو لم يَكُنْ في الْكَفِّ إلَّا ثُلُثُ مَفْصِلٍ من أُصْبُعٍ فيها ثَلَاثُ مَفَاصِلَ فَقَطَعَ إنْسَانٌ الْكَفَّ فَعَلَيْهِ ثُلُثُ خُمُسِ دِيَةِ الْيَدِ
وَلَوْ كان فيها أصبع وَاحِدَةٌ فَعَلَيْهِ خُمُسَا دِيَةِ الْيَدِ وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى في الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عنهما يَدْخُلُ الْقَلِيلُ في الْكَثِيرِ أَيُّهُمَا كان فَيُنْظَرُ إلَى حُكُومَةِ الْكَفِّ وَإِلَى أَرْشِ ما بَقِيَ من الْأَصَابِعِ فَيَدْخُلُ أَقَلُّهُمَا في أَكْثَرِهِمَا أَيُّهُمَا كان لِأَنَّ الْقَلِيلَ يَتْبَعُ الْكَثِيرَ لَا عَكْسًا فَيَدْخُلُ الْقَلِيلُ في الْكَثِيرِ وَلَا يَدْخُلُ الْكَثِيرُ في الْقَلِيلِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ ما بَقِيَ من الْأَصَابِعِ أو من مَفَاصِلِهَا فَهُوَ أَصْلٌ لِأَنَّ له أَرْشًا مُقَدَّرًا وَالْكَفُّ ليس لها أَرْشٌ مُقَدَّرٌ وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِالْأَصَابِعِ فَيَتْبَعُهَا في أَرْشِهَا كما يَتْبَعُ جَمِيعَ الْأَصَابِعِ أو أَكْثَرَهَا
وَنَظِيرُ هذا ما قالوا في الْقَسَامَةِ إنه ما بَقِيَ وَاحِدٌ من أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فَالْقَسَامَةُ عليهم لَا على الْمُشْتَرِينَ
وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ لِوَلَدِ فُلَانٍ أَنَّهُ ما بَقِيَ له وَلَدٌ من صُلْبِهِ وَإِنْ كان وَاحِدًا لَا يَدْخُلُ وَلَدُ الْوَلَدِ في الْوَصِيَّةِ
وقال أبو يُوسُفَ إذَا قَطَعَ كَفًّا لَا أَصَابِعَ فيها فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ لَا يَبْلُغُ بها أَرْشَ أُصْبُعٍ لِأَنَّ الواحد ( ( ( الواحدة ) ) ) يَتْبَعُهَا ال كف في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالتَّبَعُ لَا يُسَاوِي الْمَتْبُوعَ في الْأَرْشِ
وَلَوْ قَطَعَ الْيَدَ مع الذِّرَاعِ من الْمَفْصِلِ خَطَأً فَفِي الْكَفِّ مع الْأَصَابِعِ الدِّيَةُ وفي الذِّرَاعِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ في قَوْلِهِمَا
وقال أبو يُوسُفَ تَجِبُ دِيَةُ الْيَدِ وَالذِّرَاعُ تَبَعٌ
وهو قَوْلُ ابْنِ أبي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ
وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وفي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وفي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَالْيَدُ عِبَارَةٌ عن الْعُضْوِ الْمَخْصُوصِ من رؤوس الْأَصَابِعِ إلَى الْمَنْكِبِ وَلِأَنَّ ما ليس له أَرْشٌ مُقَدَّرٌ إذَا اتَّصَلَ بها ( ( ( بما ) ) ) له أَرْشٌ مُقَدَّرٌ يَتْبَعُهُ في الْأَرْشِ كَالْكَفِّ مع الْأَصَابِعِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا تَجِبُ في الْأَصَابِعِ وَالْكَفُّ تَابِعَةٌ لِلْأَصَابِعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا أَفْرَدَ الْأَصَابِعَ بِالْقَطْعِ يَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ وَلَوْ قَطَعَهَا مع الْكَفِّ لَا يَجِبُ إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ أَيْضًا فَلَوْ جَعَلَ الذِّرَاعَ تَبَعًا لَكَانَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِلْأَصَابِعِ وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِلْكَفِّ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا عُضْوٌ فَاصِلٌ وهو الْكَفُّ فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لها وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي لِأَنَّ الْكَفَّ تَابِعَةٌ في نَفْسِهَا فَلَا تَسْتَتْبِعُ غَيْرَهَا
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا قَطَعَ الْيَدَ من الْمَنْكِبِ وَالرِّجْلَ من الْوَرِكِ أو قَطَعَ الْيَدَ من الْعَضُدِ وَالرِّجْلَ من الْفَخِذِ وَالْأَصْلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ أَنَّ أَصَابِعَ الْيَدِ لَا يَتْبَعُهَا إلَّا الْكَفَّ فَلَا يَدْخُلُ في أَرْشِهَا غير أَرْشِ الْكَفِّ
وَكَذَلِكَ أَصَابِعُ الرِّجْلِ لَا يَتْبَعُهَا غَيْرُ الْقَدَمِ فَلَا يَدْخُلُ في أَرْشِهَا غَيْرُ أَرْشِ الْقَدَمِ وَالْأَصْلُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَابْنِ أبي لَيْلَى أَنَّ ما فَوْقَ الْكَفِّ من الْيَدِ تَبَعٌ وَكَذَا ما فَوْقَ الْقَدَمِ من الرِّجْلِ تَبَعٌ فَيَدْخُلَ أَرْشُ التَّبَعِ في الْمَتْبُوعِ كما يَدْخُلُ أَرْشُ الْكَفِّ في الْأَصَابِعِ
وَأَمَّا الْجِرَاحُ فَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ لِمَا رُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ
____________________

(7/318)


وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال في الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ فَإِنْ نَفَذَتْ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَهُمَا جَائِفَتَانِ وَفِيهِمَا ثُلُثَا الدِّيَةِ
وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ حَكَمَ في جَائِفَةٍ نَفَذَتْ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ خَالَفَهُ في ذلك أَحَدٌ منهم فَيَكُونُ إجْمَاعًا
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا رَمَى امْرَأَةً بِحَجَرٍ فَأَصَابَ فَرْجَهَا فَأَفْضَاهَا بِهِ بِأَنْ جَعَلَ مَوْضِعَ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَاحِدًا وَهِيَ تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ أَنَّ عليه ثُلُثَ الدِّيَةِ لِأَنَّ هذا في مَعْنَى الْجَائِفَةِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّ الْمُفْضَاةَ لَا يَخْلُو إمَّا إن كانت أَجْنَبِيَّةً وَإِمَّا إن كانت زَوْجَتَهُ
وَالْإِفْضَاءُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْآلَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْحَجَرِ أو بِالْخَشَبِ أو الْأُصْبُعِ وما يَجْرِي مَجْرَاهُ فَإِنْ كانت أَجْنَبِيَّةً وَالْإِفْضَاءُ بِالْآلَةِ فَإِنْ كانت مُطَاوِعَةً ولم يُوجَدْ دَعْوَى الشُّبْهَةِ لَا من الرَّجُلِ وَلَا من الْمَرْأَةِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ لِوُجُودِ الزِّنَا مِنْهُمَا وَلَا مَهْرَ على الرَّجُلِ لِأَنَّ الْعَقْرَ مع الْحَدِّ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا أَرْشَ لها بِالْإِفْضَاءِ سَوَاءٌ كانت تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ أو لَا تَسْتَمْسِكُ لِأَنَّ التَّلَفَ تَوَلَّدَ من فِعْلٍ مَأْذُونٍ فيه من قِبَلهَا فَلَا يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ كما لو أَذِنَتْ بِقَطْعِ يَدِهَا فَقُطِعَتْ لَا ضَمَانَ على الْقَاطِعِ كَذَا هذا
وَإِنْ كان الرَّجُلُ يَدَّعِي الشُّبْهَةَ سَقَطَ عنه الْحَدُّ وَعَنْهَا أَيْضًا وَعَلَى الزَّوْجِ الْعَقْرُ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَخْلُو من إيجَاب حَدٍّ أو غَرَامَةٍ وَلَا أَرْشَ لها بِالْإِفْضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كانت مُسْتَكْرَهَةً فَإِنْ لم يَدَّعِ الرَّجُلُ الشُّبْهَةَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِوُجُودِ الزِّنَا منه وَلَا حَدَّ عليها لِعَدَمِ الزِّنَا منها وَلَا عَقْرَ على الرَّجُلِ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عليه وَالْحَدُّ مع الْعَقْرِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَعَلَى الرَّجُلِ الْأَرْشُ بِالْإِفْضَاءِ لِعَدَمِ الرِّضَا منها بِذَلِكَ
ثُمَّ إنْ كانت تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ فَفِيهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ جَائِفَةٌ وَإِنْ كانت لَا تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ فَفِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ لِوُجُودِ إتْلَافِ الْعُضْوِ بِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْحَبْسِ وَإِنْ كان الرَّجُلُ يَدَّعِي الشُّبْهَةَ سَقَطَ الْحَدُّ عنه لِلشُّبْهَةِ وَعَنْهَا أَيْضًا لِوُجُودِ الْإِكْرَاهِ وَلَهَا الْأَرْشُ بِالْإِفْضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا
ثُمَّ إنْ كانت تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ فَلَهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ لِأَنَّهَا جَائِفَةٌ وَكَمَالُ الْمَهْرِ وَإِنْ كانت لَا تَسْتَمْسِكُ فَلَهَا الدِّيَةُ وَلَا مَهْرَ لها في قَوْلِهِمَا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَهْرُ وَالدِّيَةُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْمَهْرِ وَالدِّيَةِ مُخْتَلِفٌ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِإِتْلَافِ الْمَنْفَعَةِ وَالدِّيَةَ تَجِبُ بِإِتْلَافِ الْعُضْوِ فَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا في الْآخَرِ وَلِهَذَا لم يَدْخُلْ الْمَهْرُ في ثُلُثِ الدِّيَةِ فِيمَا إذَا كانت تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ حتى وَجَبَ عليه كَمَالُ الْمَهْرِ مع ثُلُثِ الدِّيَةِ
كَذَا هذا
وَلَهُمَا أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ مُتَّحِدٌ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ بِإِتْلَافِ هذا الْعُضْوِ والمقر ( ( ( والعقر ) ) ) يَجِبُ بِإِتْلَافِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ مُلْحَقَةٌ بِأَجْزَاءِ الْبُضْعِ فَكَانَ سَبَبُ وُجُوبِهِمَا وَاحِدًا فَكَانَ الْمَهْرُ عِوَضًا عن جُزْءٍ من الْبُضْعِ وَضَمَانُ الْجُزْءِ وَالْكُلِّ إذَا وُجِدَ السَّبَبُ وَاحِدٌ يَدْخُلُ ضَمَانُ الْجُزْءِ في ضَمَانِ الْكُلِّ كَالْأَبِ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ ابْنِهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْعَقْرُ وَيَدْخُلُ في قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِمَا قُلْنَا
كَذَا هذا
وَأَمَّا وُجُوبُ كَمَالِ الْمَهْرِ مع ثُلُثِ الدِّيَةِ حَالَةَ الِاسْتِمْسَاكِ فَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنهما لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بَلْ الْأَقَلُّ يَدْخُلُ في الْأَكْثَرِ كما يَدْخُلُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ في دِيَةِ الشَّعْرِ فَكَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مَمْنُوعَةً
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا على ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلَا يَلْزَمُ لِأَنَّ الْمُنَافِيَ لِضَمَانِ الْجُزْءِ هو ضَمَانُ كل الْعَيْنِ وَثُلُثُ الدِّيَةِ ضَمَانُ الْجُزْءِ وَضَمَانُ الْجُزْءِ لَا يَمْنَعُ ضَمَانَ جُزْءٍ وَاحِدٍ
هذا إذَا كان الْإِفْضَاءُ بِالْآلَةِ فَأَمَّا إذَا كان بِغَيْرِهَا من الْحَجَرِ وَنَحْوِهِ فَالْجَوَابُ في هذا الْفَصْلِ في جَمِيعِ وُجُوهِهِ كَالْجَوَابِ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ في الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ وَالْجَمْعُ بين الضَّمَانَيْنِ وَعَدَمُ الْجَمْعِ إلَّا أَنَّ الْأَرْشَ في هذا الْفَصْلِ يَجِبُ في مَالِهِ وفي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ لِأَنَّ الْإِفْضَاءَ بِالْآلَةِ يَكُونُ في مَعْنَى الْخَطَأِ وَبِغَيْرِهَا يَكُونُ عَمْدًا
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا وَجْهَ لِإِيجَابِ الْمَهْرِ في هذا الْفَصْلِ لِأَنَّ وُجُوبَهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ ولم يُوجَدْ وقال بَعْضُهُمْ يَجِبُ وَيُلْحَقُ غَيْرُ الْآلَةِ بِالْآلَةِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الإبضاع كما أُلْحِقَ الْإِيلَاجُ بِدُونِ الْإِنْزَالِ بِالْإِيلَاجِ مع الْإِنْزَالِ في وُجُوبِ الْحَدِّ وَغَيْرِهِ من الْأَحْكَامِ مع قِيَامِ شُبْهَةِ الْقُصُورِ في قَضَاءِ الشَّهْوَةِ تَفْخِيمًا لِشَأْنِ الْفُرُوجِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا كانت الْمَرْأَةُ أَجْنَبِيَّةً فَأَمَّا إذَا كانت زَوْجَتَهُ فَأَفْضَاهَا فَلَا شَيْءَ عليه سَوَاءٌ كانت تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ أو لَا تَسْتَمْسِكُ في قَوْلِهِمَا
وقال أبو يُوسُفَ إن كانت لَا تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ في مَالِهِ وَإِنْ كانت تَسْتَمْسِكُ فَعَلَيْهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ في مَالِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ مَأْذُونٌ في الْوَطْءِ لَا في الْإِفْضَاءِ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا في الْإِفْضَاءِ فَكَانَ مَضْمُونًا عليه
وَلَهُمَا أَنَّ الْوَطْءَ مَأْذُونٌ فيه شَرْعًا فَالْمُتَوَلِّدُ منه لَا يَكُونُ
____________________

(7/319)


مَضْمُونًا كَالْبَكَارَةِ
وَلَوْ وطىء زَوْجَتَهُ فَمَاتَتْ فَلَا شَيْءَ عليه في قَوْلِهِمَا
وقال أبو يُوسُفَ على عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ
وَجْهُ قَوْلِهِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في الْإِفْضَاءِ أَنَّهُ مَأْذُونٌ في الْوَطْءِ لَا في الْقَتْلِ وَهَذَا قَتْلٌ فَكَانَ مَضْمُونًا عليه إلَّا أَنَّ ضَمَانَ هذا على الْعَاقِلَةِ وَضَمَانَ الْإِفْضَاءِ في مَالِهِ لِأَنَّ الْإِفْضَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمُجَاوَزَةِ عن الْمُعْتَادِ فَكَانَ عَمْدًا فَكَانَ الْوَاجِبُ بِهِ في مَالِهِ
فَأَمَّا الْقَتْلُ فَغَيْرُ مَقْصُودٍ بهذا الْفِعْلِ في مَعْنَى الْخَطَأِ فتحمله ( ( ( فتتحمله ) ) ) الْعَاقِلَةُ
وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِمَا فَعَلَى نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في الْإِفْضَاءِ
وَلَوْ وَطِئَهَا فَكَسَرَ فَخِذَهَا ضَمِنَ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّ الْكَسْرَ لَا يَتَوَلَّدُ من الْوَطْءِ الْمَأْذُونِ فيه بَلْ هو فِعْلٌ مُبْتَدَأٌ فَكَانَ فِعْلًا تعديا ( ( ( متعديا ) ) ) مَحْضًا فَكَانَ مَضْمُونًا عليه
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا سَائِرُ جِرَاحِ الْبَدَنِ إذَا بَرِئَتْ وَبَقِيَ لها أَثَرٌ فَفِيهَا حُكُومَةُ الْعَدْلِ وَإِنْ لم يَبْقَ لها أَثَرٌ فَلَا شَيْءَ فيها في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه على ما بَيَّنَّا في الشَّجَّةِ
وَإِنْ مَاتَ فَالْجِرَاحَةُ لَا تَخْلُو إمَّا إن كانت من وَاحِدٍ وَإِمَّا إن كانت من عَدَدٍ فَإِنْ كانت من وَاحِدٍ فَفِيهَا الْقِصَاصُ إنْ كانت عَمْدًا وَالدِّيَةُ إنْ كانت خَطَأً وَإِنْ كانت من عَدَدٍ فَالْجِرَاحَةُ الْمُجْتَمِعَةُ من أَعْدَادٍ إمَّا إن كانت كُلَّهَا مَضْمُونَةً وَإِمَّا إنْ كان بَعْضُهَا مَضْمُونًا وَالْبَعْضُ غير مَضْمُونٍ فَإِنْ كان الْكُلُّ مَضْمُونًا بِأَنْ جَرَحَهُ رَجُلٌ جِرَاحَةً وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَةً أُخْرَى خَطَأً فَمَاتَ من ذلك كُلِّهِ كانت الدِّيَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ وَسَوَاءٌ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا جِرَاحَةً وَاحِدَةً وَالْآخَرُ جَرَحَهُ جِرَاحَتَيْنِ أو أَكْثَرَ لَا يُنْظَرُ إلَى عَدَدِ الْجِرَاحَاتِ وَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى الْجَارِحِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قد يَمُوتُ من جِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَسْلَمُ من عَشَرَةٍ وقد يَمُوتُ من عَشَرَةٍ وَيَسْلَمُ من وَاحِدَةٍ حتى لو جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا جِرَاحَةً وَاحِدَةً وَالْآخَرُ عَشْرَ جِرَاحَاتٍ فَمَاتَ من ذلك كانت الدِّيَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ إذَا جَرَحَهُ رَجُلٌ جِرَاحَةً وَاحِدَةً وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَتَيْنِ وَآخَرُ ثَلَاثًا فَمَاتَ من ذلك كُلِّهِ كانت الدِّيَةُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِمَا قُلْنَا
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا جَرَحَهُ رَجُلٌ جِرَاحَةً وَاحِدَةً وَجَرَحَهُ آخَرُ عَشْرَ جِرَاحَاتٍ فَعَفَا الْمَجْرُوحُ لِلْجَارِحِ عن جِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ من الْعَشْرِ وما يَحْدُثُ منها ثُمَّ مَاتَ من ذلك أَنَّ على صَاحِبِ الْجِرَاحَةِ الْوَاحِدَةِ نِصْفَ الدِّيَةِ وَعَلَى صَاحِبِ الْعَشَرَةِ الرُّبُعَ وَيَسْقُطُ الرُّبُعُ لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُ عَدَدِ الْجِرَاحَاتِ كانت الْجِرَاحَةُ الْوَاحِدَةُ كَالْعَشْرِ في الضَّمَانِ ثُمَّ لَمَّا عَفَا عن وَاحِدَةٍ من الْجِرَاحَاتِ الْعَشْرِ انْقَسَمَتْ الْعَشْرُ فَيَتَغَيَّرُ حُكْمُهَا فَصَارَ لِتِسْعَةٍ منها الرُّبْعُ وَلِلْوَاحِدَةِ الرُّبْعُ فَسَقَطَ بِالْعَفْوِ عن الْوَاحِدَةِ من الْعَشَرَةِ الرُّبُعُ وَبَقِيَ الرُّبُعُ تَبَعًا لِلتِّسْعَةِ
وَإِنْ كان الْبَعْضُ مَضْمُونًا وَالْبَعْضُ غير مَضْمُونٍ يَنْقَسِمُ الضَّمَانُ فَيَسْقُطُ بِقَدْرِ ما ليس بِمَضْمُونٍ وَيَبْقَى بِقَدْرِ الْمَضْمُونِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا جَرَحَ رَجُلًا جِرَاحَةً وَجَرَحَهُ سَبُعٌ فَمَاتَ من ذلك أن على الرَّجُلِ نِصْفَ الدِّيَةِ وَنِصْفُهَا هَدَرٌ لِأَنَّهُ مَاتَ بِجِرَاحَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مَضْمُونَةٌ وَالْأُخْرَى لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ فَانْقَسَمَ الضَّمَانُ فَسَقَطَ بِقَدْرِ غَيْرِ الْمَضْمُونِ وَبَقِيَ بِقَدْرِ الْمَضْمُونِ
وَكَذَلِكَ لو جَرَحَهُ الرَّجُلُ جِرَاحَتَيْنِ وَالسَّبُعُ جِرَاحَةً وَاحِدَةً أو جَرَحَهُ السَّبُعُ جِرَاحَتَيْنِ وَالرَّجُلُ جِرَاحَةً وَاحِدَةً فَمَاتَ من ذلك أَنَّهُ يَجِبُ على الرَّجُلِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَيُهْدَرُ النِّصْفُ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِكَثْرَةِ الْجِرَاحَةِ لِمَا بَيَّنَّا
وَكَذَلِكَ لو جَرَحَهُ رَجُلٌ جِرَاحَةً وَعَقَرَهُ سَبُعٌ وَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ وَخَرَجَ بِهِ خُرَّاجٌ وَأَصَابَهُ حَجَرٌ رَمَتْ بِهِ الرِّيحُ فَمَاتَ من ذلك فَعَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَيُهْدَرُ النِّصْفُ
وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يَجْعَلُ الْجِرَاحَاتِ التي ليس لها حُكْمٌ يَلْزَمُ أَحَدًا كَجِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مَاتَ من جِرَاحَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مَضْمُونَةٌ وَالْأُخْرَى غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فَيَلْزَمُ الرَّجُلَ نِصْفُ الدِّيَةِ وَيَبْطُلُ نِصْفُهَا سَوَاءٌ كَثُرَ عَدَدُ الْهَدْرِ أو قَلَّ هو كَجِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الْهَدْرَ له حُكْمٌ وَاحِدٌ فَصَارَ كَجِرَاحَاتِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ أنها في الْحُكْمِ كَجِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ لو جَرَحَهُ رَجُلٌ جِرَاحَةً وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَةً أُخْرَى ثُمَّ انْضَمَّ إلَى ذلك شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا حُكْمَ له يَلْزَمُ فَاعِلَهُ فإن على كل رَجُلٍ ثُلُثَ الدِّيَةِ وَيُهْدَرُ الثُّلُثُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْهَدْرَ من الْجِرَاحَاتِ وَإِنْ كَثُرَ فَهُوَ كَجِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ من جِرَاحَتَيْ الرَّجُلَيْنِ مَضْمُونَةٌ فَقَدْ مَاتَ من ثَلَاثِ جِرَاحَاتِ جِرَاحَتَانِ منها مَضْمُونَتَانِ وَجِرَاحَةٌ هَدَرٌ فَتُقَسَّمُ الدِّيَةُ أَثْلَاثًا فَيَسْقُطُ قَدْرُ ما ليس بِمَضْمُونٍ وهو الثُّلُثُ وَيَبْقَى قَدْرُ الْمَضْمُونِ وهو الثُّلُثَانِ فَإِنْ كان لِبَعْضِ الْجُنَاةِ جِنَايَاتٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَحْكَامِ فإنه يُقَسَّمُ ما يَخُصُّهُ على جِنَايَاتِهِ بعدما قَسَّمَ عَدَدَ الْجِنَايَةِ على أَحْكَامِ الْجِنَايَاتِ وَذَلِكَ نَحْوُ رَجُلٍ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ لِعِلَّةٍ بها
____________________

(7/320)


ثُمَّ إنَّ الْمَأْمُورَ جَرَحَ الْآمِرَ جِرَاحَةً أُخْرَى بِغَيْرِ أَمْرِهِ ثُمَّ جَرَحَهُ رَجُلَانِ آخَرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِرَاحَةً ثُمَّ عَقَرَهُ سَبُعٌ ثُمَّ نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ وَخَرَجَ بِهِ خُرَّاجٌ فَمَاتَ من ذلك كُلِّهِ تُقَسَّمُ الدِّيَةُ أَرْبَاعًا لِأَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ من أَرْبَعِ جِنَايَاتٍ لِأَنَّ الْهَدَرَ من الْجِنَايَاتِ لها حُكْمُ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ وَجِرَاحَتَا الْمَأْمُورِ وَإِنْ اخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا فَإِنَّهُمَا حصلتا ( ( ( حصلا ) ) ) من رَجُلٍ وَاحِدٍ فَلَا يَثْبُتُ لَهُمَا في حَقِّ شُرَكَائِهِ إلَّا حُكْمَ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ من أَرْبَعِ جِنَايَاتٍ فَكَانَتْ قِسْمَةُ الدِّيَةِ أَرْبَاعًا
هُدِرَ الرُّبْعُ منها وَبَقِيَتْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ تُقَسَّمُ على الْجِنَايَاتِ الثَّلَاثَةِ فَيَكُونُ على كل وَاحِدٍ منهم الرُّبْعُ ثُمَّ ما أَصَابَ الْمَأْمُور بِالْقَطْعِ تُقَسَّمُ حِصَّتُهُ وَهِيَ الرُّبْعُ على جِرَاحَتَيْهِ فَإِحْدَاهُمَا مَضْمُونَةٌ وَهِيَ التي فَعَلَهَا بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَجْرُوحِ وَالْأُخْرَى غَيْرُ مَضْمُونَةٍ وَهِيَ التي فَعَلَهَا بِأَمْرِهِ وَهِيَ الْقَطْعُ فَيَسْقُطُ بِقَدْرِ ما ليس بِمَضْمُونٍ وهو نِصْفُ الرُّبْعِ وهو الثُّمُنُ وَبَقِيَ قَدْرُ ما هو مَضْمُونُ وهو نِصْفُ الرُّبْعِ الْآخَرِ وهو الثُّمُنُ الْآخَرُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ عَشَرَةً أَنْ يَضْرِبُوا عَبْدَهُ أَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ منهم أَنْ يَضْرِبَهُ سَوْطًا فَضَرَبَهُ كُلُّ وَاحِدٍ منهم ما أَمَرَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ رَجُلٌ آخَرُ لم يَأْمُرْهُ سَوْطًا فَمَاتَ من ذلك كُلِّهِ فَعَلَى الذي لم يُؤْمَرْ أَرْشُ السَّوْطِ الذي ضَرَبَهُ من قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ وَعَلَيْهِ أَيْضًا جُزْءٌ من أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا من قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا أَحَدَ عَشْرَ سَوْطًا وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ
أَمَّا وُجُوبُ أَرْشِ السَّوْطِ الذي ضَرَبَهُ فَلِأَنَّهُ نَقَصَهُ بِالضَّرْبِ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ
وَأَمَّا اعْتِبَارُ قِيمَةِ الْعَبْدِ مَضْرُوبًا عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ فَلِأَنَّهُ ضَرَبَهُ بعد ما اُنْتُقِصَ من ضَرْبِ الْعَشَرَةِ وَذَلِكَ حَصَلَ من فِعْلِ غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ عليه وَإِنَّمَا عليه ضَمَانُ ما نَقَصَهُ سَوْطُهُ الْحَادِيَ عَشَرَ من قِيمَتِهِ لِذَلِكَ اُعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ وهو مَضْرُوبٌ عَشَرَةً فَيُقَوَّمُ وهو غَيْرُ مَضْرُوبٍ وَيُقَوَّمُ وهو مَضْرُوبٌ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ فَيَلْزَمُ الذي لم يُؤْمَرْ بِالضَّرْبِ ذلك الْقَدْرَ
وَأَمَّا وُجُوبُ جُزْءٍ من أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا من قِيمَتِهِ فَلِأَنَّهُ مَاتَ من أَحَدَ عَشَرَ سَوْطًا كُلُّ سَوْطٍ حَصَلَ مِمَّنْ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ حُكْمٌ في الْجُمْلَةِ وهو الْآدَمِيُّ فَانْقَسَمَ الضَّمَانُ على عَدَدِهِمْ ثُمَّ ما أَصَابَ الْعَشَرَةَ سَقَطَ عَنْهُمْ لِحُصُولِهِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ وما أَصَابَ الْحَادِيَ عَشَرَ ضَمِنَهُ الذي لم يُؤْمَرْ بِالضَّرْبِ لِأَنَّهُ ضَرَبَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ
وَأَمَّا اعْتِبَارُ تَضْمِينِهِ مَضْرُوبًا بِأَحَدَ عَشَرَ سَوْطًا فَلِأَنَّ الْبَعْضَ الْحَاصِلَ بِضَرْبِ الْعَشَرَةِ حَصَلَ بِفِعْلِ غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ عليه ضَمَانُهُ
وَأَمَّا السَّوْطُ الْحَادِيَ عَشَرَ فَلِأَنَّهُ قد ضَمِنَ نُقْصَانُهُ مَرَّةً فَلَا يَضْمَنُهُ ثَانِيًا وَإِنَّمَا لم يَدْخُلْ نُقْصَانُ السَّوْطِ فِيمَا وَجَبَ عليه من الْقِيمَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَمَانُ الْجُزْءِ وَضَمَانُ الْجُزْءِ إذَا تَعَلَّقَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ لَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا في الْآخَرِ بِخِلَافِ ما إذَا ضَرَبَهُ وَاحِدٌ وَمَاتَ من ذلك أنه يَضْمَنُ الْقِيمَةَ دُونَ النُّقْصَانِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ هُنَاكَ ضَمَانُ جُزْءٍ وَضَمَانُ كُلٍّ فَيَدْخُلُ ضَمَانُ الْجُزْءِ في ضَمَانِ الْكُلِّ لِاتِّحَادِ سَبَبِ الضَّمَانَيْنِ
هذا إذَا أَمَرَ الْمَوْلَى عَشَرَةً أَنْ يَضْرِبَهُ كُلُّ وَاحِدٍ منهم سَوْطًا فَإِنْ كان الْمَوْلَى هو الذي ضَرَبَهُ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ بيده ثُمَّ ضَرَبَهُ أَجْنَبِيٌّ سَوْطًا ثُمَّ مَاتَ من ذلك كُلِّهِ فَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ ما نَقَصَهُ السَّوْطُ الْحَادِيَ عَشَرَ من قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا بِعَشَرَةِ أَسْوَاطٍ وَعَلَيْهِ أَيْضًا نِصْفُ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا أَحَدَ عَشَرَ سَوْطًا
أَمَّا وُجُوبُ ضَمَانِ نُقْصَانِ السَّوْطِ وَاعْتِبَارُ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا بِعَشَرَةِ أَسْوَاطٍ فَلِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا وُجُوبُ نِصْفِ قِيمَتِهِ فَلِأَنَّهُ مَاتَ من سَوْطَيْنِ في الْحَاصِلِ لِأَنَّ ضَرْبَ الْأَسْوَاطِ الْعَشَرَةِ من الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ من رَجُلٍ وَاحِدٍ وَالْجِنَايَاتُ من وَاحِدٍ وَإِنْ كَثُرَتْ فَهِيَ في حُكْمِ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ من سَوْطَيْنِ سَوْطِ الْمَوْلَى وَسَوْطِ الْأَجْنَبِيِّ وَسَوْطُ الْمَوْلَى ليس بِمَضْمُونٍ وَسَوْطُ الْأَجْنَبِيِّ مَضْمُونٌ فَسَقَطَ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَثَبَتَ نِصْفُهَا
وَأَمَّا اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا أَحَدَ عَشَرَ سَوْطًا وَعَدَمُ دُخُولِ ضَمَانِ النُّقْصَانِ في ضَمَانِ الْقِيمَةِ فَلِمَا ذَكَرْنَا في الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ
رَجُلٌ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يَجْرَحَهُ جِرَاحَةً وَاحِدَةً فَجَرَحَهُ عَشْرَ جِرَاحَاتٍ وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَةً أُخْرَى وَاحِدَةً بِغَيْرِ أمره ( ( ( أمر ) ) ) ثُمَّ عَفَا الْمَجْرُوحُ لِصَاحِبِ الْعَشَرَةِ عن وَاحِدَةٍ من التِّسْعِ التي كانت بِغَيْرِ أَمْرِهِ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ من ذلك كُلِّهِ فَعَلَى صَاحِبِ الْجِرَاحَةِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَعَلَى صَاحِبِ الْعَشَرَةِ ثُمُنُ الدِّيَةِ لِأَنَّ نِصْفَ الدِّيَةِ على صَاحِبِ الْجِرَاحَةِ الْوَاحِدَةِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ تَعَلَّقَ بِصَاحِبِ الْعَشَرَةِ وَاحِدَةٌ منها بِأَمْرِ الْمَجْرُوحِ فَصَارَ عليه الرُّبُعُ ثُمَّ انْقَسَمَ ذلك بِالْعَفْوِ فَسَقَطَ نِصْفُهُ وهو الثُّمُنُ وَبَقِيَ عليه الثُّمُنُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْمَجْنِيُّ عليه حُرًّا
____________________

(7/321)


ذَكَرًا فَأَمَّا إذَا كان أُنْثَى حُرَّةً فإنه يُعْتَبَرُ ما دُونَ النَّفْسِ منها بِدِيَتِهَا كَدِيَتِهَا قَلَّ أو كَثُرَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال تُعَاقِلُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ فِيمَا كان أَرْشُهُ نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةِ كَالسِّنِّ وَالْمُوضِحَةِ أَيْ ما كان أَرْشُهُ هذا الْقَدْرَ فَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فيه سَوَاءٌ لَا فَضْلَ لِلرَّجُلِ على الْمَرْأَةِ
وَعَنْ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قال تُعَاقِلُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ دِيَتِهَا أَيْ أَرْشُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إلَى ثُلُثِ دِيَتِهَا سَوَاءٌ
وهو مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
وَيَرْوُونَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال تُعَاقِلُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ دِيَتِهَا وَهَذَا نَصٌّ لَا يَتَحَمَّلُ التَّأْوِيلَ
وَاحْتَجَّ ابن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه بِحَدِيثِ الْغُرَّةِ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى في الْجَنِينِ بِالْغُرَّةِ وَهِيَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ ولم يَفْصِلْ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بين الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَيَدُلُّ على اسْتِوَاءِ أَرْشِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى في هذا الْقَدْرِ وَلَنَا أَنَّهُ ينصف ( ( ( بنصف ) ) ) بَدَلِ النَّفْسِ بِالْإِجْمَاعِ وهو الدِّيَةُ فَكَذَا بَدَلُ ما دُونَ النَّفْسِ لِأَنَّ الْمُنَصِّفَ في الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ وهو الْأُنُوثَةُ وَلِهَذَا يُنَصَّفُ ما زَادَ على الثُّلُثِ فَكَذَا الثُّلُثُ وما دُونَهُ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِمَا قَالَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِقِلَّةِ الْأَرْشِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْجِنَايَةِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ
وَإِلَى هذا أَشَارَ رَبِيعَةُ بن عبد الرحمن الْمَعْرُوفُ بِرَبِيعَةِ الرَّأْيِ رَحِمَهُ اللَّهُ فإنه روي أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بن الْمُسَيِّبِ عن رَجُلٍ قَطَعَ أُصْبُعَ الْمَرْأَةِ فقال فيها عَشْرٌ من الْإِبِلِ قال فَإِنْ قَطَعَ ثَلَاثَةً قال فَفِيهَا ثَلَاثُونَ من الْإِبِل قال فَإِنْ قَطَعَ أَرْبَعَةً فقال عِشْرُونَ من الْإِبِل
فقال رَبِيعَةُ لَمَّا كَثُرَتْ جُرُوحُهَا وَعَظُمَتْ مُصِيبَتُهَا قَلَّ أَرْشُهَا فقال أَعِرَاقِيٌّ أنت قال لَا بَلْ جَاهِلٌ مُتَعَلِّمٌ أو عَالِمٌ مُتَبَيِّنٌ
فقال هَكَذَا السُّنَّةُ يا ابْنَ أَخِي وَعَنَى بِهِ سُنَّةَ زَيْدِ بن ثَابِتٍ رضي اللَّهُ عنه
أَشَارَ رَبِيعَةُ إلَى ما ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى وَقَبْلَهُ سَعِيدٌ حَيْثُ لم يَعْتَرِضْ عليه وَأَحَالَ الْحُكْمَ إلَى السُّنَّةِ
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ رِوَايَتَهُمْ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لم تَصِحَّ إذْ لو صَحَّتْ لَمَا اشْتَبَهَ الْحَدِيثُ على مِثْلِ سَعِيدٍ ولا حال الْحُكْمُ إلَى قَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا إلَى سُنَّةِ زَيْدٍ رضي الله عنه فَدَلَّ أَنَّ الرِّوَايَةَ لَا تَكَادُ تَثْبُتُ عنه عليه السلام
وَأَمَّا حَدِيثُ الْغُرَّةِ في الْجَنِينِ فَنَقُولُ بِمُوجَبِهِ أَنَّ الْحُكْمَ في أَرْشِ الْجَنِينِ لَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ في أَرْشِ الْمَوْلُودِ وَالْحَدِيثُ سَاكِتٌ عن بَيَانِهِ
ثُمَّ نَقُولُ اُحْتُمِلَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لم يَفْصِلْ في الْجَنِينِ بين الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لم يَفْصِلْ لِتَعَذُّرِ الْفَصْلِ لِعَدَمِ اسْتِوَاءِ الْخِلْقَةِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ
هذا الذي ذَكَرْنَا إذَا كان الْجَانِي حُرًّا وَالْمَجْنِيُّ عليه حُرًّا
فَأَمَّا إذَا كان الْجَانِي حُرًّا وَالْمَجْنِيُّ عليه عَبْدًا فَالْأَصْلُ فيه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه ما ذَكَرْنَا في الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ من الْحُرِّ فيه قَدْرٌ من الدِّيَةِ فَمِنْ الْعَبْدِ فيه ذلك الْقَدْرُ من قِيمَتِهِ سَوَاءٌ كان فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ المنعفة ( ( ( المنفعة ) ) ) أو الْجَمَالُ وَالزِّينَةُ في رِوَايَةٍ عنه وفي رِوَايَةٍ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ الْجَمَالُ وَالزِّينَةُ يَجِبُ النُّقْصَانُ وَعِنْدَهُمَا في جَمِيعِ ذلك يَجِبُ النُّقْصَانُ فَيُقَوَّمُ الْعَبْدُ مَجْنِيًّا عليه وَيُقَوَّمُ غير مَجْنِيٍّ عليه فَيَغْرَمُ الْجَانِي فَضْلَ ما بين الْقِيمَتَيْنِ وقد بَيَّنَّا وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ عنه ووجهه ( ( ( ووجه ) ) ) قَوْلِهِمَا في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ خَطَأً إذ كانت الْجِنَايَةُ فِيمَا في عمدة الْقِصَاصُ فَإِنْ كانت مِمَّا لَا قِصَاصَ في عمدة يَسْتَوِي فيه الْخَطَأُ وَالْعَمْدُ وقد مَرَّ بَيَانُ الْجِنَايَاتِ التي في عَمْدِهَا الْقِصَاصُ في عَمْدِهَا
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ الْجِنَايَةِ التي تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ وَاَلَّتِي لَا تَتَحَمَّلُهَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ من الْأَحْرَارِ نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةِ فَصَاعِدًا وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ في الذُّكُورِ وَمِائَتَانِ وَخَمْسُونَ في الْإِنَاثِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ
وَاخْتُلِفَ فِيمَا دُونَ ذلك في الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ
قال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ تَعَالَى يَكُونُ في مَالِ الْجَانِي وَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه ( ( ( رحمهم ) ) ) اللَّهُ تَعَالَى الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ التَّحَمُّلَ من الْعَاقِلَةِ لِتَفْرِيطٍ منهم في الْحِفْظِ وَالنُّصْرَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ
وَلَنَا أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى التَّحَمُّلَ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ من غَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا عَرَفْنَا ذلك بِقَضَاءِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِأَرْشِ الْجَنِينِ على الْعَاقِلَةِ وهو الْغُرَّةُ وَهِيَ نِصْفُ عشرة ( ( ( عشر ) ) ) الدِّيَةِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيمَا دُونَ ذلك على أَصْلِ الْقِيَاسِ وَلِأَنَّ ما دُونَ ذلك ليس له أَرْشٌ مُقَدَّرٌ بِنَفْسِهِ فَأَشْبَهَ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ فَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ كما لَا تَتَحَمَّلُ ضَمَانَ الْمَالِ وَلَا يَلْزَمُ على هذا أَرْشُ الْأُنْمُلَةِ فإن لها أَرْشًا
____________________

(7/322)


مُقَدَّرًا وهو ثُلُثُ دِيَةِ الأصبع فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَحَمَّلَهُ الْعَاقِلَةُ لِأَنَّ الْأُنْمُلَةَ ليس لها أَرْشٌ مُقَدَّرٌ بِنَفْسِهَا بَلْ بالأصبع فكان ( ( ( فكانت ) ) ) جزأ مِمَّا له أَرْشٌ مُقَدَّرٌ وهو الأصبع فَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ ثُمَّ ما كان أَرْشُهُ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ يُؤْخَذُ من الْعَاقِلَةِ في سَنَةٍ وَاحِدَةٍ اسْتِدْلَالًا بِكَمَالِ الدِّيَةِ فإن كُلَّ الدِّيَةِ تُؤْخَذُ من الْعَاقِلَةِ في ثَلَاثِ سِنِينَ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ذلك فإن سَيِّدَنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه قَضَى بِالدِّيَةِ على الْعَاقِلَةِ في ثَلَاثِ سِنِينَ ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ من الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ إجْمَاعًا فكل ما كان من الْأَرْشِ قَدْرُ ثُلُثِ الدِّيَةِ يُؤْخَذُ في سَنَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ في الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ هَكَذَا فإذا ازْدَادَ الْأَرْشُ على ثُلُثِ الدِّيَةِ فَقَدْرُ الثُّلُثِ يُؤْخَذُ في سَنَةٍ وَالزِّيَادَةُ في سَنَةٍ أُخْرَى لِأَنَّ الزِّيَادَةَ على الثُّلُثِ في كل الدِّيَةِ تُؤْخَذُ في السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَكَذَلِكَ إذَا انْفَرَدَتْ فَإِنْ زَادَ على الثُّلُثَيْنِ فَالثُّلُثَانِ في سَنَتَيْنِ وما زَادَ على ذلك في السَّنَةِ قِيَاسًا على كل الدِّيَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا ما دُونَ النَّفْسِ من الْعَبِيدِ فَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ ما دُونَ النَّفْسِ من الْعَبِيدِ له حُكْمُ الْأَمْوَالِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فيه الْقِصَاصُ
وَضَمَانُ الْمَالِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَجِبُ فيه أَرْشٌ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وهو الْمُسَمَّى بِالْحُكُومَةِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ الْجِنَايَاتِ التي تَجِبُ فيها الْحُكُومَةُ وفي تَفْسِيرِ الْحُكُومَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَصْلُ فيه أَنَّ ما لَا قِصَاصَ فيه من الْجِنَايَاتِ على ما دُونَ النَّفْسِ وَلَيْسَ له أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَفِيهِ الْحُكُومَةُ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْجِنَايَةِ الْوَارِدَةِ على مَحَلٍّ مَعْصُومٍ اعْتِبَارُهَا بِإِيجَابِ الْجَابِرِ أو الزَّاجِرِ ما أَمْكَنَ
إذَا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ في كَسْرِ الْعِظَامِ كُلِّهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ إلَّا السِّنَّ خَاصَّةً لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ فِيمَا سِوَى السِّنِّ مُتَعَذَّرٌ ولم يَرِدْ الشَّرْعُ فيه بِأَرْشٍ مُقَدَّرٍ فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ وَأَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ في السِّنِّ وَالشَّرْعُ وَرَدَ فيها بِأَرْشٍ مُقَدَّرٍ أَيْضًا فلم تَجِبْ فيها الْحُكُومَةُ
وفي لِسَانِ الْأَخْرَسِ وَالْعَيْنِ الْقَائِمَةِ الذَّاهِبِ نُورُهَا وَالسِّنِّ السَّوْدَاءِ الْقَائِمَةِ وَالْيَدِ الشَّلَّاءِ وَالرِّجْلِ الشَّلَّاءِ وَذَكَرِ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ في هذه الْأَشْيَاءِ وَلَيْسَ فيها أَرْشٌ مُقَدَّرٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَهُنَا الْمَنْفَعَةُ وَلَا مَنْفَعَةَ فيها وَلَا زِينَةَ أَيْضًا لِأَنَّ الْعَيْنَ الْقَائِمَةَ الذَّاهِبَ نُورُهَا لَا جَمَالَ فيها عِنْدَ من يَعْرِفُهَا على أَنَّ الْمَقْصُودَ من هذه الْأَشْيَاءِ الْمَنْفَعَةُ وَمَعْنَى الزِّينَةِ فيها تَابِعٌ فَلَا يَتَقَدَّرُ الْأَرْشُ لِأَجْلِهِ وفي الأصبع وَالسِّنِّ الزَّائِدَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فيها وَلَيْسَ لها أَرْشٌ مُقَدَّرٌ أَيْضًا لِانْعِدَامِ الْمَنْفَعَةِ وَالزِّينَةِ لَكِنَّهَا جُزْءٌ من النَّفْسِ وَأَجْزَاءُ النَّفْسِ مَضْمُونَةٌ مع عَدَمِ الْمَنْفَعَةِ وَالزِّينَةِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَأَمَّا الصَّغِيرُ الذي لم يَمْشِ ولم يَقْعُدْ وَرِجْلُهُ وَلِسَانُهُ وَأُذُنَهُ وَأَنْفُهُ وَعَيْنُهُ وَذَكَرُهُ فَفِي أَنْفِهِ وَأُذُنِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ وَكَذَلِكَ في يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ إذَا كان يُحَرِّكُهُمَا وَكَذَا في ذَكَرِهِ إذَا كان يَتَحَرَّكُ وفي لِسَانِهِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ لَا الدِّيَةُ وَإِنْ اسْتَهَلَّ ما لم يَتَكَلَّمْ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ صِيَاحٌ
وَأَمَّا الْعَيْنَانِ فَإِنْ كان يُسْتَدَلُّ بِشَيْءٍ على بَصَرِهِمَا فَفِيهِمَا مِثْلُ عَيْنِ الْكَبِيرِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ
أَمَّا الْأَنْفُ وَالْأُذُنُ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمَا الْجَمَالُ لَا الْمَنْفَعَةُ وَذَلِكَ يُوجَدُ في الصَّغِيرِ بِكَمَالِهِ كما يُوجَدُ الْكَبِيرِ
وَأَمَّا الْأَعْضَاءُ التي يُقْصَدَ بها الْمَنْفَعَةُ فَلَا يَجِبُ فيها أَرْشٌ كَامِلٌ حتى يُعْلَمَ صِحَّتُهَا بِمَا ذَكَرْنَا فإذا عُلِمَ ذلك فَقَدْ وُجِدَ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ في كل وَاحِدٍ من ذلك فَيَجِبُ فيه أَرْشٌ كَامِلٌ فإذا لم يُعْلَمْ يَقَعُ الشَّكُّ في وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ كَمَالِ الْأَرْشِ فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ وَلَا يُقَالُ إنَّ الْأَصْلَ هو الصِّحَّةُ وَالْآفَةُ عَارِضٌ فَكَانَتْ الصِّحَّةُ ثَابِتَةً ظَاهِرًا لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ هذا الْأَصْلَ في الصَّغِيرِ بَلْ الْأَصْلُ فيه عَدَمُ الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ لِأَنَّهُ كان نُطْفَةً وَعَلَقَةً وَمُضْغَةً فما لم يُعْلَمْ صِحَّةُ الْعُضْوِ فَهُوَ على الْأَصْلِ على أَنَّ هذا الْأَصْلَ مُتَعَارِضٌ لِأَنَّ بَرَاءَةَ ذِمَّةِ الْجَانِي أَصْلٌ أَيْضًا فَتَعَارَضَ الْأَصْلَانِ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِالْأَصْلِ على الصِّحَّةِ على أَنَّ الصِّحَّةَ إنْ كانت ثَابِتَةً ظَاهِرًا بِحُكْمِ الْأَصْلِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ حُجَّةُ الدَّفْعِ لَا حُجَّةُ الِاسْتِحْقَاقِ كَحَيَاةِ الْمَفْقُودِ أنها تَصْلُحُ لنفع ( ( ( لدفع ) ) ) الْإِرْثِ لَا لِاسْتِحْقَاقِهِ
وفي الظُّفْرِ إذَا نَبَتَ لَا شَيْءَ فيه في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّهُ عَادَتْ الْمَنْفَعَةُ وَالزِّينَةُ وَإِنْ مَاتَ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فيه وَلَا له أَرْشٌ مُقَدَّرٌ
وَكَذَا إذَا نَبَتَ على عَيْبٍ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ دُونَ ذلك لِأَنَّ النَّابِتَ عِوَضٌ عن الذَّاهِبِ فَكَأَنَّ الْأَوَّلَ قَائِمٌ وَدَخَلَهُ عَيْبٌ وَكَذَلِكَ قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا نَبَتَ أسودان فيه حُكُومَةً لِمَا أَصَابَ من الْأَلَمِ بِالْجِرَاحَةِ الْأُولَى بِنَاءً على أَصْلِهِ أَنَّ الْأَلَمَ مَضْمُونٌ
وفي ثَدْيِ الرَّجُلِ حُكُومَةُ البدل ( ( ( العدل ) ) ) لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فيه
____________________

(7/323)


وَلَا أَرْشَ مُقَدَّرٌ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فيه وَلَا جَمَالَ فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ فِيهِمَا وفي أَحَدِهِمَا نِصْفُ ذلك الْحُكْمِ وفي حَلَمَةِ ثَدْيَيْهِ حُكْمُ عَدْلٍ دُونَ ما في ثَدْيَيْهِ لِمَا قُلْنَا
وَثَدْيُ الْمَرْأَةِ تَبَعٌ لِلْحَلَمَةِ حتى لو قَطَعَ الْحَلَمَةَ ثُمَّ الثَّدْيَ فَإِنْ كان قبل البرىء ( ( ( البرء ) ) ) لَا يَجِبُ إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ وَإِنْ كان بَعْدَ البرىء ( ( ( البرء ) ) ) يَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ في الْحَلَمَةِ وَالْحُكُومَةُ في الثَّدْيِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الثَّدْيِ الرَّضَاعُ وَذَلِكَ يَبْطُلُ بِقَطْعِ الْحَلَمَةِ
وَكَذَلِكَ الْأَنْفُ مع الْمَارِنِ حتى لو قَطَعَ الْمَارِنَ دُونَ الْأَنْفِ تَجِبُ الدِّيَةُ
وَلَوْ قَطَعَ مع الْمَارِنِ لَا تَجِبُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ
وَلَوْ قَطَعَ الْمَارِنَ ثُمَّ الْأَنْفَ فَإِنْ كان قبل الْبُرْءِ تَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ كان بَعْدَ الْبُرْءِ فَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ وفي الْأَنْفِ الْحُكُومَةُ
وَكَذَلِكَ الْجَفْنُ مع الْأَشْفَارِ حتى لو قَطَعَ الشَّفْرَ بِدُونِ الْجَفْنِ يَجِبُ الْأَرْشُ الْمُقَدَّرُ
وَلَوْ قَطَعَ الْجَفْنَ معه لَا يَجِبُ ذلك الْأَرْشُ كَالْكَفِّ مع الْأَصَابِعِ
وَلَوْ قَطَعَ الشَّفْرَ ثُمَّ الْجَفْنَ فَإِنْ كان قبل الْبُرْءِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كان بَعْدَ الْبُرْءِ يَجِبُ في الشَّفْرِ أَرْشُهُ وفي الْجَفْنِ الْحُكُومَةُ لِأَنَّهُ قَطَعَ الشَّفْرَ وهو كَامِلُ الْمَنْفَعَةِ وَقَطَعَ الْجَفْنَ وهو نَاقِصُ الْمَنْفَعَةِ فَلَا يَجِبُ إلَّا الْأَرْشُ النَّاقِصُ وهو الْحُكُومَةُ
وَلَوْ قَطَعَ أَنْفًا مَقْطُوعَ الْأَرْنَبَةِ فَفِيهِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الْأَنْفِ الْجَمَالُ وقد نَقَصَ جَمَالُهُ بِقَطْعِ الْأَرْنَبَةِ فَيَنْتَقِصُ أَرْشُهُ
وَكَذَلِكَ إذَا قَطَعَ كَفًّا مَقْطُوعَةَ الْأَصَابِعِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الْكَفِّ الْبَطْشُ وإنه لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْأَصَابِعِ وَكَذَلِكَ إذَا قَطَعَ ذَكَرًا مَقْطُوعَ الْحَشَفَةِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الذَّكَرِ تَزُولُ بِزَوَالِهَا فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ أَرْشٍ مُقَدَّرٍ وَلَا قِصَاصَ فيه فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ
وَلَوْ قَطَعَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ قَطَعَهُمَا مَعًا بِأَنْ قَطَعَهُمَا من جَانِبٍ عَرْضًا يَجِبُ دِيَتَانِ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَنْفَعَةَ الْجِمَاعِ بِقَطْعِ الذَّكَرِ وَمَنْفَعَةَ الْإِنْزَالِ بِقَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ فَقَدْ وُجِدَ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ في قَطْعِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَجِبُ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ
وَإِنْ قَطَعَ أحدهما ( ( ( إحداهما ) ) ) بَعْدَ الْآخَرِ بِأَنْ قَطَعَهُمَا طُولًا فَإِنْ قَطَعَ الذَّكَرَ أَوَّلًا تَجِبُ دِيَتَانِ أَيْضًا دِيَةٌ بِقَطْعِ الذَّكَرِ لِوُجُودِ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِمَاعِ وَدِيَةٌ بِقَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ لِأَنَّ بِقَطْعِ الذَّكَرِ لَا تَنْقَطِعُ مَنْفَعَةُ الْأُنْثَيَيْنِ وهو الْإِنْزَالُ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ يَتَحَقَّقُ مع عَدَمِ الذَّكَرِ
وَإِنْ بَدَأَ بِقَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ ثُمَّ الذَّكَرِ فَفِي الْأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةُ وفي الذَّكَرِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأُنْثَيَيْنِ كانت كَامِلَةً وَقْتَ قَطْعِهِمَا وَمَنْفَعَةُ الذَّكَرِ تَفُوتُ بِقَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ إذْ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِنْزَالُ بَعْدَ قَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ فَنَقَصَ أَرْشُهُ وَلَوْ حَلَقَ رَأْسَ رَجُلٍ فَنَبَتَ أَبْيَضَ فَلَا شَيْءَ فيه في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
وقال أبو يُوسُفَ فيه حُكُومَةُ عَدْلٍ وَإِنْ كان عَبْدًا فَفِيهِ ما نَقَصَ وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْمَقْصُودَ من الشَّعْرِ الزِّينَةُ وَالزِّينَةُ مُعْتَبَرَةٌ في الْأَحْرَارِ وَلَا زِينَةَ في الشَّعْرِ الْأَبْيَضِ فَلَا يَقُومُ الثابت ( ( ( النابت ) ) ) مَقَامَ الْفَائِتِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّيْبَ في الْأَحْرَارِ ليس بِعَيْبٍ بَلْ هو جَمَالٌ وَكَمَالٌ فَلَا يَجِبُ بِهِ أَرْشٌ بِخِلَافِ الْعَبِيدِ فإن الشَّيْبَ فِيهِمْ عَيْبٌ
أَلَا يَرَى أَنَّهُ يُنْقِصُ الثَّمَنَ فَكَانَ مَضْمُونًا على الْجَانِي وَفِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ من الشِّجَاجِ حُكُومَةُ عَدْلٍ وَكَذَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ بن عبد الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قال ما دُونَ الْمُوضِحَةِ خُدُوشٌ فيها حُكْمُ عَدْلٍ
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فيه وَالشَّرْعُ ما وَرَدَ فيه بِأَرْشٍ مُقَدَّرٍ فَتَجِبُ فيه الْحُكُومَةُ وَالْخِلَافُ الذي ذَكَرْنَا في الْمُتَلَاحِمَةِ بين أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَى الْمَعْنَى بَلْ إلَى الِاسْمِ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الشَّجَّةُ التي قبل الْبَاضِعَةِ أَقَلَّ منها أَرْشًا
وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ لَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ أَرْشُ الشَّجَّةِ التي ذَهَبَتْ في اللَّحْمِ أَكْثَرَ مِمَّا ذَهَبَتْ الْبَاضِعَةُ زَائِدًا على أَرْشِ الْبَاضِعَةِ فَكَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا في الْعِبَارَةِ وَفِيمَا سِوَى الْجَائِفَةِ من الْجِرَاحَاتِ التي في الْبَدَنِ إذَا اندمات ( ( ( اندملت ) ) ) ولم يَبْقَ لها أَثَرٌ لَا شَيْءَ فيها عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فيه أَرْشُ الْأَلَمِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ وَإِنْ بَقِيَ لها أَثَرٌ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ وَكَذَا في شَعْرِ سَائِرِ الْبَدَنِ إذَا لم يَنْبُتْ حُكُومَةُ عَدْلٍ وَإِنْ نَبَتَ لَا شَيْءَ فيه
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْحُكُومَةِ فَإِنْ كان الْجَانِي وَالْمَجْنِيُّ عليه عَبْدًا يُقَوَّمُ الْعَبْدُ مَجْنِيًّا عليه وَغَيْرَ مَجْنِيٍّ عليه فَيَجِبُ نُقْصَانُ ما بين الْقِيمَتَيْنِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كان الْجَانِي وَالْمَجْنِيُّ عليه حُرًّا فَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُقَوَّمُ الْمَجْنِيُّ عليه لو كان عَبْدًا وَلَا جِنَايَةَ بِهِ وَيُقَوَّمُ وَبِهِ الْجِنَايَةُ فَيُنْظَرُ كَمْ بين الْقِيمَتَيْنِ فَعَلَيْهِ الْقَدْرُ من الدِّيَةِ
وقال الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُقَرَّبُ هذه الْجِنَايَةُ إلَى أَقْرَبِ الْجِنَايَاتِ التي لها أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَيَنْظُرُ ذَوَا عَدْلٍ من أَطِبَّاءِ الْجِرَاحَاتِ كَمْ مِقْدَارُ هذه هَهُنَا في قِلَّةِ الْجِرَاحَاتِ وَكَثْرَتِهَا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَيَأْخُذُ الْقَاضِي بِقَوْلِهِمَا وَيَحْكُمُ من
____________________

(7/324)


الْأَرْشِ بِمِقْدَارِهِ من أَرْشِ الْجِرَاحَةِ الْمُقَدَّرَةِ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقِيمَةَ في الْعَبْدِ كَالدِّيَةِ في الْحُرِّ فَيُقَدَّرُ الْعَبْدُ حُرًّا فما أَوْجَبَ نَقْصًا في الْعَبْدِ يُعْتَبَرُ بِهِ الْحُرُّ وكان الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُنْكِرُ هذا الْقَوْلَ وَيَقُولُ هذا يُؤَدِّي إلَى أَمْرٍ فَظِيعٍ وهو أَنْ يَجِبَ في قَلِيلِ الشِّجَاجِ أَكْثَرُ مِمَّا يَجِبُ في كَثِيرِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُ شَجَّةِ السِّمْحَاقِ في الْعَبْدِ أَكْثَرَ من نِصْفِ عُشْرِ قِيمَتِهِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا مِثْلَ ذلك من دِيَةِ الْحُرِّ لَأَوْجَبْنَا في السِّمْحَاقِ أَكْثَرَ مِمَّا يوجب ( ( ( يجب ) ) ) في الْمُوضِحَةِ وَهَذَا لَا يَصِحُّ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْجِنَايَةُ على ما هو نَفْسٌ من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وهو الْجَنِينُ بِأَنْ ضُرِبَ على بَطْنِ حَامِلٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا فَيَتَعَلَّقُ بها أَحْكَامٌ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْجَنِينَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حُرًّا بِأَنْ كانت أُمُّهُ حُرَّةً أو أَمَةً عَلِقَتْ من مَوْلَاهَا أو من مَغْرُورٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَقِيقًا وَلَا يَخْلُو إمَّا إن أَلْقَتْهُ مَيِّتًا وَإِمَّا إن أَلْقَتْهُ حَيًّا فَإِنْ كان حُرًّا وَأَلْقَتْهُ مَيِّتًا فَفِيهِ الْغُرَّةُ وَالْكَلَامُ في الْغُرَّةِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ وُجُوبِهَا وفي تَفْسِيرِهَا وَتَقْدِيرِهَا وفي بَيَانِ من تَجِبُ عليه وفي بَيَانِ من تَجِبُ له
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْغُرَّةُ وَاجِبَةٌ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا شَيْءَ على الضَّارِبِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَقْتَ الضَّرْبِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لم يَكُنْ بِأَنْ لم تُخْلَقْ فيه الْحَيَاةُ بَعْدُ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ في جَنِينِ الْبَهِيمَةِ شَيْءٌ إلَّا نُقْصَانُ الْبَهِيمَةِ كَذَا هذا إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ بِالسُّنَّةِ وهو ما رُوِيَ عن مُغِيرَةَ بن شُعْبَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كنت بين جَارِيَتَيْنِ فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَمَاتَتْ فَقَضَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم على عَاقِلَةِ الضَّارِبَةِ بِالدِّيَةِ وَبِغُرَّةِ الْجَنِينِ
وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رضي الله عنه اُخْتُصِمَ إلَيْهِ في إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ الْجَنِينَ فقال سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه أَنْشُدُكُمْ اللَّهَ تَعَالَى هل سَمِعْتُمْ من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في ذلك شيئا فَقَامَ الْمُغِيرَةُ رضي اللَّهُ عنه فقال كنت بين جَارِيَتَيْنِ وَذَكَرَ الْخَبَرَ وقال فيه فَقَامَ عَمُّ الْجَنِينِ فقال إنَّهُ أَشْعَرَ وَقَامَ وَالِدُ الضَّارِبَةِ فقال كَيْفَ ندى من لَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَلَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَدَمُ مِثْلِ ذلك بطل ( ( ( يطل ) ) ) فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ وروى كَسَجْعِ الْأَعْرَابِ فيه غُرَّةٌ عَبْدٌ أو أَمَةٌ فقال سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه من شَهِدَ مَعَكَ بهذا فَقَامَ محمد بن سَلَمَةَ فَشَهِدَ فقال سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ فيها بِرَأْيِنَا وَفِيهَا سُنَّةٌ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَرَوَى هذه الْقِصَّةَ أَيْضًا حَمَلُ بن مَالِكِ بن النَّابِغَةِ وَلِأَنَّ الْجَنِينَ إنْ كان حَيًّا فَقَدْ فَوَّتَ الضَّارِبُ حَيَاتَهُ وَتَفْوِيتُ الْحَيَاةِ قَتْلٌ وَإِنْ لم يَكُنْ حَيًّا فَقَدْ مَنَعَ من حُدُوثِ الْحَيَاةِ فيه فَيَضْمَنُ كَالْمَغْرُورِ لَمَّا مَنَعَ من حُدُوثِ الرِّقِّ في الْوَلَدِ وَجَبَ الضَّمَانُ عليه وَسَوَاءٌ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ أو بَعْضُ خَلْقِهِ لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى بِالْغُرَّةِ ولم يَسْتَفْسِرْ فَدَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ وَإِنْ لم يَسْتَبِنْ شَيْءٌ من خَلْقِهِ فَلَا شَيْءَ فيه لِأَنَّهُ ليس بِجَنِينٍ إنَّمَا هو مُضْغَةٌ وَسَوَاءٌ كان ذَكَرًا أو أُنْثَى لِمَا قُلْنَا وَلِأَنَّ عِنْدَ عَدَمِ اسْتِوَاءِ الْخِلْقَةِ يَتَعَذَّرُ الْفَصْلُ بين الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فيه
وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْغُرَّةِ فَالْغُرَّةُ في اللُّغَةِ عَبْدٌ أو أَمَةٌ
كَذَا قال أبو عُبَيْدٍ من أَهْلِ اللُّغَةِ
وَكَذَا فَسَّرَهَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في الحديث الذي رَوَيْنَا
فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فيه غُرَّةٌ عَبْدٌ أو أَمَةٌ فَسَّرَ الْغُرَّةَ بِالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى في الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أو أَمَةٍ أو خَمْسِمِائَةٍ
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ خَرَجَتْ تَفْسِيرًا لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى فَصَارَتْ الْغُرَّةُ في عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمًا لِعَبْدٍ أو أَمَةٍ يَعْدِلُ خَمْسَمِائَةٍ أو بِخَمْسِمِائَةٍ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ خَرَجَتْ تَفْسِيرًا لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى
ثُمَّ تَقْدِيرُ الْغُرَّةِ بِالْخَمْسِمِائَةِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَقْدِرَةٌ بِسِتِّمِائَةٍ
وَهَذَا فَرْعُ أَصْلِ ما ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا على أَنَّ الْوَاجِبَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا في الدِّيَةِ فَالدِّيَةُ من الدَّرَاهِمِ عِنْدَنَا مَقْدِرَةٌ بِعَشْرَةِ آلَافٍ فَكَانَ نِصْفُ عُشْرِهَا خَمْسَمِائَةٍ
وَعِنْدَهُ مقدر ( ( ( مقدرة ) ) ) بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا فَكَانَ نِصْفُ عُشْرِهَا سِتَّمِائَةٍ ثُمَّ ابْتَدَأَ الدَّلِيلُ على صِحَّةِ مَذْهَبِنَا أَنَّ في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى في الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أو أَمَةٍ أو خَمْسِمِائَةٍ وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
وَأَمَّا بَيَانُ من تَجِبُ عليه الْغُرَّةُ فَالْغُرَّةُ تَجِبُ على الْعَاقِلَةِ لِمَا رَوَيْنَا من الحديث أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى على عَاقِلَةِ الضَّارِبَةِ بِالدِّيَةِ وَبِغُرَّةِ الْجَنِينِ
وَرُوِيَ أَنَّ عَاقِلَةَ الضَّارِبَةِ قالوا أَنَدِي من لَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَلَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَدَمُ مِثْلِ هذا بَطَلَ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ الْقَضَاءَ بِالدِّيَةِ كان عليهم
____________________

(7/325)


حَيْثُ أَضَافُوا الدِّيَةَ إلَى أَنْفُسِهِمْ على وَجْهِ الْإِنْكَارِ وَلِأَنَّهَا بَدَلُ نَفْسٍ فَكَانَتْ على الْعَاقِلَةِ كَالدِّيَةِ وَأَمَّا من تَجِبُ له فَهِيَ مِيرَاثٌ بين وَرَثَةِ الْجَنِينِ على فَرَائِضِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنها لَا تُورَثُ وَهِيَ لوم ( ( ( للأم ) ) ) خَاصَّةً
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْجَنِينَ في حُكْمِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الْأُمِّ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ على الْأُمِّ فَكَانَ الْأَرْشُ لها كَسَائِرِ أَجْزَائِهَا
وَلَنَا أَنَّ الْغُرَّةَ بَدَلُ نَفْسِ الْجَنِينِ وَبَدَلُ النَّفْسِ يَكُونُ مِيرَاثًا كَالدِّيَةِ
وَالدَّلِيلُ على أنها بَدَلُ نَفْسِ الْجَنِينِ لَا بَدَلُ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الْأُمِّ أَنَّ الْوَاجِبَ في جَنِينِ أُمِّ الْوَلَدِ ما هو الْوَاجِبُ في جَنِينِ الْحُرَّةِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ جَنِينَ أُمِّ الْوَلَدِ جُزْءٌ وَلَوْ كان في حُكْمِ عُضْوٍ من أَعْضَاءِ الْأُمِّ لَكَانَ جزأ من الْأُمِّ حُرًّا وَبَقِيَّةُ أَجْزَائِهَا أَمَةً وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى بِدِيَةِ الْأُمِّ على الْعَاقِلَةِ وَبِغُرَّةِ الْجَنِينِ وَلَوْ كان في مَعْنَى أَجْزَاءِ الْأُمِّ لَمَا أَفْرَدَ الْجَنِينَ بِحُكْمٍ بَلْ دَخَلَتْ الْغُرَّةُ في دِيَةِ الْأَمَةِ كما إذَا قُطِعَتْ يَدُ الْأُمِّ فَمَاتَتْ أَنَّهُ تَدْخُلُ دِيَةُ الْيَدِ في النَّفْسِ
وَكَذَا لَمَّا أَنْكَرَتْ عَاقِلَةُ الضَّارِبَةِ حَمْلَ الدِّيَةِ إيَّاهُمْ فقالت أَنَدِي من لَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَلَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَمِثْلُ دَمِهِ بطل ( ( ( يطل ) ) ) لم يَقُلْ لهم النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنِّي أَوْجَبْت ذلك بِجِنَايَةِ الضَّارِبَةِ على الْمَرْأَةِ لَا بِجِنَايَتِهَا على الْجَنِينِ
وَلَوْ كان وُجُوبُ الْأَرْشِ فيه لِكَوْنِهِ جُزْءًا من أَجْزَاءِ الْأُمِّ لَرُفِعَ إنْكَارُهُمْ بِمَا قُلْنَا
فَدَلَّ أَنَّ الْغُرَّةَ وَجَبَتْ بِالْجِنَايَةِ على الْجَنِينِ لَا بِالْجِنَايَةِ على الْأُمِّ فَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً بِنَفْسِهِ لَا بِالْأُمِّ وَلَا يَرِثُ الضَّارِبُ من الْغُرَّةِ شيئا لِأَنَّهُ قَاتِلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ من أَسْبَابِ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَلَا كَفَّارَةَ على الضَّارِبِ لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا قَضَى بِالْغُرَّةِ على الضَّارِبَةِ لم يذكر الْكَفَّارَةَ مع أَنَّ الْحَالَ حَالُ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ وَلَوْ كانت وَاجِبَةً لَبَيَّنَهَا وَلِأَنَّ وُجُوبَهَا مُتَعَلِّقُ بِالْقَتْلِ وَأَوْصَافٍ أُخْرَى لم يُعْرَفْ وُجُودُهَا في الْجَنِينِ من الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ حَقِيقَةً أو حُكْمًا
قال اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وقال تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَإِنْ كان من قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } أَيْ كان الْمَقْتُولُ ولم يُعْرَفْ قَتْلُهُ لِأَنَّهُ لم تُعْرَفْ حَيَاتُهُ
وَكَذَا إيمَانُهُ وَكُفْرُهُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا
أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلَا شَكَّ في انْتِفَائِهَا لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ لَا يَتَحَقَّقَانِ من الْجَنِينِ وَكَذَلِكَ حُكْمًا لِأَنَّ ذلك بِوَاسِطَةِ الْحَيَاةِ ولم تُعْرَفْ حَيَاتُهُ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ من بَابِ الْمَقَادِيرِ وَالْمَقَادِيرُ لَا تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ بَلْ بِالتَّوْقِيفِ وهو الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَالسَّنَةُ وَالْإِجْمَاعُ ولم يُوجَدْ في الْجَنِينِ الذي ألقى مَيِّتًا شَيْءٌ من ذلك فَلَا تَجِبُ فيه الْكَفَّارَةُ وَلِأَنَّ وُجُوبَهَا مُتَعَلِّقٌ بِالنَّفْسِ الْمُطْلَقَةِ وَالْجَنِينُ نَفْسٌ من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فيه كَمَالُ الدِّيَةِ مع ما أَنَّ الضَّرْبَ لو وَقَعَ قَتْلُ نَفْسٍ لَكَانَ قَتْلًا تَسْبِيبًا لَا مُبَاشَرَةً وَالْقَتْلُ تَسْبِيبًا لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَنَحْوِ ذلك
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال ( ( ( قال ) ) ) وَلَا كَفَّارَة على الضَّارِبِ وَإِنْ سَقَطَ كَامِلَ الْخَلْقِ مَيِّتًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ ذلك فَهُوَ أَفْضَلُ وَلَيْسَ ذلك عليه عِنْدَنَا وَاجِبٌ وَلْيَتَقَرَّبْ إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمَا يَشَاءُ إنْ اسْتَطَاعَ وَيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِمَّا صَنَعَ وَهَذَا قَوْلُ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَوْلُنَا
كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا فَنُدِبَ إلَى أَنْ يَتَقَرَّبَ بِالْكَفَّارَةِ لِمَحْوِهِ
هذا إذَا أَلْقَتْهُ مَيِّتًا فَأَمَّا إذَا أَلْقَتْهُ حَيًّا فَمَاتَ فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً لَا يَرِثُ الضَّارِبُ منها شيئا وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ
أَمَّا حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ فَلِمَا قُلْنَا وَأَمَّا وُجُوبُ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ فَلِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ حَيًّا فَمَاتَ عُلِمَ أَنَّهُ كان حَيًّا وَقْتَ الضَّرْبِ فَحَصَلَ الضَّرْبُ قُتِلَ النَّفْسُ وإنه في مَعْنَى الْخَطَأِ فَتَجِبُ فيه الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ
هذا إذَا أَلْقَتْ جَنِينًا وَاحِدًا فَأَمَّا إذَا أَلْقَتْ جَنِينَيْنِ فَإِنْ كَانَا مَيِّتَيْنِ فَفِي كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا غُرَّةٌ وَإِنْ كَانَا حَيَّيْنِ ثُمَّ مَاتَا فَفِي كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةٌ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ كل واحدة مِنْهُمَا وهو الْإِتْلَافُ إلَّا أَنَّهُ أَتْلَفَهُمَا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ وَمَنْ أَتْلَفَ شَخْصَيْنِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ يَجِبُ عليه ضَمَانُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا كما لو أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالضَّرْبِ كما في الْكَبِيرَيْنِ
فَإِنْ أَلْقَتْ أَحَدَهُمَا مَيِّتًا وَالْآخَرَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ في الْمَيِّتِ الْغُرَّةُ وفي الْحَيِّ الدِّيَةُ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الْغُرَّةِ في الْجَنِينِ الْمَيِّتِ وَالدِّيَةِ في الْجَنِينِ الْحَيِّ فَيَسْتَوِي فيه الْجَمْعُ في الْإِتْلَافِ وَالْإِفْرَادِ فيه فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ من الضَّرْبَةِ وَخَرَجَ الْجَنِينُ بَعْدَ ذلك حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ دِيَتَانِ دِيَةٌ في الْأُمِّ وَدِيَةٌ في الْجَنِينِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِمَا وهو قَتْلُ شَخْصَيْنِ فَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ مَوْتِهَا مَيِّتًا فَعَلَيْهِ دِيَةُ الْأُمِّ وَلَا شَيْءَ عليه في الْجَنِينِ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ عليه في الْجَنِينِ الْغُرَّةُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إنْ أَتْلَفهُمَا جميعا فَيُؤَاخَذُ بِضَمَانِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا كما لو خَرَجَ الْجَنِينُ مَيِّتًا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمُّ
وَلَنَا أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى كَوْنُ الْجَنِينِ مَضْمُونًا أَصْلًا
____________________

(7/326)


لِمَا بَيَّنَّا من احْتِمَالِ عَدَمِ الْحَيَاةِ وَازْدَادَ هَهُنَا احْتِمَالٌ آخَرُ وهو أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِالضَّرْبِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِمَوْتِ الْأُمِّ وَإِنَّمَا عَرَفْنَا الضَّمَانَ فيه بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِالضَّمَانِ في حَالٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ ما إذَا خَرَجَ مَيِّتًا قبل مَوْتِ الْأُمِّ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ فَيَتَعَيَّنُ الثَّانِي في نَفْيِ وُجُوبِ الضَّمَانِ في غَيْرِ هذه الْحَالَةِ
هذا إذَا كان الْجَنِينُ حُرًّا فَأَمَّا إذَا كان رَقِيقًا فَإِنْ خَرَجَ فَفِيهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ إنْ كان ذَكَرًا وَعُشْرُ قِيمَتِهِ إنْ كان أُنْثَى
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ في جَنِينِ الْأَمَةِ ما نَقَصَ الْأُمَّ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فيه عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ
أَمَّا الْكَلَامُ مع أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَبِنَاءً على أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وهو أَنَّ ضَمَانَ الْجِنَايَةِ الْوَارِدَةِ على الْعَبْدِ ضَمَانُ النَّفْسِ أَمْ ضَمَانُ الْمَالِ فَعَلَى أَصْلِهِمَا ضَمَانُ النَّفْسِ حتى قَالَا إنه لَا تُزَادُ قِيمَتُهُ على دِيَةِ الْحُرِّ بَلْ تَنْقُصُ هَهُنَا
وَكَذَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وَعَلَى أَصْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ضَمَانُهَا ضَمَانُ الْمَالِ حتى قال تَبْلُغُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً ما بَلَغَتْ وَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ فَصَارَ جَنِينُهَا كَجَنِينِ الْبَهِيمَةِ وَهُنَاكَ لَا يَجِبُ إلَّا نُقْصَانُ الْأُمِّ
كَذَا هَهُنَا
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَبِنَاءً على أَنَّ الْجَنِينَ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ أَمْ بِأُمِّهِ وقد ذَكَرْنَا الدَّلَائِلَ على أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ لَا بِأُمِّهِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَالدَّلِيلُ عليه أَيْضًا أَنَّ ضَمَانَ جَنِينِ الْحُرَّةِ مَوْرُوثٌ عنه على فَرَائِضِ اللَّهِ عز وجل
وَلَوْ كان مُعْتَبَرًا بِأُمِّهِ لَسَلِمَ لها كما يَسْلَمُ لها أَرْشُ عُضْوِهَا
وإذا ثَبَتَ أَنَّ الْجَنِينَ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ وَأَنَّ الْوَاجِبَ فيه ضَمَانٌ فَهَذَا الِاعْتِبَارُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ في جَنِينِ الْأَمَةِ إذَا كان رَقِيقًا نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ إنْ كان ذَكَرًا وَعُشْرُ قِيمَتِهِ إنْ كان أُنْثَى لِأَنَّ الْوَاجِبَ في الْجَنِينِ الْحُرِّ خَمْسُمِائَةٍ ذَكَرًا كان أو أُنْثَى وَهِيَ نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ الذَّكَرِ وَعُشْرُ دِيَةِ الْأُنْثَى وَالْقِيمَةُ في الرَّقِيقِ كَالدِّيَةِ في الْحُرِّ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ في الْجَنِينِ الرَّقِيقِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ إنْ كان ذَكَرًا اعْتِبَارًا بِالْحُرِّ وَعُشْرُ قِيمَتِهِ إنْ كان أُنْثَى اعْتِبَارًا بِالْحُرَّةِ وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ قِيمَتُهُ لِمَا قلنا ( ( ( ذكرنا ) ) ) في الْجَنِينِ الْحُرِّ
فَإِنْ أَلْقَتْ جَنِينَيْنِ مَيِّتَيْنِ أو جَنِينَيْنِ حَيَّيْنِ ثُمَّ مَاتَا فَفِي كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ ما فيه حالة ( ( ( حال ) ) ) الِانْفِرَادِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْجَنِينِ الْحُرِّ فَإِنْ أَلْقَتْ أَحَدَهُمَا مَيِّتًا وَالْآخَرَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَفِي كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ما هو ضَمَانُهُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ لِمَا مَرَّ فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ من الضَّرْبِ وَخَرَجَ الْجَنِينُ بَعْدَ ذلك حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ قِيمَتَانِ قِيمَةٌ في الْأُمِّ وَقِيمَةٌ في الْجَنِينِ
وَإِنْ خَرَجَ الْجَنِينُ مَيِّتًا بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ فَعَلَيْهِ في الْأُمِّ الْقِيمَةُ وَلَا شَيْءَ عليه في الْجَنِينِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَالْأَصْلُ أَنَّ في كل مَوْضِعٍ يَجِبُ في الْجَنِينِ الْحُرِّ الْغُرَّةُ فَفِي الرَّقِيقِ نَصِفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ إنْ كان ذَكَرًا وَعُشْرُ قِيمَتِهِ إنْ كان أُنْثَى وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَجِبُ في الْمَضْرُوبَةِ إذَا كانت حُرَّةً الدِّيَةُ فَفِي الْأَمَةِ الْقِيمَةُ وفي كل مَوْضِعٍ لَا يَجِبُ في الْجَنِينِ هُنَاكَ شَيْءٌ لَا يَجِبُ هُنَا شَيْءٌ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا في جَانِبِ الْحُرِّ من غَيْرِ تَفَاوُتٍ إلَّا أَنَّ الْوَاجِبَ في جَنِينِ الْأَمَةِ يَكُونُ في مَالِ الضَّارِبِ يُؤْخَذُ منه حَالًّا وَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وَالْوَاجِبُ في جَنِينِ الْحُرَّةِ يَكُونُ على الْعَاقِلَةِ لِأَنَّ تَحَمُّلَ العاقلة ( ( ( العاقل ) ) ) ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِالتَّحَمُّلِ في الْغُرَّةِ في جَنِينِ الْحُرَّةِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ في جَنِينِ الْأَمَةِ على أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
كِتَابُ الْخُنْثَى الْكَلَامُ فيه يَقَعُ في مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِ الْخُنْثَى وفي بَيَانِ ما يُعْرَفُ بِهِ أَنَّهُ ذَكَرٌ أو أُنْثَى وفي بَيَانِ حُكْمِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْخُنْثَى من له آلَةُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالشَّخْصُ الواجد ( ( ( الواحد ) ) ) لَا يَكُونُ ذَكَرًا وَأُنْثَى حَقِيقَةً فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أُنْثَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُعْرَفُ بِهِ أَنَّهُ ذَكَرٌ أو أُنْثَى فَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذلك بِالْعَلَامَةِ وَعَلَامَةُ الذُّكُورَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ نَبَاتُ اللِّحْيَةِ وَإِمْكَانُ الْوُصُولِ إلَى النِّسَاءِ وَعَلَامَةُ الْأُنُوثَةِ في الْكِبَرِ نُهُودُ ثَدْيَيْنِ كَثَدْيَيْ الْمَرْأَةِ وَنُزُولُ اللَّبَنِ في ثَدْيَيْهِ وَالْحَيْضُ وَالْحَبَلُ وَإِمْكَانُ الْوُصُولِ إليه ( ( ( إليها ) ) ) من فَرْجِهَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرْنَا يَخْتَصُّ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فَكَانَتْ عَلَامَةً صَالِحَةً لِلْفَصْلِ بين الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى
وَأَمَّا الْعَلَامَةُ في حَالَةِ الصِّغَرِ فَالْمَبَالُ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْخُنْثَى من حَيْثُ يَبُولُ فَإِنْ كان يَبُولُ من مَبَالِ الذُّكُورِ فَهُوَ ذَكَرٌ وَإِنْ كان يَبُولُ من مَبَالِ النِّسَاءِ فَهُوَ أُنْثَى وَإِنْ كان يَبُولُ مِنْهُمَا جميعا يُحَكَّمُ السَّبْقُ لِأَنَّ سَبْقَ الْبَوْلِ من أَحَدِهِمَا يَدُلُّ على أَنَّهُ هو الْمَخْرَجُ الْأَصْلِيُّ وإن الْخُرُوجَ من الْآخَرِ بِطَرِيقِ الِانْحِرَافِ عنه
وَإِنْ كان لَا يَسْبِقُ
____________________

(7/327)


أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَتَوَقَّفَ أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وقال هو خُنْثَى مُشْكِلٌ
وَهَذَا من كَمَالِ فِقْهِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّ التَّوَقُّفَ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ وَاجِبٌ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ تُحَكَّمُ الْكَثْرَةُ لِأَنَّهَا في الدَّلَالَةِ على الْمَخْرَجِ الْأَصْلِيِّ كَالسَّبْقِ فَيَجُوزُ تَحْكِيمُهُ
وجه ( ( ( ووجه ) ) ) قَوْلِ أبي حَنِيفَةِ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ كَثْرَةَ الْبَوْلِ وَقِلَّتَهُ لِسَعَةِ الْمَحِلِّ وَضَيْقِهِ فَلَا يَصْلُحُ لِلْفَصْلِ بين الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ بِخِلَافِ السَّبَقِ
وَحُكِيَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ أَبَا حَنِيفَةَ قَوْلُ أبي يُوسُفَ في تَحْكِيمِ الْكَثْرَةِ لم يَرْضَ بِهِ وقال وهل ( ( ( هل ) ) ) رَأَيْت حَاكِمًا يَزِنُ الْبَوْلَ فَإِنْ اسْتَوَيَا تَوَقَّفَا أَيْضًا وَقَالَا هو خُنْثَى مُشْكِلٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ فَلَهُ في الشَّرْعِ أَحْكَامٌ حُكْمُ الْخِتَانِ وَحُكْمُ الْغُسْلِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ وَنَحْوُ ذلك من الْأَحْكَامِ
أَمَّا حُكْمُ الْخِتَانِ فَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْتِنَهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أُنْثَى وَلَا يَحِلُّ له النَّظَرُ إلَى عَوْرَتِهَا وَلَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ أَنْ تَخْتِنَهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ فَلَا يَحِلُّ لها النَّظَرُ إلَى عَوْرَتِهِ فَيَجِبُ الِاحْتِيَاطُ في ذلك وَذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ له من مَالِهِ جَارِيَةً تَخْتِنُهُ إنْ كان له مَالٌ لِأَنَّهُ إنْ كان أُنْثَى فَالْأُنْثَى تُخْتَنُ بِالْأُنْثَى عِنْدَ الْحَاجَةِ وَإِنْ كان ذَكَرًا فَتَخْتِنُهُ أَمَتُهُ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لها النَّظَرُ إلَى فَرْجِ مَوْلَاهَا وَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ يَشْتَرِي له الأمام من مَالِ بين ( ( ( بيت ) ) ) الْمَالِ جَارِيَةً خَتَّانَةً فإذا خَتَنَتْهُ بَاعَهَا وَرَدَّ ثَمَنَهَا إلَى بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ الْخِتَانَ من سُنَّةِ الْإِسْلَامِ وَهَذَا من مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَيُقَامُ من بَيْتِ مَالِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ ثُمَّ تُبَاعُ وَيُرَدُّ ثَمَنُهَا إلَى بَيْتِ الْمَالِ لِانْدِفَاعِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ
وَقِيلَ يُزَوِّجُهُ الْإِمَامُ امْرَأَةً خَتَّانَةً لِأَنَّهُ إنْ كان ذَكَرًا فَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْتِنَ زَوْجَهَا وَإِنْ كان أُنْثَى فَالْمَرْأَةُ تَخْتِنُ الْمَرْأَةَ عِنْدَ الْحَاجَةِ
وَأَمَّا حُكْمُ غُسْلِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُغَسِّلَهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى وَلَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُغَسِّلَهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ ذَكَرٌ وَلَكِنَّهُ يُيَمَّمُ كان الْمُيَمِّمُ رَجُلًا أو امْرَأَةً غير أَنَّهُ إنْ كان ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه يَمَّمَهُ من غَيْرِ خِرْقَةٍ وَإِنْ كان أَجْنَبِيًّا يَمَّمَهُ بِالْخِرْقَةِ وَيَكُفُّ بَصَرَهُ عن ذِرَاعَيْهِ
وَأَمَّا حُكْمُ الْوُقُوفِ في الصُّفُوفِ في الصَّلَاةِ فإنه يَقِفُ بَعْدَ صَفِّ الرِّجَالِ وَالصَّبِيَّانِ قبل صَفِّ النِّسَاءِ احْتِيَاطًا على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الصَّلَاةِ
وَأَمَّا حُكْمُ إمَامَتِهِ في الصَّلَاةِ أَيْضًا فَقَدْ مَرَّ فَلَا يَؤُمُّ الرِّجَالَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أُنْثَى وَيَؤُمُّ النِّسَاءَ
وَأَمَّا حُكْمُ وَضْعِ الْجَنَائِزِ على التَّرْتِيبِ فَتُقَدَّمُ جِنَازَتُهُ على جِنَازَةِ النِّسَاءِ وَتُؤَخَّرُ عن جِنَازَةِ الرِّجَالِ وَالصَّبِيَّانِ على ما مَرَّ في كِتَابِ الصَّلَاةِ لِجَوَازِ أَنَّهُ ذَكَرٌ فَيُسْلَكُ مَسْلَكُ الِاحْتِيَاطِ في ذلك كُلِّهِ وَأَمَّا حُكْمُ الْغَنَائِمِ فَلَا يُعْطَى سَهْمًا وَلَكِنْ يُرْضَخُ له كَأَنَّهُ امْرَأَةٌ لِأَنَّ في اسْتِحْقَاقِ الزِّيَادَةِ شك ( ( ( شكا ) ) ) فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَأَمَّا حُكْمُ الْمِيرَاثِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فيه
قال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يُعْطَى له أَقَلَّ الْأَنْصِبَاءِ وهو نَصِيبُ الْأُنْثَى إلَّا أَنْ يَكُونَ أَسْوَأُ أَحْوَالِهِ أَنْ يُجْعَلَ ذَكَرًا فَحِينَئِذٍ يُجْعَلُ ذَكَرًا حُكْمًا
وَبَيَانُ هذا في مَسَائِلَ إذَا مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنًا مَعْرُوفًا وَوَلَدًا خُنْثَى فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يُقَسَّمُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ الثُّلُثَانِ وَلِلْخُنْثَى الثُّلُثُ وَيُجْعَلُ الْخُنْثَى ههنا أُنْثَى كَأَنَّهُ تَرَكَ ابْنًا وَبِنْتًا
وَلَوْ تَرَكَ وَلَدًا خُنْثَى وَعَصَبَةً فَالنِّصْفُ لِلْخُنْثَى وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ
وَيُجْعَلُ الْخُنْثَى أُنْثَى كَأَنَّهُ تَرَكَ بِنْتًا وَعَصَبَةً
وَلَوْ تَرَكَ أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَخُنْثَى لِأَبٍ وَعَصَبَةً فَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ ولو ( ( ( والخنثى ) ) ) الخنثى لِأَبٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ وَيُجْعَلُ الْخُنْثَى أَيْضًا ههنا أُنْثَى كَأَنَّهُ تَرَكَ أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ وَعَصَبَةً فَإِنْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَخُنْثَى لِأَبٍ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَلَا شَيْءَ لِلْخُنْثَى
وَيُجْعَلُ ههنا ذَكَرًا لِأَنَّ هذا أَسْوَأُ أَحْوَالِهِ لِأَنَّا لو جَعَلْنَاهُ أُنْثَى لَأَصَابَ السُّدُسَ وَتَعُولُ الْفَرِيضَةُ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ ذَكَرًا لَا يُصِيبُ شيئا كَأَنَّهَا تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخًا لِأَبٍ
وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى
وقال الشَّعْبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يعطي نِصْفَ مِيرَاثِ الذَّكَرِ وَنِصْفَ مِيرَاثِ الْأُنْثَى لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى فَيُعْطَى له نِصْفَ مِيرَاثِ الرِّجَالِ وَنِصْفَ مِيرَاثِ النِّسَاءِ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ الْأَقَلَّ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ وفي الْأَكْثَرِ شَكٌّ لِأَنَّهُ إنْ كان ذَكَرًا فَلَهُ الْأَكْثَرُ وَإِنْ كان أُنْثَى فَلَهَا الْأَقَلُّ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ الْأَقَلِّ ثَابِتًا بِيَقِينٍ وفي اسْتِحْقَاقِ الْأَكْثَرِ شَكٌّ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ مع الشَّكِّ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ في غَيْرِ الثَّابِتِ بِيَقِينِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَلِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ كل الْمَالِ ثَابِتٌ لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ وهو ذَكَرٌ فيه وَإِنَّمَا يُنْتَقَصُ حَقُّهُ بِمُزَاحِمَةِ الْآخَرِ
فإذا اُحْتُمِلَ أَنَّهُ ذَكَرٌ وَاحْتُمِلَ أَنَّهُ أُنْثَى وَقَعَ الشَّكُّ في سُقُوطِ حَقِّهِ عن الزِّيَادَةِ على الثُّلُثِ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ في
____________________

(7/328)


الثَّابِتِ بِيَقِينِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ
وَاخْتَلَفَ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ في تَفْسِيرِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَتَخْرِيجِهِ فِيمَا إذَا تَرَكَ ابْنًا مَعْرُوفًا وَوَلَدًا خُنْثَى
فقال أبو يُوسُفَ على قِيَاسِ قَوْلِهِ يُقَسَّمُ الْمَالُ على سَبْعَةٍ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ منها لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ وَثَلَاثَةٌ لِلْخُنْثَى
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
على قِيَاسِ قَوْلِهِ يُقَسَّمُ الْمَالُ على اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا سَبْعَةٌ منها لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ وَخَمْسَةٌ لِلْخُنْثَى
وَجْهُ تَفْسِيرِ مُحَمَّدٍ وَتَخْرِيجِهِ لِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ إن لِلْخُنْثَى في حَالٍ سَهْمًا وهو أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَهْمٌ وَلَهُ في حَالٍ ثُلُثَا سَهْمٍ وهو أَنْ يَكُونَ أُنْثَى وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَهْمٌ وَثُلُثُ سَهْمٍ فيعطي نِصْفَ ما يَسْتَحِقُّهُ في حَالَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ على حَالَةٍ وَاحِدَةٍ من الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ ذَكَرًا وَأُنْثَى وَلَيْسَتْ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ أَوْلَى من الْأُخْرَى فَيُعْطَى نِصْفَ ما يَسْتَحِقُّهُ في الحالين ( ( ( الحالتين ) ) ) وهو خَمْسَةُ أَسْدَاسِ سَهْمِ وَانْكَسَرَ الْحِسَابُ بِالْأَسْدَاسِ فَيَصِيرُ كُلُّ سَهْمٍ سِتَّةً فَيَصِيرُ جَمِيعُ الْمَالِ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا
لِلْخُنْثَى منها خَمْسَةٌ وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَبْعَةٌ
أو يُقَالُ إذَا جَعَلْنَا جَمِيعَ الْمَالِ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا فَالْخُنْثَى يَسْتَحِقُّ في حَالٍ سِتَّةً من اثْنَيْ عَشَرَ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا وفي حَالٍ أَرْبَعَةً من اثْنَيْ عَشَرَ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى فَالْأَرْبَعَةُ ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ وَسَهْمَانِ يَثْبُتَانِ في حَالٍ وَلَا يَثْبُتَانِ في حَالٍ وَلَيْسَتْ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ أَوْلَى من الْأُخْرَى فَيُنَصَّفُ وَذَلِكَ سَهْمٌ فَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ لِلْخُنْثَى
وَأَمَّا الِابْنُ الْمَعْرُوفُ فَالسِّتَّةُ من الِاثْنَيْ عَشَرَ ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ وَسَهْمَانِ يَثْبُتَانِ في حَالٍ وَلَا يَثْبُتَانِ في حَالٍ فَيُنَصَّفُ وَذَلِكَ سَهْمٌ فَذَلِكَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَتَخْرِيجُهُ لِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى فَإِنْ كان ذَكَرًا فَلَهُ نَصِيبُ ابْنٍ وهو سَهْمٌ وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَهْمٌ وَإِنْ كان أُنْثَى فَلَهُ نَصِيبُ بِنْتٍ وهو نِصْفُ سَهْمٍ وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَهْمٌ فَلَهُ في حَالٍ سَهْمٌ تَامٍّ وفي حَالٍ نِصْفُ سَهْمٍ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ على حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى من الْأُخْرَى فيعطي نِصْفَ ما يَسْتَحِقُّهُ في حالين ( ( ( حالتين ) ) ) وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ سَهْمٍ وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَهْمٌ تَامٌّ فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا على سَبْعَةِ أَسْهُمٍ لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْخُنْثَى ثَلَاثَةٌ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بالصواب
وَوَجَدْتُ في شَرْحِ مَسَائِلِ الْمُجَرَّدِ الْمَنْسُوبِ إلَى الْإِمَامِ إسْمَاعِيلَ بن عبدالله الْبَيْهَقِيّ رضي اللَّهُ عنه الذي اخْتَصَرَ الْمَبْسُوطَ وَالْجَامِعَيْنِ وَالزِّيَادَاتِ في مُجَلَّدَةٍ وَاحِدَةٍ وَشَرَحَهُ بِكِتَابٍ لَقَبُهُ الشَّامِلُ بَابًا في الْخُنْثَى فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُلْحِقَهُ بهذا الْفَصْلِ وهو ليس من أَصْلِ الشَّيْخِ وهو بَابُ الْخُنْثَى
قال ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ تعالى عنهما عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يُوَرَّثُ الْخُنْثَى من حَيْثُ يَبُولُ وهو مَذْهَبُنَا
الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ مُعْتَبَرٌ بِالنِّسَاءِ في حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ إذَا كان الِاحْتِيَاطُ في الْإِلْحَاقِ بِهِنَّ وَبِالرِّجَالِ إذَا كان الِاحْتِيَاطُ فيه فَحُكْمُهُ في الصَّلَاةِ حُكْمُ الْمَرْأَةِ في الْقُعُودِ وَالسَّتْرِ وفي الْوُقُوفِ بِجَنْبِ الرِّجَالِ في إفْسَادِ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَيَقُومُ خَلْفَ الرِّجَالِ وَقُدَّامَ النِّسَاءِ وَلَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ إلْحَاقًا بِالرِّجَالِ وفي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِثْلُ الْمَرْأَةِ
وَلَوْ مَاتَ يُمِّمَ بِالصَّعِيدِ وَلَا يُغَسِّلُهُ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ وَيُسَجَّى قَبْرُهُ وَيَدْخُلُ قَبْرَهُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه فَإِنْ قلبه ( ( ( قبله ) ) ) رَجُلٌ بِشَهْوَةٍ لم يَتَزَوَّجْ بِأُمِّهِ
وَلَوْ زَوَّجَهُ أَبُوهُ امْرَأَةً يُؤَجَّلُ كَالْعِنِّينِ سَنَةً وَلَا حَدَّ على قَاذِفِهِ اعْتِبَارًا بِالْمَجْبُوبِ وَالرَّتْقَاءِ وفي الْكُلِّ يُعْتَبَرُ الِاحْتِيَاطُ
ولو قال كُلُّ عَبْدٍ لي حُرٌّ وقال كُلُّ أَمَةٍ لم يَعْتِقْ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ
وَلَوْ قال الْقَوْلَيْنِ جميعا عَتَقَ لِمَا عُرِفَ
وَقَوْلُهُ أنا ذَكَرٌ أو أُنْثَى لَا يُقْبَلُ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ وَيَشْتَرِي امْرَأَةً بِأَنْ يشترى له أَمَةً من مَالِهِ لِلْخِدْمَةِ فَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ فَمِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ من مَصَالِحِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ
مَاتَ وَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أنها كانت امْرَأَتَهُ وَكَانَتْ تَبُولُ من مَبَالِ النِّسَاءِ وَامْرَأَةٌ أَنَّهُ كان زَوْجَهَا وكان يَبُولُ من مَبَالِ الرِّجَالِ لم يُقْضَ لِأَحَدِهِمَا إلَّا إنْ ذَكَرَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ وَقْتًا أَقْدَمَ فَيُقْضَى له وفي حَبْسِهِ في الدعاوي وَلَا يُفْرَضُ له في الدِّيوَانِ لِأَنَّهُ حَقُّ الرَّجُلِ الْمُقَاتِلِ فَإِنْ شَهِدَ الْقِتَالَ يُرْضَخُ له لِأَنَّ الرَّضْخَ نَوْعُ إعَانَةٍ وَإِنْ أُسِرَ لم يُقْتَلْ وَلَا يَدْخُلُ في قَسَامَةٍ وَلَا تُؤْخَذُ منه الْجِزْيَةُ لِأَنَّ هذا من أَحْكَامِ الرِّجَالِ
أَوْصَى رَجُلٌ لِمَا في بَطْنِ فُلَانَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إنْ كان غُلَامًا وَبِخَمْسِمِائَةٍ إنْ كانت جَارِيَةً وكان مُشْكِلًا لم يَزِدْ على خَمْسِمِائَةٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ وَعِنْدَهُمَا رَحِمَهُمَا اللَّهُ له نِصْفُ الْأَلْفِ وَالْخَمْسُمِائَةِ
قال وَخُرُوجُ اللِّحْيَةِ دَلِيلُ أَنَّهُ رَجُلٌ وَالثَّدْيُ على مِثَالِ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ مع عَدَمِ اللِّحْيَةِ وَالْحَيْضُ دَلِيلُ كَوْنِهِ امْرَأَةً
زُوِّجَ خُنْثَى
____________________

(7/329)


من خُنْثَى مُشْكِلَانِ على أَنَّ أَحَدَهُمَا رَجُلٌ وَالْآخَرَ امْرَأَةٌ صَحَّ الْوَقْفُ في النِّكَاحِ حتى تَتَبَيَّنَ فَإِنْ مَاتَا قبل الْبَيَانِ لم يَتَوَارَثَا لِمَا مَرَّ
شَهِدَ شُهُودٌ على خُنْثَى أَنَّهُ غُلَامٌ وَشُهُودٌ أَنَّهُ جَارِيَةٌ وَالْمَطْلُوبُ مِيرَاثٌ قَضَيْتُ بِشَهَادَةِ الْغُلَامِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا فَإِنْ كان الْمُدَّعَى مَهْرًا قَضَيْتُ بِكَوْنِهَا جَارِيَةً وَإِنْ كان الْمُقِيمُ لَا يَطْلُبُ شيئا لم أسمع ( ( ( تسمع ) ) ) الْبَيِّنَةُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ الْوَصَايَا الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ وفي بَيَانِ رُكْنِ الْوَصِيَّةِ وفي بَيَانِ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ رُكْنِ الْوَصِيَّةِ وفي بَيَانِ صِفَةِ عَقْدِ الْوَصِيَّةِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْوَصِيَّةِ وفي بَيَانِ ما تَبْطُلُ بِهِ الْوَصِيَّةُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَوْتُ مُزِيلٌ لَلْمِلْكِ فَتَقَعُ الْإِضَافَةُ إلَى زَمَانِ زَوَالِ الْمِلْكِ فَلَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ تَمْلِيكًا فَلَا يَصِحُّ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا جَوَازَهَا بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْكَرِيمَةِ وَالْإِجْمَاعِ
أَمَّا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى في آيَةِ الْمَوَارِيثِ { يُوصِيكُمْ اللَّهُ في أَوْلَادِكُمْ } إلَى قَوْلِهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ { من بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بها أو دَيْنٍ } ويوصي بها أو دَيْنٍ ويوصين بها أو دَيْنٍ وتوصون بها أو دَيْنٍ
شُرِعَ الْمِيرَاثُ مُرَتَّبًا على الْوَصِيَّةِ فَدَلَّ أَنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حين الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أو آخَرَانِ من غَيْرِكُمْ إنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ في الْأَرْضِ } نَدَبَنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى الْإِشْهَادِ على حَالِ الْوَصِيَّةِ فَدَلَّ أنها مَشْرُوعَةٌ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بن أبي وَقَّاصٍ رضي اللَّهُ عنه وهو سَعْدُ بن مَالِكٍ كان مَرِيضًا فَعَادَهُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال يا رَسُولَ اللَّهِ أُوصِي بِجَمِيعِ مَالِي فقال لَا
فقال بِثُلُثَيْ مَالِي قال لَا
قال فَبِنِصْفِ مَالِي قال لَا
قال فَبِثُلُثِ مَالِي فقال عليه الصلاة ( ( ( السلام ) ) ) والسلام الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ
إنَّكَ إن تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ من أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ الناس وَرُوِيَ فُقَرَاءُ يَتَكَفَّفُونَ الناس فَقَدْ جَوَّزَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ
وَرُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ في آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً على أَعْمَالِكُمْ فَضَعُوهُ حَيْثُ شِئْتُمْ أَخْبَرَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَنَا أَخَصَّ بِثُلُثِ أَمْوَالِنَا في آخِرِ أَعْمَارِنَا لنكتسب ( ( ( لنكسب ) ) ) بِهِ زِيَادَةً في أَعْمَالِنَا
وَالْوَصِيَّةُ تَصَرُّفٌ في ثُلُثِ الْمَالِ في آخِرِ الْعُمْرِ زِيَادَةٌ في الْعَمَلِ فَكَانَتْ مَشْرُوعَةً
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فإن الْأُمَّةَ من لَدُنَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا يُوصُونَ من غَيْرِ إنْكَارٍ من أَحَدٍ فَيَكُونُ إجْمَاعًا من الْأُمَّةِ على ذلك وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْكَرِيمَةِ وَالْإِجْمَاعِ مع ما أَنَّ ضَرْبًا من الْقِيَاسِ يَقْتَضِي الْجَوَازَ وهو أَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ خَتَمَ عَمَلَهُ بِالْقُرْبَةِ زِيَادَةً على الْقُرَبِ السَّابِقَةِ على ما نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ أو تَدَارُكًا لِمَا فَرَّطَ في حَيَاتِهِ وَذَلِكَ بِالْوَصِيَّةِ
وَهَذِهِ الْعُقُودُ ما شُرِعَتْ إلَّا لِحَوَائِجِ الْعِبَادِ فإذا مَسَّتْ حَاجَتُهُمْ إلَى الْوَصِيَّةِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهَا
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مِلْكَ الْإِنْسَانِ لَا يَزُولُ بِمَوْتِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ بَقِيَ في قَدْرِ جِهَازِهِ من الْكَفَنِ وَالدَّفْنِ وَبَقِيَ في قَدْرِ الدَّيْنِ الذي هو مُطَالَبٌ بِهِ من جِهَةِ الْعِبَادِ لِحَاجَةٍ إلَى ذلك كَذَلِكَ هَهُنَا
وَبَعْضُ الناس يقول الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةٌ لَمَا رُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ له مَالٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فيه يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَ رَأْسِهِ وفي نَفْسِ الحديث ما يَنْفِي الْوُجُوبَ لِأَنَّ فيه تَحْرِيمَ تَرْكِ الْإِيصَاءِ عِنْدَ إرَادَةِ الْإِيصَاءِ
وَالْوَاجِبُ لَا يَقِفُ وُجُوبُهُ على إرَادَةِ من عليه كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ أو يُحْمَلُ الْحَدِيثُ بِمَا عليه من الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْوَصِيَّةُ بها وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا على أَنَّهُ من أَخْبَارِ الْآحَادِ وَرَدَ فيها ( ( ( فيما ) ) ) تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَأَنَّهُ دَلِيلٌ على عَدَمِ الثُّبُوتِ فَلَا يُقْبَلُ وَقِيلَ إنَّهَا كانت وَاجِبَةً في الِابْتِدَاءِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا على الْمُتَّقِينَ } ثُمَّ نُسِخَتْ
وَاخْتُلِفَ في النَّاسِخِ قال بَعْضُهُمْ نَسَخَهَا الْحَدِيثُ وهو ما رُوِيَ عن أبي قِلَابَةَ رضي اللَّهُ عنه أنه عليه
____________________

(7/330)


الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وَالْكِتَابُ الْعَزِيزُ قد يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ
فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا يُنْسَخُ الْكِتَابَ عِنْدَكُمْ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَهَذَا من الْآحَادِ
فَالْجَوَابُ أَنَّ هذا الحديث مُتَوَاتِرٌ غير أَنَّ التَّوَاتُرَ ضَرْبَانِ تَوَاتُرٌ من حَيْثُ الرِّوَايَةِ وهو أَنْ يَرْوِيَهُ جَمَاعَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ على الْكَذِبِ وَتَوَاتُرٌ من حَيْثُ ظُهُورِ الْعَمَلِ بِهِ قَرْنًا فَقَرْنًا من غَيْرِ ظُهُورِ الْمَنْعِ وَالنَّكِيرُ عليهم في الْعَمَلِ بِهِ إلَّا أَنَّهُمْ ما رَوَوْهُ على التَّوَاتُرِ لِأَنَّ ظُهُورَ الْعَمَلِ بِهِ أَغْنَاهُمْ عن رِوَايَتِهِ وقد ظَهَرَ الْعَمَلُ بهذا مع ظُهُورِ الْقَوْلِ أَيْضًا من الْأَئِمَّةِ بِالْفَتْوَى بِهِ بِلَا تَنَازُعٍ منهم
وَمِثْلُهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ قَطْعًا فَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِهِ كما يَجُوزُ بِالْمُتَوَاتِرِ في الرِّوَايَةِ إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ من وَجْهٍ وهو أَنَّ جَاحِدَ الْمُتَوَاتِرِ في الرِّوَايَةِ يُكَفَّرُ وَجَاحِدَ الْمُتَوَاتِرِ في ظُهُورِ الْعَمَلِ لَا يُكَفَّرُ لِمَعْنَى عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ
وقال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمَوَارِيثِ وفي الحديث ما يَدُلُّ عليه فإنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ
وَقَوْلُهُ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ أَيْ كُلَّ حَقِّهِ
فَقَدْ أَشَارَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى أَنَّ الْمِيرَاثَ الذي أعطى لِلْوَارِثِ كُلُّ حَقِّهِ فَيَدُلُّ على ارْتِفَاعِ الْوَصِيَّةِ وَتَحَوُّلِ حَقِّهِ من الْوَصِيَّةِ إلَى الْمِيرَاثِ وإذا تَحَوَّلَ فَلَا يَبْقَى له حَقٌّ في الْوَصِيَّةِ كَالْقِبْلَةِ لَمَّا تَحَوَّلَتْ من بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى الْكَعْبَةِ لم يَبْقَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ قِبْلَةً وَكَالدَّيْنِ إذَا تَحَوَّلَ من ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ لَا يَبْقَى في الذِّمَّةِ الْأُولَى وَكَمَا في الْحَوَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ
وقال بَعْضُهُمْ الْوَصِيَّةُ بَقِيَتْ وَاجِبَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ غَيْرِ الْوَارِثِينَ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَالرِّقِّ وَالْآيَةُ وَإِنْ كانت عَامَّةً في الْمَخْرَجِ لَكِنْ خُصَّ منها الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ الْوَارِثُونَ بِالْحَدِيثِ وهو قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ فَكَانَ الْحَدِيثُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الْكِتَابِ لَا نَاسِخًا وَالْحَمْلُ على التَّخْصِيصِ أَوْلَى من الْحَمْلِ على النَّسْخِ إلَّا أَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ قالوا إنَّ الْوَصِيَّةَ في الِابْتِدَاءِ كانت فَرِيضَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ نُسِخَتْ بِحَدِيثِ أبي قِلَابَةَ
وقال بَعْضُهُمْ إنْ كان عليه حَجٌّ أو زَكَاةٌ أو كَفَّارَةٌ أو غَيْرُ ذلك من الْوَاجِبَاتِ فَالْوَصِيَّةُ بِذَلِكَ وَاجِبَةٌ وَإِنْ لم يَكُنْ فَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بَلْ جَائِزَةٌ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ في الِاسْتِحْبَابِ فَقَدْ قالوا إنْ كان مَالُهُ قَلِيلًا وَلَهُ وَرَثَةٌ فُقَرَاءُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يوصى لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في حديث سَعْدٍ رضي اللَّهُ عنه إنَّكَ إنْ تَرَكْتَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لك من أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ الناس
وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ في هذه الْحَالَةِ تَكُونُ صِلَةً بِالْأَجَانِبِ وَالتَّرْكَ يَكُونُ صِلَةً بِالْأَقَارِبِ فَكَانَ أَوْلَى
وَإِنْ كان مَالُهُ كَثِيرًا فَإِنْ كانت وَرَثَتُهُ فُقَرَاءَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُوصِيَ بِمَا دُونَ الثُّلُثِ وَيَتْرُكَ الْمَالَ لِوَرَثَتِهِ لِأَنَّ غُنْيَةً الْوَرَثَةِ تَحْصُلُ بِمَا زَادَ على الثُّلُثِ إذَا كان الْمَالُ كَثِيرًا وَلَا تَحْصُلُ عِنْدَ قِلَّتِهِ وَالْوَصِيَّةُ بِالْخُمُسِ أَفْضَلُ من الْوَصِيَّةِ بِالرُّبْعِ وَالْوَصِيَّةُ بِالرُّبُعِ أَفْضَلُ من الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ لِمَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَأَنْ أوصى بِالْخُمُسِ أَحَبُّ إلَيَّ من أَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ وَلَأَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ أَحَبُّ إلَيَّ من أَنْ أُوصِيَ بِالثُّلُثِ وَمَنْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ لم يَتْرُكْ شيئا أَيْ لم يَتْرُكْ من حَقِّهِ شيئا لِوَرَثَتِهِ لِأَنَّ الثُّلُثَ حَقُّهُ فإذا أَوْصَى بِالثُّلُثِ فلم يَتْرُكْ من حَقِّهِ شيئا لهم
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا أبي بَكْرٍ وَسَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا الْخُمُسُ اقْتِصَادٌ وَالرُّبُعُ جَهْدٌ وَالثُّلُثُ حَيْفٌ
وَإِنْ كان وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ فَالْأَفْضَلُ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ لِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ أَفْضَلُ من الْوَصِيَّةِ بِهِ لِلْأَجَانِبِ وَالْوَصِيَّةُ لِلْقَرِيبِ الْمُعَادِي أَفْضَلُ من الْوَصِيَّةِ لِلْقَرِيبِ الموالى لِأَنَّ الصَّدَقَةَ على الْمُعَادِي تَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْإِخْلَاصِ وَأَبْعَدَ عن الرِّيَاءِ
ونظيره ( ( ( ونظير ) ) ) قَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِذَلِكَ الذي اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ فَإِنْ شَكَرَكَ فَهُوَ خَيْرٌ له وَشَرٌّ لك
وَإِنْ كَفَرَكَ فَهُوَ شَرٌّ له وَخَيْرٌ لك وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمُعَادِي سَبَبٌ لِزَوَالِ الْعَدَاوَةِ وَصِيَانَةٌ لِلْقَرَابَةِ عن الْقَطِيعَةِ فَكَانَتْ أَوْلَى
هذا إذَا اسْتَوَى الْفَرِيقَانِ في الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَالْحَاجَةِ وَأَحَدُهُمَا مُعَادِي
فَأَمَّا إذَا كان الْمُوَالِي مِنْهُمَا أَعَفَّهُمَا وَأَصْلَحَهُمَا وَأَحْوَجَهُمَا فَالْوَصِيَّةُ له أَفْضَلُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ له تَقَعُ إعَانَةً على طَاعَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا رُكْنُ الْوَصِيَّةِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه
وقال ( ( ( قال ) ) ) أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ هو الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الْإِيجَابُ من الْمُوصِي وَالْقَبُولُ من الْمُوصَى له فما لم يُوجَدَا جميعا لَا يَتِمُّ الرُّكْنُ وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ رُكْنُ الْوَصِيَّةِ الْإِيجَابُ من الْمُوصِي وَعَدَمُ الرَّدِّ من الْمُوصَى له وهو أَنْ يَقَعَ الْيَأْسُ عن رَدِّهِ وَهَذَا أَسْهَلُ لِتَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ على ما نَذْكُرُ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ الرُّكْنُ هو
____________________

(7/331)


الْإِيجَابُ من الْمُوصِي فَقَطْ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ مِلْكَ الْمُوصَى له بِمَنْزِلَةِ مِلْكِ الْوَارِثِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الْمِلْكَيْنِ يَنْتَقِلُ بِالْمَوْتِ ثُمَّ مِلْكُ الْوَارِثِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى قَبُولِهِ وَكَذَا مِلْكُ الْمُوصَى له
وَلَنَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَأَنْ ليس لِلْإِنْسَانِ إلَّا ما سَعَى } فَظَاهِرُهُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ شَيْءٌ بِدُونِ سَعْيِهِ فَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُوصَى له من غَيْرِ قَبُولٍ لَثَبَتَ من غَيْرِ سَعْيِهِ
وَهَذَا منفى إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ
وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِثُبُوتِ الْمِلْكِ له من غَيْرِ قَبُولِهِ يُؤَدِّي إلَى الْإِضْرَارِ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ يَلْحَقُهُ ضَرَرُ الْمِنَّةِ وَلِهَذَا تَوَقَّفَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ له على قَبُولِهِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمِنَّةِ
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُوصَى بِهِ قد يَكُونُ شيئا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُوصَى له كَالْعَبْدِ الْأَعْمَى وَالزَّمِنِ وَالْمُقْعَدِ وَنَحْوِ ذلك وَإِلَى هذا أَشَارَ في الْأَصْلِ فقال أرأيت ( ( ( أريت ) ) ) لو أَوْصَى بِعَبِيدٍ عُمْيَانَ أَيَجِبُ عليه الْقَبُولُ شَاءَ أو أَبَى وَتَلْحَقُهُ نَفَقَتُهُمْ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ له منهم نَفْعٌ فَلَوْ لِزَمَهِ الْمِلْكُ من غَيْرِ قَبُولِهِ لَلَحِقَهُ الضَّرَرُ من غَيْرِ إلتزامه وَإِلْزَامِ من له وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ إذا ليس لِلْمُوصِي وِلَايَةُ إلْزَامِ الضَّرَرِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِخِلَافِ مِلْكِ الْوَارِثِ لِأَنَّ اللُّزُومَ هُنَاكَ بالزام من له وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ وهو اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فلم يَقِفْ على الْقَبُولِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ التي تَلْزَمُ بالزام الشَّرْعِ ابْتِدَاءً
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا كان الْمُوصَى له أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ عليه ما لم يَقْبَلْ أو يموت ( ( ( يمت ) ) ) من غَيْرِ قَبُولٍ لِأَنَّهُ لَا عِتْقَ بِدُونِ الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ بِدُونِ الْقَبُولِ أو بِدُونِ عَدَمِ الرَّدِّ وَوُقُوعِ الْيَأْسِ عنه ولم يُوجَدْ الْقَبُولُ منه وَلَا وَقَعَ الْيَأْسُ عن الرَّدِّ ما دَامَ حَيًّا فَلَا يُعْتَقُ
وَلَوْ مَاتَ الْمُوصِي ثُمَّ مَاتَ الْمُوصَى له قبل الْقَبُولِ صَارَ الْمُوصَى بِهِ مِلْكًا لِوَرَثَةِ الْمُوصَى له اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ وَيَكُونَ لِوَرَثَتِهِ الْخِيَارُ إنْ شاؤوا قَبِلُوا وَإِنْ شاؤوا رَدُّوا
وَجْهُ الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقَبُولَ أَحَدُ رُكْنَيْ الْعَقْدِ وقد فَاتَ بِالْمَوْتِ فَيَبْطُلُ الرُّكْنُ الْآخَرُ كما إذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ ثُمَّ مَاتَ الْمُشْتَرِي قبل الْقَبُولِ أو أَوْجَبَ الْهِبَةَ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْهُوبُ له قبل الْقَبُولِ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْإِيجَابُ لِمَا قُلْنَا
كَذَا هذا
وَجْهُ الْقِيَاسِ الثَّانِي أَنَّ الْمُوصَى له في حَيَاتِهِ كان له الْقَبُولُ وَالرَّدُّ فإذا مَاتَ تَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ أَحَدَ الرُّكْنَيْنِ من جَانِبِ الْمُوصَى له هو عَدَمُ الرَّدِّ منه وَذَلِكَ بِوُقُوعِ الْيَأْسِ على الرَّدِّ منه وقد حَصَلَ ذلك بِمَوْتِهِ فَتَمَّ الرُّكْنُ
وَأَمَّا على عِبَارَةِ الْقَبُولِ فَنَقُولُ إنَّ الْقَبُولَ من الْمُوصَى له لَا يُشْتَرَطُ لَعَيْنِهِ بَلْ لِوُقُوعِ الْيَأْسِ عن الرَّدِّ وقد حَصَلَ ذلك بِمَوْتِ الْمُوصَى له
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا أَوْصَى له بِجَارِيَتِهِ التي وَلَدَتْ من الْمُوصَى له بِالنِّكَاحِ أنها لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ له ما لم يَقْبَلْ الْوَصِيَّةَ أو يَمُوتُ قبل الْقَبُولِ فإذا مَاتَ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ له لِأَنَّهُ مَلَكَ جَارِيَةً قد وَلَدَتْ منه بِالنِّكَاحِ فَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ له وَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ وَإِنْ لم يَعْلَمْ الْمُوصَى له بِالْوَصِيَّةِ حتى مَاتَ أو عَلِمَ ولم يَقْبَلْ حتى مَاتَ فَهُوَ على الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا
وَلَوْ كان حَيًّا ولم يَعْلَمْ بِالْوَصِيَّةِ وهو يَطَؤُهَا بِالنِّكَاحِ حتى وَلَدَتْ أَوْلَادًا ثُمَّ عَلِمَ بِالْوَصِيَّةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ الْوَصِيَّةَ فَكَانَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَأَوْلَادُهَا أَحْرَارٌ إنْ كَانُوا يَخْرُجُونَ من الثُّلُثِ وَإِنْ شَاءَ لم يَقْبَلْ فَلَا تَكُونُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له لِأَنَّ قَبُولَهُ شَرْطٌ
فَإِنْ قَبِلَ فَقَدْ صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْقَبُولِ وَمَنْ اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ بِالنِّكَاحِ ثُمَّ مَلَكَهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ له وَأَوْلَادُهَا أَحْرَارٌ إنْ كَانُوا يُخْرَجُونَ من الثُّلُثِ لِأَنَّ عِنْدَ الْقَبُولِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ من وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ له في الْجَارِيَةِ من ذلك الْوَقْتِ كما في الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ أَنَّ عِنْدَ الْإِجَازَةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ وهو الْمِلْكُ من وَقْتِ الْبَيْعِ
كَذَا هَهُنَا وإذا ثَبَتَ الْمِلْكُ من وَقْتِ مَوْتِ الموصى يُحْكَمُ بِفَسَادِ النِّكَاحِ من ذلك الْوَقْتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَوْلَادَ وُلِدُوا على فِرَاشِ مِلْكِ الْيَمِينِ فَدَخَلُوا تَحْتَ الْوَصِيَّةِ فَيَمْلِكُهُمْ بِالْقَبُولِ فَيُعْتَقُونَ إذَا كَانُوا يَخْرُجُونَ من الثُّلُثِ وَإِنْ لم يَقْبَلْ الْوَصِيَّةَ كانت الْجَارِيَةُ مِلْكًا لِوَرَثَةِ الْمُوصِي وَالْأَوْلَادُ أَرِقَّاءُ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعَ الْأُمَّ في الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ
وَلَوْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ لِرَجُلَيْنِ وَمَاتَ الموصى فَرَدَّ أَحَدُهُمَا وَقَبِلَ الْآخَرُ الْوَصِيَّةَ كان لِلْآخَرِ حِصَّتُهُ من الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الثُّلُثَ إلَيْهِمَا وقد صَحَّتْ الْإِضَافَةُ فَانْصَرَفَ إلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الثُّلُثِ فإذا رَدَّ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّةَ ارْتَدَّ في نِصْفِهِ وَبَقِيَ النِّصْفُ الْآخَرُ لِصَاحِبِهِ الذي قَبِلَ كَمَنْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ لِرَجُلَيْنِ فَرَدَّ أَحَدُهُمَا إقْرَارَهُ ارْتَدَّ في نَصِيبِهِ خَاصَّةً وكان لَلْآخَرِ نِصْفُ الْإِقْرَارِ كَذَا هَهُنَا
بِخِلَافِ ما إذَا أَوْصَى بِالثُّلُثِ لِهَذَا وَالثُّلُثِ لِهَذَا فَرَدَّ أَحَدُهُمَا وَقَبِلَ الْآخَرُ إن كُلَّ الثُّلُثِ لِلَّذِي قَبِلَ إلَّا أَنَّهُ إذَا قَبِلَ صَاحِبُهُ يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا لِضَرُورَةِ الْمُزَاحَمَةِ إذْ ليس أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى من الْآخَرِ فإذا رَدَّ أَحَدُهُمَا زَالَتْ الْمُزَاحَمَةُ فَكَانَ جَمِيعُ الثُّلُثِ له وإذا ثَبَتَ أَنَّ الْقَبُولَ رُكْنٌ في عَقْدِ الْوَصِيَّةِ
____________________

(7/332)


فَوَقْتُ الْقَبُولِ ما بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَلَا حُكْمَ لِلْقَبُولِ وَالرَّدِّ قبل مَوْتِهِ حتى لو رَدَّ قبل الْمَوْتِ ثُمَّ قَبِلَ بَعْدَهُ صَحَّ قَبُولُهُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابُ الْمِلْكِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْقَبُولُ أو الرَّدُّ يُعْتَبَرُ كَذَا الْإِيجَابُ لِأَنَّهُ جَوَابٌ وَالْجَوَابُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ السُّؤَالِ
وَنَظِيرُهُ إذَا قال لِامْرَأَتِهِ إذَا جاء غَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ على أَلْفِ دِرْهَمٍ أَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ الْقَبُولُ أو الرَّدُّ إذَا جاء غَدٌ كَذَا هذا فإذا كان التَّصَرُّفُ يَقَعُ إيجَابًا بَعْدَ الْمَوْتِ يُعْتَبَرُ الْقَبُولُ بَعْدَهُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ فَالْوَصِيَّةُ اسْمٌ لِمَا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي في مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَبِهِ تَنْفَصِلُ عن الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ لِأَنَّ شيئا من ذلك لَا يَحْتَمِلُ الْإِيجَابَ بَعْدَ الْمَوْتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو أَوْجَبَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ بَطَلَ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عليه الرَّحْمَةُ في حَدِّ الْوَصِيَّةِ ما أَوْجَبَهُ الْمُوصِي في مَالِهِ تَطَوُّعًا بَعْدَ مَوْتِهِ أو في مَرَضِهِ الذي مَاتَ فيه فَقَوْلُهُ ما أَوْجَبَهُ الموصى في مَالِهِ تَطَوُّعًا بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَشْمَلُ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْوَصَايَا فإنه لَا يَتَنَاوَلُ الْوَصِيَّةَ بِالْقُرَبِ الْوَاجِبَةِ التي تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ من غَيْرِ وَصِيَّةٍ كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِهَا فلم يَكُنْ الْحَدُّ جَامِعًا
وَقَوْلُهُ أو في مَرَضِهِ حَدٌّ مُقَسَّمٌ وَأَنَّهُ فَاسِدٌ
وَكَذَا تَبَرُّعُ الْإِنْسَانِ بِمَالِهِ في مَرَضِهِ الذي مَاتَ فيه من الْإِعْتَاقِ وَالْهِبَةِ وَالْمُحَابَاةِ وَالْكَفَالَةِ وَضَمَانِ الدَّرَكِ لَا يَكُونُ وَصِيَّةً حَقِيقَةً لِأَنَّ حُكْمَ هذه التَّصَرُّفَاتِ مُنَجَّزٌ نَافِذٌ في الْحَالِ قبل الْمَوْتِ وَحُكْمُ الْوَصِيَّةِ يَتَأَخَّرُ إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ فلم تَكُنْ هذه التَّصَرُّفَاتُ من الْمَرِيضِ وَصِيَّةً حَقِيقَةً إلَّا أنها تُعْتَبَرُ بِالْوَصَايَا في حَقِّ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ فإما أَنْ تَكُونَ وَصِيَّةً حَقِيقَةً فَلَا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ أو رُبُعِهِ وقد ذَكَرَ قَدْرًا من مَالِهِ مُشَاعًا أو مُعَيَّنًا إن قَدْرَ ما يَسْتَحِقُّهُ الْمُوصَى له من مَالٍ هو مَالُهُ الذي عِنْدَ الْمَوْتِ لَا ما كان عِنْدَ الْوَصِيَّةِ حتى لو أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَمَالُهُ يوم أَوْصَى ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَيَوْمَ مَاتَ ثَلَثُمِائَةٍ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُوصَى له إلَّا مِائَةً وَلَوْ لم يَكُنْ له مَالٌ يوم أَوْصَى ثُمَّ اكْتَسَبَ مَالًا ثُمَّ مَاتَ فَلَهُ ثُلُثُ الْمَالِ يوم مَاتَ وَلَوْ كان له مَالٌ يوم أَوْصَى فَمَاتَ وَلَيْسَ له مَالٌ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ فَيَسْتَحِقُّ الْمُوصَى له ما كان على مِلْكِ الْمُوصِي عِنْدَ مَوْتِهِ وَيَصِيرُ الْمُضَافُ إلَى الْوَقْتِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَهُ كَأَنَّهُ قال عِنْدَ الْمَوْتِ لِفُلَانٍ ثُلُثُ مَالِي فَيُعْتَبَرُ ما يَمْلِكُهُ في ذلك الْوَقْتِ لَا ما قَبْلَهُ
وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فقال إذَا أَوْصَى رَجُلٌ فقال لِفُلَانٍ شَاةٌ من غَنَمِي أو نَخْلَةٌ من نَخْلِي أو جَارِيَةٌ من جَوَارِيَّ ولم يَقُلْ من غَنَمِي هذه وَلَا من جَوَارِيَّ هَؤُلَاءِ وَلَا من نَخْلِي هذه فإن الْوَصِيَّةَ في هذا تَقَعُ يوم مَوْتِ الْمُوصِي وَلَا تَقَعُ يوم أَوْصَى حتى لو مَاتَتْ غَنَمُهُ تِلْكَ أو بَاعَهَا فَاشْتَرَى مَكَانَهَا أُخْرَى أو مَاتَتْ جَوَارِيهِ فَاشْتَرَى غَيْرَهُنَّ أو بَاعَ النَّخْلَ وَاشْتَرَى غَيْرَهَا فإن لِلْمُوصَى له نَخْلَةً من نَخْلِهِ يوم يَمُوتُ وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطُوهُ غير ذلك لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ مُضَافٌ إلَى الْمَوْتِ فكأنه قال في تِلْكَ الْحَالَةِ لِفُلَانٍ شَاةٌ من غَنَمِي فَيَسْتَحِقُّ شَاةً من الْمَوْجُودِ دُونَ ما قَبْلَهُ قال فَإِنْ وَلَدَتْ الْغَنَمُ قبل أَنْ يَمُوتَ الْمُوصِي أو وَلَدَتْ الْجَوَارِي قبل مَوْتِهِ فَلَحِقَتْ الْأَوْلَادُ الْأُمَّهَاتِ ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي فإن لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطُوهُ إنْ شاؤوا من الْأُمَّهَاتِ وَإِنْ شاؤوا من الْأَوْلَادِ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ عِنْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ الْمُسْتَفَادُ بِالْوِلَادَةِ كَالْمُسْتَفَادِ بِالشِّرَاءِ
قال فَإِنْ اخْتَارَ الْوَرَثَةُ أَنْ يُعْطُوهُ شَاةً من غَنَمِهِ وَلَهَا وَلَدٌ قد وَلَدَتْهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فإن وَلَدَهَا يَتْبَعُهَا وَكَذَلِكَ صُوفُهَا وَلَبَنُهَا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِشَاةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ لَكِنَّ التَّعْيِينَ من الْوَرَثَةِ يَكُونُ بَيَانًا أَنَّ الشَّاةَ الْمُعَيَّنَةَ هِيَ من الْمُوصَى بها كَأَنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ بِهَذِهِ الْمُعَيَّنَةِ ابْتِدَاءً فما حَدَثَ من نماتها ( ( ( نمائها ) ) ) بَعْدَ الْمَوْتِ يَكُونُ لِلْمُوصَى له
قال فَأَمَّا ما وَلَدَتْ قبل مَوْتِ الموصى فَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُوصَى له لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ اعْتِبَارُهَا عِنْدَ الْمَوْتِ فَالْحَادِثُ قبل الْمَوْتِ يَحْدُثُ على مِلْكِ الْوَرَثَةِ
وَكَذَلِكَ الصُّوفُ المنفصل واللبن الْمُنْفَصِلُ وَاللَّبَنُ الْمُنْفَصِلُ قبل الْمَوْتِ لِمَا قُلْنَا فَأَمَّا إنْ كان مُتَّصِلًا بها فَهُوَ لِلْمُوصَى له وَإِنْ حَدَثَ قبل الْمَوْتِ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ عنها بِالتَّمْلِيكِ
قال وَلَوْ اسْتَهْلَكَتْ الْوَرَثَةُ لَبَنَ الشَّاةِ أو صُوفَهَا وقد حَدَثَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَعَلَيْهِمْ ضَمَانُهُ لِأَنَّ الْمُوصَى له مَلَكَهُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ
قال وَلَوْ قال أَوْصَيْتُ له بِشَاةٍ من غَنَمِي هذه أو بِجَارِيَةٍ من جَوَارِيَّ هَؤُلَاءِ أو قال قد أَوْصَيْتُ له بِإِحْدَى جَارِيَتَيَّ هَاتَيْنِ فَهَذَا على هذه الْغَنَمِ وَهَؤُلَاءِ الْجَوَارِي لِأَنَّهُ عَيَّنَ الْمُوصَى بِهِ وهو الشَّاةُ من الْغَنَمِ الْمُشَارُ إلَيْهَا حتى لو مَاتَتْ الْغَنَمُ أو بَاعَهَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ كما لو قال أَوْصَيْتُ بِهَذِهِ الشَّاةِ أو بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ فَهَلَكَتْ
وَلَوْ وَلَدَتْ الْغَنَمُ أو الْجَوَارِي في حَالِ
____________________

(7/333)


حَيَاةِ الموصى ثُمَّ أَرَادَ الْوَرَثَةُ أَنْ يُعْطُوهُ من الْأَوْلَادِ ليس لهم ذلك لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَعَلَّقَتْ بِعَيْنٍ مُشَارٍ إلَيْهَا وَإِنْ لم يَثْبُتْ الْمِلْكُ فيها يَنْزِلُ في غَيْرِهَا فَإِنْ دَفَعَ الْوَرَثَةُ إلَيْهِ جَارِيَةً من الْجَوَارِي لم يَسْتَحِقَّ ما وَلَدَتْ قبل الْمَوْتِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لم تَكُنْ وَجَبَتْ فيها لِأَنَّ الْمِلْكَ في الْوَصِيَّةِ إنَّمَا ينتقل ( ( ( ينقل ) ) ) بِالْمَوْتِ فما حَدَثَ قبل الْمَوْتِ يَحْدُثُ على مِلْكِ الْمَيِّتِ فَيَكُونُ لِلْوَرَثَةِ وما وَلَدَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهُوَ لِلْمُوصَى له لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْمَوْتِ فَحَدَثَ الْوَلَدُ على مِلْكِهِ
قال فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ كُلُّهَا إلَّا وَاحِدَةً تَعَيَّنَتْ الْوَصِيَّةُ فيها لِأَنَّهُ لم يَبْقَ من يُزَاحِمُهَا في تَعَلُّقِ الْوَصِيَّةِ فَتَعَيَّنَتْ ضَرُورَةُ انْتِفَاءِ الْمُزَاحِمِ فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ كُلُّهَا وقد بَقِيَ لها أَوْلَادٌ حَدَثَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ أو أُحْرِقَ النَّخْلُ وَبَقِيَ لها ثَمَرٌ حَدَثَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَعَلَى الْوَرَثَةِ أَنْ يَدْفَعُوا إلَيْهِ وَلَدَ جَارِيَةٍ وَثَمَرَةَ نَخْلَةٍ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ كانت مُتَعَلِّقَةً بها فَيَظْهَرُ الِاسْتِحْقَاقُ في الْوَلَدِ الْحَادِثِ بَعْدَهُ فإذا هَلَكَتْ الْأُمُّ بَقِيَ الْحَقُّ في الْوَلَدِ على حَالِهِ وَلَا يَظْهَرُ فِيمَا حَدَثَ قبل الْمَوْتِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوصِي وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوصَى له وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوصَى بِهِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ مُوَافِقًا لِلْإِيجَابِ فَإِنْ خَالَفَ الْإِيجَابَ لم يَصِحَّ الْقَبُولُ لِأَنَّهُ إذَا خَالَفَهُ لم يَرْتَبِطْ فَبَقِيَ الْإِيجَابُ بِلَا قَبُولٍ فَلَا يَتِمُّ الرُّكْنُ
وَبَيَانُ ذلك إذَا قال لِرَجُلَيْنِ أَوْصَيْتُ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لَكُمَا فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَرَدَّ الْآخَرُ لم يَصِحَّ الْقَبُولُ لِأَنَّهُ أَوْصَى لَهُمَا جميعا فَكَانَ وَصِيَّةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الْجَارِيَةِ وَكَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَهُمَا لو قَبِلَا فإذا رَدَّ أَحَدُهُمَا لم يُوجَدْ الشَّرْطُ وهو قَبُولُهُمَا جميعا فَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ
وَلَوْ أَوْصَى بها لِإِنْسَانٍ ثُمَّ أَوْصَى بها لِآخَرَ فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّةَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَرَدَّ الْآخَرُ فَالنِّصْفُ لِلْمُوصَى له وَالنِّصْفُ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي لِأَنَّهُ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على حِيَالِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ اجْتِمَاعُهُمَا في الْقَبُولِ فإذا رَدَّ أَحَدُهُمَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي لم يَتِمَّ الرُّكْنُ في حَقِّهِ بَلْ بَطَلَ الْإِيجَابُ في حَقِّهِ فَعَادَ نَصِيبُهُ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي فَصَحَّ الْقَبُولُ من الْآخَرِ فَاسْتَحَقَّ نِصْفَ الْوَصِيَّةِ كَالشَّفِيعَيْنِ إذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا الشُّفْعَةَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالشُّفْعَةِ أَنَّ ذلك النِّصْفَ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي وَلَا يَكُونُ لِلشَّفِيعِ الْآخَرِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُوصِي فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ من أَهْلِ التَّبَرُّعِ في الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ وما يَتَعَلَّقُ بِهِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِذَلِكَ تَبَرُّعٌ بِإِيجَابِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا بُدَّ من أَهْلِيَّةِ التَّبَرُّعِ فَلَا تَصِحُّ من الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ التَّبَرُّعِ لِكَوْنِهِ من التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ إذْ لَا يُقَابِلُهُ عرض ( ( ( عوض ) ) ) دُنْيَوِيٌّ
وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ في الْقُرَبِ صَحِيحَةٌ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَجَازَ وَصِيَّةَ غُلَامٍ يَافِعٍ وهو الذي قَرُبَ إدْرَاكُهُ وَلِأَنَّ في وَصِيَّتِهِ نَظَرًا له لِأَنَّهُ يُثَابُ عليه وَلَوْ لم يوصي ( ( ( يوص ) ) ) لَزَالَ مِلْكُهُ إلَى الْوَارِثِ من غَيْرِ ثَوَابٍ
لِأَنَّهُ يَزُولُ عنه جَبْرًا شَاءَ أو أَبَى فَكَانَ هذا تَصَرُّفًا نَافِعًا في حَقِّهِ فَأَشْبَهَ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ وَصَوْمَ التَّطَوُّعِ
وَالْجَوَابُ أما إجَازَةُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فَيَحْتَمِلُ أَنَّ وَصِيَّةَ ذلك الصَّبِيِّ كانت لِتَجْهِيزِهِ وَتَكْفِينِهِ وَدَفْنِهِ وَوَصِيَّةُ الصَّبِيِّ في مِثْلِهِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ يَثْبُتُ من غَيْرِ وَصِيَّةٍ
وَأَمَّا قَوْلُهُ يَحْصُلُ له عِوَضٌ وهو الثَّوَابُ فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّهُ ليس بِعِوَضٍ دُنْيَوِيٍّ فَلَا يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ كَالصَّدَقَةِ مع ما أَنَّ هذا في حَدِّ التَّعَارُضِ لِأَنَّهُ كما يُثَابُ على الْوَصِيَّةِ يُثَابُ على التَّرْكِ لِلْوَارِثِ بَلْ هو أَوْلَى في بَعْضِ الْأَمْوَالِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَسَوَاءٌ مَاتَ قبل الْإِدْرَاكِ وبعده لِأَنَّهَا وَقَعَتْ بَاطِلَةً فَلَا تَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ بِالْإِدْرَاكِ إلَّا بِالِاسْتِئْنَافِ وَسَوَاءٌ كان الصَّبِيُّ مَأْذُونًا في التِّجَارَةِ أو مَحْجُورًا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَيْسَتْ من بَابِ التِّجَارَةِ إذْ التِّجَارَةُ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ
وَلَوْ أَضَافَ الْوَصِيَّةَ إلَى ما بَعْدَ الْإِدْرَاكِ بِأَنْ قال إذَا أَدْرَكْتُ ثُمَّ مِتُّ فَثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ لم يَصِحَّ لِأَنَّ عِبَارَتَهُ لم تَقَعْ صَحِيحَةً فَلَا تُعْتَبَرُ في إيجَابِ الْحُكْمِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ التَّبَرُّعِ
وَلَوْ أَوْصَيَا ثُمَّ أُعْتِقَا وَمَلَكَا مَالًا ثُمَّ مَاتَا لم تَجُزْ لِوُقُوعِهَا بَاطِلَةً من الِابْتِدَاءِ
وَلَوْ أَضَافَ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّةَ إلَى ما بَعْدَ الْعِتْقِ بِأَنْ قال إذَا أُعْتِقْتُ ثُمَّ مِتَّ فَثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ صَحَّ فَرْقًا بين الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ عِبَارَةَ الصَّبِيِّ فِيمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ مُلْحَقَةٌ بِالْعَدَمِ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِ فلم تَصِحَّ عِبَارَتُهُ من الْأَصْلِ بَلْ بَطَلَتْ وَالْبَاطِلُ لَا حُكْمَ له بَلْ هو ذَاهِبٌ متلاشي ( ( ( متلاش ) ) ) في حَقِّ الْحُكْمِ
فَأَمَّا عِبَارَةُ الْعَبْدِ فَصَحِيحَةٌ لِصُدُورِهَا عن عَقْلٍ مُمَيِّزٍ إلَّا أَنَّ امْتِنَاعَ تَبَرُّعِهِ لَحِقَ الْمَوْلَى فإذا
____________________

(7/334)


عَتَقَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا رِضَا الموصى لِأَنَّهَا إيجَابُ مِلْكٍ أو ما يَتَعَلَّقُ بِالْمِلْكِ فَلَا بُدَّ فيه من الرِّضَا كَإِيجَابِ الْمِلْكِ بِسَائِرِ الْأَشْيَاءِ فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْهَازِلِ وَالْمُكْرَهِ والخاطىء ( ( ( والخاطئ ) ) ) لِأَنَّ هذه الْعَوَارِضَ تُفَوِّتُ الرِّضَا
وَأَمَّا إسْلَامُ الْمُوصِي فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ وَصِيَّتِهِ فَتَصِحُّ وَصِيَّةُ الذمي ( ( ( الذي ) ) ) بِالْمَالِ لِلْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ في الْجُمْلَةِ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ التَّمْلِيكِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُ الْكَافِرِ وَهِبَتُهُ فَكَذَا وَصِيَّتُهُ وَكَذَا الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ إذَا أَوْصَى لِلْمُسْلِمِ أو الذِّمِّيِّ يَصِحُّ في الْجُمْلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا غير أَنَّهُ إنْ كان دخل وَارِثُهُ معه في دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَوْصَى بِأَكْثَرَ من الثُّلُثِ وَقَفَ ما زَادَ على الثُّلُثِ على إجَازَةِ وَارِثِهِ لِأَنَّهُ بِالدُّخُولِ مُسْتَأْمَنًا الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ أو أَلْزَمَهُ من غَيْرِ الْتِزَامِهِ لِإِمْكَانِ إجْرَاءِ الأحكام عليه ما دَامَ في دَارِ الْإِسْلَامِ
وَمِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ على الثُّلُثِ مِمَّنْ له وَارِثٌ تَقِفُ على إجَازَةِ وَارِثِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ له وَارِثٌ أَصْلًا تَصِحُّ من جَمِيعِ الْمَالِ كما في الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ
وَكَذَلِكَ إذَا كان له وَارِثٌ لَكِنَّهُ في دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الزِّيَادَةِ على الثُّلُثِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَحَقُّهُمْ غَيْرُ مَعْصُومٍ لِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ لِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلَأَنْ لَا يَكُونَ لِحَقِّهِمْ الذي في مَالِ مُورِثِهِمْ عِصْمَةٌ أَوْلَى
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ
وَلَوْ أَوْصَى الْحَرْبِيُّ في دَارِ الْحَرْبِ بِوَصِيَّةٍ ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ أو صَارُوا ذِمَّةً ثُمَّ اخْتَصَمَا إلَيَّ في تِلْكَ الْوَصِيَّةِ فَإِنْ كانت قَائِمَةً بِعَيْنِهَا أَجَزْتُهَا وَإِنْ كانت قد اُسْتُهْلِكَتْ قبل الْإِسْلَامِ أَبْطَلْتُهَا لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ من أَهْلِ التَّمْلِيكِ
أَلَا يَرَى أَنَّهُ من أَهْلِ سَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فَكَانَتْ وَصِيَّتُهُ جَائِزَةً في نَفْسِهَا إلَّا أَنَّهُ ليس لنا وِلَايَةُ اجراء أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَتَنْفِيذِهَا في دَارِهِمْ فإذا أَسْلَمُوا أو صَارُوا ذِمَّةً قَدَرْنَا على التَّنْفِيذِ فنفذها ( ( ( فننفذها ) ) ) ما دَامَ الْمُوصَى بِهِ قَائِمًا فَأَمَّا إذَا صَارَ مُسْتَهْلَكًا أَبْطَلْنَا الْوَصِيَّةَ وَأَلْحَقْنَاهَا بِالْعَدَمِ لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ إذَا أَسْلَمُوا أو صَارُوا ذِمَّةً لَا يُؤَاخَذُونَ بِمَا اسْتَهْلَكَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَا اغْتَصَبَ بَعْضُهُمْ من بَعْضٍ بَلْ يَبْطُلُ ذلك
كَذَا هذا
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ على الْمُوصِي دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لِتَرِكَتِهِ فَإِنْ كان لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدَّمَ الدَّيْنَ على الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى في آيَةِ الْمَوَارِيثِ { من بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصي بها أو دَيْنٍ } ويوصي بها أو دَيْنٍ وتوصون ( ( ( و ) ) ) بها ( ( ( يوصين ) ) ) أودين ويوصين بها أو دَيْنٍ
وَلِمَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال إنَّكُمْ تقرؤون ( ( ( تقرءون ) ) ) الْوَصِيَّةَ قبل الدَّيْنِ وقد شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ بَدَأَ بِالدَّيْنِ قبل الْوَصِيَّةِ
أَشَارَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه إلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ في الذِّكْرِ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ في الْحُكْمِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما إنَّكَ تَأْمُرُ بِالْعُمْرَةِ قبل الْحَجِّ وقد بَدَأَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِالْحَجِّ فقال تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } فقال رضي اللَّهُ عنه كَيْفَ تقرؤون ( ( ( تقرءون ) ) ) آيَةَ الدَّيْنِ فَقَالُوا ( من بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بها أو دَيْنٍ ) فقال وَبِمَاذَا تبدؤون ( ( ( تبدءون ) ) ) قالوا بِالدَّيْنِ
قال رضي اللَّهُ عنه هو ذَاكَ
وَلِأَنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعُ وَالْوَاجِبُ مُقَدَّمٌ على التَّبَرُّعِ وَمَعْنَى تَقَدُّمِ الدَّيْنِ على الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ أَنَّهُ يُقْضَى الدَّيْنُ أَوَّلًا فَإِنْ فَضَلَ منه شَيْءٌ يُصْرَفُ إلَى الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَإِلَّا فَلَا
وَأَمَّا مَعْنَى تَقَدُّمِ الْوَصِيَّةِ على الْمِيرَاثِ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يُخْرِجَ الثُّلُثَ وَيُعْزَلُ عن التَّرِكَةِ
وَيَبْدَأُ بِدَفْعِهِ إلَى الْمُوصَى له ثُمَّ يُدْفَعُ الثُّلُثَانِ إلَى الْوَرَثَةِ لِأَنَّ التَّرِكَةَ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ تَكُونُ بين الْوَرَثَةِ وَبَيْنَ الْمُوصَى له على الشَّرِكَةِ وَالْمُوصَى له شَرِيكُ الْوَرَثَةِ في الِاسْتِحْقَاقِ كَأَنَّهُ وَاحِدٌ من الْوَرَثَةِ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُوصَى له من الثُّلُثِ شيئا قَلَّ أو كَثُرَ إلَّا وَيَسْتَحِقُّ منه الْوَرَثَةُ ثُلُثَيْهِ وَيَكُونُ فَرْضُهُمَا مَعًا لَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ حتى لو هَلَكَ شَيْءٌ من التَّرِكَةِ قبل الْقِسْمَةِ يُهْلَكُ على الْمُوصَى له وَالْوَرَثَةِ جميعا وَلَا يُعْطَى الْمُوصَى له كُلَّ الثُّلُثِ من الْبَاقِي بَلْ الْهَالِكُ يَهْلِكُ على الْحَقَّيْنِ وَالْبَاقِي يَبْقَى على الْحَقَّيْنِ كما إذَا هَلَكَ شَيْءٌ من الْمَوَارِيثِ بَعْدَ الْوَصَايَا بِخِلَافِ الدَّيْنِ فإنه إذَا هَلَكَ بَعْضُ التَّرِكَةِ وَبَقِيَ الْبَعْضُ يُسْتَوْفَى كُلُّ الدَّيْنِ من الْبَاقِي وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُحْسَبُ قَدْرُ الْوَصِيَّةِ من جُمْلَةِ التَّرِكَةِ أَوَّلًا لِتَظْهَرَ سِهَامُ الْوَرَثَةِ كما تُحْسَبُ سِهَامُ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ أَوَّلًا لِيَظْهَرَ الْفَاضِلُ لِلْعَصَبَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يُوصِيكُمْ اللَّهُ في أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ } إلَى قَوْله تَعَالَى { من بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بها } أَيْ سِوَى ما لَكُمْ أَنْ تُوصُوهُ من الثُّلُثِ
أَوْصَاكُمْ اللَّهُ بِكَذَا وَتَكُونُ بَعْدُ بِمَعْنَى سِوَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُوصَى له فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فَإِنْ لم يَكُنْ مَوْجُودًا لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَعْدُومِ لَا تَصِحُّ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قال أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِمَا في بَطْنِ فُلَانَةَ أنها إنْ وَلَدَتْ لِمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كان مَوْجُودًا في الْبَطْنِ صَحَتْ الْوَصِيَّةُ وَإِلَّا فَلَا
____________________

(7/335)


وَإِنَّمَا يُعْلَمُ ذلك إذَا وَلَدَتْ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ يُعْتَبَرُ ذلك من وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعِنْدَ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ من وَقْتِ وُجُودِ الْوَصِيَّةِ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ هو الْوَصِيَّةُ فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهُ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ وَقْتَ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ وَاعْتِبَارِهَا في حَقِّ الْحُكْمِ وَقْتُ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهُ من ذلك الْوَقْتِ لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لَأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ من وَقْتِ الْمَوْتِ أو من وَقْتِ الْوَصِيَّةِ على اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ تَيَقَّنَّا أَنَّهُ كان مَوْجُودًا إذْ الْمَرْأَةُ لَا تَلِدُ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ
وإذا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ في الْبَطْنِ لِاحْتِمَالِ أنها عَلِقَتْ بَعْدَهُ فَلَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ بِالشَّكِّ إلَّا إذَا كانت الْمَرْأَةُ مُعْتَدَّةً من زَوْجِهَا من طَلَاقٍ أو وَفَاةٍ فَوَلَدَتْ إلَى سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا أو مَاتَ عنها زَوْجُهَا فَلَهُ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ من زَوْجِهَا إلَى سَنَتَيْنِ
وَمِنْ ضَرُورَةِ ثَبَاتِ النَّسَبِ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ في الْبَطْنِ وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي
فُرِّقَ بين الْوَصِيَّةِ لِمَا في الْبَطْنِ وَبَيْنَ الْهِبَةِ لِمَا في الْبَطْنِ أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَصِحُّ وَالْوَصِيَّةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا صِحَّةَ لها بِدُونِ الْقَبْضِ ولم يُوجَدْ وَالْوَصِيَّةُ لَا تَقِفُ صِحَّتُهَا على الْقَبْضِ
وَلَوْ قال إنْ كان في بَطْنِ فُلَانَةَ جَارِيَةٌ فَلَهَا وَصِيَّةُ أَلْفٍ وَإِنْ كان في بَطْنِهَا غُلَامٌ فَلَهُ وَصِيَّةُ أَلْفَانِ فَوَلَدَتْ جَارِيَةً لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ إلَّا يَوْمًا وَوَلَدَتْ غُلَامًا بَعْدَ ذلك بِيَوْمَيْنِ فَلَهُمَا جَمِيعُ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُمَا أوصى لَهُمَا جميعا لَكِنْ لِأَحَدِهِمَا بِأَلْفٍ وَلِلْآخَرِ بِأَلْفَيْنِ وقد عُلِمَ كَوْنُهُمَا في الْبَطْنِ
أَمَّا الْجَارِيَةُ فَلَا شَكَّ فيها لِأَنَّهَا وُلِدَتْ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ من وَقْتِ موت الْمُوصِي فَعُلِمَ أنها كانت مَوْجُودَةً في الْبَطْنِ في ذلك الْوَقْتِ
وَكَذَا الْغُلَامُ لِأَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ لَأَكْثَرَ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِيَوْمٍ أو يَوْمَيْنِ عُلِمَ أَنَّهُ كان في الْبَطْنِ مع الْجَارِيَةِ لِأَنَّهُ تَوْأَمٌ فَكَانَ من ضَرُورَةِ كَوْنِ أَحَدِهِمَا في الْبَطْنِ كَوْنُ الْآخَرِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا عَلِقَا من مَاءٍ وَاحِدٍ فَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامَيْنِ وَجَارِيَتَيْنِ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَذَلِكَ إلَى الْوَرَثَةِ يُعْطُونَ أَيَّ الْغُلَامَيْنِ شاؤوا وَأَيَّ الْجَارِيَتَيْنِ شاؤوا إلَّا أَنَّهُ ما أَوْصَى لَهُمَا جميعا وَإِنَّمَا أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى من الْآخَرِ فَكَانَ الْبَيَانُ إلَى الْوَرَثَةِ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ
وَقِيلَ إنَّ هذا الْجَوَابَ على مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
فَأَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ بِنَاءً على مَسْأَلَةٍ أُخْرَى وهو ما إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِفُلَانٍ وَفُلَانٌ أو أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أنها صَحِيحَةٌ غير أَنَّ عِنْدَ أبي يُوسُفَ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا جميعا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَحَدِهِمَا وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إلَى الْوَرَثَةِ يُعْطُونَ أَيَّهمَا شاؤوا فَقَاسُوا هذه الْمَسْأَلَةَ على تِلْكَ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا وهو جَهَالَةُ الْمُوصَى له
وَمِنْهُمْ من قال هَهُنَا يَجُوزُ في قَوْلِهِمْ جميعا وَفَرَّقَ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ من حَيْثُ أن الْجَهَالَةَ هُنَاكَ مُقَارِنَةٌ لِلْعَقْدِ وَهَهُنَا طَارِئَةٌ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ هُنَاكَ حَالَ وُجُودِهَا أُضِيفَتْ إلَى ما في الْبَطْنِ لَا إلَى أَحَدِ الْغُلَامَيْنِ وَإِحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ ثُمَّ طَرَأَتْ بَعْدَ ذلك بِالْوِلَادَةِ وَالْبَقَاءُ أَسْهَلُ من الِابْتِدَاءِ كَالْعِدَّةِ إذَا قَارَنَتْ النِّكَاحَ مَنَعَتْهُ من الإنعقاد فإذا طَرَأَتْ عليه لَا تَرْفَعُهُ
كَذَا هَهُنَا
وَلَوْ قال إنْ كان الذي في بَطْنِ فُلَانَةَ غُلَامًا فَلَهُ أَلْفَانِ وَإِنْ كان جَارِيَةً فَلَهَا أَلْفٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ من الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ اسْتِحْقَاقِ الْوَصِيَّةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ هو كُلُّ ما في الْبَطْنِ بِقَوْلِهِ إنْ كان الذي في بَطْنِهَا كَذَا فَلَهُ كَذَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ليس هو كُلُّ ما في الْبَطْنِ بَلْ بَعْضُ ما فيه فلم يُوجَدْ شَرْطُ صِحَّةِ اسْتِحْقَاقِ الْوَصِيَّة في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدُهُمَا شيئا بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ كان في بَطْنِ فُلَانَةَ جَارِيَةٌ فَلَهَا كَذَا وَإِنْ كان في بَطْنِهَا غُلَامٌ فَلَهُ كَذَا ليس فيه شَرْطٌ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ كُلَّ ما في الْبَطْنِ بَلْ الشَّرْطُ فيه أَنْ يَكُونَ في بَطْنِهَا غُلَامٌ وَأَنْ يَكُونَ في بَطْنِهَا جَارِيَةٌ وقد كان في بَطْنِهَا غُلَامٌ وَجَارِيَةٌ فَوُجِدَ شَرْطُ الِاسْتِحْقَاقِ
وَكَذَلِكَ لو أَوْصَى بِمَا في بَطْنِ دَابَّةِ فُلَانٍ أَنْ يُنْفَقَ عليه أَنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ إذَا قَبِلَ صَاحِبُهَا وَتُعْتَبَرُ فيه الْمُدَّةُ على ما ذَكَرْنَا
هذا هو حُكْمُ الْوَصِيَّةِ لِمَا في الْبَطْنِ فَأَمَّا حُكْمُ الْإِقْرَارِ بِمَالٍ لِمَا في بَطْنِ فُلَانَةَ فَهَذَا في الْأَصْلِ على وَجْهَيْنِ إما إنْ بَيَّنَ السَّبَبَ
وإما إنْ لم يُبَيِّنْ بَلْ أَطْلَقَ فَإِنْ بَيَّنَ السَّبَبَ فَإِمَّا إنْ بَيَّنَ سَبَبًا هو جَائِزُ الْوُجُودِ وَإِمَّا إنْ بَيَّنَ سَبَبًا هو مُسْتَحِيلُ الْوُجُودِ عَادَةً فَإِنْ بَيَّنَ سَبَبًا هو جَائِزُ الْوُجُودِ عَادَةً بِأَنْ قال لِمَا في بَطْنِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِأَنِّي اسْتَهْلَكْتُ مَالَهُ أو غَصَبْتُ أو سَرَقَتْ جَازَ إقْرَارُهُ في قَوْلِهِمْ جميعا
وَإِنْ بَيَّنَ سَبَبًا هو مُسْتَحِيلُ الْوُجُودِ عَادَةً بِأَنْ قال لِمَا في بَطْنِ فُلَانَةَ
____________________

(7/336)


عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِأَنِّي اسْتَقْرَضْتُ منه لَا يَجُوزُ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهُ أَسْنَدَ إقْرَارَهُ إلَى سَبَبٍ هو مُحَالٌ عَادَةً وَإِنْ لم يُبَيِّنْ لِلْإِقْرَارِ سَبَبًا بَلْ سَكَتَ عنه بِأَنْ قال لِمَا في بَطْنِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ولم يَزِدْ عليه فَهَذَا الْإِقْرَارُ بَاطِلٌ في قَوْلِهِمَا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ صَحِيحٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ يُحْمَلُ على الصِّحَّةِ ما أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِالْحَمْلِ على سَبَبٍ مُتَصَوَّرِ الْوُجُودِ فَيُحْمَلُ عليه تَصْحِيحًا له
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ الْمُطْلَقَ بِالدَّيْنِ يُرَادُ بِهِ الْإِقْرَارُ بِسَبَبِ الْمُدَايَنَةِ لِأَنَّهُ هو السَّبَبُ الْمَوْضُوعُ لِثُبُوتِ الدَّيْن وأنه في الدَّيْنِ هَهُنَا مُحَالٌ عَادَةً وَالْمُسْتَحِيلُ عَادَةً كَالْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي حتى لو قال أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِمَا في بَطْنِ فُلَانَةَ فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ من وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي وَلَدًا مَيِّتًا لَا وَصِيَّةَ له لِأَنَّ الْمَيِّتَ ليس من أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ الْوَصِيَّةِ كما ليس من أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِأَنْ وُلِدَ مَيِّتًا وأنها أُخْتُ الْمِيرَاثِ
وَلَوْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ حَيًّا وَمَيِّتًا فَجَمِيعُ الْوَصِيَّةِ لِلْحَيِّ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَصْلُحُ مَحِلًّا لِوَضْعِ الْوَصِيَّةِ فيه وَلِهَذَا لو أَوْصَى لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ كان كُلُّ الْوَصِيَّةِ لِلْحَيِّ كما لو أَوْصَى لِآدَمِيٍّ وَحَائِطٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ وَارِثُ الْمُوصِي وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي فَإِنْ كان لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِمَا رُوِيَ عن أبي قِلَابَةَ رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وفي هذا حِكَايَةٌ وَهِيَ ما حُكِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بن الْأَعْمَشِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كان مَرِيضًا فَعَادَهُ أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَوَجَدَهُ يُوصِي لإبنيه فقال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أن هذا لَا يَجُوزُ فقال وَلِمَ يا أَبَا حَنِيفَةَ فقال لِأَنَّكَ رَوَيْتَ لنا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قال لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ فقال سُلَيْمَانُ رَحِمَهُ اللَّهُ يا مَعْشَرَ الْفُقَهَاءِ أَنْتُمْ الْأَطِبَّاءُ وَنَحْنُ الصَّيَادِلَةُ فَقَدْ نَفَى الشَّارِعُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَكُونَ لِوَارِثٍ وَصِيَّةٌ نَصًّا وَأَشَارَ إلَى تَحَوُّلِ الْحَقِّ من الْوَصِيَّةِ إلَى الْمِيرَاثِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلِأَنَّا لو جَوَّزْنَا الْوَصِيَّةَ لِلْوَرَثَةِ لَكَانَ لِلْمُوصِي أَنْ يُؤْثِرَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ وَفِيهِ إيذَاءُ الْبَعْضِ وَإِيحَاشُهُمْ فَيُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ وأنه حَرَامٌ وما أَفْضَى إلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ
ثُمَّ الشَّرْطُ أَنْ لَا يَكُونَ وَارِثُ الْمُوصِي وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ حتى لو أَوْصَى لِأَخِيهِ وَلَهُ ابْنٌ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ ثُمَّ مَاتَ قبل مَوْتِ الْمُوصِي ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي لم تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الْمُوصَى له وهو الْأَخُ صَارَ وَارِثَ الْمُوصِي عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَوْ أَوْصَى لِأَخِيهِ وَلَا ابْنَ له وَقْتَ الْوَصِيَّةِ ثُمَّ وُلِدَ له ابْنٌ ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الْأَخَ ليس بِوَارِثِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ لِصَيْرُورَتِهِ مَحْجُوبًا بِالِابْنِ وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَتْ الْوِرَاثَةُ وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي لَا وَقْتَ وَصِيَّتِهِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَيْسَتْ بِتَمْلِيكٍ لِلْحَالِ لِيُعْتَبَرَ كَوْنُهُ وَارِثًا وَقْتَ وُجُودِهَا بَلْ هِيَ تَمْلِيكٌ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ ذلك عِنْدَ الْمَوْتِ وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ في الْمَرَضِ بِأَنْ وَهَبَ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ شيئا ثُمَّ مَاتَ أنه يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا له وَقْتَ الْمَوْتِ لَا وَقْتَ الْهِبَةِ لِأَنَّ هِبَةَ الْمَرِيضِ في مَعْنَى الْوَصِيَّةِ حتى تُعْتَبَرَ من الثُّلُثِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذا أَوْصَى لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ وهو مَرِيضٌ أو صَحِيحٌ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أنه لَا يَصِحُّ
وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ بِدَيْنٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا جَازَ إقْرَارُهُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا تَصِيرُ مِلْكًا عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَيُعْتَبَرُ كَوْنُهَا وَارِثَةً له حِينَئِذٍ وَهِيَ وَارِثَتُهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ فلم تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ
فَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَاعْتِبَارُهُ حَالَ وُجُودِهِ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ حَالَ وُجُودِهِ فَاعْتِرَاضُ الزَّوْجِيَّةِ بَعْدَ ذلك لَا يُبْطِلُهُ
وَكَذَا لو وَهَبَ لها هِبَةً في مَرَضِ مَوْتِهِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَطَلَتْ الْهِبَةُ لِأَنَّ تَبَرُّعَاتِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ تُعْتَبَرُ بِالْوَصَايَا
وَلَوْ أَوْصَى وهو مَرِيضٌ أو صَحِيحٌ لِابْنِهِ النَّصْرَانِيِّ صَحَّ لِأَنَّهُ ليس بِوَارِثِهِ فَلَوْ أَسْلَمَ الِابْنُ قبل مَوْتِهِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ لِمَا قُلْنَا إن اعْتِبَارَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وهو وَارِثٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ لِابْنِهِ النَّصْرَانِيِّ ثُمَّ أَسْلَمَ لم يَجُزْ إقْرَارُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِهِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في الْمَرْأَةِ أَنَّ الْإِقْرَارَ يُعْتَبَرُ حَالَ وُقُوعِهِ وأنه غَيْرُ وَارِثٍ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَاعْتِرَاضُ الْوِرَاثَةِ بَعْدَ ذلك لَا يُبْطِلُ الدَّيْنَ الثَّابِتَ كما قُلْنَا في الْمَرْأَةِ
وَلَنَا أَنَّ الْوِرَاثَةَ وَإِنْ لم تَكُنْ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْإِقْرَارِ لَكِنَّ سَبَبَهَا كان قَائِمًا وهو الْقَرَابَةُ لَكِنْ لم يَظْهَرْ عَمَلُهَا لِلْحَالِ لِمَانِعٍ وهو الْكُفْرُ فَعِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ يَلْحَقُ بِالْعَدَمِ من الْأَصْلِ وَيُعْمَلُ السَّبَبُ من وَقْتِ وُجُودِهِ لَا من وَقْتِ زوال ( ( ( زاول ) ) ) الْمَانِعِ كما في الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ أن عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ يُعْمَلُ السَّبَبُ وهو الْبَيْعُ في الْحُكْمِ من وَقْتِ وُجُودِهِ لَا من وَقْتِ
____________________

(7/337)


سُقُوطِ الْخِيَارِ وَالْجَامِعُ أَنَّ الْعَامِلَ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الْمَانِعِ ذَاتَ الْبَيْعِ وَذَاتَ الْقَرَابَةِ فَتَسْتَنِدُ السَّبَبِيَّةُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ ذَاتِهِ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ لِوَارِثِهِ فلم يَصِحَّ أو يُقَالُ إنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ إنَّمَا يُرَدُّ التهمة ( ( ( للتهمة ) ) ) وَسَبَبُ التُّهْمَةِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ مَوْجُودٌ وهو الْقَرَابَةُ بِخِلَافِ ما إذَا أَقَرَّ لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لِأَنَّ هُنَاكَ سَبَبَ الْقَرَابَةِ لم يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ لِأَنَّ السَّبَبَ هو الزَّوْجِيَّةُ ولم تَكُنْ وَقْتَ الْإِقْرَارِ وَإِنَّمَا وُجِدَتْ بَعْدَ ذلك وَبَعْدَ وُجُودِهَا لَا تَحْتَمِلُ الِاسْتِنَادَ فَيُقْتَصَرُ على حَالِ وُجُودِهَا ولم يَكُنْ ذلك إقْرَارًا لِوَارِثِهِ فَيَصِحَّ وَيَثْبُتَ الدَّيْنَ في ذِمَّتِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِحُدُوثِ الزَّوْجِيَّةِ وَعَلَى التَّقْرِيبِ الثَّانِي لم يُوجَدْ سَبَبُ التُّهْمَةِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَيَصِحَّ
وَلَوْ كان ابْنُهُ مُسْلِمًا لَكِنَّهُ مَمْلُوكٌ فَأَوْصَى له ثُمَّ أُعْتِقَ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَوَانَ اعْتِبَارِ الْوَصِيَّةِ أَوَانَ الْمَوْتِ وهو وَارِثُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَوْ أَقَرَّ له بِالدَّيْنِ وهو مَرِيضٌ أو وَهَبَ له هِبَةً فَقَبَضَهَا فَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ جَازَ ذلك لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ كان الْإِقْرَارُ وَالْهِبَةُ لِمَوْلَاهُ وأنه أَجْنَبِيٌّ عن الْمُوصِي فَجَازَ وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ وَالْهِبَةَ يَقَعَانِ له لَا لِمَوْلَاهُ لِأَنَّهُ يَقْضِي منه دُيُونَهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْإِقْرَارَ كان لِوَارِثِهِ من طَرِيقِ الِاسْتِنَادِ فَلَا يَصِحُّ أو لَا يَصِحُّ لِقِيَامِ سَبَبِ شُبْهَةِ التُّهْمَةِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ كما قُلْنَا في الْإِقْرَارِ لِابْنِهِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَ
وَلَوْ أَوْصَى لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ فَأَجَازَ الْبَاقُونَ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْجَوَازِ كان لَحَقِّهِمْ لِمَا يَلْحَقُهُمْ من الْأَذَى وَالْوَحْشَةِ بِإِيثَارِ الْبَعْضِ وَلَا يُوجَدُ ذلك عِنْدَ الْإِجَازَةِ وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ يُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ
وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ فَإِنْ أَجَازَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا جميعا وكان الثُّلُثُ بين الْأَجْنَبِيِّ وَبَيْنَ الْوَارِثِ نِصْفَيْنِ وَإِنْ رَدُّوا جَازَتْ في حِصَّةِ الْأَجْنَبِيِّ وَبَطَلَتْ في حِصَّةِ الْوَارِثِ
وقال بَعْضُ الناس يُصْرَفُ الثُّلُثُ كُلُّهُ إلَى الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّ الْوَارِثَ ليس بِمَحَلٍّ لِلْوَصِيَّةِ فَالْتَحَقَتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ بِالْعَدَمِ كما لو أَوْصَى لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ أن الْوَصِيَّةَ كُلَّهَا لِلْحَيِّ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ لَيْسَتْ وَصِيَّةٌ بَاطِلَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو اتَّصَلَتْ بها الْإِجَازَةُ جَازَتْ وَالْبَاطِلُ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِالْإِجَازَةِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَارِثَ مَحَلٌّ لِلْوَصِيَّةِ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الْمُضَافَ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ يَكُونُ بَاطِلًا دَلَّ أَنَّهُ مَحَلٌّ وَأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَيْهِ وَقَعَتْ صَحِيحَةً إلَّا أنها تَبْطُلُ في حِصَّتِهِ بِرَدِّ الْبَاقِينَ وإذا وَقَعَتْ صَحِيحَةً فَقَدْ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الثُّلُثِ ثُمَّ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ في حَقِّ الْوَارِثِ بِالرَّدِّ فَبَقِيَتْ في حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ على حَالِهَا كما لو أَوْصَى لِأَجْنَبِيَّيْنِ فَرَدَّ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ بِخِلَافِ الْمَرِيضِ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ كما إذا أَقَرَّ لَهُمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْوَارِثُ مع الْأَجْنَبِيِّ تصادفا ( ( ( تصادقا ) ) ) أنه لَا يَصِحُّ لَهُمَا الْإِقْرَارُ أَصْلًا لَا لِلْوَارِثِ وَلَا لِلْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ فَبُطْلَانُهُ في حَقِّ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ الْبُطْلَانَ في حَقِّ الْآخَرِ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الشَّرِكَةَ وَالْإِقْرَارُ لَهُمَا بِالدَّيْنِ اخبار عن دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا فَلَوْ صَحَّ في حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ لَكَانَ فيه قِسْمَةُ الدَّيْنِ قبل الْقَبْضِ وإنها بَاطِلَةٌ وَلِأَنَّهُ إذَا كان إخْبَارًا عن دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا فَالْوَارِثُ يُشَارِكُ الْأَجْنَبِيَّ فِيمَا يَقْبِضُ ثُمَّ تَبْطُلُ حِصَّتُهُ وَفِيهِ إقْرَارٌ الوارث ( ( ( للوارث ) ) ) وَأَنَّهُ بَاطِلٌ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ فإن الْوَارِثَ لَا يُشَارِكُ الْأَجْنَبِيَّ وإذا بَطَلَ الْإِقْرَارُ أَصْلًا تُقَسَّمُ التَّرِكَةُ بَيْن وَرَثَةِ الْمُقِرِّ فما أَصَابَ الْوَارِثَ الْمُقِرَّ له من ذلك يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ إلَى تَمَامِ الْإِقْرَارِ وما زَادَ على ذلك يَكُونُ لِلْوَارِثِ لِأَنَّهُمَا إذَا تَصَادَقَا فَمِنْ زَعَمِهِمَا أَنَّ هذا الْقَدْرَ دَيْنٌ على الْمَيِّتِ وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ على الْمِيرَاثِ
هذا إذَا تَصَادَقَا فَإِنْ تَكَاذَبَا أو أَنْكَرَ الْأَجْنَبِيُّ شَرِكَةَ الْوَارِثِ أو رَدَّ الْوَرَثَةُ إقْرَارَهُ فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ أَيْضًا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَا ذَكَرْنَا وإذا بَطَلَ كان الْمَالُ مِيرَاثًا بين وَرَثَةِ الْمُقِرِّ فما أَصَابَ الْوَارِثَ فَهُوَ له كُلُّهُ وَلَا شَرِكَةَ لِلْأَجْنَبِيِّ فيه لِأَنَّهُ يُكَذِّبُهُ في ذلك
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ إقْرَارُهُ في حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ وَيَكُونُ له خَمْسُمِائَةٍ
وَإِنْ كان الْأَجْنَبِيُّ يُكَذِّبُ الْوَارِثَ وَالْوَارِث يُصَدِّقُهُ في ذلك فَالْخَمْسمِائَةِ مِمَّا أَصَابَهُ لِلْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُ الْوَارِثُ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ كان له على الْمَيِّتِ خَمْسُمِائَةٍ دِينٌ وَأَنَّهُ مُقَدَّمٌ على الْمِيرَاثِ إلَّا أَنَّهُ ادَّعَى الشَّرِكَةَ فيه وهو يُكَذِّبُهُ في الشَّرِكَةِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْأَجْنَبِيِّ وَيَأْخُذُ تِلْكَ الْخَمْسمِائَةِ كُلَّهَا
وَلَوْ أَوْصَى لِعَبْدٍ وَارِثُهُ لَا يَصِحُّ سَوَاءٌ كان على الْعَبْدِ دَيْنٌ أو لم يَكُنْ
أَمَّا إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَقَعُ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ له فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثِهِ وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ فَالْوَصِيَّةُ تَقَعُ لِمَوْلَاهُ من وَجْهٍ لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَ عنه الدَّيْنُ يَصِيرُ الْمُوصَى بِهِ لِلْوَارِثِ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ فَكَانَ وَصِيَّةً لِلْوَارِثِ من
____________________

(7/338)


وَجْهٍ فَلَا تَصِحُّ إلَّا إذَا عَتَقَ قبل مَوْتِ الموصى فيصح ( ( ( فتصح ) ) ) الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابُ الْمِلْكِ عِنْدَ مَوْتِ الموصى وهو كان حُرًّا عِنْدَ مَوْتِهِ
وَكَذَا إذَا أَوْصَى لِعَبْدِ نَفْسِهِ فَأَعْتَقَهُ قبل مَوْتِهِ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ له فَإِنْ مَاتَ وهو عَبْدٌ بَطَلَتْ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ لِمَوْلَاهُ وَمَوْلَاهُ وَارِثُهُ
وَلَوْ أَوْصَى لِمُكَاتَبِ وَارِثِهِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْوَصِيَّةِ تَحْصُلُ لِوَارِثِهِ في الْحَالِ وَالْمَآلِ
في الْحَالِ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وفي الْمَآلِ بِالْعَجْزِ
وَلَوْ أَوْصَى لَمُكَاتَبِ نَفْسِهِ جَازَ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعْتَقَ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَيَصِيرَ أَجْنَبِيًّا فَتَجُوزَ له الْوَصِيَّةُ
وَإِمَّا أَنْ يَعْجَزَ وَيُرَدَّ في الرِّقِّ فَيَصِيرَ مِيرَاثًا لِجَمِيعِ وَرَثَتِهِ لَا لِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ فَلَا يَكُونُ في هذه الْوَصِيَّةِ إيثَارُ بَعْضِ الْوَرَثَةِ على بَعْضٍ فَتَجُوزُ كما لو أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِوَرَثَتِهِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ قَاتَلَ الْمُوصِي قَتْلًا حَرَامًا على سَبِيلِ الْمُبَاشَرَةِ فَإِنْ كان لم تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ له عِنْدَنَا وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هذا ليس بِشَرْطٍ وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ
وَاحْتَجَّ بِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ لِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ في أَوَّلِ الْكِتَابِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْقَاتِلِ وَغَيْرِهِ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ وَتَمَلُّكٌ وَالْقَتْلُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ التَّمْلِيكِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ وَهَذَا نَصٌّ
وَيُرْوَى أَنَّهُ قال ليس لِقَاتِلٍ شَيْءٌ ذَكَرَ الشَّيْءَ نَكِرَةً في مَحَلِّ النَّفْيِ فَتَعُمُّ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ جميعا
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَاتِلَ مَخْصُوصٌ عن عُمُومَاتِ الْوَصِيَّةِ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَلَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ لِمَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنهما لما ( ( ( أنهما ) ) ) يَجْعَلَا لِلْقَاتِلِ مِيرَاثًا
وَعَنْ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ أَنَّهُ قال لَا يَرِثُ قَاتِلٌ بَعْدَ صَاحِبِ الْبَقَرَةِ وَيُرْوَى لَا يُوَرَّثُ قَاتِلٌ بَعْدَ صَاحِبِ الْبَقَرَةِ
وَهَذَا منه بَيَانٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ من زَمَنِ سَيِّدِنَا مُوسَى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى زَمَنِ التَّابِعِينَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ
وَذَكَر مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هذه الْآثَارَ في الْأَصْلِ وقال وَالْوَصِيَّةُ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ ذلك لَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ وَلِأَنَّ الْوَرَثَةَ تَتَأَذَّى بِوَضْعِ الْوَصِيَّةِ في الْقَاتِلِ كما يَتَأَذَّى الْبَعْضُ بِوَضْعِهَا في الْبَعْضِ فَيُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ وأنه حَرَامٌ وَلِأَنَّ الْمَجْرُوحَ إذَا صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ نَظَرًا لهم لِئَلَّا يُزِيلَ الْمُوَرِّثُ مِلْكَهُ إلَى غَيْرِهِمْ لِعَدَاوَةٍ أو أَذًى لَحِقَهُ من جِهَتِهِمْ فَيَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ لَكِنْ مع بَقَاءِ مِلْكِ الْمُورَثِ نَظَرًا له لِحَاجَتِهِ إلَى دَفْعِ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَسَبَبُ ثُبُوتِ حَقِّهِمْ في مَرَضِ الْمَوْتِ ما هو سَبَبُ ثُبُوتِ مِلْكِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وهو الْقَرَابَةُ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْلِكَ التَّبَرُّعَ بِشَيْءٍ من مَالِهِ إلَّا أَنَّهُ مَلَكَ ذلك على غَيْرِ الْقَاتِلِ وَالْوَارِثِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَبْقَى الْأَمْرُ فِيهِمَا على أَصْلِ الْقِيَاسِ وَلِأَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ جِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ فَتَسْتَدْعِي الزَّجْرَ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ وَحِرْمَانُ الْوَصِيَّةِ يَصْلُحُ زَاجِرًا لِحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ فَيَثْبُتُ وَسَوَاءٌ كان الْقَتْلُ عَمْدًا أو خَطَأً لِأَنَّ الْقَتْلَ الْخَطَأَ قَتْلٌ وأنه جَازَ الْمُؤَاخَذَةُ عليه عَقْلًا وَسَوَاءٌ أَوْصَى له بَعْدَ الْجِنَايَةِ أو قَبْلَهَا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا تَقَعُ تَمْلِيكًا بَعْدَ الْمَوْتِ فَتَقَعُ وَصِيَّةً لِلْقَاتِلِ تَقَدَّمَتْ الْجِنَايَةُ أو تَأَخَّرَتْ
وَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِعَبْدِ الْقَاتِلِ كان على الْعَبْدِ دَيْنٌ أو لم يَكُنْ وَلَا لَمُكَاتَبِهِ لِمَا ذَكَرْنَا في عبد الْوَارِثِ وَمُكَاتَبِهِ وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِابْنِ الْقَاتِلِ وَلِأَبَوَيْهِ وَلِجَمِيعِ قَرَابَتِهِ لِأَنَّ مِلْكَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَصِلٌ عن مِلْكِ صَاحِبِهِ فَلَا تَكُونُ الْوَصِيَّةُ لِأَحَدِهِمَا وَصِيَّةً لِصَاحِبِهِ
وَلَوْ اشْتَرَكَ عَشَرَةٌ في قَتْلِ رَجُلٍ فَأَوْصَى لِبَعْضِهِمْ بَعْدَ الْجِنَايَةِ لم تَصِحَّ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منهم قَاتِلٌ على الْكَمَالِ حين وَجَبَ الْقِصَاصُ على كل وَاحِدٍ منهم فَكَانَتْ وَصِيَّةً لِقَاتِلِهِ فلم تَصِحَّ
وَلَوْ كان أَحَدُهُمْ عَبْدَ الموصى فوصى ( ( ( فأوصى ) ) ) لِبَعْضِهِمْ بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَأَعْتَقَ عَبْدَهُ ثُمَّ مَاتَ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ وَلَا يَبْطُلُ الْعِتْقُ وَلَكِنَّ الْعَبْدَ يَسْعَى في قِيمَتِهِ
أما بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منهم قَاتِلٌ فَكَانَ الْمُوصَى له قَاتِلًا فلم تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ له
وَأَمَّا صِحَّةُ الْإِعْتَاقِ وَنَفَّاذُهُ فَفِيهِ ضَرْبُ إشْكَالٍ وهو إن الْإِعْتَاقَ حَصَلَ في مَرَضِ الْمَوْتِ وَالْإِعْتَاقُ في مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ لَا تَصِحُّ وَالْعَبْدُ قَاتِلٌ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ إعْتَاقُهُ
وَالْجَوَابُ عنه من وَجْهَيْنِ أَحَدَهُمَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ في مَرَضِ الْمَوْتِ ليس بِوَصِيَّةٍ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ وَالْإِعْتَاقُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ وَإِزَالَتُهُ لَا إلَى أحد ( ( ( أحدهما ) ) ) وهما مُتَغَايِرَانِ بَلْ مُتَنَافِيَانِ حَقِيقَةً وَكَذَا الْإِعْتَاقُ ينجز ( ( ( ينجر ) ) ) حُكْمُهُ لِلْحَالِ وَحُكْمُ الْوَصِيَّةِ يَتَأَخَّرُ إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ فلم يَكُنْ الْإِعْتَاقُ في مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةً حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ يُشْبِهُ الْوَصِيَّةَ من حَيْثُ أنه يُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ لَا غَيْرُ
وَالثَّانِي إنْ كان في مَعْنَى الْوَصِيَّةِ فَالْوَصِيَّةُ بِالْإِعْتَاقِ مَرْدُودَةٌ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَإِنْ كانت نَافِذَةً صُورَةً
أَلَا
____________________

(7/339)


تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ يَسْعَى في قِيمَتِهِ وَالسِّعَايَةُ قِيمَةُ الرَّقَبَةِ فَكَانَتْ السِّعَايَةُ رَدًّا لِلْوَصِيَّةِ مَعْنًى وَالْعِتْقُ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَإِنْ كان لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ صُورَةً يَحْتَمِلُهُ مَعْنًى بِرَدِّ السِّعَايَةِ التي هِيَ قِيمَةُ الرَّقَبَةِ
وَلَوْ أَوْصَى لِعَبْدِهِ بِالثُّلُثِ ثُمَّ قَتَلَهُ الْعَبْدُ لم تَصِحَّ وَصِيَّتُهُ غير أَنَّهُ يُعْتَقُ وَيَسْعَى في جَمِيعِ قِيمَتِهِ
أَمَّا بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ فَلِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ لِلْقَاتِلِ
وَأَمَّا نَفَاذُ العتاق ( ( ( العتق ) ) ) فَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ لَيْسَتْ بِبَاطِلَةٍ بَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ أَلَا تَرَى أنها تَقِفُ على إجَازَةِ الْوَرَثَةِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فإذا أَوْصَى له بِثُلُثِ مَالِهِ فَقَدْ أَوْصَى له بِثُلُثِ رَقَبَتِهِ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ من مَالِهِ فَدَخَلَتْ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ فلما مَاتَ الْمُوصَى مَلَكَ ثُلُثَ رَقَبَتِهِ وَتَمْلِيكُ ثُلُثِ رَقَبَتِهِ منه يَكُونُ إعْتَاقًا لِثُلُثِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُعْتَقُ ثُلُثُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ ثُمَّ يُنْقَضُ من حَيْثُ الْمَعْنَى بِرَدِّ السِّعَايَةِ كما لو أَعْتَقَهُ نَصًّا في مَرَضِ مَوْتِهِ أو أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ بِالتَّدْبِيرِ غير أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ له بِثُلُثِ الرَّقَبَةِ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ متجزىء عِنْدَهُ فَيُعْتَقُ ثُلُثُ رَقَبَتِهِ وَيَسْعَى في ثُلُثَيْهِ لِأَنَّهُ مُعْتَقُ الْبَعْضِ وَيَسْعَى في ذلك الثُّلُثِ للذي ( ( ( الذي ) ) ) عَتَقَ رَدًّا لِلْوَصِيَّةِ مَعْنًى بِالسِّعَايَةِ لِأَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ فَيُرَدُّ بِرَدِّ السِّعَايَةِ وَعِنْدَهُمَا وَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ له بِكُلِّ الرَّقَبَةِ لِأَنَّهُ عَتَقَ كُلُّهُ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا وَمَتَى عَتَقَ كُلُّهُ يَسْعَى في كل قِيمَتِهِ رَدًّا لِلْوَصِيَّةِ مَعْنًى فَاتَّفَقَ الْجَوَابُ وهو السِّعَايَةُ في جَمِيعِ قِيمَتِهِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الطَّرِيقُ
وَلَوْ أَوْصَى لِلْقَاتِلِ ثُمَّ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصَى ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجُوزُ ولم يذكر خِلَافًا
وَذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّ على قَوْلِ أبي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وَسَكَتَ عن قَوْلِهِمَا فَيَدُلُّ على الْجَوَازِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
لِأَبِي يُوسُفَ ما رَوَيْنَا عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ليس لَقَاتِلٍ شَيْءٌ من غَيْرِ فَصْلٍ بين حَالِ الْإِجَازَةِ وَعَدَمِهَا وَلِأَنَّ الْمَانِعَ من الْجَوَازِ هو الْقَتْلُ وَالْإِجَازَةُ لَا تَمْنَعُ الْقَتْلَ
وَلَهُمَا أَنَّ امْتِنَاعَ الْجَوَازِ كان لِحَقِّ الْوَرَثَةِ لِأَنَّهُمْ يَتَأَذَّوْنَ بِوَضْعِ الْوَصِيَّةِ في الْقَاتِلِ أَكْثَرُ مِمَّا يَتَأَذَّى الْبَعْضُ بِإِيثَارِ الْبَعْضِ بِالْوَصِيَّةِ ثُمَّ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْبَعْضِ بِإِجَازَةِ الْبَاقِينَ فَهَهُنَا أَوْلَى
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْمَانِعَ هو حَقُّ الْوَرَثَةِ أَنَّ الْوَرَثَةَ يَنْتَفِعُونَ بِبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ وَحَقُّ الْإِنْسَانِ ما يَنْتَفِعُ بِهِ فإذا أجازوا ( ( ( جازوا ) ) ) فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَجَازَتْ وَلِهَذَا جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ بِإِجَازَةِ الْبَاقِينَ
كَذَا هذا
وَلَوْ كان الْقَتْلُ قِصَاصًا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ ليس بِقَتْلٍ حَرَامٍ
وَكَذَا لو كان الْقَاتِلُ صَبِيًّا لِأَنَّ قَتْلَهُ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ وَلِهَذَا لم يَتَعَلَّقْ بِشَيْءٍ من ذلك حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ فَكَذَا حِرْمَانُ الْوَصِيَّةِ
وَكَذَا الْقَتْلُ تَسْبِيبًا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْوَصِيَّةِ كما لَا يَمْنَعُ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ على ما عُرِفَ في كِتَابِ الْفَرَائِضِ
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ لِلْقَاتِلِ بِالدَّيْنِ فَإِنْ صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ لم يَجُزْ وَإِنْ كان يَذْهَبُ وَيَجِيءُ جَازَ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ في مَعْنَى الْوَصِيَّةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِوَارِثِهِ كما لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ له
وإذا كان يَذْهَبُ وَيَجِيءُ كان في حُكْمِ الصَّحِيحِ فَيَجُوزُ كما لو أَقَرَّ لِوَارِثِهِ في هذه الْحَالَةِ وَكَذَا الْهِبَةُ في الْمَرَضِ في مَعْنَى الْوَصِيَّةِ فَلَا تَصِحُّ لِلْقَاتِلِ وَعَفْوُ الْمَرِيضِ عن الْقَاتِلِ في دَمِ الْعَمْدِ جَائِزٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } مُطْلَقًا من غَيْرِ فَصْلٍ بين حَالِ الْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ وَلِأَنَّ الْمَانِعَ من نَفَاذِ تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ هو تَعَلُّقُ حَقِّ الْوَرَثَةِ أو الْغُرَمَاءِ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِالْمَالِ وَالْقِصَاصُ ليس بِمَالٍ وَبِهَذَا عَلَّلَ في الْأَصْلِ وَإِنْ كان الْقَتْلُ خَطَأً يَجُوزُ الْعَفْوُ من الثُّلُثِ لِأَنَّ الْقَتْلَ الْخَطَأَ يُوجِبُ الْمَالَ فَكَانَ عَفْوُهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ وَإِنَّهَا جَائِزَةٌ من الثُّلُثِ وَدَلَّتْ هذه الْمَسْأَلَةُ على أَنَّ الدِّيَةَ كُلَّهَا تَجِبُ على الْعَاقِلَةِ وَلَا يَجِبُ على الْقَاتِلِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لو وَجَبَ لم يَصِحَّ عَفْوُهُ من الثُّلُثِ في حِصَّةِ الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَصِيَّةً لِلْقَاتِلِ في ذلك الْقَدْرِ وَلَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ وَلَمَّا جَازَ الْعَفْوُ هَهُنَا من الثُّلُثِ عُلِمَ أَنَّ الدِّيَةَ لَا تَجِبُ على الْقَاتِلِ وَإِنَّمَا تَجِبُ على عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ حتى تَكُونَ وَصِيَّةً لِعَاقِلَةِ الْقَاتِلِ ثُمَّ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ إنَّمَا لَا تَجُوزُ إذَا لم تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَإِنْ أَجَازُوا جَازَتْ ولم يذكر في الْأَصْلِ اخْتِلَافًا
وَذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ قَوْلَ أبي يُوسُفَ أنها لَا تَجُوزُ وَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ
وَسَكَتَ عن قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمَانِعَ من الْجَوَازِ هو الْقَتْلُ وأنه لَا يَنْعَدِمُ بِالْإِجَازَةِ وَلِهَذَا حَرَّمَ الْمِيرَاثَ
أَجَازَتْهُ الْوَرَثَةُ أو لَا وَلِأَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ صَارَ كَالْحَرْبِيِّ وَالْوَصِيَّةُ لِلْحَرْبِيِّ لَا تَجُوزُ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ أَمْ لم تُجِزْ كَذَا الْقَاتِلُ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ لِمَكَانِ حَقِّ الْوَرَثَةِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْوَصِيَّةِ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ فَيَجُوزُ عِنْدَ إجَازَتِهِمْ كما جَازَتْ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ عِنْدَ إجَازَةِ الْبَاقِينَ
____________________

(7/340)


بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ من الناس من يقول بِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ وهو مَالِكٌ وَلَا أَحَدٌ يقول بِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ فلما لَحِقَتْهَا الْإِجَازَةُ هُنَاكَ فَلَأَنْ تَلْحَقَهَا هَهُنَا أَوْلَى
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ حَرْبِيًّا عِنْدَ مُسْتَأْمَنٍ فَإِنْ كان لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ له من مُسْلِمٍ أو ذِمِّيٍّ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ بِتَمْلِيكِ الْمَالِ إيَّاهُ يَكُونُ إعَانَةً له على الحراب ( ( ( الخراب ) ) ) وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَأَمَّا كَوْنُهُ مُسْلِمًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ حتى لو كان ذِمِّيًّا فَأَوْصَى له مُسْلِمٌ أو ذِمِّيٌّ جَازَ
وَكَذَا لو أَوْصَى ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فإذا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لهم ما لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ ما على الْمُسْلِمِينَ وَلِلْمُسْلِمِ أَنْ يُوصِيَ مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا كَذَا لهم وَسَوَاءٌ أَوْصَى لِأَهْلِ مِلَّتِهِ لِغَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِ لِعُمُومِ الحديث وَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ من الِاخْتِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ وَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْوَصِيَّةِ فَهَذَا أَوْلَى وَإِنْ كان مُسْتَأْمَنًا فَأَوْصَى له مُسْلِمٌ أو ذِمِّيٌّ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِأَنَّهُ في عَهْدِنَا فَأَشْبَهَ الذِّمِّيَّ الذي هو في عَهْدِنَا وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلذِّمِّيِّ وَكَذَا الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ بِقَوْلِ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَشْبَهُ فَإِنَّهُمْ قالوا إنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُ الْكَفَّارَةِ وَالنَّذْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ إلَى الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ لِمَا فيه من الْإِعَانَةِ على الْحِرَابِ وَيَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الذِّمِّيِّ لِأَنَّا ما نُهِينَا عن بِرِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عن الَّذِينَ لم يُقَاتِلُوكُمْ في الدِّينِ ولم يُخْرِجُوكُمْ من دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ } وَقِيلَ إنَّ في التَّبَرُّعِ عليه في حَالِ الْحَيَاةِ بِالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ رِوَايَتَيْنِ عن أَصْحَابِنَا فَالْوَصِيَّةُ له على تِلْكَ الرِّوَايَتَيْنِ أَيْضًا
وَكَذَا كَوْنُهُ من أَهْلِ الْمِلْكِ ليس بِشَرْطٍ حتى لو أَوْصَى مُسْلِمٌ بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْمَسْجِدِ أَنْ يُنْفَقَ عليه في إصْلَاحِهِ وَعِمَارَتِهِ وَتَجْصِيصِهِ يَجُوزُ لِأَنَّ قَصْدَ الْمُسْلِمِ من هذه الْوَصِيَّةِ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِإِخْرَاجِ مَالِهِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا التَّمْلِيكَ إلَى أَحَدٍ
وَلَوْ أَوْصَى الْمُسْلِمُ لِبَيْعَةٍ أو كَنِيسَةٍ بِوَصِيَّةٍ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ
وَلَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْبَيْعَةِ أو لِكَنِيسَةٍ أَنْ يُنْفَقَ عليها في إصْلَاحِهَا أو أَوْصَى لِبَيْتِ النَّارِ أو أَوْصَى بِأَنْ يُذْبَحَ لِعِيدِهِمْ أو لِلْبَيْعَةِ أو لِبَيْتِ النَّارِ ذَبِيحَةً جَازَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في وَصَايَا أَهْلِ الذِّمَّةِ أنها لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كان الْمُوصَى بِهِ أَمْرًا هو قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وعندهما ( ( ( وعندهم ) ) ) أو كان أَمْرًا هو قُرْبَةٌ عِنْدَنَا لَا عِنْدَهُمْ
وَأَمَّا إنْ كان أَمْرًا هو قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ لَا عِنْدَنَا فَإِنْ كان الْمُوصَى بِهِ شيئا هو قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ بأن أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ على فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ أو على فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ أو بِعِتْقِ الرِّقَابِ أو بِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَنَحْوِ ذلك جَازَ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّ هذا مِمَّا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ وَإِنْ كان شيئا هو قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ عِنْدَهُمْ بِأَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عنه أو أَوْصَى أَنْ يَبْنِيَ مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ ولم يُبَيِّنْ لَا يَجُوزُ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهُمْ لَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَكَانَ مُسْتَهْزِئًا في وَصِيَّتِهِ وَالْوَصِيَّةُ يُبْطِلُهَا الْهَزْلُ وَالْهَزْلُ وَإِنْ كان شيئا هو قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ لَا عِنْدَنَا بِأَنْ أَوْصَى بِأَرْضٍ له تُبْنَى بَيْعَةً أو كَنِيسَةً أو بَيْتَ نَارٍ أو بِعِمَارَةِ الْبِيعَةِ أو الْكَنِيسَةِ أو بَيْتِ النَّارِ أو بِالذَّبْحِ لِعِيدِهِمْ أو لِلْبَيْعَةِ أو لِبَيْتِ النَّارِ ذَبِيحَةً فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا أن عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَصِيَّةٌ بِمَا هو مَعْصِيَةٌ وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَعَاصِي لَا تَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أن الْمُعْتَبَرَ في وَصِيَّتِهِمْ ما هو قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ لَا ما هو قُرْبَةٌ حَقِيقَةً لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا من أَهْلِ الْقُرْبَةِ الحقيقية ( ( ( الحقيقة ) ) )
وَلِهَذَا لو أَوْصَى بِمَا هو قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ عِنْدَهُمْ لم تَجُزْ وَصِيَّتُهُ كَالْحَجِّ وَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ لِلْمُسْلِمِينَ فَدَلَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ ما هو قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ وقد وُجِدَ وَلَكِنَّا أُمِرْنَا أَنْ لَا نَتَعَرَّضَ لهم فِيمَا يَدِينُونَ كما لَا نَتَعَرَّضُ لهم في عِبَادَةِ الصَّلِيبِ وَبَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ
وَلَوْ بَنَى الذِّمِّيُّ في حَيَّاتِهِ بَيْعَةً أو كَنِيسَةً أو بَيْتَ نَارٍ كان مِيرَاثًا بين وَرَثَتِهِ في قَوْلِهِمْ جميعا على اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ
أَمَّا على أَصْلِهِمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ وَالْمُسْلِمُ لو جَعَلَ دَارًا وَقْفًا إنْ مَاتَ صَارَتْ مِيرَاثًا
كَذَا هذا
فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يُجْعَلُ حُكْمُ الْبَيْعَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَحُكْمِ الْمَسْجِدِ فِيمَا بين الْمُسْلِمِينَ
فَالْجَوَابُ أَنَّ حَالَ الْمَسْجِدِ يُخَالِفُ حَالَ الْبَيْعَةِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ صَارَ خَالِصًا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَانْقَطَعَتْ عنه مَنَافِعُ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا الْبَيْعَةُ فَإِنَّهَا بَاقِيَةٌ على مَنَافِعِهِمْ فإنه يَسْكُنُ فيها أَسَاقِفَتُهُمْ وَيُدْفَنُ فيها مَوْتَاهُمْ فَكَانَتْ بَاقِيَةً على مَنَافِعِهِمْ فَأَشْبَهَ الْوَقْفَ فِيمَا بين الْمُسْلِمِينَ وَالْوَقْفُ فِيمَا بين الْمُسْلِمِينَ لَا يُزِيلُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ عِنْدَهُ
فَكَذَا هذا
لو أَوْصَى مُسْلِمٌ بِغَلَّةِ جَارِيَتِهِ أَنْ تَكُونَ في نَفَقَةِ الْمَسْجِدِ وَمُؤْنَتِهِ
____________________

(7/341)


فَانْهَدَمَ الْمَسْجِدُ وقد اجْتَمَعَ من غَلَّتِهَا شَيْءٌ أُنْفِقَ ذلك في بِنَائِهِ لِأَنَّهُ بِالِانْهِدَامِ لم يَخْرُجْ من أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا وقد أَوْصَى له بِغَلَّتِهَا فَتُنْفَقُ في بِنَائِهِ وَعِمَارَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْمُوصِي إذَا كانت الْوَصِيَّةُ بِدَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ مُسَمَّاةٍ أو بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ من مَالِهِ سِوَى رَقَبَةِ الْعَبْدِ حتى لو أَوْصَى لِعَبْدِهِ بِدَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ مُسَمَّاةٍ أو بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ من مَالِهِ سِوَى رَقَبَةِ الْعَبْدِ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّهُ إذْ ذَاكَ يَكُونُ مُوصِيًا لِنَفْسِهِ
وَلَوْ أَوْصَى له بِشَيْءٍ من رَقَبَتِهِ بِأَنْ أَوْصَى له بِثُلُثِ رَقَبَتِهِ جَازَ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ له بِثُلُثِ رَقَبَتِهِ تَمْلِيكُ ثُلُثِ رَقَبَتِهِ منه وَتَمْلِيكُ نَفْسِ الْعَبْدِ منه يَكُونُ إعْتَاقًا فَيَصِيرُ ثُلُثُهُ مُدَبَّرَا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ كُلُّهُ مُدَبَّرًا لِأَنَّ التَّدْبِيرَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ كَالْإِعْتَاقِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ
وَلَوْ أَوْصَى له بِثُلُثِ مَالِهِ جَازَتْ وَصِيَّتُهُ وَعَتَقَ ثُلُثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ دَخَلَتْ في الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا مَالُهُ فَوَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ عليها وَعَلَى سَائِرِ أَمْلَاكِهِ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان مَالُهُ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ يُنْظَرُ إلَى ثُلُثِي الْعَبْدِ فَإِنْ كانت قِيمَةُ ثُلُثِي الْعَبْدِ مِثْلَ ما وَجَبَ له في سَائِرِ أَمْوَالِهِ صَارَ قِصَاصًا وَإِنْ كان في الْمَالِ زِيَادَةٌ تُدْفَعُ إلَيْهِ الزِّيَادَةُ وَإِنْ كان في ثُلُثِي قِيمَةِ الْعَبْدِ زِيَادَةٌ تُدْفَعُ الزِّيَادَةُ إلَى الْوَرَثَةِ وَإِنْ كانت التَّرِكَةُ عُرُوضًا لَا تَصِيرُ قِصَاصًا إلَّا بِالتَّرَاضِي لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى في ثُلُثِي قِيمَتِهِ وَلَهُ الثُّلُثُ من سَائِرِ أَمْوَالِهِ وَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَبِيعُوا الثُّلُثَ من سَائِرِ أَمْوَالِهِ حتى تَصِلَ إلَيْهِمْ السِّعَايَةُ
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا صَارَ كُلُّهُ مُدَبَّرًا فإذا مَاتَ عَتَقَ كُلُّهُ وَيَكُونُ الْعِتْقُ مُقَدَّمًا على سَائِرِ الْوَصَايَا فَإِنْ زَادَ الثُّلُثُ على مِقْدَارِ قِيمَتِهِ فَعَلَى الْوَرَثَةِ أَنْ يَدْفَعُوا إلَيْهِ فَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى في الْفَضْلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَجْهُولًا جَهَالَةً لَا يُمْكِنُ إزَالَتُهَا فَإِنْ كان لم تَجُزْ الْوَصِيَّةُ له لِأَنَّ الْجَهَالَةَ التي لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا تَمْنَعُ من تَسْلِيمِ الْمُوصَى بِهِ إلَى الْمُوصَى له فَلَا تُفِيدُ الْوَصِيَّةُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ من الناس أنه لَا يَصِحُّ بِلَا خِلَافٍ
وَلَوْ أَوْصَى لِأَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ لَا يَصِحُّ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ غير أَنَّ عِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْوَصِيَّةُ تَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْخِيَارُ إلَى الْوَارِثِ يعطي أَيُّهُمَا شَاءَ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إن الْإِيجَابَ وَقَعَ صَحِيحًا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا وَإِنْ كان مَجْهُولًا وَلَكِنَّ هذه جَهَالَةٌ تُمْكِنُ إزَالَتُهَا أَلَا تَرَى إن الْمُوصِي لو عَيَّنَ أَحَدَهُمَا حَالَ حَيَّاتِهِ لَتَعَيَّنَ
ثُمَّ إنَّ مُحَمَّدًا يقول لَمَّا مَاتَ عَجَزَ عن التَّعْيِينِ بِنَفْسِهِ فَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ في التَّعْيِينِ وأبو يُوسُفَ يقول لَمَّا مَاتَ قبل التَّعْيِينِ شَاعَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى من الْآخَرِ كَمَنْ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ ثُمَّ مَاتَ قبل الْبَيَانِ أن الْعِتْقَ يَشِيعُ فِيهِمَا جميعا فَيَعْتِقُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ
كَذَا هَهُنَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْوَصِيَّةِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ عِنْدَ الْمَوْتِ فَتَسْتَدْعِي كَوْنَ الْمُوصَى له مَعْلُومًا عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْمُوصَى له عِنْدُ الْمَوْتِ مَجْهُولٌ فلم تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ من الْأَصْلِ كما لو أَوْصَى لِوَاحِدٍ من الناس فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالشُّيُوعِ وَلَا يُقَامُ الْوَارِثُ مَقَامَ الْمُوصِي في الْبَيَانِ لِأَنَّ ذلك حُكْمُ الْإِيجَابِ الصَّحِيحِ ولم يَصِحَّ إلَّا أَنَّ الْمُوصِي لو بَيَّنَ الْوَصِيَّةَ في أَحَدِهِمَا حَالَ حَيَاتِهِ صَحَّتْ لِأَنَّ الْبَيَانَ إنْشَاءُ الْوَصِيَّةِ لِأَحَدِهِمَا فَكَانَ وَصِيَّةً مُسْتَأْنَفَةً لِأَحَدِهِمَا عَيْنًا وَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ
وَلَوْ كان له عَبْدَانِ فَأَوْصَى بِأَرْفَعِهِمَا لِرَجُلٍ وَبِأَخَسِّهِمَا لِآخَرَ ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ وَلَا يدري أَيُّهُمَا هو فَالْوَصِيَّةُ بَطَلَتْ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اجْتَمَعَا على أَخْذِ الْبَاقِي أو لم يَجْتَمِعَا
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ اجْتَمَعَا على أَخْذِ الْبَاقِي فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَإِنْ لم يَجْتَمِعَا على أَخْذِهِ فَلَا شَيْءَ لَهُمَا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ اجْتَمَعَا أو لم يَجْتَمِعَا
وَعَلَى هذا يُخْرِجُ الْوَصِيَّةَ لِقَوْمٍ لَا يُحْصَوْنَ أنها بَاطِلَةٌ إذَا لم يَكُنْ في اللَّفْظِ ما ينبىء عن الْحَاجَةِ وَإِنْ كان فيه ما ينبىء عن الْحَاجَةِ فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ ولم يذكر في اللَّفْظِ ما يَدُلُّ على الْحَاجَةِ وَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ تَمْلِيكًا منهم وَهُمْ مَجْهُولُونَ وَالتَّمْلِيكُ من الْمَجْهُولِ جَهَالَةٌ لَا يُمْكِنُ إزَالَتُهَا لَا يَصِحُّ
ثُمَّ اُخْتُلِفَ في تَفْسِيرِ الْإِحْصَاءِ قال أبو يُوسُفَ إنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ إلَّا بِكِتَابٍ أو حِسَابٍ فَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ وقال مُحَمَّدٌ إنْ كَانُوا أَكْثَرَ من مِائَةٍ فَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ وَقِيلَ إنْ كَانُوا بِحَيْثُ لَا يَحْصِيهِمْ مُحْصٍ حتى يُولَدَ منهم مَوْلُودٌ وَيَمُوتَ منهم مَيِّتٌ فَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ
وَقِيلَ يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي وَإِنْ كان في اللَّفْظِ ما يَدُلُّ على الْحَاجَةِ كان وَصِيَّتُهُ بِالصَّدَقَةِ وَهِيَ إخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاحِدٌ مَعْلُومٌ فَصَحَّتْ
____________________

(7/342)


الْوَصِيَّةُ
ثُمَّ إذَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ فَالْأَفْضَلُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُعْطِيَ الثُّلُثَ لِمَنْ يَقْرُبُ إليه ( ( ( إليهم ) ) ) منهم فَإِنْ جَعَلَهُ في وَاحِدٍ فما زَادَ جَازَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُعْطِيَ اثْنَيْنِ منهم فَصَاعِدًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ وَاحِدًا إلَّا نِصْفَ الْوَصِيَّةِ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ في مَسَائِلَ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْمُسْلِمِينَ لم تَصِحَّ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يُحْصَوْنَ وَلَيْسَ في لَفْظِ الْمُسْلِمِينَ ما ينبىء عن الْحَاجَةِ فَوَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ تَمْلِيكًا من مَجْهُولٍ فلم تَصِحَّ
وَلَوْ أَوْصَى لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ أو لِمَسَاكِينِهِمْ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ لَكِنْ عِنْدَهُمْ اسْمُ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ ينبىء عن الْحَاجَةِ فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لهم تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى طَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ لَا لِمَرْضَاةِ الْفَقِيرِ فَيَقَعُ الْمَالُ لِلَّهِ تَعَالَى عز وجل ثُمَّ الْفُقَرَاءُ يَتَمَلَّكُونَ بِتَمْلِيكِ اللَّهِ تَعَالَى منهم
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عز شَأْنُهُ وَاحِدٌ مَعْلُومٌ ولهذا ( ( ( ولذا ) ) ) كان إيجَابُ الصَّدَقَةِ من اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الْأَغْنِيَاءِ على الْفُقَرَاءِ صَحِيحًا وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ
وإذا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ فَلَوْ صَرَفَ الْوَصِيُّ جَمِيعَ الثُّلُثِ إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ جَازَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وقال مُحَمَّدٌ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يعطى منهم اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يعطى وَاحِدًا منهم إلَّا نِصْفُ الثُّلُثِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أن الْفُقَرَاءَ اسْمُ جَمْعٍ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ إلَّا أَنَّهُ أَقَامَ الدَّلِيلَ على أَنَّ الِاثْنَيْنِ في بَابِ الْوَصِيَّةِ يَقُومَانِ مَقَامَ الثَّلَاثِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَقَامَ الثِّنْتَيْنِ من الْبَنَاتِ مَقَامَ الثَّلَاثِ مِنْهُنَّ في اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ وَكَذَا الِاثْنَانِ من الاخوة وَالْأَخَوَاتِ يَقُومَانِ مَقَامَ الثَّلَاثِ في نَقْصِ حَقِّ الْأُمِّ من الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ وَلَا دَلِيلَ على قِيَامِ الْوَاحِدِ مَقَامَ الْجَمَاعَةِ
مع ما أَنَّ الْجَمْعَ مَأْخُوذٌ من الِاجْتِمَاعِ وَأَقَلُّ ما يَحْصُلُ بِهِ الِاجْتِمَاعُ اثْنَانِ وَمُرَاعَاةُ مَعْنَى الِاسْمِ وَاجِبٌ ما أَمْكَنَ
وَلَهُمَا إن هذا النَّوْعَ من الْوَصِيَّةِ وَصِيَّةٌ بِالصَّدَقَةِ وَهِيَ إلْزَامُ الْمَالِ حَقًّا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَجِنْسُ الْفُقَرَاءِ مَصْرِفٌ ما يَجِبُ لِلَّهِ عز وجل من الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ فَكَانَ ذِكْرُ الْفُقَرَاءِ لِبَيَانِ الْمَصْرِفِ لَا لِإِيجَابِ الْحَقِّ لهم فَيَجِبُ الْحَقُّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ثُمَّ يُصْرَفُ إلَى من ظَهَرَ رِضَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِصَرْفِ حَقِّهِ المال إلَيْهِ وقد حَصَلَ بِصَرْفِهِ إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا جَازَ صَرْفُ ما وَجَبَ من الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ بِإِيجَابِ اللَّهِ عز وجل إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كان الْمَذْكُورُ بِلَفْظِ الْجَمَاعَةِ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ على أَنَّ مُرَاعَاةَ مَعْنَى الْجَمْعِ إنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ فَأَمَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ فَلَا
بَلْ يُحْمَلُ اللَّفْظُ على مُطْلَقِ الْجِنْسِ كما في قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ
وَقَوْلِهِ إنْ كَلَّمْتُ بَنِي آدَمَ أو إنْ اشْتَرَيْتُ الْعَبِيدَ أنه يُحْمَلُ على الْجِنْسِ وَلَا يُرَاعَى فيه مَعْنَى الْجَمْعِ حتى يَحْنَثَ بِوُجُودِ الْفِعْلِ منه في وَاحِدٍ من الْجِنْسِ وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْجَمْعِ لِأَنَّ ذلك مِمَّا لَا غَايَةَ له وَلَا نِهَايَةَ فَيُحْمَلُ على الْجِنْسِ بِخِلَافِ ما إذَا أَوْصَى لِمَوَالِيهِ وَلَهُ مَوْلًى وَاحِدٌ أَنَّهُ لَا يُصْرَفُ كُلُّ الثُّلُثِ إلَيْهِ بَلْ نِصْفُهُ لِأَنَّ هُنَاكَ ما الْتَزَمَ الْمَالَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عز وجل بَلْ مَلَّكَهُ لِلْمَوَالِي وهو اسْمُ جَمْعٍ فَلَا بُدَّ من اعْتِبَارِهِ
وَكَذَا ذلك الْجَمْعُ له غَايَةٌ وَنِهَايَةٌ فَكَانَ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْجَمْعِ مُمْكِنًا فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْحَمْلِ على الْجِنْسِ بِخِلَافِ جَمْعِ الْفُقَرَاءِ
وَكَذَلِكَ لو أَوْصَى لِفُقَرَاءِ بَنِي فُلَانٍ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ وَبَنُو فُلَانٍ قَبِيلَةٌ لَا تُحْصَى وَلَا يُحْصَى فقرائهم ( ( ( فقراؤهم ) ) ) فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ لِمَا قُلْنَا بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مع كَثْرَتِهِمْ فَلَأَنْ تَصِحَّ لِفُقَرَاءِ الْقَبِيلَةِ أَوْلَى فَإِنْ لم يَقُلْ لِفُقَرَائِهِمْ وَلَكِنَّهُ أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ ولم يَزِدْ عليه فَهَذَا لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إنْ كان فُلَانٌ أَبَا قَبِيلَةٍ وَإِمَّا إنْ لم يَكُنْ أَبَا قَبِيلَةٍ بَلْ هو رَجُلٌ من الناس يُعْرَفُ بِأَبِي فُلَانٍ فَإِنْ كان أَبَا قَبِيلَةٍ مِثْلَ تَمِيمٍ وَأَسَدٍ وَوَائِلٍ فَإِنْ كان بَنُوهُ يُحْصَوْنَ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لهم لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ فَقَدْ قَصَدَ الْمُوصِي تَمْلِيكَ الْمَالِ منهم لَا الْإِخْرَاجَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ الْمُوصَى له بِالثُّلُثِ مَعْلُومًا فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ له كما لو أَوْصَى لِأَغْنِيَاءِ بَنِي فُلَانٍ وَهُمْ يُحْصَوْنَ
وَيَدْخُلُ فيه الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى أَبُ الْقَبِيلَةِ إضَافَةُ النِّسْبَةِ كَالْإِضَافَةِ إلَى الْقَبِيلَةِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هذه الْمَرْأَةُ من بَنِي تَمِيمٍ كما يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هذا الرَّجُلُ من بَنِي تَمِيمٍ فَيَدْخُلُ فيه كُلُّ من يُنْتَسَبُ إلَى فُلَانٍ ذَكَرًا كان أو أُنْثَى غَنِيًّا كان أو فَقِيرًا لِأَنَّهُ ليس في اللَّفْظِ ما ينبىء عن الْحَاجَةِ وَصَارَ كما لو أَوْصَى لِقَبِيلَةِ فُلَانٍ
وَلَوْ كان لِبَنِي فُلَانٍ مَوَالِي عَتَاقَةٌ يَدْخُلُونَ في الْوَصِيَّةِ وَكَذَا مَوَالِي مَوَالِيهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ
وَكَذَا لو كان لهم مَوَالِي الْمُوَالَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ من قَوْلِهِ بَنِي فُلَانٍ إذَا كان فُلَانٌ أَبَا قَبِيلَةٍ هو الْقَبِيلَةُ لَا أَبْنَاؤُهُ حَقِيقَةً فَكَانَ الْمُرَادُ منه الْمُنْتَسِبِينَ إلَى هذه الْقَبِيلَةِ وَالْمُنْتَمُونَ إلَيْهِمْ وَالْحُلَفَاءُ وَالْمَوَالِي
____________________

(7/343)


يَنْتَسِبُونَ إلَى الْقَبِيلَةِ وَيَنْتَمُونَ إلَيْهِمْ في الْعُرْفِ وَالشَّرْعِ
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَوَالِي الْقَوْمِ منهم
وفي رِوَايَةٍ مَوَالِي الْقَوْمِ من أَنْفُسِهِمْ وَحَلِيفُهُمْ منهم
وَرُوِيَ أَنَّهُ قال في جُمْلَةِ ذلك وَعَبِيدُهُمْ منهم وَلِأَنَّ بَنِي فُلَانٍ إذَا كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ سَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ الْبُنُوَّةِ فَصَارَ عِبَارَةً عَمَّنْ يَقَعُ بِهِمْ لهم التَّنَاصُرُ وَالْمَوَالِي يَقَعُ بِهِمْ لهم التَّنَاصُرُ
وَكَذَا الْحَلِيفُ وَالْعَدِيدُ إذْ الْحَلِيفُ هو الذي حَلَفَ لِلْقَبِيلَةِ أَنَّهُ يَنْصُرُهُمْ وَيَذُبُّ عَنْهُمْ كما يَذُبُّ عن نَفْسِهِ وَهُمْ حَلَفُوا له كَذَلِكَ وَالْعَدِيدُ هو الذي يَلْحَقُ بِهِمْ من غَيْرِ حَلِفٍ
وَلَوْ أَوْصَى لِقَبِيلَةِ فُلَانٍ دخل فيه الْمَوَالِي لِأَنَّ الْمُرَادَ من الْقَبِيلَةِ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إلَيْهِ والموالى يُنْسَبُونَ إلَيْهِ
هذا إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ فَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِمَا قُلْنَا في الْوَصِيَّةِ لِبَنِي فُلَانٍ بِخِلَافِ ما إذَا أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ وَهُمْ يُحْصَوْنَ وَفُلَانٌ أَبٌ خَاصٌّ لهم وَلَيْسَ بِأَبِي قَبِيلَةٍ حَيْثُ كان الثُّلُثُ لِبَنِي صُلْبِهِ وَلَا يَدْخُلُ فيه مَوَالِيهِ لِأَنَّهُ ما جَرَى الْعُرْفُ هُنَاكَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ الْمُنْتَسِبَ إلَيْهِمْ فَبَقِيَتْ اللَّفْظَةُ مَحْمُولَةً على الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ في الْوَصِيَّةِ بَنُو بَنِيهِ
وَالدَّلِيلُ على التَّفْرِقَةِ بين الْفَصْلَيْنِ أَنَّ زَيْدًا لو أَعْتَقَ عَبْدًا لَا يقول الْمُعْتَقُ أنا من بَنِي زَيْدٍ إذَا كان زَيْدٌ أَبًا خَاصًّا وَإِنْ كان زَيْدٌ أَبَا قَبِيلَةٍ يقول الْمُعْتَقُ أنا من بَنِي زَيْدٍ
هذا هو الْمُتَعَارَفُ عِنْدَهُمْ وَلِأَنَّ بَنِي فُلَانٍ إذَا كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ لم تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ لهم تَمْلِيكَ الْمَالِ منهم وَهُمْ مَجْهُولُونَ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هذا وَصِيَّةً بِالصَّدَقَةِ لِأَنَّهُ ليس في لَفْظِ الِابْنِ ما ينبىء عن الْحَاجَةِ لُغَةً فَلَا يَصِحُّ كما لو أَوْصَى لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِجَهَالَةِ الْمِلْكِ منه ولم يُجْعَلْ وَصِيَّةً بِالصَّدَقَةِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَإِنْ كان أَبَا نَسَبٍ وهو رَجُلٌ من الناس يُعْرَفُ كَابْنِ أبي لَيْلَى وَابْنِ سِيرِينَ وَنَحْوِ ذلك فَإِنْ كَانُوا كلهم ذُكُورًا دَخَلُوا في الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ اسْمِ الْبَنِينَ لِلذُّكُورِ لِأَنَّهُ جَمْعُ الِابْنِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ ما أَمْكَنَ وقد أَمْكَنَ وَإِنْ كَانُوا كلهم أناثا لَا يَدْخُلُ فيه وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُهُنَّ عِنْدَ انْفِرَادِهِنَّ وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه
قال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ الْوَصِيَّةُ لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ
وقال مُحَمَّدٌ عليه الرَّحْمَةُ يَدْخُلُ فيه الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي حَنِيفَةَ رَوَاهُ يُوسُفُ بن خَالِدٍ السَّمْتِيُّ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيُّ الْخِلَافَ بين أبي حَنِيفَةَ وَصَاحِبِيهِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أن الذُّكُورَ مع الْإِنَاثِ إذَا اجْتَمَعَا غَلَبَ الذُّكُورُ الْإِنَاثَ وَيَتَنَاوَلُ اسْمَ الذُّكُورِ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ وَإِنْ كان لَا يَتَنَاوَلُهُنَّ حَالَةَ الِانْفِرَادِ وَلِهَذَا تَتَنَاوَلُ الْخِطَابَاتِ التي في الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِاسْمِ الْجَمْعِ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ جميعا فَكَذَا في الْوَصِيَّةِ
وَلَهُمَا اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ وهو أَنَّ الْبَنِينَ جَمْعُ ابْنٍ وَالِابْنُ اسْمٌ لِلذَّكَرِ حَقِيقَةً وَكَذَا الْبَنُونَ فَلَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الذُّكُورَ وَلِهَذَا لم يَتَنَاوَلْهُنَّ حَالَةَ الِانْفِرَادِ فَكَذَا حَالَةُ الِاجْتِمَاعِ
وَهَكَذَا نَقُولُ في خِطَابَاتِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أن خِطَابَ الذُّكُورِ لَا يَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ بِصِيغَتِهِ بَلْ بِدَلِيلٍ زَائِدٍ
وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ أَنَّ النِّسَاءَ شَكَوْنَ إلَى رسول اللَّهِ فَقُلْنَ يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُخَاطِبُ الرِّجَالَ دُونَنَا فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } الْآيَةَ فَلَوْ كان خِطَابُ الرِّجَالِ يَتَنَاوَلُهُنَّ لم يَكُنْ لِشِكَايَتِهِنَّ مَعْنًى بِخِلَافِ ما إذَا كان فُلَانٌ أَبَا قَبِيلَةٍ أو بَطْنٍ أو فَخِذٍ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْقَبِيلَةِ وَالْبَطْنِ وَالْفَخِذِ لَا يُرَادُ بها الْأَعْيَانُ وَإِنَّمَا يُرَادُ بها الأنساب ( ( ( الإنسان ) ) ) وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَى الْقَبِيلَةِ وَالْبَطْنِ وَالْفَخِذِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى في النِّسْبَةِ على السَّوَاءِ وَلِهَذَا يَتَنَاوَلُ الِاسْمُ الْإِنَاثَ منهم وَإِنْ لم يَكُنْ فِيهِنَّ ذَكَرٌ وَلَا يَتَنَاوَلُ الِاسْمُ من وَلَدِ الرَّجُلِ الْمَعْرُوفِ الْإِنَاثَ اللَّاتِي لَا ذَكَرَ مَعَهُنَّ فَإِنْ كان لِفُلَانٍ بَنُو صُلْبٍ وَبَنُو ابْنٍ فَالْوَصِيَّةُ لِبَنِي الصُّلْبِ لِأَنَّهُمْ بَنُوهُ في الْحَقِيقَةِ
وَأَمَّا بَنُو الِابْنِ فَبَنُو بَنِيهِ حَقِيقَةً لَا بَنُوهُ وَإِنَّمَا يُسَمَّوْنَ بَنِيهِ مَجَازًا وَإِطْلَاقُ اللَّفْظِ يُحْمَلُ على الْحَقِيقَةِ ما أَمْكَنَ فَإِنْ لم يَكُنْ له بَنُو الصُّلْبِ فَالْوَصِيَّةُ لِبَنِي الِابْنِ لِأَنَّهُمْ بَنُوهُ مَجَازًا فَيُحْمَلُ عليه عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ
وَأَمَّا أَبْنَاءُ الْبَنَاتِ فَلَا يَدْخُلُونَ في الْوَصِيَّةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ كَأَبْنَاءِ الْبَنِينَ وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ كان له ابْنَانِ لِصُلْبِهِ فَالْوَصِيَّةُ لَهُمَا في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ في بَابِ الْوَصِيَّةِ يَتَنَاوَلُ الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا فَقَدْ وُجِدَ من يَسْتَحِقُّ كُلَّ الْوَصِيَّةِ فَلَا يُحْمَلُ على غَيْرِهِمْ
وَإِنْ كان له ابْنٌ وَاحِدٌ لِصُلْبِهِ صُرِفَ نِصْفُ الثُّلُثِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَلَيْسَ في الْوَاحِدِ مَعْنَى الْجَمْعِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْوَاحِدُ كُلَّ الْوَصِيَّةِ بَلْ النِّصْفَ وَيُرَدُّ النِّصْفُ الْبَاقِي إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي
وَإِنْ كان له ابْنٌ وَاحِدٌ لِصُلْبِهِ وابن
____________________

(7/344)


ابْنِهِ فَالنِّصْفُ لِابْنِهِ وَالْبَاقِي يُرَدُّ على وَرَثَةِ الْمُوصِي في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا النِّصْفُ لِابْنِهِ وما بَقِيَ فَلِابْنِ ابْنِهِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يُحْمَلُ على الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ في زَمَانٍ وَاحِدٍ وإذا صَارَتْ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً سَقَطَ الْمَجَازُ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ على الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ اسْمٌ لِلثَّابِتِ الْمُسْتَقِرِّ في مَوْضِعِهِ وَالْمَجَازُ ما انْتَقَلَ عن مَوْضِعِهِ وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ في زَمَانٍ وَاحِدٍ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا في مَحَلِّهِ وَمُنْتَقِلًا عن مَحَلِّهِ
وَلَوْ كان له بَنَاتٌ وَبَنُو ابْنٍ فَلَا شَيْءَ لِلْفَرِيقَيْنِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وفي قَوْلِهِمَا هو بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ لِأَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَلَدُ الصُّلْبِ إذَا كان حَيًّا يَسْقُطُ معه وَلَدُ الْوَلَدِ غير أَنَّ وَلَدَ الصُّلْبِ هَهُنَا الْبَنَاتُ على الِانْفِرَادِ وَاسْمُ الْبَنِينَ لَا يَتَنَاوَلُ الْبَنَاتِ على الِانْفِرَادِ فلم تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ في الْفَرِيقَيْنِ جميعا وَعَلَى أَصْلِهِمَا تُحْمَلُ الْوَصِيَّةُ على وَلَدِ الْوَلَدِ إذَا لم يجر ( ( ( يجز ) ) ) أَوْلَادُ الْوَلَدِ بِالْوَصِيَّةِ وَيَتَنَاوَلُهُمَا الِاسْمُ على الِاشْتِرَاكِ وَصَارُوا كَالْبَطْنِ الْوَاحِدِ فَيَشْتَرِكُ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ
وَلَوْ قال أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لاخوة فُلَانٍ وَهُمْ ذُكُورٌ وأناث فَهُوَ على الْخِلَافِ الذي ذَكَرْنَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هو لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هو بَيْنَهُمْ بِالسَّوَاءِ لَا يُزَادُ الذَّكَرُ على الْأُنْثَى وَالْحُجَجُ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ
وَلَوْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ فَالذَّكَرُ فيه وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّ الْوَلَدَ اسْمٌ لِلْمَوْلُودِ وَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى
وَلَوْ كانت له امْرَأَةٌ حَامِلٌ دخل ما في بَطْنِهَا في الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْتِ ثُمَّ الْحَمْلُ يَدْخُلُ في الْمِيرَاثِ فَيَدْخُلُ في الْوَصِيَّةِ
فَإِنْ كان له بَنَاتٌ وَبَنُو ابْنٍ فَالْوَصِيَّةُ لِبَنَاتِهِ دُونَ بَنِي ابْنِهِ لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ لِلْبَنَاتِ بِانْفِرَادِهِنَّ حَقِيقَةٌ وَلِأَوْلَادِ الِابْنِ مَجَازٌ وَمَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُ اللَّفْظِ على الْحَقِيقَةِ لَا يُحْمَلُ على الْمَجَازِ فَإِنْ لم يَكُنْ له وَلَدُ صُلْبٍ فَالْوَصِيَّةُ لِوَلَدِ الِابْنِ يَسْتَوِي فيه ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ فَيُعْمَلُ بِالْمَجَازِ تَصْحِيحًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ وَلَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ في الْوَصِيَّةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ وَلَدَ الْبَنَاتِ يَدْخُلُونَ فيها كَوَلَدِ الْبَنِينَ وَذَكَرَ في السِّيَرِ الْكَبِيرِ إذَا أَخَذَ الْأَمَانَ لِنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ لم يَدْخُلْ فيه أَوْلَادُ الْبَنَاتِ فَصَارَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَتَانِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْخَصَّافِ أَنَّ الْوَلَدَ يُنْسَبُ إلَى أَبَوَيْهِ جميعا لِأَنَّهُ وَلَدُ أبيه وَوَلَدُ أُمِّهِ حَقِيقَةً لِانْخِلَاقِهِ من مَائِهِمَا جميعا ثُمَّ وَلَدُ ابْنِهِ يُنْسَبُ إلَيْهِ فَكَذَا وَلَدُ بِنْتِهِ
وَلِهَذَا يُضَافُ أَوْلَادُ سَيِّدَتِنَا فَاطِمَةَ رضي اللَّهُ تعالى عنها إلَى أَبِيهَا رسول اللَّهِ وقال لِلْحَسَنِ رضي اللَّهُ عنه إنَّ ابْنِي هذا لَسَيِّدٌ وَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُصْلِحُ بِهِ بين الْفِئَتَيْنِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رضي اللَّهُ عنهما إنَّ ابْنَيَّ لَسَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَكَذَا يُقَالُ لِسَيِّدِنَا عِيسَى بن مَرْيَمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ من بَنِي آدَمَ وَإِنْ كان لَا يُنْتَسَبُ إلَيْهِ إلَّا من قِبَلِ أُمِّهِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ يُنْسَبُونَ إلَى آبَائِهِمْ لَا إلَى أَبُ الْأُمِّ قال الشَّاعِرُ بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْوَلَدَ يُنْسَبُ إلَى أبيه وَإِلَى أُمِّهِ قُلْنَا نعم وَبِنْتُ الرَّجُلِ وَلَدُهُ حَقِيقَةً فَكَانَ وَلَدُهَا وَلَدَهُ حَقِيقَةً بِوَاسِطَتِهَا حتى تَثْبُتَ جَمِيعُ أَحْكَامِ الْأَوْلَادِ في حَقِّهِ كما تَثْبُتُ في أَوْلَادِ الْبَنِينَ إلَّا أَنَّ النَّسَبَ إلَى الْأُمَّهَاتِ مَهْجُورٌ عَادَةً فَلَا يُنْسَبُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ إلَى آبَاءِ الْأُمَّهَاتِ بِوَسَاطَتِهِنَّ وَلَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ النِّسْبَةِ الْمُطْلَقَةِ وَأَوْلَادُ سَيِّدَتِنَا فَاطِمَةَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ لم تُهْجَرْ نِسْبَتُهُمْ إلَيْهَا فَيُنْسَبُونَ إلَى رسول اللَّهِ بِوَاسِطَتِهَا وَقِيلَ إنَّهُمْ خُصُّوا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَشْرِيفًا وَإِكْرَامًا لهم
وقد رَوَى بَعْضُ مَشَايِخِنَا عن شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في هذا حَدِيثًا عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال كُلُّ بَنِي بِنْتٍ بنوا ( ( ( بنو ) ) ) أَبِيهِمْ إلَّا أَوْلَادَ فَاطِمَةَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنها فَإِنَّهُمْ أَوْلَادِي فَإِنْ لم يَكُنْ له إلَّا وَلَدٌ وَاحِدٌ فَالثُّلُثُ له سَوَاءٌ كان ذَكَرًا أو أُنْثَى لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ يَتَنَاوَلُ الْوَلَدَ الْوَاحِدَ فما زَادَ عليه حَقِيقَةً وَلَا يَتَنَاوَلُ الْجَمْعَ
قال هِشَامٌ سَأَلَتْ مُحَمَّدًا عن رَجُلٍ له ابْنٌ وَبِنْتٌ فقال أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ ابْنَيَّ ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي فَكَمْ يُجْعَلُ لِلْمُوصَى له قال ذلك إلَى الْوَرَثَةِ إنْ شاؤوا أَعْطُوهُ أَقَلَّ الْأَنْصِبَاءِ قُلْت له فَإِنْ كان له ابْنَتَانِ وَابْنٌ قال فَكَذَلِكَ أَيْضًا قُلْت
____________________

(7/345)


فَإِنْ كان له ابْنَانِ وَبِنْتٌ أو ابْنَانِ وَبِنْتَانِ أو بَنُونَ وَبَنَاتٌ فقال قد أَوْصَيْت لِفُلَانٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ ابْنِي فقال يُعْطَى الْمُوصَى له في هذا نَصِيبُ ابْنٍ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا قال أَحَدَ ابْنِي وَلَهُ ابْنٌ وَبِنْتٌ عُلِمَ أَنَّهُ سَمَّى الْأُنْثَى ابْنًا لِاجْتِمَاعِهَا مع الذَّكَرِ فَدَخَلَتْ في الْكَلَامِ فَكَانَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَحْمِلُوا الْوَصِيَّةَ على نَصِيبِهِمَا
وإذا كان له بَنُونَ وَبَنَاتٌ أو ابْنَانِ وَبَنَاتٌ فقال أَحَدُ بَنِيَّ يَقَعُ على الذُّكُورِ فَتُحْمَلُ الْوَصِيَّةُ على نَصِيبِ وَاحِدٍ منهم دُونَ نَصِيبِ الْبَنَاتِ
قال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فإذا كان له بِنْتٌ وَابْنٌ أو ابْنٌ وَبِنْتَانِ أو ابْنٌ وَبَنَاتٌ فَالِابْنُ وَحْدَهُ لَا يَكُونُ بَنِينَ وَالْأَمْرُ على ما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لِأَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ لَا يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ فَلَا بُدَّ من إدْخَالِ الْإِنَاثِ معه فَحُمِلَتْ الْوَصِيَّةُ على نَصِيبِ أَحَدِهِمْ
فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى اعْتِبَارِهِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ وأن الِاسْمَ يُحْمَلُ على الذُّكُورِ إلَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ
وَلَوْ أَوْصَى لِيَتَامَى بَنِي فُلَانٍ فَإِنْ كان يَتَامَاهُمْ يُحْصَوْنَ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ وَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ لهم بِأَعْيَانِهِمْ لِكَوْنِهِمْ مَعْلُومِينَ فَأَمْكَنَ إيقَاعُهَا تَمْلِيكًا منهم فَصَحَّتْ كما لو أَوْصَى لِيَتَامَى هذه السِّكَّةِ أو هذه الدَّارِ وَيَسْتَوِي فيها الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ لِأَنَّ الْيَتِيمَ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَنْ مَاتَ أَبُوهُ ولم يَبْلُغْ الْحُلُمَ
وَهَذَا لَا يَتَعَرَّضُ لِلْفَقْرِ والغنا ( ( ( والغنى ) ) )
وقال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ابْتَغُوا في أَمْوَالِ الْيَتَامَى خَيْرًا كيلا تَأْكُلَهَا الصَّدَقَةُ قد سُمُّوا يَتَامَى وَإِنْ كان لهم مَالٌ
فَكُلُّ صَغِيرٍ مَاتَ أَبُوهُ يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ وَمَنْ لَا فَلَا
فَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ وَتُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ منهم لِأَنَّهَا لو صُرِفَتْ إلَى الْأَغْنِيَاءِ لَبَطَلَتْ لِجَهَالَةِ الْمُوصَى له وَلَوْ صُرِفَتْ إلَى الْفُقَرَاءِ لَجَازَتْ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِالصَّدَقَةِ وَإِخْرَاجٌ لِلْمَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاَللَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ مَعْلُومٌ
وَأَمْكَنَ أَنْ تُجْعَلَ الْوَصِيَّةُ لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لم يَكُنْ في اللَّفْظِ ما ينبىء عن الْحَاجَةِ لُغَةً لَكِنَّهُ ينبىء عن سَبَبِ الْحَاجَةِ وَعَمَّا يُوجِبُ الْحَاجَةَ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ لِأَنَّ الصِّغَرَ وَالِانْفِرَادَ عن الْأَبِ أَعْظَمُ أَسْبَابِ الْحَاجَةِ إذْ الصَّغِيرُ عَاجِزٌ عن الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ وَلَا بُدَّ له مِمَّنْ يَقُومُ بِإِيصَالِ مَنَافِعَ مَالِهِ إلَيْهِ وَكَذَا هو عَاجِزٌ عن الْقِيَامِ بِحِفْظِ مَالِهِ واسْتِنْمائِهِ وَلَا بَقَاءَ لِلْمَالِ عَادَةً إلَّا بِالْحِفْظِ وَالِاسْتِنْمَاء وهو عَاجِزٌ عن ذلك كُلِّهِ فَيَصِيرُ في الْحُكْمِ كَمَنْ انْقَطَعَتْ عليه مَنَافِعُ مَالِهِ بِسَبَبِ بُعْدِهِ عن مَالِهِ وهو ابن السَّبِيلِ فَصَارَ الإسم بِهَذِهِ الْوَسَاطَةِ مُنْبِئًا عن الْحَاجَةِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَعَلَ اللَّهُ لِلْيَتَامَى سَهْمًا من خُمُسِ الْغَنِيمَةِ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ من شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى } وقال تَبَارَكَ وَتَعَالَى { ما أَفَاءَ اللَّهُ على رَسُولِهِ من أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى } وَأَرَادَ بِهِ الْمُحْتَاجِينَ منهم دُونَ الْأَغْنِيَاءِ وإذا كان كَذَلِكَ أَمْكَنَ تَصْحِيحُ هذا التَّصَرُّفِ بِجَعْلِهِ إيضا ( ( ( إيصاء ) ) ) بِالصَّدَقَةِ
وَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى لِزَمْنَى بَنِي فُلَانٍ أو لِعُمْيَانِهِمْ لِأَنَّ الِاسْمَ يَدُلُّ على سَبَبِ الْحَاجَةِ عَادَةً وهو الزَّمَانَةُ وَالْعَمَى بِخِلَافِ ما إذَا أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ وَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ أنه لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يُمَكِّنُ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ بِجَهَالَةِ الموصي لهم وَلَا بِطَرِيقِ الْإِيصَاءِ بِالصَّدَقَةِ لِأَنَّهُ ليس في لَفْظِ الِابْنِ ما ينبىء عن الْحَاجَةِ وَلَا ما يُوجِبُ الْحَاجَةَ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ على ما بَيَّنَّا فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ
ثُمَّ إذَا صَحَّتْ وَانْصَرَفَتْ الْوَصِيَّةُ إلَى الْفُقَرَاءِ من الْيَتَامَى فَإِنْ صُرِفَ إلَى اثْنَيْنِ منهم فَصَاعِدًا جَازَ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ صُرِفَ جَمِيعُ الثُّلُثِ إلَى وَاحِدٍ فَهُوَ على الْخِلَافِ الذي ذَكَرْنَا وَالْأَفْضَلُ لِلْمُوصِي أَنْ يَصْرِفَ إلَى كل من قَدَرَ منهم لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْعَمَلِ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظُ وَتَحْقِيقِ مَقْصُودِ الْمُوصِي
وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ ما له لِأَرَامِلِ بَنِي فُلَانٍ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ سَوَاءٌ كُنَّ يُحْصَيْنَ أو لَا يُحْصَيْنَ
أَمَّا إذَا كُنَّ يُحْصَيْنَ فَلَا يُشْكِلُ فإن الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ تَمْلِيكًا مِنْهُنَّ بِأَعْيَانِهِنَّ لِكَوْنِهِنَّ مَعْلُومَاتٍ
وذلك ( ( ( وكذلك ) ) ) إذَا كُنَّ لَا يُحْصَيْنَ لِأَنَّ في الِاسْمِ ما يَدُلُّ على الْحَاجَةِ لِأَنَّ الْأَرْمَلَةَ اسْمٌ لِامْرَأَةٍ بَالِغَةٍ فَارَقَتْ زَوْجَهَا بِطَلَاقٍ أو وَفَاةٍ دخل بها أو لم يَدْخُلْ
كَذَا قال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ
وقال ابن الْأَنْبَارِيُّ الْأَرْمَلَةُ التي لَا زَوْجَ لها
من قَوْلِهِمْ أَرْمَلَ الْقَوْمُ فَهُمْ مُرْمِلُونَ إذَا فَنِيَ زَادُهُمْ وَمَنْ فنى زَادُهُ كان مُحْتَاجًا فَكَانَ في الِاسْمُ ما ينبىء عن الْحَاجَةِ فَتَقَعُ وَصِيَّةً بِالصَّدَقَةِ وَإِخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاحِدٌ مَعْلُومٌ
وَهَلْ يَدْخُلُ في هذه الْوَصِيَّةِ الرِّجَالُ الَّذِينَ فَارَقُوا أَزْوَاجَهُمْ قال عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ رضي اللَّهُ عنه ( ( ( عنهم ) ) ) لَا يَدْخُلُونَ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَدْخُلُ في كل من خَرَجَ من كَرْمَةِ فُلَانٍ ذَكَرًا كان أو أُنْثَى وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقُتَبِيُّ وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ جَرِيرٍ الشَّاعِرِ
____________________

(7/346)


هَذِي الْأَرَامِلُ قد قَضَيْتَ حَاجَتَهَا فَمَنْ لِحَاجَةِ هذا الْأَرْمَلِ الذَّكَرِ أَطْلَقَ اسْمَ الْأَرْمَلِ على الرَّجُلِ
وَلَنَا أَنَّ حَقِيقَةَ هذا الِاسْمِ لِلْمَرْأَةِ لِمَا ذَكَرْنَا عن مُحَمَّدٍ وهو من كِبَارِ أَهْلِ اللُّغَةِ رَوَى عنه أبو عَبِيدٍ وأبو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ وَأَقْرَانُهُمْ كما رُوِينَا عن الْخَلِيلِ وَالْأَصْمَعِيِّ وَأَقْرَانِهِمَا
وقال الْخَلِيلُ يُقَالُ امْرَأَةٌ أَرْمَلَةُ وَلَا يُقَالُ رَجُلٌ أَرْمَلُ إلَّا في الْمَلِيحِ من الشِّعْرِ
وقال ابن الْأَنْبَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُقَالُ رَجُلٌ أَرْمَلُ إلَّا في الشِّعْرِ وَنَحْوِ ذلك وَلِأَنَّ الِاسْمَ لَمَّا كان مُشْتَقًّا من قَوْلِهِمْ أَرْمَلَ الْقَوْمُ إذَا فنى زَادُهُمْ فَالْمَرْأَةُ هِيَ التي في ( ( ( فني ) ) ) زَادُهَا بِمَوْتِ زَوْجِهَا لِأَنَّ النَّفَقَةَ على الزَّوْجِ لَا على الْمَرْأَةِ فإذا مَاتَ فَقَدْ فَنِيَ زَادُهَا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ جَرِيرٍ مَحْمُولٌ على مَلِيحِ الشِّعْرِ كما قال الْخَلِيلُ أو هو شَاذٌّ كما قال ابن الْأَنْبَارِيِّ أو لِازْدِوَاجِ الْكَلَامِ قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا }
وقال تَعَالَى { فَمِنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عليه بِمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُمْ }
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ } وَكَمَا قال الشَّاعِر فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وأن تَتَأَيَّمِي مدا ( ( ( مدى ) ) ) الدَّهْرِ ما لم تَنْكِحِي أَتَأَيَّمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُسَمَّى أَيِّمًا لَكِنْ أُطْلِقَ عليه لِازْدِوَاجِهِ بِقَوْلِهِ وأن تتأيمى كَذَا هَهُنَا وَإِطْلَاقُ الِاسْمِ لَا يَنْصَرِفُ إلَى ما لَا يُذْكَرُ إلَّا لِضَرُورَةِ تَمْلِيحِ الشِّعْرِ وَازْدِوَاجِ الْكَلَامِ أو في الشُّذُوذِ لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ يَنْصَرِفُ إلَى ما تَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْأَفْهَام وَالْأَوْهَامُ وَذَلِكَ ما قُلْنَا
وَلَوْ أَوْصَى لِأَيَامَى بَنِي فُلَانٍ فَإِنْ كُنَّ يُحْصَيْنَ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كُنَّ لَا يُحْصَيْنَ لَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ ليس في لَفْظِ الْأَيِّمِ ما ينبىء عن الْحَاجَةِ لِتُجْعَلَ وَصِيَّتَهُ بِالصَّدَقَةِ لِأَنَّ الْأَيِّمَ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِامْرَأَةٍ جُومِعَتْ في قُبُلِهَا فارقها ( ( ( وفارقها ) ) ) زَوْجُهَا وَشَرَحَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ قال الْأَيِّمُ كُلُّ امْرَأَةٍ جُومِعَتْ بِنِكَاحٍ جَائِزٍ أو فَاسِدٍ أو فجوز ( ( ( فجور ) ) ) وَلَا زَوْجَ لها غَنِيَّةً كانت أو فَقِيرَةً صَغِيرَةً كانت أو كَبِيرَةً وَلَيْسَ في هذه الْمَعَانِي ما ينبىء عن الْحَاجَةِ فَلَا يَكُونُ إيصَاءً بِالتَّصَدُّقِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَرَامِلِ بَنِي فُلَانٍ وَهُنَّ لَا يُحْصَيْنَ أنها جَائِزَةٌ لِأَنَّ اسْمَ الْأَرْمَلَةِ ينبىء عن الْحَاجَةِ على ما بَيَّنَّا فَجُعِلَ وَصِيَّةً بِالصَّدَقَةِ
ثُمَّ إذَا كُنَّ يُحْصَيْنَ حتى جَازَتْ الْوَصِيَّةُ يَدْخُلُ فيها الصَّغِيرَةُ وَالْبَالِغَةُ وَالْغَنِيَّةُ وَالْفَقِيرَةُ لِأَنَّ الِاسْمَ في اللُّغَةِ لَا يَتَعَرَّضُ لِمَا سِوَى الْأُنُوثَةِ وَحُلُولِ الْجِمَاعِ بها في قُبُلِهَا وَفِرَاقِهَا زَوْجَهَا
وقال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } وإنه يَتَنَاوَلُ الْكَبِيرَةَ وَالصَّغِيرَةَ حتى يَجُوزَ إنْكَاحُ الصِّغَارِ كما يَجُوزُ إنْكَاحُ الْكِبَارِ
وَكَذَا لَا يَتَعَرَّضُ لِلْفَقْرِ والغنا ( ( ( والغنى ) ) ) لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال عز من قَائِلٍ { إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ من فَضْلِهِ } وَلَوْ كان مُتَعَرِّضًا لِشَيْءٍ من ذلك لم يَكُنْ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ } مَعْنًى
وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَيِّمَ اسْمٌ لِامْرَأَةِ جُومِعَتْ في قُبُلهَا فَارَقَهَا زَوْجُهَا قَوْلُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ
وقال أبو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ الْبَلْخِيّ وأبو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أن الْجِمَاعَ ليس بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ هذا الِاسْمِ وَكَذَا الْأُنُوثَةُ بَلْ يَقَعُ هذا الِاسْمُ على الْمَدْخُولِ بها وَعَلَى الْبِكْرِ وَيَقَعُ على الرَّجُلِ كما يَقَعُ على الْمَرْأَةِ وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ إنَّ الْقُبُورَ تَنْكِحُ الْأَيَامَى النِّسْوَةَ الْأَرَامِلَ الْيَتَامَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَبْرَ يَضُمُّ الْبِكْرَ إلَى نَفْسِهِ كما يَضُمُّ الثَّيِّبَ
وقال الشَّاعِرُ فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وان تَتَأَيَّمِي مَدَى الدَّهْرِ ما لم تَنْكِحِي أَتَأَيَّمْ أَيْ أَمْكُثُ بِلَا زَوْجٍ ما مَكَثْتِ أَنْتِ بِلَا زَوْجٍ
وقال آخَرُ فَلَا تَنْكِحَنْ جَبَّارَةً إنَّ شَرَّهَا عَلَيْك حَرَامٌ فَانْكِحَنْ أو تَأَيَّمَا وَالْجَوَابُ أَنَّ حَقِيقَةَ اللُّغَةِ ما حَكَيْنَا عن نَقَلَةِ اللُّغَةِ وَهُمْ أَهْلُ دَقَائِقِ الْأَلْفَاظِ فَيُقْبَلُ نَقْلُهُمْ إياها ( ( ( إياه ) ) ) فِيمَا وُضِعَتْ له وما وَرَدَ في اسْتِعْمَالِ بَعْضِ الْفُصَحَاءِ مَعْدُولًا بِهِ عن تِلْكَ الْحَقَائِقِ فَحُمِلَ على الْمَجَازِ إمَّا بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ والإزدواج أو بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الْمَعَانِي التي وُضِعَ لها الِاسْمُ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْأُنُوثَةَ أَصْلٌ وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ على الذَّكَرِ أَنَّهُ لَا يُدْخَلُ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ فيه
يُقَالُ امْرَأَةٌ أَيِّمٌ وَلَا يُقَالُ أَيِّمَةٌ
وَلَوْ كان الِاسْمُ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى لَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِإِدْخَالِ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ في الْمَرْأَةِ
وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّ ما ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في صِفَةِ الْأَيِّمِ جُومِعَتْ بِفُجُورٍ أو غَيْرِ فُجُورٍ مَذْهَبُهُمَا
فَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ التي جُومِعَتْ بِفُجُورٍ لَا تَدْخُلُ في هذه الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ التي جُومِعَتْ بِفُجُورٍ بِكْرٌ لَا أَيِّمٌ عِنْدَهُ
____________________

(7/347)


حتى تُزَوَّجَ كما تُزَوَّجُ الْأَبْكَارُ عِنْدَهُ
وَمِنْهُمْ من قال هذا قَوْلُهُمْ جميعا لِأَنَّهَا أَيِّمٌ حَقِيقَةً لِوُجُودِ الْجِمَاعِ إلَّا أنها تُزَوَّجُ كما تُزَوَّجُ الْأَبْكَارُ عِنْدَهُ لِمُشَارَكَتِهَا الْأَبْكَارَ عِنْدَهُ في الْمَعْنَى الذي أُقِيمَ فيه السُّكُوتُ مَقَامَ الرِّضَا نُطْقًا في حَقِّهَا بِاعْتِبَارِ السُّكُوتِ وهو الْحَيَاءُ على ما عُرِفَ في مَسَائِلِ الْخِلَافِ
وَلَوْ أَوْصَى لِكُلِّ ثَيِّبٍ من بَنِي فُلَانٍ إنْ كُنَّ يُحْصَيْنَ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِمَا ذَكَرْنَا في الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَيَدْخُلُ تَحْتَ هذه الْوَصِيَّةِ كُلُّ امْرَأَةٍ جُومِعَتْ بِحَلَالٍ أو حَرَامٍ لها زَوْجٌ أو لم يَكُنْ لها زَوْجٌ بَلَغَتْ مَبْلَغَ النِّسَاءِ أو لم تَبْلُغْ
كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ
وَيَدْخُلُ فيه الْفَقِيرَةُ وَالْغَنِيَّةُ وَالصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَعَرَّضُ لِذَلِكَ
وقال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } أَدْخَلَ فيه الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ وَالْفَقِيرَاتِ وَالْغَنِيَّاتِ يَدُلُّ عليه أَنَّهُنَّ دَخَلْنَ فِيمَا يُقَابِلُهُ وهو قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَأَبْكَارًا } فَكَذَا في قَوْله تَعَالَى { ثَيِّبَاتٍ } فَدَلَّ الْأَمْرُ على اشْتِرَاطِ الدُّخُولِ لِأَنَّهُ قَابَلَ الثَّيِّبَاتِ بِالْأَبْكَارِ وَهُنَّ اللَّاتِي لم يُجَامَعْنَ فَكَانَتْ الثَّيِّبَاتُ اللَّاتِي جُومِعْنَ لِتَصِحَّ الْمُقَابَلَةُ وَلَا تُشْتَرَطُ مُفَارَقَتُهَا زَوْجَهَا بِخِلَافِ الْأَرْمَلَةِ لِأَنَّ اللُّغَةَ كَذَا تَقْتَضِي فَيُتَّبَعُ فيه وَضْعُ أَرْبَابِ اللُّغَةِ وَلَا يَدْخُلُ فيه الرَّجُلُ لِأَنَّ هذا الِاسْمَ لَا يَتَنَاوَلُ الرَّجُلَ حَقِيقَةً وَإِنْ وَرَدَ في الحديث عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ لِأَنَّ ذلك إطْلَاقٌ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ للإزدواج وَالْمُقَابَلَةِ
وَإِنْ كُنَّ لَا يُحْصَيْنَ لم تَجُزْ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّهُ ليس في الِاسْمِ ما ينبىء عن الْحَاجَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ اسْمٌ لانثى من بَنَاتِ آدَمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جُومِعَتْ وَلَيْسَ في الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ في الْحَدِّ ما ينبىء عن الْحَاجَةِ فَلَا يُرَادُ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ إلَّا التَّمْلِيكُ وَالْمُتَمَلِّكُ مَجْهُولٌ فَلَا يَصِحُّ
وَلَوْ أَوْصَى لِكُلِّ بِكْرٍ من بَنِي فُلَانٍ يَجُوزُ إذَا كُنَّ مَحْصُوَّاتٍ لَمَا قُلْنَا
وَيَدْخُلُ فيه الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ الْغَنِيَّةُ وَالْفَقِيرَةُ إذْ الْبِكْرُ اسْمٌ لِامْرَأَةٍ لم تُجَامَعْ بِنِكَاحٍ وَلَا غَيْرِهِ كَذَا قال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَإِطْلَاقُ هذا الِاسْمِ على الذَّكَرِ في الحديث وهو قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وهو الْمَجَازُ بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ وَالِازْدِوَاجِ أو كان لها حَقِيقَةً ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ في مُتَعَارَفِ الْخَلْقِ على الْأُنْثَى فَصَارَ بِحَالٍ لَا تَنْصَرِفُ أَوْهَامُ الناس عِنْدَ إطْلَاقِهِ إلَّا إلَى الْأُنْثَى فَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ على الْمَجَازِ
وَلَوْ كانت عُذْرَتُهَا زَالَتْ بِالْوُضُوءِ أو بِالْوَثْبَةِ أو بِذَرُورِ الدَّمِ تَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ لِأَنَّهَا لم تُجَامَعْ
وَمِنْ الناس من خَالَفَ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ قالوا إنَّ هذه أَيْضًا لَا تَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِبِكْرٍ وَالصَّحِيحُ ما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِمَا ذَكَرْنَا
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التي زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِفُجُورٍ لَا تَكُونُ بِكْرًا وَلَا تَكُونُ لها وَصِيَّةٌ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا منهم الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِي رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ هذا قَوْلَهُمَا فَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهَا بِكْرٌ وَتَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ
وَمِنْهُمْ من قال لَا خِلَافَ في أنها لَا تَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِبِكْرٍ حَقِيقَةً لِعَدَمِ حَدِّ الْبَكَارَةِ وَإِنَّمَا تُزَوَّجُ تَزَوُّجَ الْأَبْكَارِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِمَا ذَكَرْنَا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَلَوْ أَوْصَى لِذَوِي قَرَابَتِهِ أو قَرَابَاتِهِ أو لِأَنْسَابِهِ أو لِأَرْحَامِهِ أو لِذَوِي أَرْحَامِهِ هذه الْأَلْفَاظُ الْخَمْسَةُ سَوَاءٌ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ الْوَصِيَّةُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِلْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ يُعْتَبَرُ في هذه الْوَصِيَّةِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ الرَّحِمُ الْمَحْرَمُ وَالْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ وَجَمْعُ الْوَصِيَّةِ وهو اثْنَانِ فَصَاعِدًا وَأَنْ يَكُونَ سِوَى الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَرِثُ وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلُ في هذه الْوَصِيَّةِ ذوا ( ( ( ذو ) ) ) الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَالْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إلَى أَقْصَى أَبٍ له في الْإِسْلَامِ حتى لو أَوْصَى لِلْعَلَوِيَّةِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ يُصْرَفُ الثُّلُثُ إلَى من اتَّصَلَ بِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَبِسَيِّدِنَا الْعَبَّاسِ رضي اللَّهُ عنهما لَا إلَى من فَوْقَهُمَا من الْآبَاءِ وَلَا خِلَافَ في اعْتِبَارِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ اعْتِبَارُ جَمْعِ الْوَصِيَّةِ وَأَنْ لَا يَكُونَ وَالِدًا وَلَا وَلَدًا وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَرِثُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ لَفْظَ ذَوِي لَفْظُ جَمْعٍ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ في بَابِ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وفي بَابِ الْمِيرَاثِ كَذَلِكَ فإن الثِّنْتَيْنِ من الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ أُلْحِقَتَا بِالثَّلَاثِ فَصَاعِدًا في اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ وَحَجْبُ الْأُمِّ من الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ على ما مَرَّ حتى لو أَوْصَى لِذَوِي قَرَابَتِهِ اسْتَحَقَّ الْوَاحِدُ فَصَاعِدًا كُلَّ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ ذِي ليس بِلَفْظِ جَمْعٍ
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ لَا يُسَمَّيَانِ قَرَابَتَيْنِ عُرْفًا وَحَقِيقَةً أَيْضًا لِأَنَّ الْأَبَ أَصْلٌ وَالْوَلَدَ فَرْعُهُ وَجُزْؤُهُ وَالْقَرِيبُ من يَقْرُبُ من غَيْرِهِ من نَفْسِهِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْقَرِيبِ
وقال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } عَطَفَ الْأَقْرَبَ على الْوَالِدِ وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايِرَةَ في الْأَصْلِ وإذا لم يَدْخُلْ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ
____________________

(7/348)


في هذه الْوَصِيَّةِ فَهَلْ يَدْخُلُ فيها الْجَدُّ وَوَلَدُ الْوَلَدِ ذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّهُمَا يَدْخُلَانِ ولم يذكر فيه خِلَافًا
ووذكر ( ( ( وذكر ) ) ) الْحَسَنُ بن زِيَادٍ عن أبي حَنِيفَةَ رحمهم ( ( ( رحمه ) ) ) اللَّهُ أَنَّهُمَا لَا يَدْخُلَانِ
وَهَكَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْجَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ وَوَلَدَ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ فإذا لم يَدْخُلْ فيها الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ كَذَا الْجَدُّ وَوَلَدُ الْوَلَدِ
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِمَا رُوِينَا عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْمَحْرَمُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يُعْتَبَرُ
وَالثَّانِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا لَا يُعْتَبَرُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَرِيبَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ من مَعْنَى وهو الْقُرْبُ وقد وُجِدَ الْقُرْبُ فَيَتَنَاوَلُ الرَّحِمَ الْمَحْرَمَ وَغَيْرَهُ وَالْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ وَصَارَ كما لو أَوْصَى لأخوته أَنَّهُ يَدْخُلُ الْإِخْوَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ والأخوة لِأَبٍ وَالْإِخْوَةُ لِأُمٍّ لِكَوْنِهِ اسْمًا مُشْتَقًّا من الْأُخُوَّةِ
كَذَا هذا
وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } جَمَعَ رسول اللَّهِ قُرَيْشًا فَخَصَّ وَعَمَّ فقال يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ من النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ من اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ضَرًّا وَلَا نَفْعًا يا مَعْشَرَ بَنِي قُصَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ من النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ من اللَّهِ عز شَأْنُهُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَكَذَلِكَ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِبَنِي عبد الْمُطَّلِبِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كان فِيهِمْ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ وَذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَغَيْرُ الْمَحْرَمِ فَدَلَّ أَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ قَرِيبٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ لِتَعَذُّرِ إدْخَالِ أَوْلَادِ سَيِّدِنَا آدَمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فيه فَتُعْتَبَرُ النِّسْبَةُ إلَى أَقْصَى أَبٍ في الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ الْإِسْلَامُ صَارَتْ الْمَعْرِفَةُ بِالْإِسْلَامِ وَالشَّرَفُ بِهِ فَصَارَ الْجَدُّ الْمُسْلِمُ هو النَّسَبُ فَتَشَرَّفُوا بِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ من كان قَبْلَهُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمَّا كانت بِاسْمِ الْقَرَابَةِ أو الرَّحِمِ فَالْقَرَابَةُ الْمُطْلَقَةُ هِيَ قَرَابَةُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَلِأَنَّ مَعْنَى الِاسْمِ يَتَكَامَلُ بها وَأَمَّا في غَيْرِهَا من الرَّحِمِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ فَنَاقِصٌ فَكَانَ الِاسْمُ لِلرَّحِمِ الْمُحْرَمِ لَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ لو كان حَقِيقَةً لِغَيْرِهِ فإما أَنْ يُعْتَبَرَ الِاسْمُ مُشْتَرَكًا أو عَامًّا وَلَا سَبِيلَ إلَى الِاشْتِرَاكِ لِأَنَّ الْمَعْنَى مُتَجَانِسٌ وَلَا إلَى الْعُمُومِ لِأَنَّ الْمَعْنَى مُتَفَاوِتٌ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ لِمَا قُلْنَا حَقِيقَةً وَلِغَيْرِهِ مَجَازًا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِإِخْوَتِهِ لِأَنَّ مَأْخَذَ الِاسْمِ وهو الأخوة لَا يَتَفَاوَتُ فَكَانَ اسْمًا عَامًا فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ
وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ على ما بَيَّنَّا
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ من هذه الْوَصِيَّةِ هو صِلَةُ الْقَرَابَةِ وَهَذِهِ الْقَرَابَةُ هِيَ وَاجِبَةُ الْوَصْلِ مُحَرَّمَةُ الْقَطْعِ لَا تِلْكَ
وَالظَّاهِرُ من حَالِ الْمُسْلِمِ الدَّيِّنِ الْمُسَارَعَةُ إلَى إقَامَةِ الْوَاجِبِ فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ اللَّفْظِ عليه بِخِلَافِ ما إذَا أَوْصَى لِإِخْوَتِهِ لِأَنَّ قَرَابَةَ الأخوة وَاجِبَةُ الْوَصْلِ مُحَرَّمَةُ الْقَطْعِ على اخْتِلَافِ جِهَاتِهَا فَهُوَ الْفَرْقُ بين الْفَصْلَيْنِ
وَجَوَابُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ على زَعْمِهِمَا كان يَسْتَقِيمُ في زَمَانِهِمَا لِأَنَّ أَقْصَى أَبِ في الْإِسْلَامِ كان قَرِيبًا يَصِلُ إلَيْهِ بِثَلَاثَةِ آبَاءٍ أو أَرْبَعَةِ آبَاءٍ فَكَانَ الْمُوصَى له مَعْلُومًا
فَأَمَّا في زَمَانِنَا فَلَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ عَهْدَ الْإِسْلَامِ قد طَالَ فَتَقَعُ الْوَصِيَّةُ لِقَوْمٍ مَجْهُولِينَ فَلَا تَصِحُّ إلَّا أنا نَقُولَ إنه يُصْرَفُ إلَى أَوْلَادِ أبيه وَأَوْلَادِ جَدِّهِ وَأَوْلَادِ جَدِّ أبيه وَإِلَى أَوْلَادِ أُمِّهِ وَأَوْلَادِ جَدَّتِهِ وَجَدَّةِ أُمِّهِ لِأَنَّ هذا الْقَدْرَ قد يَكُونُ مَعْلُومًا فَيُصْرَفُ إلَيْهِمْ
فَأَمَّا الزِّيَادَةُ على ذلك فَلَا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَإِنْ تَرَكَ عَمَّيْنِ وَخَالَيْنِ وَهُمْ لَيْسُوا بِوَرَثَتِهِ بِأَنْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا وَعَمَّيْنِ وَخَالَيْنِ فَالْوَصِيَّةُ لِلْعَمَّيْنِ لَا لِلْخَالَيْنِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ وَالْعَمَّانِ أَقْرَبُ إلَيْهِ من الْخَالَيْنِ فَكَانَا أَوْلَى بِالْوَصِيَّةِ
وَعِنْدَهُمَا الْوَصِيَّةُ تَكُونُ بين الْعَمَّيْنِ وَالْخَالَيْنِ أَرْبَاعًا لِأَنَّ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ سَوَاءٌ عِنْدَهُمَا
وَلَوْ كان له عَمٌّ وَاحِدٌ وَخَالَانِ فَلِلْعَمِّ نِصْفُ الثُّلُثِ وَلِلْخَالَيْنِ النِّصْفُ الْآخَرُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ حَصَلَتْ بِاسْمِ الْجَمْعِ وَأَقَلُّ من يَدْخُلُ تَحْتَ اسْمِ الْجَمْعِ في الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْعَمُّ الْوَاحِدُ أَكْثَرَ من نِصْفِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ أَقَلَّ من يَنْضَمُّ إلَيْهِ مِثْلُهُ
وإذا اسْتَحَقَّ هو النِّصْفَ بَقِيَ النِّصْفُ الْآخَرُ لَا مُسْتَحِقَّ له أَقْرَبَ من الْخَالَيْنِ فَكَانَ لَهُمَا وَعِنْدَهُمَا يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ في الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنْ كان له عَمٌّ وَاحِدٌ ولم يَكُنْ له غَيْرُهُ من ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَنِصْفُ الثُّلُثِ لِعَمِّهِ وَالنِّصْفُ يُرَدُّ على وَرَثَةِ الْمُوصِي عِنْدَهُ
لِأَنَّ الْعَمَّ الْوَاحِدَ لَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ من النِّصْفِ فَبَقِيَ النِّصْفُ الْآخَرُ لَا مُسْتَحِقَّ له فَتَبْطُلُ فيه الْوَصِيَّةُ
وَعِنْدَهُمَا يُصْرَفُ النِّصْفُ الْآخَرُ إلَى ذِي الرَّحِمِ الذي ليس بِمَحْرَمٍ
وَلَوْ أَوْصَى لِأَهْلِ بَيْتِهِ يَدْخُلُ فيه من جَمْعِهِ آبَاؤُهُمْ أَقْصَى أَبٍ في الْإِسْلَامِ حتى أَنَّ الْمُوصِيَ لو كان عَلَوِيًّا يَدْخُلُ في هذه الْوَصِيَّةِ كُلُّ من يُنْسَبُ إلَى سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ
____________________

(7/349)


عنه من قِبَلِ الْأَبِ وَإِنْ كان عَبَّاسِيًّا يَدْخُلُ فيها كُلُّ من يُنْسَبُ إلَى الْعَبَّاسِ رضي اللَّهُ عنه من قِبَلِ الْأَبِ سَوَاءٌ كان بِنَفْسِهِ ذَكَرًا أو أُنْثَى بَعْدَ أن كانت نِسْبَتُهُ إلَيْهِ من قِبَلِ الْآبَاءِ وَلَا يَدْخُلُ من كانت نِسْبَتُهُ من قِبَلِ الْأُمِّ لِأَنَّ الْمُرَادَ من أَهْلِ الْبَيْتِ أَهْلُ بَيْتِ النَّسَبِ وَالنَّسَبُ إلَى الْآبَاءِ وَأَوْلَادِ النِّسَاءِ آبَاؤُهُمْ قَوْمٌ آخَرُونَ فَلَا يَكُونُ من أَهْلِ بَيْتِهِ وَيَدْخُلُ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ لِأَهْلِ بَيْتِهِ أَبُوهُ وَجَدُّهُ إذَا كان مِمَّنْ لَا يَرِثُ لِأَنَّ بَيْتَ الْإِنْسَانِ أَبُوهُ وَمَنْ يُنْسَبُ إلَى بَيْتِهِ فَالْأَبُ أَصْلُ الْبَيْتِ فَيَدْخُلُ في الْوَصِيَّةِ
وَلَا يَدْخُلُ في الْوَصِيَّةِ بِالْقَرَابَةِ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ من تَقَرَّبَ إلَى الْإِنْسَانِ بِغَيْرِهِ لَا بِنَفْسِهِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ في أَبٍ
وَكَذَلِكَ لو أَوْصَى لِنَسَبِهِ أو حَسَبِهِ فَهُوَ على قَرَابَتِهِ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إلَى أَقْصَى أَبٍ له في الْإِسْلَامِ حتى لو كان آبَاؤُهُ على غَيْرِ دِينِهِ دَخَلُوا في الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ النَّسَبَ عِبَارَةٌ عَمَّنْ يُنْسَبُ إلَى الْأَبِ دُونَ الْأُمِّ وَكَذَلِكَ الْحَسَبُ فإن الْهَاشِمِيَّ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً فَوَلَدَتْ منه يُنْسَبُ الْوَلَدُ إلَيْهِ لَا إلَى أُمِّهِ وَحَسْبُهُ أَهْلُ بَيْتِ أبيه دُونَ أُمِّهِ فَثَبَتَ أَنَّ النَّسَبَ وَالْحَسَبَ يَخْتَصُّ بِالْأَبِ دُونَ الْأُمِّ
وَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى لِجِنْسِ فُلَانٍ فَهُمْ بَنُو الْأَبِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَجَنَّسُ بِأَبِيهِ وَلَا يَتَجَنَّسُ بِأُمِّهِ فَكَانَ الْمُرَادُ منه جِنْسَهُ في النَّسَبِ
وَكَذَلِكَ اللُّحْمَةُ عِبَارَةٌ عن الْجِنْسِ
وَذَكَر الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ إذَا أَوْصَى لِقَرَابَتِهِ فَالْقَرَابَةُ من قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْجِنْسُ وَاللُّحْمَةُ من قِبَلِ الْأَبِ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ من يَتَقَرَّبُ إلَى الْإِنْسَانِ بِغَيْرِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ في الطَّرَفَيْنِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ على ما بَيَّنَّا
وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ لِآلِ فُلَانٍ هو بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ لِأَهْلِ بَيْتِ فُلَانٍ فَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ من قَرَابَةِ الْأُمِّ في هذه الْوَصِيَّةِ
وَلَوْ أَوْصَى لِأَهْلِ فُلَانٍ فَالْوَصِيَّةُ لِزَوْجَةِ فُلَانٍ خَاصَّةً في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا هذا على جَمِيعِ من يَعُولُهُمْ فُلَانٌ مِمَّنْ تَضُمُّهُ نَفَقَتُهُ من الْأَحْرَارِ فَيَدْخُلُ فيه زَوْجَتُهُ وَالْيَتِيمُ في حِجْرِهِ وَالْوَلَدُ إذَا كان يَعُولُهُ فَإِنْ كان كَبِيرًا قد اعْتَزَلَ عنه أو كان بِنْتًا قد تَزَوَّجَتْ فَلَيْسَ من أَهْلِهِ وَلَا يَدْخُلُ فيه مَمَالِيكُهُ وَلَا وَارِثُ الْمُوصِي وَلَا الموصي لِأَهْلِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَهْلَ عِبَارَةٌ عَمَّنْ يُنْفَقُ عليه قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَبَرًا عن نَبِيِّهِ سَيِّدِنَا نُوحٍ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ ابْنِي من أَهْلِي } وقال تَبَارَكَ وَتَعَالَى في قِصَّةِ لُوطٍ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ } وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأَهْلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُرَادُ بِهِ الزَّوْجَةُ في مُتَعَارَفِ الناس يُقَال فُلَانٌ مُتَأَهِّلٌ وَفُلَانٌ لم يَتَأَهَّلْ وَفُلَانٌ له أَهْلٌ وَفُلَانٌ ليس له أَهْلٌ وَيُرَادُ بِهِ الزَّوْجَةُ فَتُحْمَلُ الْوَصِيَّةُ على ذلك وَلَا يَدْخُلُ فيه الْمَمَالِيكُ لِأَنَّهُمْ لَا يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الْمَوْلَى وَلَا يَدْخُل فيه وَارِثُ الْمُوصِي لِأَنَّهُ إنْ خَرَجَ منه لَا يَدْخُلُ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَوْلَى وَلَا يَدْخُلُ فُلَانٌ الذي أَوْصَى لِأَهْلِهِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ لِلْمُضَافِ إلَيْهِ وَالْمُضَافُ غَيْرُ الْمُضَافِ إلَيْهِ فَلَا يَدْخُلُ في الْوَصِيَّةِ كما لو أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ أن فُلَانًا لَا يَدْخُلُ في الْوَصِيَّةِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِإِخْوَتِهِ وَلَهُ ست ( ( ( ستة ) ) ) أخوة مُتَفَرِّقَةٍ وَلَهُ أَوْلَادٌ يَحُوزُونَ مِيرَاثَهُ فَالثُّلُثُ بين أخوته سَوَاءٌ لِأَنَّهُمْ في اسْتِحْقَاقِ الِاسْمِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَقْرِبَاءِ فُلَانِ أَنَّهُ يُصْرَفُ إلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ تَحْتَمِلُ التَّفَاوُتَ في الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ وَأَمَّا الإخوة فَلَا تَحْتَمِلُ التَّفَاوُتَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ هذا أَقْرَبُ من فُلَانٍ وَلَا يُقَالُ هذا أَكْثَرُ إخوة من فُلَانٍ
هذا إذَا كان له وَلَدٌ يَحُوزُ مِيرَاثَهُ فَإِنْ لم يَكُنْ فَلَا شَيْءَ لِلْإِخْوَةِ من الْأَبِ وَالْأُمِّ والأخوة من الْأُمِّ لِأَنَّهُمْ وَرَثَةٌ وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وللأخوة من قِبَلِ الْأَبِ ثُلُثُ ذلك الثُّلُثِ لِأَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ وَلَا يُقَالُ إذَا لم تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ للأخوة لِأَبٍ وَأُمٍّ وَلِلْإِخْوَةِ لِأُمٍّ يَنْبَغِي أَنْ يُصْرَفَ كُلُّ الثُّلُثِ إلَى الأخوة لِلْأَبِ لِأَنَّا نَقُولُ نعم
هَكَذَا لو لم تَصِحَّ الْإِضَافَة إلَى الْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَإِلَى الْإِخْوَةِ لِأُمٍّ وَالْإِضَافَةُ إلَيْهِمْ وَقَعَتْ صَحِيحَةً بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لهم وَصَارَ هذا كَرَجُلٍ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَمَاتَ اثْنَانِ منهم قبل مَوْتِ الموصى فَلِلْبَاقِي منهم ثُلُثُ الثُّلُثِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَيْهِمْ وَقَعَتْ صَحِيحَةً
كَذَا هذا بِخِلَافِ ما إذَا أَوْصَى لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ وَأَحَدُهُمَا مَيِّتٍ لِأَنَّ هُنَاكَ الْإِضَافَةَ لم تَصِحَّ لِأَنَّ الْمَيِّتَ ليس بِمَحَلٍّ لِلْوَصِيَّةِ أَصْلًا فلم يَدْخُلْ تَحْتَ الْإِضَافَةِ
قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ في رَجُلٍ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ في الصِّلَةِ وَلَهُ أخوة وَأَخَوَاتٌ وَبَنُو أَخٍ وَبَنُو أُخْتٍ يُوضَعُ الثُّلُثُ في جَمِيعِ قَرَابَتِهِ من هَؤُلَاءِ وَمَنْ وُلِدَ منهم بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ لِأَنَّ الصِّلَةَ يُرَادُ بها صِلَةُ الرَّحِمِ فَكَأَنَّهُ نَصَّ عليه وَمَنْ وُلِدَ منهم لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ عُلِمَ أَنَّهُ كان مَوْجُودًا يوم مَوْتِ الْمُوصِي فَيَدْخُلُ في الْوَصِيَّةِ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ
____________________

(7/350)


اللَّهُ في الزِّيَادَاتِ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَخْتَانِهِ ثُمَّ مَاتَ فَالْأَخْتَانُ أَزْوَاجُ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَات وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ فَكُلُّ امْرَأَةٍ ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ من الْمُوصِي فَزَوْجُهَا من أَخْتَانِهِ وَكُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ من زَوْجِهَا من ذَكَرٍ وَأُنْثَى فَهُوَ أَيْضًا من أَخْتَانِهِ وَلَا يَكُونُ الْأَخْتَانُ إلَّا أَزْوَاجَ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَمَنْ كان من قِبَلِهِمْ من ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَلَا يَكُونُ من الْأَخْتَانِ من كان من قِبَلِ نِسَاءِ الْمُوصِي أَيْ زَوْجَاتِهِ لِأَنَّ من يُنْسَبُ إلَى الزَّوْجَةِ فَهُوَ صِهْرٌ وَلَيْسَ بِخَتَنٍ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حُجَّةٌ في اللُّغَةِ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْإِمْلَاءِ أَيْضًا إذَا قال قد أَوْصَيْتُ لِأَخْتَانِي فَأَخْتَانُهُ أَزْوَاجُ كل ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ من الزَّوْجِ فَإِنْ كانت له أُخْتٌ وَبِنْتُ أُخْتٍ وَخَالَةٌ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ زَوْجٌ وَلِزَوْجِ كل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَبٌ فَكُلُّهُمْ جميعا أَخْتَانٌ وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فيه سَوَاءٌ أُمُّ الزَّوْجِ وَأَخْتَانُهُ وَغَيْرُ ذلك فيه سَوَاءٌ على ما بَيَّنَّا فَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في مَوْضِعَيْنِ على أَنَّ الْأَخْتَانَ ما ذُكِرَ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ حُجَّةٌ في اللُّغَةِ
وقال في الْإِمْلَاءِ إذَا قال أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِأَصْهَارِي فَهُوَ على كل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ من زَوْجَتِهِ وَزَوْجَةِ أبيه وَزَوْجَةِ ابْنِهِ وَزَوْجَةِ كل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه فَهَؤُلَاءِ كلهم أَصْهَارُهُ وَلَا تَدْخُلُ في ذلك الزَّوْجَةُ وَلَا امْرَأَةُ أبيه وَلَا امْرَأَةُ أَخِيهِ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حُجَّةٌ في اللُّغَةِ
وَالدَّلِيلُ أَيْضًا على أَنَّ الْأَصْهَارَ من كان من أَهْلِ الزَّوْجَةِ ما رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَتَزَوَّجَهَا أَعْتَقَ من مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منها إكْرَامًا لها وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ أَصْهَارَهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وقال في الْإِمْلَاءِ قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه إذَا أَوْصَى فقال ثُلُثُ مَالِي لِجِيرَانِي فَهُوَ لِجِيرَانِهِ الْمُلَاصِقِينَ لِدَارِهِ من السُّكَّانِ عَبِيدًا كَانُوا أو أَحْرَارًا نِسَاءً كَانُوا أو رِجَالًا ذِمَّةً كَانُوا أو مُسْلِمِينَ بِالسَّوِيَّةِ قَرُبَتْ الْأَبْوَابُ أو بَعُدَتْ إذَا كَانُوا مُلَاصِقِينَ لِلدَّارِ
وَعِنْدَهُمَا الثُّلُثُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَلِغَيْرِهِمْ من الْجِيرَانِ
من أَهْلِ الْمَحَلَّةِ مِمَّنْ يَضُمُّهُمْ مَسْجِدٌ أو جَمَاعَةٌ وَاحِدَةٌ وَدَعْوَةٌ وَاحِدَةٌ فَهَؤُلَاءِ جِيرَانُهُ في كَلَامِ الناس
وقال في الزِّيَادَاتِ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه إذَا أَوْصَى لِجِيرَانِهِ فَقِيَاسُهُ أَنْ يَكُونَ لَلْمُلَاصِقِينَ وَقَوْلُ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الثُّلُثُ لَلسَّكَّانِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَسْكُنُ تِلْكَ الدُّورَ التي تَجِبُ لاجلها الشُّفْعَةُ وَمَنْ كان منهم له دَارٌ في تِلْكَ الدُّورِ وَلَيْسَ بِسَاكِنٍ فيها فَلَيْسَ من جِيرَانِهِ
قال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَأَمَّا أنا فَأَسْتَحْسِنُ أَنْ أَجْعَلَ الْوَصِيَّةَ لِجِيرَانِهِ الْمُلَاصِقِينَ مِمَّنْ يَمْلِكُ الدُّورَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُهَا وَلِمَنْ يَجْمَعُهُ مَسْجِدُ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ التي فيها الْمُوصِي من الْمُلَاصِقِينَ وَغَيْرِهِمْ السُّكَّانِ مِمَّنْ في تِلْكَ الْمَحَلَّةِ وَغَيْرِهِمْ سَوَاءٌ في الْوَصِيَّةِ الْأَقْرَبُونَ وَالْأَبْعَدُونَ وَالْكَافِرُ وَالْمُسْلِمُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ في ذلك سَوَاءٌ وَلَيْسَ لِلْمَمَالِيكِ وَالْمُدَبَّرِينَ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ في ذلك شَيْءٌ
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُونَ فَهُمْ في الْوَصِيَّةِ إذَا كَانُوا سُكَّانًا في الْمَحَلَّةِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن اسْمَ الْجَارِ كما يَقَعُ على الْمُلَاصِقِ يَقَعُ على الْمُقَابِلِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يَجْمَعُهُمَا مَسْجِدٌ وَاحِدٌ فإن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَمَّى جَارًا
وقال عليه الصلاة والسلام لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا في الْمَسْجِدِ
وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه فَسَّرَ ذلك فقال هُمْ الَّذِينَ يَجْمَعُهُمْ مَسْجِدٌ وَاحِدٌ
وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُوصِي من الْوَصِيَّةِ لِلْجَارِ هو الْبِرُّ بِهِ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِ وأنه لَا يَخْتَصُّ بِالْمُلَاصِقِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْجِوَارَ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْحَقِيقَةِ وَهِيَ الِاتِّصَالُ بين الْمِلْكَيْنِ بِلَا حَائِلٍ بَيْنَهُمَا هو حَقِيقَةُ الْمُجَاوَرَةِ
فَأَمَّا مع الْحَائِلِ فَلَا يَكُونُ مُجَاوِرًا حَقِيقَةً
وَلِهَذَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِلْمُلَاصِقِ لَا لِلْمُقَابِلِ لِأَنَّهُ ليس بِجَارٍ حَقِيقَةً
وَمُطْلَقُ الِاسْمِ مَحْمُولٌ على الْحَقِيقَةِ وَلِأَنَّ الْجِيرَانَ الْمُلَاصِقِينَ هُمْ الَّذِينَ يَكُونُ لِبَعْضِهِمْ على بَعْضٍ حُقُوقٌ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بها حَالَ حَيَاتِهِمْ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ قَضَاءَ حَقٍّ كان عليه
وإذا كان كَذَلِكَ فَتَنْصَرِفُ الْوَصِيَّةُ إلَى الْجِيرَانِ الْمُلَاصِقِينَ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ من السُّكْنَى في الْمِلْكِ الْمُلَاصِقِ لِمِلْكِ الْمُوصِي فإذا وُجِدَ ذلك صَارَ كَأَنَّهُ جَارٌ له فَيَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ
وَالْمَذْكُورُ في الحديث جَارُ الْمَسْجِدِ وَجَارُ الْمَسْجِدِ فَسَّرَهُ عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه فإذا أَوْصَى لِمَوَالِي فُلَانٍ وهو أبو فَخِذٍ أو قَبِيلَةٍ أو لِبَنِي فُلَانٍ فإنه يَصِيرُ كَأَنَّهُ قال لِمَوَالِي قَبِيلَةِ فُلَانٍ وَلِبَنِي قَبِيلَةِ فُلَانٍ وَيُرِيدُ بِهِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِمْ بِالنَّسَبِ وَالْمُنْتَمِينَ إلَيْهِمْ بِالْوَلَاءِ
هذا هو الْمُتَعَارَفُ بين أَهْلِ اللِّسَانِ وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَيَصِيرُ كَالْمَنْطُوقِ بِمَا هو الْمُتَعَارَفُ عِنْدَهُمْ وَلَوْ قال نَصُّ هذا ثَبَتَ الْمَالُ لِلْمُنْتَسِبِينَ إلَى هذه الْقَبِيلَةِ وَالْمُنْتَمِينَ إلَيْهِمْ بِالْوَلَاءِ كان الْجَوَابُ ما قُلْنَا كَذَا هَهُنَا بِخِلَافِ ما إذَا لم يَكُنْ فُلَانٌ أَبَا فَخِذٍ أو قَبِيلَةٍ
____________________

(7/351)


فإن هُنَاكَ لَا عُرْفَ فَعُمِلَ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ وَلَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِالدَّلِيلِ الظَّاهِرِ وَلَا يَدْخُلُ فيه مولى الْمُوَالَاةِ لِأَنَّ مولى الْعَتَاقَةِ يَتَقَدَّمُ عليه وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
ثُمَّ لَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا قال ثُلُثُ مَالِي لِمَوَالِي فُلَانٍ أَنَّهُ يَدْخُلُ في الْوَصِيَّةِ جَمِيعُ من نَجَّزَ إعتاقه ( ( ( عتاقه ) ) ) في صِحَّتِهِ وفي مَرَضِهِ وَسَوَاءٌ كان أَعْتَقَهُ قبل الْوَصِيَّةِ أو بَعْدَهَا لِأَنَّ نَفَاذَ الْوَصِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَوْتِ وَكُلُّ من أَعْتَقَهُ في الْمَرَضِ أو في الصِّحَّةِ بَعْدَ أَنْ نَجَّزَ إعْتَاقُهُ صَارَ مَوْلًى بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ فَأَمَّا الْمُدَبَّرُونَ وَأُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ فَهَلْ يَدْخُلُونَ تَحْتَ هذه الْوَصِيَّةِ رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ وَرُوِيَ عنه رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ ذَكَرَهُ في الْجَامِعِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى إن تَعَلُّقَ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ أو ( ( ( أوان ) ) ) إنه الْمَوْتِ وَهُمْ مَوَالِيهِ في ذلك الْوَقْتِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْوَصِيَّةَ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إنه أَوَانَ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ وهو وَقْتُ الْمَوْتِ أَوَانُ عِتْقِهِمْ فَيُعْتَقُونَ في تِلْكَ الْحَالَةِ ثُمَّ يَصِيرُونَ مَوَالِيهِ بَعْدَهُ وَالْوَصِيَّةُ تَنَاوَلَتْ من كان مَوْلًى عِنْدَ مَوْتِهِ وهو ( ( ( وهم ) ) ) في تِلْكَ الْحَالَةِ لَيْسُوا بِمَوَالِيهِ فَلَا يَدْخُلُونَ في الْوَصِيَّةِ
وَلَوْ كان قال ذلك بَعْدَ أَنْ قال إنْ لم أَضْرِبْكَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَمَاتَ قبل أَنْ يَضْرِبَهُ عَتَقَ وَدَخَلَ في الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ عَتَقَ في آخِرِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ لِتَحَقُّقِ عَدَمِ الضَّرْبِ منه في تِلْكَ الْحَالَةِ وَوُقُوعِ الْيَأْسِ عن حُصُولِهِ من قِبَلِهِ فَيَصِيرُ مَوْلًى له ثُمَّ يَعْتِقُهُ الْمَوْتُ ثُمَّ تُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ فَكَانَ مَوْلًى وَقْتَ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ وَوُجُوبِهَا بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُوصَى بِهِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ مَالًا أو مُتَعَلِّقًا بِالْمَالِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابُ الْمِلْكِ أو إيجَابُ ما يَتَعَلَّقُ بِالْمِلْكِ من الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ والاعتاق وَمَحَلُّ الْمِلْكِ هو الْمَالُ فَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ من أَحَدٍ وَلِأَحَدٍ لِأَنَّهُمَا ليسا ( ( ( ليس ) ) ) بِمَالٍ في حَقِّ أَحَدٍ وَلَا بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ قبل الدِّبَاغِ وَكُلُّ ما ليس بِمَالٍ
وقد ذَكَرْنَا ذلك في كِتَابِ الْبُيُوعِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مُتَقَوِّمًا فَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمَالٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ كَالْخَمْرِ فَإِنَّهَا وَإِنْ كانت مَالًا حتى تُوَرَّثَ لَكِنَّهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ في حَقِّ الْمُسْلِمِ حتى لَا تَكُونَ مَضْمُونَةً بِالْإِتْلَافِ فَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ من الْمُسْلِمِ وَلَهُ بِالْخَمْرِ وَيَجُوزُ ذلك من الذِّمِّيِّ لِأَنَّهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ في حَقِّهِمْ كَالْخَلِّ وَتَجُوزُ بِالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ لِأَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَنَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ سَوَاءٌ كان الْمَالُ عَيْنًا أو مَنْفَعَةً عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ حتى تَجُوزَ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ من خِدْمَةِ الْعَبْدِ وَسُكْنَى الدَّارِ وَظَهْرِ الْفَرَسِ
وقال ابن أبي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَنَافِعِ وَصِيَّةٌ بِمَالِ الْوَارِثِ لِأَنَّ نَفَاذَ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ تَحْصُلُ الْمَنَافِعُ على مِلْكِ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ مِلْكُهُمْ وَمِلْكُ الْمَنَافِعِ تَابِعٌ لَمِلْكِ الرَّقَبَةِ فَكَانَتْ الْمَنَافِعُ مِلْكَهُمْ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ مِلْكُهُمْ فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ وَصِيَّةً من مَالِ الْوَارِثِ فَلَا تَصِحُّ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَنَافِعِ في مَعْنَى الْإِعَارَةِ إذْ الْإِعَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ كَذَلِكَ وَالْعَارِيَّةُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُعِيرِ فَالْمَوْتُ لَمَّا أَثَّرَ في بُطْلَانِ الْعَقْدِ على الْمَنْفَعَةِ بَعْدَ صِحَّتِهِ فَلَأَنْ يَمْنَعَ من الصِّحَّةِ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَنْعَ أَسْهَلُ من الرَّفْعِ
وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ تَمَلَّكَ حَالَ حَيَاتِهِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ فَلَأَنْ يَمْلِكَ بِعَقْدِ الْوَصِيَّةِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَوْسَعُ الْعُقُودِ
أَلَا تَرَى أنها تَحْتَمِلُ ما لَا يَحْتَمِلُهُ سَائِرُ الْعُقُودِ من عَدَمِ الْمَحَلِّ وَالْحَظْرِ وَالْجَهَالَةِ ثُمَّ لَمَا جَازَ تَمْلِيكُهَا بِبَعْضِ الْعُقُودِ فَلَأَنْ يَجُوزَ بهذا الْعَقْدِ أَوْلَى
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ بِمَالِ الْوَارِثِ فَمَمْنُوعٌ وَقَوْلُهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ عِنْدَ مَوْتِ الموصى مُسَلَّمٌ لَكِنَّ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ يَتْبَعُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ إذَا أُفْرِدَ الْمَنْفَعَةُ بِالتَّمْلِيكِ وإذا لم يُفْرَدْ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ وَهُنَا أُفْرِدَ بِالتَّمْلِيكِ فَلَا يَتْبَعُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُوصِي إذَا أُفْرِدَ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ بِالْوَصِيَّةِ فَقَدْ جَعَلَهُ مَقْصُودًا بِالتَّمْلِيكِ وَلَهُ هذه الْوِلَايَةُ فَلَا يَبْقَى تَبَعًا لِمِلْكِ الذَّاتِ بَلْ يَصِيرُ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْإِعَارَةِ لِأَنَّ الْمُعِيرَ وَإِنْ جَعَلَ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ مَقْصُودًا بِالتَّمْلِيكِ لَكِنْ في الْحَالِ لَا بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعَارُ الشَّيْءُ لِلِانْتِفَاعِ في حَالِ الْحَيَاةِ عَادَةً لَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَنْتَفِي الْعَقْدُ بِالْمَوْتِ
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَتَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ قَصْدُهُ تَمْلِيكَهُ الْمَنْفَعَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَتْ الْمَنَافِعُ مَقْصُودَةً بِالتَّمْلِيكِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَنَظِيرُهُ من وَكَّلَ وَكِيلًا في حَالِ حَيَاتِهِ فَمَاتَ الْمُوَكِّلُ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ
وَلَوْ أَضَافَ الْوَكَالَةَ إلَى ما بَعْدِ مَوْتِهِ جَازَ حتى يَكُونَ وَصِيًّا بَعْدَ مَوْتِهِ وَسَوَاءٌ كانت الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ من سَنَةٍ أو شَهْرٍ أو كانت مُطْلَقَةً عن التَّوْقِيت لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَنَافِعِ في مَعْنَى الْإِعَارَةِ لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ثُمَّ الْإِعَارَةُ تَصِحُّ مُؤَقَّتَةً وَمُطْلَقَةً عن الْوَقْتِ وَكَذَا الْوَصِيَّةُ غير أنها إذَا كانت
____________________

(7/352)


مُطْلَقَةً فللموصي له أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْعَيْنِ ما عَاشَ وإذا كانت مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ إلَى ذلك الْوَقْتِ وإذا جَازَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ يُعْتَبَرُ فيها خُرُوجُ الْعَيْنِ التي أَوْصَى بِمَنْفَعَتِهَا من الثُّلُثِ وَلَا يُضَمُّ إلَيْهَا قِيمَةٌ
وَإِنْ كان الْمُوصَى بِهِ هو الْمَنْفَعَةُ وَالْعَيْنُ مِلْكٌ لم يَزُلْ عنه لِأَنَّ الْمُوصِيَ بِوَصِيَّتِهِ بِالْمَنَافِعِ مَنَعَ الْعَيْنَ عن الْوَارِثِ وَحَبَسَهَا عنه لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ من الْعَيْنِ وهو الِانْتِفَاعُ بها فَصَارَتْ مَمْنُوعَةً عن الْوَارِثِ مَحْبُوسَةً عنه وَالْمُوصِي لَا يَمْلِكُ مَنْعَ ما زَادَ عن الثُّلُثِ على الْوَارِثِ فَاعْتُبِرَ خُرُوجُ الْعَيْنِ من ثُلُثِ الْمَالِ
وَلِهَذَا لو أَجَّلَ الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ دَيْنًا مُعَجَّلًا له لَا يَصِحُّ إلَّا في الثُّلُثِ وَإِنْ كان التَّأْجِيلُ لَا يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ مِلْكِ الدَّيْنِ لَكِنْ لَمَّا كان فيه مَنْعُ الْوَارِثِ عن الدَّيْنِ قبل حُلُولِ الْأَجَلِ لم يَصِحَّ إلَّا في قَدْرِ الثُّلُثِ
كَذَا هذا ( ( ( ههنا ) ) )
وإذا كان الْمُعْتَبَرُ خُرُوجَ الْعَيْنِ من الثُّلُثِ فَإِنْ خَرَجَتْ من الثُّلُثِ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ في جَمِيعِ الْمَنَافِعِ فَلِلْمُوصَى له أَنْ يَنْتَفِعَ بها فَيَسْتَخْدِمَ الْعَبْدَ وَيَسْكُنَ الدَّارَ ما عَاشَ إنْ كانت الْوَصِيَّةُ مُطْلَقَةً عن الْوَقْتِ فإذا مَاتَ الْمُوصَى له بِالْمَنْفَعَةِ انْتَقَلَتْ إلَى مِلْكِ صَاحِبِ الْعَيْنِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَنْفَعَةِ قد بَطَلَتْ بِمَوْتِ الْمُوصَى له لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْإِعَارَةِ فَتَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَالِكِ إيَّاهُ كما تَبْطُلُ الْإِعَارَةُ بِمَوْتِ الْمُسْتَعِيرِ على أَنَّ الْمَنَافِعَ بِانْفِرَادِهَا لَا تَحْتَمِلُ الْإِرْثَ وَإِنْ كان تَمَلُّكُهَا بِعِوَضٍ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ كَإِجَارَةِ فُلَانٍ لَا يُحْتَمَلُ فِيمَا هو تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْلَى بِخِلَافِ ما إذَا أَوْصَى بِغَلَّةِ دَارِهِ أو ثَمَرَةِ نخلة فَمَاتَ الْمُوصَى له وفي النَّخْلِ ثمرا ( ( ( ثمر ) ) ) وكان وَجَبَ بِمَا اسْتَغَلَّ الدَّارَ آخَرُ أَنَّ ذلك يَكُونُ لِوَرَثَةِ الموصي له لِأَنَّ ذلك عَيْنٌ مَلَكَهَا الْمُوصَى له وَتَرَكَهُ بِالْمَوْتِ فَيَصِيرُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ وفي الْمَنْفَعَةِ لَا حتى إن ما يَحْصُلُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ بَلْ لِوَرَثَةِ الموصى لِأَنَّهُ لم يَمْلِكْهُ الْمُوصَى له فَلَا يُوَرَّثُ وَإِنْ كانت الْعَيْنُ لَا تَخْرُجُ من ثُلُثِ مَالِهِ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ في الْمَنَافِعِ في قَدْرِ ما تَخْرُجُ الْعَيْنُ من ثُلُثِ مَالِهِ بِأَنْ لم يَكُنْ له مَالٌ آخَرُ سِوَى الْعَيْنِ من الْعَبْدِ وَالدَّارِ تُقَسَّمُ الْمَنْفَعَةُ بين الْمُوصَى له وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ أَثْلَاثًا ثُلُثُهَا لِلْمُوصَى له وَثُلُثَاهَا لِلْوَرَثَةِ فَيَسْتَخْدِمُ الْمُوصَى له الْعَبْدَ يَوْمًا وَالْوَرَثَةُ يَوْمَيْنِ وفي الدَّارِ يَسْكُنُ الْمُوصَى له ثُلُثَهَا وَالْوَرَثَةُ ثُلُثَيْهَا ما دَامَ الْمُوصَى له حَيًّا فإذا مَاتَ تُرَدُّ الْمَنْفَعَةُ إلَى الْوَرَثَةِ
وَحَكَى أبو يُوسُفَ عن ابْنِ أبي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِسُكْنَى دَارِهِ لِرَجُلٍ وَلَيْسَ له مَالٌ غَيْرَهَا ولم تُجِزْ الْوَرَثَةُ أن الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لم تَصِحَّ في الثُّلُثَيْنِ وَالشُّيُوعُ شَائِعٌ في الثُّلُثَيْنِ وَالشُّيُوعُ يُؤَثِّرُ في الْمَنَافِعِ كما في الْإِجَارَةِ
وَهَذَا لَا يَتَفَرَّعُ على أَصْلِ إن أبي لَيْلَى لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَنَافِعِ بَاطِلَةٌ على أَصْلِهِ فَتَبْقَى السُّكْنَى كُلُّهَا على مِلْكِ الْوَرَثَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ
وَلَوْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ بَيْعَ الثُّلُثَيْنِ أو الْقِسْمَةَ ليس لهم ذلك عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لهم ذلك
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أن الْمِلْكَ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ في الْأَصْلِ وَإِنَّمَا الِامْتِنَاعُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ وحث ( ( ( وحق ) ) ) الْغَيْرِ هَهُنَا تَعَلَّقَ بِالثُّلُثِ لَا بِالثُّلُثَيْنِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَعَلَّقَتْ بِالثُّلُثِ لَا غير فَخَلَا ثُلُثَا الدَّارِ عن تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بها فَكَانَ لهم وِلَايَةُ الْبَيْعِ وَالْقِسْمَةِ وَكَذَا الْحَاجَةُ دَعَتْ إلَى الْقِسْمَةِ لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ حَقَّ الْمُوصَى له بِالْمَنْفَعَةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَنَافِعِ كل الدَّارِ على الشُّيُوعِ وَذَلِكَ يمنع ( ( ( بمنع ) ) ) جَوَازِ الْبَيْعِ كما في الْإِجَارَةِ فإن رَقَبَةَ الْمُسْتَأْجَرِ مِلْكُ الْمُؤَجِّرِ لَكِنْ لَمَّا تَعَلَّقَ بها حَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ مَنَعَ جَوَازَ الْبَيْعِ وَنَفَاذَهُ بِدُونِ إجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ
كَذَا هَهُنَا
وَكَذَا في الْقِسْمَةِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُوصَى له
هذا إذَا كانت الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ مُطْلَقَةً عن الْوَقْتِ فَإِنْ كانت مُؤَقَّتَةً فَإِنْ كانت الْعَيْنُ تَخْرُجُ من ثُلُثِ مَالِهِ فإن الْمُوصَى له يَنْتَفِعُ بها إلَى الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ فَإِنْ كان الْمَذْكُورُ سَنَةً غير مُعَيَّنَةٍ فَيَنْتَفِعُ بها الْمُوصَى له سَنَةً كَامِلَةً ثُمَّ يَعُودُ بَعْدَ ذلك إلَى الْوَرَثَةِ وَإِنْ كانت لَا تَخْرُجُ من ثُلُثِ مَالِهِ فَبِقَدْرِ ما يَخْرُجُ وَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ آخَرُ كانت الْمَنْفَعَةُ بين الْمُوصَى له وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ أَثْلَاثًا يَخْدُمُ الْعَبْدُ يَوْمًا لِلْمُوصَى له وَيَوْمَيْنِ لِلْوَرَثَةِ فَيَسْتَوْفِي الْمُوصَى له خِدْمَةَ السَّنَةِ في ثَلَاثِ سِنِينَ وَإِنْ كانت الْعَيْنُ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهَا دَارًا يَسْكُنُ الْمُوصَى له ثُلُثَهَا وَالْوَرَثَةُ ثُلُثَيْهَا يتهايئان ( ( ( يهايئان ) ) ) مَكَانًا لِأَنَّ التَّهَايُؤَ بِالْمَكَانِ في الدَّارِ مُمْكِنٌ وفي الْعَبْدِ لَا يُمْكِنُ لِاسْتِحَالَةِ خِدْمَةِ الْعَبْدِ بِثُلُثِهِ لِأَحَدِهِمَا وَبِثُلُثَيْهِ لِلْآخَرِ فَمَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى المهيئات ( ( ( المهايئات ) ) ) زَمَانًا
وَإِنْ كان الْمَذْكُورُ من الْوَقْتِ سَنَةً بِعَيْنِهَا بِأَنْ قال سَنَةَ كَذَا أو شَهْرَ كَذَا فَإِنْ كان الْمُوصَى بِهِ خِدْمَةَ الْعَبْدِ فَإِنْ كان الْعَبْدُ يَخْرُجُ من الثُّلُثِ يَنْتَفِعُ بها تِلْكَ السَّنَةَ أو الشَّهْرَ وَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ آخَرُ فَفِي الْعَبْدِ يَنْتَفِعُ بِهِ الْوَرَثَةُ يَوْمَيْنِ
____________________

(7/353)


وَالْمُوصَى له يَوْمًا وفي الدَّارِ يَسْكُنُ الْمُوصَى له ثُلُثَهَا وَالْوَرَثَةُ ثُلُثَيْهَا على طَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ فإذا مَضَتْ تِلْكَ السَّنَةُ أو ذلك الشَّهْرُ على هذا الْحِسَابِ يَحْصُلُ لِلْمُوصَى له مَنْفَعَةُ السَّنَةِ أو الشَّهْرِ
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُكْمِلَ ذلك من سَنَةٍ أُخْرَى أو من شَهْرٍ آخَرَ ليس له ذلك لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُضِيفَتْ إلَى تِلْكَ السَّنَةِ أو ذلك الشَّهْرِ لَا إلَى غَيْرِهِمَا
وَلَوْ عَيَّنَ الشَّهْرَ الذي هو فيه أو السَّنَةَ التي هو فيها بِأَنْ قال هذا الشَّهْرُ أو هذه السَّنَةُ يُنْظَرُ إنْ مَاتَ بَعْدَ مُضِيِّ ذلك الشَّهْرِ أو تِلْكَ السَّنَةِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ نَفَاذُهَا عِنْدَ مَوْتِهِ وقد مَضَى ذلك الشَّهْرُ أو تِلْكَ السَّنَةُ قبل مَوْتِهِ فَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ
وَإِنْ مَاتَ قبل أَنْ يَمْضِيَ ذلك الشَّهْرُ أو السَّنَةُ فَإِنْ كانت الْعَيْنُ تَخْرُجُ من الثُّلُثِ يَنْتَفِعُ بها فيما ( ( ( فما ) ) ) بَقِيَ من الشَّهْرِ أو السَّنَةِ وَإِنْ كانت لَا تَخْرُجُ وَلَيْسَ له مَالٌ آخَرُ فَفِي الْعَبْدِ يَنْتَفِعُ بها الْمُوصَى له يَوْمًا وَالْوَرَثَةُ يَوْمَيْنِ إلَى أَنْ يَمْضِيَ ذلك الشَّهْرُ أو السَّنَةُ وفي الدَّارِ يَسْكُنَاهَا أَثْلَاثًا على طَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ على ما بَيَّنَّا
ولوأو صى ( ( ( أوصى ) ) ) بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ أو بِسُكْنَى دَارِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِرَقَبَتِهَا لِآخَرَ وَالرَّقَبَةُ تَخْرُجُ من الثُّلُثِ فَالرَّقَبَةُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ وَالْخِدْمَةُ كُلُّهَا لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَمَّا احْتَمَلَتْ الْإِفْرَادَ من الرَّقَبَةِ بِالْوَصِيَّةِ حتى لَا تُمَلَّكَ الْوَرَثَةُ الرَّقَبَةَ وَالْمُوصَى له الْمَنْفَعَةَ فَيَسْتَوِي فيها الْإِفْرَادُ بِاسْتِيفَاءِ الرَّقَبَةِ لِنَفْسِهِ وتملكيها ( ( ( وتمليكها ) ) ) من غَيْرِهِ فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا مُوصَى له بِالرَّقَبَةِ وَالْآخَرُ بِالْمَنْفَعَةِ فإذا مَاتَ الموصي مَلَكَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ الرَّقَبَةَ وَصَاحِبُ الْمَنْفَعَةِ الْمَنْفَعَةَ
وَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى بِرَقَبَةِ شَجَرَةٍ أو بُسْتَانٍ لِإِنْسَانٍ وَبِثَمَرَتِهِ لِآخَرَ أو بِرَقَبَةِ أَرْضٍ لِرَجُلٍ وَبِغَلَّتِهَا لِآخَرَ أو بِأَمَةٍ لِرَجُلٍ وَبِمَا في بَطْنِهَا لِآخَرَ لِأَنَّ الثَّمَرَ وَالْغَلَّةَ وَالْحَمْلَ كُلُّ وَاحِدٍ منها يَحْتَمِلُ الْإِفْرَادَ بِالْوَصِيَّةِ فَلَا فَرْقَ بين أَنْ يَسْتَبْقِيَ الْأَصْلَ لِنَفْسِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَمْلِكَهُ من غَيْرِهِ على ما ذَكَرْنَا في الْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ وَسَوَاءٌ كان الْمُوصَى بِهِ مَوْجُودًا وَقْتَ كَلَامِ الْوَصِيَّةِ أو لم يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَهُ فَالْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ إلَّا إذَا كان في كَلَامِ الْمُوصِي ما يَقْتَضِي الْوُجُودَ لِلْحَالِ فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَا مَالَ له عِنْدَ كَلَامِ الْوَصِيَّةِ
وَكَذَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ أو بِغَلَّةِ أَرْضِهِ أو بِغَلَّةِ أَشْجَارِهِ أو بِغَلَّةِ عَبْدِهِ أو بِسُكْنَى دَارِهِ أو بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ
وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمَا في بَطْنِ جَارِيَتِهِ أو دَابَّتِهِ وَبِالصُّوفِ على ظَهْرِ غَنَمِهِ وَبِاللَّبَنِ في ضَرْعِهَا وَثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ وَثَمَرَةِ أَشْجَارِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ شَيْءٌ من ذلك مَوْجُودًا لِلْحَالِ
وَأَمَّا وُجُودُهُ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَهَلْ هو شَرْطُ بَقَاءِ الْوَصِيَّةِ على الصِّحَّةِ فَأَمَّا في الثُّلُثِ وَالْعَيْنِ الْمُشَارِ إلَيْهَا فَشَرْطٌ حتى لو أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَهُ مَالٌ عِنْدَ كَلَامِ الْوَصِيَّةِ ثُمَّ هَلَكَ ثُمَّ مَاتَ الموصي بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ
وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِمَا في الْبَطْنِ وَالضَّرْعِ وَبِمَا على الظَّهْرِ من الصُّوفِ وَاللَّبَنِ وَالْوَلَدِ حتى لو مَاتَ الموصي بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ إذَا لم يَكُنْ ذلك مَوْجُودًا وَقْتَ مَوْتِهِ
وَأَمَّا في الْوَصِيَّةِ بِالثَّمَرَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا وَلَا يُشْتَرَطُ ذلك في الْوَصِيَّةِ بِغَلَّةِ الدَّارِ وَالْعَبْدِ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ جِنْسَ هذه الْوَصَايَا على أَقْسَامٍ بَعْضُهَا يَقَعُ على الْمَوْجُودِ وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي وَاَلَّذِي يُوجَدُ بَعْدَ مَوْتِهِ سَوَاءٌ ذَكَرَ الْمُوصِي في وَصِيَّتِهِ الْأَبَدَ أو لم يذكر وهو الْوَصِيَّةُ بِالْغَلَّةِ وَسُكْنَى الدَّارِ وَخِدْمَةِ الْعَبْدِ وَبَعْضُهَا يَقَعُ على الْمَوْجُودِ قبل الْمَوْتِ وَلَا يَقَعُ على ما يَحْدُثُ بَعْدَ مَوْتِهِ سَوَاءٌ ذَكَرَ الْأَبَدَ أو لم يذكر وهو الْوَصِيَّةُ بِمَا في الْبَطْنِ وَالضَّرْعِ وَبِمَا على الظَّهْرِ فَإِنْ كان في بَطْنِهَا وَلَدٌ وفي ضَرْعِهَا لَبَنٌ وَعَلَى ظَهْرِهَا صُوفٌ وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ وَإِلَّا فَلَا وفي بَعْضِهَا إنْ ذَكَرَ لَفْظَ الْأَبَدِ يَقَعُ على الْمَوْجُودِ وَالْحَادِثِ وَإِنْ لم يذكر فَإِنْ كان مَوْجُودًا وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي يَقَعُ على الْمَوْجُودِ وَلَا يَقَعُ على الْحَادِثِ وَإِنْ لم يَكُنْ مَوْجُودًا فَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ كما في الصُّوفِ وَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ
وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَبْطُلُ وَتَقَعُ على ما يَحْدُثُ كما لو ذَكَرَ الْأَبَدَ وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ بِثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ وَالشَّجَرِ إنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا تَجُوزُ فِيمَا يَجْرِي فيه الْإِرْثُ أو فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ عَقْدٍ من الْعُقُودِ في حَالَةِ الْحَيَاةِ وَالْحَادِثُ من الْوَلَدِ وَأَخَوَاتِهِ لَا يَجْرِي فيه الْإِرْثُ وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ عَقْدٍ من الْعُقُودِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ بِخِلَافِ الْغَلَّةِ فإن له نَظِيرًا في الْعُقُودِ وهو عَقْدُ الْمُعَامَلَةِ وَالْإِجَارَةِ
وَكَذَلِكَ سُكْنَى الدَّارِ وَخِدْمَةُ الْعَبْدِ يَدْخُلَانِ تَحْتَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ فَكَانَ لها ( ( ( لهما ) ) ) نَظِيرٌ في الْعُقُودِ
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ وَالشَّجَرِ فَلَا شَكَّ أنها تَقَعُ عن الْمَوْجُودِ وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي وَالْحَادِثُ بَعْدَ مَوْتِهِ إنْ ذَكَرَ الْأَبَدَ لِأَنَّ اسْمَ الثَّمَرَةِ يَقَعُ على الْمَوْجُودِ وَالْحَادِثِ
وَالْحَادِثُ منها يَحْتَمِلُ الدُّخُولَ تَحْتَ بَعْضِ الْعُقُودِ وهو عَقْدُ الْمُعَامَلَةِ وَالْوَقْفِ فإذا ذَكَرَ الْأَبَدَ يَتَنَاوَلُهُ وَإِنْ لم يذكر الْأَبَدَ فَإِنْ كان وَقْتَ مَوْتِ
____________________

(7/354)


الْمُوصِي ثَمَرَةٌ مَوْجُودَةٌ دَخَلَتْ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ وَلَا يَدْخُلُ ما يَحْدُثُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَإِنْ لم يَكُنْ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ ما يَحْدُثُ وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ
وفي الِاسْتِحْسَانِ يَتَنَاوَلُهُ وَلَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الثَّمَرَةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ وَالصُّوفِ وَاللَّبَنِ وَالْوَصِيَّةُ بِشَيْءٍ من ذلك لَا يَتَنَاوَلُ الْحَادِثَ كَذَا الثَّمَرَةُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الِاسْم يَحْتَمِلُ الْحَادِثَ وفي حَمْلِ الْوَصِيَّةِ عليه تَصْحِيحُ الْعَقْدِ وَيُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ لِأَنَّ له نَظِيرًا من الْعُقُودِ وهو الْوَقْفُ وَالْمُعَامَلَةُ وَلِهَذَا لو نَصَّ على الْأَبَدِ يَتَنَاوَلُهُ بِخِلَافِ الْوَلَدِ وَالصُّوفِ وَاللَّبَنِ لِأَنَّهُ عَقْدُ مالا يَحْتَمِلُهُ فلم يَكُنْ مُمْكِنَ التَّصْحِيحِ وَلِهَذَا لو نَصَّ على الْأَبَدِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَادِثَ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِبُسْتَانِهِ يوم يَمُوتُ وَلَيْسَ له يوم أَوْصَى بُسْتَانٌ ثُمَّ اشْتَرَى بُسْتَانًا ثُمَّ مَاتَ فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَالِ إيجَابُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُرَاعَى وُجُودُ الْمُوصَى بِهِ وَقْتَ الْمَوْتِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو أَوْصَى له بِعَيْنِ الْبُسْتَانِ وَلَيْسَ في مِلْكِهِ الْبُسْتَانُ يوم الْوَصِيَّةِ ثُمَّ مَلَكَهُ ثُمَّ مَاتَ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ
وَلَوْ قال أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِغَلَّةِ بُسْتَانِي وَلَا بُسْتَانَ له فَاشْتَرَى بَعْدَ ذلك وَمَاتَ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ وَذَكَرَ في الْأَصْلِ أنها غَيْرُ جَائِزَةٍ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ قَوْلَهُ بُسْتَانِي يَقْتَضِي وُجُودَ الْبُسْتَانِ لِلْحَالِ فإذا لم يُوجَدْ لم يَصِحَّ
وَالصَّحِيحُ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابُ الْمِلْكِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَسْتَدْعِي وُجُودَ الْمُوصَى بِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا وَقْتَ كَلَامِ الْوَصِيَّةِ
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ غَنَمِهِ فَهَلَكَتْ الْغَنَمُ قبل مَوْتِهِ أو لم يَكُنْ له غَنَمٌ من الْأَصْلِ فَمَاتَ وَلَا غَنَمَ له فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ وَكَذَلِكَ الْعُرُوض كُلُّهَا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَا غَنَمَ له عِنْدَ الْمَوْتِ فَإِنْ لم يَكُنْ له غَنَمٌ وَقْتَ كَلَامِ الْوَصِيَّةِ ثُمَّ اسْتَفَادَ بَعْدَ ذلك ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ غَنَمِي يَقْتَضِي غَنَمًا مَوْجُودَةً وَقْتَ الْوَصِيَّةِ كما قُلْنَا في الْبُسْتَانِ
وَعَلَى رِوَايَةِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِمَا ذَكَرْنَا في الْبُسْتَانِ
وَكَذَلِكَ لو قال أَوْصَيْتُ له بِشَاةٍ من غَنَمِي أو بِقَفِيزٍ من حِنْطَتِي ثُمَّ مَاتَ وَلَيْسَ له غَنَمٌ وَلَا حِنْطَةٌ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ لم يَكُنْ له غَنَمٌ وَلَا حِنْطَةٌ ثُمَّ اسْتَفَادَ بَعْدَ ذلك ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ على الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا
وَبِمِثْلِهِ لو قال شَاةٌ من مَالِي أو قَفِيزُ حِنْطَةٍ من مَالِي وَلَيْسَ له غَنَمٌ وَلَا حِنْطَةٌ فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ وَيُعْطَى قِيمَةَ الشَّاةِ
لِأَنَّهُ لِمَا أَضَافَ إلَى الْمَالِ وَعَيْنُ الشَّاةِ لَا تُوجَدُ في الْمَالِ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ قَدْرَ مَالِيَّةِ الشَّاةِ وَهِيَ قِيمَتُهَا
وَلَوْ أَوْصَى بِشَاةٍ ولم يَقُلْ من غَنَمِي وَلَا من مَالِي فَمَاتَ وَلَيْسَ له غَنَمٌ
لم يذكر هذا الْفَصْلَ في الْكِتَابِ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الشَّاةَ اسْمٌ لِلصُّورَةِ وَالْمَعْنَى جميعا إلَّا أَنَّا حَمَلْنَا هذا الِاسْمَ على الْمَعْنَى في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ بِقَرِينَةِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمَالِ ولم تُوجَدْ هَهُنَا
وقال بَعْضُهُمْ يَصِحُّ لِأَنَّ الشَّاةَ إذَا لم تَكُنْ مَوْجُودَةً في مَالِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَالِيَّةَ الشَّاةِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ فَيُعْطَى قِيمَةَ شَاةٍ وقد ذَكَرَ في السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَسْأَلَةً تُؤَيِّدُ هذا الْقَوْلَ وَهِيَ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا نَفَلَ سَرِيَّةً فقال من قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ جَارِيَةٌ من السَّبَايَا فَإِنْ كان في السَّبْيِ جَارِيَةٌ يُعْطَى من قَتَلَ قَتِيلًا وَإِنْ لم يَكُنْ في السَّبْيِ جَارِيَةٌ لَا يُعْطَى شيئا
وَلَوْ قال من قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ جَارِيَةٌ ولم يَقُلْ من السَّبْيِ
فإنه يُعْطَى من قَتَلَ قَتِيلًا قَدْرَ مَالِيَّةِ الْجَارِيَةِ
كَذَا هَهُنَا
وَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِسُكْنَى دَارِهِ أو خِدْمَةِ عَبْدِهِ أو ظَهْرِ فَرَسِهِ لِلْمَسَاكِينِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ وَلَا بُدَّ من أَنْ يَكُونَ ذلك لِإِنْسَانٍ مَعْلُومٍ وَعِنْدَهُمَا رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِذَلِكَ كُلِّهِ لِلْمَسَاكِينِ
كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في مُخْتَصَرِهِ
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ وَالْوَصِيَّةُ بِسُكْنَى الدَّارِ وَخِدْمَةِ الْعَبْدِ أنها لَا تَجُوزُ ولم يذكر فيها الخلاف ( ( ( الاختلاف ) ) ) وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ في الْوَصِيَّةِ بِظَهْرِ الْفَرَسِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَسَاكِينِ وَصِيَّةٌ بِطَرِيقِ الصَّدَقَةِ وَالصَّدَقَةُ إخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاَللَّهُ عز وجل وَاحِدٌ مَعْلُومٌ وَلِهَذَا جَازَتْ الْوَصِيَّةُ بِسَائِرِ الْأَعْيَانِ لِلْمَسَاكِينِ فَكَذَا بِالْمَنَافِعِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الْمُوصَى له بِالْخِدْمَةِ وَالرُّكُوبِ وَالسُّكْنَى تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ على الْعَبْدِ وَالْفَرَسِ وَالدَّارِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ إلَّا بَعْدَ بَقَاءِ الدَّيْنِ وَلَا يَبْقَى عَادَةً بِدُونِ النَّفَقَةِ فَبَعْدَ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَلْزَمَهُ النَّفَقَةُ أو لَا فَإِنْ لم تَلْزَمْهُ النَّفَقَةُ لَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ هذه الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا على الْوَرَثَةِ
لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ لَا تَجِبُ إلَّا على من له الْمَنْفَعَةُ وَالْمَنْفَعَةُ لِلْمُوصَى له لَا لِلْوَرَثَةِ وَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِغْلَالُ بِأَنْ يَسْتَغِلَّ فَيُنْفِقَ عليه من الْغَلَّةِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لم تَقَعْ بِالْغَلَّةِ وَلِأَنَّ الِاسْتِغْلَالَ يَقَعُ تَبْدِيلًا لِلْوَصِيَّةِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَتَعَذَّرَ تَنْفِيذُ هذه الْوَصِيَّةِ وَإِنْ لَزِمَهُ النَّفَقَةُ فَكَانَ هذا مُعَاوَضَةً مَعْنًى
____________________

(7/355)


لَا وَصِيَّةً وَلَا صَدَقَةً وَالْجَهَالَةُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْمُعَاوَضَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ في الْأَعْيَانِ وفي الْوَصِيَّةِ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَقِيلَ إنَّ الْوَصِيَّةَ بِظَهْرِ فَرَسِهِ لِلْمَسَاكِينِ أو في سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فُرَيْعَةُ مَسْأَلَةِ الْوَقْفِ أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لو جَعَلَ فَرَسَهُ لِلْمَسَاكِينِ وَقْفًا في حَالِ الْحَيَاةِ لَا يَجُوزُ وَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ وَعِنْدَهُمَا لو جَعَلَهُ وَقْفًا في حَالِ حَيَاتِهِ جَازَ فَكَذَا إذَا أَوْصَى بَعْدَ وَفَاتِهِ وَسَوَاءٌ كان الْمُوصَى بِهِ مَعْلُومًا أو مَجْهُولًا فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ لِأَنَّ هذه جَهَالَةٌ تُمْكِنُ إزَالَتُهَا من جِهَةِ الْمُوصِي ما دَامَ حَيًّا وَمِنْ جِهَةِ وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأَشْبَهَتْ جَهَالَةَ الْمُقَرِّ بِهِ في حَالِ الْإِقْرَارِ وَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِخِلَافِ جَهَالَةِ الْمُقَرِّ له تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ كَذَا جَهَالَةُ الْمُوصَى له تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ أَيْضًا
وَعَلَى هذا مَسَائِلُ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى بَيَانِ قَدْرِ ما يَسْتَحِقُّهُ الْمُوصَى له من الْوَصَايَا التي فيها ضَرْبُ إبْهَامٍ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى بَيَانِ اسْتِخْرَاجِ الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ من الْوَصِيَّةِ الْمَجْهُولِ بِالْحِسَابِ وَهِيَ الْمَسَائِلُ الْحِسَابِيَّةُ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ في مَسَائِلَ منها ما إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِجُزْءٍ من مَالِهِ أو بِنَصِيبٍ من مَالِهِ أو بِطَائِفَةٍ من مَالِهِ أو بِبَعْضٍ أو بِشِقْصٍ من مَالِهِ فَإِنْ بَيَّنَ في حَيَاتِهِ شيئا وَإِلَّا أَعْطَاهُ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ ما شاؤوا لِأَنَّ هذه الْأَلْفَاظَ تَحْتَمِلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ فَيَصِحُّ الْبَيَانُ فيه ما دام حَيًّا وَمِنْ وَرَثَتِهِ إذَا مَاتَ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ لو أَوْصَى بِأَلْفٍ إلَّا شيئا أو إلَّا قَلِيلًا أو إلَّا يَسِيرًا أو زُهَاءَ أَلْفٍ أو جُلَّ هذه الْأَلْفِ أو عِظَمَ هذه الْأَلْفِ وَذَلِكَ يَخْرُجُ من الثُّلُثِ فَلَهُ النِّصْفُ من ذلك وَزِيَادَةٌ وما زَادَ على النِّصْفِ فَهُوَ إلَى الْوَرَثَةِ يُعْطُونَ منه ما شاؤوا لِأَنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ وَالْيَسِيرَ من أَسْمَاءِ الْمُقَابَلَةِ فَلَا يَكُونُ قَلِيلًا إلَّا وَبِمُقَابَلَتِهِ أَكْثَرُ منه فَيَقْتَضِي وُجُودَ الْأَكْثَرِ وهو النِّصْفُ وَزِيَادَةٌ عليه وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ مَجْهُولَةٌ فَيُعْطِيهِ الْوَرَثَةُ من الزِّيَادَةِ ما شاؤوا وَالشَّيْءُ في مِثْلِ هذا الْمَوْضِعِ يُرَادُ بِهِ الْيَسِيرُ
وَقَوْلُهُ جُلَّ هذه الْأَلْفِ وَعَامَّةَ هذه الْأَلْفِ وأعظم ( ( ( وعظم ) ) ) هذه الْأَلْفِ عِبَارَاتٌ عن أَكْثَرِ الْأَلْفِ وهو الزِّيَادَةُ على النِّصْفِ وَزُهَاءُ أَلْفٍ عِبَارَةٌ عن الْقَرِيبِ من الْأَلْفِ وَأَكْثَرُ الْأَلْفِ قَرِيبٌ من الْأَلْفِ
وَلَوْ أَوْصَى له بِسَهْمٍ من مَالِهِ فَلَهُ مِثْلُ أَخَسِّ الْأَنْصِبَاءِ يُزَادُ على الْفَرِيضَةِ ما لم يَزِدْ على السُّدُسِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا رَحِمَهُمَا اللَّهُ ما لم يَزِدْ على الثُّلُثِ
كَذَا ذُكِرَ في الْأَصْلِ
وَذُكِرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ له مِثْلُ نَصِيبِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ وَلَا يُزَادُ على السُّدُسِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يُزَادُ على الثُّلُثِ فَعَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ يَجُوزُ النُّقْصَانُ عن السُّدُسِ عِنْدَهُ وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا يَجُوزُ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا مَاتَ الْمُوصِي وَتَرَك زَوْجَةً وَابْنًا فَلِلْمُوصَى له على رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَخَسُّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ وهو الثُّمُنُ وَيُزَادُ على ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ سَهْمٌ آخَرُ فَيَصِيرُ تِسْعَةً فَيُعْطَى تسع ( ( ( تسعة ) ) ) الْمَالِ
وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يُعْطَى السُّدُسُ لِأَنَّهُ أَخَسُّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ
وَلَوْ تَرَكَ زَوْجَةً وَأَخًا لِأَبٍ وَأُمٍّ أو لِأَبٍ فَلِلْمُوصَى له السُّدُسُ عِنْدَهُ لِأَنَّ أَخَسَّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ الرُّبُعُ هَهُنَا وهو لَا يُجَوِّزُ الزِّيَادَةُ على السُّدُسِ وَعِنْدَهُمَا له الرُّبُعُ لِأَنَّهُ أَقَلُّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ وَأَنَّهُ أَقَلُّ من الثُّلُثِ فَزَادَ على أَرْبَعَةٍ مِثْلَ رُبُعِهَا وَذَلِكَ سَهْمٌ وهو خُمُسُ الْمَالِ
وَكَذَلِكَ لو مَاتَتْ امْرَأَةٌ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَابْنًا
وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ فَلَهُ السُّدُسُ عِنْدِهِ
وَعِنْدَهُمَا له ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ وَكَذَلِكَ إنْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنِينَ فَإِنْ تَرَكَ خَمْسَةَ بَنِينَ فَلَهُ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يُجْعَلُ الْمَالُ على ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ ثُمَّ يُزَادُ عليه سَهْمٌ فَيُعْطَى أَرْبَعَةً إذًا وَإِنْ أَقَرَّ بِسَهْمٍ من دَارِهِ لِإِنْسَانٍ فَلَهُ السُّدُسُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا الْبَيَانُ إلَى الْمُقِرِّ
وَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ سَهْمًا من عَبْدِهِ يُعْتَقُ سُدُسُهُ عِنْدَهُ لَا غَيْرُ وَعِنْدَهُمَا يُعْتَقُ كُلُّهُ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ السَّهْمَ اسْمٌ لِنَصِيبٍ مُطْلَقٍ ليس له حَدٌّ مُقَدَّرٌ بَلْ يَقَعُ على الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ كَاسْمِ الْجُزْءِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُسَمَّى سَهْمًا إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَيُقَدَّرُ بِوَاحِدٍ من أَنْصِبَاءِ الْوَرَثَةِ وَالْأَقَلُّ مُتَيَقَّنٌ فَيُقَدَّرُ بِهِ إلَّا إذَا كان يَزِيدُ ذلك على الثُّلُثِ فَيُزَادُ إلَى الثُّلُثِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا جَوَازَ لها بِأَكْثَرَ من الثُّلُثِ من غَيْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه ما رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ سُئِلَ عن رَجُلٍ أَوْصَى بِسَهْمٍ من مَالِهِ فقال له السُّدُسُ
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ بَلَغَتْهُمْ فَتْوَاهُ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا
وَرُوِيَ عن إيَاسِ بن مُعَاوِيَةُ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال السَّهْمُ في كَلَامِ الْعَرَبِ السُّدُسُ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ أَيْضًا في أَحَدِ سِهَامِ الْوَرَثَةِ وَالْأَقَلُّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ فَإِنْ كان أَقَلَّ منه لَا يَبْلُغُ بِهِ السُّدُسَ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ السُّدُسَ وَيُحْتَمَل أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مُطْلَقَ سَهْمٍ من سِهَامِ الْوَرَثَةِ فَلَا يُزَادُ على أَقَلِّ سِهَامِهِمْ بِالشَّكِّ
____________________

(7/356)


وَالِاحْتِمَالِ
وَلَوْ أَوْصَى له بِمِائَةِ دِينَارٍ إلَّا دِرْهَمٍ أو بِكُرِّ حِنْطَةٍ إلَّا دِرْهَمٌ أو إلَّا مَحْتُومُ شَعِيرٍ جاز ( ( ( جائز ) ) ) وهو كما قال
وَكَذَلِكَ لو قال دَارِي هذه أو عَبْدِي هذا إلَّا مِائَة دِرْهَمٍ جَازَ عن الثُّلُثِ وَبَطَلَ عنه قِيمَةُ مِائَةِ دِرْهَمٍ
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ
وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْمُقَدَّرِ من الْمُقَدَّرِ في الْجِنْسِ وَخِلَافِ الْجِنْسِ بَعْدَ أن كان الِاسْتِثْنَاءُ مُقَدَّرًا بَعْدَ أن كان من الْمَكِيلَاتِ أو الْمَوْزُونَات أو الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ صَحِيحٌ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا يَصِحُّ إلَّا في الْجِنْسِ وَهِيَ من مَسَائِلِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ
وَلَوْ قال أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ ما بين الْعَشَرَةِ وَالْعِشْرِينَ أو ما بين الْعَشَرَةِ إلَى الْعِشْرِينَ أو من الْعَشَرَةِ إلَى عِشْرِينَ فَهُوَ سَوَاءٌ وَلَهُ تِسْعَةَ عَشْرَ دِرْهَمًا
وَكَذَلِكَ لو قال ما بين الْمِائَةِ وَالْمِائَتَيْنِ أو ما بين الْمِائَةِ إلَى الْمِائَتَيْنِ أو من الْمِائَةِ إلَى الْمِائَتَيْنِ فَلَهُ مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا له في الْأَوَّلِ عِشْرُونَ وفي الثَّانِي مِائَتَانِ
وَعِنْدَ زُفَرَ له ثَمَانِيَةَ عَشْرَ في الْأَوَّلِ وَمِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَتِسْعُونَ في الثَّانِي
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْغَايَتَيْنِ يَدْخُلَانِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَدْخُلَانِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ تَدْخُلُ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ
وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ في كِتَابِ الطَّلَاقِ
وَلَوْ أَوْصَى لِفُلَانٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ في عَشَرَةٍ وَنَوَى الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ فَلَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ له مِائَةُ دِرْهَمٍ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ الطَّلَاقِ وَبِمِثْلِهِ لو أَوْصَى لغلان ( ( ( لفلان ) ) ) بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ في عَشَرَةِ أَذْرُعٍ من دَارِهِ فَلَهُ مِائَةُ ذِرَاعٍ مُكَسَّرَةٍ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ أَنَّ الضَّرْبَ يُرَادُ بِهِ تَكْسِيرُ الْأَجْزَاءِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْمِسَاحَةَ في الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَذَلِكَ يُوجَدُ في الدَّارِ وَالدَّرَاهِمُ مَوْزُونَةٌ وَلَيْسَ لها طُولٌ وَلَا عَرْضٌ فَلَا يُرَادُ بِالضَّرْبِ فيها تكسر ( ( ( تكسير ) ) ) أَجْزَائِهَا
وَمَعْنَى قَوْلِهِ الْمُكَسَّرَةُ أَيْ الْمُكَسَّرَةُ في الْمِسَاحَةِ وهو أَنْ يَكُونَ طُولُهَا عَشَرَةَ أَذْرُعٍ وَعَرْضُهَا عَشَرَةً
وَلَوْ أَوْصَى له بِثَوْبٍ سَبْعَةٌ في أَرْبَعَةٍ فَلَهُ كما قال وهو ثَوْبٌ طُولُهُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ وَعَرْضُهُ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ لِأَنَّ مَفْهُومَ هذا اللَّفْظِ في الثَّوْبِ هذا فَيَنْصَرِفُ اللَّفْظُ إلَيْهِ وَلَوْ قال عَبْدَيَّ هذا وَهَذَا لِفُلَانٍ وَصِيَّةً وَهُمَا يُخْرَجَانِ من الثُّلُثِ كان لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطُوهُ أَيَّهُمَا شاؤوا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ في جَهَالَةٍ يُمْكِنُ إزَالَتُهَا وَلَوْ كان الْمُوَرِّثُ حَيًّا كان الْبَيَانُ إلَيْهِ فإذا مَاتَ قام الْوَارِثُ مَقَامَهُ وَالْفِقْهُ في ذلك أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْوَرَثَةُ تَقُومُ مَقَامَهُ في التَّمْلِيكِ
بِخِلَافِ ما إذَا قال عَبْدِي هذا أو هذا حُرٌّ أَنَّ الْبَيَانَ إلَيْهِ لَا إلَى الْوَرَثَةِ وَيَنْقَسِمُ الْعِتْقُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ ذلك ليس بِتَمْلِيكٍ بَلْ هو إتْلَافُ الْمِلْكِ وقد انْقَسَمَ ذلك عَلَيْهِمَا إذْ ليس أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى من الْآخَرِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْبَيَانَ من جِهَةِ الْوَارِثِ
وَلَوْ أَوْصَى له بِحِنْطَةٍ في جَوَالِقَ فَلَهُ الْحِنْطَةُ دُونَ الْجَوَالِقِ لِأَنَّ الْمُوصَى بِهِ الْحِنْطَةُ دُونَ الْجَوَالِقِ وَالْجَوَالِقُ ليس من تَوَابِعِ الْحِنْطَةِ
أَلَا يَرَى لو بَاعَ الْحِنْطَةَ في الْجَوَالِقِ لَا يَدْخُلُ فيه الْجَوَالِقُ وَبَيْعُ الْحِنْطَةِ مع الْجَوَالِقِ ليس بِمُعْتَادٍ فَلَا يَدْخُلُ في الْوَصِيَّةِ
وَلَوْ أَوْصَى له بهذا الْجِرَابِ الْهَرَوِيِّ فَلَهُ الْجِرَابُ وما فيه لِأَنَّ الْجِرَابَ يُعَدُّ تَابِعًا لِمَا فيه عَادَةً حتى يَدْخُلَ في الْبَيْعِ فَكَذَا في الْوَصِيَّةِ
وَكَذَا لو أَوْصَى له بهذا الدَّنِّ من الْخَلِّ فَلَهُ الدَّنُّ وَالْخَلُّ
وَكَذَا لو أَوْصَى بِقَوْصَرَّةِ تَمْرٍ فَلَهُ الْقَوْصَرَّةُ وما فيها لِأَنَّ الدين ( ( ( الدن ) ) ) يُعَدُّ تَابِعًا لِلْخَلِّ وَالْقَوْصَرَّةُ لِلتَّمْرِ وَلِهَذَا يَدْخُلُ ذلك في عَقْدِ الْبَيْعِ كَذَا في الْوَصِيَّةِ
وَلَوْ أَوْصَى له بِالسَّيْفِ فَلَهُ السَّيْفُ بجفنة وَحَمَائِلِهِ وقال أبو يُوسُفَ له الفضل ( ( ( النصل ) ) ) دُونَ الْجَفْنِ وَالْحَمَائِلِ فَأَصْلُ أبي يُوسُفَ في هذا الْبَابِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الإتصال والإنفصال فما كان مُتَّصِلًا بِهِ يَدْخُلُ وما كان مُنْفَصِلًا عنه لَا يَدْخُلُ وَالْجَفْنُ وَالْحَمَائِلُ مُنْفَصِلَانِ عن السَّيْفِ فَلَا يَدْخُلَانِ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ بِهِ وَلِهَذَا لو أَوْصَى بِدَارٍ لَا يَدْخُلُ ما فيها من الْمَتَاعِ
كَذَا هذا وَالْمُعْتَبَرُ على ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ التَّبَعِيَّةُ والإصالة في الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وَالْجَفْنُ وَالْحَمَائِلُ يُعَدَّانِ تَابِعَانِ لِلسَّيْفِ عُرْفًا وَعَادَةً
أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَدْخُلَانِ في الْبَيْعِ كَذَا في الْوَصِيَّةِ
وَلَوْ أَوْصَى له بِسَرْجٍ فَلَهُ السَّرْجُ وَتَوَابِعُهُ من اللِّبَدِ وَالرِّفَادَةِ وَالطَّفْرِ وَالرِّكَابَات وَاللَّبَبِ في ظَاهِر الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِالسَّرْجِ إلَّا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَكَانَتْ من تَوَابِعِهِ فَتَدْخُلُ في الْوَصِيَّةِ بِهِ
وقال أبو يُوسُفَ له الدَّفَّتَانِ وَالرِّكَابَانِ وَاللَّبَبُ وَلَا يَكُونُ له اللِّبَدُ وَلَا الرِّفَادَةُ وَلَا الطَّفْرُ لِأَنَّهَا مُنْفَصِلَةٌ عن السَّرْجِ
وَلَوْ أَوْصَى له بِمُصْحَفٍ وَلَهُ غِلَافٌ فَلَهُ الْمُصْحَفُ دُونَ الْغِلَافِ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنهما كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ عليه الرَّحْمَةُ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ له الْمُصْحَفُ وَالْغِلَافُ
أَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ فَلِأَنَّ الْغِلَافَ مُنْفَصِلٌ
____________________

(7/357)


عن الْمُصْحَفِ فَلَا يَدْخُلُ في الْوَصِيَّةِ من غَيْر تَسْمِيَةٍ
وأبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يقول ليس بِتَابِعٍ المصحف ( ( ( للمصحف ) ) ) بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِغِلَافِهِ فَلَا يَدْخُلُ وَزُفَرُ يقول هو تَابِعٌ لِلْمُصْحَفِ فَيَدْخُلُ في الْوَصِيَّةِ
وَلَوْ أَوْصَى بِمِيزَانٍ قال أبو يُوسُفَ له الْكِفَّتَانِ وَالْعَمُودُ الذي فيه الْكِفَّتَانِ وَاللِّسَانِ وَلَيْسَ له الطِّرَازْدَانُ وَالصَّنَجَاتُ
وَأَمَّا الشَّاهِينُ فَلَهُ الْكِفَّتَانِ وَالْعَمُودُ وَلَيْسَ له الصَّنَجَاتُ وَالتَّخْتُ
وقال زُفَرُ إذَا أَوْصَى بِمِيزَانٍ فَلَهُ الطِّرَازْدَانُ وَالصَّنَجَاتِ وَالْكِفَّتَانِ وَإِنْ أَوْصَى له بِشَاهِينِ فَلَهُ التَّخْتُ والصئان ( ( ( والصنجات ) ) ) كذا في الأصل
فَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ على أَصْلِهِ أَنَّ الصَّنْجَةَ وَالطِّرَازْدَانَ شَيْئَانِ مُنْفَصِلَانِ فَلَا يَدْخُلَانِ في الْوَصِيَّةِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ وَزُفَرُ يَجْعَلُ ذلك من تَوَابِعِ الْمِيزَانِ لِمَا أَنَّ الِانْتِفَاعَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْجَمِيعِ فَصَارَ كَتَوَابِعِ السَّرْجِ
وَلَوْ أَوْصَى له بِالْقَبَّانِ وَالْفرسطون فَلَهُ الْعَمُودُ وَالْحَدِيدُ وَالرُّمَّانَةُ وَالْكِفَّةُ التي يُوضَعُ فيها الْمَتَاعُ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّ اسْمَ الْقَبَّانِ يَشْمَلُ هذه الْجُمْلَةَ فيستوي فيها الِاتِّصَالُ وَالِانْفِصَالُ
وَلَوْ أَوْصَى له بِقُبَّةٍ فَلَهُ عِيدَانُ الْقُبَّةِ دُونَ كِسْوَتِهَا لِأَنَّ الْقُبَّةَ اسْمٌ لِلْخَشَبِ لَا لِلثِّيَابِ وَإِنَّمَا الثِّيَابُ اسْمٌ لِلزِّينَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ كِسْوَةُ الْقُبَّةِ وَالشَّيْءُ لَا يُضَافُ إلَى نَفْسِهِ هو الْأَصْلُ
وَكَذَا الْكِسْوَةُ مُنْفَصِلَةٌ منها على أَصْلِ من يَعْتَبِرُ الِاتِّصَالَ
وَلَوْ أَوْصَى بِقُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ وَهِيَ ما يُقَالُ لها بِالْعَجَمِيَّةِ خركاه فَلَهُ الْقُبَّةُ مع الْكِسْوَةِ وَهِيَ اللُّبُودُ
لِأَنَّهُ لَا يُقَال لها قُبَّةٌ تُرْكِيَّةٌ إلَّا بِلُبُودِهَا بِخِلَافِ الْقُبَّةِ الْبَلَدِيَّةِ وَيُعْتَبَرُ في ذلك الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ وَيَخْتَلِفُ الْجَوَابُ بِاخْتِلَافِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ
وَلَوْ أَوْصَى له بحجله فَلَهُ الْكِسْوَةُ دُونَ الْعِيدَانِ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِلْكِسْوَةِ في الْعُرْفِ
وَلَوْ أَوْصَى بِسَلَّةِ زَعْفَرَانٍ فَلَهُ الزَّعْفَرَانُ دُونَ السَّلَّةِ
هَكَذَا ذُكِرَ في الْأَصْلِ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مُحَمَّدًا إنَّمَا أَجَابَ فيه على عَادَةِ زَمَانِهِ لِأَنَّ في ذلك الْوَقْتِ كان لَا تُبَاعُ السَّلَّةُ مع الزَّعْفَرَانِ بَلْ كانت تُفْرَدُ عنه في الْبَيْعِ وَأَمَّا الْآنَ فالعادة أَنَّ الزَّعْفَرَانَ يُبَاعُ بِظُرُوفِهِ فَيَدْخُلُ في الْوَصِيَّةِ وَالتَّعْوِيلُ في الْبَابِ على الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ
وَلَوْ أَوْصَى له بهذا الْعَسَلِ وهو في زِقٍّ فَلَهُ الْعَسَلُ دُونَ الزِّقِّ
وَكَذَلِكَ السَّمْنُ وَالزَّيْتُ وما أَشْبَهَ ذلك لِأَنَّهُ أَوْصَى له بِالْعَسَلِ لَا بِالزِّقِّ وَالْعَسَلُ يُبَاعُ بِدُونِ ظَرْفِهِ عَادَةً فَلَا يَتْبَعُهُ في الْوَصِيَّةِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أَوْصَى بِنَصِيبِ ابْنِهِ أو ابْنَتِهِ لِإِنْسَانٍ فَإِنْ كان له ابْنٌ أو ابْنَةٌ لم يَصِحَّ لِأَنَّ نَصِيبَ ابْنِهِ أو ابْنَتِهِ ثَابِتٌ بِنَصٍّ قَاطِعٍ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّحْوِيلَ إلَى غَيْرِهِ بِالْوَصِيَّةِ وَإِنْ لم يَكُنْ له ابْنٌ أو ابْنَةٌ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّهَا لم تَتَضَمَّنْ تَحْوِيلَ نَصِيبٍ ثَابِتٍ فَكَانَ وَصِيَّةً بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ أو ابْنَتِهِ وَلَيْسَ له ابْنٌ أو ابْنَةٌ وَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ لِمَا نَذْكُرُ
وَإِنْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ أو ابْنَتِهِ وَلَهُ ابْنٌ أو ابْنَةٌ جَازَتْ لِأَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ غَيْرُهُ لَا عَيْنُهُ فَلَيْسَ في هذه الْوَصِيَّةِ تَحْوِيلُ نَصِيبٍ ثَابِتٍ إلَى الْمُوصَى له بَلْ يَبْقَى نَصِيبُهُ وَيُزَادُ عليه بمثله فَيُعْطَى الْمُوصَى له ثُمَّ إنْ كان أَكْثَرَ من الثُّلُثِ تَحْتَاجُ الزِّيَادَةُ إلَى الْإِجَازَةِ وَإِنْ كان ثُلُثًا أو أَقَلَّ منه لَا تَحْتَاجُ إلَى الْإِجَازَةِ حتى لو أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ وَلَهُ ابْنٌ وَاحِدٌ فَلِلْمُوصَى له نِصْفُ الْمَالِ وَلِابْنِهِ النِّصْفُ لِأَنَّهُ جَعَلَ له مِثْلَ نَصِيبِهِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلِابْنِ نَصِيبٌ وَأَنْ يَكُونَ نَصِيبُ الْمُوصَى له مِثْلَ نَصِيبِهِ وَذَلِكَ هو النِّصْفُ فَكَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كما لو كَانَا ابْنَيْنِ غير أَنَّ الزِّيَادَةَ على الثُّلُثِ هَهُنَا تَقِفُ على إجَازَةِ الِابْنِ إنْ أَجَازَ جَازَتْ الزِّيَادَةُ وَإِلَّا فَلَا
وَإِنْ كان له ابْنَانِ فَلِلْمُوصَى له ثُلُثُ الْمَالِ لِأَنَّهُ جَعَلَ لِلْمُوصَى له مِثْلَ نَصِيبِ ابْنٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا يَكُونُ له مِثْلُ نَصِيبِ ابْنٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا وَأَنْ يَكُونَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَلَا يَحْتَاجُ هَهُنَا إلَى الْإِجَازَةِ
وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ بِنْتِهِ
فَإِنْ كان له بِنْتٌ وَاحِدَةٌ فَلِلْمُوصَى له نِصْفُ الْمَالِ إنْ أَجَازَتْ لِأَنَّ نَصِيبَ الْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ النِّصْفُ فَكَانَ مِثْلُ نَصِيبِهَا النِّصْفَ فَكَانَ له النِّصْفُ إنْ أَجَازَتْ وَإِلَّا فَالثُّلُثُ وَإِنْ كان له بِنْتَانِ فَلِلْمُوصَى له ثُلُثُ الْمَالِ لِأَنَّهُ إذَا كان لَهُمَا الثُّلُثَانِ كان لِكُلِّ واحدة مِنْهُمَا الثُّلُثُ وقد جَعَلَ نَصِيبَهُ مِثْلَ نَصِيبِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَنَصِيبُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الثُّلُثُ فَكَانَ نَصِيبُهُ أَيْضًا الثُّلُثَ
وَلَوْ أَوْصَى له بِنَصِيبِ ابْنٍ لو كان فَهُوَ كما لو أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ وَلَهُ نِصْفُ الْمَالِ إنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ
وَلَوْ أَوْصَى له بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنٍ لو كان فَلِلْمُوصَى له ثُلُثُ الْمَالِ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبٍ مُقَدَّرٍ لِابْنٍ مُقَدَّرٍ وَنَصِيبُ الِابْنِ الْمُقَدَّرِ سَهْمٌ فَمِثْلُ نَصِيبِهِ يَكُونُ سَهْمًا فَكَانَ هذا وَصِيَّةً له بِسَهْمٍ من ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيهِ وَلَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ آخَرَ بِثُلُثِ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ بَعْدَ
____________________

(7/358)


النصيب ( ( ( النصب ) ) ) فَالْمَسْأَلَةُ تَخْرُجُ من ثَلَاثَةِ وَثَلَاثِينَ لِلْمُوصَى له بِالنَّصِيبِ ثَمَانِيَةٌ وَلِلْمُوصَى له الْآخَرِ سَهْمٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ من الْبَنِينَ ثَمَانِيَةٌ أَمَّا تَخْرِيجُهَا بِطَرِيقَةِ الْحَشْوِ فَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَزِدْ عليه وَاحِدًا لِأَجْلِ الْوَصِيَّةِ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ الْبَنِينَ لِأَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ غيره ( ( ( يزاد ) ) ) فيزاد عليه فَيَصِيرُ أَرْبَعَةً ثُمَّ اضْرِبْ الْأَرْبَعَةَ في ثَلَاثَةٍ لِأَجْلِ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ الْأُخْرَى وَهِيَ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ بَعْدَ النُّصُبِ فَيَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ تَطْرَحُ منها سَهْمًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ الثَّانِيَةَ تُوجِبُ النُّقْصَانَ في نَصِيبِ الْوَرَثَةِ وَنَصِيبُ الْمُوصَى له الْأَوَّلِ شَائِعًا في كل الْمَالِ فَتُنْقِصُ من كل ثُلُثٍ سَهْمًا وَلِأَنَّك لو لم تُنْقِصْ لَا يَسْتَقِيمُ الْحِسَابُ لو اعْتَبَرْتَهُ لَوَجَدْتَهُ كَذَلِكَ فإذا نقصت ( ( ( أنقصت ) ) ) سَهْمًا من اثْنَيْ عَشَرَ بَقِيَ أَحَدَ عَشَرَ هو ثُلُثُ الْمَالِ وَثُلُثَاهُ مثلاه وهو اثْنَانِ وَعِشْرُونَ وَجَمِيعُ الْمَالِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ
وإذا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ النَّصِيبِ فَخُذْ النَّصِيبَ الذي كان وَذَلِكَ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَاضْرِبْهُ في ثَلَاثَةٍ كما ضَرَبْتَ أَصْلَ الْمَالِ وهو ثَلَاثَةٌ ثُمَّ اضْرِبْ ثَلَاثَةً في ثَلَاثَةٍ كما ضَرَبْتَ أَصْلَ الْمَالِ لِأَنَّكَ احْتَجْتَ إلَى ضَرْبِ أَصْلِ الْمَالِ في ثَلَاثَةٍ مَرَّةً أُخْرَى حتى بَلَغَ جَمِيعُ الْمَالِ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ فإذا ضَرَبْت ثَلَاثَةً في ثَلَاثَةٍ صَارَ تِسْعَةً ثُمَّ اطْرَحْ منها سَهْمًا كما طَرَحْتَ من أَصْلِ الْمَالِ فَيَبْقَى ثَمَانِيَةٌ فَهُوَ نَصِيبُ الْمُوصَى له بِمِثْلِ النَّصِيبِ ثُمَّ أعطى ( ( ( أعط ) ) ) لِلْمُوصَى له نَصِيبَهُ وهو ثُلُثُ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ وَذَلِكَ سَهْمٌ يَبْقَى إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ سَهْمَانِ ضَمَّهُمَا إلى ( ( ( ثلثي ) ) ) ثلثين الْمَالِ وَذَلِكَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ من الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ ثَمَانِيَةٌ فَاسْتَقَامَ الْحِسَابُ بِحَمْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَأَمَّا تَخْرِيجُهَا على طَرِيقِ الْخَطَأَيْنِ فَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ عَدَدًا لو أَعْطَيْتَ منه النَّصِيبَ وهو سَهْمٌ يَبْقَى وَرَاءَهُ عَدَدٌ له ثُلُثٌ لِحَاجَتِك إلَى تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ الْأُخْرَى وهو الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ وَأَقَلُّهُ أَرْبَعَةٌ فإذا جَعَلْتَ ثُلُثَ الْمَالِ أَرْبَعَةً أَعْطِ لِلْمُوصَى له بِالنَّصِيبِ سَهْمًا من أَرْبَعَةٍ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ فأعطى ( ( ( فأعط ) ) ) لِلْمُوصَى له بِثُلُثِ ما بَقِيَ ثُلُثَ ما بَقِيَ
وَذَلِكَ سَهْمٌ يَبْقَى سَهْمَانِ ضُمَّهُمَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ لِأَنَّ ثُلُثَ الْمَالِ لَمَّا كان أَرْبَعَةً كان ثُلُثَاهُ مِثْلَيْهِ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَمَتَى ضمت ( ( ( ضممت ) ) ) اثْنَيْنِ إلَى ثَمَانِيَةٍ صَارَتْ عَشَرَةً وَحَاجَتُكَ إلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لَا غَيْرُ لِلْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّك قد أَعْطَيْتَ الْمُوصَى له بِالنَّصِيبِ سَهْمًا فَظَهَرَ أَنَّكَ قد أَخْطَأْتَ بِزِيَادَةِ سَبْعَةٍ فَزِدْ في النَّصِيبِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ هذا الْخَطَأَ ما جاء إلَّا من قِبَلِ نُقْصَانِ النَّصِيبِ فَظَهَرَ أَنَّ النَّصِيبَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَزْيَدَ من سَهْمٍ فَزِدْ في النَّصِيبِ فَاجْعَلْهُ سَهْمَيْنِ فَيَصِيرُ الثُّلُثُ خَمْسَةً فاعط الْمُوصَى له بِمِثْلِ النَّصِيبِ سَهْمَيْنِ ثُمَّ أَعْطِ لِلْمُوصَى له الْآخَرِ سَهْمًا مِمَّا بَقِيَ يَبْقَى سَهْمَانِ ضُمَّهُمَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَتَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ وَحَاجَتُكَ إلَى سِتَّةٍ فَظَهَرَ أَنَّكَ أَخْطَأْتَ في هذه الْكَرَّةِ بِزِيَادَةِ سِتَّةِ أَسْهُمٍ وكان الْخَطَأُ الْأَوَّلُ بِزِيَادَةِ سَبْعَةٍ فَانْتَقَصَ بِزِيَادَةِ سَهْمٍ في النَّصِيبِ سَهْمٌ من سِهَامِ الْخَطَأِ فَعَلِمْتَ أَنَّك مَهْمَا زِدْتَ في النَّصِيبِ سَهْمًا يَنْتَقِصُ من سِهَامِ الْخَطَأِ سَهْمٌ وإنك تَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَذْهَبَ ما بَقِيَ من سِهَامِ الْخَطَأِ وَالْبَاقِي من سِهَامِ الْخَطَأِ سِتَّةٌ فَاَلَّذِي يَذْهَبُ بِهِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ من الْخَطَأِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ من النَّصِيبِ فَزِدْ في النَّصِيبِ سِتَّةَ أَسْهُمٍ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةً فَهَذَا هو النَّصِيبُ وَبَقِيَ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ أَعْطِ منها سَهْمًا لِلْمُوصَى له الْآخَرِ يَبْقَى سَهْمَانِ ضُمَّهُمَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ من الْبَنِينَ ثَمَانِيَةٌ وَطَرِيقَةُ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ أو الْأَكْبَرِ أو الصَّغِيرِ أو الْكَبِيرِ مَبْنِيَّةٌ على هذه الطَّرِيقَةِ
أَمَّا طَرِيقَةُ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ أو الصَّغِيرِ فَهِيَ أَنَّهُ إذَا تَبَيَّنَ لَك أَنَّك أَخْطَأْت مَرَّتَيْنِ وَأَرَدْتَ مَعْرِفَةَ الثُّلُثِ فَاضْرِبْ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ في الْخَطَأِ الثَّانِي وَالثُّلُثَ الثَّانِي في الْخَطَأِ الْأَوَّلِ فما اجْتَمَعَ فَاطْرَحْ الْأَقَلَّ من الْأَكْثَرِ فما بَقِيَ فَهُوَ الثُّلُثُ وَإِنْ أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ النَّصِيبِ فَاضْرِبْ النَّصِيبَ الْأَوَّلَ في الْخَطَأِ الثَّانِي وَاضْرِبْ النَّصِيبَ الثَّانِي في الْخَطَأِ الْأَوَّلِ ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ من الْأَكْثَرِ فما بَقِيَ فَهُوَ النَّصِيبُ
وإذا عَرَفْت هذا فَفِي هذه الْمَسْأَلَةِ الثُّلُثُ الْأَوَّلُ أَرْبَعَةٌ وَالْخَطَأُ الثَّانِي سِتَّةٌ فَاضْرِبْ أَرْبَعَةً في سِتَّةٍ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَالثُّلُثُ الثَّانِي خَمْسَةٌ وَالْخَطَأُ الْأَوَّلُ سَبْعَةٌ فَاضْرِبْ خَمْسَةً في سَبْعَةٍ فَتَكُونُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ ثُمَّ اطْرَحْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ من خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ فَيَبْقَى أَحَدَ عَشَرَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ وَالنَّصِيبُ الْأَوَّلُ سَهْمٌ وَالْخَطَأُ الثَّانِي سِتَّةٌ فَاضْرِبْ سَهْمًا في سِتَّةٍ تَكُونُ سِتَّةً وَالنَّصِيبُ الثَّانِي سَهْمَانِ وَالْخَطَأُ الْأَوَّلُ سَبْعَةٌ فَاضْرِبْ سَهْمَيْنِ في سَبْعَةٍ فَتَكُونُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَاطْرَحْ الْأَقَلَّ وهو سِتَّةٌ
____________________

(7/359)


من الْأَكْثَرِ وهو أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَيَبْقَى ثَمَانِيَةٌ فَهُوَ النَّصِيبُ
وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أو الْأَكْبَرِ فَهِيَ أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ لَك الْخَطَأُ الْأَوَّلُ فَلَا تَزِدْ في النَّصِيبِ وَلَكِنْ ضَعِّفْ ما وَرَاءَ النَّصِيبِ من الثُّلُثِ ثُمَّ اُنْظُرْ في الْخَطَأَيْنِ وَاعْمَلْ ما عَمِلْتَ في طَرِيقَةِ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ
إذَا عَرَفْتَ هذا فَفِي هذه الْمَسْأَلَةِ ظَهَرَ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ سَبْعَةٌ فَضَعِّفْ ما وَرَاءَ النَّصِيبِ من الثُّلُثِ وَذَلِكَ بِأَنْ تَزِيدَ عليه مثله فَتَصِيرُ سِتَّةً فَصَارَ الثُّلُثُ مع النَّصِيبِ سَبْعَةً فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ سَهْمًا وَأَعْطِ بِالْوَصِيَّةِ الْأُخْرَى ثُلُثَ الْبَاقِي وَذَلِكَ سَهْمَانِ يَبْقَى أَرْبَعَةٌ ضُمَّ ذلك إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَحَاجَتُك إلَى ثَلَاثَةٍ فَظَهَرَ الْخَطَأُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ فإذا أَرَدْت مَعْرِفَةَ الثُّلُثِ فَخُذْ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَاضْرِبْهُ في الْخَطَأِ الثَّانِي وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَتَصِيرُ سِتِّينَ وَخُذْ الثُّلُثَ الثَّانِي وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَاضْرِبْهُ في الْخَطَأِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ سَبْعَةٌ فَتَصِيرُ تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ أطرح الْأَقَلَّ وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ من الْأَكْثَرِ وَذَلِكَ سِتُّونَ يَبْقَى أَحَدَ عَشَرَ فَهُوَ الثُّلُثُ
وَإِنْ أَرَدْت مَعْرِفَةَ النَّصِيبِ فَخُذْ النَّصِيبَ الْأَوَّلَ وَذَلِكَ سَهْمٌ وَاضْرِبْهُ في الْخَطَأِ الثَّانِي وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَتَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَخُذْ النَّصِيبَ الثَّانِي وَذَلِكَ سَهْمٌ وَاضْرِبْهُ في الْخَطَأِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ سَبْعَةٌ ثُمَّ اطْرَحْ سَبْعَةً من خَمْسَةَ عَشَرَ تَبْقَى ثَمَانِيَةٌ فَهُوَ النَّصِيبُ
وَلَوْ كان له خَمْسُ بَنِينَ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ آخَرَ بِثُلُثِ ما بَقِيَ من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَالْفَرِيضَةُ من أَحِدٍ وَخَمْسِينَ سَهْمًا لِصَاحِبِ النَّصِيبِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ وَلِصَاحِبِ ثُلُثِ ما بَقِيَ ثُلُثُهُ وَلِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ
أَمَّا تَخْرِيجُ الْمَسْأَلَةِ على طَرِيقِ الْحَشْوِ فَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَتُفْرِزُ نَصِيبَهُمْ وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَتَزِيدُ عليه سَهْمًا آخَرَ لِأَجْلِ الْمُوصَى له بِمِثْلِ النَّصِيبِ لِأَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ غَيْرُهُ فَتَصِيرُ سِتَّةً فَاضْرِبْهَا في مَخْرَجِ الثُّلُثِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ لِأَجْلِ وَصِيَّتِهِ بِثُلُثِ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ثُمَّ اطْرَحْ منها سَهْمًا وَاحِدًا لِأَجْلِ الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ لِأَنَّهُ زَادَ في الْوَصِيَّةِ وَالزِّيَادَةُ في الْوَصِيَّةِ تُوجِبُ نُقْصَانًا في نَصِيبِ الْمُوصَى له الْأَوَّلِ وَثُلُثُ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ ثَمَانِيَةٌ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَسْتَحِقُّ ذلك من جَمِيعِ الثُّلُثِ من كل ثُلُثٍ سَهْمٌ فَوَجَبَ أَنْ يَنْقُصَ من هذا الثُّلُثِ سَهْمٌ لِذَلِكَ قُلْنَا أنه يُطْرَحُ من هذا الثُّلُثِ سَهْمٌ فَيَبْقَى سَبْعَةَ عَشَرَ فَاجْعَلْ هذا ثُلُثَ الْمَالِ وَثُلُثَا الْمَالِ مِثْلَاهُ
وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ وَجَمِيعُ الْمَالِ أَحَدٌ وَخَمْسُونَ وَثُلُثُ الْمَالِ سَبْعَةَ عَشَرَ
وإذا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ قَدْرَ النَّصِيبِ فَخُذْ النَّصِيبَ وَذَلِكَ سَهْمٌ وَاضْرِبْهُ في ثَلَاثَةٍ ثُمَّ اضْرِبْ ثَلَاثَةً في ثَلَاثَةٍ لِقَوْلِهِ ثُلُثُ ما بين ( ( ( بقي ) ) ) من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَتَصِيرُ تِسْعَةً ثُمَّ اُنْقُصْ منها وَاحِدًا لِأَجْلِ الْمُوصَى له كما نَقَصْتَ في الِابْتِدَاءِ فَيَبْقَى ثَمَانِيَةٌ فَذَلِكَ نَصِيبُ الْمُوصَى له بِمِثْلِ النَّصِيبِ من ثُلُثِ الْمَالِ يَبْقَى إلَى تَمَامِ الْمَالِ تِسْعَةٌ فَأَعْطِ الْمُوصَى له بِثُلُثِ ما بَقِيَ من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ ثُلُثَهَا وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فَيَبْقَى سِتَّةٌ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ فَتَصِيرُ أَرْبَعِينَ سَهْمًا فَتُقَسَّمُ بين الْبَنِينَ الْخَمْسِ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَمَانِيَةٌ مِثْلَ ما أَعْطَيْتَ الْمُوصَى له بِمِثْلِ النَّصِيبِ
وَأَمَّا التَّخْرِيجُ على طَرِيقَةِ الْخَطَأَيْنِ فَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ عَدَدًا لو أَعْطَيْتَ منه سَهْمًا وهو النَّصِيبُ يَبْقَى وَرَاءَهُ عَدَدٌ له ثُلُثٌ لِحَاجَتِكَ إلَى إعْطَاءِ الْمُوصَى له الْآخَرِ ثُلُثَ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ بَعْدِ النَّصِيبِ وَأَقَلُّهُ أَرْبَعَةٌ فَاجْعَلْ ثُلُثَ الْمَالِ أَرْبَعَةً فانفذ منه الْوَصِيَّتَيْنِ فَأَعْطِ الْمُوصَى له بِالنَّصِيبِ سَهْمًا وَالْآخَرَ ثُلُثَ ما بَقِيَ وهو سَهْمٌ آخَرُ فَيَبْقَى وَرَاءَهُ سَهْمَانِ ضُمَّهُمَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ فَتَصِيرُ عَشَرَةً بين الْبَنِينَ الْخَمْسِ فَتَبَيَّنَ أَنَّك قد أَخْطَأْتَ بِخَمْسَةٍ لِأَنَّ حَاجَتَكَ إلَى خَمْسَةٍ لِأَنَّكَ قد أَعْطَيْت لِلْمُوصَى له بِالنَّصِيبِ سَهْمًا فَلَا تَحْتَاجُ إلَّا إلَى خَمْسَةٍ فَأَزِلْ هذا الْخَطَأَ وَذَلِكَ بِالزِّيَادَةِ في النَّصِيبِ لِأَنَّ هذا الْخَطَأَ إنَّمَا جاء من قِبَلِ نُقْصَانِ النَّصِيبِ فَزِدْ في النَّصِيبِ سَهْمًا فَتَصِيرُ الثُّلُثَ على خَمْسَةٍ فَنَفِّذْ منها الْوَصِيَّتَيْنِ فَأَعْطِ الْمُوصَى له بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ وَالْمُوصَى له بِثُلُثِ ما يَبْقَى سَهْمًا يَبْقَى سَهْمَانِ ضُمَّهُمَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَتَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ بين الْبَنِينَ الْخَمْسِ فَيَظْهَرُ أَنَّكَ أَخْطَأْتَ بِسَهْمَيْنِ لِأَنَّ حَاجَتَكَ إلَى عَشَرَةٍ وكان الْخَطَأُ الْأَوَّلُ خَمْسَةً فَذَهَبَ من سِهَامِ الْخَطَأِ ثَلَاثَةٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّكَ مَهْمَا زِدْتَ في النَّصِيبِ سَهْمًا تَمَامًا يَذْهَبُ من سِهَامِ الْخَطَأِ ثَلَاثَةٌ وَأَنَّك تَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَذْهَبَ ما بَقِيَ من سِهَامِ الْخَطَأِ وهو سَهْمَانِ وطريقه أَنْ تَزِيدَ على النَّصِيبِ ثُلُثَيْ سَهْمٍ حتى يَذْهَبَ الْخَطَأُ كُلُّهُ لِأَنَّ بِزِيَادَةِ سَهْمٍ تَامٍّ إذَا كان يَذْهَبُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ من سِهَامِ الْخَطَأِ
____________________

(7/360)


يُعْلَمُ ضَرُورَةً أَنَّ بِزِيَادَةِ كل ثُلُثٍ على النَّصِيبِ يَذْهَبُ سَهْمٌ من سِهَامِ الْخَطَأِ فَيَذْهَبُ بِزِيَادَةِ ثُلُثَيْ سَهْمٍ سَهْمَانِ فَصَارَ النَّصِيبُ سَهْمَيْنِ وَثُلُثَيْ سَهْمٍ وَتَمَامُ الثُّلُثِ وَرَاءَهُ ثَلَاثَةٌ فَصَارَ الثُّلُثُ كُلُّهُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ وَثُلُثَيْ سَهْمٍ فَانْكَسَرَ فَاضْرِبْ خَمْسَةً وثلثي ( ( ( وثلثين ) ) ) في ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ سَبْعَةَ عَشَرَ لِأَنَّ خَمْسَةً في ثَلَاثَةٍ تَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ في ثَلَاثَةِ تَكُونُ سَهْمَيْنِ فَذَلِكَ سَبْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ الثُّلُثُ
وَالثُّلُثَانِ مِثْلَا ذلك فَتَصِيرُ أحد ( ( ( أحدا ) ) ) وَخَمْسِينَ وَالنَّصِيبُ سَهْمَانِ وَثُلُثَا سَهْمٍ مَضْرُوبٌ في ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةً لِأَنَّ سَهْمَيْنِ في ثَلَاثَةٍ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ في ثُلُثَيْنِ سَهْمَانِ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةً فَذَلِكَ لِلْمُوصَى له بِمِثْلِ النَّصِيبِ
بَقِيَ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ تِسْعَةٌ فَأَعْطِ لِلْمُوصَى له بِثُلُثِ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ ثُلُثَهَا وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ يَبْقَى سِتَّةٌ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ فَتَصِيرُ أَرْبَعِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ من الْبَنِينَ الْخَمْسَةِ ثَمَانِيَةٌ
وَأَمَّا تَخْرِيجُهُ على طَرِيقَةِ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ وهو أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ لَك الْخَطَأُ فَلَا تَزِيدْ على النَّصِيبِ شيئا وَلَكِنْ اضْرِبْ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ في الْخَطَأِ الثَّانِي وَالثُّلُثَ الثَّانِي في الْخَطَأِ الْأَوَّلِ فما بَلَغَ فَاطْرَحْ منه أَقَلَّهُمَا من أَكْثَرِهِمَا فما بَقِيَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ
وَالثُّلُثُ الْأَوَّلُ هَهُنَا كان أَرْبَعَةً وَالْخَطَأُ الثَّانِي كان سَهْمَيْنِ فَاضْرِبْ سَهْمَيْنِ في أَرْبَعَةٍ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةً وَالثُّلُثُ الثَّانِي خَمْسَةٌ وَالْخَطَأُ الْأَوَّلُ كان خَمْسَةً فَاضْرِبْ خَمْسَةً في خَمْسَةٍ فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ فَاطْرَحْ الْأَقَلَّ من خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ فَيَبْقَى سَبْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ
وَهَكَذَا اعْمَلْ في النَّصِيبِ وهو أَنَّك تَضْرِبُ النَّصِيبَ الْأَوَّلَ في الْخَطَأِ الثَّانِي وَالنَّصِيبَ الثَّانِي في الْخَطَأِ الْأَوَّلِ فما بَلَغَ فَاطْرَحْ مِثْلَ أَقَلِّهِمَا من أَكْثَرِهِمَا فما بَقِيَ فَهُوَ النَّصِيبُ وَالنَّصِيبُ الْأَوَّلُ سَهْمٌ وَالْخَطَأُ الثَّانِي سَهْمَانِ فَسَهْمٌ في سَهْمَيْنِ يَكُونُ سَهْمَيْنِ وَالنَّصِيبُ الثَّانِي سَهْمَانِ وَالْخَطَأُ الْأَوَّلُ خَمْسَةٌ فَاضْرِبْ سَهْمَيْنِ في خَمْسَةٍ تَكُونُ عَشْرَةً ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ وهو سَهْمَانِ من الْأَكْثَرِ وهو عَشَرَةٌ فَيَبْقَى ثَمَانِيَةٌ وهو النَّصِيبُ وَالْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا وَاخْتَارَ الْحُسَّابُ في الْخَطَأَيْنِ هذه الطَّرِيقَةَ لِمَا فيها من اللِّينِ وَالسُّهُولَةِ لِأَنَّهُ لو زِيدَ على النَّصِيبِ بَعْدَ ظُهُورِ الْخَطَأَيْنِ يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِأَنَّهُ قد زَادَ عليه من حَيْثُ الْأَجْزَاءِ من الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَى الضَّرْبِ وَفِيهِ نَوْعُ عُسْرٍ
وَأَمَّا التَّخْرِيجُ على طَرِيقَةِ الْجَامِعِ الْأَكْبَرِ فَهُوَ أَنَّهُ إذَا تَبَيَّنَ لَك الْخَطَأَ الْأَوَّلَ فَلَا تَزِدْ على النَّصِيبِ وَلَكِنْ ضَعِّفْ ما وَرَاءَ النَّصِيبِ وَوَرَاءَ النَّصِيبِ هَهُنَا ثَلَاثَةٌ فإذا ضَعَّفْتَ الثَّلَاثَةَ صَارَتْ سِتَّةً وَالثُّلُثُ سَبْعَةٌ فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ سَهْمًا وَبِثُلُثِ ما يَبْقَى سَهْمَيْنِ يَبْقَى أَرْبَعَةٌ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وهو أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَيَصِيرُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ بين الْبَنِينَ الْخَمْسَةِ وَحَاجَتُك إلَى خَمْسَةٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّك قد أَخْطَأْتَ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ ثُمَّ اضْرِبْ هذا الْخَطَأَ في الثُّلُثِ الْأَوَّلِ يَصِيرُ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ وَاضْرِبْ الْخَطَأَ الْأَوَّلَ وهو خَمْسَةٌ في الثُّلُثِ الثَّانِي وهو سَبْعَةٌ فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ من الْأَكْثَرِ فَتَصِيرُ سَبْعَةَ عَشَرَ وفي النَّصِيبِ اعْمَلْ هَكَذَا فَاضْرِبْ النَّصِيبَ الْأَوَّلَ في الْخَطَأِ الثَّانِي فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَالنَّصِيبَ الثَّانِي في الْخَطَأِ الْأَوَّلِ فَتَصِيرُ خَمْسَةً ثُمَّ اطْرَحْ خَمْسَةً من ثَلَاثَةَ عَشَرَ فما بَقِيَ فَهُوَ النَّصِيبُ وَطَرِيقَةُ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ أَسْهَلُ
وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَلِآخَرَ بِرُبُعِ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ بَعْدِ النَّصِيبِ فَالْمَسْأَلَةُ تُخَرَّجُ من تِسْعَةٍ وَسِتِّينَ لِلْمُوصَى له بِمِثْلِ النَّصِيبِ أَحَدَ عَشَرَ والموصى ( ( ( وللموصى ) ) ) له بِرُبُعِ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ أَحَدَ عَشَرَ
أَمَّا التَّخْرِيجُ على طَرِيقَةِ الْحَشْوِ فَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ وهو خَمْسَةٌ وَتَزِيدَ عليها سَهْمًا لِأَجْلِ صَاحِبِ النَّصِيبِ فَتَصِيرُ سِتَّةً ثُمَّ اضْرِبْ السِّتَّةَ في مَخْرَجِ الرُّبُعِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ لِأَجْلِ صَاحِبِ الرُّبْعِ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ اطْرَحْ منها سَهْمًا لِمَا ذَكَرْنَا فَيَبْقَى ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ وَجُمْلَةُ الْمَالِ تِسْعَةٌ وَسِتُّونَ وَالنَّصِيبُ سَهْمٌ مَضْرُوبٌ في أَرْبَعَةٍ ثُمَّ الْأَرْبَعَةُ في ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ اطْرَحْ منه سَهْمًا يبقي أَحَدَ عَشَرَ فَهُوَ لِلْمُوصَى له بِمِثْلِ النَّصِيبِ فَيَبْقَى إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ اثْنَا عَشَرَ فَأَعْطِ منها رُبْعَ ما بَقِيَ من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ يَبْقَى تِسْعَةٌ ضمهما ( ( ( ضمها ) ) ) إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ بين الْبَنِينَ الْخَمْسَةِ لِكُلِّ وَاحِد أَحَدَ عَشَرَ فَاسْتَقَامَ الْحِسَابُ
وَأَمَّا التَّخْرِيجُ على طَرِيقَةِ الْخَطَّائِينَ فَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ عَدَدًا لو أَعْطَيْتَ منه النَّصِيبَ يَبْقَى وَرَاءَهُ عَدَدٌ له رُبْعٌ وَأَقَلُّهُ خَمْسَةٌ فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ سَهْمًا يَبْقَى أَرْبَعَةٌ فَأَعْطِ رُبْعَ ما يَبْقَى سَهْمًا يبقى ( ( ( ويبقى ) ) ) ثَلَاثَةٌ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ
____________________

(7/361)


عَشَرَ وَحَاجَتُك إلَى خَمْسَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ من الْبَنِينَ سَهْمٌ لِيَكُونَ نَصِيبُ كل وَاحِدٍ منهم مِثْلَ نَصِيبِ صَاحِبِ النَّصِيبِ فَظَهَرَ أَنَّكَ أَخْطَأْت بِثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ فَزِدْ في النَّصِيبِ سَهْمًا فَيَصِيرُ الثُّلُثُ سِتَّةً فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ وَبِرُبْعِ ما يَبْقَى سَهْمًا يَبْقَى ثَلَاثَةٌ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وهو اثْنَا عَشَرَ فَيَصِيرُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَظَهَرَ لَك أَنَّكَ أَخْطَأْتَ بِخَمْسَةٍ لِأَنَّ حَاجَتَك إلَى عَشَرَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ من الْبَنِينَ الْخَمْسَةِ سَهْمَانِ كما لِلْمُوصَى له بالنصيب ( ( ( النصيب ) ) ) إلَّا أَنَّهُ انْتَقَصَ من سِهَامِ الْخَطَأِ في هذه الْكَرَّةِ ثَلَاثَةً لِأَنَّ الْخَطَأَ الْأَوَّلَ كان بِثَمَانِيَةٍ وفي هذه الْكَرَّةِ بِخَمْسَةٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّك مَهْمَا زِدْتَ في النَّصِيبِ سَهْمًا كَامِلًا يَذْهَبُ من سِهَامِ الْخَطَأِ ثَلَاثَةٌ فَزِدْ ثُلُثَيْ سَهْمٍ على سَهْمَيْنِ حتى يَذْهَبَ الْخَطَأُ كُلُّهُ فَصَارَ النَّصِيبُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَثُلُثَيْ سَهْمٍ ووارءه ( ( ( ووراءه ) ) ) أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ فَيَصِيرُ الثُّلُثُ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ وَثُلُثَيْ سَهْمٍ وَانْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ فَاضْرِبْ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ وَثُلُثَيْ سَهْمٍ في ثَلَاثَةٍ لِيَزُولَ الْكَسْرُ فَيَصِيرُ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ وهو سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ فَكُلُّ الْمَالِ تِسْعَةٌ وَسِتُّونَ وَالنَّصِيبُ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثَانِ مَضْرُوبًا في ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ وَالْبَاقِي إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ اثْنَا عَشَرَ ثَلَاثَةٌ منها وَهِيَ رُبْعُ ما بَقِيَ من كل الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ لِلْمُوصَى له بِالرُّبْعِ فَيَبْقَى تِسْعَةٌ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ فَيَصِيرُ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ من الْبَنِينَ أَحَدَ عَشْرَ وَالتَّخْرِيجُ على طَرِيقَةِ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ على نَحْوِ ما بَيَّنَّا
وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَلِآخَرَ بِخُمْسِ ما بَقِيَ من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَالْمَسْأَلَةُ تَخْرُجُ من سَبْعَةٍ وَثَمَانِينَ لِصَاحِبِ النَّصِيبِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَلِصَاحِبِ الْخُمُسِ ثَلَاثَةٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ
أَمَّا التَّخْرِيجُ على طَرِيقَةِ الْحَشْوِ فَعَلَى نَحْوِ ما ذَكَرْنَا أَنَّك تَأْخُذُ عَدَدَ الْبَنِينَ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَتَزِيدُ عليها وَاحِدًا كما فَعَلْتَ في الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَتَصِيرُ سِتَّةً ثُمَّ اضْرِبْ سِتَّةً في مَخْرَجِ الْخَمْسِ وهو خَمْسَةٌ فَتَصِيرُ ثَلَاثِينَ ثُمَّ اُنْقُصْ منها وَاحِدًا لِلْمَعْنَى الذي ذَكَرْنَا فَيَبْقَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَاجْعَلْ هذا ثُلُثَ الْمَالِ وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَخَمْسُونَ وَجَمِيعُ الْمَالِ سَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ فإذا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ النَّصِيبَ فَخُذْ النَّصِيبَ وَذَلِكَ سَهْمٌ فَاضْرِبْهُ في خَمْسَةٍ ثُمَّ اضْرِبْ خَمْسَةً في ثَلَاثَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَيَصِيرُ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ اُنْقُصْ منها سَهْمًا فَيَبْقَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَهَذَا هو النَّصِيبُ أعط ( ( ( فأعط ) ) ) لِلْمُوصَى له بِمِثْلِ النَّصِيبِ يَبْقَى إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَأَعْطِ لِلْمُوصَى له بِالْخُمُسِ خُمُسَ ذلك وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ يَبْقَى هُنَاكَ اثْنَا عَشَرَ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَخَمْسُونَ فَتَصِيرُ سَبْعِينَ فَاقْسِمْهَا بين الْبَنِينَ الْخَمْسَةِ لِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِثْلُ ما كان لِلْمُوصَى له بِالنَّصِيبِ
وَأَمَّا التَّخْرِيجُ على طَرِيقَةِ الْخَطَّائِينَ فَعَلَى نَحْوِ ما بَيَّنَّا أَنَّك تَجْعَلُ ثُلُثَ الْمَالِ عَدَدًا لو أَعْطَيْنَا منه نَصِيبًا يَبْقَى وَرَاءَهُ عَدَدٌ له خُمْسٌ وَأَقَلُّ ذلك سِتَّةٌ فتعطى منها سَهْمًا بِالنَّصِيبِ وَسَهْمًا بِخُمْسِ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَيَبْقَى وَرَاءَهُ أَرْبَعَةٌ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ فَتَصِيرُ سِتَّةَ عَشَرَ فَتَبَيَّنَ أَنَّك أَخْطَأْت بِأَحَدَ عَشَرَ لِأَنَّ حَاجَتَكَ إلَى خَمْسَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ من الْبَنِينَ سَهْمٌ مِثْلُ ما كان لِلْمُوصَى له بِالنَّصِيبِ فَزِدْ في النَّصِيبِ سَهْمًا فَيَصِيرُ الثُّلُثُ سَبْعَةً فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ ثُمَّ أَعْطِ بِخُمْسِ ما بَقِيَ سَهْمًا فَيَبْقَى هُنَاكَ أَرْبَعَةٌ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ أربع ( ( ( أربعة ) ) ) عَشَرَ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَتَبَيَّنَ أَنَّك أَخْطَأْت في هذه الْكَرَّةِ بِزِيَادَةِ ثَمَانِيَةٍ
لِأَنَّ حَاجَتَك إلَى عَشَرَةٍ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ كما كان لِلْمُوصَى له فَظَهَرَ لَك أَنَّ بِزِيَادَةِ كل سَهْمٍ على النَّصِيبِ يَذْهَبُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ من الْخَطَأِ وَأَنَّك تَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَذْهَبَ ما بَقِيَ من سِهَامِ الْخَطَأِ وَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ فَزِدْ سَهْمَيْنِ وَثُلُثَيْ سَهْمٍ على سَهْمَيْنِ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ وَثُلُثَيْ سَهْمٍ وما وَرَاءَهُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ فَصَارَ الثُّلُثُ تِسْعَةَ أَسْهُمٍ وَثُلُثَيْ سَهْمٍ فَاضْرِبْ هذه الْجُمْلَةَ في ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ فَتَصِيرُ جُمْلَةُ الْمَالِ سَبْعَةً وَثَمَانِينَ فَالنَّصِيبُ أَرْبَعَةٌ وَثُلُثَانِ مَضْرُوبٌ في ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَالْبَاقِي إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَأَخْرِجْ منها الْخُمْسَ وَضُمَّ الْبَاقِي إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ على ما عَلَّمْنَاكَ وطريقتا ( ( ( وطريقنا ) ) ) الْجَامِعُ الْأَصْغَرُ وَالْأَكْبَرُ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا
وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إلَّا ثُلُثَ ما بَقِيَ من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَالْمَسْأَلَةُ تُخَرَّجُ من سَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ فَالنَّصِيبُ عَشَرَةٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ ثَلَاثَةٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ
أَمَّا على طَرِيقَةِ الْحَشْوِ فَهُوَ أَنَّك تَأْخُذُ نَصِيبَ الْوَرَثَةِ على عَدَدِهِمْ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَتَزِيدُ عليها وَاحِدًا فَتَصِيرُ سِتَّةً ثُمَّ اضْرِبْ سِتَّةً في ثَلَاثَةٍ لِقَوْلِهِ إلَّا ثُلُثَ ما بَقِيَ من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ثُمَّ زِدْ عليها سَهْمًا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ من وَصِيَّتِهِ يُوجِبُ زِيَادَةً
____________________

(7/362)


في نَصِيبِ الْوَرَثَةِ وَهِيَ شَائِعَةٌ في كل الْمَالِ فَتَزِيدُ على كل ثُلُثٍ سَهْمًا كما كُنْتَ تُنْقِصُ في الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ من كل ثُلُثٍ سَهْمًا لِأَنَّ النُّقْصَانَ هُنَاكَ ما كان لِذَاتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِاسْتِقَامَةِ الْحِسَابِ وَهَهُنَا لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا بِالزِّيَادَةِ فَتُزَادُ فَتَصِيرُ تِسْعَةَ عَشَرَ فَاجْعَلْ هذا ثُلُثَ الْمَالِ وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ وَجَمِيعُ الْمَالِ سَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ
وإذا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ النَّصِيبِ فَالنَّصِيبُ كان وَاحِدًا فَاضْرِبْهُ في ثَلَاثَةٍ ثُمَّ اضْرِبْ ثَلَاثَةً في ثَلَاثَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا فَتَصِيرُ تِسْعَةً ثُمَّ زِدْ عليها وَاحِدًا كما زِدْتَ في الِابْتِدَاءِ فَتَصِيرُ عَشَرَةً فَهَذَا هو النَّصِيبُ وَبَقِيَ إلَى تَمَامِ ثُلُثِ الْمَالِ تِسْعَةٌ فَاسْتَثْنِ من النَّصِيبِ مِقْدَارَ ثُلُثِ ما بَقِيَ وهو ثَلَاثَةٌ فإذا اسْتَثْنَيْتَ من الْعَشَرَةِ ثَلَاثَةً يَبْقَى لِلْمُوصَى له سَبْعَةُ أَسْهُمٍ فَضُمَّ الْمُسْتَثْنَى وهو الثَّلَاثَةُ مع ما بَقِيَ وهو تِسْعَةٌ وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ فَتَصِيرُ خَمْسِينَ فَاقْسِمْهَا على الْبَنِينَ الْخَمْسِ لِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ مِثْلُ ما كان لِلْمُوصَى له قبل الِاسْتِثْنَاءِ
وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْخَطَّائِينَ فَهِيَ أَنْ تَجْعَلَ الثُّلُثَ على عَدَدٍ لو أَعْطَيْتَ منه نَصِيبًا يَبْقَى وَرَاءَهُ ثَلَاثَةٌ وَلَوْ اسْتَثْنَيْتَ من النَّصِيبِ ثُلُثَ ما يَبْقَى يَبْقَى وَرَاءَهُ سَهْمٌ وَأَقَلُّ ذلك أَنْ يَجْعَلَ الثُّلُثَ على خَمْسَةِ أَسْهُمٍ فَأَعْطِ لِلْمُوصَى له بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ ثُمَّ اسْتَثْنِ منه مِثْلَ ثُلُثِ ما يَبْقَى وهو وَاحِدٌ وَضُمَّهُ إلَى ما بَقِيَ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً فَضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وهو عَشَرَةُ أَسْهُمٍ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَحَاجَتُكَ إلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ مِثْل ما أَعْطَيْتَ لِلْمُوصَى له بِالنَّصِيبِ فَظَهَرَ أَنَّكَ أَخْطَأْتَ بِزِيَادَةِ أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ فَزِدْ في النَّصِيبِ سَهْمًا فَتَصِيرُ ثَلَاثَةً وَوَرَاءَهُ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ اسْتَثْنِ منه سَهْمًا وَضُمَّهُ إلَى ما بَقِيَ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً ثُمَّ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَتَصِيرُ سِتَّةَ عَشَرَ وَحَاجَتُكَ إلَى خَمْسَةَ عَشَرَ لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةٌ مِثْلُ ما أَعْطَيْتَ لِلْمُوصَى له بِالنَّصِيبِ فَظَهَرَ أَنَّكَ أَخْطَأْتَ بِسَهْمٍ وَالْخَطَأُ الْأَوَّلُ كان بِأَرْبَعَةٍ فَظَهَرَ أَنَّ بِزِيَادَةِ سَهْمٍ على النَّصِيبِ يَذْهَبُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ من الْخَطَأِ فَتَعْلَمُ أَنَّ بِزِيَادَةِ ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ أُخَرَ يَذْهَبُ ما بَقِيَ من الْخَطَأِ فزد ( ( ( فرد ) ) ) ثُلُثًا آخَرَ فَيَصِيرُ النَّصِيبُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَثُلُثَ سَهْمٍ وما بَقِيَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فَتَصِيرُ سِتَّةَ أَسْهُمٍ وَثُلُثَ سَهْمٍ فَاضْرِبْهَا في ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ تِسْعَةَ عَشَرَ فَهَذَا ثُلُثُ الْمَالِ وَالنَّصِيبُ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثُ سَهْمٍ مَضْرُوبٍ في ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ عَشَرَةً وَالِاسْتِثْنَاءُ منه ثَلَاثَةٌ فَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَهِيَ لِلْمُوصَى له وَلِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ فَخَرَجَتْ الْفَرِيضَةُ من سَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ
هذا إذَا اسْتَثْنَى ثُلُثَ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ
فَأَمَّا إذَا اسْتَثْنَى رُبْعَ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ بِأَنْ أَوْصَى له بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيهِ الْخَمْسِ إلَّا رُبْعَ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَالْفَرِيضَةُ من خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ النَّصِيبُ منها ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَالِاسْتِثْنَاءُ ثَلَاثَةٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ
أَمَّا طَرِيقَةُ الْحَشْوِ فما ذَكَرْنَا أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ وَتَزِيدَ عليه سَهْمًا فَتَصِيرُ سِتَّةً ثُمَّ اضْرِبْهُ في مَخْرَجِ الرُّبْعِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ زِدْ عليها وَاحِدًا لِمَا ذَكَرْنَا فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ فَاجْعَلْ هذا ثُلُثَ الْمَالِ وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ وَذَلِكَ خَمْسُونَ وَجَمِيعُ الْمَالِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ
هذا لِمَعْرِفَةِ أَصْلِ الْمَالِ وَأَمَّا مَعْرِفَةُ النَّصِيبِ فَإِنْ كان وَاحِدًا فَاضْرِبْهُ في أَرْبَعَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا فيها ( ( ( فيما ) ) ) تَقَدَّمَ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةً ثُمَّ اضْرِبْ أَرْبَعَةً في ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ فَزِدْ عليها وَاحِدًا لِمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ هذا هو النَّصِيبُ فَيَبْقَى إلَى تَمَامِ ثُلُثِ الْمَالِ وهو خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ اثْنَا عَشَرَ فَاسْتَرْجِعْ من النَّصِيبِ بِحُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ رُبْعَ ذلك وهو ثَلَاثَةٌ فَبَقِيَ لِلْمُوصَى له عَشَرَةٌ ثُمَّ ضُمَّ هذه الثَّلَاثَةَ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ فَاسْتَرْجِعْ من النَّصِيبِ بِحُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ رُبْع ذلك وهو ثَلَاثَةٌ فَبَقِيَ لِلْمُوصَى له عَشَرَةٌ ثُمَّ ضُمَّ هذه الثَّلَاثَةَ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ فَتَصِيرُ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ تَضُمُّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ خَمْسُونَ فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَسِتِّينَ فَاقْسِمْ بين الْبَنِينَ الْخَمْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِثْلُ ما كان لِلْمُوصَى له بِالنَّصِيبِ قبل الِاسْتِثْنَاءِ
وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْخَطَّائِينَ فَهِيَ أَنْ تَجْعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ عَدَدًا إذَا أَعْطَيْتَ منه النَّصِيبَ يَبْقَى وَرَاءَهُ أَرْبَعَةٌ وإذا اسْتَثْنَيْتَ من النَّصِيبِ مِثْلَ رُبْعِ ما بَقِيَ من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ يَبْقَى وَرَاءَهُ سَهْمٌ وَأَقَلُّ ذلك سِتَّةٌ فَاجْعَلْهَا ثُلُثَيْ الْمَالِ فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ ثُمَّ اسْتَرْجِعْ منه بِالِاسْتِثْنَاءِ مِثْلَ رُبْعِ ما بَقِيَ وَذَلِكَ سَهْمٌ وَضُمَّهُ إلَى ما بَقِيَ فَتَصِيرُ خَمْسَةً ثُمَّ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَتَصِيرُ سَبْعَةَ عَشَرَ فَتَبَيَّنَ أَنَّك أَخْطَأْتَ بِزِيَادَةِ سَبْعَةٍ وَإِنَّ حَاجَتَكَ إلَى الْعَشَرَةِ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ مِثْلُ ما أَعْطَيْتَ لِصَاحِبِ النَّصِيبِ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِثْلُ نصيبهم ( ( ( نصبهم ) ) ) فَزِدْ في النَّصِيبِ سَهْمًا فَتَصِيرُ ثَلَاثَةً فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ ثُمَّ اسْتَرْجِعْ منه مِثْلَ رُبْعِ ما يَبْقَى وهو سَهْمٌ وَضُمَّهُ إلَى ما بَقِيَ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَتَصِيرُ خَمْسَةً فَضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَتَصِيرُ تِسْعَةَ عَشَرَ فَيَظْهَرُ أَنَّك أَخْطَأْتَ في
____________________

(7/363)


هذه الْكَرَّةِ بِأَرْبَعَةٍ لِأَنَّ حَاجَتَكَ إلَى خَمْسَةَ عَشَرَ لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةٌ مِثْلُ ما أَعْطَيْتَ لِلْمُوصَى له بِالنَّصِيبِ وَتَبَيَّنَ لك أَنَّك مهام ( ( ( مهما ) ) ) زِدْتَ في النَّصِيبِ سَهْمًا انْتَقَصَ من سِهَامِ الْخَطَأِ ثَلَاثَةٌ وقد بَقِيَ من سِهَامِ الْخَطَأِ أَرْبَعَةٌ وإنك تَحْتَاجُ إلَى إذْهَابِهَا فَزِدْ في النَّصِيبِ قَدْرَ ما يَذْهَبُ بِهِ وهو أَرْبَعَةٌ فَزِدْ في النَّصِيبِ سَهْمًا وَثُلُثَ سَهْمٍ حتى تَذْهَبَ بِهِ سِهَامُ الْخَطَأِ كُلُّهَا فَصَارَ النَّصِيبُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ وَثُلُثَ سَهْمٍ وما بَقِيَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةَ أَسْهُمٍ وَثُلُثَ سَهْمٍ فَاضْرِبْهَا في ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ وَهِيَ ثُلُثُ الْمَالِ وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ وَذَلِكَ خَمْسُونَ وَجُمْلَتُهُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ وَالنَّصِيبُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَثُلُثُ سَهْمٍ مَضْرُوبٌ في ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ استن ( ( ( استثن ) ) ) منها ثَلَاثَةً فَيَبْقَى عَشَرَةٌ ثُمَّ ضُمَّ هذه الثَّلَاثَةَ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ يَصِيرُ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ تَضُمُّ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ خَمْسُونَ فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَسِتِّينَ وَاقْسِمْهُ بين الْبَنِينَ الْخَمْسَةِ لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِثْلُ ما كان لِلْمُوصَى له قبل الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّخْرِيجُ على طَرِيقَةِ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ ووالأكبر ( ( ( والأكبر ) ) ) على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا
ولوكان ثَلَاثُ بَنِينَ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إلَّا ثُلُثَ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَالْمَسْأَلَةُ تُخَرَّجُ من تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ الثُّلُثُ منها ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَالنَّصِيبُ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ تِسْعَةٌ وَتَخْرِيجُهَا على طَرِيقَةِ الْحَشْوِ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ وهو ثَلَاثَةٌ ثُمَّ زِدْ عليها سَهْمًا لِأَجْلِ النَّصِيبِ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً ثُمَّ اضْرِبْ الْأَرْبَعَةَ في ثَلَاثَةٍ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى ثَلَاثَةٌ فَتَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ زِدْ وَاحِدًا فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ عَشْرَ فَهَذَا ثُلُثُ الْمَالِ وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ
وَأَمَّا مَعْرِفَةُ النَّصِيبِ الْكَامِلِ فَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَ وَذَلِكَ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَاضْرِبْهُ في مَخْرَجِ الثُّلُثِ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةً ثُمَّ اضْرِبْ ثَلَاثَةً في ثَلَاثَةٍ لِمَكَانِ الثُّلُثِ فَتَصِيرُ تِسْعَةً ثُمَّ زِدْ عليها وَاحِدًا كما زِدْت في الثُّلُثِ فَتَصِيرُ عَشَرَةً فَهُوَ النَّصِيبُ الْكَامِلُ فَأَعْطِ لِصَاحِبِ النَّصِيبِ عَشَرَةً من الثُّلُثِ وهو ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَيَبْقَى من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ اسْتَرْجِعْ من النَّصِيبِ بِسَبَبِ الِاسْتِثْنَاءِ ثُلُثَ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ وَذَلِكَ وَاحِدٌ وَضُمَّهُ إلَى ما يبقي ( ( ( بقي ) ) ) من الثُّلُثِ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ فَضَلَتْ عن الْوَصِيَّةِ فَضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ فَتَصِيرُ ثَلَاثِينَ لِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ مِثْلُ النَّصِيبِ الْكَامِلِ قبل الِاسْتِثْنَاءِ وَحَصَلَ لِلْمُوصَى له بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ تِسْعَةٌ
وَأَمَّا التَّخْرِيجُ على طَرِيقَةِ الْخَطَّائِينَ فَهُوَ أَنْ تعجل ( ( ( تجعل ) ) ) ثُلُثَ الْمَالِ عَدَدًا لو أَعْطَيْتَ بِالنَّصِيبِ شيئا ثُمَّ اسْتَرْجَعْتَ من النَّصِيبِ بِالِاسْتِثْنَاءِ ثُلُثَ ما بَقِيَ من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ يَبْقَى في يَدِ الْمُوصَى له شَيْءٌ
وَأَقَلُّ ذلك خَمْسَةٌ فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ ثُمَّ اسْتَرْجِعْ منه سَهْمًا لِمَكَانِ الِاسْتِثْنَاءِ وَضُمَّهُ إلَى ما بَقِيَ من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً فَهِيَ فَاضِلَةٌ من الْوَصِيَّةِ فَضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَصَارَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَحَاجَتُك إلَى سِتَّةٍ لِأَنَّك أَعْطَيْتَ بِالنَّصِيبِ الْكَامِلِ سَهْمَيْنِ فَظَهَرَ أَنَّك أَخْطَأْتَ بِثَمَانِيَةٍ فَزِدْ على النَّصِيبِ سَهْمًا آخَرَ حتى إذَا أَعْطَيْت بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةً يَبْقَى بَعْدَهُ مَالُهُ ثُلُثٌ لما ( ( ( لمكان ) ) ) كان الِاسْتِثْنَاءِ فَاجْعَلْ الثُّلُثَ سِتَّةً فَأَعْطِ النَّصِيبَ ثَلَاثَةً يَبْقَى ثَلَاثَةٌ ثُمَّ اسْتَرْجِعْ من النَّصِيبِ سَهْمًا فَصَارَ مَعَك أَرْبَعَةٌ فَضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَصَارَ سِتَّةَ عَشَرَ وَحَاجَتُك إلَى تِسْعَةٍ لِأَنَّك أَعْطَيْت بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةً فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ ابْنٍ مِثْلُ ذلك ثَلَاثَةٌ فَظَهَرَ أَنَّك أَخْطَأْت في هذه الْكَرَّةِ بِزِيَادَةِ سَبْعَةٍ وَالْخَطَأُ الْأَوَّلُ كان بِزِيَادَةِ ثَمَانِيَةٍ فَتَبَيَّنَ لَك أَنَّ كُلَّ سَهْمٍ زِيدَ على الثُّلُثِ يُذْهِبُ سَهْمًا من الْخَطَأِ فَزِدْ سَبْعَةً على الثُّلُثِ الْأَوَّلِ وهو سِتَّةٌ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَهُوَ الثُّلُثُ فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ عَشَرَةً يَبْقَى إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ اسْتَرْجِعْ سَهْمًا فَصَارَ أَرْبَعَةً فَضُمَّهَا إلَى ثلثي ( ( ( ثلث ) ) ) الْمَالِ وهو سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ فَتَصِيرُ ثَلَاثِينَ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا
وَطَرِيقَةُ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ على ما بَيَّنَّا وهو أَنْ لَا تَزِيدَ على النَّصِيبِ عِنْدَ ظُهُورِ الْخَطَأَيْنِ وَلَكِنْ خُذْ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَاضْرِبْهُ في الْخَطَأِ الثَّانِي وَذَلِكَ سَبْعَةٌ فَتَصِيرُ خَمْسَةً وثلاثين ( ( ( وثلاثون ) ) ) ثُمَّ خُذْ الثُّلُثَ الثَّانِي وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَاضْرِبْهُ في الْخَطَأِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ يَصِيرُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ من الْأَكْثَرِ يَبْقَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ
وَأَمَّا مَعْرِفَةُ النَّصِيبِ فَخُذْ النَّصِيبَ الْأَوَّلَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ وَذَلِكَ سَهْمٌ وَاضْرِبْهُ في الْخَطَأِ الثَّانِي وَذَلِكَ سَبْعَةٌ فَتَصِيرُ سَبْعَةً ثُمَّ خُذْ النَّصِيبَ الثَّانِي وَذَلِكَ سَهْمَانِ وَاضْرِبْهُ في الْخَطَأِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ فَتَصِيرُ سِتَّةَ عَشَرَ ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ من الْأَكْثَرِ يَبْقَى تِسْعَةٌ فَهُوَ النَّصِيبُ ثُمَّ الْبَاقِي على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا
وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْجَامِعِ الْأَكْبَرِ فَهُوَ أَنْ تُضَعِّفَ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ سِوَى النَّصِيبِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَضَعِّفْهَا فَتَصِيرُ
____________________

(7/364)


ثَمَانِيَةً ثُمَّ زِدْ عليه النَّصِيبَ وَذَلِكَ سَهْمٌ فَتَصِيرُ تِسْعَةً فَهُوَ الثُّلُثُ الثَّانِي فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةً يَبْقَى سِتَّةٌ فَثُلُثُ ما بَقِيَ سَهْمَانِ ثُمَّ اسْتَرْجِعْ من النَّصِيبِ ثُلُثَ ما يَبْقَى وَذَلِكَ سَهْمَانِ وَضُمَّهُمَا إلَى ما مَعَكَ وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةً فَهِيَ فَاضِلَةٌ عن الْوَصِيَّةِ وَضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَتَصِيرُ سِتَّةً وَعِشْرِينَ وَحَاجَتُك إلَى تِسْعَةٍ لِأَنَّك أَعْطَيْت بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةً فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةٌ فَظَهَرَ أَنَّك أَخْطَأْت بِزِيَادَةِ سَبْعَةَ عَشَرَ في طَرِيقَةِ الْجَامِعِ الْأَكْبَرِ وَالْخَطَأُ الْأَوَّلُ في طَرِيقَةِ الْخَطَّائِينَ كان بِزِيَادَةِ ثَمَانِيَةٍ فَخُذْ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ في طَرِيقَةِ الْخَطَّائِينَ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَاضْرِبْهُ في الْخَطَأِ الثَّانِي وَذَلِكَ سَبْعَةَ عَشَرَ فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَثَمَانِينَ ثُمَّ خُذْ الثُّلُثَ الثَّانِي وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَاضْرِبْهُ في الْخَطَأِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ فَتَصِيرُ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ من الْأَكْثَرِ يَبْقَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ
وَأَمَّا مَعْرِفَةُ النَّصِيبِ فَخُذْ النَّصِيبَ الْأَوَّلَ من طَرِيقِ الْخَطَّائِينَ وَذَلِكَ سَهْمٌ وَاضْرِبْهُ في الْخَطَأِ الثَّانِي في الْجَامِعِ الْأَكْبَرِ وَذَلِكَ سَبْعَةَ عَشَرَ بِسَبْعَةَ عَشَرَ وَخُذْ النَّصِيبَ الثَّانِي وَذَلِكَ سَهْمٌ من طَرِيقَةِ الْجَامِعِ الْأَكْبَرِ وَاضْرِبْهُ في الْخَطَأِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ بِثَمَانِيَةٍ وَاطْرَحْ الْأَقَلَّ من الْأَكْثَرِ فَيَبْقَى تِسْعَةٌ فَهُوَ النَّصِيبُ يَبْقَى ثَلَاثُونَ بين الْبَنِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم عَشَرَةٌ
هذا إذَا قال إلَّا ثُلُثَ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَأَمَّا إذَا قال إلَّا ثُلُثَ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ فَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ ما ذَكَرْنَا في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّ في تَخْرِيجِهِ ضَرْبُ تَفَاوُتٍ
أَمَّا على طَرِيقَةِ الْحَشْوِ فَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَتَزِيدَ عليه وَاحِدًا ثُمَّ تَضْرِبُهَا في مَخْرَجِ النِّصْفِ وهو سَهْمَانِ وَإِنَّمَا ضَرَبْنَا هذا في سَهْمَيْنِ وَالْأَوَّلَ في ثَلَاثَةٍ لِأَنَّ مَقْصُودَ الموصى هَهُنَا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى بَعْدَ الْوَصِيَّةِ الْحَاصِلَةِ ثُلُثَ ما بَقِيَ وَلَنْ يَكُونَ ذلك إلَّا أَنْ يَكُونَ قبل الِاسْتِرْجَاعِ معه سَهْمَانِ حتى إذَا اسْتَرْجَعْت منه شيئا يَكُونُ الْمُسْتَرْجَعُ ثُلُثَ ما بَقِيَ وَمَقْصُودُهُ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى بَعْدَ النَّصِيبِ قبل الِاسْتِرْجَاعِ مِثْلَ ثَلَاثَةٍ وَلَنْ يَكُونَ ذلك إلَّا وَأَنْ يَكُونَ معه ثَلَاثَةٌ قبل الِاسْتِرْجَاعِ حتى إذَا اسْتَرْجَعْت شيئا يَكُونُ الْمُسْتَرْجَعُ رُبْعَهُ فإذا ضَرَبْت أَرْبَعَةً في اثْنَيْنِ بَلَغَ ثَمَانِيَةً ثُمَّ تَزِيدُ وَاحِدًا فَتَصِيرُ تِسْعَةً فَهَذَا ثُلُثُ الْمَالِ وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ وهو ثَمَانِيَةَ عَشَرَ
فَأَمَّا مَعْرِفَةُ النَّصِيبِ فَخُذْ النَّصِيبَ وَذَلِكَ وَاحِدٌ وَاضْرِبْهُ في مَخْرَجِ الثُّلُثِ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةً فَاضْرِبْ الثَّلَاثَةَ في مَخْرَجِ النِّصْفِ
وَذَلِكَ سَهْمَانِ فَتَصِيرُ سِتَّةً ثُمَّ زِدْ عليه سَهْمًا فَتَصِيرُ سَبْعَةً فَهُوَ النَّصِيبُ فَأَعْطِ صَاحِبَ النَّصِيبِ سَبْعَةً يَبْقَى إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ سَهْمَانِ ثُمَّ اسْتَرْجِعْ منه سَهْمًا فَضُمَّهُ إلَى ذلك فَتَصِيرُ ثَلَاثَةً فَضُمَّهَا إلَى ثلثي ( ( ( ثلث ) ) ) الْمَالِ فَيَصِيرُ أحد ( ( ( واحدا ) ) ) وعشرون ( ( ( وعشرين ) ) ) لِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ
وَأَمَّا طَرِيقَة الْخَطَّائِينَ فَهِيَ أَنْ تَجْعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ عَدَدًا لو أَعْطَيْت منه نَصِيبًا وَاسْتَرْجَعْت منه شيئا يَكُونُ الْمُسْتَرْجَعُ مِثْلَ نِصْفٍ وَأَقَلُّ ذلك أَرْبَعَةٌ ادْفَعْ لِلْمُوصَى له بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ ثُمَّ اسْتَرْجِعْ منه سَهْمًا ضُمَّهُ إلَى ما بَقِيَ وَهِيَ اثْنَانِ وما بَقِيَ وهو سَهْمُ الْمَالِ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةً فَضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ فَتَصِيرُ أَحَدَ عَشَرَ وَحَاجَتُك إلَى سِتَّةٍ لأنه ( ( ( لأنك ) ) ) أَعْطَيْت بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ فَظَهَرَ أَنَّك أَخْطَأْت بِزِيَادَةِ خَمْسَةٍ فَزِدْ في النَّصِيبِ سَهْمًا وَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةً ثُمَّ اسْتَرْجِعْ منه سَهْمًا وَضُمَّهُ إلَى ما بَقِيَ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةً فَضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَحَاجَتُك إلَى تِسْعَةٍ لِأَنَّك أَعْطَيْت بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةً فَظَهَرَ أَنَّك قد أَخْطَأْت بِزِيَادَةِ أَرْبَعَةٍ فَظَهَرَ أَنَّك كُلَّمَا زِدْت دِرْهَمًا يَزُولُ خَطَأُ دِرْهَمٍ فَزِدْ في الِابْتِدَاءِ على النَّصِيبِ قَدْرَ خَطَأِ الْأَوَّلِ وهو خَمْسَةٌ فَبَلَغَ سَبْعَةً وَبَقِيَ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ سَهْمَانِ فَاسْتَرْجِعْ منه سَهْمًا وَضُمَّهُ مع الْبَاقِي إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وهو ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَصَارَ أَحَدًا وَعِشْرِينَ فَأَعْطِ لِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةً وَلِلْمُوصَى له سِتَّةً
هذا إذَا قَيَّدَ قَوْلَهُ إلَّا ثُلُثَ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ بِالنَّصِيبِ أو بِالْوَصِيَّةِ فَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ بِأَنْ قال إلَّا ثُلُثَ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ ولم يَزِدْ عليه
قال مُحَمَّدٌ قال عَامَّةُ الْحُسَّابِ يَعْنِي الْمَعْرُوفِينَ بِعِلْمِ الْحِسَابِ من أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه مِثْلَ الْحَسَنِ بن زِيَادٍ وَغَيْرِهِ
هذا بِمَنْزِلَةِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وهو ما إذَا قال إلَّا ثُلُثَ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هو بِمَنْزِلَةِ الْفَصْلِ الثَّانِي وهو ما إذَا قال إلَّا ثُلُثَ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ
وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ أَنَّهُ لَمَّا قال أَوْصَيْت لَك بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيَّ فَقَدْ أتى بِوَصِيَّةٍ صَحِيحَةٍ وَاسْتَحَقَّ رُبْعَ الْمَالِ لِأَنَّهُ جَعَلَ نَصِيبَهُ مِثْلَ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيهِ كَأَنَّهُ أَحَدُ بَنِيهِ فلما قال إلَّا ثُلُثَ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ فَقَدْ اسْتَخْرَجَ بِالِاسْتِثْنَاءِ بَعْضَ الْوَصِيَّةِ مُطْلَقًا وَذَلِكَ
____________________

(7/365)


يُحْتَمَلُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَيُحْتَمَلُ بَعْدَ النَّصِيبِ إلَّا أَنَّ الْمُسْتَخْرَجَ بِالِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ النَّصِيبِ أَقَلُّ وَالْمُسْتَخْرَجُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ أَكْثَرُ وَالْأَقَلُّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ في اسْتِخْرَاجِهِ وفي اسْتِخْرَاجِ الزِّيَادَةِ شَكٌّ فَلَا يَثْبُتُ اسْتِخْرَاجُ الزِّيَادَةِ بِالشَّكِّ بَلْ تَبْقَى الزِّيَادَةُ دَاخِلَةً تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى منه
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ ليس بِاسْتِخْرَاجِ بَعْضِ الْكَلَامِ لِمَا فيه من التَّنَاقُضِ على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ بَلْ هو تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا فلم يَدْخُلْ الْمُسْتَثْنَى في صَدْرِ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ دخل ثُمَّ خَرَجَ بِكَلَامِ الِاسْتِثْنَاءِ فَلَفْظُ الْوَصِيَّةِ هَهُنَا مع الِاسْتِثْنَاءِ لم يَتَنَاوَلْ إلَّا الْمُسْتَثْنَى منه وَالْمُسْتَثْنَى يَحْتَمِلُ الْأَقَلَّ وَالْأَكْثَرَ فَلَا يَتَنَاوَلُ اللَّفْظُ إلَّا الْقَدْرَ الْمُتَيَقَّنَ بِهِ وهو الْأَقَلُّ
وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إلَّا رُبْعَ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَالْمَسْأَلَةُ تُخَرَّجُ من أَحَدٍ وَخَمْسِينَ النَّصِيبُ اثنا ( ( ( إثناء ) ) ) عَشَرَ وَالِاسْتِثْنَاءُ خَمْسَةٌ وَلِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ
أَمَّا تَخْرِيجُهَا على طَرِيقَةِ الْحَشْوِ فَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ وهو ثَلَاثَةٌ وَتَزِيدَ عليه وَاحِدًا فَيَصِيرُ أَرْبَعَةً فَاضْرِبْ أَرْبَعَةً في مَخْرَجِ السَّهْمِ الْمُسْتَثْنَى وهو أَرْبَعَةٌ فَتَصِيرُ سِتَّةَ عَشَرَ ثُمَّ زِدْ سَهْمًا فَتَصِيرُ سَبْعَةَ عَشَرَ هذا ثُلُثُ الْمَالِ وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ فَجُمْلَتُهُ أحد وَخَمْسُونَ هذا لِمَعْرِفَةِ أَصْلِ الْمَالِ وَأَمَّا مَعْرِفَةُ النَّصِيبِ فَهِيَ أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَ وَذَلِكَ سَهْمٌ وَتَضْرِبُهُ في مَخْرَجِ الثُّلُثِ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةً ثُمَّ تَضْرِبُ الثَّلَاثَةَ في مَخْرَجِ السَّهْمِ الْمُسْتَثْنَى وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَتَصِيرُ اثنى عَشَرَ ثُمَّ تَزِيدُ عليه سَهْمًا فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ
هذا هو النَّصِيبُ بَقِيَ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ فاعط بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ثُمَّ اسْتَرْجِعْ مِثْلَ رُبْعِ ما بَقِيَ وهو سَهْمٌ وَضُمَّهُ إلَى ما بَقِيَ فَصَارَ خَمْسَةً فَضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ فَيَبْلُغُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ فاعط لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ كما أَعْطَيْت بِالنَّصِيبِ قبل الِاسْتِرْجَاعِ
وَأَمَّا التَّخْرِيجُ على طَرِيقَةِ الْخَطَّائِينَ فَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ سِتَّةٍ لِيَبْقَى بَعْدَ اعطاء النَّصِيبِ وَالِاسْتِرْجَاعِ منه مِثْلُ رُبْعِ ما يَبْقَى فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ ثُمَّ اسْتَرْجِعْ منه مِثْلَ رُبْعِ ما يَبْقَى وَذَلِكَ سَهْمٌ وَضُمَّهُ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَتَصِيرُ سَبْعَةَ عَشَرَ وَحَاجَتُك إلَى سِتَّةٍ لِأَنَّك أَعْطَيْت بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ فَظَهَرَ أَنَّك أَخْطَأْت بِزِيَادَةِ أَحَدَ عَشَرَ فَزِدْ في النَّصِيبِ سَهْمًا تَصِيرُ ثَلَاثَةً فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةً ثُمَّ اسْتَرْجِعْ منه سَهْمًا وَضُمَّهُ مع الْبَاقِي إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَتَصِيرُ تِسْعَةَ عَشَرَ وَحَاجَتُك إلَى تِسْعَةٍ لِأَنَّك أَعْطَيْت بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةً فَظَهَرَ أَنَّك أَخْطَأْت بِزِيَادَةِ عَشَرَةٍ وَظَهَرَ أَنَّ كُلَّ سَهْمٍ زَائِدٍ يُزِيلُ خَطَأَ سَهْمٍ فَزِدْ على النَّصِيبِ قَدْرَ الْخَطَأِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ لِيَزُولَ الْخَطَأُ فَصَارَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةَ عَشْرَ ثُمَّ اسْتَرْجِعْ منه سَهْمًا وَضُمَّهُ إلَى ما بَقِيَ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ فَضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ فَتَصِيرُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ كما ذَكَرْنَا
وَلَوْ كان له خُمْسَ بَنِينَ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إلَّا ثُلُثَ وَرُبْعَ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَتَخْرِيجُ الْمَسْأَلَةِ على طَرِيقَةِ الْحَشْوِ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ خَمْسَةً وَتَزِيدَ عليها وَاحِدًا فَتَصِيرُ سِتَّةً ثُمَّ تَضْرِبُ سِتَّةً في مُخْرَجِ الْجُزْءِ الْمُسْتَثْنَى وهو مِثْلُ الثُّلُثِ وَالرُّبْعِ وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَتَصِيرُ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ ثُمَّ تَزِيدُ ثُلُثَ مُخْرَجِ الْمُسْتَثْنَى وَرُبْعَهُ وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ وَثُلُثُهُ وَرُبْعُهُ سَبْعَةٌ فَتَصِيرُ تِسْعَةً وَسَبْعِينَ فَهَذَا ثُلُثُ الْمَالِ وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ وَذَلِكَ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٍ وَخَمْسُونَ
وَأَمَّا مَعْرِفَةُ النَّصِيبِ فَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَ وَذَلِكَ سَهْمٌ وَتَضْرِبَهُ في مُخْرَجِ الثُّلُثِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةً ثُمَّ تَضْرِبُ الثَّلَاثَةَ في مُخْرَجِ السَّهْمِ الْمُسْتَثْنَى وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَتَصِيرُ سِتَّةً وثلاثين ( ( ( وثلاثة ) ) ) ثُمَّ تَزِيدُ عليه مِثْلَ ثُلُثِهِ وَرُبْعِهِ وهو سَبْعَةٌ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ فَهُوَ النَّصِيبُ بَقِيَ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ وَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ اسْتَرْجِعْ مِثْلَ ثُلُثِ ما بَقِيَ وَرُبْعِهِ بَعْدَ النَّصِيبِ وَذَلِكَ أحد وَعِشْرُونَ وَضُمَّهَا إلَى ما بَقِيَ وهو سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ فَتَصِيرُ سَبْعَةً وَخَمْسِينَ ثُمَّ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَخَمْسُونَ فَتَبْلُغُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسَةَ عَشَرَ فَأَعْطِ لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ مِثْلَ ما أَعْطَيْت بِالنَّصِيبِ قبل الِاسْتِرْجَاعِ وَلِلْمُوصَى له اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ
وَلَوْ قال إلَّا ثُلُثَ وَرُبْعَ ما بَقِيَ من الثُّلُثِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ الْحَاصِلَةِ فَتَخْرِيجُهَا على طَرِيقَةِ الْحَشْوِ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ خَمْسَةً ثُمَّ زِدْ عليه وَاحِدًا فَتَصِيرُ سِتَّةً ثُمَّ تَضْرِبُهُ في خَمْسَةٍ لِمَا بَيَّنَّا فَتَصِيرُ ثَلَاثِينَ ثُمَّ زِدْ عليه مُخْرَجَ الثُّلُثِ وَالرُّبْعِ وَذَلِكَ سَبْعَةٌ فَتَصِيرُ سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ فَهُوَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ وَسَبْعُونَ
وَأَمَّا مَعْرِفَةُ النَّصِيبِ فَخُذْ النَّصِيبَ وَذَلِكَ وَاحِدٌ وَاضْرِبْهُ في ثَلَاثَةٍ ثُمَّ ثَلَاثَةً في خَمْسَةٍ فَصَارَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ
____________________

(7/366)


ثُمَّ زِدْ عليه مِثْلَ مُخْرَجِ الثُّلُثِ وَالرُّبْعِ وهو سَبْعَةٌ فَتَصِيرُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ وَبَقِيَ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَأَعْطِ صَاحِبَ النَّصِيبِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ ثُمَّ اسْتَرْجِعْ منه مِثْلَ ثُلُثِ ما بَقِيَ وَرُبْعِهِ بَعْدَ النَّصِيبِ وَذَلِكَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ وَضُمَّهَا إلَى ما بَقِيَ من الثُّلُثِ وهو خَمْسَةَ عَشَرَ فَتَصِيرُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَسَبْعُونَ تَبْلُغُ مِائَةً وَعَشَرَةً لِكُلِّ ابْنٍ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ مِثْلُ ما أَعْطَيْت صَاحِبَ الْوَصِيَّةِ قبل الِاسْتِرْجَاعِ وَلِلْمُوصَى له دِرْهَمٌ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ تَرَكَ خَمْسَةَ بَنِينَ وقد أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَثُلُثَيْ ما بَقِيَ من الثُّلُثِ فَالثُّلُثُ سَبْعَةَ عَشَرَ وَالنَّصِيبَيْنِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَالْبَاقِي بَعْدَ النَّصِيبَيْنِ من الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ تُعْطِي ثُلُثَيْ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ سَهْمَانِ من ذلك يَبْقَى سَهْمٌ يُرَدُّ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ وَتَخْرِيجُهُ على طَرِيقَةِ الْحَشْوِ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَتَزِيدَ عليه بِالنَّصِيبَيْنِ سَهْمَيْنِ لِأَنَّ الْمُوصَى له بِالنَّصِيبَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الِابْنَيْنِ فَكَانَ البنين ( ( ( البنون ) ) ) سَبْعَةً فَتَصِيرُ الْفَرِيضَةُ من سَبْعَةٍ ثُمَّ اضْرِبْهَا في ثَلَاثَةٍ لِأَجْلِ الثُّلُثِ فَتَصِيرُ أحد ( ( ( أحدا ) ) ) وَعِشْرِينَ ثُمَّ اطْرَحْ منه أَرْبَعَةً سَهْمَيْنِ بِالْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبَيْنِ وَسَهْمَيْنِ بِثُلُثَيْ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ لِتَخْرِيجِ الْمَسْأَلَةِ فَيَبْقَى سَبْعَةَ عَشَرَ وهو الثُّلُثُ
وإذا أَرَدْت مَعْرِفَةَ النَّصِيبِ فَالْوَجْهُ فيه أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَيْنِ وَذَلِكَ سَهْمَانِ وَتَضْرِبَهُمَا في ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرَ سِتَّةً لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَنْفُذُ من الثُّلُثِ ثُمَّ اضْرِبْهُ في ثَلَاثَةٍ لِأَجْلِ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ فَيَصِيرُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ثُمَّ اطْرَحْ منه أَرْبَعَةً مِثْلَ ما طَرَحْتَ من الْأَوَّلِ يَبْقَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَهُوَ النَّصِيبَانِ يَبْقَى إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ فَأَعْطِ بِثُلُثَيْ ما بقى ( ( ( يبقى ) ) ) من الثُّلُثِ سَهْمَيْنِ يَبْقَى سَهْمٌ فَاضِلٌ عن الْوَصَايَا يُرَدُّ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ بين الْبَنِينَ الْخَمْسَةِ لِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ وهو نِصْفُ النَّصِيبَيْنِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا التَّخْرِيجُ على طَرِيقَةِ الْخَطَّائِينَ فَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ سهما ( ( ( سهاما ) ) ) لو أَعْطَيْت بِالنَّصِيبَيْنِ سَهْمَيْنِ يَبْقَى بَعْدَهُ ما يُخَرَّجُ منه ثُلُثَانِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ فَأَعْطِ بِالنَّصِيبَيْنِ سَهْمَيْنِ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ فَأَعْطِ بِثُلُثَيْ ما يَبْقَى سَهْمَيْنِ يَبْقَى سَهْمٌ يُرَدُّ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَتَصِيرُ أَحَدَ عَشَرَ وَحَاجَتُنَا إلَى خَمْسَةٍ حتى يَكُونَ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمٌ فَظَهَرَ أنه ( ( ( أنك ) ) ) أَخْطَأْت بِزِيَادَةِ سِتَّةٍ فَزِدْ في ثُلُثَيْ الْمَالِ سَهْمَيْنِ فَتَصِيرُ سَبْعَةً فَأَعْطِ بِالنَّصِيبَيْنِ أَرْبَعَةً يَبْقَى ثَلَاثَةٌ فَأَعْطِ بِثُلُثَيْ ما يَبْقَى سَهْمَيْنِ يَبْقَى سَهْمٌ فَزِدْهُ إلَى ثُلُثِ الْمَالِ وَذَلِكَ أربع ( ( ( أربعة ) ) ) عَشَرَ فَيَصِيرُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَحَاجَتُك إلَى عَشَرَةٍ لِأَنَّك أَعْطَيْت بِالنَّصِيبَيْنِ أَرْبَعَةً فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ وَهُمْ خَمْسَةٌ فَيَكُونُ لهم عَشَرَةٌ فَظَهَرَ انك أَخْطَأْت في هذه الْكَرَّةِ بِزِيَادَةِ خَمْسَةٍ وَالْخَطَأُ الْأَوَّلُ كان سِتَّةً فَمَتَى زِدْت سَهْمَيْنِ ذَهَبَ بِهِ من الْخَطَأِ سَهْمٌ فَعُلِمَ أَنَّ كُلَّ سَهْمٍ يُزَادُ على الثُّلُثِ يَذْهَبُ بِهِ سَهْمٌ من الْخَطَأِ فَيُزَادُ اثْنَا عَشَرَ على الثُّلُثِ الْأَوَّلِ وهو خَمْسَةٌ حتى يَزُولَ الْخَطَأُ كُلُّهُ فَتَصِيرُ سَبْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ الثُّلُثُ ثُمَّ الْبَاقِي إلَى آخِرِهِ
وَأَمَّا على طَرِيقَةِ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ فَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ وهو خَمْسَةٌ وَاضْرِبْهُ في الْخَطَأِ الثَّانِي وهو خَمْسَةٌ فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ وَتَأْخُذُ الثُّلُثَ الثَّانِي وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَتَضْرِبُهُ في الْخَطَأِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَتَصِيرُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ من الْأَكْثَرِ يَبْقَى سَبْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ الثُّلُثُ
وَالْوَجْهُ في مَعْرِفَةِ النَّصِيبِ أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَ الْأَوَّلَ وَذَلِكَ سَهْمَانِ وَتَضْرِبُهُ في الْخَطَأِ الثَّانِي وَذَلِكَ خَمْسَةٌ فَتَصِيرُ عَشَرَةً ثُمَّ تَضْرِبُ النَّصِيبَ الثَّانِي وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ في الْخَطَأِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ من الْأَكْثَرِ فَيَبْقَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَهُوَ النَّصِيبَانِ
وَأَمَّا على طَرِيقَةِ الْجَامِعِ الْأَكْبَرِ فَهُوَ أَنْ تُضَعِّفَ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ إلَّا النَّصِيبَيْنِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فَتَصِيرُ سِتَّةً ثُمَّ زِدْ عليه النَّصِيبَيْنِ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةً وَهَذَا هو الثُّلُثُ فَأَعْطِ بِالنَّصِيبَيْنِ سَهْمَيْنِ فَيَبْقَى سِتَّةٌ وَأَعْطِ ثُلُثَيْ ما يَبْقَى أَرْبَعَةً يَبْقَى سَهْمَانِ يُرَدُّ إلَى ثُلُثَيْ الْمَال وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ
وَحَاجَتُك إلَى خَمْسَةٍ لِأَنَّك أَعْطَيْت بِالنَّصِيبَيْنِ سَهْمَيْنِ فَيَجِب أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمٌ فَالْخَطَأُ الثَّانِي في الْجَامِعِ الْأَكْبَرِ زِيَادَةُ ثَلَاثَةٍ وَالْخَطَأُ الْأَوَّلُ في الْخَطَأَيْنِ كان زِيَادَةَ سِتَّةٍ فَخُذْ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ في الْخَطَأَيْنِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَاضْرِبْهُ في الْخَطَأِ الثَّانِي وَذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَتَصِيرَ خَمْسَةً وَسِتِّينَ وَخُذْ الثُّلُثَ الثَّانِي في الْجَامِعِ الْأَكْبَرِ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وأضربه في الْخَطَأِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ من الْأَكْثَرِ يَبْقَى سَبْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ الثُّلُثُ
وَالْوَجْهُ في مَعْرِفَةِ النَّصِيبِ أَنْ تَأْخُذَ ما جُمِعَ من الْخَطَأَيْنِ أَحَدُهُمَا سِتَّةٌ وَالْآخِرُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَاطْرَحْ الْأَقَلَّ من الْأَكْثَرِ فإذا طَرَحَتْ سِتَّةً
____________________

(7/367)


من ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَبْقَى سَبْعَةٌ فَهُوَ النَّصِيبُ
وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ ما يَبْقَى وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَالْفَرِيضَةُ من سَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ وَالثُّلُثُ تِسْعَةَ عَشَرَ وَالنَّصِيبَانِ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثُ ما يَبْقَى وَاحِدٌ
وَتَخْرِيجُهَا على طَرِيقَةِ الْحَشْوِ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ خَمْسَةً ثُمَّ زِدْ عليها النَّصِيبَيْنِ وَذَلِكَ سَهْمَانِ فَتَصِيرُ سَبْعَةً ثُمَّ اضْرِبْهَا في ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ أحد ( ( ( أحدا ) ) ) وَعِشْرِينَ ثُمَّ اطْرَحْ منها النَّصِيبَيْنِ وَذَلِكَ سَهْمَانِ يَبْقَى تِسْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ الثُّلُثُ فَقَدْ طَرَحَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في هذه الْمَسْأَلَةِ سَهْمَيْنِ وفي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ طَرَحَ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ سَهْمَيْنِ بِالنَّصِيبَيْنِ وَسَهْمَيْنِ بِثُلُثَيْ ما يَبْقَى فَعَلَى قِيَاسِ ما ذُكِرَ هُنَاكَ يَجِبُ أَنْ يَطْرَحَ هَهُنَا أَيْضًا أَرْبَعَةً
وَالْوَجْهُ في مَعْرِفَةِ النَّصِيبِ أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَيْنِ وَذَلِكَ سَهْمَانِ وَتَضْرِبْهُمَا في ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ سِتَّةً ثُمَّ تَضْرِبُ سِتَّةً في ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةَ عسر ( ( ( عشر ) ) ) ثُمَّ اطْرَحْ منه سَهْمَيْنِ يَبْقَى سِتَّةَ عَشَرَ فَهُوَ النَّصِيبُ وَبَقِيَ إلَى تَمَامِ ثُلُثِ الْمَالِ ثَلَاثَةٌ فَأَعْطِ بِثُلُثِ ما يَبْقَى ثُلُثَهُ وَذَلِكَ سَهْمٌ يَبْقَى سَهْمَانِ يُرَدُّ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ فَتَصِيرُ أَرْبَعِينَ تُقَسَّمُ بين الْبَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ
وَأَمَّا التَّخْرِيجُ على طَرِيقَةِ الْخَطَّائِينَ فَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ خَمْسَةً فَأَعْطِ بِالنَّصِيبَيْنِ سَهْمَيْنِ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ فَأَعْطِ بِثُلُثِ ما يَبْقَى سَهْمًا يَبْقَى سَهْمٌ تُرَدُّ إلَى ثلث ( ( ( ثلثي ) ) ) الْمَالِ وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَتَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ وَحَاجَتُك إلَى خَمْسَةٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّكَ أَخْطَأْتَ بِزِيَادَةِ سَبْعَةٍ فَزِدْ على الثُّلُثِ سَهْمَيْنِ فَتَصِيرُ سَبْعَةً فَأَعْطِ بِالنَّصِيبَيْنِ أَرْبَعَةً يَبْقَى ثَلَاثَةٌ فَأَعْطِ بِثُلُثِ ما يَبْقَى سَهْمًا يَبْقَى سَهْمَانِ تُضَمُّ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَتَصِيرُ سِتَّةَ عَشَرَ وَحَاجَتُك إلَى عَشَرَةٍ فَظَهَرَ أَنَّك أَخْطَأْت في هذه الْكَرَّةِ بِزِيَادَةِ سِتَّةٍ وَالْخَطَأُ الْأَوَّلُ كان زِيَادَةَ سَبْعَةٍ فَعَلِمْت أَنَّ كُلَّ سَهْمَيْنِ تُزَادُ في الثُّلُثِ تُذْهِبُ من الْخَطَأِ سَهْمًا فَزِدْ في الثُّلُثِ الْأَوَّلِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا حتى يَزُولَ الْخَطَأُ كُلُّهُ فإذا زِدْت على خَمْسَةٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ تَصِيرُ تِسْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ الثُّلُثُ ثُمَّ يَأْتِي الْكَلَامُ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا
وَالتَّخْرِيجُ على طَرِيقَةِ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ على نَحْوِ ما بَيَّنَّا فإذا مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَك أُمًّا وَابْنَتَيْنِ وَامْرَأَتَيْنِ وَعُصْبَةً وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ إحْدَى ابْنَتَيْهِ وَبِثُلُثِ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ فَالْفَرِيضَةُ من سِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَالنَّصِيبُ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثُ الْبَاقِي اثْنَانِ وَلِلْبِنْتَيْنِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ وَلِلْأُمِّ ثَمَانِيَةٌ وَلِلْمَرْأَةِ سِتَّةٌ وَلِلْعَصَبَةِ سَهْمَانِ
هَكَذَا أخرجها ( ( ( خرجها ) ) ) مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْأَصْلِ وَمَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ خَرَّجُوهَا من نِصْف ما خَرَّجَهَا في الْكِتَابِ من غَيْرِ كَسْرٍ وهو ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ
وَطَرِيقُ هذا التَّخْرِيجِ أَنَّ أَصْلَ هذه الْفَرِيضَةِ من أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِحَاجَتِك إلَى الثُّمْنِ وَالثُّلُثَيْنِ وَالسُّدُسِ فَلِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْعَصَبَةِ سَهْمٌ فَالْبِنْتَانِ يَسْتَحِقَّانِ السَّهْمَيْنِ وهو الثُّلُثَانِ وَالْبَاقُونَ يَسْتَحِقُّونَ سَهْمًا وَاحِدًا وهو الثُّلُثُ فَصَارَ في الْمَعْنَى كَأَنَّ عَدَدَ الْوَرَثَةِ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّ سِهَامَهُمْ ثَلَاثَةٌ فَاجْعَلْ كَأَنَّ له ثَلَاثَةَ بَنِينَ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَبِثُلُثِ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ
وَلَوْ كان هَكَذَا فَالْجَوَابُ سَهْلٌ وهو أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ ثَلَاثَةً وَتَزِيدَ عليها سَهْمًا لِأَجْلِ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى وَتَضْرِبَهَا في ثَلَاثَةٍ لِأَجْلِ الْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ فَتَصِيرَ اثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ اطْرَحْ منها سَهْمًا لِأَجْلِ الْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ فَيَصِيرُ ثُلُثُ الْمَالِ أَحَدَ عَشَرَ وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ وَذَلِكَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ فَتَصِيرُ جُمْلَةُ الْمَالِ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَالنَّصِيبُ سَهْمٌ وَاحِدٌ مَضْرُوبٌ في ثَلَاثَةٍ ثُمَّ في ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ تِسْعَةً ثُمَّ اطْرَحْ منها سَهْمًا فَيَبْقَى ثَمَانِيَةٌ فَأَعْطِ لِصَاحِبِ النَّصِيبِ ثَمَانِيَةً وَأَعْطِ ثُلُثَ ما يَبْقَى وَذَلِكَ سَهْمٌ وَاحِدٌ فَتَصِيرُ تِسْعَةً وَبَقِيَ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ سَهْمَانِ ضُمَّهَا إلَى الثُّلُثَيْنِ وهو اثْنَانِ وَعِشْرُونَ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَمَانِيَةٌ مِثْلُ ما أَعْطَيْت لِصَاحِبِ النَّصِيبِ وَلِلْأُمِّ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْعَصَبَةِ سَهْمٌ فَخُرِّجَتْ الْمَسْأَلَةُ من نِصْفِ ما خُرِّجَ في الْكِتَابِ
وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ إحْدَى الْبِنْتَيْنِ إلَّا ثُلُثَ ما يبقى ( ( ( بقي ) ) ) من الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَالْفَرِيضَةُ من سِتِّمِائِةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ وَالنَّصِيبُ مِائَةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثُ الْبَاقِي سِتَّةَ عَشَرَ وَطَرِيقُ التَّخْرِيجِ أَنْ تَجْعَلَ كَأَنَّ عَدَدَ الْوَرَثَةِ ثَلَاثَةٌ زِدْ عليها سَهْمًا لِأَجْلِ الْوَصِيَّةِ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً ثُمَّ اضْرِبْ أَرْبَعَةً في ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ زِدْ عليها سَهْمًا تصير ( ( ( فتصير ) ) ) ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَاجْعَلْ هذا ثُلُثَ الْمَالِ وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ فَتَصِيرُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ وَالنَّصِيبُ سَهْمٌ في ثَلَاثَةٍ ثُمَّ في ثَلَاثَةٍ فَذَلِكَ تِسْعَةٌ ثُمَّ زِدْ عليها سَهْمًا فَتَصِيرُ عَشَرَةً ثُمَّ اسْتَثْنِ منها سَهْمًا مِثْلَ ثُلُثِ ما يَبْقَى وَضُمَّهُ إلَى ما بَقِيَ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً ثُمَّ ضُمَّ الْأَرْبَعَةَ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ فَتَصِيرُ ثَلَاثِينَ لِكُلِّ بِنْتٍ عَشَرَةٌ مِثْلُ ما أُعْطِيت قبل الِاسْتِثْنَاءِ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ خَمْسَةٌ بَقِيَ خَمْسَةٌ
____________________

(7/368)


بين الْمَرْأَةِ وَالْعَصَبَةِ أَرْبَاعًا لِأَنَّ حَقَّ الْمَرْأَةِ في ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَحَقَّ الْعَصَبَةِ في سَهْمٍ فَيَكُونُ حَقُّهَا ثَلَاثَةَ أَضْعَافِ حَقِّ الْعَصَبَةِ فَإِنْ رَضِيَتْ بِالْكَسْرِ فَاجْعَلْ الْخَمْسَةَ الْبَاقِيَةَ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا وَإِنْ لم تَرْضَ فَاضْرِبْ أَصْلَ الْحِسَابِ في أَرْبَعَةٍ فَتَكُونُ مِائَةً وَسِتَّةً وَخَمْسِينَ منها تُخَرَّجُ السِّهَامُ على الصِّحَّةِ وهو رُبْعُ ما خَرَّجَهُ مُحَمَّدٌ في الْكِتَابِ
وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ الْمَرْأَةِ وَبِثُلُثِ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ فَالْفَرِيضَةُ من مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعَةٍ وَثَلَاثِينَ وَالنَّصِيبُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَثُلُثُ الْبَاقِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ
وَطَرِيقُهُ أَنْ تَجْعَلَ كَأَنَّ عَدَدَ الْوَرَثَةِ ثَمَانِيَةٌ لِأَنَّ السِّهَامَ ثَمَانِيَةٌ فَكَأَنَّهُ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ فَزِدْ عليه سَهْمًا فَتَصِيرُ تِسْعَةً ثُمَّ اضْرِبْهَا في ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ اطْرَحْ منها سَهْمًا فَيَبْقَى سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ فَهَذَا ثُلُثُ الْمَالِ وَجَمِيعُ الْمَالِ ثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ وَالنَّصِيبُ سَهْمٌ مَضْرُوبٌ في ثَلَاثَةٍ ثُمَّ في ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ تِسْعَةً ثُمَّ اطْرَحْ منها سَهْمًا فَيَبْقَى ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثُ ما يَبْقَى سِتَّةٌ فَيَبْقَى اثْنَا عَشَرَ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ وَذَلِكَ اثْنَانِ وَخَمْسُونَ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً وَسِتِّينَ لِلْمَرْأَةِ منها ثَمَانِيَةٌ وَتَبَيَّنَ أَنَّكَ أَعْطَيْت لِلْمُوصَى له بِمِثْلِ نَصِيبِهَا مِثْلَ نَصِيبِهَا ثَمَانِيَةً فَيَبْقَى سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ لَا تَسْتَقِيمُ بين الْأُمِّ وَالْبِنْتَيْنِ وَالْعَصَبَةُ لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْبِنْتَيْنِ ثُلُثَا أَرْبَعَةٍ وَسِتِّينَ وَلَيْسَ لها ثُلُثٌ صَحِيحٌ وَلِلْأُمِّ سُدُسُهَا وَلَيْسَ لها سُدُسٌ صَحِيحٌ أَيْضًا غير أَنَّ بين مُخْرَجِ السُّدُسِ وَحِسَابِنَا مُوَافَقَةٌ بِنِصْفٍ وَنِصْفٍ فَاضْرِبْ أَحَدَهُمَا في وَفْقِ الْآخَرِ وهو ثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ في ثلاث فَيَبْلُغُ الْحِسَابُ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ كما قال في الْكِتَابِ
فَكُلُّ من كان له سَهْمٌ في الْحِسَابِ الْأَوَّلِ صَارَ له ثَلَاثَةٌ في الْحِسَابِ الثَّانِي كان حَقُّ الْمُوصَى له في ثَمَانِيَةٍ فَصَارَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَحَقُّ الْبِنْتَيْنِ في اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ فَصَارَ مِائَةً وَثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ وَحَقُّ الْأُمِّ في عَشَرَةٍ وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ مَضْرُوبًا في ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَحَقُّ الْعَصَبَةِ في دِرْهَمَيْنِ وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ مضروبا ( ( ( مضروب ) ) ) في ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ
وَلَوْ كان لِرَجُلٍ خمس ( ( ( خمسة ) ) ) بَنِينَ فَأَوْصَى لِأَحَدِهِمْ بِكَمَالِ الرُّبُعِ بِنَصِيبِهِ وَلِآخَرَ بِثُلُثِ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ فَأَجَازُوا فَالْفَرِيضَةُ من اثْنَيْ عَشَرَ النَّصِيبُ إثنان وَتَكْمِلَةُ الرُّبْعِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَثُلُثُ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ صَحِيحَةٌ عِنْدَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَتَفَاوُتُ ما بين نَصِيبِهِ وَالرُّبْعِ سَهْمٌ لِأَنَّهُ لو لم يَكُنْ هَهُنَا وَصِيَّةٌ لِأَجْنَبِيٍّ لَكَانَ له الرُّبْعُ وَالْبَاقِي بين الْبَنِينَ والأربعة ( ( ( الأربعة ) ) ) أَرْبَاعًا فَاحْتَجْنَا إلَى حِسَابٍ له رُبْعٌ وَلِبَاقِيهِ رُبْعٌ وَأَقَلُّهُ سِتَّةَ عَشَرَ فَيُعْطَى له رُبْعُ الْمَالِ أَرْبَعَةٌ وَالْبَاقِي بين الْبَنِينَ الْأَرْبَعَةِ أَرْبَاعًا لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةٌ وَلَهُ أَرْبَعَةٌ فَتَبَيَّنَّ أَنَّهُ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا سَهْمًا فإذا أَوْصَى لِغَيْرِهِ بِثُلُثِ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ فَخُذْ حِسَابًا له ثُلُثٌ وَرُبْعٌ وَأَقَلُّهُ اثْنَا عَشَرَ فَثُلُثُهُ أَرْبَعَةٌ وَرُبْعُهُ ثَلَاثَةٌ فَأَعْطِ لِلْمُوصَى له بِكَمَالِ الرُّبْعِ سَهْمَانِ وَلِلْآخَرِ سَهْمًا لِأَنَّ ثُلُثَ ما يَبْقَى من الثُّلُثِ بَعْدَ كَمَالِ الرُّبْعِ سَهْمٌ بَقِيَ اثْنَانِ ضُمَّهُمَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ فَتَصِيرُ بين الْبَنِينَ الْخَمْسَةِ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ
فَتَبَيَّنَّ أَنَّا إذَا أَعْطَيْنَا له رُبْعَ الْمَالِ فَنَصِيبُهُ بِنَصِيبِهِ سَهْمَانِ مِثْلُ ما أَصَابَ هَؤُلَاءِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا التَّقْدِيرُ بِثُلُثِ الْمَالِ إذَا كان هُنَاكَ وَارِثٌ ولم يُجِزْ الزِّيَادَةَ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ على الثُّلُثِ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ الذي هو من أَهْلِ الْإِجَازَةِ
وَالْأَصْلُ في اعْتِبَارِ هذا الشَّرْطِ ما رَوَيْنَا من حديث سَعْدٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لِرَسُولِ اللَّهِ أُوصِي بِجَمِيعِ مَالِي فقال لَا
فقال فَبِثُلُثَيْهِ فقال لَا
فقال فَبِنِصْفِهِ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا
قال فَبِثُلُثِهِ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إنَّك أن تَدَعْ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لك من أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ الناس
وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ في آخِرَ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً في أَعْمَالِكُمْ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَالِ إيجَابُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ حَقُّ الْوَرَثَةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَالِهِ إلَّا في قَدْرِ الثُّلُثِ فَالْوَصِيَّةُ بِالزِّيَادَةِ على الثُّلُثِ تَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّهِمْ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ من غَيْرِ إجَازَتِهِمْ وَسَوَاءٌ كانت وَصِيَّتُهُ في الْمَرَضِ أو في الصِّحَّةِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابٌ مُضَافٌ إلَى زَمَانِ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ وَقْتُ الْمَوْتِ لَا وَقْتُ وُجُودِ الْكَلَامِ وَاعْتِبَارُهَا وَقْتَ الْمَوْتِ يُوجِبُ اعْتِبَارَهَا من الثُّلُثِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ وَقْتُ تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِالتَّرِكَةِ إذْ الْمَوْتُ لَا يَخْلُو عن مُقَدِّمَةِ مَرَضٍ وَحَقُّهُمْ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ في مَرَضِ مَوْتِهِ إلَّا في الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى وهو الثُّلُثُ
فَرْقٌ بين الْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا من التَّبَرُّعَاتِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَاكَ وَقْتَ الْعَقْدِ فَإِنْ كان صَحِيحًا تَجُوزُ في جَمِيعِ مَالِهِ وَإِنْ كان مَرِيضًا لَا تَجُوزُ إلَّا في الثُّلُثِ لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إيجَابُ الْمِلْكِ
____________________

(7/369)


لِلْحَالِ فتعتبر ( ( ( فيعتبر ) ) ) فِيهِمَا حَالَ الْعَقْدِ فإذا كان صَحِيحًا فَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ في مَالِهِ فَيَجُوزُ من جَمِيعِ الْمَالِ وإذا كان مَرِيضًا كان حَقُّ الْوَرَثَةِ مُتَعَلِّقًا بِمَالِهِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا في قَدْرِ الثُّلُثِ
وَكَذَا الاعتاق في مَرَضِ الْمَوْتِ وَالْبَيْعُ وَالْمُحَابَاةُ قَدْرَ ما لَا يَتَغَابَنُ الناس فيه وابراء الْغَرِيمِ وَالْعَفْوُ عن دَمِ الْخَطَأِ يُعْتَبَرُ ذلك كُلُّهُ من الثُّلُثِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ فِيمَا وَرَاءَ الثُّلُثِ
وَيَجُوزُ الْعَفْوُ عن دَمِ الْعَمْدِ وَلَا يُعْتَبَرُ فيه الثُّلُثُ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ وَالْقِصَاصُ ليس بِمَالٍ
وَكَذَا إنْ شَاءَ الْكَفَالَةَ بِالدِّينِ في حَالِ الْمَرَضِ وَضَمَانِ الدَّرْكِ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِالْتِزَامِ الدَّيْنِ فَيُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ كما تُعْتَبَرُ الْهِبَةُ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فيه كما يُتَّهَمُ في الْهِبَةِ
وَلَوْ أَقَرَّ في مَرَضِهِ بِكَفَالَتِهِ بِالدَّيْنِ حَالَ صِحَّتِهِ فَحُكْمُ هذا الدَّيْنِ حُكْمُ دَيْنِ الْمَرَضِ حتى لَا يُصَدَّقَ في حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَيَكُونُ الْمَكْفُولُ له مع غُرَمَاءِ الْمَرَضِ سَوَاءً وَلَوْ كَفَلَ في صِحَّتِهِ وَأَضَافَ ذلك إلَى ما يُسْتَقْبَلُ بِأَنْ قال لِلْمَكْفُولِ له كُفِلْتَ بِمَا يَذُوبُ لَك على فُلَانٍ ثُمَّ وَجَبَ له على فُلَانٍ دِينٌ في حَالِ مَرَضِ الْكَفِيلِ فَحُكْمُ هذا الدِّينِ وَحُكْمُ دَيْنِ الصِّحَّةِ سَوَاءٌ حتى يَضْرِبَ الْمَكْفُولُ له بِجَمِيعِ ما يَضْرِبُ بِهِ غَرِيمُ الصِّحَّةِ لِأَنَّ الْكَفَالَة وُجِدَتْ في حال ( ( ( حالة ) ) ) الصِّحَّةِ
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ أَوْصَى لِأُمِّ وَلَدِهِ في حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ أَنَّهُ مِيرَاثٌ
وَلَوْ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ لها بِوَصِيَّةٍ فَهِيَ لها من الثُّلُثِ
وَالْأَوَّلُ مَحْمُولٌ على ما إذَا أَعْطَاهَا شيئا في حَيَاتِهِ على وَجْهِ الْهِبَةِ لِأَنَّ الْهِبَةَ منها لَا تُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً لِكَوْنِهَا تَمْلِيكًا وَهِيَ لَيْسَتْ من أَهْلِ الْمِلْك لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ
وَالثَّانِي يجري على ظَاهِرِهِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَالِ إيجَابُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ عِنْدَ الْمَوْتِ من أَهْلِ الْمِلْكِ لِكَوْنِهَا حُرَّةً فَكَانَتْ من أَهْلِ الْوَصِيَّةِ لها
وَلَوْ أَوْصَى بِمَا زَادَ على الثُّلُثِ وَلَا وَارِثَ له تَجُوزُ من جَمِيعِ الْمَالِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَجُوزُ إلَّا من الثُّلُث وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا في كِتَابِ الْوَلَاءِ
وَكَذَلِكَ إذَا كان له وَارِثٌ وَأَجَازَ الزِّيَادَةَ على الثُّلُثِ لِأَنَّ امْتِنَاع النَّفَاذِ في الزِّيَادَةِ لَحِقَهُ وَإِلَّا فَالْمَنْفَذُ لِلتَّصَرُّفِ وهو الْمِلْكُ قَائِمٌ فإذا أَجَازَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ ثُمَّ إذَا جَازَتْ بِإِجَازَتِهِ فَالْمُوصَى له يَمْلِكُ الزِّيَادَةَ من قِبَلِ الْمُوصِي لَا من قِبَلِ الْوَارِثِ فَالزِّيَادَةُ جَوَازُهَا جَوَازُ وَصِيَّتِهِ من الموصى لَا جَوَازُ عَطِيَّةٍ من الْوَارِثِ
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَازُهَا جَوَازُ هِبَةٍ وَعَطِيَّةٍ حتى يَقِفَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فيها على الْقَبْضِ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا يَقِفُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ النَّفَاذَ لَمَّا وَقَفَ على إجَازَةِ الْوَارِثِ فَدَلَّ أَنَّ الْإِجَازَةَ هِبَةٌ منه وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الْوَارِثَ لو أَجَازَ الْوَصِيَّةَ في مَرَضِ مَوْتِهِ تُعْتَبَرُ إجَازَتُهُ من ثُلُثِهِ فثبت ( ( ( وثبت ) ) ) أَنَّ التَّمْلِيكَ منه
وَلَنَا أَنَّ الْمُوصِيَ بِالْوَصِيَّةِ مُتَصَرِّفٌ في مِلْكِ نَفْسِهِ وَالْأَصْلُ فيه النَّفَاذُ لِصُدُورِ التَّصَرُّفِ من الْأَهْلِ في الْمَحِلِّ وَإِنَّمَا الِامْتِنَاعُ لِمَانِعٍ وهو حَقُّ الْوَارِثِ فإذا أَجَازَ فَقَدْ أَزَالَ الْمَانِعَ وَيَنْفُذُ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ لَا بِإِزَالَةِ الْمَانِعِ لِأَنَّ إزَالَتَهُ شَرْطٌ وَالْحُكْمُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ لَا إلَى الشَّرْطِ وَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ على السَّبَبِ في الْحَقِيقَةِ لَا على الشَّرْطِ لِأَنَّ الشُّرُوطَ كُلَّهَا شُرُوطُ الْأَسْبَابِ لَا شُرُوطُ الْأَحْكَام على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ وقد خُرِّجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذُكِرَ
وَأَمَّا إجَازَتُهُ في مَرَضِ مَوْتِهِ فَإِنَّمَا اُعْتُبِرَتْ من ثُلُثِهِ لَا لِكَوْنِ الْإِجَازَةِ منه تَمْلِيكًا وَإِيجَابًا لِلْمِلْكِ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ لَا تنبىء عن التَّمْلِيكِ بَلْ هِيَ إزَالَةُ الْمَانِعِ عن وُقُوعِ التَّصَرُّفِ تَمْلِيكًا بِإِسْقَاطِ الْحَقِّ عن مَالِ التَّصَرُّفِ وهو مُتَبَرِّعٌ في هذا الْإِسْقَاطِ فَيُعْتَبَرُ تَبَرُّعُهُ من الثُّلُثِ كما يُعْتَبَرُ تَبَرُّعُهُ بِالتَّمْلِيكِ بِالْهِبَةِ من الثُّلُثِ فَإِنْ أَجَازَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ وَرَدَّ بَعْضُهُمْ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ بِقَدْرِ حِصَّةِ الْمُجِيزِ منهم وَبَطَلَتْ بِقَدْرِ أَنْصِبَاءِ الرَّادِّينَ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم وِلَايَةَ الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ في قَدْرِ حِصَّتِهِ فَتَصَرُّفُ كل وَاحِدٍ منهم في نَصِيبِهِ صَدَرَ عن وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَيَنْفُذُ ثُمَّ إنَّمَا تُعْتَبَرُ إجَازَةُ من أَجَازَ إذَا كان الْمُجِيزُ من أَهْلِ الْإِجَازَةِ بِأَنْ كان بَالِغًا عَاقِلًا فَإِنْ كان مَجْنُونًا أو صَبِيًّا لَا يَعْقِلُ لَا تُعْتَبَرُ إجَازَتُهُ فَإِنْ كان عَاقِلًا بَالِغًا لَكِنَّهُ مَرِيضٌ مَرَضَ الْمَوْتِ جَازَتْ إجَازَتُهُ
ثُمَّ إنْ كان الْوَارِثُ وَاحِدًا كانت إجَازَتُهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْوَصِيَّةِ حتى لو كان الْمُوصَى له وَارِثَهُ لَا تَجُوزُ إجَازَتُهُ إلَّا أَنْ تُجِيزَهَا وَرَثَةُ الْمَرِيضِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنْ كان أَجْنَبِيًّا تَجُوزُ إجَازَتُهُ وَتُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ ثُمَّ وَقْتُ الْإِجَازَةِ هو ما بَعْدَ مَوْتِ الموصى
وَلَا تُعْتَبَرُ الْإِجَازَةُ حَالَ حَيَاتِهِ
حتى أنهم لو أَجَازُوا في حَيَاتِهِ لهم أَنْ يَرْجِعُوا عن ذلك بَعْدَ مَوْتِهِ
وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال ابن أبي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَجُوزُ إجَازَتُهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ وَحَالَ حَيَاتِهِ
وإذا أَجَازُوا في حَيَاتِهِ فَلَيْسَ لهم أَنْ يَرْجِعُوا بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُمْ إذَا أَجَازُوا بَعْدَ مَوْتِهِ ليس لهم أَنْ
____________________

(7/370)


يَرْجِعُوا بَعْدَ ذلك
وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ أبي لَيْلَى أَنَّ إجَازَتَهُمْ في حَالِ الْحَيَاةِ صَادَفَتْ مَحِلَّهَا لِأَنَّ حَقَّهُمْ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ في مَرَضِ مَوْتِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ كَوْنُ هذا الْمَرَضِ مَرَضَ الْمَوْتِ إلَّا بِالْمَوْتِ فإذا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كان مَرَضَ الْمَوْتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ حَقَّهُمْ كان مُتَعَلِّقًا بِمَالِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَسْقَطُوا حَقَّهُمْ بِالْإِجَازَةِ فَجَازَتْ إجَازَتُهُمْ
وَلَنَا إن حَقَّهُمْ إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْلَمُ بِكَوْنِ الْمَرَضِ مَرَضَ الْمَوْتِ عِنْد الْمَوْتِ فإذا مَاتَ الْآنَ عُلِمَ كَوْنُهُ مَرَضَ الْمَوْتِ فَيَثْبُتُ حَقُّهُمْ الْآنَ إلَّا أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ حَقُّهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ اسْتَنَدَ الْحَقُّ الثَّابِتُ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ وَالِاسْتِنَادُ إنَّمَا يَظْهَرُ في الْقَائِمِ لَا في الْمَاضِي وَإِجَازَتُهُمْ قد مَضَتْ لَغْوًا ضَائِعًا لِانْعِدَامِ الْحَقِّ حَالَ وُجُودِهَا فَلَا تَلْحَقُهَا الْإِجَازَةُ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ لَا يَثْبُتُ في حَالِ الْمَرَضِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ أَنَّ الْمَرِيضَ يَحِلُّ له أَنْ يَطَأَ جَارِيَتَهُ
وَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ عِنْدَ الْمَوْتِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ لَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وطىء مِلْكَ غَيْرِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كان حَرَامًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ على أَنَّ في إثْبَاتِ الْحَقِّ في الْمَرَضِ على طَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ إبْطَالَ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ الْحَقِّ لِلْحَالِ لِإِبْطَالِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ اعْتِبَارُهُ من طَرِيقِ الِاسْتِنَادِ فَيَظْهَرُ في الْقَائِمِ لَا في الْمَاضِي
وَلَوْ أَوْصَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ من مَالِ رَجُلٍ أو عَبْدٍ أو شَيْءٍ آخَرَ له فَأَجَازَهُ ذلك الرَّجُلُ قبل مَوْتِهِ أو بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عنه ما لم يَدْفَعْهُ إلَى الْمُوصَى له فإذا دَفَعَهُ إلَيْهِ جَازَ لِأَنَّ جَوَازَهُ ليس بِجَوَازِ وَصِيَّتِهِ إذْ لَا وِلَايَةَ على مَالِ الْغَيْرِ وَإِنَّمَا جَوَازُهُ جَوَازُ هِبَةٍ من صَاحِبِ الْمَالِ فلم تَكُنْ إجَازَتُهُ أجازة إسْقَاطِ حَقٍّ بَلْ هو عَقْدُ هِبَةٍ منه لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمُوصِي صَادَفَ مِلْكَ غَيْرِهِ فَوَقَفَ على إجَازَتِهِ فإذا أَجَازَهُ الْغَيْرُ فَوَقَعَ هِبَةً من جِهَتِهِ لَا وَصِيَّةً من الْمُوصِي كَأَنَّهُ وَهَبَهُ ابْتِدَاءً فَإِنْ سَلَّمَ جَازَتْ الْهِبَةُ وَإِلَّا فَلَا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ على الثُّلُثِ إذَا أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ أنها تَجُوزُ وَلَا يُشْتَرَطُ فيها التَّسْلِيمُ إلَى الْمُوصَى له لِأَنَّ التَّصَرُّفَ هُنَاكَ وَقَعَ وَصِيَّةً لِمُصَادِفَتِهِ مِلْكَ نَفْسِهِ فَلَا يُفْتَقَرُ إلَى التَّسْلِيمِ وَإِنَّمَا يُفْتَقَرُ إلَى الْإِجَازَةِ فإذا وُجِدَتْ الْإِجَازَةُ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ وَنُفِّذَتْ وَسَوَاءٌ كان الْمُوصَى بِهِ جُزْءًا مُسَمًّى كَالثُّلُثِ وَالنِّصْفِ أو كان جَمِيعَ الْمَالِ أو كان عَيْنًا مُشَارًا إلَيْهَا بِأَنْ أَوْصَى بِعَبْدٍ له أو ثَوْبٍ له أنه يُعْتَبَرُ في ذلك كُلِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كان يُخْرِجُ من ثُلُثِ جَمِيعِ مَالِهِ فَهُوَ له وَإِنْ كان لَا يُخْرِجُ فَلَهُ منه قَدْرُ ما يُخْرِجُ
وَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ آخَرُ فَلَهُ ثُلُثُهُ وَالثُّلُثَانِ لِلْوَرَثَةِ وَسَوَاءٌ كانت الْوَصِيَّةُ وَاحِدَةً أو اجْتَمَعَتْ الْوَصَايَا أنه يُنَفَّذُ الْكُلُّ من الثُّلُثِ إنْ أَمْكَنَ تَنْفِيذُ الْكُلِّ منه وَإِنْ لم يُمْكِنْ وَضَاقَ الثُّلُثُ عن الْكُلِّ يَتَضَارَبُ فيه وَيُقَدَّمُ الْبَعْضُ على الْبَعْضِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ التَّقَدُّمِ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إن الْوَصَايَا إذَا اجْتَمَعَتْ فَالثُّلُثُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كان يَسَعُ كُلَّ الْوَصَايَا وَإِمَّا أَنْ لَا يَسَعَ الْكُلَّ فَإِنْ كان يَسَعُ الْكُلَّ تُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ من الثُّلُثِ في الْكُلِّ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَعَلَّقَتْ بِالْكُلِّ وَأَمْكَنَ تَنْفِيذُهَا في الْكُلِّ فَتُنَفَّذُ سَوَاءٌ كانت الْوَصَايَا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَالْوَصِيَّةِ بِالْقُرَبِ من الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ الْفَرْضِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةَ وَحَجِّ التَّطَوُّعِ وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَإِعْتَاقِ النَّسَمَةِ وَذَبْحِ الْبَدَنَةِ وَنَحْوِ ذلك
أو كانت العباد ( ( ( للعباد ) ) ) كَالْوَصِيَّةِ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبِكْرٍ وَخَالِدٍ
وَكَذَلِكَ لو كان الثُّلُث لَا يَسَعُ الْكُلَّ لَكِنْ الْوَرَثَةُ أَجَازَتْ
فَأَمَّا إذَا كان الثُّلُثُ لَا يَسَعُ ولم تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَالْوَصَايَا لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كانت كُلُّهَا لِلَّهِ تَعَالَى عز وجل وَهِيَ الْوَصِيَّةُ بِالْقُرَبِ أو كان بَعْضُهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَالْبَعْضُ لِلْعِبَادِ
فَإِنْ كان الْكُلُّ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كان الْكُلُّ فَرَائِضَ أو وَاجِبَاتٍ أو نَوَافِلَ أو اجْتَمَعَ في الْوَصَايَا من كل جِنْسٍ من الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالتَّطَوُّعَاتِ فَإِنْ كان الْكُلُّ فَرَائِضَ مُتَسَاوِيَةً يَبْدَأُ بِمَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي لِأَنَّ عِنْدَ تساويها ( ( ( تساويهما ) ) ) لَا يُمْكِنُ التَّرْجِيحُ بِالذَّاتِ فَيُرَجَّحُ بِالْبِدَايَةِ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ دَلِيلُ اهْتِمَامِهِ بِمَا بَدَأَ بِهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَبْدَأُ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ عَادَةً
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عن أبي يُوسُفَ في الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ رُوِيَ عنه أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْحَجِّ وَإِنْ أَخَّرَهُ الْمُوصِي في الذِّكْرِ
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالزَّكَاةِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَالزَّكَاةُ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ وَالْعِبَادَةُ الْبَدَنِيَّةُ أَوْلَى لِأَنَّ النَّفْسَ أَنْفَسُ وَأَعَزُّ من الْمَالِ فَكَانَ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِأَعَزِّ الْأَشْيَاءِ وَأَنْفَسِهَا عِنْدَهُ فَكَانَ أَقْوَى فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِهِ أَوْلَى على أَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لها تَعَلُّقٌ بِالْمَالِ وَالزَّكَاةُ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ لَا تَعَلُّقَ لها بِالْبَدَنِ فَكَانَ الْحَجُّ أَقْوَى فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّقَدُّمِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْحَجَّ تَمَحَّضَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَالزَّكَاةُ يَتَعَلَّقُ بها حَقُّ الْعَبْدِ فَيُقَدَّمُ لِحَاجَةِ الْعَبْدِ وغنا ( ( ( وغنى ) ) ) اللَّهِ عز وجل
وَقَالُوا في الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ إنَّهُمَا
____________________

(7/371)


يُقَدَّمَانِ على الْكَفَّارَاتِ لِأَنَّهُمَا وَاجِبَانِ بِإِيجَابِ اللَّهِ ابْتِدَاءً من غَيْرِ تَعَلُّقِ وُجُوبِهِمَا بِسَبَبٍ من جِهَةِ الْعَبْدِ وَالْكَفَّارَاتُ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِأَسْبَابٍ تُوجَدُ من الْعَبْدِ من الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِين وَالْوَاجِبُ ابْتِدَاءً أَقْوَى فَيُقَدَّم وَالْكَفَّارَاتُ مُتَقَدِّمَة على صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِأَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ وَالْكَفَّارَاتُ فَرَائِضُ والفرص ( ( ( والفرض ) ) ) مُقَدَّمٌ على الْوَاجِبِ وَلِأَنَّ هذه الْكَفَّارَاتِ مَنْصُوصٌ عليها في الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَلَا نَصَّ في الْكِتَابِ على صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَإِنَّمَا عُرِفَتْ بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ فَكَانَ الْمَنْصُوصُ عليه في الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَقْوَى فَكَانَ أَوْلَى وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مُقَدَّمَةٌ على الْأُضْحِيَّةَ وَإِنْ كانت الْأُضْحِيَّةَ أَيْضًا وَاجِبَةً عِنْدَنَا لَكِنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ مُتَّفَقٌ على وُجُوبِهَا وَالْأُضْحِيَّةَ وُجُوبُهَا مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فَالْمُتَّفَقُ على الْوُجُوبِ أَقْوَى فَكَانَ بِالْبِدَايَةِ أَوْلَى
وَكَذَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ مُقَدَّمَةٌ على كَفَّارَةِ الْفِطْرِ في رَمَضَانَ لِأَنَّ وُجُوبَ تِلْكَ الْكَفَّارَةِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ ثَبَتَ وُجُوبُهَا بِأَخْبَارٍ مَشْهُورَةٍ وَالثَّابِتُ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ أَقْوَى فَيُقَدَّمُ
وَقَالُوا إنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تُقَدَّمُ على الْمَنْذُورِ بِهِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ابْتِدَاءً وَالْمَنْذُورُ بِهِ وَجَبَ بِإِيجَابِ الْعَبْدِ وقد تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ أَيْضًا بِسَبَبِ مُبَاشَرَةِ الْعَبْدِ فَتُقَدَّمُ الصَّدَقَةُ
وَالْإِشْكَالُ عليه إن صَدَقَةَ الْفِطْرِ من الْوَاجِبَاتِ لَا من الْفَرَائِضِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ بَلْ بِدَلِيلٍ فيه شُبْهَةُ الْعَدَمِ وَلِهَذَا لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ
وَالْوَفَاءُ بِالْمَنْذُورِ بِهِ فَرْضٌ لأن وُجُوبَهُ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وهو النَّصُّ الْمُفَسَّرُ من الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } وَالْفَرْضُ مُقَدَّمٌ على الْوَاجِبِ وَلِهَذَا يَكْفُرُ جَاحِدُ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ
وفي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل دَلِيلٌ عليه وهو قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَمِنْهُمْ من عَاهَدَ اللَّهَ لئن ( ( ( لإن ) ) ) آتَانَا من فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ من الصَّالِحِينَ فلما آتَاهُمْ من فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا في قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } وَالْمَنْذُورُ بِهِ مُقَدَّمٌ على الْأُضْحِيَّةَ لِأَنَّهُ وَاجِبُ الْوَفَاءِ بِيَقِينٍ وفي وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةَ شُبْهَةُ الْعَدَمِ لِكَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ وَالْأُضْحِيَّةُ تُقَدَّمُ على النَّوَافِلِ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَسُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَهُمَا وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْوَاجِبُ وَالسُّنَّةُ الْمُؤَكَّدَةُ أَوْلَى من النَّافِلَةِ فَالظَّاهِرُ من حَالِ الْمُوصِي أَنَّهُ قَصَدَ تَقْدِيمَهَا على النَّافِلَةِ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَهُ سَهْوًا فَيُقَدَّمُ بِدَلَالَةِ حَالَةِ التَّقْدِيمِ وَإِنْ أَخَّرَهُ بِالذِّكْرِ على سَبِيلِ السَّهْوِ
هذا الذي ذَكَرْنَا إذَا لم يَكُنْ في الْوَصَايَا بِالْقُرَبِ إعْتَاقٌ مُنَجَّزٌ وهو الْإِعْتَاقُ في مَرَضِ الْمَوْتِ أو إعْتَاقٌ مُعَلَّقٌ بِالْمَوْتِ وهو التَّدْبِيرُ فَإِنْ كان تَقَدَّمَ ذلك لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ الْمُنَجَّزَ وَالْمُعَلَّقَ بِالْمَوْتِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَكَانَ أَقْوَى فَيُقَدَّمُ
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْإِعْتَاقِ فَإِنْ كان إعْتَاقًا وَاجِبًا في كَفَّارَةٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكَفَّارَاتِ وقد ذَكَرْنَا ذلك وَإِنْ لم يَكُنْ وَاجِبًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْوَصَايَا الْمُتَنَفَّلِ بها من الصَّدَقَةِ على الْفُقَرَاءِ وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَحَجِّ التَّطَوُّعِ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْإِعْتَاقِ يَلْحَقُهَا الْفَسْخ كما يَلْحَقُ سَائِرَ الْوَصَايَا فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْإِعْتَاقِ غير وَاجِبَةٍ مِثْلَ سَائِرِ الْوَصَايَا فَلَا تُقَدَّمُ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ الْمُنَجَّزِ في الْمَرَضِ وَالْمُعَلَّقِ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُمَا الْفَسْخُ فَكَانَ أَقْوَى فَيُقَدَّمُ على سَائِرِ الْوَصَايَا
وَإِنْ كانت الْوَصَايَا بَعْضُهَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَبَعْضُهَا لِلْعِبَادِ فَإِنْ أَوْصَى لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ يَتَضَارَبُونَ بِوَصَايَاهُمْ في الثُّلُثِ ثُمَّ ما أَصَابَ الْعِبَادَ فَهُوَ لهم لَا يُقَدَّمُ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ لِمَا نُبَيِّنُ وما كان لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَجْمَعُ ذلك فَيَبْدَأُ منها بِالْفَرَائِضِ ثُمَّ بِالْوَاجِبَاتِ ثُمَّ بِالنَّوَافِلِ
وَإِنْ كان مع الْوَصَايَا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَصِيَّةٌ لِوَاحِدٍ مُعَيَّنٍ من الْعِبَادِ فإنه يَضْرِبُ بِمَا أَوْصَى له بِهِ مع الْوَصَايَا بِالْقُرَبِ وَيَجْعَلُ كُلَّ جِهَةٍ من جِهَاتِ الْقُرْبِ مُفْرَدَةً بِالضَّرْبِ فَإِنْ قال ثُلُثُ مَالِي في الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَلِزَيْدٍ فإن الثُّلُثَ يُقَسَّمُ على أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ سَهْمٌ لِلْمُوصَى له وَسَهْمٌ لِلْحَجِّ وَسَهْمٌ لِلزَّكَاةِ وَسَهْمٌ لِلْكَفَّارَاتِ لِأَنَّ كُلَّ جِهَةٍ من هذه الْجِهَاتِ غَيْرُ الْأُخْرَى فترد ( ( ( فتفرد ) ) ) كُلُّ جِهَةٍ بِسَهْمٍ كما لو أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ
فَإِنْ قِيلَ جِهَاتُ الْقُرَبِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فَالْمَقْصُودُ منها كُلِّهَا وَاحِدٌ وهو طَلَبُ مرضاة ( ( ( مرضات ) ) ) اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَابْتِغَاءِ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْرِبَ لِلْمُوصَى له بِسَهْمٍ وَالْقُرَبِ بِسَهْمٍ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَقْصُودَ من الْكُلِّ وَإِنْ كان وَاحِدًا وهو ابْتِغَاءُ وَجْهِ اللَّهِ عز وجل وَطَلَبُ مرضات ( ( ( مرضاته ) ) ) لَكِنَّ الْجِهَةَ مَنْصُوصٌ عليها فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا كما لو أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ أن كُلُّ وَاحِدٍ منهم يَضْرِبُ بِسَهْمِهِ وَإِنْ
____________________

(7/372)


كان الْمَقْصُودُ من الْكُلِّ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
لَكِنْ لَمَّا كانت الْجِهَةُ مَنْصُوصًا عليها اُعْتُبِرَ الْمَنْصُوصُ عليه
كَذَا هَهُنَا
هذا إذا كانت الْوَصَايَا كُلّهَا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أو بَعْضهَا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَبَعْضُهَا لِلْعِبَادِ
فَأَمَّا إذَا كانت كُلُّهَا لِلْعِبَادِ فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إنْ كانت كُلُّهَا في الثُّلُثِ لم يُجَاوِزْ وَاحِدَةٌ منها قَدْرَ الثُّلُثِ وَإِمَّا إنْ جَاوَزَتْ فَإِنْ لم تُجَاوِزْ بِأَنْ أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِالرُّبْعِ وَلِآخَرَ بِالسُّدُسِ فَإِنَّهُمْ يتتضاربون ( ( ( يتضاربون ) ) ) في الثُّلُثِ بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ فَيَضْرِبُ صَاحِبُ الثُّلُثِ بِثُلُثِ الثُّلُثِ وَصَاحِبُ الرُّبْعِ بِرُبْعِ الثُّلُثِ وَصَاحِبُ السُّدُسِ بِسُدُسِ الثُّلُثِ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِد منهم بِقَدْرِ فَرِيضَتِهِ من الثُّلُثِ فَلَا يُقَدَّم بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ إلَّا إذَا كان مع هذه الْوَصَايَا أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ الْإِعْتَاقُ الْمُنَجَّزُ في الْمَرَض أو الْمُعَلَّقُ بِالْمَوْتِ في الْمَرَضِ أو في الصِّحَّةِ وهو التَّدْبِيرُ أو الْبَيْعُ بِالْمُحَابَاةِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ الناس فيه في الْمَرَضِ فَيُقَدَّمُ هو على سَائِرِ الْوَصَايَا التي هِيَ لِلْعِبَادِ كما يُقَدَّمُ على الْوَصَايَا بِالْقُرَبِ فَيَبْدَأُ بِذَلِكَ قبل كل وَصِيَّةٍ ثُمَّ يَتَضَارَبُ أَهْلُ الْوَصَايَا فِيمَا يَبْقَى من الثُّلُثِ وَيَكُونُ بَيْنَهُمْ على قَدْرِ وَصَايَاهُمْ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يُقَدَّمُ الْبَعْضُ على الْبَعْض في غَيْرِ الْمَوَاضِعِ الْمُسْتَثْنَاةِ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْبَعْضِ على الْبَعْضِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْمُرَجَّحِ ولم يُوجَدْ لِأَنَّ الْوَصَايَا كُلَّهَا اسْتَوَتْ في سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ كل وَاحِدٍ منهم مِثْلُ سَبَبِ صَاحِبِهِ وَالِاسْتِوَاءُ في السَّبَبِ يُوجِبُ الِاسْتِوَاءَ في الْحُكْمِ وَلَا اسْتِوَاءَ في سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ في مَوَاضِعِ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ الْمُنَجَّزَ وَالْمُعَلَّقَ بِالْمَوْتِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالْمُحَابَاةُ تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ ضَمَانٍ وهو الْبَيْعُ إذْ هو عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَكَانَ الْبَيْعُ مَضْمُونًا بِالثَّمَنِ وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ فَكَانَتْ الْمُحَابَاةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِعَقْدِ الضَّمَانِ أَقْوَى فَكَانَتْ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ وَإِنْ اجْتَمَعَ الْعِتْقُ وَالْمُحَابَاة وَضَاقَ الثُّلُثُ عنهما فَقَدْ قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كانت الْمُحَابَاةُ قبل الْعِتْقِ يَبْدَأُ بِالْمُحَابَاةِ وَإِلَّا اسْتَوَيَا هَكَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَبْدَأ بِالْعِتْقِ تَقَدَّمَ أو تَأَخَّرَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعِتْقَ أَقْوَى من الْمُحَابَاةِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالْمُحَابَاةُ تَحْتَمِلُ وفي بَابِ الْوَصَايَا يُقَدَّمُ الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى إذَا كان الثُّلُثُ لَا يَسَعُ الْكُلَّ وَلِهَذَا قُدِّمَ الْعِتْقُ على سَائِرِ الْوَصَايَا
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالتَّقْدِيمِ في الذِّكْرِ فإنه يُقَدَّمُ على سَائِرِ الْوَصَايَا وَإِنْ كانت مُقَدَّمَةً في الذِّكْرِ على الْعِتْقِ على أَنَّ التَّقَدُّمَ في الذِّكْرِ يُعْتَبَرُ ترجيح ( ( ( ترجيحا ) ) ) وَالتَّرْجِيحُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الِاسْتِوَاءِ في رُكْنِ الْعِلَّةِ وَلَا اسْتِوَاءَ هَهُنَا لِمَا بَيَّنَّا فَبَطَلَ التَّرْجِيحُ

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُحَابَاةَ أَقْوَى من الْعِتْقِ لِأَنَّهَا تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ ضَمَانٍ على ما بَيَّنَّا وَالْعِتْقُ تَبَرُّعٌ مَحَضٌ فَلَا يُزَاحِمُهَا وكان يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ على الْعِتْقِ
تَقَدَّمَتْ في الذِّكْرِ أو تَأَخَّرَتْ إلَّا أَنَّ مُزَاحَمَةَ الْعِتْقِ إيَّاهَا حَالَةَ التَّأْخِيرِ ثَبَتَ لِضَرُورَةِ التَّعَارُضِ حَالَةَ التَّقَدُّمِ على ما نَذْكُرهُ
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا إنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَبَعْضُ الْمَشَايِخِ قالوا إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ من جِهَةِ الْمُوصِي فإن من بَاعَ مَالَهُ بِالْمُحَابَاةِ في مَرَضِ مَوْتِهِ لَا يَمْلِكُ فَسْخَهُ كما لو أَعْتَقَ عَبْدَهُ في مَرَضِ مَوْتِهِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ فَسْخَهُ فَاسْتَوَيَا في عَدَمِ احْتِمَالِ الْفَسْخِ من جِهَة الْمُوصِي وهو الْمُعْتَقُ وَالْبَائِعُ فإذا كانت الْبِدَايَةُ بِالْمُحَابَاةِ تَرَجَّحَتْ بِالْبِدَايَةِ لِكَوْنِ الْبِدَايَةِ بها دَلِيلَ الِاهْتِمَامِ وَلَا يُمْكِنُ تَرْجِيحُ الْعِتْقِ عِنْدَ الْبِدَايَةِ بِهِ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْمُحَابَاةِ بِعَقْدِ الضَّمَانِ يَقْتَضِيَ تَرْجِيحَهَا على الْعِتْقِ الذي هو تَبَرُّعٌ مَحْضٌ فَتَعَارَضَ الْوَجْهَانِ فَسَقَطَا وَالْتَحَقَا بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ أَصْلُ التَّعَارُضِ بِلَا تَرْجِيحٍ فَتَقَعُ الْمُزَاحَمَةُ بين الْمُحَابَاةِ وَالْعِتْقِ فَيُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا
وَهَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالْمُحَابَاةِ تَصَرُّفٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ في نَفْسِهِ في الْجُمْلَةِ فَيُفْسَخُ بِخِيَارِ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ وَالْإِقَالَةِ إذْ هِيَ فَسْخٌ في حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَكَانَتْ الْمُحَابَاةُ مُحْتَمِلَةً لِلْفَسْخِ في الْجُمْلَةِ وَالْعِتْقُ لَا يَحْتَمِلُهُ رَأْسًا فَكَانَ أَقْوَى من الْمُحَابَاةِ فَيَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ عليها كما هو مَذْهَبُهُمَا
وَمِنْهُمْ من قال إنَّ عَدَمَ احْتِمَالِ الْعِتْقِ لِلْفَسْخِ إنْ كان يَقْتَضِي تَرْجِيحَهُ على الْمُحَابَاةِ كما ذَكَرْنَا من تَعَلُّقِ الْمُحَابَاةِ بِعَقْدِ الضَّمَانِ يَقْتَضِي تَرْجِيحًا على الْعِتْقِ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فَتُرَجَّحُ الْمُحَابَاةُ بِالْبِدَايَةِ وإذا لم يَبْدَأْ بها فلم يُوجَدْ التَّرْجِيحُ فَبَقِيَتْ الْمُعَارَضَةُ فَثَبَتَتْ الْمُزَاحَمَةُ
وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لو كان كَذَلِكَ لَلَزِمَ تَقْدِيمُ الْعِتْقِ على الْمُحَابَاةِ إذَا بَدَأَ بِالْعِتْقِ لِوُجُودِ الْمُرَجِّحِ لِلْعِتْقِ عِنْدَ وُقُوعِ التَّعَارُضِ وَلَا قدم ( ( ( يقدم ) ) ) غَيْرُهُ بَلْ يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا
وَمِنْهُمْ من قال تَعَلُّقُ الْمُحَابَاةِ بِعَقْدِ الضَّمَانِ بحيث اسْتِحْقَاقُهَا بِهِ أَقْوَى في الدَّلَالَةِ من الْعِتْقِ
____________________

(7/373)


من حَيْثُ عَدَمِ احْتِمَالِ الْفَسْخِ بِدَلِيلِ أَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ على الْإِعْتَاقِ حتى لو أَعْتَقَ عَبْدًا مُسْتَغْرَقًا بِالدَّيْنِ لَا يُنَفَّذُ وَإِنْ كان الْإِعْتَاقُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالْمُعَارَضَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِلْفَسْخِ لِكَوْنِهَا عَقْدَ ضَمَانٍ فَلَا يُعَارِضُهَا الْعِتْقُ إلَّا عِنْدَ الْبِدَايَة وَعَلَى الْجُمْلَةِ تَقْرِيرُ مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه في هذه الْمَسْأَلَةِ بِالْإِضَافَةِ إلَى عُقُولِنَا مُشْكِلٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَفَرَّعَ أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه على هذا فقال إذَا أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بين الْعِتْقِ الْأَوَّلِ وَبَيْنَ الْمُحَابَاةِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ ما أَصَابَ الْعِتْقَ الْأَوَّلَ يُقَسَّمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِتْقِ الثَّانِي لِاسْتِوَائِهِمَا في الْقُوَّةِ
وَلَوْ حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بين الْمُحَابَّتَيْنِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ ما أَصَابَ الْمُحَابَاةَ الْأَخِيرَةَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعِتْقِ نِصْفَيْنِ
كما إذَا أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا كان مع الْوَصَايَا لِلْعِبَادِ عِتْقٌ أو مُحَابَاةٌ فَإِنْ لم يَكُنْ يَضْرِبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ حَقِّهِ من الثُّلُثِ
حتى لو أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِالسُّدُسِ ولم تُجِزْ الْوَرَثَةُ يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا سَهْمَانِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ وَسَهْمٌ لِصَاحِبِ السُّدُسِ
أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ من سِتَّةٍ ثُلُثُ الْمَالِ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَجُمْلَةُ الْمَالِ تِسْعَةٌ ثُلُثُهُ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ لِلْمُوصَى لَهُمَا بِالثُّلُثِ وَالسُّدُسُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا وَثُلُثَاهُ وَذَلِكَ سِتَّةٌ لِلْوَرَثَةِ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ
وَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فللموصي له بِالثُّلُثِ سَهْمَانِ وَلِلْمُوصَى له بِالسُّدُسِ سَهْمٌ وَالْبَاقِي وهو ثَلَاثَةٌ من سِتَّةٍ لِلْوَرَثَةِ على فَرَائِضِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِالثُّلُثِ وَلِآخَرَ بِالرُّبُعِ ولم تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا على سَبْعَةِ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ وَلِصَاحِبِ الرُّبْعِ ثَلَاثَةٌ
أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ من اثْنَيْ عَشَرَ لِلْمُوصَى له بِالثُّلُثِ ثُلُثُهَا وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ كُلُّ الْمَالِ أَحَدًا وَعِشْرِينَ الثُّلُثُ من ذلك سَبْعَةٌ لِلْمُوصَى له بِالثُّلُثِ وَالثُّلُثَانِ وهو أَرْبَعَةَ عَشَرَ لِلْوَرَثَةِ
وَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فللموصي له بِالثُّلُثِ ما أَوْصَى له وهو أَرْبَعَةٌ وَلِلْمُوصَى له بِالرُّبْعِ ما أَوْصَى له وهو ثَلَاثَةٌ وَالْبَاقِي وهو خَمْسَةٌ من اثْنَيْ عَشَرَ لِلْوَرَثَةِ على فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِالثُّلُثِ وَلِآخَرَ بِالرُّبْعِ وَلِآخَرَ بِالسُّدُسِ فَثُلُثُ الْمَالِ تِسْعَةٌ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ من اثْنَيْ عَشَرَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ وَلِصَاحِبِ الرُّبْعِ ثَلَاثَةٌ وَلِصَاحِبِ السُّدُسِ سَهْمَانِ وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَثُلُثَا الْمَالِ مِثْلَاهُ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ سِهَامُ الْوَصِيَّةِ منها تِسْعَةٌ ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَسَهْمَانِ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ سِهَامُ الْوَرَثَةِ
هذا إذَا لم يَكُنْ في الْوَصَايَا ما يَزِيدُ على الثُّلُثِ فَإِنْ كان بِأَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَآخَرَ بِالنِّصْفِ فَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ ما أَوْصَى له بِهِ فَالثُّلُث لِلْمُوصَى له بِالثُّلُثِ وَالنِّصْفُ لِلْمُوصَى له بِالنِّصْفِ
أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ من سِتَّةٍ لِلْمُوصَى له بِالثُّلُثِ سَهْمَانِ وَلِلْمُوصَى له بِالنِّصْفِ ثَلَاثَةٌ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ وَإِنْ لم تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ من سِتَّةٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ على خَمْسَةٍ لِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثُ سَهْمَانِ
وَإِنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِرُبُعِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِنِصْفِ مَالِهِ فَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ما أَوْصَى له بِهِ فَالرُّبْعُ لِلْمُوصَى له بِالرُّبْعِ وَالنِّصْفُ لِلْمُوصَى له بِالنِّصْفِ وَالرُّبْعُ الْبَاقِي بين الْوَرَثَةِ على فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمَانِعَ من الزِّيَادَةِ على الثُّلُثِ حَقُّ الْوَرَثَةِ وقد زَالَ بِإِجَازَتِهِمْ وَإِنْ رَدُّوا فَلَا خِلَافَ في أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالزِّيَادَةِ على الثُّلُثِ لم ينفذ ( ( ( تنفذ ) ) ) وَإِنْ نُفِّذَتْ فَفِي الثُّلُثِ لَا غَيْرُ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الثُّلُثِ بَيْنَهُمَا فَعَلَى قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا على سَبْعَةِ أَسْهُمٍ لِلْمُوصَى له بِالنِّصْفِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْمُوصَى له بِالرُّبْعِ ثَلَاثَةٌ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ على ثَلَاثَةٍ سَهْمَانِ لِلْمُوصَى له بِالرُّبْعِ لِأَنَّ الْمُوصَى له بِالنِّصْفِ لَا يَضْرِبُ إلَّا بِالثُّلُثِ عِنْدَهُ وَالْمُوصَى له بِالرُّبْعِ يَضْرِبُ بِالرُّبْعِ فَيُحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ له ثُلُثٌ وَرُبْعٌ وَأَقَلُّهُ إثنا عَشَرَ ثُلُثُهَا أَرْبَعَةٌ وَرُبْعُهَا ثَلَاثَةٌ فَتُجْعَلُ وصيتها ( ( ( وصيتهما ) ) ) على سَبْعَةٍ وَذَلِكَ ثُلُثُ الْمِيرَاثِ وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَجَمِيعُ الْمَالِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ سَبْعَةٌ منها لِلْمُوصَى لَهُمَا أَرْبَعَةٌ لِلْمُوصَى له بِالنِّصْفِ وَثَلَاثَةٌ لِلْمُوصَى له بِالرُّبْعِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا على ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِأَنَّ الْمُوصَى له بِالنِّصْفِ يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ عِنْدَهُمَا وَالْمُوصَى له بِالرُّبْعِ يَضْرِبُ بِالرُّبْعِ وَالرُّبْعُ مِثْلُ نِصْفِ النِّصْفِ فَيَجْعَلُ كُلَّ رُبْعٍ سَهْمًا فَالنِّصْفُ يَكُونُ سَهْمَيْنِ وَالرُّبْعُ سَهْمًا فَيَكُونُ ثَلَاثَةً فَيَصِيرُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا على ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ سَهْمَانِ لِلْمُوصَى له بِالنِّصْفِ وَسَهْمٌ لِلْمُوصَى له بِالرُّبْعِ
وَهَذَا بِنَاءً على أَصْلٍ وهو أَنَّ الْمُوصَى له بِأَكْثَرَ من الثُّلُثِ لَا يَضْرِبُ في الثُّلُثِ بِأَكْثَرَ من الثُّلُثِ من غَيْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ

=ج24=

ج24. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587

تَعَالَى
إلَّا في خَمْسِ مَوَاضِعَ في الْعِتْقِ في الْمَرَضِ وفي الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ في الْمَرَضِ وفي الْمُحَابَاةِ في الْمَرَضِ وفي الْوَصِيَّةِ بِالْمُحَابَاةِ في الْوَصِيَّةِ بِالدَّرَاهِمِ الْمُرْسَلَةِ فإنه يَضْرِبُ في هذه الْمَوَاضِعِ بِجَمِيعِ وَصِيَّةٍ من غَيْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ
وَصُورَةُ ذلك في الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ إذَا كان له عَبْدَانِ لَا مَال له غَيْرُهُمَا أَوْصَى بِعِتْقِهِمَا وَقِيمَةُ أَحَدِهِمَا أَلْفٌ وَقِيمَةُ الْآخَرِ أَلْفَانِ ولم تُجِزْ الْوَرَثَةُ عَتَقَا من الثُّلُثِ وَثُلُثُ مَالِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَالْأَلْفُ بَيْنَهُمَا على قَدْر وَصِيَّتِهِمَا ثُلُثَا الْأَلْفِ لِلَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَيُعْتَقُ ثُلُثُهُ وَيَسْعَى في الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ وَالثُّلُثُ لِلَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفٌ فَيُعْتَقُ ثُلُثُهُ وَيَسْعَى في الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ فَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ عَتَقَا جميعا
وَصُورَةُ ذلك في الْمُحَابَاةِ إذَا كان له عَبْدَانِ أَوْصَى بِأَنْ يُبَاعَ أَحَدُهُمَا من فُلَانٍ وَالْآخَرُ من فُلَانٍ آخَرَ بَيْعًا بِالْمُحَابَاةِ وَقِيمَةُ أَحَدِهِمَا مَثَلًا أَلْفٌ وَمِائَةٌ وَقِيمَةُ الْآخَرِ سِتُّمِائَةٍ فَأَوْصَى بِأَنْ يُبَاعَ الْأَوَّلُ من فُلَانٍ بِمِائَةٍ وَالْآخَرُ من فُلَانٍ آخَرَ بِمِائَةٍ فَهَهُنَا حَصَلَتْ الْمُحَابَاةُ لِأَحَدِهِمَا بِأَلْفٍ وَلِلْآخَرِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَذَلِكَ كُلُّهُ وَصِيَّةٌ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ في حَالَةِ الْمَرَضِ فَإِنْ خَرَجَ ذلك من الثُّلُثِ أو أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ جَازَ وَإِنْ لم يَخْرُجْ من الثُّلُثِ وَلَا أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ جَازَتْ مُحَابَاتُهُمَا بِقَدْرِ الثُّلُثِ وَذَلِكَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا على قَدْرِ وَصِيَّتِهِمَا يَضْرِبُ أَحَدُهُمَا فيها بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِخَمْسِمِائَةٍ
وَصُورَةُ ذلك في الدَّرَاهِمِ الْمُرْسَلَةِ إذَا أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِأَلْفٍ وَلِلْآخَرِ بِالدَّيْنِ وَثُلُثُ مَالِهِ أَلْفٌ فَالثُّلُثُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا في الْوَصِيَّةِ بِأَقَلَّ من الثُّلُثِ كَالرُّبْعِ وَالسُّدُسِ وَنَحْوِ ذلك أَنَّ الْمُوصَى له يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ بِاسْمِ الزِّيَادَةِ على الثُّلُثِ من النِّصْفِ وَنَحْوِهِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا ما أَمْكَنَ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهَا في حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ لِمَا فيه من إبْطَالِ حَقِّ الْوَرَثَةِ وَأَنَّهُ اضرار بِهِمْ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا في حَقِّ الضَّرْبِ وَأَنَّهُ يُمْكِنُ إذْ لَا ضَرَرَ فيه على الْوَرَثَةِ وَلِهَذَا اُعْتُبِرَتْ التَّسْمِيَةُ في حَقِّ الضَّرْبِ فِيمَا ذَكَرْنَا من الْمَسَائِلِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالزِّيَادَةِ على الثُّلُثِ عِنْدَ رَدِّ الْوَرَثَةِ وَصِيَّةٌ بَاطِلَةٌ من كل وَجْهٍ بِيَقِينٍ وَالضَّرْبُ بِالْوَصِيَّةِ الْبَاطِلَةِ من كل وَجْهٍ بِيَقِينٍ بَاطِلٌ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْوَصِيَّةَ بِالزِّيَادَةِ وَصِيَّةٌ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهَا في قَدْرِ الزِّيَادَةِ صَادَفَتْ حَقَّ الْوَرَثَةِ إلَّا أنها وَقَفَتْ على الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ
فإذا رَدُّوا تَبَيَّنَ أنها وَقَعَتْ بَاطِلَةً
وَقَوْلُهُ من كل وَجْهٍ يَعْنِي بِهِ اسْتِحْقَاقًا وَتَسْمِيَةً وَهِيَ تَسْمِيَةُ النِّصْفِ فَالْكُلِّ فلم تَقَعْ الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةً في مَخْرَجِهَا
وَقَوْلُنَا بِيَقِينٍ لِأَنَّهَا لَا يَحْتَمِلُ النَّفَاذَ لِحَالٍ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لو ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ لَنُفِّذَتْ هذه الْوَصِيَّةُ وَهِيَ الْوَصِيَّةُ بِالزِّيَادَةِ على الثُّلُثِ بِخِلَافِ الْمَوَاضِعِ الْخَمْسِ فإن هُنَاكَ ما وَقَعَتْ بَاطِلَةً بِيَقِينٍ بَلْ تَحْتَمِلُ التَّنْفِيذَ في الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَظْهَرَ مَالٌ آخَرُ لِلْمَيِّتِ يُخْرَجُ هذا الْقَدْرُ من الثُّلُث فَبَيَّنَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ ما وَقَعَتْ بِالزِّيَادَةِ على الثُّلُثِ فلم تَقَعْ بَاطِلَةً بِيَقِينٍ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ لِأَنَّهُ وَإِنْ ظَهَرَ له مَالٌ آخَرُ يَدْخُلُ ذلك الْمَالُ في الْوَصِيَّةِ وَلَا يُخْرَجُ من الثُّلُثِ وَهَذَا الْقَدْرُ يُشْكِلُ بِالْوَصِيَّةِ بِيَقِينٍ فَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ على الثُّلُثِ بِأَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ عَبْدٍ لِرَجُلٍ وَبِثُلُثَيْهِ لِآخَرَ وَلَا مَالَ له سِوَاهُ فَرَدَّتْ الْوَرَثَةُ أَنَّ صَاحِبَ الثُّلُثَيْنِ لَا يَضْرِبُ بِالثُّلُثِ الزَّائِدِ عِنْدَنَا وَإِنْ لم تَكُنِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً بِيَقِينٍ لِجَوَازِ أَنْ يَظْهَرَ له مَالٌ آخَرُ فَتُنَفَّذُ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ فَيَنْتَفِي أَنْ يَضْرِبَ الْمُوصَى له بِالثُّلُثَيْنِ بِالثُّلُثِ الزَّائِدِ وَمَعَ هذا لَا يَضْرِبُ عِنْدَنَا فَأُشْكِلَ الْقَدْرُ وَبِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْأَقَلِّ من الثُّلُثِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ هُنَاكَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً في مَخْرَجِهَا من حَيْثُ التَّسْمِيَةُ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ وَقَعَتْ بِالرُّبْعِ وَالسُّدُسِ
وَكُلُّ ذلك مَخَارِجُ الْوَصِيَّةِ بِالتَّسْمِيَةِ صَادَفَتْ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْوَصِيَّتَيْنِ
فإذا رَدَّتْ الْوَرَثَةُ فَالرَّدُّ وَرَدَ عَلَيْهِمَا جميعا فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا على قَدْرِ نَصِيبِهِمَا
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ ثُمَّ أَوْصَى لِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ فَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّتَيْنِ جميعا فَقَدْ رَوَى أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال الْمُوصَى له بِالْجَمِيعِ يَأْخُذُ الثُّلُثَيْنِ خَاصَّةً وَيَكُونُ الْبَاقِي بين صَاحِبِ الْجَمِيعِ وَبَيْنَ صَاحِبِ الثُّلُثِ
وقال حَسَنُ بن زِيَادٍ ليس هذا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ أن لِلْمُوصَى له رُبْعَ الْمَالِ وَلِلْمُوصَى له بِالْجَمِيعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ ليس في هذه الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ رِوَايَةً عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في قِيَاسِ قَوْلِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فيها ما روي عنه أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّهُ قِسْمَةٌ على اعْتِبَارِ الْمُنَازَعَةِ
وما ذَكَرَ حَسَنٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اعْتِبَارَ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْقِسْمَةُ على اعْتِبَارِ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةُ من أُصُولِهِمَا لَا من أَصْلِهِ
فإن من أَصْلِهِ اعْتِبَارَ الْمُنَازَعَةِ في الْقِسْمَةِ
وَوَجْهُهُ هَهُنَا أَنَّ ما زَادَ على
____________________

(7/375)


الثُّلُثِ يعطي كُلُّهُ لِلْمُوصَى له بِجَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَا يُنَازِعُهُ فيه أَحَدٌ وَأَمَّا قَدْرُ الثُّلُثِ فَيُنَازِعُهُ فيه الْمُوصَى له بِالثُّلُثِ فَاسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فيه إذْ لَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا على الْآخَرِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَيَكُونُ أَصْلُ مَسْأَلَةِ الْحِسَابِ من ثَلَاثَةٍ لِحَاجَتِنَا إلَى الثُّلُثِ الثُّلُثَانِ لِلْمُوصَى له بِالْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ إلَّا أَنَّهُ يَنْكَسِرُ الْحِسَابُ فَيَضْرِبُ اثْنَيْنِ في ثَلَاثَةٍ فَيَصِيرُ سِتَّةً فَيُسَلَّمُ ثُلُثَاهَا لِلْمُوصَى له بِالْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ وَثُلُثُهَا وهو سَهْمَانِ يُنَازِعُهُ فيه الْمُوصَى له بِالثُّلُثِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا فَحَصَلَ لِلْمُوصَى له بِالْجَمِيعِ وخمسة ( ( ( خمسة ) ) ) وَلِلْمُوصَى له بِالثُّلُثِ سَهْمٌ
وَأَمَّا الْقِسْمَةُ على طَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ عِنْدَهُمَا هَهُنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ فَالْمُوصَى له بِالثُّلُثِ يَضْرِبُ بِالثُّلُثِ وهو سَهْمٌ وَالْمُوصَى له بِالْجَمِيعِ يَضْرِبُ بِكُلِّ الْمَالِ وهو ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فَيُجْعَلُ الْمَالُ على أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ وَلِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةٌ
هذا إذَا أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَإِنْ رَدَّتْ الْوَرَثَةُ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ من الثُّلُثِ ثُمَّ الثُّلُثُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْمُوصَى له بِأَكْثَرَ من الثُّلُثِ لَا يَضْرِبُ إلَّا بِالثُّلُثِ إذ لم تُجِزْ الْوَرَثَةُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَضْرِبُ كل ( ( ( لكل ) ) ) وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ أَرْبَاعًا على ما بَيَّنَّا
وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
هذا إذَا اجْتَمَعَتْ الْوَصَايَا فِيمَا سِوَى الْعَيْنِ فَإِنْ اجْتَمَعَتْ الْوَصَايَا في الْعَيْنِ فَإِنْ اجْتَمَعَتْ في عَيْنٍ مُشَارٍ إلَيْهَا بِأَنْ أَوْصَى بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ لِاثْنَيْنِ أو أَكْثَرَ أو أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ بِجَمِيعِ الْعَيْنِ فَقَدْ قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تُقَسَّمُ الْعَيْنُ بين أَصْحَابِ الْوَصَايَا على عَدَدِهِمْ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ منهم بِالْقَدْرِ الذي حَصَلَ له بِالْقِسْمَةِ وَلَا يَضْرِبُ بِجَمِيعِ تِلْكَ الْعَيْنِ
وَإِنْ وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ بِجَمِيعِ الْعَيْنِ وَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ أَوْصَيْتُ بِعَبْدِي هذا لِفُلَانٍ ثُمَّ قال وقد أَوْصَيْتُ بِعَبْدِي هذا لِفُلَانٍ آخَرَ وَالْعَبْدُ يُخْرَجُ من ثُلُثِ مَالِهِ فإن الْعَبْدَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ على عَدَدِهِمَا وَهُمَا اثْنَانِ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الْعَبْدِ وَلَا يَضْرِبُ بِأَكْثَرَ من ذلك وَكَذَلِكَ إنْ أَوْصَى بِهِ لِثَلَاثَةٍ أو أربعة ( ( ( لأربعة ) ) )
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ وَيَتَّفِقُ الْجَوَابُ في تَقْدِيمِ ما يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا من الْعَبْدِ في هذه الصُّورَةِ لَكِنْ بِنَاءً على أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ثَمَرَةُ اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ فِيمَا إذَا انْضَمَّتْ إلَى الْوَصِيَّةِ لَهُمَا وَصِيَّةٌ لِثَالِثٍ بِأَنْ كان له عَبْدٌ وَأَلْفَا دِرْهَمٍ سِوَى ذلك فَأَوْصَى بِالْعَبْدِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِآخَرَ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ آخَرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ من الْمُوصَى له بِالْعَبْدِ بِنِصْفِ الْعَبْدِ وَهَذَا بِنِصْفِهِ وَهَذَا بِنِصْفِهِ وَيَضْرِبُ الْمُوصَى له بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِأَلْفٍ فَيَقْتَسِمُونَ بِالثُّلُثِ أَرْبَاعًا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ من الْمُوصَى لَهُمَا بِالْعَبْدِ بِجَمِيعِ الْعَبْد وَالْمُوصَى له بِأَلْفِ يَضْرِبُ بِأَلْفٍ فَيَقْتَسِمُونَ الثُّلُث أَثْلَاثًا بِنَاءً على الْأَصْل الذي ذَكَرنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُوصَى له بِأَكْثَرَ من الثُّلُثِ لَا يَضْرِبُ بِأَكْثَرَ من الثُّلُث عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ فَهُمَا يَقُولَانِ لِأَنَّ التَّسْمِيَة وَقَعَتْ لِجَمِيعِ الْعَيْنِ إلَّا أنها لَا تَظْهَرُ في حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ فَتَظْهَرُ في حَقِّ الضَّرْبِ كما في أَصْحَابِ الدُّيُونِ وَأَصْحَابِ الْعَوْلِ
وأبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يقول إنَّ الموصي قد أَبْطَلَ وَصِيَّةَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا في نِصْفِ الْعَيْنِ فَلَهُ وِلَايَةُ الْإِبْطَالِ أَلَا يُرَى أَنَّ له أَنْ يَرْجِعَ فَيُبْطِلَ اسْتِحْقَاقَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الْعَيْنِ فَالضَّرْبُ بِالْجَمِيعِ يَكُونُ ضَرَبًا بِوَصِيَّةٍ بَاطِلَةٍ فَكَانَ بَاطِلًا بِخِلَافِ الْغُرَمَاءِ فإنه ليس لِمَنْ عليه الدَّيْنُ ولاية ( ( ( ولأنه ) ) ) إبْطَالِ حَقِّهِمْ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ منهم بِكُلِّ حَقِّهِ وَبِخِلَافِ أَصْحَابِ الْعَوْلِ لِأَنَّهُ لم يُؤْخَذْ من جِهَةِ الْمَيِّتِ سَبَبٌ يُبْطِلُ شَهَادَتَهُمْ فَيَضْرِبُونَ بِجَمِيعِ ما ثَبَتَ حَقُّهُمْ فيه
وَلَوْ كان له عَبْدٌ آخَرُ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَأَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَوْصَى بِعَبْدٍ لِرَجُلٍ وَأَوْصَى لِرَجُلِ آخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ فَالثُّلُثُ وهو قَدْرُ أَلْفِ دِرْهَمٍ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ خَمْسُمِائَةٍ لِلْمُوصَى له بِجَمِيعِ الْعَبْدِ وَخَمْسُمِائَةٍ لِلْمُوصَى له بِالثُّلُثِ غَيْر أَنَّ ما أَصَابَهُ الْمُوصَى له بِالْجَمِيعِ يَكُونُ في الْعَبْد وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ
وما أَصَابَ الْمُوصَى له بِالثُّلُثِ يَكُونُ بَعْضُهُ في الْعَبْدِ وهو سُدُسُ ما بَقِيَ من الْعَبْدِ وهو عُشْرُ الْعَبْدِ وَالْبَعْضُ في الدَّرَاهِمِ وهو خُمْسُ الْأَلْفَيْنِ فَيَضْرِبُ الْمُوصَى له بِجَمِيعِ الْعَبْدِ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِهِ وَالْمُوصَى له بِالثُّلُثِ يَضْرِبُ بِسُدُسِ الْعَبْدِ وَبِخُمْسِ الْأَلْفَيْنِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ في الْعَبْدِ وَصِيَّتَانِ وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهِ وَوَصِيَّةٌ بِثُلُثِهِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِثُلُثِ الْمَالِ تَنَاوَلَتْ الْعَبْدَ لِكَوْنِهِ مَالًا فَاجْتَمَعَتْ في الْعَبْدِ وَصِيَّتَانِ فَسُلِّمَ لِلْمُوصَى له بِجَمِيعِ الْعَبْدِ ثُلُثَاهُ بِلَا مُنَازَعَةٍ وَالثُّلُثُ يُنَازِعُهُ فيه الْمُوصَى له بِالثُّلُثِ فَيَكُونُ على الْحِسَاب من ثَلَاثَةٍ لِحَاجَتِنَا إلَى الثُّلُثِ وَأَقَلُّ حِسَابٍ يَخْرُجُ
____________________

(7/376)


منه الثُّلُثُ ثَلَاثَةٌ قِسْمَانِ خَلَيَا عن مُنَازَعَةِ الْمُوصَى له بِالثُّلُثِ فَسُلِّمَ ذلك لِلْمُوصَى له بِالْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ
بَقِيَ سَهْمٌ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فيه فَيَكُونُ بَيْنهمَا فَيَنْكَسِرُ فَنَضْرِبُ اثْنَيْنِ في ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ سِتَّةً فَثُلُثَا السِّتَّةِ وهو أَرْبَعَةٌ سُلِّمَ لِلْمُوصَى له بِالْجَمِيعِ لِأَنَّهُ لَا يُنَازِعُهُ فيه أَحَدٌ وَثُلُثُهَا وهو سَهْمَانِ يُنَازِعُهُ فيه الْمُوصَى له بِالثُّلُثِ وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فيه فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ وإذا صَارَ الْعَبْدُ قيمته ( ( ( وقيمته ) ) ) أَلْفٌ على سِتَّةٍ يَصِيرُ كُلُّ أَلْفٍ من الدَّرَاهِمِ على سِتَّةٍ فَصَارَ الْأَلْفَانِ على اثْنَيْ عَشَرَ لِلْمُوصَى له بِالثُّلُثِ مِنْهُمَا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ فَصَارَ له خَمْسَةُ أَسْهُمٍ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ من الدَّرَاهِم وَسَهْمٌ من الْعَبْدِ وَلِلْمُوصَى له بِالْجَمِيعِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ كُلّهَا في الْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ له في الدَّرَاهِمِ فَصَارَتْ وَصِيَّتُهُمَا جميعا عَشَرَةُ أَسْهُمٍ فَاجْعَلْ ثُلُثَ الْمَالِ على عَشْرَةِ أَسْهُمٍ فَالثُّلُثَانِ عِشْرُونَ سَهْمًا فَالْكُلُّ ثَلَاثُونَ سَهْمًا وَالْعَبْدُ ثُلُثُ الْمَالِ لِأَنَّ قِيمَتَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَارَ الْعَبْدُ على عَشَرَةِ اسهم وَالْأَلْفَانِ على عِشْرِينَ سَهْمًا فَادْفَعْ وَصِيَّتَهُمَا من الْعَبْدِ فَوَصِيَّةُ الْمُوصَى له بِالْجَمِيعِ خَمْسَةٌ وهو نِصْفُ الْعَبْدِ وَوَصِيَّةُ الْمُوصَى له بِالثُّلُثِ سَهْمٌ وَذَلِكَ خُمْسُ ما بَقِيَ من الْعَبْدِ وَادْفَعْ وَصِيَّةَ الْمُوصَى له بِالثُّلُثِ من الدَّرَاهِمِ وَذَلِكَ عِشْرُونَ سَهْمًا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وهو خُمْسُ الْأَلْفَيْنِ على ما ذَكَرَهُ في الْأَصْلِ فَبَقِيَ من الْعَبْدِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ لَا وَصِيَّةَ فيها فَيَدْفَعُ إلَى الْوَرَثَةِ فَيَكْمُلُ لهم الثُّلُثَانِ لِأَنَّ الْمُوصَى له بِالثُّلُثِ قد أَخَذَ من الْأَلْفَيْنِ أَرْبَعمِائَةِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَحَصَلَ لِلْمُوصَى له بِالْعَبْدِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ من الْعَبْدِ وَذَلِكَ نِصْفُهُ وَحَصَلَ لِلْمُوصَى له بِالثُّلُثِ أَرْبَعُمِائَةٍ من الدَّرَاهِم وَذَلِكَ خُمْسُهَا لِأَنَّا جَعَلْنَا الْأَلْفَيْنِ على عِشْرِينَ سَهْمًا وَأَرْبَعَةٌ من عِشْرِينَ خُمْسُهَا وَحَصَلَ له من الْعَبْدِ سَهْمٌ وَذَلِكَ خُمْسُ الْعَبْدِ وَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ عِشْرُونَ سَهْمًا وَهِيَ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ من الْعَبْدِ وَذَلِكَ خُمُسَاهُ
هذا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَمَّا على قَوْلِهِمَا فَيُقْسَمُ على طَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ فَصَاحِبُ الْعَبْدِ يَضْرِبُ بِجَمِيعِ ثُلُثِهِ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ يَضْرِبُ بِالثُّلُثِ سهم ( ( ( سهما ) ) ) فَيَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ له ثُلُثٌ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ فَصَاحِبُ الْعَبْدِ يَضْرِبُ بِالْجَمِيعِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ يَضْرِبُ بِالثُّلُثِ وَذَلِكَ سَهْمٌ فَصَارَ الْعَبْدُ على أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ وإذا صَارَ الْعَبْدُ على أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ مع الْعَوْل صَارَ كُلُّ أَلْفٍ على ثَلَاثَةٍ بِغَيْرِ عَوْلٍ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الْعَوْلِ في الْأَلْفِ فَصَارَتْ الْأَلْفَانِ على سِتَّةِ أَسْهُمٍ فَلِلْمُوصَى له بِالثُّلُثِ ثُلُثُهَا وَذَلِكَ سَهْمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ وَصِيَّتَهُمَا سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَصِيَّةُ صَاحِبِ الْعَبْدِ ثَلَاثَةٌ كُلُّهَا في الْعَبْدِ وَوَصِيَّةُ صَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ أَسْهُمٍ سَهْمَانِ في الدَّرَاهِم وَسَهْمٌ في الْعَبْدِ فَاجْعَلْ ذلك ثُلُثَ الْمَالِ وَاجْعَلْ الْعَبْدَ ثُلُثَ الْمَالِ وَاجْعَلْ الْعَبْدَ على سِتَّةِ أَسْهُمٍ وَادْفَعْ إلَيْهِمَا وصيتها ( ( ( وصيتهما ) ) ) من الْعَبْدِ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ بَقِيَ سَهْمَانِ فَاضِلَانِ لَا وَصِيَّةَ فِيهِمَا فَادْفَعْ ذلك إلَى الْوَرَثَةِ حتى يَكْمُلَ لهم الثُّلُثَانِ لِأَنَّ صَاحِبَ الثُّلُثِ قد أَخَذَ سَهْمَيْنِ من الدَّرَاهِم وَانْتَقَصَ نَصِيبُ الْوَرَثَةِ من الدَّرَاهِم فَيَدْفَعُ سَهْمَيْنِ من الْعَبْدِ إلَيْهِمْ حتى يَكْمُلَ لهم الثُّلُثَانِ وقد جَعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ وهو الْعَبْدُ على سِتَّةِ أَسْهُمٍ فَالثُّلُثَانِ يَكُونَانِ اثْنَيْ عَشَرَ فَادْفَعْ وَصِيَّةَ صَاحِبِ الثُّلُثِ من ذلك سَهْمَيْنِ ثُمَّ ضُمَّ السَّهْمَيْنِ من الْعَبْدِ الذي لَا وَصِيَّةَ فِيهِمَا إلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ حتى يَكْمُلَ لهم الثُّلُثَانِ فَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ من الدَّرَاهِمِ وَسَهْمَانِ من الْعَبْدِ وَلِلْمُوصَى له بِالْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَذَلِكَ نِصْفُ الْعَبْدِ كُلُّهُ في الْعَبْدِ وَلِلْمُوصَى له بِالثُّلُثِ سَهْمٌ في الْعَبْدِ وَذَلِكَ سُدُسُ العمد ( ( ( العبد ) ) ) وَسُدُسُ الْأَلْفَيْنِ وَهُمَا سَهْمَانِ من اثْنَيْ عَشَرَ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ كان له عَبْدَانِ قِيمَتُهُمَا وَاحِدَةٌ لَا مَال له غَيْرُهُمَا فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ وَلِآخَر بِثُلُثِ مَالِهِ فإن الثُّلُثَ يُقْسَمُ بَيْنهمَا على سَبْعَةِ أَسْهُمٍ
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ على مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الثُّلُثَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا على طَرِيقَةِ الْمُنَازَعَةِ في قَوْل أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَهُمَا على طَرِيقِ الْعَوْلِ
وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُوصَى له بِأَكْثَرَ من الثُّلُثِ لَا يَضْرِبُ إلَّا بِالثُّلُثِ إلَّا في مَوَاضِع الِاسْتِثْنَاءِ على ما بَيَّنَّا
إذَا عَرَفْتَ هذا فَنَقُولُ الْقِسْمَةُ في هذه الْمَسْأَلَةِ على طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَة رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ في الْعَبْدِ وَصِيَّتَانِ وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهِ وَوَصِيَّةٌ بِثُلُثِهِ وَالثُّلُثَانِ يُسَلَّمَانِ لِصَاحِبِ الْجَمِيع بِلَا مُنَازَعَةٍ لِأَنَّهُ لَا يُنَازِعُهُ فيه صَاحِبُ الثُّلُثِ وَذَلِكَ سَهْمَانِ من ثَلَاثَةٍ وَالثُّلُثُ وهو سَهْمٌ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فيه فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ سَهْمٍ فَانْكَسَرَ فَنَضْرِبُ اثْنَيْنِ في ثَلَاثَةٍ فَيَصِيرُ سِتَّةً قُلْنَا السِّتَّةُ تُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ وهو أَرْبَعَةٌ وَالثُّلُثُ وهو سَهْمَانِ اسْتَوَتْ
____________________

(7/377)


مُنَازَعَتُهُمَا فيه فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا لكل ( ( ( كل ) ) ) وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ فَصَارَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ فلما صَارَ هذا الْعَبْدُ على سِتَّةِ أَسْهُمٍ صَارَ الْعَبْدُ الْآخَرُ على سِتَّةٍ لِلْمُوصَى له بِالثُّلُثِ مِنْهُمَا سَهْمَانِ فَصَارَ وَصِيَّةُ صَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ سَهْمَانِ في الْعَبْدِ الذي لَا وَصِيَّةَ فيه وَسَهْمٌ في الْعَبْدِ الذي فيه وَصِيَّةٌ وَوَصِيَّةُ صَاحِبِ الْعَبْدِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَذَلِكَ أَكْثَرُ من ثُلُثِ الْمَالِ لِأَنَّ جَمِيع الْمَالِ اثْنَا عَشَرَ فَثُلُثُهَا أَرْبَعَةٌ
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ أبي حَنِيفَة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إن الْمُوصَى له بِأَكْثَرَ من الثُّلُثِ لَا يَضْرِبُ له إلَّا بِالثُّلُثِ
فتطرح ( ( ( فنطرح ) ) ) من وَصِيَّتِهِ سَهْمًا فَتَصِيرُ وَصِيَّتُهُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ وَوَصِيَّةُ الْآخَرِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَذَلِكَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ فَاجْعَلْ هذا ثُلُثَ الْمَالِ وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَجَمِيعُ الْمَالِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ وَمَالُهُ عَبْدَانِ
فَتَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ عَبْدٍ على عَشَرَةٍ وَنِصْفٍ
لِأَنَّ كُلَّ عَبْدٍ مِقْدَارُ نِصْفِ الْمَالِ
فَيَدْفَعُ من الْعَبْدِ الْمُوصَى بِهِ وَصِيَّتَهُمَا فيه وَيَدْفَعُ إلَيْهِمَا بِوَصِيَّةِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ في الْعَبْدِ فَيَدْفَعُ ذلك إلَيْهِ
وَوَصِيَّةُ صَاحِبِ الْعَبْدِ سَهْمٌ وَاحِد في الْعَبْدِ فَيَدْفَع ذلك إلَيْهِ
فَبَقِيَ من الْعَبْدِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ فَادْفَعْ ذلك إلَى الْوَرَثَةِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ على فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُؤْخَذُ من الْعَبْدِ الذي لَا وَصِيَّةَ فيه سَهْمَانِ وَيَدْفَعُ إلَى الْمُوصَى له بِالثُّلُثِ فَيَبْقَى من هذا الْعَبْدِ ثَمَانِيَةٌ وَنِصْفٌ يَدْفَعُ إلَى الْوَرَثَةِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ على فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى فَصَارَتْ كُلُّهَا سَبْعَةَ أَسْهُمٍ وَهِيَ ثُلُثُ الْمَالِ فَحَصَلَ لِلْمُوصَى له بِالْعَبْدِ مِنْهُمَا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْمُوصَى له بِالثُّلُثِ سَهْمَانِ وَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ من الْعَبْدِ الْمُوصَى بِهِ خَمْسَةٌ وَنِصْفٌ
وَمِنْ الْعَبْدِ الذي لَا وَصِيَّةَ فيه ثَمَانِيَةٌ وَنِصْفٌ فَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَهِيَ ثُلُثَا الْمَالِ فَاسْتَقَامَ الْحِسَابُ على الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ
وَأَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَيُقْسَمُ على طَرِيقِ الْعَوْلِ فَنَقُولُ اجْتَمَعَ في الْعَبْدِ وَصِيَّتَانِ وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهِ وَوَصِيَّةٌ بِثُلُثِهِ وَمَخْرَجُ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يَضْرِبُ بِالْجَمِيعِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ يَضْرِب بِثُلُثِهِ وهو سَهْمٌ فَصَارَ الْعَبْدُ على أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ وهو مَعْنَى الْعَوْلِ فلما صَارَ هذا الْعَبْدُ على أَرْبَعَةٍ بِالْعَوْلِ يُجْعَلُ الْعَبْدُ الْآخَرُ على ثَلَاثَةٍ بِغَيْرِ عَوْلٍ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الْعَوْلِ في ذلك الْعَبْدِ فَسَهْمٌ من ذلك الْعَبْدِ لِلْمُوصَى له بِالثُّلُثِ فَصَارَتْ وَصِيَّةُ صَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمَيْنِ سَهْمٌ من الْعَبْدِ الذي فيه الْوَصِيَّةُ وَسَهْمٌ من الْعَبْدِ الذي لَا وَصِيَّةَ فيه
وَوَصِيَّةُ صَاحِبِ الْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ فَاجْعَلْ هذا ثُلُثَ الْمَالِ وَثُلُثَاهُ مثلا ( ( ( مثلاه ) ) ) وَذَلِكَ عَشَرَةٌ وَالْجَمِيعُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَمَالَهُ عَبْدَانِ فَيَصِيرُ كُلُّ عَبْدٍ على سَبْعَةٍ وَنِصْفٍ فَيَدْفَعُ وَصِيَّةَ صَاحِبِ الْعَبْدِ من الْعَبْدِ إلَيْهِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَوَصِيَّةُ صَاحِبِ الثُّلُثِ إلَيْهِ وَذَلِكَ سَهْمٌ يَبْقَى من هذا الْعَبْدِ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ فَيُدْفَعُ ذلك إلَى الْوَرَثَةِ وَيُدْفَعُ من الْعَبْدِ الْآخَرِ سَهْمٌ إلَى الْمُوصَى له بِالثُّلُثِ يَبْقَى سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ من الْعَبْدِ الذي فيه الْوَصِيَّةُ وَسِتَّةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ من الْعَبْدِ الْآخَرِ فَاسْتَقَامَتْ الْقِسْمَةُ على الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ هذا الْعَقْدِ فَلَهُ صِفَتَانِ إحْدَاهُمَا قبل الْوُجُودِ وَالْأُخْرَى بَعْدَ الْوُجُودِ
أَمَّا التي هِيَ قبل الْوُجُودِ فَهِيَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَاجِبَةٌ وَبِمَا وَرَاءَهَا جَائِزَةٌ وَمَنْدُوبٌ إلَيْهَا وَمُسْتَحَبَّةٌ في بَعْضِ الْأَحْوَالِ
وَعِنْد بَعْضِ الناس الْكُلُّ وَاجِبٌ
وقد بَيَّنَّا ذلك كُلَّهُ في صَدْر الْكِتَابِ
وَأَمَّا التي هِيَ بَعْدَ الْوُجُودِ فَهِيَ أَنَّ هذا عَقَدٌ غَيْرُ لَازِمٍ في حَقِّ الموصي حتى يَمْلِكَ الرُّجُوعَ عِنْدنَا ما دَامَ حَيًّا
لِأَنَّ الْمَوْجُودَ قبل مَوْتِهِ مُجَرَّدُ إيجَابٍ وإنه مُحْتَمَلُ الرُّجُوعِ في عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَهِيَ بِالتَّبَرُّعِ أَوْلَى كما في الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ إلَّا التَّدْبِيرَ الْمُطْلَقَ خَاصَّةً فإنه لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ الرجول ( ( ( الرجوع ) ) ) أَصْلًا وَإِنْ كان وَصِيَّةً لِأَنَّهُ إيجَابٌ يُضَافُ إلَى الْمَوْتِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْعِتْقِ وَالْعِتْقُ لَازِمٌ وَكَذَا سَبَبُهُ لِأَنَّهُ سَبَبُ حُكْمٍ لَازِمٍ
وَكَذَا التَّدْبِيرُ الْمُقَيَّدُ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ نَصًّا وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُهُ دَلَالَةً بِالتَّمْلِيكِ من غَيْرِهِ
لِأَنَّ الْعِتْقَ فيه تَعَلَّقَ بِمَوْتٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ وقد لَا تُوجَدُ تِلْكَ الصِّفَةُ فلم يَسْتَحْكِمْ السَّبَبُ ثُمَّ الرُّجُوعُ قد يَكُونُ نَصًّا وقد يَكُونُ دَلَالَة
وقد يَكُونُ ضَرُورَةً
أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ أَنْ يَقُول الْمُوصِي رَجَعْتُ
أَمَّا الدَّلَالَةُ فَقَدْ تَكُونُ فِعْلًا وقد تَكُونُ قَوْلًا
وهو أَنْ يَفْعَلَ في الموصي بِهِ فِعْلًا يُسْتَدَلُّ بِهِ على الرُّجُوعِ أو يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ على الرُّجُوعِ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا فَعَلَ في الموصي بِهِ فِعْلًا لو فَعَلَهُ في الْمَغْصُوبِ لا نقطع بِهِ مِلْكُ الْمَالِكِ كان رُجُوعًا
كما إذَا أَوْصَى بِثَوْبٍ ثُمَّ قَطَعَهُ وَخَاطَهُ قَمِيصًا أو قَبَاءً أو بِقُطْنٍ ثُمَّ غَزَلَهُ أو لم يَغْزِلْهُ ثُمَّ نَسَجَهُ أو بِحَدِيدَةٍ ثُمَّ صَنَعَ منها إنَاءً أو سَيْفًا أو سِكِّينًا
أو بفضه ثُمَّ صَاغَ منها حُلِيًّا وَنَحْوَ ذلك
لِأَنَّ هذه الْأَفْعَالَ لَمَّا
____________________

(7/378)


أَوْجَبَتْ بُطْلَانَ حُكْمٍ ثَابِتٍ في الْمَحَلِّ وهو الْمِلْكُ
فَلَأَنْ تُوجِبَ بُطْلَانَ مُجَرَّدِ كَلَامٍ من غَيْرِ حُكْمٍ أَصْلًا أَوْلَى
ثُمَّ وَجْهُ الدَّلَالَةِ منها على التَّفْصِيلِ إن كُلَّ وَاحِدٍ منها تَبْدِيلُ الْعَيْنِ وتصبيرها ( ( ( وتصييرها ) ) ) شيئا آخَرَ مَعْنًى وَاسْمًا فَكَانَ اسْتِهْلَاكًا لها من حَيْثُ الْمَعْنَى فَكَانَ دَلِيلَ الرُّجُوعِ فَصَارَ كَالْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ إذَا فَعَلَ في الْمَبِيعِ فِعْلًا يَدُلُّ على ابطال الْخِيَارِ يَبْطُلُ خِيَارُهُ
وَالْأَصْلُ في اعْتِبَارِ الدَّلَالَةِ إشَارَةُ النبي بِقَوْلِهِ لِلْمُخَيَّرَةِ إنْ وَطِئَكِ زَوْجُكِ فَلَا خِيَارَ لَكِ
وَلَوْ أَوْصَى بِقَمِيصٍ ثُمَّ نَقَضَهُ فَجَعَلَهُ قَبَاءً فَهُوَ رُجُوعٌ لِأَنَّ الْخِيَاطَةَ في ثَوْبٍ غَيْرِ مَنْقُوضٍ دَلِيلُ الرُّجُوعِ فَمَعَ النَّقْضِ أَوْلَى
وَإِنْ نَقَضَهُ ولم يَخُطَّهُ لم يُذْكَرْ في الْكِتَابِ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ ليس بِرُجُوعٍ لِأَنَّ الْعَيْنَ بَعْدَ النَّقْضِ قَائِمَةٌ تَصْلُحُ لِمَا كانت تَصْلُحُ له قبل النَّقْضِ وَلَوْ بَاعَ الْمُوصَى بِهِ أو أَعْتَقَهُ أو أَخْرَجَهُ عن مِلْكِهِ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ كان رُجُوعًا لِأَنَّ هذه التَّصَرُّفَاتِ وَقَعَتْ صَحِيحَةً لمصادقتها ( ( ( لمصادفتها ) ) ) مِلْكَ نَفْسِهِ فَأَوْجَبَتْ زَوَالَ الْمِلْكِ فَلَوْ بَقِيَتْ الْوَصِيَّةُ مع وُجُودِهَا لَتَعَيَّنَتْ في غَيْرِ مِلْكِهِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ
وَلَوْ بَاعَ الْمُوصَى بِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ أو وَهَبَهُ وسلم وَرَجَعَ في الْهِبَةِ لَا تَعُودُ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّهَا قد بَطَلَتْ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ مع التَّسْلِيمِ لِزَوَالِ الْمِلْكِ
وَالْعَائِدُ مِلْكٌ جَدِيدٌ غَيْرُ مُوصًى بِهِ فَلَا تصير ( ( ( يصير ) ) ) مُوصًى بِهِ لأن بِوَصِيَّةٍ جَدِيدَةٍ
وَلَوْ أَوْصَى بِعَبْدٍ فَغَصَبَهُ رَجُلٌ ثُمَّ رَدَّهُ بِعَيْنِهِ فَالْوَصِيَّةُ على حَالِهَا لِأَنَّ الْغَصْبَ ليس فِعْلَ الْمُوصِي وَالْمُوصَى بِهِ على حَالِهِ فَبَقِيَتْ الْوَصِيَّةُ إلَّا إذَا اسْتَهْلَكَهُ الْغَاصِبُ أو هَلَكَ في يَدِهِ فَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ لِبُطْلَانِ مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ
وَكَذَا لو أَوْصَى بِعَبْدٍ ثَمَّ دَبَّرَهُ أو كَاتَبَهُ أو بَاعَ نَفْسَهُ منه كان رُجُوعًا لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إعْتَاقٌ من وَجْهٍ أو مُبَاشَرَةُ سَبَبٍ لَازِمٍ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالنَّقْضَ وَكُلُّ ذلك دَلِيلُ الرُّجُوعِ وَالْمُكَاتَبَةُ مُعَاوَضَةٌ إلَّا أَنَّ الْعِوَضَ مُتَأَخِّرٌ إلَى وَقْتِ أَدَاءِ الْبَدَلِ فَكَانَ دَلِيلَ الرُّجُوعِ كَالْبَيْعِ وَبَيْعُ نَفْسِ الْعَبْدِ منه اعتاق فَكَانَ رُجُوعًا
وَلَوْ أَوْصَى بِعَبْدٍ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ من إنْسَانٍ آخَرَ لم يَكُنْ رُجُوعًا وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا جميعا لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بين الْوَصِيَّتَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ إلَّا أَنَّ أحداهما تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَالْأُخْرَى تَمْلِيكٌ بِبَدَلٍ فَيَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفُهُ لِلْمُوصَى له بِهِ وَنِصْفُهُ يُبَاعُ لِلْمُوصَى له بِالْبَيْعِ
وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَبْدُهُ ثُمَّ أَوْصَى بَعْدَ ذلك أَنْ يُبَاعَ من فُلَانٍ أو أَوْصَى أَوَّلًا بِالْبَيْعِ ثُمَّ أَوْصَى بِالْإِعْتَاقِ كان رُجُوعًا لِمَا بين الْوَصِيَّتَيْنِ من التَّنَافِي إذْ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بين الْإِعْتَاقِ وَالْبَيْعِ فَكَانَ الأقدام على الثَّانِيَةِ دَلِيلَ الرُّجُوعِ عن الْأُولَى وَهَذَا هو الْأَصْلُ في جِنْسِ هذه الْمَسَائِلِ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِوَصِيَّتَيْنِ مُتَنَافِيَتَيْنِ كانت الثَّانِيَةُ مُبْطِلَةً لِلْأُولَى وهو مَعْنَى الرُّجُوعِ وَإِنْ كَانَتَا غير مُتَنَافِيَتَيْنِ نَفَذَتَا جميعا
وَلَوْ أَوْصَى بِشَاةٍ ثُمَّ ذَبَحَهَا كان رُجُوعًا لِأَنَّ الْمِلْكَ في بَابِ الْوَصِيَّةِ يَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالشَّاةُ الْمَذْبُوحَةُ لَا تَبْقَى إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ عَادَةً بَلْ تَفْسُدُ فَكَانَ الذَّبْحُ دَلِيلَ الرُّجُوعِ
وَلَوْ أَوْصَى بِثَوْبٍ ثُمَّ غَسَلَهُ أو بِدَارٍ ثُمَّ جَصَّصَهَا أو هَدَمَهَا لم يَكُنْ شَيْءٌ من ذلك رُجُوعًا لِأَنَّ الْغَسْلَ إزَالَةُ الدَّرَنِ وَالْوَصِيَّةُ لم تَتَعَلَّقْ بِهِ فلم يَكُنِ الْغَسْلُ تَصَرُّفًا في الْمُوصَى بِهِ وَتَجْصِيصُ الدَّارِ ليس تَصَرُّفًا في الدَّارِ بَلْ في الْبِنَاءِ لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ وَالْبِنَاءُ بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ فَيَكُونَ تَبَعًا لِلدَّارِ وَالتَّصَرُّفُ في التَّبَعِ لَا يَدُلُّ على الرُّجُوعِ عن الْأَصْلِ وَنَقْضُ الْبِنَاءِ تَصَرُّفٌ في الْبِنَاءِ وَالْبِنَاءُ صِفَةٌ وإنها تَابِعَةٌ
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ أَنْ يَشْتَرِيَ له عَبْدًا بِعَيْنِهِ ثُمَّ رَجَعَ الْعَبْدُ إلَى الموصى بِهِبَةٍ أو صَدَقَةٍ أو وَصِيَّةٍ أو مِيرَاثٍ فَالْوَصِيَّةُ لَا تَبْطُلُ وَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ ما وَقَعَتْ بِثَمَنِ الْعَبْدِ بَلْ بِعَيْنِ الْعَبْدِ وهو مَقْصُودُ الْمُوصَى وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشِّرَاءَ للتوسل ( ( ( للتوصل ) ) ) بِهِ إلَى مِلْكِهِ وقد مَلَكَهُ فَتُنَفَّذُ فيه الْوَصِيَّةُ
وَلَوْ أَوْصَى بِشَيْءٍ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِآخَرَ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّهُ إذَا أَعَادَ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ الْوَصِيَّةَ الْأُولَى وَالْمُوصَى له الثَّانِي مَحَلٌّ قَابِلٌ لِلْوَصِيَّةِ كان رُجُوعًا وكان إشْرَاكًا في الْوَصِيَّةِ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا قال أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِفُلَانٍ ثُمَّ قال أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِفُلَانٍ آخَرَ مِمَّنْ تَجُوزُ له الْوَصِيَّةُ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَكَذَا لو قال أَوْصَيْتُ بهذا الْعَبْدِ لِفُلَانٍ وهو يَخْرُجُ من الثُّلُثِ ثُمَّ قال أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ آخَرَ مِمَّنْ تَجُوزُ له الْوَصِيَّةُ كان الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ
وَلَوْ قال أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِفُلَانٍ أو بِعَبْدِي هذا لِفُلَانٍ ثُمَّ قال الذي أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ أو الْعَبْدُ الذي أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ فَهُوَ لِفُلَانٍ كان رُجُوعًا عن الْأُولَى وامضاء لِلثَّانِيَةِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْوَصِيَّةِ بِشَيْءٍ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِهِ لِآخَرَ هو الْإِشْرَاكُ لِأَنَّ فيه عَمَلًا بِالْوَصِيَّتَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَالْأَصْلُ في تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ صِيَانَتُهُ عن الابطال ما أَمْكَنَ وفي الْحَمْلِ على الرُّجُوعِ أبطال إحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ من كل وَجْهٍ
وفي الْحَمْلِ على
____________________

(7/379)


الْإِشْرَاكِ عَمَلٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا من وَجْهٍ فَيُحْمَلُ عليه ما أَمْكَنَ وَعِنْدَ الْإِعَادَةِ
وَكَوْنُ الثَّانِي مَحَلًّا لِلْوَصِيَّةِ لَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ على الْإِشْرَاكِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَعَادَ عَلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ نَقْلَ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ من الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي وَلَا يَنْتَقِلُ إلَّا بِالرُّجُوعِ فَكَانَ ذلك منه رُجُوعًا
هذا إذَا قال الْوَصِيَّةُ التي أَوْصَيْتُ بها لِفُلَانٍ فَهِيَ لِفُلَانٍ
وَكَذَا إذَا قال الْوَصِيَّةُ التي أَوْصَيْتُ بها لِفُلَانٍ قد أَوْصَيْتُهَا لِفُلَانٍ أو فَقَدْ أَوْصَيْتُهَا لِفُلَانٍ
فَأَمَّا إذَا قال وقد أَوْصَيْتُ بها لِفُلَانٍ فَهَذَا يَكُونُ إشْرَاكًا لِأَنَّ الْوَاوَ لِلشَّرِكَةِ وَلِلِاجْتِمَاعِ
وَلَوْ قال كُلُّ وَصِيَّةٍ أَوْصَيْتُ بها لِفُلَانٍ فَهِيَ بَاطِلَةٌ فَهَذَا رُجُوعٌ لِأَنَّهُ نَصَّ على ابطال الْوَصِيَّةِ الْأُولَى وهو من أَهْلِ الابطال وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لَلْبُطْلَانِ فَتَبْطُلُ وهو مَعْنَى الرُّجُوعِ
وَلَوْ قال كُلُّ وَصِيَّةٍ أَوْصَيْتُ بها لِفُلَانٍ فَهِيَ حَرَامٌ أو هِيَ رِبًا لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تُنَافِي الْوَصِيَّةَ فلم يَكُنْ دَلِيلَ الرُّجُوعِ وَلَوْ قال كُلُّ وَصِيَّةٍ أَوْصَيْتُ بها لِفُلَانٍ فَهِيَ لِفُلَانٍ وَارِثِي كان هذا رُجُوعًا عن وَصِيَّتِهِ لِفُلَانٍ وَوَصِيَّتُهُ لِلْوَارِثِ فَيَقِفُ على إجَازَةِ الْوَرَثَةِ لِأَنَّهُ نَقَلَ الْوَصِيَّةَ الْأُولَى بِعَيْنِهَا إلَى من يَصِحُّ النَّقْلُ إلَيْهِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ صَحِيحَةٌ بِدَلِيلِ أنها تَقِفُ على إجَازَةِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ وَالْبَاطِلُ لَا يَحْتَمِلُ التَّوَقُّفَ وإذا انْتَقَلَتْ إلَيْهِ لم يَبْقَ لِلْأَوَّلِ ضَرُورَةٌ
وَهَذَا مَعْنَى الرُّجُوعِ
ثُمَّ إنْ أَجَازَتْ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ الْوَصِيَّةَ لِهَذَا الْوَارِثِ نَفَذَتْ وَصَارَ الْمُوصَى بِهِ لِلْمُوصَى له وَإِنْ رَدُّوا بَطَلَتْ ولم يَكُنْ لِلْمُوصَى له الْأَوَّلُ لِصِحَّةِ الرُّجُوعِ لِانْتِقَالِ الْوَصِيَّةِ منه وَصَارَ مِيرَاثًا لِوَرَثَةِ الْمُوصَى كما لو رَجَعَ صَرِيحًا
وَلَوْ قال الْوَصِيَّةُ التي أَوْصَيْتُ بها لِفُلَانٍ فَهِيَ لِعَمْرِو بن فُلَانٍ وَعَمْرٌو حتى ( ( ( حي ) ) ) يوم قال الْمُوصِي هذه الْمَقَالَةَ كان رُجُوعًا عن وَصِيَّتِهِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِعَمْرٍو وقت ( ( ( وقعت ) ) ) صَحِيحَةً لِأَنَّهُ كان حَيًّا وقعت ( ( ( وقت ) ) ) كَلَامِ الْوَصِيَّةِ فَيَصِحُّ النَّقْلُ إلَيْهِ فَصَحَّ الرُّجُوعُ
وَلَوْ كان عَمْرٌو مَيِّتًا يوم كَلَامِ الْوَصِيَّةِ لم تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الْمَيِّتَ ليس بِمَحَلٍّ لِلْوَصِيَّةِ فلم يَصِحَّ إيجَابُ الْوَصِيَّةِ له فلم يَثْبُتْ ما في ضِمْنِهِ وهو الرُّجُوعُ
وَلَوْ كان عَمْرٌو حَيًّا يوم الْوَصِيَّةِ حتى صَحَّتْ ثُمَّ مَاتَ عَمْرٌو قبل مَوْتِ الْمُوصِي بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ نَفَاذَهَا عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَتَعَذَّرَ تَنْفِيذُهَا عِنْدَ مَوْتِهِ لِكَوْنِ الْمُوصَى له مَيِّتًا فَكَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْوَرَثَةِ
وَلَوْ قال الثُّلُثُ الذي أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ فَهُوَ لِعَقِبِ عَمْرٍو فإذا عَمْرٌو حَيٌّ وَلَكِنَّهُ مَاتَ قبل مَوْتِ الْمُوصِي فَالثُّلُثُ لِعَقِبِهِ وكان رُجُوعًا عن وَصِيَّةِ فُلَانٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِعَقِبِ عَمْرٍو وَقَعَ صَحِيحًا إذَا كان لِعَمْرٍو عَقِبٌ يوم مَوْتِ الْمُوصِي لِأَنَّ عَقِبَ الرَّجُلِ من يَعْقُبُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وهو وَلَدُهُ فلما مَاتَ عَمْرٌو قبل مَوْتِ الْمُوصِي فَقَدْ صَارَ وَلَدُهُ عَقِبًا له يوم نَفَاذِ الْإِيجَابِ
وهو يَوْمُ مَوْتِ الْمُوصِي فَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ
كما لو أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِوَلَدِ فُلَانٍ وَلَا وَلَدَ له يَوْمئِذٍ وُلِدَ له وَلَدٌ ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي إنَّ الثُّلُثَ يَكُونُ له
كَذَا هَهُنَا
ثُمَّ إذَا صَحَّ إيجَابُ الثُّلُثِ له بَطَلَ حَقُّ الْأَوَّلِ لِمَا قُلْنَا
فَإِنْ مَاتَ عَقِبُ عَمْرٍو بَعْدَ مَوْتِ عَمْرٍو قبل مَوْتِ الْمُوصِي رَجَعَ الثُّلُثُ إلَى الْوَرَثَةِ لِأَنَّ الْإِيجَابَ لهم قد صَحَّ لِكَوْنِهِمْ عَقِبًا لِعَمْرٍو فَثَبَتَ الرُّجُوعُ عن الْأَوَّلِ ثُمَّ بَطَلَ اسْتِحْقَاقُهُمْ بِمَوْتِهِمْ قبل مَوْتِ الْمُوصِي فَلَا يَبْطُلُ الرُّجُوعُ
وَلَوْ مَاتَ الْمُوصِي في حَيَاةِ عَمْرٍو فَالثُّلُثُ لِلْمُوصَى له لِأَنَّ الْمُوصِيَ قد مَاتَ ولم يَثْبُتْ لِلْمُوصَى لهم اسْمُ الْعَقِبِ بَعْدُ فَبَطَلَ الْإِيجَابُ لهم أَصْلًا
فَبَطَلَ ما كان ثَبَتَ في ضِمْنِهِ وهو الرُّجُوعُ عن الْوَصِيَّةِ الْأُولَى
وَلَوْ أَوْصَى ثُمَّ جَحَدَ الْوَصِيَّةَ ذُكِرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا
ولم يذكر خِلَافًا
قال الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ في نَوَادِرِهِ
قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في رَجُلٍ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ ثُمَّ عُرِضَتْ عليه من الْغَدِ فقال لَا أَعْرِفُ هذه الْوَصِيَّةَ قال هذا رُجُوعٌ منه
وَكَذَلِكَ لو قال لم أُوصِ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ قال وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا عن ذلك فقال لَا يَكُونُ الْجَحْدُ رُجُوعًا
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ قال بَعْدَ ذلك اشْهَدُوا اني لم أُوصِ لِفُلَانٍ بِقَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ لم يَكُنْ هذا رُجُوعًا منه عن وَصِيَّةِ فُلَانٍ
ولم يذكر خِلَافًا
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ما ذُكِرَ في الْأَصْلِ قَوْلَ أبي يُوسُفَ
وما ذُكِرَ في الْجَامِعِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ في الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ
وَجْهُ ما ذُكِرَ في الْجَامِعِ أَنَّ الرُّجُوعَ عن الْوَصِيَّةِ يَسْتَدْعِي سَابِقِيَّةَ وُجُودِ الْوَصِيَّةِ وَالْجُحُودُ إنْكَارُ وُجُودِهَا أَصْلًا فَلَا يَتَحَقَّقُ فيه مَعْنَى الرُّجُوعِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ رُجُوعًا
وَلِهَذَا لم يَكُنْ جُحُودُ النِّكَاحِ طَلَاقًا
وَلِأَنَّ إنْكَارَ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ وُجُودِهَا يَكُونُ كَذِبًا مَحْضًا فَكَانَ بَاطِلًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ كَالْإِقْرَارِ الكذب ( ( ( الكاذب ) ) ) حتى لو أَقَرَّ بِجَارِيَةٍ لِإِنْسَانٍ كَاذِبًا وَالْمُقَرُّ له يَعْلَمُ ذلك لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ حتى لَا يَحِلَّ وَطْؤُهَا وَكَذَا سَائِرُ الْأَقَارِيرِ الْكَاذِبَةِ أنها بَاطِلَةٌ في الْحَقِيقَةِ
كَذَا الْإِنْكَارُ الْكَاذِبُ

____________________

(7/380)


وَجْهُ ما ذُكِرَ في الْأَصْلِ أَنَّ مَعْنَى الرُّجُوعِ عن الْوَصِيَّةِ هو فَسْخُهَا وَإِبْطَالُهَا وَفَسْخُ الْعَقْدِ كَلَامٌ يَدُلُّ على عَدَمِ الرِّضَا بِالْعَقْدِ السَّابِقِ وَبِثُبُوتِ حُكْمِهِ وَالْجُحُودِ في مَعْنَاهُ
لِأَنَّ الْجَاحِدَ لِتَصَرُّفٍ من التَّصَرُّفَاتِ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ وَبِثُبُوتِ حُكْمِهِ فَيَتَحَقَّقُ فيه مَعْنَى الْفَسْخِ فَحَصَلَ مَعْنَى الرُّجُوعِ
وَرَوَى ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لو أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى بِوَصَايَا إلَى رَجُلٍ فَقِيلَ له إنَّكَ سَتَبْرَأُ فَأَخِّرْ الْوَصِيَّةَ فقال أَخَّرْتُهَا
فَهَذَا ليس بِرُجُوعٍ
وَلَوْ قِيلَ له اُتْرُكْهَا فقال قد تَرَكْتُهَا فَهَذَا رُجُوعٌ
لِأَنَّ الرُّجُوعَ عن الْوَصِيَّةِ هو إبْطَالُ الْوَصِيَّةِ وَالتَّأْخِيرُ لَا ينبىء عن الْإِبْطَالِ وَالتَّرْكُ ينبىء عنه
أَلَا يُرَى أَنَّهُ لو قال أَخَّرْتُ الدَّيْنَ كان تَأْجِيلًا له لَا إبْطَالًا
وَلَوْ قال تَرَكْتُهُ كان إبْرَاءً
رَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في رَجُلٍ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ مُسَمًّى وَأَخْبَرَ الْمُوصِي أَنَّ ثُلُثَ مَالِهِ أَلْفٌ أو قال هو هذا فإذا ثُلُثُ مَالِهِ أَكْثَرُ من أَلْفٍ
فإن أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قال إن له الثُّلُثَ من جَمِيعِ مَالِهِ وَالتَّسْمِيَةُ التي سَمَّى بَاطِلَةٌ
لَا يَنْقُضُ الْوَصِيَّةَ خَطَؤُهُ في مَالِهِ إنَّمَا غَلِطَ في الْحِسَابِ
وَلَا يَكُونُ رُجُوعًا في الْوَصِيَّةِ
وَهَذَا قَوْلُ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَقَدْ أتى بِوَصِيَّةٍ صَحِيحَةٍ
لِأَنَّ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ لَا تَقِفُ على بَيَانِ مِقْدَارِ الْمُوصَى بِهِ فَوَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةً بِدُونِهِ ثُمَّ بَيَّنَ الْمِقْدَارَ وَغَلِطَ فيه
وَالْغَلَطُ في قَدْرِ الْمُوصَى بِهِ لَا يَقْدَحُ في أَصْلِ الْوَصِيَّةِ فَبَقِيَتْ الْوَصِيَّةُ مُتَعَلِّقَةً بِثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ
وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هذا رُجُوعًا عن الزِّيَادَةِ على الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَلَطًا فَوَقَعَ الشَّكُّ في بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ فَلَا تَبْطُلُ مع الشَّكِّ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ الثَّابِتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ
وَلَوْ قال أَوْصَيْتُ بِغَنَمِي كُلِّهَا وَهِيَ مِائَةُ شَاةٍ فإذا هِيَ أَكْثَرُ من مِائَةٍ وَهِيَ تَخْرُجُ من الثُّلُثِ فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ في جَمِيعِهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَوْصَى بِجَمِيعِ غَنَمِهِ ثُمَّ غَلِطَ في الْعَدَدِ
قال وَلَوْ قال أَوْصَيْتُ له بِغَنَمِي وَهِيَ هذه وَلَهُ غَنَمٌ غَيْرُهَا تَخْرُجُ من الثُّلُثِ فإن هذا في الْقِيَاسِ مِثْلُ ذلك وَلَكِنِّي أَدَعُ الْقِيَاسَ في هذا وَأَجْعَلُ له الْغَنَمَ التي تُسَمَّى من الثُّلُثِ لِأَنَّهُ جَمَعَ بين التَّسْمِيَةِ وَالْإِشَارَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتَّعْيِينِ غير إن هذه الْإِشَارَةَ أَقْوَى لِأَنَّهَا تَحْصُرُ الْعَيْنَ وَتَقْطَعُ الشَّرِكَةَ فَتَعَلَّقَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُوصَى له غَيْرَهُ بِخِلَافِ ما إذَا قال أَوْصَيْتُ له بِثُلُثِ مَالِي وهو هذا وَلَهُ مَالٌ آخَرُ غَيْرُهُ أنه يَسْتَحِقُّ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ هُنَاكَ لم تَصِحَّ لِأَنَّهُ قال ثُلُثُ مَالِي وَالثُّلُثُ اسْمٌ لِلشَّائِعِ
وَالْمُعَيَّنُ غَيْرُ الشَّائِعِ فَلَغَتْ الْإِشَارَةُ فَتَعَلَّقَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمُسَمَّى وهو ثُلُثُ الْمَالِ وَهَهُنَا صَحَّتْ وَصِيَّةُ الْإِشَارَةِ وَهِيَ أَقْوَى من التَّسْمِيَةِ فَتَعَلَّقَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ
وَلَوْ قال قد أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِرَقِيقِي وَهُمْ ثَلَاثَةٌ فإذا هُمْ خَمْسَةٌ جَعَلْتُ الْخَمْسَةَ كُلَّهُمْ في الثُّلُثِ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِرَقِيقِهِ كُلِّهِمْ لَكِنَّهُ غَلِطَ في عَدَدِهِمْ وَالْغَلَطُ في الْعَدَدِ لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الْكُلِّ بِالْوَصِيَّةِ الْعَامَّةِ
وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِبَنِي عَمْرِو بن حَمَّادٍ وَهُمْ سَبْعَةٌ فإذا بَنُوهُ خَمْسَةٌ كان الثُّلُثُ كُلُّهُ لهم لِأَنَّهُ جَعَلَ الثُّلُثَ لِبَنِي عَمْرِو بن حَمَّادٍ ثُمَّ وَصَفَ بَنِيهِ وَهُمْ خَمْسَةٌ بِأَنَّهُمْ سَبْعَةٌ غَلَطًا فَيَلْغُو الْغَلَطُ وَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ لم يَتَكَلَّمْ بِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا قال وَهُمْ سَبْعَةٌ ولم يَكُونُوا إلَّا خَمْسَةً فَقَدْ أَوْصَى لِخَمْسَةٍ مَوْجُودِينَ وَلِمَعْدُومِينَ وَمَتَى جَمَعَ بين مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ وَأَوْصَى لَهُمَا يَلْغُو ذِكْرُ الْمَعْدُومِ وَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ لِلْمَوْجُودِ كما لو قال أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِعَمْرٍو وَخَالِدٍ ابْنَيْ فُلَانٍ فإذا أَحَدُهُمَا مَيِّتٌ أن الثُّلُثَ كُلَّهُ لِلْحَيِّ مِنْهُمَا
كَذَا هذا وَكَذَلِكَ لو قال لِبَنِي فُلَانٍ وَهُمْ خَمْسَةٌ فإذا هُمْ ثَلَاثَةٌ أو قال وَهُمْ سَبْعَةٌ فإذا هُمْ ثَلَاثَةٌ أو اثْنَانِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قال أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِبَنِي فُلَانٍ وَلَهُ ثَلَاثُ بَنِينَ أو ابْنَانِ كان جَمِيعُ الثُّلُثِ لهم لِأَنَّ الثَّلَاثَ يُقَالُ لهم بَنُونَ والإثنان في هذا الْبَابِ مُلْحَقٌ بِالْجَمِيعِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَهُنَاكَ أُلْحِقَ الِاثْنَتَانِ بِالثَّلَاثِ في حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ
كَذَا هذا
وَلَوْ كان لِفُلَانٍ ابْنٌ وَاحِدٌ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثُّلُثَ لِلْبَنِينَ وَالْوَاحِدُ لَا ينطاق ( ( ( ينطلق ) ) ) عليه اسْمُ الْبَنِينَ لُغَةً وَلَا له حُكْمُ الْجَمَاعَةِ في بَابِ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْكُلَّ وَإِنَّمَا صُرِفَ إلَيْهِ نِصْفُ الثُّلُثِ لِأَنَّ أَقَلَّ من يَسْتَحِقُّ كَمَالَ الثُّلُثِ في هذا الْبَابِ اثْنَانِ وَلَوْ كان معه آخَرُ لَصُرِفَ إلَيْهِمَا كَمَالُ الثُّلُثِ فإذا كان وَحْدَهُ يُصْرَفُ إلَيْهِ نِصْفُ الثُّلُثِ
وَلَوْ قال قد أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِابْنَيْ فُلَانٍ عَمْرٍو وَحَمَّادٍ فإذا ليس له إلَّا عَمْرٌو كان جَمِيعُ الثُّلُثِ له لِأَنَّهُ جَعَلَ عَمْرًا وَحَمَّادًا بَدَلَيْنِ عن قَوْلِهِ ابْنِي فُلَانٍ كما يُقَالُ جَاءَنِي أَخُوكَ عَمْرٌو وَالْبَدَلُ عِنْدَ أَهْلِ النَّحْوِ هو الْإِعْرَاضُ عن قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَالْأَخْذُ بِالثَّانِي فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ هو الثَّانِي وَالْأَوَّلُ يَلْغُو كما إذَا قُلْتَ جَاءَنِي أَخُوكَ زَيْدٌ يَصِيرُ كَأَنَّكَ قُلْتَ جَاءَنِي زَيْدٌ وَاعْتَمَدْتَ عليه وَأَعْرَضْتَ
____________________

(7/381)


عن قَوْلِكَ أَخُوكَ
إلَى هذا ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ من النَّحْوِيِّينَ وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وإذا كان كَذَلِكَ صَارَ الْمُوصِي مُعْتَمِدًا على قَوْلِهِ عَمْرٍو وَحَمَّادٍ مُعْرِضًا عن قَوْلِهِ ابْنَيْ فُلَانٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ قال أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِعَمْرٍو وَحَمَّادٍ وَحَمَّادٌ ليس بِمَوْجُودٍ وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَصَرَفَ كُلَّ الثُّلُثِ إلَى عمرو ( ( ( عمر ) ) ) وَكَذَا هَهُنَا
وَالْإِشْكَالُ على هذا أَنَّ قَوْلَهُ عَمْرٍو وَحَمَّادٍ كما يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عن قَوْلِهِ ابن ( ( ( ابني ) ) ) فُلَانٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ وَالْمُعْتَبَرُ في عَطْفِ الْبَيَانِ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا وَالثَّانِي يُذْكَرُ لِإِزَالَةِ الْجَهَالَةِ عن الْأَوَّلِ كما في قَوْلِ الْقَائِلِ جَاءَنِي أَخُوكَ زَيْدٌ إذَا كان في إخْوَتِهِ كَثْرَةٌ كان زَيْدٌ مَذْكُورًا بِطَرِيقِ عَطْفِ الْبَيَانِ لِإِزَالَةِ الْجَهَالَةِ الْمُتَمَكَّنَةِ في قَوْلِهِ أَخُوكَ لِكَثْرَةِ الْإِخْوَةِ بِمَنْزِلَةِ النَّعْتِ وإذا كان الْمُعْتَبَرُ هو الْمَذْكُورُ أَوَّلًا وهو قَوْلُهُ ابْنَيْ فُلَانٍ فإذا لم يَكُنْ لِفُلَانٍ إلَّا ابْنٌ وَاحِدٌ وهو عَمْرٌو فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ له إلَّا نِصْفُ الثُّلُثِ
وَالْجَوَابُ نعم هذا الْكَلَامُ يَصْلُحُ لَهُمَا جميعا لَكِنَّ الْحَمْلَ على ما قُلْنَا أَوْلَى لِأَنَّ فيه تَصْحِيحَ جَمِيعِ تَصَرُّفِهِ وهو تَمْلِيكُهُ جَمِيعَ الثُّلُثِ وَأَنَّهُ أَوْصَى بِتَمْلِيكِ جَمِيعِ الثُّلُثِ
وفي الْحَمْلِ على عَطْفِ الْبَيَانِ إثْبَاتُ تَمْلِيكِ النِّصْفِ فَكَانَ ما قُلْنَاهُ أَوْلَى على أَنَّ من شَرْطِ عَطْفِ الْبَيَانِ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مَعْلُومًا كما في قَوْلِ الْقَائِلِ جَاءَنِي أَخُوكَ زَيْدٌ
كان زَيْدٌ مَعْلُومًا فَزَالَ بِهِ وَصْفُ الْجَهَالَةِ الْمُعْتَرَضَةِ في قَوْلِهِ أَخُوكَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الأخوة
وفي مَسْأَلَتِنَا الثَّانِي غَيْرُ مَعْلُومٍ لِأَنَّ اسْمَ حَمَّادٍ ليس له مُسَمًّى مَوْجُودٌ له لِيَكُونَ مَعْلُومًا فَيَحْصُلُ بِهِ إزالة ( ( ( بإزالة ) ) ) الْجَهَالَةِ فَتَعَذَّرَ حَمْلُهُ على عَطْفِ الْبَيَانِ فَيُجْعَلَ بَدَلًا لِلضَّرُورَةِ
وَلَوْ قال أَوْصَيْتُ لِبَنِي فُلَانٍ وَهُمْ خَمْسَةٌ وَلِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ بِثُلُثِ مَالِي فإذا بَنُو فُلَانٍ ثَلَاثَةٌ فإن لِبَنِي فُلَانٍ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الثُّلُثِ وَلِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ رُبْعَ الثُّلُثِ لما ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ وَهُمْ خَمْسَةٌ لَغْوٌ إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً فَبَقِيَ قَوْلُهُ أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِبَنِي فُلَانٍ وَلِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا لِحُصُولِ الْوَصِيَّةِ لِأَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا لِاسْتِوَاءِ كل سَهْمٍ فيها
وَلَوْ قال قد أَوْصَيْتُ لِبَنِي فُلَانٍ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ بِثُلُثِ مَالِي فإذا بَنُو فُلَانٍ خَمْسَةٌ فَالثُّلُثُ لِثَلَاثَةٍ منهم لِأَنَّ قَوْلَهُ لِبَنِي فُلَانٍ اسْمٌ عَامٌّ
وَقَوْلَهُ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ تَخْصِيصٌ أَيْ أَوْصَيْتُ لِثَلَاثَةٍ من بَنِي فُلَانٍ فَصَحَّ الْإِيصَاءُ لِثَلَاثَةٍ منهم غَيْرِ مُعَيَّنِينَ وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا مَحْصُورَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ وَمِثْلُ هذه الْجَهَالَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ تَنْفِيذَهَا مُمْكِنٌ كما لو أَوْصَى لِأَوْلَادِ فُلَانٍ وَكَمَا لو أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وهو مَجْهُولٌ لَا يَدْرِي كَمْ يَكُونُ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي بِخِلَافِ ما إذا أَوْصَى لِوَاحِدٍ من عَرَضِ الناس حَيْثُ لم يَصِحَّ لِأَنَّ تِلْكَ الْجَهَالَةَ غَيْرُ مُسْتَدْرَكَةٍ
وَكَذَا لو أَوْصَى لِقَبِيلَةٍ لَا يُحْصَوْنَ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا وَالْخِيَارُ في تَعْيِينِ الثَّلَاثَةِ من بَنِيهِ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ وَالْبَيَانُ كان إلَيْهِ لِأَنَّهُ هو الْمُبْهَمُ فلما مَاتَ عَجَزَ عن الْبَيَانِ بِنَفْسِهِ فَقَامَ من يَخْلُفُهُ مَقَامَهُ بِخِلَافِ ما إذَا أَوْصَى لِمَوَالِيهِ حَيْثُ لم تَصِحَّ ولم تَقُمْ الْوَرَثَةُ مَقَامَهُ لِأَنَّ هُنَاكَ تَخَلَّفَ الْمَقْصُودُ من الْوَصِيَّةِ وَلَا يَقِفُ على مَقْصُودِ الْمُوصِي أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ زِيَادَةً في الْإِنْعَامِ أو الشُّكْرِ أو مُجَازَاةَ أَحَدٍ من الْوَرَثَةِ فَلَا يُمْكِنُهُمْ التَّعْيِينُ وَهَهُنَا الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ
وَاسْتَشْهَدَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِصِحَّةِ هذه الْوَصِيَّةِ فقال أَلَا يُرَى أَنَّ رَجُلًا لو قال أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِبَنِي فُلَانٍ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ فإذا بَنُو فُلَانٍ غَيْرُ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ أن الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ لِمَنْ سَمَّى لِأَنَّهُ خَصَّ الْبَعْضَ فَكَذَا هَهُنَا أَوْضَحَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَوَازَ تَخْصِيصِ ثَلَاثَةٍ مَجْهُولِينَ بِعِلْمِهِ لِجَوَازِ تَخْصِيصِ ثَلَاثَةٍ مُعَيَّنِينَ وَأَنَّهُ إيضَاحٌ صَحِيحٌ
وَلَوْ قال قد أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِبَنِي فُلَانٍ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ وَلِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ فإذا بَنُو فُلَانٍ خَمْسَةٌ فَلِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ رُبْعُ الثُّلُثِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ صَحِيحٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ فَصَارَ مُوصِيًا بِثُلُثِ مَالِهِ لِثَلَاثَةٍ من بَنِي فُلَانٍ وَلِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ فَكَانَ فُلَانٌ رَابِعَهُمْ فَكَانَ له رُبْعُ الثُّلُثِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِثَلَاثَةٍ من بَنِي فُلَانٍ
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِائَةٍ وَلِرَجُلٍ آخَرَ بِمِائَةٍ ثُمَّ قال لِآخَرَ قد أَشْرَكْتُكَ مَعَهُمَا فَلَهُ ثُلُثُ كل مِائَةٍ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي التَّسَاوِيَ وقد أَضَافَهَا إلَيْهِمَا فَيَقْتَضِي أَنْ يَسْتَوِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ إلَّا بِأَنْ يَأْخُذَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ ما في يَدِهِ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثَا الْمِائَةِ فَتَحْصُلُ الْمُسَاوَاةُ وَإِنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَرْبَعِمِائَةٍ وَلِآخَرَ بِمِائَتَيْنِ ثُمَّ قال الآخر ( ( ( لآخر ) ) ) قد أَشْرَكْتُكَ مَعَهُمَا فَلَهُ نِصْفُ ما أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ تَحْقِيقَ الْمُشَارَكَةِ بَيْنَهُمْ على سَبِيلِ الْجُمْلَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ في هذه الصُّورَةِ لِاخْتِلَافِ الْأَنْصِبَاءِ فَيَتَحَقَّقُ التَّسَاوِي على سَبِيلِ الِانْفِرَادِ تَحْقِيقًا لِمُقْتَضَى الشَّرِكَةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَكَذَا لو أَوْصَى لِاثْنَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ جَارِيَةٌ ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهِمَا ثَالِثًا كان له نِصْفُ كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا
____________________

(7/382)


أَنَّ إثْبَاتَ الِاسْتِوَاءِ على سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ غَيْرُ مُمْكِنٌ
وَلَوْ قال سُدُسُ مَالِي لِفُلَانٍ ثُمَّ قال في ذلك الْمَجْلِسِ أو في مَجْلِسٍ آخَرَ ثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ فَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَلَهُ ثُلُثُ الْمَالِ لِأَنَّ الْمُوصِي أَثْبَتَ الثُّلُثَ فَثَبَتَ وهو يَتَضَمَّنُ السُّدُسَ فَثَبَتَ الْمُتَضَمَّنُ بِهِ بِثُبُوتِ الْمُتَضَمِّنِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ أَعَادَ الْأَوَّلَ زِيَادَةً
وَلَوْ قال سُدُسُ مَالِي لِفُلَانٍ وَصِيَّةً سُدُسُ مَالِي لِفُلَانٍ فَإِنَّمَا هو سُدُسٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إذَا كُرِّرَتْ كان الْمُرَادُ بِالثَّانِي هو الْأَوَّلُ وَالسُّدُسُ هَهُنَا ذُكِرَ مَعْرِفَةً لِإِضَافَتِهِ إلَى الْمَالِ الْمَعْرُوفِ بِالْإِضَافَةِ إلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا أَوْصَى بِخَاتَمٍ لِفُلَانٍ وَبِفَصِّهِ لِفُلَانٍ آخَرَ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كانت الْوَصِيَّتَانِ في كَلَامٍ وَاحِدٍ مُتَّصِلٍ وَإِمَّا إنْ كَانَتَا في كَلَامٍ مُنْفَصِلٍ فَإِنْ كَانَتَا في كَلَامٍ مُنْفَصِلٍ فَالْحَلْقَةُ للموصي له بِالْخَاتَمِ وَالْفَصُّ لِلْمُوصَى له بِالْفَصِّ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَتَا في كَلَامٍ مُنْفَصِلٍ فَكَذَلِكَ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَقِيلَ أنه قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْحَلْقَةُ لِلْمُوصَى له بِالْخَاتَمِ وَالْفَصُّ بَيْنَهُمَا
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْوَصِيَّةَ بِالْخَاتَمِ تَتَنَاوَلُ الْحَلْقَةَ وَالْفَصَّ وَبِالْوَصِيَّةِ لِآخَرَ بِالْفَصِّ لم يَتَبَيَّنْ إن الْفَصَّ لم يَدْخُلْ وإذا كان كَذَلِكَ بَقِيَ الْفَصُّ دَاخِلًا في الْوَصِيَّةِ بِالْخَاتَمِ وإذا أَوْصَى بِالْفَصِّ لِآخَرَ فَقَدْ اجْتَمَعَ في الْفَصِّ وَصِيَّتَانِ فَيَشْتَرِكَانِ فيه وَيُسَلِّمُ الْحَلْقَةَ لِلْأَوَّلِ
وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أن اسْمَ الْخَاتَمِ يَتَنَاوَلُ الْفَصَّ الذي فيه إمَّا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ لِأَنَّهُ جُزْءٌ من أَجْزَاءِ الْخَاتَمِ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ وَإِمَّا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لَكِنْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فإذا أَفْرَدَ الْبَعْضَ بِالْوَصِيَّةِ لِآخَرَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَتَنَاوَلْهُ حَيْثُ جَعَلَهُ مَنْصُوصًا عليه أو مَقْصُودًا بِالْوَصِيَّةِ فَبَطَلَتْ التَّبَعِيَّةُ لِأَنَّ الثَّابِتَ نَصًّا فَوْقَ الثَّابِتِ ضِمْنًا وَتَبَعًا وَالْأَصْلُ في الْوَصَايَا أَنْ يُقَدَّمَ الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى وَصَارَ هذا كما إذَا أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ أن الرَّقَبَةَ تَكُونُ لِلْمُوصَى له الْأَوَّلِ وَالْخِدْمَةَ لِلْمُوصَى له الثَّانِي لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ إن هذا ليس نَظِيرَ اللَّفْظِ الْعَامِّ إذَا وَرَدَ عليه التَّخْصِيصُ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ فَرْدٍ من أَفْرَادِ الْعُمُومِ بِحُرُوفِهِ فَيَصِيرُ كُلُّ فَرْدٍ من أَفْرَادِهِ مَنْصُوصًا عليه وَهَهُنَا كُلُّ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الْخَاتَمِ لَا يَصِيرُ مَنْصُوصًا عليه بِذِكْرِ الْخَاتَمِ أَلَا يَرَى أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الْخَاتَمِ لَا يُسَمَّى خَاتَمًا كما لَا يُسَمَّى كُلُّ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الْإِنْسَانِ إنْسَانًا فلم يَكُنْ هذا نظيرا ( ( ( نظير ) ) ) للفظ ( ( ( اللفظ ) ) ) الْعَامِّ فَلَا يَسْتَقِيمُ قِيَاسُهُ عليه مع ما أَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ في الْعَامِّ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ وَمُنْفَصِلٍ
وَالْبَيَانُ الْمُتَأَخِّرُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لَا مَحَالَةَ بَلْ قد يَكُونُ نَسْخًا وقد يَكُونُ تَخْصِيصًا على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ على أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخَاتَمِ وَإِنْ تَنَاوَلَتْ الْحَلْقَةَ وَالْفَصَّ لَكِنَّهُ لَمَّا أَوْصَى بِالْفَصِّ لِآخَرَ فَقَدْ رَجَعَ عن وَصِيَّتِهِ بِالْفَصِّ لِلْأَوَّلِ وَالْوَصِيَّةُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ ما دَامَ الْمُوصِي حَيًّا فَتَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ
أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ عن كل ما أَوْصَى بِهِ فَفِي الْبَعْضِ أَوْلَى فَيُجْعَلُ رُجُوعًا في الْوَصِيَّةِ بِالْفَصِّ لِلْمُوصَى له بِالْخَاتَمِ
وَعَلَى هذا إذَا أَوْصَى بِهَذِهِ الْأَمَةِ لِفُلَانٍ وَبِمَا في بَطْنِهَا لِآخَرَ أو أَوْصَى بِهَذِهِ الدَّارِ لِفُلَانٍ وَبِبِنَائِهَا لِآخَرَ
أو أَوْصَى بِهَذِهِ الْقَوْصَرَّةِ لِفُلَانٍ وَبِالثَّمَرِ الذي فيها لِآخَرَ أنه إنْ كان مَوْصُولًا كان لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ما أَوْصَى له بِهِ بِالْإِجْمَاعِ
وَإِنْ كان مَفْصُولًا فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا
وَلَوْ أَوْصَى بهذا الْعَبْدِ لِفُلَانٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِفُلَانٍ آخَرَ أو أَوْصَى بِهَذِهِ الدَّارِ لِفُلَانٍ وَبِسُكْنَاهَا لِآخَرَ أو ( ( ( وبهذه ) ) ) بهذه الشَّجَرَةِ لِفُلَانٍ وَثَمَرَتِهَا لِآخَرَ أو بِهَذِهِ الشَّاةِ لِفُلَانٍ وَبِصُوفِهَا لِآخَرَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ما سَمَّى له بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ كان مَوْصُولًا أو مَفْصُولًا لِأَنَّ اسْمَ الْعَبْدِ لَا يَتَنَاوَلُ الْخِدْمَةَ وَاسْمَ الدَّارِ لَا يَتَنَاوَلُ السُّكْنَى وَاسْمَ الشَّجَرَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الثَّمَرَةَ لَا بِطَرِيقِ الْعُمُومِ وَلَا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ من أَجْزَاءِ الْعَيْنِ إلَّا أَنَّ الْحُكْمَ مَتَى ثَبَتَ في الْعَيْنِ ثَبَتَ فيها بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لَكِنْ إذَا لم يُفْرَدْ التَّبَعُ بِالْوَصِيَّةِ فإذا أُفْرِدَتْ صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالْوَصِيَّةِ فلم تَبْقَ تَابِعَةً فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ما أَوْصَى له بِهِ أو تُجْعَلُ الْوَصِيَّةُ الثَّابِتَةُ رُجُوعًا عن الْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى وَالثَّمَرَةِ
وَالْوَصِيَّةُ تَقْبَلُ الرُّجُوعَ
وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ حُجَّةُ أبي يُوسُفَ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى
وَلَوْ ابْتَدَأَ بِالتَّبَعِ في هذه الْمَسَائِلِ ثُمَّ بِالْأَصْلِ بِأَنْ أَوْصَى بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ لِفُلَانٍ ثُمَّ بِالْعَبْدِ لِآخَرَ
أو أَوْصَى بِسُكْنَى هذه الدَّارِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ بِالدَّارِ لِآخَرَ أو بِالثَّمَرَةِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ بِالشَّجَرَةِ لِآخَرَ فإذا ذُكِرَ مَوْصُولًا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ما أَوْصَى له بِهِ وَإِنْ ذُكِرَ مَفْصُولًا فَالْأَصْلُ لِلْمُوصَى له بِالْأَصْلِ وَالتَّبَعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ الثَّابِتَةَ
____________________

(7/383)


تَنَاوَلَتْ الْأَصْلَ وَالتَّبَعَ جميعا
فَقَدْ اجْتَمَعَ في التَّبَعِ وَصِيَّتَانِ فَيَشْتَرِكَانِ فيه وَيُسَلِّمُ الْأَصْلَ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ
وَهَذَا حُجَّةُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ
وَلَوْ أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ أَوْصَى بِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ ثُمَّ أَوْصَى له بِالْعَبْدِ بَعْد ما أَوْصَى له بِالْخِدْمَةِ أو أَوْصَى بِخَاتَمِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ أَوْصَى بِفَصِّهِ لِآخَرَ ثُمَّ أَوْصَى له بِالْخَاتَمِ بعدما أَوْصَى له بِالْفَصِّ أو أَوْصَى بِجَارِيَتِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ أَوْصَى بِوَلَدِهَا لِآخَرَ ثُمَّ أَوْصَى له بِالْجَارِيَةِ بعدما أَوْصَى له بِوَلَدِهَا فَالْأَصْلُ وَالتَّبَعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ نِصْفُ الْعَبْدِ لِهَذَا وَنِصْفُهُ لِلْآخَرِ وَلِهَذَا نِصْفُ خِدْمَتِهِ وَلِلْآخَرِ نِصْفُ خِدْمَتِهِ
وَكَذَا في الْجَارِيَةِ مع وَلَدِهَا وَالْخَاتَمِ مع الْفَصِّ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا بِالْأَصْلِ وَصِيَّةٌ بِالتَّبَعِ وَيَبْطُلُ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ بِالتَّبَعِ بِانْفِرَادِهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ بِالْأَصْلِ وَالتَّبَعِ نَصًّا وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَاشْتَرَكَا في الْأَصْلِ وَالتَّبَعِ كَذَا هذا
فَإِنْ كان أَوْصَى لِلثَّانِي بِنِصْفِ الْعَبْدِ يُقْسَمُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا وكان لِلثَّانِي نِصْفُ الْخِدْمَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْصَى له بِنِصْفِ الْعَبْدِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ في خِدْمَةِ ذلك النِّصْفِ لِدُخُولِهَا تَحْتَ الْوَصِيَّةِ بِنِصْفِ الْعَبْدِ وَبَقِيَتْ وَصِيَّتُهُ بِالْخِدْمَةِ في النِّصْفِ الْآخَرِ
وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَجَعَ عن هذا وقال إذَا أَوْصَى بِالْعَبْدِ لِرَجُلٍ وَأَوْصَى بِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ ثُمَّ أَوْصَى بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ أَيْضًا لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ فإن الْعَبْدَ بَيْنَهُمَا وَالْخِدْمَةَ كُلَّهَا لِلْمُوصَى له بِالْخِدْمَةِ لِإِفْرَادِهِ بِالْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ فَوَقَعَ صَحِيحًا فَلَا تَبْطُلُ بِالْوَصِيَّةِ بِالرَّقَبَةِ فَصَارَ الْمُوصَى له الثَّانِي مُوصًى له بِالرَّقَبَةِ وَالْخِدْمَةُ على الِانْفِرَادِ فَيَسْتَحِقُّ نِصْفَ الرَّقَبَةِ لِمُسَاوَاتِهِ صَاحِبَهُ في الْوَصِيَّةِ بها وَيَنْفَرِدُ بِالْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ
وقال لو أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَمَةٍ تَخْرُجُ من الثُّلُثِ وَأَوْصَى لِآخَرَ بِمَا في بَطْنِهَا وَأَوْصَى بها أَيْضًا لِلَّذِي أَوْصَى له بِمَا في الْبَطْنِ فَالْأَمَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَالْوَلَدُ كُلُّهُ لِلَّذِي أَوْصَى له بِهِ خَاصَّةً لَا يُشْرِكُهُ فيه صَاحِبُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا تَسَاوَيَا في اسْتِحْقَاقِ الرَّقَبَةِ وَانْفَرَدَ صَاحِبُ الْوَلَدِ بِالْوَصِيَّةِ بِهِ خَاصَّةً
وَلَوْ أَوْصَى بِالدَّارِ لِرَجُلٍ وَأَوْصَى بِبَيْتٍ فيها بِعَيْنِهِ لِآخَرَ فإن الْبَيْتَ بَيْنَهُمَا بِالْحِصَصِ وَكَذَا لو أَوْصَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهَا لِرَجُلٍ وَأَوْصَى بِمِائَةٍ منها لِآخَرَ كان تِسْعُمِائَةٍ لِصَاحِبِ الْأَلْفِ وَالْمِائَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ يَتَنَاوَلُ الْبُيُوتَ التي فيها بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ
وَكَذَا اسْمُ الْأَلْفِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مِائَةٍ منها بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وكان كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلًا في كَوْنِهِ مُوصًى بِهِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فيه وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى على طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ على طَرِيقِ الْمُضَارَبَةِ فَيُقَسَّمُ على أَحَدَ عَشَرَ لِصَاحِبِ الْمِائَةِ جُزْءٌ من أَحَدَ عَشَرَ في الْمِائَةِ
وَلِصَاحِبِ الْأَلْفِ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ في جَمِيعِ الْأَلْفِ
وَكَذَلِكَ الدَّارُ وَالْبَيْتُ
وَلَوْ أَوْصَى بِبَيْتٍ بِعَيْنِهِ لِرَجُلٍ وَسَاحَتِهِ لِآخَرَ كان الْبِنَاءُ بَيْنَهُمَا بِالْحِصَصِ لِأَنَّ الْبَيْتَ لَا يُسَمَّى بَيْتًا بِدُونِ الْبِنَاءِ فَكَانَتْ وَصِيَّةُ الْأَوَّلِ مُتَنَاوِلَةً لِلْبِنَاءِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فَيُشَارِك الموصي له بِالسَّاحَةِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِدَارٍ لِإِنْسَانٍ وَبِبِنَائِهَا لِآخَرَ أَنَّهُمَا لَا يَشْتَرِكَانِ في الْبِنَاءِ بَلْ تَكُونُ الْعَرْصَةُ لِلْمُوصَى له بِالدَّارِ وَالْبِنَاءُ لِآخَرَ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لَا يَتَنَاوَلُ الْبِنَاءَ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ بَلْ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ
إذْ الدَّارُ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ في اللُّغَةِ وَالْبِنَاءُ فيها تَبَعٌ
بِدَلِيلِ أنها تُسَمَّى دَارًا بَعْدَ زَوَالِ الْبِنَاءِ فَكَانَ دُخُولُ الْبِنَاءِ في الْوَصِيَّةِ بِالدَّارِ من طَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ فَكَانَتْ الْعَرْصَةُ لِلْأَوَّلِ وَالْبِنَاءُ لِلثَّانِي وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الرُّجُوعُ الثَّابِتُ من طَرِيق الضَّرُورَةِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَتَّصِلَ بِالْعَيْنِ الْمُوصَى بِهِ زِيَادَةٌ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ بِدُونِهَا كما إذَا أَوْصَى بِسَوِيقٍ ثُمَّ لَتَّهُ بِالسَّمْنِ لِأَنَّ الْمُوصَى بِهِ اتَّصَلَ بِمَا ليس بِمُوصًى بِهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ بِدُونِهِ لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا فَثَبَتَ الرُّجُوعُ ضَرُورَةً
وَكَذَا إذَا أوصى ( ( ( وصى ) ) ) بِدَارٍ ثُمَّ بَنَى فيها أو أَوْصَى بِقُطْنٍ ثُمَّ حَشَاهُ جُبَّةً فيه أو أَوْصَى بِبِطَانَةٍ ثُمَّ بَطَّنَ بها أو بِظَهَارَةٍ ثُمَّ ظَهَّرَ بها لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْمُوصَى بِهِ إلَّا بِتَسْلِيمِ ما اتَّصَلَ بِهِ وَلَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِالنَّقْضِ وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّكْلِيفِ بِالنَّقْضِ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ فَجُعِلَ رُجُوعًا من طَرِيقِ الضَّرُورَةِ
وَيُمْكِنُ إثْبَاتُ الرُّجُوعِ في هذه الْمَسَائِلِ من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَيْضًا لِأَنَّ اتِّصَالَ الْمُوصَى بِهِ بِغَيْرِهِ حَصَلَ بِصُنْعِ الْمُوصِي فَكَانَ تَعَدُّدُ التَّسْلِيمِ مُضَافًا إلَى فِعْلِهِ وكان رُجُوعًا منه دَلَالَةً
وَالثَّانِي أَنْ يَتَغَيَّرَ الْمُوصَى بِهِ بِحَيْثُ يَزُولُ مَعْنَاهُ وَاسْمُهُ
سَوَاءٌ كان التَّغْيِيرُ إلَى الزِّيَادَةِ أو إلَى النُّقْصَانِ كما إذَا أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِثَمَرِ هذا النَّخْلِ ثُمَّ لم يَمُتْ الْمُوصِي حتى صَارَ بُسْرًا أو أَوْصَى له بهذا الْبُسْرِ ثُمَّ صَارَ رُطَبًا أو أَوْصَى بهذا الْعِنَبِ فَصَارَ زَبِيبًا أو بهذا السُّنْبُلِ فَصَارَ حِنْطَةً أو بهذا الفصيل ( ( ( القصيل ) ) ) فَصَارَ شَعِيرًا أو بِالْحِنْطَةِ الْمَبْذُورَةِ في
____________________

(7/384)


الْأَرْضِ فَنَبَتَتْ وَصَارَتْ بَقْلًا أو بِالْبَيْضَةِ فَصَارَتْ فَرْخًا أو نحو ذلك ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فِيمَا أَوْصَى بِهِ فَيَثْبُتُ الرُّجُوعُ ضَرُورَةً
هذا إذَا تَغَيَّرَ الْمُوصَى بِهِ قبل مَوْتِ الْمُوصِي لِأَنَّهُ صَارَ شيئا آخَرَ لِزَوَالِ مَعْنَاهُ وَاسْمِهِ فَتَعَذَّرَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِيمَا أَوْصَى بِهِ
وَأَمَّا إذَا تَغَيَّرَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَحُكْمُهُ يُذْكَرُ في بَيَانِ ما تَبْطُلُ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ أَوْصَى بِرُطَبِ هذا النَّخْلِ فَصَارَ بُسْرًا فَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ لِتَغَيُّرِ الْمُوصَى بِهِ وهو الرُّطَبُ من الرُّطُوبَةِ إلَى الْيُبُوسَةِ وَزَوَالِ اسْمِهِ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَبْطُلُ لِأَنَّ مَعْنَى الذَّاتِ لم يَتَغَيَّرْ من كل وَجْهٍ بَلْ بَقِيَ من وَجْهٍ
أَلَا يَرَى أَنَّ غَاصِبًا لو غَصَبَ رُطَبَ إنْسَانٍ فَصَارَ تَمْرًا في يَدِهِ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ بَلْ يَكُونُ له الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ تَمْرًا وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ رُطَبًا مِثْلَ رُطَبِهِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْوَصِيَّةِ فَالْوَصِيَّةُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ وَصِيَّةٌ بِالْمَالِ وَوَصِيَّةٌ بِفِعْلٍ مُتَعَلِّقٍ بِالْمَالِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْمَالِ
أَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْمَالِ فَحُكْمُهَا ثُبُوتُ الْمِلْكِ في الْمَالِ الموصي بِهِ لِلْمُوصَى له وَالْمَالُ قد يَكُونُ عَيْنًا وقد يَكُونُ مَنْفَعَةً وَيَتَعَلَّقُ بِالْمِلْكِ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحْكَامٌ أَمَّا مِلْكُ الْعَيْنِ فَحُكْمُ مُطْلَقِ مِلْكِهِ وَحُكْمُ سَائِرِ الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ بِالْأَسْبَابِ الْمَوْضُوعَةِ لها سَوَاءٌ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا فَيَمْلِكُ الْمُوصَى له بالتصرف ( ( ( التصرف ) ) ) فيها بِالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهَا وَالتَّمْلِيكِ من غَيْرِهِ بَيْعًا وَهِبَةً وَوَصِيَّةً لِأَنَّهُ مِلْكٌ بِسَبَبٍ مُطْلَقٍ فَيَظْهَر في الْأَحْكَامِ كُلِّهَا وَيَظْهَرُ في الزَّوَائِدِ الْمُتَّصِلَةِ أو الْمُنْفَصِلَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي سَوَاءٌ حَدَثَتْ بَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى له أو قبل قَبُولِهِ بِأَنْ حَدَثَتْ ثَمَّ قَبِلَ الْوَصِيَّةَ أَمَّا بَعْدَ الْقَبُولِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهَا حَدَثَتْ بَعْدَ مِلْكِ الْأَصْلِ وَمِلْكُ الْأَصْلِ مُوجِبٌ مِلْكَ الزِّيَادَةِ
وَأَمَّا قبل الْقَبُولِ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ بَعْدَ الْقَبُولِ ثَبَتَ من وَقْتِ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ صَارَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ في الْأَصْلِ وَقْتَ الْمَوْتِ لِكَوْنِهِ مُضَافًا إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ فَصَارَ سَبَبًا عِنْدَ الْمَوْتِ فإذا قُبِلَ ثَبَتَ الْمِلْكُ فيه من ذلك الْوَقْتِ لِوُجُودِ السَّبَبِ في ذلك الْوَقْتِ كَالْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ المشتري ( ( ( للمشتري ) ) ) إذَا وَلَدَتْ في مُدَّةِ الْخِيَارِ ثُمَّ أَجَازَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ أنه يَمْلِكُ الْوَلَدَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَكَانَتْ الزَّوَائِدُ مُوصًى بها حتى يُعْتَبَرَ خُرُوجُهَا من الثُّلُثِ لِأَنَّ الْمِلْكَ فيها بِوَاسِطَةِ مِلْكِ الْأَصْلِ مُضَافٌ إلَى كَلَامٍ سَابِقٍ كَأَنَّهَا كانت مَوْجُودَةً في ذلك الْوَقْتِ
وَهَلْ يَكُونُ مُوصًى بها بَعْدَ الْقَبُولِ قبل الْقِسْمَةِ لم يُذْكَرْ في الْأَصْلِ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ لَا يَكُونُ حتى لَا يُعْتَبَرَ فيها الثُّلُثُ وَيَكُونُ في جَمِيعِ الْمَالِ كما لو حَدَثَتْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهَا حَدَثَتْ بَعْدَ مِلْكِ الْأَصْلِ
وقال عَامَّتُهُمْ يَكُونُ لِأَنَّ مِلْكَ الْأَصْلِ وَإِنْ ثَبَتَ لَكِنَّهُ لم يَتَأَكَّدْ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو هَلَكَ ثُلُثُ التَّرِكَةِ قبل الْقِسْمَةِ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ بِحَيْثُ لَا تَخْرُجُ من ثُلُثِ الْمَالِ كانت له الْجَارِيَةُ بِقَدْرِ ثُلُثِ الْبَاقِي وَيَسْتَوِي فِيمَا ذَكَرْنَا من الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ من الْأَصْلِ أو في مَعْنَى الْمُتَوَلِّدَةِ كَالْوَلَدِ وَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ وما لم يَكُنْ مُتَوَلِّدًا من الْأَصْلِ رَأْسًا كَالْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ فَرْقًا بين الْوَصِيَّةِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ حَيْثُ أَلْحَقَ الْكَسْبَ وَالْغَلَّةَ بِالْمُتَوَلَّدِ في الْوَصِيَّةِ ولم يُلْحِقْهُمَا في الْبَيْعِ وَالْفَرْقُ إن الْكَسْبَ وَالْغَلَّةَ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنْفَعَةُ تُمَلَّكُ بِالْوَصِيَّةِ مَقْصُودًا كَذَا بَدَلُهَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ ثُمَّ إذَا صَارَتْ الزَّوَائِدُ مُوصًى بها حتى يُعْتَبَرَ خُرُوجُهَا من الثُّلُثِ فَإِنْ كانت الْجَارِيَةُ مع الزِّيَادَةِ يَخْرُجَانِ من الثُّلُثِ يُعْطَيَانِ لِلْمُوصَى له وَإِنْ كان لَا يَخْرُجَانِ جميعا من الثُّلُثِ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعْطَى لِلْمُوصَى له الْجَارِيَةَ أَوَّلًا من الثُّلُثِ فَإِنْ فَضَلَ من الثُّلُثِ شَيْءٌ يُعْطَى من الزِّيَادَةِ بِقَدْرِ ما فَضَلَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُعْطَى الثُّلُثَ مِنْهُمَا جميعا بِقَدْرِ الْحِصَصِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن الزِّيَادَةَ إنْ صَارَتْ مُوصًى بها صَارَتْ كَالْمَوْجُودَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَيُعْطَى الثُّلُثَ مِنْهُمَا جميعا أَكْثَرُ ما في الْبَابِ أَنَّ فيه تَغْيِيرَ حُكْمِ الْعَقْدِ في الْأَصْلِ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ لَكِنَّ هذا جَائِزٌ كما في الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْقَوْلَ بِانْقِسَامِ الثُّلُثِ على الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ إضْرَارٌ بِالْمُوصَى له من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
بَيَانُ ذلك أَنَّ حُكْمَ الْوَصِيَّةِ في الْأَصْلِ قبل حُدُوثِ الزِّيَادَةِ كان سَلَامَةَ كل الْجَارِيَةِ للموصي له وَبَعْدَ الإنقسام لَا تَسْلَمُ الْجَارِيَةُ له بَلْ تَصِيرُ مُشْتَرَكَةً
وَالشَّرِكَةُ في الْأَعْيَانِ عَيْبٌ خُصُوصًا في الْجَوَارِي فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الموصي له وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إلْحَاقِ هذا الضَّرَرِ لامكان تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ في الْأَصْلِ بِدُونِ الزِّيَادَةِ
بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ فإن هُنَاكَ ضَرُورَةً لِتَعَذُّرِ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ في الْأَصْلِ بِدُونِ الزِّيَادَةِ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّمْيِيزِ
فَمَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى التَّنْفِيذِ فِيهِمَا من الثُّلُثِ
وَأَمَّا الزَّوَائِدُ الْحَادِثَةُ قبل مَوْتِ الْمُوصِي فَلَا يَمْلِكُهَا الْمُوصَى له لِأَنَّهَا حَدَثَتْ قبل
____________________

(7/385)


مِلْكِ الْأَصْلِ وَقَبْلَ إنعقاد سَبَبِ الْمِلْكِ
لِأَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ إنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا عِنْدَ الْمَوْتِ فإذا مَاتَ الْمُوصِي مَلَكَهَا الْوَرَثَةُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ بِالْوَصِيَّةِ الْمُضَافَةِ إلَيْهَا مَقْصُودًا فَيَتَعَلَّقُ بها أَحْكَامٌ مُخْتَلِفَةٌ فَنَذْكُرُهَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إنَّ الْمِلْكَ في الْمَنْفَعَةِ ثَبَتَ مُوَقَّتًا لَا مُطْلَقًا فَإِنْ كانت الْوَصِيَّةُ مُؤَقَّتَةً إلَى مُدَّةٍ تَنْتَهِي بإنتهاء الْمُدَّةِ وَيَعُودُ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ إلَى الْمُوصَى له بِالرَّقَبَةِ إنْ كان قد أَوْصَى بِالرَّقَبَةِ إلَى إنْسَانٍ
وَإِنْ لم يَكُنْ يَعُودُ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي
وَإِنْ كانت مُطْلَقَةً تَثْبُتُ إلَى وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصَى له بِالْمَنْفَعَةِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوصَى له بِالرَّقَبَةِ إنْ كان هُنَاكَ مُوصًى له بِالرَّقَبَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ يَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي
وَلَيْسَ لِلْمُوصَى له بِالْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى أَنْ يُؤَاجِرَ الْعَبْدَ أو الدَّارَ من غَيْرِهِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ له ذلك
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الموصي له بِالْمَنْفَعَةِ قد مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ كَالْمُسْتَأْجِرِ له أَنْ يُؤَاجِرَ من غَيْرِهِ
كَذَا هذا
وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْإِعَارَةَ كَذَا الْإِجَارَةُ
وَلَنَا أَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُوصَى له بِالسُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَا يُحْتَمَلُ التَّمْلِيكُ بِعِوَضٍ كَالْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْمُسْتَعِيرِ بِالْإِعَارَةِ حتى لَا يَمْلِكَ الْإِجَارَةَ كَذَا هذا أو يَخْدِمَ الْعَبْدَ بِنَفْسِهِ
وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ الدَّارِ وَالْعَبْدِ فَأَرَادَ أَنْ يَسْكُنَ بِنَفْسِهِ أو يَسْتَخْدِمَ الْعَبْدَ بِنَفْسِهِ هل له ذلك لم يُذْكَرْ في الْأَصْلِ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال أبو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ له ذلك وقال أبو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ ليس له ذلك وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ أَوْصَى له بِالْغَلَّةِ لَا بِالسُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ وَلَيْسَ له أَنْ يُخْرِجَ الْعَبْدَ من الْكُوفَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْمُوصَى له في غَيْرِ الْكُوفَةِ فَلَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ إلَى أَهْلِهِ لِيَخْدِمَهُ هُنَاكَ إذَا كان يَخْرُجُ من الثُّلُثِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخِدْمَةِ تَقَعُ على الْخِدْمَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُتْعَارَفَة وَهِيَ الْخِدْمَةُ عِنْدَ أَهْلِهِ فَكَانَ ذلك مأمونا ( ( ( مأذونا ) ) ) فيه دَلَالَةً لِأَنَّ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ حَقَّ الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ إذَا كانت الْخِدْمَةُ بِحَضْرَتِهِ
هذا إذَا كان الْعَبْدُ يَخْرُجُ من الثُّلُثِ فَإِنْ كان لَا يَخْرُجُ من الثُّلُثِ فَلَيْسَ له أَنْ يُخْرِجَهُ إلَى مصر ( ( ( مصير ) ) ) آخَرَ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ له مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ يَخْدِمُ الْمُوصَى له يَوْمًا وَالْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ فَيَكُونُ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ فَلَا يَمْلِكُ إخْرَاجَهُ لِمَا في الْإِخْرَاجِ من إبْطَالِ حَقِّ الْوَرَثَةِ وما وَهَبَ العبد ( ( ( للعبد ) ) ) أو تَصَدَّقَ بِهِ عليه أو اكْتَسَبَهُ فَهُوَ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ لِأَنَّ ذلك مَالُ الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ في الْحَقِيقَةِ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ فَكَانَ كَسْبُهُ له قال رسول اللَّهِ من بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لبائعة إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ
وَلَوْ كان مَكَانَ الْعَبْدِ أَمَةٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا فَهُوَ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ من الرَّقَبَةِ وَالرَّقَبَةُ له وَلِأَنَّهُ أَوْصَى له بِخِدْمَةِ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ خِدْمَةَ شَخْصَيْنِ وَنَفَقَةُ الْعَبْدُ وَكِسْوَتُهُ على صَاحِبِ الْخِدْمَةِ إنْ كان الْعَبْدُ كَبِيرًا لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ له فَكَانَتْ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ عليه إذْ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَلِهَذَا كانت نَفَقَةُ الْعَبْدِ الْمُسْتَعَارِ على الْمُسْتَعِيرِ كَذَا هذا
بِخِلَافِ الْعَبْدِ الرَّهْنِ أن نَفَقَتَهُ على الرَّاهِنِ لَا على الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ لِلرَّاهِنِ
أَلَا يَرَى أَنَّهُ لو هَلَكَ يَسْقُطُ عنه من الدَّيْنِ بِقَدْرِهِ وكذا له أَنْ يَفْتِكَهُ في أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ فَيَنْتَفِعَ بِهِ
وَإِنْ كان الْعَبْدُ صَغِيرًا يَخْرُجُ من الثُّلُثِ فَنَفَقَتُهُ على صَاحِبِ الرَّقَبَةِ إلَى أَنْ يُدْرِكَ الْخِدْمَةَ وَيَصِيرَ من أَهْلِهَا لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ لِلْحَالِ وَمَنْفَعَةُ النَّمَاءِ وَالزِّيَادَةِ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ فَكَانَتْ النَّفَقَةُ عليه حتى يَبْلُغَ الْخِدْمَةَ فإذا بَلَغَ فَنَفَقَتُهُ على صَاحِبِ الْخِدْمَةِ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَحْصُلُ له
وَعَلَى هذا إذَا أَوْصَى بِغَلَّةِ نَخْلٍ أُبِّرَ لِرَجُلٍ وَلِآخَرَ بِرَقَبَتِهِ ولم تُدْرِكْ أو لم تَحْمِلْ فَالنَّفَقَةُ في سَقْيِهَا وَالْقِيَامُ عليها على صَاحِبِ الرَّقَبَةِ فإذا أَثْمَرَتْ فَالنَّفَقَةُ على صَاحِبِ الْغَلَّةِ لِأَنَّهَا إذَا لم تُدْرِكْ أو لم تَحْمِلْ فَصَاحِبُ الْغَلَّةِ لَا يَنْتَفِعُ بها فَلَا يَكُونُ عليه نَفَقَتُهَا وَكَانَتْ على صَاحِبِ الرَّقَبَةِ لِإِصْلَاحِ مِلْكِهِ إلَى أَنْ تُثْمِرَ فإذا أَثْمَرَتْ فَقَدْ صَارَتْ مُنْتَفَعًا بها في حَقِّ صَاحِبِ الْغَلَّةِ فَكَانَتْ عليه نَفَقَتُهَا فَإِنْ حَمَلَتْ عَامًا وَاحِدًا ثُمَّ حَالَتْ ولم تَحْمِلْ شيئا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ عليه نَفَقَتُهَا في الْعَامِ الذي حَالَتْ فيه لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بها فيه وفي الِاسْتِحْسَانِ عليه نَفَقَتُهَا لِأَنَّ بِانْعِدَامِ حَمْلِهَا عَامًا لَا تُعَدُّ مُنْقَطِعَةَ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّ من الْأَشْجَارِ ما لَا يَحْمِلُ كُلَّ عَامٍ وَلَا يُعَدُّ ذلك انقطاعا ( ( ( انقطاع ) ) ) للنفع ( ( ( النفع ) ) ) بَلْ يُعَدُّ نَفْعًا وَنَمَاءً وكذا الْأَشْجَارُ لا تُخْرِجُ إلَّا في بَعْضِ فُصُولِ السَّنَةِ وَلَا يُعَدُّ ذلك انْقِطَاعَ النَّفْعِ بَلْ يُعَدُّ نَفْعًا وَنَمَاءً حتى كانت نَفَقَتُهَا على الْمُوصَى له بالغة ( ( ( بالغلة ) ) ) فَكَذَا هذا
فَإِنْ لم يُنْفِقْ الْمُوصَى له بِالْغَلَّةِ وَأَنْفَقَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ عليها حتى حَمَلَتْ فإنه يَسْتَوْفِي نَفَقَتَهُ من ذلك الْحَمْلِ وما يَبْقَى من الْحَمْلِ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْغَلَّةِ لِأَنَّهُ فَعَلَ ذلك مُضْطَرًّا لِإِصْلَاحِ مِلْكِ نَفْسِهِ وَدَفْعِ الْفَسَادِ عن مَالِهِ فلم يَكُنْ مُتَبَرِّعًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا حَمَلَتْ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَصَّلَ هذه الْفَائِدَةَ بِسَبَبِ نَفَقَتِهِ
وَلَوْ هَلَكَتْ الْغَلَّةُ قبل أَنْ تَصِلَ إلَى صَاحِبِ الْغَلَّةِ ليس له أَنْ يَرْجِعَ عليه بِمَا أَنْفَقَ لِأَنَّ هذا ليس بِدَيْنٍ وَاجِبٍ
____________________

(7/386)


عليه وَإِنَّمَا هو شَيْءٌ يُفْتَى بِهِ وَلَا يقضي وَلَوْ جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً فَالْفِدَاءُ على صَاحِبِ الْخِدْمَةِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الرَّقَبَةِ له فَكَانَ الْفِدَاءُ عليه لِقَوْلِ النبي الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَصَارَ كَعَبْدِ الرَّهْنِ إذَا جَنَى جِنَايَةً أن الْفِدَاءَ على الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ هو الْمُنْتَفِعُ بِهِ بِحَبْسِهِ في دَيْنِهِ أو يُقَالُ إنَّ الْفِدَاءَ على صَاحِبِ الرَّقَبَةِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ من الرَّقَبَةِ حَقِيقَةً وَالرَّقَبَةُ له وَلَكِنْ يُقَالُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ إنَّ حَقَّكَ يَفُوتُ لو فَدَى صَاحِبُ الرَّقَبَةِ أو دَفَعَ وَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تُحْيِيَ حَقَّكَ فَافْدِ
وَهَكَذَا يُقَالُ لِلْمُرْتَهِنِ في الْعَبْدِ الرَّهْنِ إذَا جَنَى لِأَنَّ الرَّقَبَةَ لِلرَّاهِنِ فإذا فَدَى صَاحِبُ الْخِدْمَةِ فَقَدْ طَهَّرَهُ عن الْجِنَايَةِ فَتَكُونُ الْخِدْمَةُ على حَالِهَا
وَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْدِيَ يُقَالُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ ادْفَعْهُ أو افْدِهِ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ له وَأَيَّ شَيْءٍ اخْتَارَهُ بَطَلَ حَقُّ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ في الْخِدْمَةِ
أَمَّا إذَا دَفَعَ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّهُ بَطَلَ مِلْكُ الْمُوصَى له بِالْخِدْمَةِ بِالدَّفْعِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْخِدْمَةَ على مِلْكِ غَيْرِهِ
وَكَذَلِكَ إذَا أَفْدَى لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُشْتَرِي منهم الرَّقَبَةَ فَيَتَجَدَّدُ الْمِلْكُ وَيَبْطُلُ حُكْمُ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ فيه فَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ وقد فَدَى قبل ذلك بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ لِمَا قُلْنَا أن مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ بِالْوَصِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ مِلْكِ الْمُسْتَعِيرِ وَالْعَارِيَّةُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُسْتَعِيرِ لِأَنَّ الْمُعِيرَ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ منه لَا من غَيْرِهِ كَذَا هَهُنَا وَيُقَالُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ أَدِّ إلَى وَرَثَتِهِ الْفِدَاءَ الذي فَدَى لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفِدَاءَ كان عليه لَا على صَاحِبِ الْخِدْمَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ ذلك على ظَنِّ أَنَّ كُلَّ مَنْفَعَةِ الرَّقَبَةِ مَصْرُوفٌ إلَيْهِ وَمَتَى ظَهَرَ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ إلَى غَيْرِهِ ظَهَرَ أَنَّهُ على غَيْرِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ تَحَمَّلَ عن غَيْرِهِ وهو صَاحِبُ الرَّقَبَةِ إحْيَاءً لِمِلْكِهِ وهو مُضْطَرٌّ فيه فَرَجَعَ عليه وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ ما لم يَدْفَعْ إلَيْهِمْ ما دَفَعَ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ من الْفِدَاءِ فَإِنْ أَبَى صَاحِبُ الرَّقَبَةِ دَفْعَ ذلك الْفِدَاءِ إلَى وَرَثَةِ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ بِيعَ الْعَبْدُ فيه وكان بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ في عنقه ( ( ( عتقه ) ) ) لِأَنَّ هذا الدَّيْنَ وَجَبَ بِسَبَبٍ كان في رَقَبَتِهِ فَصَارَ كَسَائِرِ الدُّيُونِ
وَلَوْ لم يَجْنِ الْعَبْدُ وَلَكِنْ قَتَلَهُ رَجُلٌ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ قِيمَتُهُ يَشْتَرِي بها عَبْدًا يَخْدِمُ صَاحِبَ الْخِدْمَةِ لِأَنَّ الْبَدَلَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ كَالْعَبْدِ الرَّهْنِ إذَا قُتِلَ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَغَرِمَ الْقَاتِلُ قِيمَتَهُ يَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ إذَا قُتِلَ وَغَرِمَ الْقَاتِلُ الْقِيمَةَ أنه لَا يَشْتَرِي بها عَبْدًا آخَرَ حتى يَسْتَعْمِلَهُ الْمُسْتَأْجِرُ لِأَنَّ الْقَاتِلَ يَغْرَمُ الْقِيمَةَ دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْنَافُ عَقْدِ الْإِجَارَةِ عليها فَلَا يَبْقَى عليها الْعَقْدُ فَتَبْطُلُ وَيَجُوزُ اسْتِئْنَافُ عَقْدِ الْوَصِيَّةِ على الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَجَازَ أَنْ تَبْقَى عليها فَيَشْتَرِي بها عَبْدًا آخَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْأَوَّلِ
وَإِنْ كان الْقَتْلُ عَمْدًا فَلَا قِصَاصَ على الْقَاتِلِ إلَّا أَنْ يَجْتَمِعَ على ذلك صَاحِبُ الرَّقَبَةِ وَصَاحِبُ الْخِدْمَةِ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ مِلْكًا وَلِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ حق ( ( ( حقا ) ) ) يُشْبِهُ الْمِلْكَ فَصَارَ كَعَبْدٍ بين شَرِيكَيْنِ قُتِلَ عَمْدًا أنه لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ كَذَا هذا
وَإِنْ اخْتَلَفَا في ذلك بِأَنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِصَاصَ ولم يَطْلُبْ الْآخَرُ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ وَصَارَ مَالًا فَصَارَ بِمَعْنَى الْخَطَأِ فَيَشْتَرِي بِهِ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ كما لو كان الْقَتْلُ خَطَأً
وَلَوْ فَقَأَ رَجُلٌ عَيْنَيْهِ أو قَطَعَ يَدَيْهِ دَفَعَ إلَيْهِ الْعَبْدَ وَأَخَذَ قِيمَتَهُ صَحِيحًا فَاشْتَرَى بها عَبْدًا مَكَانَهُ لِأَنَّ فقأ ( ( ( فقء ) ) ) الْعَيْنَيْنِ وَقَطْعَ الْيَدَيْنِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِهْلَاكِهِ إلَّا أَنَّهُ مِمَّا يَصْلُحُ خَرَاجًا بِضَمَانٍ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَيَأْخُذُهُ خَرَاجًا بِضَمَانِهِ ثُمَّ يَفْعَلُ بِالْقِيمَةِ ما وَصَفْنَا وهو أَنْ يَشْتَرِيَ بها عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ
وَلَوْ فقأت ( ( ( فقئت ) ) ) عَيْنُهُ أو قُطِعَتْ يَدُهُ أو شُجَّ موضحة ( ( ( موضحته ) ) ) فَأَدَّى الْقَاتِلُ أَرْشَ ذلك فَهَذَا على وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ كانت الْجِنَايَةُ تُنْقِصُ الْخِدْمَةَ وَإِمَّا أَنْ كانت لَا تُنْقِصُ فَإِنْ كانت تُنْقِصُ فَإِنْ اتَّفَقَ الْمُوصَى له بِالرَّقَبَةِ وَالْمُوصَى له بِالْخِدْمَةِ على أَنْ يَشْتَرِيَا بِالْأَرْشِ عَبْدًا بِأَنْ كان الْأَرْشُ يَبْلُغُ قِيمَةَ عَبْدٍ حتى يَخْدِمَ الْمُوصَى له بِالْخِدْمَةِ مع الْعَبْدِ الْأَوَّلِ فَعَلَا ذلك وَجَازَ
وَإِنْ اتَّفَقَا على أَنْ يُبَاعَ هذا الْعَبْدُ وَيُضَمَّ ثَمَنُهُ إلَى ذلك الْأَرْشِ فَاشْتَرَيَا بِهِمَا عَبْدًا آخَرَ جَازَ أَيْضًا لِأَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا كانت تُنْقِصُ الْخِدْمَةَ كان لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ في ذلك الْأَرْشِ فَكَانَ لَهُمَا أَنْ يَتَّفِقَا على أَحَدِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ
وَإِنْ اخْتَلَفَا ولم يَتَّفِقَا فَلَا يُبَاعُ الْعَبْدُ الْمُوصَى بِهِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حق ( ( ( حقا ) ) ) فَلَا يُبَاعُ إلَّا بِرِضَاهُمَا وَيُشْتَرَى بِالْأَرْشِ عَبْدٌ لِخِدْمَتِهِمَا حتى يَقُومَ مَقَامَ الْجُزْءِ الْفَائِتِ فَإِنْ لم يُؤْخَذْ بِالْأَرْشِ عَبْدٌ يُوقَفُ ذلك حتى يَصْطَلِحَا عليه فَإِنْ اصْطَلَحَا على أَنْ يَقْتَسِمَاهُ نِصْفَيْنِ جَازَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا وإذا اقْتَسَمَاهُ جَازَ ذلك
وَإِنْ لم يَصْطَلِحَا لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِشَيْءٍ وَلَكِنْ يُوقَفُ ذلك الْمَالُ
وَإِنْ كانت الْجِنَايَةُ لَا تُنْقِصُ الْخِدْمَةَ فَوَصِيَّتُهُ على حَالِهَا وَالْأَرْشُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ
لِأَنَّ الْأَرْشَ بَدَلُ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الرَّقَبَةِ فَيَكُونُ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ
وَلَوْ كان لِرَجُلٍ
____________________

(7/387)


ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ فَأَوْصَى بِرَقَبَةِ أَحَدِهِمْ لِرَجُلٍ وَأَوْصَى بِخِدْمَةِ آخَرَ لِرَجُلٍ آخَرَ وَلَا مَالَ له غَيْرُهُمْ وَقِيمَةُ الذي أَوْصَى بِخِدْمَتِهِ خَمْسُمِائَةٍ وَقِيمَةُ الذي أَوْصَى بِرَقَبَتِهِ ثلثمائة وَقِيمَةُ الْبَاقِي أَلْفُ دِرْهَمٍ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا على ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخِدْمَةِ تُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ كَالْوَصِيَّةِ بِالرَّقَبَةِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخِدْمَةِ وَصِيَّةٌ بِحَبْسِ الرَّقَبَةِ عن الْوَارِثِ فَيُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ
وإذا عُرِفَ هذا فَجَمِيعُ مَالِ الْمَيِّتِ أَلْفٌ وَثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُلُثُهَا ستماية ( ( ( ستمائة ) ) ) وَجَمِيعُ سِهَامِ الْوَصَايَا ثَمَانِمِائَةٍ فإذا زَادَتْ سِهَامُ الْوَصَايَا على ثُلُثِ الْمَالِ مِائَتَيْنِ وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى سِهَامِ الْوَصَايَا رُبْعُهَا فَيَنْقُصُ من وَصِيَّةِ كل وَاحِدٍ منها مِثْلُ رُبْعِهَا وَيُنَفَّذُ في ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا فَيَكُونُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ وَصِيَّتِهِمَا وَثُلُثُ الْمَالِ سَوَاءً
فَأَمَّا قِيمَةُ الْعَبْدِ الْمُوصَى له بِرَقَبَتِهِ فثلثمائة ( ( ( فثلاثمائة ) ) ) فَيَنْقُصُ منه رُبْعُهَا وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ وينفذ ( ( ( وتنفذ ) ) ) الْوَصِيَّةُ في ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ الْمُوصَى له بِخِدْمَتِهِ خَمْسُمِائَةٍ فَيَنْقُصُ منه رُبْعُهَا وَذَلِكَ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَتُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ في ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا وَذَلِكَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ فَيُضَمُّ إلَى وَصِيَّةِ صَاحِبِ الرَّقَبَةِ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَيَصِيرَ سِتَّمِائَةٍ وَذَلِكَ ثُلُثُ الْمَالِ وَخَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ من الْعَبْدِ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ ومائة وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ من الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ يُضَمُّ إلَى الْعَبْدِ الْبَاقِي وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَارَ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ وَذَلِكَ ثُلُثَا الْمَالِ فَاسْتَقَامَ على الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ
وإذا نَفَذَتْ الْوَصِيَّةُ في ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ يَخْدِمُ الْمُوصَى له ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَالْوَرَثَةَ يَوْمًا وَاحِدًا فَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ اسْتَكْمَلَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ عَبْدَهُ كُلَّهُ لِأَنَّ وَصِيَّةَ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ قد بَطَلَتْ بِمَوْتِهِ وَبَقِيَتْ وَصِيَّةُ صَاحِبِ الرَّقَبَةِ وَهِيَ تَخْرُجُ من الثُّلُثِ فَتَكُونُ له
وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الْعَبْدُ الذي كان يَخْدِمَهُ كان الْعَبْدُ الْآخَرُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ لِأَنَّ التَّوْزِيعَ وَالتَّقْسِيمَ إنَّمَا كان بَيْنَهُمَا لِثُبُوتِ حَقِّهِمَا فإذا ذَهَبَ أَحَدُهُمَا صَارَ كَأَنَّهُ أَوْصَى له وَحْدَهُ فَيُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ وهو يَخْرُجُ من الثُّلُثِ
وَلَوْ كانت قِيمَةُ الْعَبِيدِ سَوَاءٌ كان لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ نِصْفُ خِدْمَةِ الْعَبْدِ وَلِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ نِصْفُ رَقَبَةِ الْآخَرَ لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ خَمْسُمِائَةٍ وَقِيمَةَ الْعَبْدَيْنِ اللَّذَيْنِ أَوْصَى بِهِمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ قِيمَةُ كل وَاحِدٍ خَمْسُمِائَةٍ فَصَارَ ثُلُثُ مَالِهِ خَمْسَمِائَةٍ فَيُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا فَصَحَّ من وَصِيَّةِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَانِ فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ نِصْفُ الرَّقَبَةِ وَلِلْمُوصَى له بِالْخِدْمَةِ نِصْفُ الْخِدْمَةِ يَخْدِمُهُ يَوْمًا وَالْوَرَثَةَ يَوْمًا
وَإِنَّمَا يُضْرَبُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ كما يُضْرَبُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَوْصَى بِحَبْسِ الرَّقَبَةِ عن الْوَارِثِ فَكَأَنَّهُ أَوْصَى بِالتَّمْلِيكِ لِانْقِطَاعِ حَقِّ الْوَرَثَةِ فَهِيَ وَالْوَصِيَّةُ بِالتَّمْلِيكِ سَوَاءٌ
وَلَوْ أَوْصَى بِالْعَبِيدِ كُلِّهِمْ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ وَبِخِدْمَةِ أَحَدِهِمْ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ لم يَضْرِب صَاحِبُ الرِّقَابِ إلَّا بِقِيمَةِ وَاحِدٍ منهم وَيَضْرِبُ الْآخَرُ بِخِدْمَةِ الْآخَرِ فَيَكُون كَالْبَابِ الذي قَبْلَهُ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ الْمُوصَى له بِالرِّقَابِ في الْحُكْمِ كَأَنَّهُ أَوْصَى له بِرَقَبَتَيْنِ لِأَنَّ الْعَبْدَ الذي أَوْصَى بِخِدْمَتِهِ لِغَيْرِهِ هو مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِحَقِّ غَيْرِهِ فما دَامَ مَشْغُولًا جُعِلَ كَأَنَّهُ لم يُوصِ له بِهِ
وَمِنْ أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُوصَى له بِأَكْثَرَ من الثُّلُثِ لَا يُضْرَبُ إلَّا بِالثُّلُثِ فَالْمُوصَى له بِالْعَبْدَيْنِ هَهُنَا لَا يُضْرَبُ إلَّا بِالثُّلُثِ وهو عَبْدٌ وَاحِدٌ وَالْمُوصَى له بِالْخِدْمَةِ يُضْرَبُ أَيْضًا بِعَبْدٍ وَاحِدٍ فَيَصِيرُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الرَّقَبَةِ فَاَلَّذِي أَوْصَى له بِالْعَبْدَيْنِ له نِصْفُ الْعَبْدِ في الْعَبْدَيْنِ جميعا لِأَنَّ حَقَّهُ في الْعَبْدَيْنِ فَيَكُون له من كل عَبْدٍ رُبْعُهُ وَالْمُوصَى له بِالْخِدْمَةِ له نِصْفُ الْعَبْدِ الذي أَوْصَى له بِخِدْمَتِهِ يَخْدِمُ الْمُوصَى له يَوْمًا وَالْوَرَثَةَ يَوْمًا كما في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ
وَأَمَّا على قَوْلِهِمَا الْمُوصَى له بِالرِّقَابِ يَضْرِبُ بِالْعَبْدَيْنِ وَالْمُوصَى له بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ يَضْرِبُ بِعَبْدٍ وَاحِدٍ فَيَصِيرُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا سَهْمَانِ لِصَاحِبِ الرِّقَابِ وَسَهْمٌ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ فلما صَارَ الثُّلُثُ على ثَلَاثَةٍ صَارَ الثُّلُثَانِ على سِتَّةٍ وَالْجَمِيعُ تِسْعَةٌ كُلُّ عَبْدٍ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فَلِلْمُوصَى له بِالرِّقَابِ سَهْمَانِ في الْعَبْدَيْنِ من كل رَقَبَةٍ سَهْمٌ وَلِلْمُوصَى له بِالْخِدْمَةِ سَهْمٌ في الْعَبْدِ الذي أَوْصَى له بِخِدْمَتِهِ يَخْدِمُ الْعَبْدُ الْمُوصَى بِهِ لِلْمُوصَى له بِالْخِدْمَةِ يَوْمًا وَلِلْوَرَثَةِ يَوْمَيْنِ فَحَصَلَ لِلْمُوصَى لَهُمَا ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْوَرَثَةِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ
وَلَوْ كَانُوا يَخْرُجُونَ من الثُّلُثِ كان لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ ما أَوْصَى له بِهِ وَلِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ ما أَوْصَى له بِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِلُ إلَى تَمَامِ حَقِّهِ وَلَوْ لم يَكُنْ له مَالٌ غَيْرُهُمْ فَأَوْصَى بِثُلُثِ كل عَبْدٍ منهم لِفُلَانٍ وَأَوْصَى بِخِدْمَةِ أَحَدِهِمْ
____________________

(7/388)


لِفُلَانٍ فإنه يُقَسِّمُ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا على خَمْسَةِ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الثُّلُثِ في خِدْمَةِ ذلك الْعَبْدِ يَخْدِمُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيَخْدِمُ الْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ فَيَكُونَ لِلْآخَرِ خُمْسُ الثُّلُثِ في الْعَبْدَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا خُمْسُ رَقَبَتِهِ
وَجْهُ ذلك أَنَّ الْمُوصَى له بِالرِّقَابِ لَا حَقَّ له في الْعَبْدِ الذي أَوْصَى بِخِدْمَتِهِ ما دَامَ الْمُوصَى له بَاقِيًا فَصَارَ كَأَنَّهُ أَوْصَى بِخِدْمَةِ أَحَدِهِمْ لِرَجُلٍ وَبِثُلُثِ الْعَبْدَيْنِ الْآخَرَيْنِ لِرَجُلٍ فَاجْعَلْ كُلَّ ثُلُثٍ سَهْمًا فَيَضْرِبُ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ بِثُلُثِ كل عَبْدٍ وَذَلِكَ سَهْمَانِ وَيَضْرِبُ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ بِالْجَمِيعِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فَاجْعَلْ ثُلُثَ الْمَالِ على خَمْسَةٍ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ سَهْمَانِ في كل عَبْدٍ من الْعَبْدَيْنِ سَهْمٌ وَلِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ في الْعَبْدِ الْمُوصَى له بِخِدْمَتِهِ فَيَخْدِمُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلِلْوَرَثَةِ يَوْمَيْنِ فَجَمِيعُ ما حَصَلَ لِلْمُوصَى لَهُمَا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ سَهْمَانِ لِلْمُوصَى له بِالرَّقَبَةِ وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِلْمُوصَى له بِالْخِدْمَةِ وَجَمِيعُ ما حَصَلَ لِلْوَرَثَةِ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ في الْعَبْدَيْنِ في كل عَبْدٍ أَرْبَعَةٌ وَسَهْمَانِ من الْعَبْدِ الْمُوصَى له بِالْخِدْمَةِ فَاسْتَقَامَ على الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ
وَلَوْ كان أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِصَاحِبِ الرِّقَابِ وَبِخِدْمَةِ أَحَدِهِمْ بِعَيْنِهِ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ وَلَا مَالَ غَيْرُهُمْ له قَسَّمَ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ
وَوَجْهُ ذلك أَنَّ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ اجْتَمَعَ فيه وَصِيَّتَانِ وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهِ وَوَصِيَّةٌ بِثُلُثِهِ لِأَنَّهُ أَوْصَى له بِثُلُثِ مَالِهِ وَخِدْمَةُ الْعَبْدِ مَالٌ
أَلَا تَرَى أَنَّ من أَوْصَى لِآخَرَ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ اُعْتُبِرَ ذلك من الثُّلُثِ بِخِلَافِ ما ذَكَرْنَا في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّهُ إذَا أَوْصَى له بِثُلُثِ الرِّقَابِ أَنَّ الْمُوصَى له بِالرِّقَابِ لَا حَقَّ له في الْعَبْدِ الذي أَوْصَى بِخِدْمَتِهِ ما دَامَ الْمُوصَى له بَاقِيًا لِأَنَّهُ أَوْصَى له بِالرَّقَبَةِ وَالْخِدْمَةُ لَيْسَتْ من الرَّقَبَةِ في شَيْءٍ وَهَهُنَا أَوْصَى له بِالْمَالِ وَالْخِدْمَةُ مَالٌ فَلِذَلِكَ قُلْنَا إنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ في الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ وَصِيَّتَانِ وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهِ وَوَصِيَّةٌ بِثُلُثِهِ فَالثُّلُثَانِ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ بِلَا مُنَازَعَةٍ وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَيُجْعَلُ الْعَبْدُ على سِتَّةِ أَسْهُمٍ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ خَلَتْ عن دَعْوَى صَاحِبِ الثُّلُثِ وَسُلِّمَتْ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ بِلَا مُنَازَعَةٍ وَسَهْمَانِ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِيهِمَا فَيَنْقَسِمُ بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ فَصَارَ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ فإذا صَارَ هذا الْعَبْدُ على سِتَّةِ أَسْهُمٍ صَارَ الْعَبْدَانِ الْآخَرَانِ على اثْنَيْ عَشَرَ فَثُلُثُهَا أَرْبَعَةٌ ضُمَّتْ إلَى سِتَّةٍ فَتَصِيرُ عَشَرَةً فَهَذِهِ جُمْلَةُ وَصَايَاهُمْ فَاجْعَلْ هذا ثُلُثَ الْمَالِ وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ عِشْرُونَ وَجَمِيعُ الْمَالِ ثَلَاثُونَ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ كُلَّ عَبْدٍ صَارَ عَشَرَةً فَالْعَبْدُ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ عَشْرَةً يَخْدِمُ الْمُوصَى له بِخِدْمَتِهِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ وَلِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ وَيَخْدِمُ صَاحِبَ الثُّلُثِ يَوْمًا وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ من الْعَبْدَيْنِ الْآخَرَيْنِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ فَتَصِيرُ الْوَصِيَّةُ عَشَرَةً سِتَّةٌ في الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ في الْعَبْدَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ والورثة ( ( ( وللورثة ) ) ) عِشْرُونَ في كل عَبْدٍ من الْبَاقِيَيْنِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ وَأَرْبَعَةٌ من الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ فَاسْتَقَامَ على الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَأَمَّا على قَوْلِهِمَا فَإِنَّهُمَا يَسْلُكَانِ مَسْلَكَ الْعَوْلِ فَالْعَبْدُ الذي أَوْصَى بِخِدْمَتِهِ اجْتَمَعَ فيه وَصِيَّتَانِ وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهِ وَوَصِيَّةٌ بِثُلُثِهِ وَمَخْرَجُ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يُضْرَبُ بِالْجَمِيعِ ثَلَاثَةٌ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ يُضْرَبُ بِالثُّلُثِ سَهْمٌ وَصَارَ هذا الْعَبْدُ على أَرْبَعَةٍ فلما صَارَ هذا الْعَبْدُ على أَرْبَعَةٍ صَارَ الْعَبْدَانِ الْآخَرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على ثَلَاثَةٍ بِغَيْرِ عَوْلٍ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الْعَوْلِ في ذلك فَالثُّلُث بَيْنَهُمَا سَهْمَانِ ضَمَّهُ إلَى أَرْبَعَةٍ فَيَصِيرَ سِتَّةً فَاجْعَلْ هذا ثُلُثَ الْمَالِ وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ اثْنَا عَشَرَ وَالْجَمِيعُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ صَارَ على سِتَّةٍ يَخْدِمُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلِلْآخَرِ يَوْمًا وَلِلْوَرَثَةِ يَوْمَيْنِ وَلِلْمُوصَى له بِالثُّلُثِ من الْعَبْدَيْنِ الْآخَرَيْنِ سَهْمَانِ فَصَارَتْ الْوَصِيَّةُ سِتَّةً أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ في الْعَبْدِ الْمُوصَى له بِخِدْمَتِهِ وَسَهْمَانِ في الْعَبْدَيْنِ وَلِلْوَرَثَةِ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا سَهْمَانِ في الْعَبْدِ الْمُوصَى له بِخِدْمَتِهِ وَعَشَرَةُ أَسْهُمٍ في الْعَبْدَيْنِ فَاسْتَقَامَ على الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ
وَلَوْ أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ لِرَجُلٍ وَبِغَلَّتِهِ لِآخَرَ وهو يَخْرُجُ من الثُّلُثِ فإنه يَخْدِمُ صَاحِبَ الْخِدْمَةِ شَهْرًا وَعَلَيْهِ طَعَامُهُ وَلِصَاحِبِ الْغَلَّةِ شَهْرًا وَعَلَيْهِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الرَّقَبَةِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخِدْمَةِ وَصِيَّةٌ بِحَبْسِ الرَّقَبَةِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِخْدَامُ إلَّا بَعْدَ حَبْسِهَا وَالْوَصِيَّةُ بِالْغَلَّةِ أَيْضًا وَصِيَّةٌ بالرقبة ( ( ( بالقربة ) ) ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِغْلَالُهُ إلَّا بَعْدَ حَبْسِ الرَّقَبَةِ فَقَدْ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الرَّقَبَةِ وَحَظُّهُمَا سَوَاءٌ فَيَخْدِمُ هذا شَهْرًا وَيَسْتَغِلُّهُ الْآخَرُ شَهْرًا لِأَنَّ الْعَبْدَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ بِالْأَجْزَاءِ فَيُقَسَّمُ بِالْأَيَّامِ وَطَعَامُهُ في مُدَّةِ الْخِدْمَةِ على صَاحِبِ
____________________

(7/389)


الْخِدْمَةِ لِأَنَّهُ هو الذي يَنْتَفِعُ بِهِ دُونَ صَاحِبِ الْغَلَّةِ وَالنَّفَقَةُ على من يَحْصُلُ له الْمَنْفَعَةُ وفي مُدَّةِ الْغَلَّةِ على صَاحِبِ الْغَلَّةِ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ في تِلْكَ الْمُدَّةِ تَحْصُلُ له
وَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَعَلَيْهِمَا جميعا لِأَنَّ الْكِسْوَةَ لَا تَتَقَدَّرُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ لِأَنَّهَا تَبْقَى أَكْثَرَ من هذه الْمُدَّةِ وَلَا تَتَجَدَّدُ الْحَاجَةُ إلَيْهَا بِانْقِضَاءِ هذا الْقَدْرِ من الْمُدَّةِ كما تَتَجَدَّدُ إلَى الطَّعَامِ في كل وَقْتٍ وَهُمَا فيه سَوَاءٌ فَكَانَتْ الْكِسْوَةُ عَلَيْهِمَا لِهَذَا الْمَعْنَى فَإِنْ جَنَى هذا الْعَبْدُ جِنَايَةً قِيلَ لَهُمَا افْدِيَاهُ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ لَهُمَا فَيُخَاطَبَانِ بِهِ كما يُخَاطَبُ بِهِ الْمُرْتَهِنُ في الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ فَإِنْ فَدَيَاهُ كَانَا على حَالِهِمَا وَإِنْ أَبَيَا الْفِدَاءَ فَفَدَاهُ الْوَرَثَةُ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُمَا لِأَنَّهُمَا لَمَّا أَبَيَا الْفِدَاءَ فَقَدْ رَضِيَا بِهَلَاكِ الرَّقَبَةِ فَبَطَلَ حَقُّهُمَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ من غَلَّةِ عَبْدِهِ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَا مَالَ له غَيْرُ الْعَبْدِ فإن ثُلُثَ الْمَالِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
لِأَنَّهُ أَوْصَى لِلْمُوصَى له بِالْغَلَّةِ بِجَمِيعِ الرَّقَبَةِ إذْ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ ذلك من غَلَّتِهِ في كل شَهْرٍ إلَّا بِحَبْسِ الرَّقَبَةِ
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمُوصَى له بِأَكْثَرَ من الثُّلُثِ لَا يُضْرَبُ إلَّا بِالثُّلُثِ فَالثُّلُثُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ وَيَخْرُجُ الْحِسَابُ من سِتَّةٍ فَالثُّلُثِ وَذَلِكَ سَهْمَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا سَهْمٌ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ يُعْطَى له من الرَّقَبَةِ وَسَهْمٌ لِصَاحِبِ الْغَلَّةِ يستعمل ( ( ( يستغل ) ) ) وَحُسِبَتْ عليه غَلَّتُهُ وَيُنْفِقُ عليه منها كُلَّ شَهْرٍ دِرْهَمًا لِأَنَّهُ هَكَذَا أَوْصَى وَأَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ من الرَّقَبَةِ لِلْوَرَثَةِ
فإذا مَاتَ الْمُوصَى له بِالْغَلَّةِ وقد بَقِيَ من الْغَلَّةِ شَيْءٌ رُدَّ ذلك إلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ وَكَذَلِكَ ما حُبِسَ له من ثَمَنِ الرَّقَبَةِ يُرَدُّ على صَاحِبِ الرَّقَبَةِ لِأَنَّهُ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ بِمَوْتِهِ فَيَرْجِعُ ذلك إلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا على أَرْبَعَةٍ صَاحِبُ الْغَلَّةِ يُضْرَبُ بِالْجَمِيعِ ثَلَاثَةٌ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ يُضْرَبُ بِالثُّلُثِ سَهْمٌ
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِغَلَّةِ دَارِهِ وَلِآخَرَ بِعَبْدٍ وَلِآخَرَ بِثَوْبٍ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ على وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ تَخْرُجَ هذه الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا من الثُّلُثِ أو لَا تَخْرُجَ من الثُّلُثِ فَإِنْ كانت تَخْرُجُ من الثُّلُثِ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ منهم ما أَوْصَى له بِهِ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِالْجَمِيعِ وَالْوَصِيَّةُ بِغَلَّةِ الدَّارِ وَصِيَّةٌ بِحَبْسِ رَقَبَتِهَا على ما بَيَّنَّا وَإِنْ كانت لَا تَخْرُجُ من الثُّلُثِ لَكِنَّ الْوَرَثَةَ أَجَازُوا فَكَذَلِكَ وَإِنْ لم تُجِزْ الْوَرَثَةُ ضُرِبَ كُلُّ وَاحِدٍ منهم بِقَدْرِ حَقِّهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّةَ أَحَدِهِمْ تَزِيدُ على الثُّلُثِ فَلَا يُضْرَبُ بِالزِّيَادَةِ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وإذا مَاتَ صَاحِبُ الْغَلَّةِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ وَقُسِّمَ الثُّلُثُ بين ما بَقِيَ منهم لِمَا ذَكَرْنَا
وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ دَارِهِ لِرَجُلٍ وَبِسُكْنَاهَا لِآخَرَ وَبِرَقَبَتِهَا لِآخَرَ وَهِيَ الثُّلُثُ فَهَدَمَهَا رَجُلٌ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي غَرِمَ قِيمَةَ ما هَدَمَهُ من بِنَائِهَا ثُمَّ تُبْنَى مَسَاكِنَ كما كانت فَتُؤَاجَرُ وَيَأْخُذُ غَلَّتَهَا صَاحِبُ الْغَلَّةِ وَيَسْكُنُهَا الْآخَرُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْغَلَّةِ وَالسُّكْنَى لَا تَبْطُلُ بِهَدْمِ الدَّارِ لِقِيَامِ الْقِيمَةِ مَقَامَ الدَّارِ كما قُلْنَا في الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ لِرَجُلٍ وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ إذَا قُتِلَ أن الْوَصِيَّةَ لَا تَبْطُلُ وَيَشْتَرِي بِقِيمَتِهِ عَبْدًا آخَرَ لِخِدْمَتِهِ
وَكَذَا الْبُسْتَانُ إذَا أَوْصَى بِغَلَّتِهِ لِرَجُلٍ وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ فَقَطَعَ رَجُلٌ نخلة أو شجرة يَغْرَمُ قِيمَتَهَا فَيَشْتَرِي بها أَشْجَارًا مِثْلَهَا فَتُغْرَسُ فإذا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِغَلَّةِ دَارِهِ وَقِيمَةُ الدَّارِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ سِوَى ذلك فَلِصَاحِبِ الْغَلَّةِ نِصْفُ غَلَّةِ الدَّارِ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ نِصْفُ الثُّلُثِ فِيمَا بَقِيَ من الْمَالِ وَالدَّارِ خُمْسُ ذلك في الدَّارِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ في الْمَالِ
وَوَجْهُ ذلك أَنْ يَقُولَ إنَّ الْوَصِيَّةَ بِثُلُثِ الْمَالِ وَصِيَّةٌ بِثُلُثِ الْغَلَّةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْغَلَّةَ مَالُ الْمَيِّتِ يُقْضَى منه دُيُونُهُ
وإذا كان كَذَلِكَ فَالدَّارُ تَخْرُجُ من ثُلُثِ مَالِهِ لِأَنَّ قِيمَةَ الدَّارِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ سِوَى ذلك
فَقَدْ اجْتَمَعَ في الدَّارِ وَصِيَّتَانِ وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهَا وَوَصِيَّةٌ بِثُلُثِهَا فَيَجْعَلُ الدَّارَ على ثَلَاثَةٍ وَيُقَسِّمُ بَيْنَهُمَا على طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ لَا يَدَّعِي أَكْثَرَ من الثُّلُثِ وهو سَهْمٌ وَاحِدٌ وَالثُّلُثَانِ سَهْمَانِ لِصَاحِبِ الْغَلَّةِ وهو صَاحِبُ الْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْغَلَّةِ وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِ الدَّارِ على ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَحْبِسُ جَمِيعَ الدَّارِ لِأَجْلِهِ وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا في سَهْمٍ وَاحِدٍ وكان بَيْنَهُمَا فَانْكَسَرَ على سَهْمَيْنِ فَاضْرِبْ سَهْمَيْنِ في ثَلَاثَةٍ فَيَصِيرَ سِتَّةً فَصَاحِبُ الثُّلُثِ لَا يَدَّعِي أَكْثَرَ من سَهْمَيْنِ وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ خَلَتْ عن دَعْوَاهُ وَسُلِّمَتْ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ وهو صَاحِبُ الْغَلَّةِ بِلَا مُنَازَعَةٍ وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا في سَهْمَيْنِ فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ وإذا صَارَتْ الدَّارُ وَهِيَ الثُّلُثُ على سِتَّةٍ وَالْأَلْفَانِ اثْنَا عَشَرَ فَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ من ذلك الثُّلُثِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ فَضُمَّهَا إلَى سِتَّةٍ تَصِيرُ سِهَامُ الْوَصَايَا عَشَرَةً وَجُمْلَةُ ذلك ثَلَاثُونَ فَنَقُولُ ثُلُثُ الْمَالِ عَشَرَةٌ فَنُقَسِّمُهَا بَيْنَهُمْ لِصَاحِبِ الْغَلَّةِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ كُلُّهَا في الدَّارِ
____________________

(7/390)


وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ في الْأَلْفَيْنِ وَسَهْمٌ في الدَّارِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ في الْأَصْلِ لِصَاحِبِ الْغَلَّةِ نِصْفُ غَلَّةِ الدَّارِ وَذَلِكَ خمسه لِأَنَّا جَعَلْنَا الدَّارَ على عَشَرَةٍ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ نِصْفُ الثُّلُثِ خمسه أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ في الْمَالِ وَخُمْسُ ذلك في الدَّارِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى قَوْلِهِمَا تُقَسَّمُ الدَّارُ على طَرِيقِ الْعَوْلِ فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يُضْرَبُ بِالْجَمِيعِ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ يُضْرَبُ بِالثُّلُثِ وَمَخْرَجُ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يُضْرَبُ بِالْجَمِيعِ ثَلَاثَةٌ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ يُضْرَبُ بِسَهْمٍ فَاجْعَلْ الدَّارَ على أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ وإذا صَارَتْ الدَّارُ على أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ مع الْعَوْلِ صَارَ كُلُّ أَلْفٍ من الْأَلْفَيْنِ على ثَلَاثَةٍ من غَيْرِ عَوْلٍ فَالْأَلْفَانِ تَصِيرُ سِتَّةَ أَسْهُمٍ فَلِلْمُوصَى له بِالثُّلُثِ ثُلُثُ ذلك وَذَلِكَ سَهْمَانِ ضُمَّ ذلك إلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ فَيَصِيرَ سِتَّةً فَاجْعَلْ هذا ثُلُثَ الْمَالِ وَالثُّلُثَانِ اثْنَا عَشَرَ وَالْجَمِيعُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَلِلْمُوصَى له بِثُلُثِ الْمَالِ ثُلُثُ الْأَلْفَيْنِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ من اثْنَيْ عَشَرَ وَذَلِكَ ثُلُثَا الثُّلُثِ لِأَنَّا جَعَلْنَا الثُّلُثَ على سِتَّةِ أَسْهُمٍ وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ من سِتَّةٍ ثُلُثَاهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ في الْأَصْلِ وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ ثُلُثَا ذلك في ثُلُثِ الْمَالِ وقال أَيْضًا ثَلَاثَةٌ في الدَّارِ لِأَنَّكَ جَعَلْتَ الدَّارَ على ثَلَاثَةٍ قبل الْعَوْلِ وَلِلْمُوصَى له بِالثُّلُثِ سَهْمٌ من الدَّارِ وَذَلِكَ ثُلُثُ الدَّارِ فإن مَاتَ صَاحِبُ الْغَلَّةِ فَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثُ الدَّارِ وَالْمَالِ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ الْمُوصَى له بِالْغَلَّةِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ وَصَارَ كَأَنَّهُ لم يُوصِ له بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا أَوْصَى لِصَاحِبِ الثُّلُثِ بِثُلُثِ الْمَالِ وَالدَّارِ فَيَكُونُ له ذلك
وَإِنْ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ بَطَلَتْ وَصِيَّةُ صَاحِبِ الْغَلَّةِ وَأَخَذَ صَاحِبُ الثُّلُثِ ثُلُثَ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ اسْتِغْلَالَهَا بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهَا
وَلَوْ لم يَسْتَحِقَّ وَلَكِنَّهَا انْهَدَمَتْ قِيلَ لِصَاحِبِ الْغَلَّةِ أين نَصِيبَكَ فيها وَيَبْنِي صَاحِبُ الثُّلُثِ نَصِيبَهُ وَالْوَرَثَةُ نَصِيبَهُمْ لِأَنَّ ذلك مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ فَيَبْنِي كُلُّ وَاحِدٍ نَصِيبَهُ وَأَيُّهُمْ أَبَى أَنْ يَبْنِيَ لم يُجْبَرْ على ذلك لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُجْبَرُ على إصْلَاحِ حَقِّهِ ولم يَمْنَعْ الْآخَرَ أَنْ يَبْنِيَ نَصِيبَهُ من ذلك وَيُؤَاجِرَهُ وَيُسْكِنَهُ لِأَنَّ الذي امْتَنَعَ من الْبِنَاءِ رضي بِبُطْلَانِ حَقِّهِ فَلَا يُوجِبُ ذلك بُطْلَانَ حَقِّ صَاحِبِهِ وَلَيْسَ هذا كَالسُّفْلِ إذَا كان لِرَجُلٍ وَعُلْوِهِ لِآخَرَ فَانْهَدَمَا وَأَبَى صَاحِبُ السُّفْلِ أَنْ يَبْنِيَ سُفْلَهُ أنه يُقَالُ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ ابْنِ سُفْلَهُ من مَالِكَ ثُمَّ ابْنِ عليه الْعُلْوِ فإذا أَرَادَ صَاحِبُ السُّفْلِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالسُّفْلِ فَامْنَعْهُ حتى يَدْفَعَ إلَيْك قِيمَةَ السُّفْلِ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ بِنَاءُ الْعُلْوِ إلَّا بَعْدَ بِنَاءِ السُّفْلِ فَكَانَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ سُفْلَهُ حتى يُمْكِنَهُ بِنَاءُ الْعُلْوِ عليه فَأَمَّا هَهُنَا فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَسِّمَ عَرْصَةَ الدَّارِ فَيَبْنِيَ كُلُّ وَاحِدٍ منهم في نَصِيبِهِ
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسُكْنَى دَارِهِ أو بِغَلَّتِهَا فَادَّعَاهَا رَجُلٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أنها له فَشَهِدَ الْمُوصَى له بِالْغَلَّةِ أو السُّكْنَى أَنَّهُ أَقَرَّ بها لِلْمَيِّتِ لم تَجُزْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ إلَى نَفْسِهِ مَغْنَمًا لِأَنَّهُ لو قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لَسَلِمَتْ له الْوَصِيَّةُ وَلَا شَهَادَةَ لِجَارِّ الْمَغْنَمِ على لِسَانِ رسول اللَّهِ
وَكَذَا إذَا شَهِدَ لِلْمَيِّتِ بِمَالٍ أو بِقَتْلٍ خَطَأٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ مَهْمَا كَثُرَ مَالُ الْمَيِّتِ كَثُرَتْ وَصِيَّتُهُ وكان بِشَهَادَتِهِ جار ( ( ( جارا ) ) ) الْمَغْنَمَ إلَى نَفْسِهِ فَلَا تُقْبَلُ
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ غَلَّةِ بُسْتَانِهِ أَبَدًا وَلَا مَالَ له غَيْرُهُ فَقَاسَمَ الْوَرَثَةُ الْبُسْتَانَ فَأَغَلَّ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ ولم يَغُلَّ الْآخَرَ فَإِنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِيمَا خَرَجَ من الْغَلَّةِ لِأَنَّ قِسْمَتَهُ وَقَعَتْ بَاطِلَةً لِأَنَّ الْمُوصَى له بِالْغَلَّةِ لَا يَمْلِكُ رَقَبَةَ الْبُسْتَانِ وَالْقِسْمَةُ فِيمَا ليس بِمِلْكٍ له بَاطِلَةٌ وَالثَّمَرَةُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ وَإِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَ ذلك وَقِسْمَةُ الْمَعْدُومِ بَاطِلَةٌ وَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَبِيعُوا ثُلُثَيْ الْبُسْتَانِ فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي شَرِيكَ صَاحِبِ الْغَلَّةِ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ يَبِيعَ ثُلُثَيْ الْبُسْتَان مُشَاعًا لِأَنَّ الثُّلُثَ مَشْغُولٌ بِحَقِّ صَاحِبِ الْغَلَّةِ وَالْوَرَثَةُ مَمْنُوعُونَ عن ذلك الثُّلُثِ ما دَامَ الْمُوصَى له حَيًّا فإذا كان هَكَذَا فَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَّا في مِقْدَارِ نَصِيبِهِمْ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قال لَا يَجُوزُ بَيْعُ نَصِيبِهِمْ لِأَنَّ ذلك ضَرَرٌ بِالْمُوصَى له لِأَنَّهُ تُنْقِصُ الْغَلَّةَ وَتَعِيبُ
وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ الذي فيه لِرَجُلٍ وَأَوْصَى له بِغَلَّتِهِ أَيْضًا أَبَدًا ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي وَلَا مَالَ له غَيْرُهُ وَالْغَلَّةُ الْقَائِمَةُ لِلْحَالِ تَسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ وَالْبُسْتَانُ يُسَاوِي ثلثمائة دِرْهَمٍ فَلِلْمُوصَى له ثُلُثُ الْغَلَّةِ التي فيه وَثُلُثُ ما يَخْرُجُ من الْغَلَّةِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ أَبَدًا لِأَنَّهُ أَوْصَى له هَكَذَا فإنه أَوْصَى له بِالْغَلَّةِ الْقَائِمَةِ لِلْحَالِ وَبِالْغَلَّةِ التي تَحْدُثُ أَبَدًا فَيُعْتَبَر في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُهُ وَلَا يُسَلِّمُ إلَيْهِ كُلَّ الْغَلَّةِ الْقَائِمَةِ في الْحَال وَإِنْ كان يَخْرُجُ من ثُلُثِ الْمَالِ لِأَنَّهُ أَوْصَى له أَيْضًا بِثُلُثِ ما يَخْرُجُ من بُسْتَانِهِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ وإذا ضُمَّتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ إلَى هذه الْوَصِيَّةِ زَادَتْ الْوَصِيَّةُ على الثُّلُثِ
وَلَوْ أَوْصَى بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا من غَلَّتِهِ كُلَّ سَنَةٍ
____________________

(7/391)


لِرَجُلٍ فَأَغَلَّ سَنَةً قَلِيلًا وَسَنَةً كَثِيرًا فَلَهُ ثُلُثُ الْغَلَّةِ يَحْبِس وَيُنْفَقُ عليه كُلَّ سَنَةٍ من ذلك عِشْرُونَ دِرْهَمًا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا من غَلَّتِهِ وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِ الْغَلَّةِ لِجَوَازِ أَنْ يَطُولَ عُمْرُهُ فَيَسْتَوْفِيَ ذلك كُلَّهُ فَلِذَلِكَ جَازَ في ثُلُثِهِ وَتُحْبَسُ غَلَّتُهُ حتى يُنْفَقَ عليه كُلَّ سَنَةٍ عِشْرُونَ دِرْهَمًا إلَى أَنْ يَمُوتَ
وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُنْفَقَ عليه أَرْبَعَةٌ كُلَّ شَهْرٍ من عَرَضِ مَالِهِ وَعَلَى آخَرَ خَمْسَةٌ كُلَّ شَهْرٍ من غَلَّةِ بُسْتَانِهِ وَلَا مَالَ له غَيْرُ الْبُسْتَانِ فَثُلُثُ غَلَّةِ الْبُسْتَانِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ يُبَاعُ سُدُسُ غَلَّةِ الْبُسْتَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيُوقَفُ ثَمَنُهُ على يَدِ الموصي ( ( ( الوصي ) ) ) أو على يَدِ ثِقَةٍ إنْ لم يَكُنْ هُنَاكَ وَصِيٌّ ويتفق ( ( ( وينفق ) ) ) على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا كما سمي وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِإِنْفَاقِ دِرْهَمٍ وَلَا عِبْرَةَ بِالْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ لِجَوَازِ أَنْ يَعِيشَ صَاحِبُ الْأَقَلِّ أَكْثَرَ مِمَّا يَعِيشُ صَاحِبُ الْأَكْثَرِ فَيُبَاعُ سُدُسُ الْغَلَّةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيُوقَفُ ثَمَنُهُ وَيُنْفَقُ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ما سَمَّى له لِأَنَّهُ أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُنْفَقَ عليه من عَرَضِ مَالِهِ وَالْبُسْتَانُ مَالُهُ وَلَا يُسَلَّمُ الْمَالُ إلَيْهِمَا بَلْ يُوضَعُ على يَدِ الموصي ( ( ( الوصي ) ) ) فَإِنْ لم يَكُنْ له وَصِيٌّ فَالْقَاضِي يَضَعُهُ على يَدِ ثِقَةٍ عَدْلٍ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا ولم يُوصِ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِمَا فَإِنْ مَاتَا وقد بَقِيَ شَيْءٌ من الْمَالِ رُدَّ على وَرَثَةِ الْمُوصِي لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ قد بَطَلَتْ بِمَوْتِهِ فَيَعُودُ إلَى الْوَرَثَةِ
وَكَذَلِكَ لو قال يُنْفَقُ على فُلَانٍ أَرْبَعَةٌ وَعَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ خَمْسَةٌ حُبِسَ السُّدُسُ على الْمُنْفَرِدِ وَالسُّدُسُ الْآخَرُ على الْمَجْمُوعَيْنِ في النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَرْبَعَةَ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ وَأَضَافَ الْخَمْسَةَ إلَى شَخْصَيْنِ لِأَنَّهُ جَمَعَهُمَا في الْوَصِيَّةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَوْصَى بِأَنْ يُنْفَقَ على فُلَانٍ أَرْبَعَةٌ وَعَلَى فُلَانٍ خَمْسَةٌ لِذَلِكَ يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ سُدُسٌ يُوقَفُ لِلْمُنْفَرِدِ وَسُدُسٌ لِلْمَجْمُوعَيْنِ
وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ لِرَجُلٍ وَبِنِصْفِ غَلَّتِهِ لِآخَرَ وهو ثُلُثُ مَالِهِ قَسَّمَ ثُلُثَ الْغَلَّةِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كُلَّ سَنَةٍ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالزِّيَادَةِ على الثُّلُثِ لَا تَجُوزُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالثُّلُثِ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا
وَلَوْ كان الْبُسْتَانُ يَخْرُجُ من ثُلُثِ مَالِهِ فإنه يُقَسِّمُ غَلَّةَ الْبُسْتَانِ بَيْنَهُمَا على طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّ صَاحِبَ النِّصْفِ لَا يَدَّعِي إلَّا النِّصْفَ فَالنِّصْفُ خَلَا عن دَعْوَاهُ فَسُلِّمَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فيه فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَيَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ له نِصْفٌ وَلِنِصْفِهِ نِصْفٌ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَصَاحِبُ النِّصْفِ لَا يَدِّعِي أَكْثَرَ من سَهْمَيْنِ فَسَهْمَانِ خَلَيَا عن دَعْوَاهُ سَلِمَا لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ وَسَهْمَانِ آخَرَانِ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِيهِمَا فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ فَصَارَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ سَهْمٌ
وَعَلَى قَوْلِهِمَا يُقَسَّمُ على طَرِيقِ الْعَوْلِ فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يُضْرَبُ بِالْجَمِيعِ وَصَاحِبُ النِّصْفِ يُضْرَبُ بِالنِّصْفِ وَالْحِسَابُ الذي له نِصْفُ سَهْمَانِ فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يُضْرَبُ بِسَهْمَيْنِ وَصَاحِبُ النِّصْفِ يُضْرَبُ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا
سَهْمَانِ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ وَسَهْمٌ لِصَاحِبِ النِّصْفِ
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِآخَرَ بِقِيمَةِ عَبْدُهُ وَقِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ وَلَهُ سِوَى ذلك ثلثمائة فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا على أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لِصَاحِبِ الْعَبْدِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ في الْعَبْدِ وَلِصَاحِبِ الْبُسْتَانِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ في غَلَّتِهِ لِأَنَّ جَمِيعَ مَالِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَالثُّلُثُ من ذلك سِتُّمِائَةٍ وَوَصِيَّةُ صَاحِبِ الْبُسْتَانِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ أَكْثَرُ من الثُّلُثِ
وَمِنْ مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُوصَى له بِأَكْثَرَ من الثُّلُثِ لَا يُضْرَبُ إلَّا بِالثُّلُثِ فَاطْرَحْ ما زَادَ على سِتِّمِائَةٍ لِأَنَّ ذلك زِيَادَةٌ على الثُّلُثِ فَصَاحِبُ الْبُسْتَانِ يُضْرَبُ بِسِتِّمِائَةٍ وَصَاحِبُ الْعَبْدِ يضرب ( ( ( يصرف ) ) ) بِخَمْسِمِائَةٍ فَاجْعَلْ ثُلُثَ الْمَالِ وهو سِتُّمِائَةٍ على أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا لِصَاحِبِ الْبُسْتَانِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ فما أَصَابَ صَاحِبُ الْبُسْتَانِ كان في الْبُسْتَانِ في غَلَّتِهِ وما أَصَابَ صَاحِبُ الْعَبْدِ كان في الْعَبْدِ
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعَلَى قَوْلِهِمَا صَاحِبُ الْبُسْتَانِ يُضْرَبُ بِجَمِيعِ الْبُسْتَانِ وهو أَلْفٌ وَصَاحِبُ الْعَبْدِ بِخَمْسِمِائَةٍ فَيُقَسَّمُ ثُلُثُ الْمَالِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا على طَرِيقِ الْعَوْلِ
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِغَلَّةِ أَرْضِهِ وَلَيْسَ فيها نَخْلٌ وَلَا شَجَرٌ وَلَا مَالَ له غَيْرُهَا فَإِنَّهَا تُؤَاجَرُ فَتَكُونُ تِلْكَ الْغَلَّةُ له
وَلَوْ كان فيها شَجَرٌ أعطى ثُلُثَ ما يَخْرُجُ منها لِأَنَّ اسْمَ الْغَلَّةِ يَقَعُ على الثَّمَرَةِ وَعَلَى الْأُجْرَةِ فَإِنْ كان فيها ثَمَرٌ انْصَرَفَتْ الْوَصِيَّةُ إلَى ما يَخْرُجُ منها لِأَنَّ الْغَلَّةَ في الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِمَا يَخْرُجُ إذَا كان
____________________

(7/392)


في الْأَرْضِ أَشْجَارٌ وَإِنْ لم يَكُنْ فيها شَجَرٌ فَالْوَصِيَّةُ بِالْغَلَّةِ وَصِيَّةٌ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَذَلِكَ هِيَ الْأُجْرَةُ
فَإِنْ قِيلَ إذَا لم يَكُنْ في الْأَرْضِ شَجَرٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَزْرَعَهَا فَيَسْتَوْفِيَ زَرْعَهَا
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لو زَرَعَ لَحَصَلَ له مِلْكُ الْخَارِجِ بِبَذْرِهِ وَالْمُوصَى بِهِ غَلَّةُ أَرْضِهِ لَا غَلَّةُ بَذْرِهِ
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِغَلَّةِ أَرْضِهِ وَلِآخَرَ بِرَقَبَتِهَا وَهِيَ تَخْرُجُ من الثُّلُثِ فَبَاعَهَا صَاحِبُ الرَّقَبَةِ وسلم صَاحِبُ الْغَلَّةِ الْمَبِيعَ جَازَ وَبَطَلَتْ وَصِيَّةُ صَاحِبِ الْغَلَّةِ وَلَا حَقَّ له في الثَّمَنِ
أَمَّا جَوَازُ الْوَصِيَّةِ بِالْغَلَّةِ فَلِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا جَوَازُ بَيْعِ الرَّقَبَةِ من صَاحِبِهَا إذَا سَلَّمَ صَاحِبُ الْغَلَّةِ الْمَبِيعَ فَلِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي النَّفَاذَ إلَّا أَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الْغَلَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فإذا أَجَازَ فَقَدْ رضي بِإِبْطَالِ حَقِّهِ فَزَالَ الْمَانِعُ فَنَفَذَ وَبَطَلَتْ وَصِيَّةُ صَاحِبِ الْغَلَّةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَوْصَى له بِالْغَلَّةِ في مِلْكِ الْمُوصَى له بِالرَّقَبَةِ وقد زَالَ مِلْكُهُ عن الرَّقَبَةِ وَلَا حَقَّ له في الثَّمَنِ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الرَّقَبَةِ وَلَا مِلْكَ له في الرَّقَبَةِ
وَلَوْ أَوْصَى له بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ فَأَغَلَّ الْبُسْتَانُ سَنَتَيْنِ قبل مَوْتِ الْمُوصِي ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي لم يَكُنْ لِلْمُوصَى له من تِلْكَ الْغَلَّةِ شَيْءٌ إنَّمَا له الْغَلَّةُ التي فيه يوم يَمُوتُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَتَكُونُ له الثَّمَرَةُ التي فيها ( ( ( فيه ) ) ) يوم الْمَوْتِ وما يَحْدُثُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا ما كان قبل الْمَوْتِ فَإِنْ اشْتَرَى الْمُوصَى له الْبُسْتَانَ من الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ جَازَ الشِّرَاءُ وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْعَيْنَ بِالشِّرَاءِ فَاسْتَغْنَى بِمِلْكِهَا عن الْوَصِيَّةِ كَمَنْ اسْتَعَارَ شيئا ثُمَّ اشْتَرَاهُ أَنَّهُ تَبْطُلُ الْإِعَارَةُ وَكَمَنْ تَزَوَّجَ أَمَةَ إنْسَانٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ لو أَعْطَوْهُ شيئا على أَنْ يَبْرَأَ من الْغَلَّةِ وَكَذَلِكَ سُكْنَى الدَّارِ وَخِدْمَةُ الْعَبْدِ إذَا صَالَحُوهُ منه على شَيْءٍ جَازَ وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ له حَقًّا وقد أُسْقِطَ حَقُّهُ بِعِوَضٍ فَجَازَ كَالْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ على مَالٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِأَمْرٍ مُتَعَلِّقٍ بِالْمَالِ فَالْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ وَالْوَصِيَّةُ بِالْإِعْتَاقِ وَالْوَصِيَّةُ بِالْإِنْفَاقِ وَالْوَصِيَّةُ بِالْقُرَبِ من الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالنَّوَافِلِ
أَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ فَحُكْمُهَا ثُبُوتُ الْعِتْقِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي بِلَا فَصْلٍ كما إذَا قال وهو مَرِيضٌ أو صَحِيحٌ أنت حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي أو قال دَبَّرْتُك أو أنت مُدَبَّرٌ أو إنْ مِتَّ من مَرْضِي هذا أو في سَفَرِي هذا فَأَنْتَ حُرٌّ فَمَاتَ من مَرَضِهِ ذلك أو سَفَرِهِ ذلك يُعْتَقُ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى إعْتَاقِ أَحَدٍ لِأَنَّ مَعْنَى ذلك أنت حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي أو بَعْدَ مَوْتِي من هذا الْمَرَضِ أو في هذا السَّفَرِ وَيُعْتَبَرُ في ذلك كُلِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كان الْعَبْدُ يَخْرُجُ كُلُّهُ من ثُلُثِ مَالِهِ يُعْتَقْ كُلُّهُ وَإِنْ لم يَخْرُجْ كُلُّهُ يُعْتَقْ منه بِقَدْرِ ما يَخْرُجُ من الثُّلُثِ وَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ سِوَاهُ يُعْتَقْ ثُلُثُهُ وَيَسْعَى في الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّ هذا كُلَّهُ وَصِيَّةٌ فَلَا تُنَفَّذُ فِيمَا زَادَ على الثُّلُثِ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْإِعْتَاقِ فَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْإِعْتَاقِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَلَا يُعْتَقُ من غَيْرِ إعْتَاقٍ من الْوَارِثِ أو الْوَصِيِّ أو الْقَاضِي وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ كُلَّ عِتْقٍ تَأَخَّرَ عن مَوْتِ الْمُوصِي وَلَوْ بِسَاعَةٍ لَا يَثْبُتُ وَلَا يُعْتَقُ من غَيْرِ إعْتَاقٍ كما إذَا قال هو حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِسَاعَةٍ أو بِأَقَلَّ أو بِأَكْثَرَ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُوصِي هو عِتْقُ الْعَبْدِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعِتْقُ لَا بُدَّ له من الْإِعْتَاقِ وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْمُوصِي مُعْتِقًا بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ أَمْرًا بِالْإِعْتَاقِ دَلَالَةً فَيُعْتِقُ الْوَارِثُ أو الْوَصِيُّ أو الْقَاضِي
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِإِعْتَاقِ نَسَمَةٍ وَهِيَ أَنْ يُوصِيَ بِأَنْ يشتري رَقَبَةٌ فَتُعْتَقَ عنه وَالنَّسَمَةُ اسْمٌ لِرَقَبَةٍ تشتري لِلْعِتْقِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ وُجُوبِ الشِّرَاءِ وَالْإِعْتَاقُ يُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ
وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عنه نَسَمَةٌ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فلم يَبْلُغْ ثُلُثُ مَالِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ لم يُعْتَقْ عنه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُعْتَقُ عنه بِالثُّلُثِ
وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ بِمِائَةٍ وَثُلُثُ مَالِهِ لَا يَبْلُغُ مِائَةً فإنه يُحَجُّ عنه من حَيْثُ يَبْلُغُ بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ وَاجِبٌ ما أَمْكَنَ وَالتَّقْدِيرُ بِالْمِائَةِ لَا يَقْتَضِي التَّنْفِيذَ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنَّمَا قَدَّرَ ظَنًّا منه أَنَّ ثُلُثَ مَالِهِ يَبْلُغُ ذلك أو رَجَاءَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ فإذا لم يَبْلُغْ ذلك أو لم تُجِزْ الْوَرَثَةُ يَجِبُ تَنْفِيذُهَا فِيمَا دُونَ ذلك كما في الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدٍ يشتري بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَوْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ في عَبْدٍ يشتري بِخَمْسِينَ كان ذلك تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ لِغَيْرِ من أَوْصَى له وَهَذَا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْعَبْدِ في الْحَقِيقَةِ فَهُوَ الْمُوصَى له وقد جَعَلَ الْوَصِيَّةَ بِعَبْدٍ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ يشتري بِمِائَةٍ والمشتري بِدُونِ الْمِائَةِ غَيْرُ المشتري بِمِائَةٍ فَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ له بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ فَإِنَّهَا وَصِيَّةٌ بِالْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ وإنه يَحْصُلُ بِالْحَجِّ عنه من حَيْثُ يَبْلُغُ الثُّلُثَ
وَعَلَى هذا إذَا أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عنه نَسَمَةٌ بِجَمِيعِ مَالِهِ فلم تُجِزْ ذلك الْوَرَثَةُ لم يُشْتَرَ بِهِ شَيْءٌ وَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَعِنْدَهُمَا يشتري بِالثُّلُثِ وَهَذَا بِنَاءً على الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وقد ذَكَرْنَا وَجْهَ الْقَوْلَيْنِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْإِنْفَاقِ على فُلَانٍ وَأَوْصَى بِالْقُرَبِ فَحُكْمُهَا وُجُوبُ فِعْلِ ما دخل تَحْتَ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ هَكَذَا أَوْصَى وَيُعْتَبَرُ
____________________

(7/393)


ذلك كُلُّهُ من الثُّلُثِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما تَبْطُلُ بِهِ الْوَصِيَّةُ فَالْوَصِيَّةُ تَبْطُلُ بِالنَّصِّ على الْإِبْطَالِ وَبِدَلَالَةِ الْإِبْطَالِ وَبِالضَّرُورَةِ
أَمَّا النَّصُّ فَنَحْوَ أَنْ يَقُولَ أَبْطَلْتُ الْوَصِيَّةَ التي أَوْصَيْتُهَا لِفُلَانٍ أو فَسَخْتُهَا أو نَقَضْتُهَا فَتَبْطُلَ إلَّا التَّدْبِيرَ خَاصَّةً فإنه لَا يَبْطُلُ بِالتَّنْصِيصِ على الْإِبْطَالِ مُطْلَقًا كان التَّدْبِيرُ أو مُقَيَّدًا إلَّا أَنَّ الْمُقَيَّدَ منه يَبْطُلُ منه بِدَلَالَةِ الْإِبْطَالِ بِالتَّمْلِيكِ على ما ذَكَرْنَا وكذا إذَا قال رَجَعْتُ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عن الْوَصِيَّةِ إبْطَالٌ لها في الْحَقِيقَةِ
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ وَالضَّرُورَةُ فَعَلَى نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في الرُّجُوعِ وقد ذَكَرْنَا ما يَكُونُ رُجُوعًا عن الْوَصِيَّةِ وما لَا يَكُونُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَتَبْطُلُ بِجُنُونِ الْمُوصِي جُنُونًا مُطْبَقًا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ جَائِزٌ كَالْوَكَالَةِ فَيَكُونُ لِبَقَائِهِ حُكْمُ الْإِنْشَاءِ كَالْوَكَالَةِ فَتُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ كما تُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ الْأَمْرِ في بَابِ الْوَكَالَةِ
وَالْجُنُونُ الْمُطْبَقُ هو أَنْ يَمْتَدَّ شَهْرًا عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ سَنَةً وقد ذَكَرْنَا ذلك في كِتَابِ الْوَكَالَةِ
وَلَوْ أُغْمِيَ عليه لَا تَبْطُلُ لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ لَا يُزِيلُ الْعَقْلَ وَلِهَذَا لم تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ بِالْإِغْمَاءِ وَتَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوصَى له قبل مَوْتِ الْمُوصِي لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ له لَا لِغَيْرِهِ فَلَا يُمْكِنُ إبْقَاؤُهُ على غَيْرِهِ وَتَبْطُلُ بِهَلَاكِ الْمُوصَى بِهِ إذَا كان عَيْنًا مُشَارًا إلَيْهَا لِبُطْلَانِ مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ أَعْنِي مَحَلَّ حُكْمِهِ وَيَسْتَحِيلُ ثُبُوتُ حُكْمِ التَّصَرُّفِ أو بَقَاؤُهُ بِدُونِ وُجُودِ مَحَلِّهِ أو بَقَائِهِ
كما لو أَوْصَى بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ أو بِهَذِهِ الشَّاةِ فَهَلَكَتْ الْجَارِيَةُ وَالشَّاةُ
وَهَلْ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِاسْتِثْنَاءِ كل الْمُوصَى بِهِ في كَلَامٍ مُتَّصِلٍ
اُخْتُلِفَ فيه قال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا تَبْطُلُ وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ وَلِلْمُوصَى له جَمِيعُ ما أَوْصَى له بِهِ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ من الْكُلِّ في بَابِ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ وَيَلْزَمُ الْمُقِرَّ جَمِيعُ ما أَقَرَّ بِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هَهُنَا رُجُوعٌ عَمَّا أَوْصَى بِهِ وَالْوَصِيَّةُ مُحْتَمِلَةٌ لِلرُّجُوعِ فَيُحْمَلُ على الرُّجُوعِ وَبِهَذَا فَارَقَتْ الْإِقْرَارَ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمَالِ بما ( ( ( مما ) ) ) لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ فَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَبْقَى الْمُقَرُّ بِهِ على حَالِهِ
وَلَهُمَا أَنَّ هذا ليس بِاسْتِثْنَاءٍ وَلَا رُجُوعٍ فَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ رَأْسًا وَتَبْقَى الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةً
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا وَاسْتِخْرَاجِ بَعْضِ الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ وَلَا يُوجَدُ ذلك في اسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ من الْكُلِّ وَالرُّجُوعُ فَسْخُ الْوَصِيَّةِ وَإِبْطَالُهَا وَلَا يُتَصَوَّرُ ذلك في الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ وَلِهَذَا شَرَطْنَا لِجَوَازِ النَّسْخِ في الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ النَّصُّ النَّاسِخُ مُتَرَاخِيًا عن الْمَنْسُوخِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
كِتَابُ الْقَرْضِ الْكَلَامُ فيه يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِ الْقَرْضِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْقَرْضِ
أَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَالْإِيجَابُ قَوْلُ الْمُقْرِضِ أَقْرَضْتُكَ هذا الشَّيْءَ أو خُذْ هذا الشَّيْءَ قَرْضًا وَنَحْوُ ذلك
وَالْقَبُولُ هو أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَقْرِضُ اسْتَقْرَضْتُ أو قَبِلْتُ أو رَضِيتُ أو ما يَجْرِي هذا الْمُجْرَى وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي يُوسُفَ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أُخْرَى أَنَّ الرُّكْنَ فيه الْإِيجَابُ
وَأَمَّا الْقَبُولُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ حتى لو حَلَفَ لَا يُقْرِضُ فُلَانًا فَأَقْرَضَهُ ولم يَقْبَلْ لم يَحْنَثْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي يُوسُفَ وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى يَحْنَثُ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِقْرَاضَ إعَارَةٌ لِمَا نَذْكُرُ وَالْقَبُولُ ليس بِرُكْنٍ في الْإِعَارَةِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْوَاجِبَ في ذِمَّةِ الْمُسْتَقْرِضِ مِثْلُ الْمُسْتَقْرَضِ فَلِهَذَا اُخْتُصَّ جَوَازُهُ بماله مِثْلٌ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ فَكَانَ الْقَبُولُ رُكْنًا فيه كما في الْبَيْعِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَسْتَقْرِضُ من فُلَانٍ فَاسْتَقْرَضَ منه فلم يُقْرِضْهُ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ هو الِاسْتِقْرَاضُ وهو طَلَبُ الْقَرْضِ كَالِاسْتِيَامِ في الْبَيْعِ وهو طَلَبُ الْبَيْعِ فإذا اسْتَقْرَضَ فَقَدْ طَلَبَ الْقَرْضَ فَوُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ فَيَحْنَثُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُقْرِضِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُقْرَضِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَرْضِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُقْرِضِ فَهُوَ أَهْلِيَّتُهُ لِلتَّبَرُّعِ فَلَا يَمْلِكُهُ من لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ من الْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْقَرْضَ لِلْمَالِ تَبَرُّعٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ لِلْحَالِ فَكَانَ تَبَرُّعًا لِلْحَالِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا مِمَّنْ يَجُوزُ منه التَّبَرُّعُ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا من أَهْلِ التَّبَرُّعِ فَلَا يَمْلِكُونَ الْقَرْضَ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُقْرَضِ فَمِنْهَا
____________________

(7/394)


الْقَبْض لِأَنَّ الْقَرْضَ هو الْقَطْعُ في اللُّغَةِ سُمِّيَ هذا الْعَقْدُ قَرْضًا لِمَا فيه من قَطْعِ طَائِفَةٍ من مَالِهِ وَذَلِكَ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ فَكَانَ مَأْخَذُ الِاسْمِ دَلِيلًا على اعْتِبَارِ هذا الشَّرْطِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِمَّا له مِثْلٌ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ فَلَا يَجُوزُ قَرْضُ ما لَا مِثْلَ له من الْمَذْرُوعَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ رَدِّ الْعَيْنِ وَلَا إلَى إيجَابِ رَدِّ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِاخْتِلَافِ الْقِيمَةِ بِاخْتِلَافِ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ فيه رَدَّ الْمِثْلِ فَيَخْتَصُّ جَوَازُهُ بِمَا له مِثْلٌ وَلَا يَجُوزُ الْقَرْضُ في الْخُبْزِ ولا وَزْنًا وَلَا عَدَدًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وقال مُحَمَّدٌ يَجُوزُ عَدَدًا وما قَالَاهُ هو الْقِيَاسُ لِتَفَاوُتٍ فَاحِشٍ بين خُبْزٍ وَخُبْزٍ لِاخْتِلَافِ الْعَجْنِ وَالنُّضْجِ وَالْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ في الْوَزْنِ وَالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ في الْعَدَدِ وَلِهَذَا لم يَجُزْ السَّلَمُ فيه بِالْإِجْمَاعِ فَالْقَرْضُ أَوْلَى لِأَنَّ السَّلَمَ أَوْسَعُ جَوَازًا من الْقَرْضِ وَالْقَرْضُ أَضْيَقُ منه أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ السَّلَمُ في الثِّيَابِ وَلَا يَجُوزُ للقرض ( ( ( القرض ) ) ) فيها فلما لم يَجُزْ السَّلَمُ فيه فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ الْقَرْضُ أَوْلَى إلَّا أَنَّ محمد ( ( ( محمدا ) ) ) رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَحْسَنَ في جَوَازِهِ عَدَدًا لِعُرْفِ الناس وعادتهم ( ( ( وعاداتهم ) ) ) في ذلك وَتَرَكَ الْقِيَاسَ لِتَعَامُلِ الناس فيه هَكَذَا
رُوِيَ عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ جَوَّزَ ذلك فإنه روي أَنَّهُ سُئِلَ عن أَهْلِ بَيْتٍ يُقْرِضُونَ الرَّغِيفَ فَيَأْخُذُونَ أَصْغَرَ أو أَكْبَرَ فقال لَا بَأْسَ بِهِ وَيَجُوزُ الْقَرْضُ في الْفُلُوسِ لِأَنَّهَا من الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ
وَلَوْ اسْتَقْرَضَ فُلُوسًا فَكَسَدَتْ فَعَلَيْهِ مِثْلُهَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عليه قِيمَتُهَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَاجِبَ في بَابِ الْقَرْضِ رَدُّ مِثْلِ الْمَقْبُوضِ وقد عَجَزَ عن ذلك لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ كان ثَمَنًا وقد بَطَلَتْ الثَّمَنِيَّةَ بِالْكَسَادِ فَعَجَزَ عن رَدِّ الْمِثْلِ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ الْقِيمَةِ كما لو اسْتَقْرَضَ رُطَبًا فَانْقَطَعَ عن أَيْدِي الناس أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ رَدَّ الْمِثْلِ كان وَاجِبًا وَالْفَائِتُ بِالْكَسَادِ ليس إلَّا وَصْفُ الثَّمَنِيَّةِ وَهَذَا وَصْفٌ لَا تَعَلُّقَ لِجَوَازِ الْقَرْضِ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ بَعْدَ الْكَسَادِ ابْتِدَاءً وَإِنْ خَرَجَ من كَوْنِهِ ثَمَنًا فَلَأَنْ يَجُوزَ بَقَاءُ الْقَرْضِ فيه أَوْلَى لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ في الدَّرَاهِمِ التي يَغْلِبُ عليها الْغِشُّ لِأَنَّهَا في حُكْمِ الْفُلُوسِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ أَنْكَرَ اسْتِقْرَاضَ الدَّرَاهِمِ الْمُكَحَّلَةِ وَالْمُزَيَّفَةِ وَكَرِهَ إنْفَاقَهَا وَإِنْ كانت تُنْفَقُ بين الناس لِمَا في ذلك من ضَرُورَاتِ الْعَامَّةِ وإذا نهى عنها وَكَسَدَتْ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْفُلُوسِ إذَا كَسَدَتْ
وَلَوْ كان له على رَجُلٍ دَرَاهِمُ جِيَادٌ فَأَخَذَ منه مُزَيَّفَةً أو مُكَحَّلَةً أو زُيُوفًا أو نبهرجة ( ( ( بهرجة ) ) ) أو سَتُّوقَةً جَازَ في الْحُكْمِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بِدُونِ حَقِّهِ فَكَانَ كَالْحَطِّ عن حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ له أَنْ يَرْضَى بِهِ وَأَنْ يُنْفِقَهُ وأن بَيَّنَ وَقْتَ الْإِنْفَاقِ لَا يَخْلُو عن ضَرَرِ الْعَامَّةِ بِالتَّلْبِيسِ وَالتَّدْلِيسِ
قال أبو يُوسُفَ كُلُّ شَيْءٍ من ذلك لَا يَجُوزُ بين الناس فإنه يَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ وَيُعَاقَبَ صَاحِبُهُ إذَا أَنْفَقَهُ وهو يَعْرِفُهُ وَهَذَا الذي ذَكَرَهُ احْتِسَابٌ حَسَنٌ في الشَّرِيعَةِ
وَلَوْ اسْتَقْرَضَ دَرَاهِمَ تِجَارِيَّةً فَالْتَقَيَا في بَلَدٍ لَا يَقْدِرُ فيه على التِّجَارِيَّةِ فَإِنْ كانت تُنْفَقُ في ذلك الْبَلَدِ فَصَاحِبُ الْحَقِّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ انْتَظَرَ مَكَانَ الْأَدَاءِ وَإِنْ شَاءَ أَجَّلَهُ قَدْرَ الْمَسَافَةِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا وَاسْتَوْثَقَ منه بِكَفِيلٍ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْقِيمَةَ لِأَنَّهَا إذا كانت نَافِقَةً لم تَتَغَيَّرْ بَقِيَتْ في الذِّمَّةِ كما كانت وكان له الْخِيَارُ إنْ شَاءَ لم يَرْضَ بِالتَّأْخِيرِ وَأَخَذَ الْقِيمَةَ لِمَا في التَّأْخِيرِ من تَأْخِيرِ حَقِّهِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِ كَمَنْ عليه الرُّطَبُ إذَا انْقَطَعَ عن أَيْدِي الناس أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ صَاحِبَهُ بين التَّرَبُّصِ وَالِانْتِظَارِ لِوَقْتِ الْإِدْرَاكِ وَبَيْنَ أَخْذِ الْقِيمَةِ لِمَا قالوا كَذَا هذا وَإِنْ كان لَا يُنْفَقُ في ذلك الْبَلَدِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَرْضِ فَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فيه جَرُّ مَنْفَعَةٍ فَإِنْ كان لم يَجُزْ نَحْوُ ما إذَا أَقْرَضَهُ دَرَاهِمَ غَلَّةٍ على أَنْ يَرُدَّ عليه صِحَاحًا أو أَقْرَضَهُ وَشَرَطَ شَرْطًا له فيه مَنْفَعَةٌ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمَشْرُوطَةَ تُشْبِهُ الرِّبَا لِأَنَّهَا فَضْلٌ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ وَالتَّحَرُّزُ عن حَقِيقَةِ الرِّبَا وَعَنْ شُبْهَةِ الرِّبَا وَاجِبٌ
هذا إذَا كانت الزِّيَادَةُ مَشْرُوطَةً في الْقَرْضِ فَأَمَّا إذَا كانت غير مَشْرُوطَةٍ فيه وَلَكِنَّ الْمُسْتَقْرِضَ أَعْطَاهُ أَجْوَدَهُمَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الرِّبَا اسْمٌ لِزِيَادَةٍ مَشْرُوطَةٍ في الْعَقْدِ ولم تُوجَدْ بَلْ هذا من بَابِ حُسْنِ الْقَضَاءِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ
قال النبي عليه السَّلَامُ خِيَارُ الناس أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً وقال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ قَضَاءِ دَيْنٍ لَزِمَهُ لِلْوَازِنِ زِنْ وَأَرْجِحْ وَعَلَى هذا تخريج ( ( ( تخرج ) ) ) مَسْأَلَةُ السَّفَاتِجِ التي يَتَعَامَلُ بها التُّجَّارُ أنها مَكْرُوهَةٌ لِأَنَّ التَّاجِرَ يَنْتَفِعُ بها بِإِسْقَاطِ خَطَرِ الطَّرِيقِ فَتُشْبِهُ قَرْضًا جَرَّ نَفْعًا
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ كان يَسْتَقْرِضُ بِالْمَدِينَةِ على أَنْ يَرُدَّ بِالْكُوفَةِ وَهَذَا انْتِفَاعٌ بِالْقَرْضِ بِإِسْقَاطِ
____________________

(7/395)


خَطَرِ الطَّرِيقِ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذلك مَحْمُولٌ على أَنَّ السَّفْتَجَةَ لم تَكُنْ مَشْرُوطَةً في الْقَرْضِ مُطْلَقًا ثُمَّ تَكُونُ السَّفْتَجَةُ وَذَلِكَ مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ على ما بَيَّنَّا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَالْأَجَلُ لَا يَلْزَمُ في الْقَرْضِ سَوَاءٌ كان مَشْرُوطًا في الْعَقْدِ أو مُتَأَخِّرًا عنه بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ
وَالْفَرْقُ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقَرْضَ تَبَرُّعٌ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ لِلْحَالِ وَكَذَا لَا يَمْلِكُهُ من لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ فَلَوْ لَزِمَ فيه الْأَجَلُ لم يَبْقَ تَبَرُّعًا فَيَتَغَيَّرُ الْمَشْرُوطُ
بِخِلَافِ الدُّيُونِ
وَالثَّانِي أَنَّ الْقَرْضَ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكُ الْعَارِيَّةِ وَالْأَجَلُ لَا يَلْزَمُ في الْعَوَارِيّ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكُ الْعَارِيَّةِ أن لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُسْلَكَ بِهِ مَسْلَكُ الْمُبَادَلَةِ وَهِيَ تَمْلِيكُ الشَّيْءِ بمثله أو يُسْلَكَ بِهِ مَسْلَكُ الْعَارِيَّةِ
لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بمثله نَسِيئَةً وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ عَارِيَّةً
فَجُعِلَ التَّقْدِيرُ كَأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ انْتَفَعَ بِالْعَيْنِ مُدَّةً ثُمَّ رَدَّ عَيْنَ ما قَبَضَ وَإِنْ كان يَرُدُّ بَدَلَهُ في الْحَقِيقَةِ وَجُعِلَ رَدُّ بَدَلِ الْعَيْنِ بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْعَيْنِ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ
وقد يَلْزَمُ الْأَجَلُ في الْقَرْضِ بِحَالٍ بِأَنْ يُوصِيَ بِأَنْ يُقْرِضَ من مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فُلَانًا أَلْفَ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ فإنه يُنَفِّذُ وَصِيَّتَهُ وَيُقْرِضُ من مَالِهِ كما أَمَرَ وَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يُطَالِبُوا قبل السَّنَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْقَرْضِ فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُسْتَقْرِضِ في الْمُقْرَضِ لِلْحَالِ وَثُبُوتُ مِثْلِهِ في ذِمَّةِ الْمُسْتَقْرِضِ لِلْمُقْرِضِ لِلْحَالِّ
وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ في النَّوَادِرِ لَا يُمْلَكُ الْقَرْضُ بِالْقَبْضِ ما لم يُسْتَهْلَكْ حتى لو أَقْرَضَ كُرًّا من طَعَامٍ وَقَبَضَهُ الْمُسْتَقْرِضُ ثُمَّ أنه اشْتَرَى الْكُرَّ الذي عليه بِمِائَةِ دِرْهَمٍ جَازَ الْبَيْعُ وَعَلَى رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُقْرِضَ بَاعَ الْمُسْتَقْرِضَ الْكُرَّ الذي عليه وَلَيْسَ عليه الْكُرُّ فَكَانَ هذا بَيْعَ الْمَعْدُومِ فلم يَجُزْ كما لو بَاعَهُ الْكُرَّ الذي في هذا الْبَيْتِ وَلَيْسَ في الْبَيْتِ كُرٌّ وَجَازَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ بَاعَ ما في ذِمَّتِهِ فَصَارَ كما إذَا بَاعَهُ الْكُرَّ الذي في الْبَيْتِ وفي الْبَيْتِ كُرٌّ
وَكَذَلِكَ لو كان الْكُرُّ الْمُقْرَضُ قَائِمًا في يَدِ الْمُسْتَقْرِضِ كان الْمُسْتَقْرِضُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَ إلَيْهِ هذا الْكُرَّ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ إلَيْهِ كُرًّا آخَرَ
وَلَوْ أَرَادَ الْمُقْرِضُ أَنْ يَأْخُذَ هذا الْكُرَّ من الْمُسْتَقْرِضِ وَأَرَادَ الْمُسْتَقْرِضُ أَنْ يَمْنَعَهُ من ذلك وَيُعْطِيَهُ كُرًّا آخَرَ مثله له ذلك في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَعَلَى ما رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ في النَّوَادِرِ أَنْ لَا خِيَارَ لِلْمُسْتَقْرِضِ وَيُجْبَرُ على دَفْعِ ذلك الْكُرِّ إذَا طَالَبَ بِهِ الْمُقْرِضُ وَعَلَى هذا فُرُوعٌ ذُكِرَتْ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْإِقْرَاضَ إعَارَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فيه الْأَجَلُ وَلَوْ كان مُعَاوَضَةً لَلَزِمَ كما في سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ
وَكَذَا لَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ وَالْمُكَاتَبُ وَهَؤُلَاءِ لَا يَمْلِكُونَ الْمُعَاوَضَاتِ
وَكَذَا إقْرَاضُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لَا يَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ قبل قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ وَإِنْ كان مُبَادَلَةً لَبَطَلَ لِأَنَّهُ صَرْفٌ وَالصَّرْفُ يَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ قبل قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ وَكَذَا إقْرَاضُ الْمَكِيلِ لَا يَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ وَلَوْ كان مُبَادَلَةً لَبَطَلَ لِأَنَّ بَيْعَ الْمَكِيلِ بِمَكِيلٍ مِثْلِهِ في الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ الْإِقْرَاضَ إعَارَةٌ فَبَقِيَ الْعَيْنُ على حُكْمِ مِلْكِ الْمُقْرِضِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ بِنَفْسِ الْقَبْضِ صَارَ بِسَبِيلٍ من التَّصَرُّفِ في الْقَرْضِ من غَيْرِ إذْنِ الْمُقْرِضِ بَيْعًا وَهِبَةً وَصَدَقَةً وَسَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ وإذا تَصَرَّفَ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ وَلَا يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْمُقْرِضِ وَهَذِهِ أَمَارَاتُ الْمِلْكِ وَكَذَا مَأْخَذُ الِاسْمِ دَلِيلٌ عليه فإن الْقَرْضَ قَطْعٌ في اللُّغَةِ فَيَدُلُّ على انْقِطَاعِ مِلْكِ الْمُقْرِضِ بِنَفْسِ التَّسْلِيمِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إعَارَةٌ وَالْإِعَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ لَا تَمْلِيكُ الْعَيْنِ فَنَعَمْ لَكِنْ ما لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مع بَقَاءِ عَيْنِهِ بِقِيَامِ عَيْنِهِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ صَارَ قَبْضُ الْعَيْنِ قَائِمًا مَقَامَ قَبْضِ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنْفَعَةُ في بَابِ الْإِعَارَةُ تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ بِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ فَكَذَا ما هو مُلْحَقٌ بها وهو الْعَيْنُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ وَالْحَمْدُ الله ( ( ( لله ) ) ) وَحْدَهُ 

قلت المدون تم بحمد الله فالهم تقبل واستجب مني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حديث عبد الله بن عمر

أنَّه طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وهي حَائِضٌ، علَى عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَسَأَلَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَسولَ اللَّ...