ج1.
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587
بدائع الصنائع ( ( ( بسم ) ) )
كِتَابُ
الطَّهَارَةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في الْأَصْلِ في مَوْضِعَيْنِ
أَحَدُهُمَا في تَفْسِيرِ الطَّهَارَةِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ أَنْوَاعِهَا أَمَّا تَفْسِيرُهَا فَالطَّهَارَةُ لُغَةً
وَشَرْعًا هِيَ النَّظَافَةُ
وَالتَّطْهِيرُ التنظيف ( ( ( والتنظيف ) ) ) وهو إثْبَاتُ النَّظَافَةِ في
الْمَحَلِّ وَأَنَّهَا صِفَةٌ تَحْدُثُ سَاعَةً فَسَاعَةً وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ
حُدُوثُهَا بِوُجُودِ ضِدِّهَا وهو الْقَذَرُ فإذا زَالَ الْقَذَرُ وَامْتَنَعَ
حُدُوثُهُ بِإِزَالَةِ الْعَيْنِ الْقَذِرَةِ تَحْدُثُ النَّظَافَةُ فَكَانَ
زَوَالُ الْقَذَرِ من بَابِ زَوَالِ الْمَانِعِ من حُدُوثِ الطَّهَارَةِ لَا أَنْ
يَكُونَ طَهَارَةً وَإِنَّمَا سُمِّيَ طَهَارَةً تَوَسُّعًا لِحُدُوثِ
الطَّهَارَةِ عِنْدَ زَوَالِهِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِهَا فَالطَّهَارَةُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ
طَهَارَةٌ عن الْحَدَثِ وَتُسَمَّى طَهَارَةً حُكْمِيَّةً وَطَهَارَةٌ عن (
الْخَبَثِ ) وَتُسَمَّى طَهَارَةً حَقِيقِيَّةً
أَمَّا الطَّهَارَةُ عن الْحَدَثِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ
وَالتَّيَمُّمُ
أَمَّا الْوُضُوءُ فَالْكَلَامُ في الْوُضُوءِ في مَوَاضِعِ في تَفْسِيرِهِ وفي
بَيَانِ أَرْكَانِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الْأَرْكَانِ وفي بَيَانِ سُنَنِهِ وفي
بَيَانِ آدَابِهِ وفي بَيَانِ ما يَنْقُضُهُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْوُضُوءُ اسْمٌ لِلْغَسْلِ وَالْمَسْحِ لِقَوْلِهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى
الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا
برؤوسكم ( ( ( برءوسكم ) ) ) وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ
جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو على سَفَرٍ أو جاء أَحَدٌ
مِنْكُمْ من الْغَائِطِ أو لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فلم تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه ما
يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ من حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ
لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
أَمَرَ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ فَلَا بُدَّ من
مَعْرِفَةِ مَعْنَى الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ فَالْغَسْلُ هو إسَالَةُ الْمَائِعِ على
الْمَحَلِّ وَالْمَسْحُ هو الْإِصَابَةُ حتى لو غَسَلَ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ ولم
يُسِلْ الْمَاءَ بِأَنْ اسْتَعْمَلَهُ مِثْلَ الدُّهْنِ لم يَجُزْ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ وَعَلَى هذا قالوا لو تَوَضَّأَ
بِالثَّلْجِ ولم يَقْطُرْ منه شَيْءٌ لَا يَجُوزُ وَلَوْ قَطَرَ قَطْرَتَانِ أو
ثَلَاثٌ جَازَ لِوُجُودِ الْإِسَالَةِ
وَسُئِلَ الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ عن التَّوَضُّؤِ بِالثَّلْجِ
فقال ذلك مَسْحٌ وَلَيْسَ بِغَسْلٍ فَإِنْ عَالَجَهُ حتى يَسِيلَ يَجُوزُ
وَعَنْ خَلَفِ بن أَيُّوبَ أَنَّهُ قال يَنْبَغِي للمتوضىء ( ( ( للمتوضئ ) ) ) في
الشِّتَاءِ أَنْ يَبُلَّ أَعْضَاءَهُ ( بالماء ) شِبْهَ الدُّهْنِ ثُمَّ يُسِيلَ
الْمَاءَ عليها لِأَنَّ الْمَاءَ يَتَجَافَى عن الْأَعْضَاءِ في الشِّتَاءِ
وأما أركان الوضوء فأربعة مبحث غَسْلِ الْوَجْهِ أَحَدُهَا غَسْلُ الْوَجْهِ
مَرَّةً وَاحِدَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } وَالْأَمْرُ
الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ ولم يذكر في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَدَّ
الْوَجْهِ وَذَكَرَ في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ من قِصَاصِ الشَّعْرِ
إلَى أَسْفَلِ الذَّقَنِ وَإِلَى شَحْمَتَيْ الْأُذُنَيْنِ وَهَذَا تَحْدِيدٌ
صَحِيحٌ لِأَنَّهُ تَحْدِيدُ الشَّيْءِ بِمَا ينبىء عنه اللَّفْظُ لُغَةً لِأَنَّ الْوَجْهَ
اسْمٌ لِمَا يُوَاجِهُ الْإِنْسَانَ أو ما يُوَاجَهُ إلَيْهِ في الْعَادَةِ
وَالْمُوَاجَهَةُ تَقَعُ بهذا الْمَحْدُودِ فَوَجَبَ غَسْلُهُ قبل نَبَاتِ
الشَّعْرِ فإذا نَبَتَ الشَّعْرُ يَسْقُطُ غَسْلُ ما تَحْتَهُ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ
وقال أبو عبد اللَّهِ الْبَلْخِيّ أنه لَا يَسْقُطُ غَسْلُهُ وقال الشَّافِعِيُّ
إنْ كان الشَّعْرُ كَثِيفًا يَسْقُطُ وَإِنْ كان خَفِيفًا لَا يَسْقُطُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي عبد اللَّهِ أَنَّ ما تَحْتَ الشَّعْرِ بَقِيَ دَاخِلًا تَحْتَ
الْحَدِّ بَعْدَ نَبَاتِ الشَّعْرِ فَلَا يَسْقُطُ غَسْلُهُ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ السُّقُوطَ لِمَكَانِ الْحَرَجِ وَالْحَرَجُ في
الْكَثِيفِ لَا في الْخَفِيفِ
وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ غَسْلُ الْوَجْهِ وَلَمَّا نَبَتَ الشَّعْرُ خَرَجَ ما
تَحْتَهُ من أَنْ يَكُونَ وَجْهًا لِأَنَّهُ لَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ فَلَا يَجِبُ
غُسْلُهُ وَخَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ أبو عبد اللَّهِ وَعَمَّا قَالَهُ
الشَّافِعِيُّ أَيْضًا لِأَنَّ السُّقُوطَ في الْكَثِيفِ ليس لِمَكَانِ الْحَرَجِ
بَلْ لِخُرُوجِهِ من أَنْ يَكُونَ وَجْهًا لِاسْتِتَارِهِ بِالشَّعْرِ وقد وُجِدَ
ذلك في الْخَفِيفِ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ غَسْلُ ما تَحْتَ الشَّارِبِ
وَالْحَاجِبَيْنِ
وَأَمَّا الشَّعْرُ الذي يُلَاقِي الْخَدَّيْنِ وَظَاهِرَ الذَّقَنِ فَقَدْ رَوَى
ابن شُجَاعٍ عن الْحَسَنِ عن أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ أَنَّهُ إذَا مَسَحَ من
لِحْيَتِهِ ثُلُثًا منها أو رُبُعًا جَازَ وَإِنْ مَسَحَ أَقَلَّ من ذلك لم يَجُزْ
وقال أبو يُوسُفَ إنْ لم
____________________
(1/3)
يَمْسَحْ
شيئا منها جَازَ وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مَرْجُوعٌ عنها وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ
يَجِبُ غَسْلُهُ لِأَنَّ الْبَشَرَةَ خَرَجَتْ من أَنْ تَكُونَ وَجْهًا لِعَدَمِ
مَعْنَى الْمُوَاجَهَةِ لِاسْتِتَارِهَا بِالشَّعْرِ فَصَارَ ظَاهِرُ الشَّعْرِ
الْمُلَاقِي إياها ( ( ( لها ) ) ) هو الْوَجْهُ لِأَنَّ الْمُوَاجَهَةَ تَقَعُ
إلَيْهِ وَإِلَى هذا أَشَارَ أبو حَنِيفَةَ فقال وَإِنَّمَا مَوَاضِعُ الْوُضُوءِ
ما ظَهَرَ منها وَالظَّاهِرُ هو الشَّعْرُ لَا الْبَشَرَةُ فَيَجِبُ غَسْلُهُ
وَلَا يَجِبُ غَسْلُ ما اسْتَرْسَلَ من اللِّحْيَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ يَجِبُ
له أَنَّ الْمُسْتَرْسِلَ تَابِعٌ لِمَا اتَّصَلَ وَالتَّبَعُ حُكْمُهُ حُكْمُ
الْأَصْلِ
ولنا أَنَّهُ إنَّمَا يُوَاجِهُ إلَى الْمُتَّصِلِ عَادَةً لَا إلَى
الْمُسْتَرْسِلِ فلم يَكُنْ الْمُسْتَرْسِلُ وَجْهًا فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ
وَيَجِبُ غَسْلُ الْبَيَاضِ الذي بين الْعِذَارِ وَالْأُذُنِ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِأَبِي
يُوسُفَ أَنَّ ما تَحْتَ الْعِذَارِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ مع أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى
الْوَجْهِ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ غَسْلُ الْبَيَاضِ أَوْلَى وَلَهُمَا أَنَّ
الْبَيَاضَ دَاخِلٌ في حَدِّ الْوَجْهِ ولم يُسْتَرْ بِالشَّعْرِ فَبَقِيَ وَاجِبَ
الْغَسْلِ كما كان بِخِلَافِ الْعِذَارِ وَإِدْخَالُ الْمَاءِ في دَاخِلِ
الْعَيْنَيْنِ ليس بِوَاجِبٍ لِأَنَّ دَاخِلَ العينين ( ( ( العين ) ) ) ليس
بِوَجْهٍ لِأَنَّهُ لَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ وَلِأَنَّ فيه حَرَجًا وَقِيلَ أن من
تَكَلَّفَ لِذَلِكَ من الصَّحَابَةِ كُفَّ بَصَرُهُ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ
عُمَرَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
مبحث غَسْلِ الْيَدَيْنِ وَالثَّانِي غَسْلُ الْيَدَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَيْدِيَكُمْ } وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي
التَّكْرَارَ وَالْمِرْفَقَانِ يَدْخُلَانِ في الْغَسْلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَدْخُلَانِ وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ من
الْمِرْفَقِ يَجِبُ عليه غَسْلُ مَوْضِعِ الْقَطْعِ عِنْدَنَا خِلَافًا له
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمِرْفَقَ غَايَةً فَلَا
يَدْخُلُ تَحْتَ ما جُعِلَتْ له الْغَايَةُ كما لَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ تَحْتَ
الْأَمْرِ بِالصَّوْمِ في قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى
اللَّيْلِ } وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِغَسْلِ الْيَدِ وَالْيَدُ اسْمٌ
لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ من رؤوس الْأَصَابِعِ إلَى الْإِبِطِ وَلَوْلَا ذِكْرُ
الْمِرْفَقِ لَوَجَبَ غَسْلُ الْيَدِ كُلِّهَا فَكَانَ ذِكْرُ الْمِرْفَقِ
لِإِسْقَاطِ الْحُكْمِ عَمَّا وَرَاءَهُ لَا لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَيْهِ
لِدُخُولِهِ تَحْتَ مُطْلَقِ اسْمِ الْيَدِ فَيَكُونُ عَمَلًا بِاللَّفْظِ
بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمِرْفَقَ لَا يَصْلُحُ غَايَةً
لِحُكْمٍ ثَبَتَ في الْيَدِ لِكَوْنِهِ بَعْضَ الْيَدِ بِخِلَافِ اللَّيْلِ في
بَابِ الصَّوْمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا ذِكْرُ اللَّيْلُ لَمَا اقْتَضَى
الْأَمْرُ إلَّا وُجُوبَ صَوْمِ سَاعَةٍ فَكَانَ ذِكْرُ اللَّيْلِ لِمَدِّ
الْحُكْمِ إلَيْهِ على أَنَّ الْغَايَاتِ مُنْقَسِمَةٌ منها ما لَا يَدْخُلُ
تَحْتَ ما ضُرِبَتْ له الْغَايَةُ وَمِنْهَا ما يَدْخُلُ كَمَنْ قال رأيت فُلَانًا
من رَأْسِهِ إلَى قَدَمِهِ وَأَكَلْتُ السَّمَكَةَ من رَأْسِهَا إلَى ذَنَبِهَا
دخل الْقَدَمُ وَالذَّنَبُ
فَإِنْ كانت هذه الْغَايَةُ من الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُمَا
وَإِنْ كانت من الْقِسْمِ الثَّانِي يَجِبُ فَيُحْمَلُ على الثَّانِي احْتِيَاطًا
على أَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ دُخُولَ الْمَرَافِقِ في الْأَمْرِ بِالْغَسْلِ
وَاحْتَمَلَ خُرُوجَهَا عنه صَارَ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ
وقد رَوَى جَابِرٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان إذَا بَلَغَ الْمِرْفَقَيْنِ في
الْوُضُوءِ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَيْهِمَا فَكَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِمُجْمَلِ
الْكِتَابِ وَالْمُجْمَلُ إذَا الْتَحَقَ بِهِ الْبَيَانُ يَصِيرُ مُفَسَّرًا من
الْأَصْلِ
مبحث مَسْحِ الرَّأْسِ وَالثَّالِثُ مَسْحُ الرَّأْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَامْسَحُوا برؤوسكم ( ( ( برءوسكم ) ) ) } وَالْأَمْرُ
الْمُطْلَقُ بِالْفِعْلِ لَا يُوجِبُ التَّكْرَارَ وَاخْتُلِفَ في الْمِقْدَارِ
الْمَفْرُوضِ مَسْحُهُ ذَكَرَهُ في الْأَصْلِ وَقَدَّرَهُ بِثَلَاثِ أَصَابِعِ
الْيَدِ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِالرُّبْعِ وهو
قَوْلُ زُفَرَ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ عن أَصْحَابِنَا مِقْدَارَ
النَّاصِيَةِ
وقال مَالِكٌ لَا يَجُوزُ حتى يَمْسَحَ جَمِيعَ الرَّأْسِ أو أَكَثْرَهُ
وقال الشَّافِعِيُّ إذَا مَسَحَ ما يُسَمَّى مَسْحًا يَجُوزُ وَإِنْ كان ثَلَاثَ
شَعَرَاتٍ
وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الرَّأْسَ وَالرَّأْسُ اسْمٌ
لِلْجُمْلَةِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ وَحَرْفُ الْبَاءِ لَا
يَقْتَضِي التَّبْعِيضَ لُغَةً بَلْ هو حَرْفُ إلْصَاقٍ فَيَقْتَضِي إلْصَاقَ
الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ وهو الْمَسْحُ بِالرَّأْسِ وَالرَّأْسُ اسْمٌ لِكُلِّهِ
فَيَجِبُ مَسْحُ كُلِّهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا مَسَحَ الْأَكْثَرَ جَازَ لِقِيَامِ
الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِالْمَسْحِ بِالرَّأْسِ
وَالْمَسْحُ بِالشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي اسْتِيعَابَهُ في الْعُرْفِ يُقَالُ
مَسَحْتُ يَدِي بِالْمِنْدِيلِ وَإِنْ لم يَمْسَحْ بِكُلِّهِ وَيُقَالُ كَتَبْتُ
بِالْقَلَمِ وَضَرَبْتُ بِالسَّيْفِ وَإِنْ لم يَكْتُبْ بِكُلِّ الْقَلَمِ ولم
يَضْرِبْ بِكُلِّ السَّيْفِ فَيَتَنَاوَلُ أَدْنَى ما يَنْطَلِقُ عليه الِاسْمُ
وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَسْحِ يَقْتَضِي آلَةً المسح إذْ الْمَسْحُ لَا
يَكُونُ إلَّا بِآلَةٍ وَآلَةُ الْمَسْحِ هِيَ أَصَابِعُ الْيَدِ عَادَةً
وَثَلَاثُ أَصَابِعِ الْيَدِ أَكْثَرُ الْأَصَابِعِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ
الْكُلِّ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَصَّ على الثَّلَاثِ وقال { وَامْسَحُوا برؤوسكم ( (
( برءوسكم ) ) ) } بِثَلَاثِ أَصَابِعِ أَيْدِيكُمْ
وَأَمَّا وَجْهُ التَّقْدِيرِ بِالنَّاصِيَةِ فَلِأَنَّ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ
ليس بِمُرَادٍ من الْآيَةِ بِالْإِجْمَاعِ أَلَا تَرَى أن عِنْدَ مَالِكٍ إن
مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ إلَّا قَلِيلًا منه جَائِزٌ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ
الْآيَةِ على جَمِيعِ الرَّأْسِ وَلَا على بَعْضٍ مُطْلَقٍ وهو أَدْنَى ما
يَنْطَلِقُ عليه الِاسْمُ كما قَالَهُ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ مَاسِحَ
____________________
(1/4)
شَعْرَةٍ
أو ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ لَا يُسَمَّى مَاسِحًا في الْعُرْفِ فَلَا بُدَّ من
الْحَمْلِ على مِقْدَارٍ يُسَمَّى الْمَسْحُ عليه مَسْحًا في الْمُتَعَارَفِ
وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ
وقد رَوَى الْمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ أن النبي أَنَّهُ بَالَ وَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ
على نَاصِيَتِهِ فَصَارَ فِعْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيَانًا
لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ إذْ الْبَيَانُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ تَارَةً وَبِالْفِعْلِ
أُخْرَى كَفِعْلِهِ في هَيْئَةِ الصَّلَاةِ وَعَدَدِ رَكَعَاتِهَا وَفِعْلِهِ في
مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَغَيْرِ ذلك فَكَانَ الْمُرَادُ من الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ
مِقْدَارَ النَّاصِيَةِ بِبَيَانِ النبي
وَوَجْهُ التَّقْدِيرِ بِالرُّبْعِ أَنَّهُ قد ظَهَرَ اعْتِبَارُ الرُّبْعِ في
كَثِيرٍ من الْأَحْكَامِ كما في حَلْقِ رُبْعِ الرَّأْسِ أَنَّهُ يَحِلُّ بِهِ
الْمُحْرِمُ وَلَا يَحِلُّ بِدُونِهِ وَيَجِبُ الدَّمُ إذَا فَعَلَهُ في
إحْرَامِهِ وَلَا يَجِبُ بِدُونِهِ وَكَمَا في انْكِشَافِ الرُّبْعِ من
الْعَوْرَةِ في بَابِ الصَّلَاةِ إنه يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وما دُونَهُ لَا
يَمْنَعُ كَذَا هَهُنَا وَلَوْ وَضَعَ ثَلَاثَ أَصَابِعَ وَضْعًا ولم يَمُدَّهَا
جَازَ على قِيَاسِ رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَهِيَ التَّقْدِيرُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ
لِأَنَّهُ أتى بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ النَّاصِيَةِ
وَالرُّبْعُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ ما اسْتَوْفَى في ذلك الْقَدْرَ وَلَوْ مَسَحَ
بِثَلَاثِ أَصَابِعَ مَنْصُوبَةٍ غَيْرِ مَوْضُوعَةٍ وَلَا مَمْدُودَةٍ لم يَجُزْ
لِأَنَّهُ لم يَأْتِ بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ وَلَوْ مَدَّهَا حتى بَلَغَ
الْقَدْرَ الْمَفْرُوضَ لم يَجُزْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ
زُفَرَ يَجُوزُ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا مَسَحَ بِأُصْبُعٍ أو بِأُصْبُعَيْنِ
وَمَدَّهُمَا حتى بَلَغَ مِقْدَارَ الْفَرْضِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أن الْمَاءَ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا حَالَةَ الْمَسْحِ
كما لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا حَالَةَ الْغَسْلِ فإذا مَدَّ فَقَدْ مَسَحَ
بِمَاءٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ فَجَازَ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ سُنَّةَ
الِاسْتِيعَابِ تَحْصُلُ بِالْمَدِّ وَلَوْ كان مُسْتَعْمَلًا بِالْمَدِّ لَمَا
حَصَلَتْ لِأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ
وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَصِيرَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِأَوَّلِ
مُلَاقَاتِهِ الْعُضْوَ لِوُجُودِ زَوَالِ الْحَدَثِ أو قَصْدِ الْقُرْبَةِ إلَّا
أَنَّ في بَابِ الْغَسْلِ لم يَظْهَرْ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ في تِلْكَ
الْحَالَةِ لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ أَنَّهُ لو أَعْطَى له حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ في
تلك الحالة لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يَأْخُذَ لِكُلِّ جُزْءٍ من الْعُضْوِ مَاءً
جَدِيدًا وَفِيهِ من الْحَرَجِ ما لَا يَخْفَى فلم يَظْهَرْ حُكْمُ
الِاسْتِعْمَالِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ في الْمَسْحِ لِأَنَّهُ
يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْسَحَ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْمَدِّ
لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ
فَظَهَرَ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ فيه وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى إقَامَةِ سُنَّةِ
الِاسْتِيعَابِ فلم يَظْهَرْ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ فيه كما في الْغَسْلِ وَلَوْ
مَسَحَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَعَادَهَا إلَى الْمَاءِ في كل
مَرَّةٍ جَازَ
هَكَذَا رَوَى ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ في النَّوَادِرِ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ هو
الْمَسْحُ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ وقد وُجِدَ
وَإِنْ لم يَكُنْ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو أَصَابَ رَأْسَهُ هذا الْقَدْرُ من مَاءِ الْمَطَرِ سَقَطَ
عنه فَرْضُ الْمَسْحِ وَإِنْ لم يُوجَدْ منه فِعْلُ الْمَسْحِ رَأْسًا
وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ بِبَطْنِهَا وَبِظَهْرِهَا وبجانبيها ( ( (
وبجانبها ) ) ) لم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فقال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ وقال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ
وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ ذلك في مَعْنَى الْمَسْحِ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ
وَإِيصَالُ الْمَاءِ إلَى أُصُولِ الشَّعْرِ ليس بِفَرْضٍ لِأَنَّ فيه حَرَجًا
فَأُقِيمَ الْمَسْحُ على الشَّعْرِ مَقَامَ الْمَسْحِ على أُصُولِهِ وَلَوْ مَسَحَ
على شَعْرِهِ وكان شَعْرُهُ طَوِيلًا فَإِنْ مَسَحَ على ما تَحْتَ أُذُنِهِ لم
يَجُزْ وَإِنْ مَسَحَ على ما فَوْقَهَا جَازَ لِأَنَّ الْمَسْحَ على الشَّعْرِ
كَالْمَسْحِ على ما تَحْتَهُ وما تَحْتَ الْأُذُنِ عُنُقٌ وما فَوْقَهُ رَأْسٌ
وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ على الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ لِأَنَّهُمَا
يَمْنَعَانِ إصَابَةَ الْمَاءِ الشَّعْرَ وَلَا يَجُوزُ مَسْحُ الْمَرْأَةِ على
خِمَارِهَا لِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها أَدْخَلَتْ يَدَهَا
تَحْتَ الْخِمَارِ وَمَسَحَتْ بِرَأْسِهَا وَقَالَتْ بهذا أَمَرَنِي رسول اللَّهِ
إلَّا إذَا كان الْخِمَارُ رَقِيقًا يُنْفِذُ الْمَاءَ إلَى شَعْرِهَا فَيَجُوزُ
لِوُجُودِ الْإِصَابَةِ
وَلَوْ أَصَابَ رَأْسَهُ الْمَطَرُ مِقْدَارَ الْمَفْرُوضِ أَجْزَأَهُ مَسَحَهُ
بيده أو لم يَمْسَحْهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ ليس بِمَقْصُودٍ في الْمَسْحِ وَإِنَّمَا
الْمَقْصُودُ هو وُصُولُ الْمَاءِ إلَى ظَاهِرِ الشَّعْرِ وقد وُجِدَ وَاَللَّهُ
الْمُوَفِّقُ
مبحث غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَالرَّابِعُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } بِنَصْبِ اللَّامِ من
الْأَرْجُلِ مَعْطُوفًا على قَوْلِهِ تَعَالَى { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } كَأَنَّهُ قال فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَامْسَحُوا
برؤوسكم ( ( ( برءوسكم ) ) ) وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ
وَقَالَتْ الرَّافِضَةُ الْفَرْضُ هو الْمَسْحُ لَا غَيْرُ
وقال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِالتَّخْيِيرِ بين الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ وقال
بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَأَصْلُ هذا الِاخْتِلَافِ
أَنَّ الْآيَةَ قُرِئَتْ بِقِرَاءَتَيْنِ بِالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ فَمَنْ قال
بِالْمَسْحِ أَخَذَ بِقِرَاءَةِ الْخَفْضِ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي كَوْنَ
الْأَرْجُلِ مَمْسُوحَةً لَا مَغْسُولَةً لِأَنَّهَا تَكُونُ مَعْطُوفَةً على
الرَّأْسِ وَالْمَعْطُوفُ يُشَارِكُ الْمَعْطُوفَ عليه في الْحُكْمِ ثُمَّ
وَظِيفَةُ الرَّأْسِ الْمَسْحُ فَكَذَا وَظِيفَةُ الرِّجْلِ
وَمِصْدَاقُ هذه الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ في الْكَلَامِ عَامِلَانِ
أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ تعالى { فَاغْسِلُوا } وَالثَّانِي حَرْفُ الْجَرِّ وهو
الْبَاءُ في قَوْلِهِ تعالى ( ( ( برءوسكم ) ) ) { برؤوسكم }
____________________
(1/5)
وَالْبَاءُ
أَقْرَبُ فَكَانَ الْخَفْضُ أَوْلَى
وَمَنْ قال بِالتَّخْيِيرِ يقول إنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ قد ثَبَتَ كَوْنُ كل
وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قُرْآنًا وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بين مُوجِبَيْهِمَا وهو
وُجُوبُ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ إذْ لَا قَائِلَ بِهِ في السَّلَفِ فَيُخَيَّرُ
الْمُكَلَّفُ إنْ شَاءَ عَمِلَ بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ فَغَسَلَ وَإِنْ شَاءَ
بِقِرَاءَةِ الْخَفْضِ فَمَسَحَ وَأَيُّهُمَا فَعَلَ يَكُونُ إتْيَانًا
بِالْمَفْرُوضِ كما في الْأَمْرِ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ
وَمَنْ قال بِالْجَمْعِ يقول الْقِرَاءَتَانِ في آيَةٍ وَاحِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ
آيَتَيْنِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا جميعا ما أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ هَهُنَا
لِعَدَمِ التَّنَافِي إذْ لَا تَنَافِيَ بين الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ في مَحَلٍّ
وَاحِدٍ فَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا
وَلَنَا قِرَاءَةُ النَّصْبِ وَأَنَّهَا تَقْتَضِي كَوْنَ وَظِيفَةِ الْأَرْجُلِ
الْغَسْلَ لِأَنَّهَا تَكُونُ مَعْطُوفَةً على الْمَغْسُولَاتِ وَهِيَ الْوَجْهُ
وَالْيَدَانِ وَالْمَعْطُوفُ على الْمَغْسُولِ يَكُونُ مَغْسُولًا تَحْقِيقًا
لِمُقْتَضَى الْعَطْفِ
وَحُجَّةُ هذه الْقِرَاءَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا ما قَالَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا
أَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ مُحْكَمَةٌ في الدَّلَالَةِ على كَوْنِ الْأَرْجُلِ
مَعْطُوفَةً على الْمَغْسُولَاتِ وَقِرَاءَةُ الْخَفْضِ مُحْتَمَلَةٌ لِأَنَّهُ
يُحْتَمَلُ أنها مَعْطُوفَةٌ على الرؤوس حَقِيقَةً وَمَحَلُّهَا من الْإِعْرَابِ
الْخَفْضُ وَيُحْتَمَلُ أنها مَعْطُوفَةٌ على الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ حَقِيقَةً
وَمَحَلُّهَا من الْإِعْرَابِ النَّصْبُ إلَّا أَنَّ خَفْضَهَا لِلْمُجَاوَرَةِ
وَإِعْطَاءُ الْإِعْرَابِ بِالْمُجَاوَرَةِ طَرِيقَةٌ شَائِعَةٌ في اللُّغَةِ
بِغَيْرِ حَائِلٍ وَبِحَائِلٍ أَمَّا بِغَيْرِ الْحَائِلِ فَكَقَوْلِهِمْ جُحْرُ
ضَبٍّ خَرِبٍ وَمَاءُ شَنٍّ بَارِدٍ وَالْخَرِبُ نَعْتُ الْجُحْرِ لَا نَعْتُ
الضَّبِّ وَالْبُرُودَةُ نَعْتُ الْمَاءِ لَا نَعْتُ الشَّنِّ ثُمَّ خُفِضَ
لِمَكَانِ الْمُجَاوَرَةِ وَأَمَّا مع الْحَائِلِ فَكَمَا قال تَعَالَى { يَطُوفُ
عليهم وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ } إلَى قَوْلِهِ تعالى { وَحُورٌ عِينٌ }
لِأَنَّهُنَّ لَا يُطَافُ بِهِنَّ وَكَمَا قال الْفَرَزْدَقُ فَهَلْ أنت إنْ
مَاتَتْ أَتَانُكَ رَاكِبٌ إلَى آلِ بِسْطَامٍ بن قَيْسٍ فَخَاطِبُ فَثَبَتَ أَنَّ
قِرَاءَةَ الْخَفْضِ مُحْتَمَلَةٌ وَقِرَاءَةَ النَّصْبِ مُحْكَمَةٌ فَكَانَ
الْعَمَلُ بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ أَوْلَى إلَّا أَنَّ في هذا إشْكَالًا وهو أَنَّ
هذا الْكَلَامَ في حَدِّ التَّعَارُضِ لِأَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ مُحْتَمَلَةٌ
أَيْضًا في الدَّلَالَةِ على كَوْنِ الْأَرْجُلِ مَعْطُوفَةً على الْيَدَيْنِ
وَالرِّجْلَيْنِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أنها مَعْطُوفَةٌ على الرَّأْسِ
وَالْمُرَادُ بها الْمَسْحُ حَقِيقَةً لَكِنَّهَا نُصِبَتْ على الْمَعْنَى لَا على
اللَّفْظِ لِأَنَّ الْمَمْسُوحَ بِهِ مَفْعُولٌ بِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قال
تَعَالَى { وَامْسَحُوا برؤوسكم ( ( ( برءوسكم ) ) ) }
وَالْإِعْرَابُ قد يَتْبَعُ اللَّفْظَ وقد يَتْبَعُ الْمَعْنَى كما قال الشَّاعِرُ
معاوي ( ( ( معاوية ) ) ) إنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا
الْحَدِيدَا نَصَبَ الْحَدِيدَ عَطْفًا على الْجِبَالِ بِالْمَعْنَى لَا
بِاللَّفْظِ مَعْنَاهُ فَلَسْنَا الْجِبَالَ وَلَا الْحَدِيدَ
فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ من الْقِرَاءَتَيْنِ مُحْتَمَلَةً في الدَّلَالَةِ من
الْوَجْهِ الذي ذَكَرْنَا فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فَيُطْلَبُ التَّرْجِيحُ من
جَانِبٍ آخَرَ وَذَلِكَ من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَّ
الْحُكْمَ في الْأَرْجُلِ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَوُجُوبُ الْمَسْحِ لَا يَمْتَدُّ
إلَيْهِمَا
وَالثَّانِي أَنَّ الْغَسْلَ يَتَضَمَّنُ الْمَسْحَ إذْ الْغَسْلُ إسَالَةٌ
وَالْمَسْحُ إصَابَةٌ وفي الْإِسَالَةِ إصَابَةٌ وَزِيَادَةٌ فَكَانَ ما قُلْنَاهُ
عَمَلًا بِالْقِرَاءَتَيْنِ مَعًا فَكَانَ أَوْلَى
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ قد رَوَى جَابِرٌ وأبو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ وَعَبْدُ
اللَّهِ بن عمرو ( ( ( عمر ) ) ) وَغَيْرُهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَأَى
قَوْمًا تَلُوحُ أَعْقَابُهُمْ لم يُصِبْهَا الْمَاءُ فقال وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ
من النَّارِ أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ
وَرُوِيَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ وقال هذا وُضُوءٌ لَا
يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ من النَّارِ وَعِيدٌ لَا
يُسْتَحَقُّ إلَّا بِتَرْكِ الْمَفْرُوضِ وَكَذَا نَفْيُ قَبُولِ صَلَاةِ من لَا
يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ في وُضُوئِهِ فَدَلَّ أَنَّ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ من
فَرَائِضِ الْوُضُوءِ
وقد ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ النبي غَسَلَ رِجْلَيْهِ في الْوُضُوءِ لَا
يَجْحَدُهُ مُسْلِمٌ فَكَانَ قَوْلُهُ وَفِعْلُهُ بَيَانُ الْمُرَادِ بِالْآيَةِ
فَثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ أَنَّ الْأَرْجُلَ في
الْآيَةِ مَعْطُوفَةٌ على الْمَغْسُولِ لَا على الْمَمْسُوحِ فَكَانَ وَظِيفَتُهَا
الْغَسْلَ لَا الْمَسْحَ
على أَنَّهُ إنْ وَقَعَ التَّعَارُضُ بين الْقِرَاءَتَيْنِ فَالْحُكْمُ في
تَعَارُضِ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْحُكْمِ في تَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ وهو أَنَّهُ
إنْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا مُطْلَقًا يُعْمَلُ وَإِنْ لم يُمْكِنْ
لِلتَّنَافِي يُعْمَلُ بِهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ
الْجَمْعُ بين الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ في عُضْوٍ وَاحِدٍ في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ
لِأَنَّهُ لم يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ من السَّلَفِ وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى
تَكْرَارِ الْمَسْحِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْغَسْلَ يَتَضَمَّنُ الْمَسْحَ
وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَيُعْمَلُ بِهِمَا في
الْحَالَتَيْنِ فَتُحْمَلُ قِرَاءَةُ النَّصْبِ على ما إذَا كانت الرِّجْلَانِ
بَادِيَتَيْنِ وَتُحْمَلُ قِرَاءَةُ الْخَفْضِ على ما إذَا كَانَتَا
مَسْتُورَتَيْنِ بِالْخُفَّيْنِ تَوْفِيقًا بين الْقِرَاءَتَيْنِ وَعَمَلًا
بِهِمَا
____________________
(1/6)
بِالْقَدْرِ
الْمُمْكِنِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّخْيِيرِ بَاطِلٌ عِنْدَ
إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِمَا في الْجُمْلَةِ وَعِنْدَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ أَصْلًا
وَرَأْسًا لَا يُخَيَّرُ أَيْضًا بَلْ يَتَوَقَّفُ على ما عُرِفَ في أُصُولِ
الْفِقْهِ
ثُمَّ الْكَعْبَانِ يَدْخُلَانِ في الْغَسْلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَدْخُلَانِ وَالْكَلَامُ في الْكَعْبَيْنِ على نَحْوِ
الْكَلَامِ في الْمِرْفَقَيْنِ وقد ذَكَرْنَاهُ وَالْكَعْبَانِ هُمَا الْعَظْمَانِ
النَّاتِئَانِ في أَسْفَلِ السَّاقِ بِلَا خِلَافٍ بين أصحابنا ( ( ( الأصحاب ) )
) كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ لِأَنَّ الْكَعْبَ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا عَلَا
وَارْتَفَعَ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْكَعْبَةُ كَعْبَةً وَأَصْلُهُ من كَعْبِ
الْقَنَاةِ وهو أُنْبُوبُهَا سُمِّيَ بِهِ لِارْتِفَاعِهِ وَتُسَمَّى الْجَارِيَةُ
النَّاهِدَةُ الثَّدْيَيْنِ كَاعِبًا لِارْتِفَاعِ ثَدْيَيْهَا وَكَذَا في
الْعُرْفِ يُفْهَمُ منه الناتىء ( ( ( الناتئ ) ) )
يُقَالُ ضَرَبَ كَعْبَ فُلَانٍ
وفي الْخَبَرِ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال في تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ في
الصَّلَاةِ الصقوا الْكِعَابَ بِالْكِعَابِ ولم يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الْإِلْصَاقِ
إلَّا في الناتىء ( ( ( الناتئ ) ) )
وما رَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ الْمِفْصَلُ الذي مَعْقِدِ الشِّرَاكِ على
ظَهْرِ الْقَدَمِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ وإنما ( ( ( إنما ) ) ) قال مُحَمَّدٌ في
مَسْأَلَةِ الْمُحْرِمِ إذَا لم يَجِدْ نَعْلَيْنِ أَنَّهُ يَقْطَعُ الْخُفَّ
أَسْفَلَ الْكَعْبِ فقال إنَّ الْكَعْبَ هَهُنَا الذي في مِفْصَلِ الْقَدَمِ
فَنَقَلَ هِشَامٌ ذلك إلَى الطَّهَارَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا من وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إذَا كَانَتَا
بَادِيَتَيْنِ لَا عُذْرَ بِهِمَا فَأَمَّا إذَا كَانَتَا مَسْتُورَتَيْنِ
بِالْخُفِّ أو كان بِهِمَا عُذْرٌ من كَسْرٍ أو جُرْحٍ أو قُرْحٍ فَوَظِيفَتُهُمَا
الْمَسْحُ فَيَقَعُ الْكَلَامُ في الْأَصْلِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في
الْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ
وَالثَّانِي في الْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ
مبحث المسح على الخفين فَصْلٌ أَمَّا الْمَسْحُ على الْخُفَّيْنِ فَالْكَلَامُ فيه
في مَوَاضِعَ في بَيَانِ جَوَازِهِ وفي بَيَانِ مُدَّتِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ
جَوَازِهِ وفي بَيَانِ مِقْدَارِهِ وفي بَيَانِ ما يَنْقُضُهُ وفي بَيَانِ
حُكْمِهِ إذَا انْتَقَضَ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمَسْحُ على الْخُفَّيْنِ جَائِزٌ عِنْدَ عَامَّةِ
الْفُقَهَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ إلَّا شيئا ( قَلِيلًا
) رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وهو قَوْلُ
الرَّافِضَةِ
وقال مَالِكٌ يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُقِيمِ وَاحْتَجَّ من
أَنْكَرَ الْمَسْحَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا
قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى
الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا برؤوسكم ( ( ( برءوسكم ) ) ) وَأَرْجُلَكُمْ إلَى
الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو
على سَفَرٍ أو جاء أَحَدٌ مِنْكُمْ من الْغَائِطِ أو لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فلم
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ منه ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ من حَرَجٍ وَلَكِنْ
يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ } فَقِرَاءَةُ النَّصْبِ تَقْتَضِي وُجُوبَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ
مُطْلَقًا عن الْأَحْوَالِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَرْجُلَ مَعْطُوفَةً على
الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَهِيَ مَغْسُولَةٌ فَكَذَا الْأَرْجُلُ وَقِرَاءَةُ
الْخَفْضِ تَقْتَضِي وُجُوبَ الْمَسْحِ على الرِّجْلَيْنِ لَا على الْخُفَّيْنِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما هل مَسَحَ رسول اللَّهِ على
الْخُفَّيْنِ فقال وَاَللَّهِ ما مَسَحَ رسول اللَّهِ على الْخُفَّيْنِ بَعْدَ
نُزُولِ الْمَائِدَةِ
وَلَأَنْ أَمْسَحَ على ظَهْرِ عِيرٍ في الْفَلَاةِ أَحَبُّ إلَيَّ من أَنْ
أَمْسَحَ على الْخُفَّيْنِ
وفي رِوَايَةٍ قال لَأَنْ أَمْسَحَ على جِلْدِ حِمَارٍ إلَيَّ من أَنْ أَمْسَحَ
على الْخُفَّيْنِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال يَمْسَحُ الْمُقِيمُ على
الْخُفَّيْنِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
وَلَيَالِيَهَا وَهَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ من الصَّحَابَةِ
مِثْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَخُزَيْمَةَ بن ثَابِتٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
وَصَفْوَانَ بن عَسَّالٍ وَعَوْفِ بن مَالِكٍ وَأَبِي بن عُمَارَةَ وَابْنِ
عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ حتى قال أبو يُوسُفَ خَبَرُ مَسْحِ
الْخُفَّيْنِ يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بمثله وَرُوِيَ أَنَّهُ قال إنَّمَا
يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ إذَا وَرَدَتْ كَوُرُودِ الْمَسْحِ على
الْخُفَّيْنِ وَكَذَا الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعُوا على جَوَازِ
الْمَسْحِ قَوْلًا وَفِعْلًا حتى رُوِيَ عن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قال
أَدْرَكْتُ سَبْعِينَ بَدْرِيًّا من الصَّحَابَةِ كلهم كَانُوا يَرَوْنَ الْمَسْحَ
على الْخُفَّيْنِ وَلِهَذَا رَآهُ أبو حَنِيفَةَ من شَرَائِطِ السُّنَّةِ
وَالْجَمَاعَةِ فقال فيها أَنْ تُفَضِّلَ الشَّيْخَيْنِ وَتُحِبَّ الْخَتَنَيْنِ
وَأَنْ تَرَى الْمَسْحَ على الْخُفَّيْنِ وَأَنْ لَا تُحَرِّمَ نَبِيذَ التَّمْرِ
يَعْنِي الْمُثَلَّثَ
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال ما قلت بِالْمَسْحِ حتى جَاءَنِي فيه مِثْلُ ضَوْءِ
النَّهَارِ فَكَانَ الْجُحُودُ رَدًّا على كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَنِسْبَةَ إيَّاهُمْ
إلَى الْخَطَأِ فَكَانَ بِدْعَةً فَلِهَذَا قال الْكَرْخِيُّ أَخَافُ الْكُفْرَ
على من لَا يَرَى الْمَسْحَ على الْخُفَّيْنِ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي
اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَوْلَا أَنَّ الْمَسْحَ لَا خُلْفَ فيه ما مَسَحْنَا
وَدَلَّ قَوْلُهُ هذا أَنَّ خِلَافَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَكَادُ يَصِحُّ وَلِأَنَّ
الْأُمَّةَ لم تَخْتَلِفْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَسَحَ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا
أَنَّهُ مَسَحَ قبل نُزُولِ الْمَائِدَةِ أو بَعْدَهَا وَلَنَا في رسول اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ حتى قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ حدثني سَبْعُونَ رَجُلًا من
أَصْحَابِ رسول اللَّهِ أَنَّهُمْ رَأَوْهُ يَمْسَحُ على الْخُفَّيْنِ
وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ وَالْبَرَاءِ بن عَازِبٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبي
____________________
(1/7)
مَسَحَ
بَعْدَ الْمَائِدَةِ
وَرُوِيَ عن جَرِيرِ بن عبد اللَّهِ الْبَجَلِيُّ أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ على
الْخُفَّيْنِ فَقِيلَ له في ذلك فقال رأيت رَسُولَ اللَّهِ تَوَضَّأَ ومسح على
الْخُفَّيْنِ فَقِيلَ له أَكَانَ ذلك بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ فقال وَهَلْ
أَسْلَمْتُ إلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قُرِئَتْ بِقِرَاءَتَيْنِ فَنَعْمَلُ بِهِمَا في حالتين
( ( ( حالين ) ) ) فَنَقُولُ وَظِيفَتُهُمَا الْغَسْلُ إذَا كَانَتَا
بَادِيَتَيْنِ وَالْمَسْحُ إذَا كَانَتَا مَسْتُورَتَيْنِ بِالْخُفِّ عَمَلًا
بِالْقِرَاءَتَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ مَسَحَ
على خُفِّهِ أنه مَسَحَ على رِجْلِهِ كما يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ضَرَبَ على
رِجْلِهِ وَإِنْ ضَرَبَ على خُفِّهِ وَالرِّوَايَةُ عن ابْنِ عَبَّاسٍ لم تَصِحَّ
لِمَا رَوَيْنَا عن أبي حَنِيفَةَ وَلِأَنَّ مَدَارَهُ على عِكْرِمَةَ وَرُوِيَ
أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَتْ رِوَايَتُهُ عَطَاءً قال كَذَبَ عِكْرِمَةُ وَرَوَى عنه
عَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ أَنَّهُ مَسَحَ على خُفَّيْهِ فَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ
خِلَافَ ابْنِ عَبَّاسٍ لم يَثْبُتْ وَرُوِيَ عن عَطَاءٍ أَنَّهُ قال كان ابن
عَبَّاسٍ يُخَالِفُ الناس في الْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ فلم يَمُتْ حتى
تَابَعَهُمْ
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع مَالِكٍ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَسْحَ شُرِعَ
تَرَفُّهًا وَدَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ فَيَخْتَصُّ شَرْعِيَّتُهُ بِمَكَانِ
الْمَشَقَّةِ وهو السَّفَرُ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا من الحديث الْمَشْهُورِ وهو قَوْلُهُ يَمْسَحُ الْمُقِيمُ
على الْخُفَّيْنِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
وَلَيَالِيَهَا وما ذُكِرَ من الِاعْتِبَارِ غَيْرُ ديد ( ( ( سديد ) ) ) لِأَنَّ
الْمُقِيمَ يَحْتَاجُ إلَى التَّرَفُّهِ وَدَفْعِ الْمَشَقَّةِ إلَّا أن حَاجَةَ
الْمُسَافِرِ إلَى ذلك أَشَدُّ فَزِيدَتْ مُدَّتُهُ لِزِيَادَةِ التَّرْفِيهِ
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
مبحث بَيَانِ مُدَّةِ الْمَسْحِ وَأَمَّا بَيَانُ مُدَّةِ الْمَسْحِ فَقَدْ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في أَنَّ الْمَسْحَ على الْخُفَّيْنِ هل هو مُقَدَّرٌ
بِمُدَّةٍ قال عَامَّتُهُمْ إنَّهُ مُقَدَّرٌ بِمُدَّةٍ في حَقِّ الْمُقِيمِ
يَوْمًا وَلَيْلَةً وفي حَقِّ الْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا
وقال مَالِكٌ أنه غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ كما ( ( ( كم ) ) ) شَاءَ
وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ عن
عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَسَعْدٍ بن
أبي وَقَّاصٍ وَجَابِرِ بن سَمُرَةَ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَالْمُغِيرَةِ
بن شُعْبَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ مُؤَقَّتٌ
وَعَنْ أبي الدَّرْدَاءِ وَزَيْدٍ بن ثَابِتٍ وَسَعِيدٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ
بَلَغَ بِالْمَسْحِ سَبْعًا
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه سَأَلَ عُقْبَةَ بن عَامِرٍ وقد قَدِمَ من
الشَّامِ مَتَى عَهْدُكَ بِالْمَسْحِ قال سَبْعًا فقال عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه
أَصَبْتَ السُّنَّةَ
ولنا الحديث المشهور وما روي أنه مسح وَبَلَغَ بِالْمَسْحِ سَبْعًا فَهُوَ غَرِيبٌ
فَلَا يُتْرَكُ بِهِ الْمَشْهُورُ مع أَنَّ الرِّوَايَةَ الْمُتَّفَقَ عليها
أَنَّهُ بَلَغَ بِالْمَسْحِ ثَلَاثًا ثُمَّ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ احْتَاجَ إلَى
الْمَسْحِ سَبْعًا في مُدَّةِ الْمَسْحِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَقَدْ رَوَى جَابِرُ الْجُعْفِيُّ عن عُمَرَ رضي
الله عنه أَنَّهُ قال لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ
وَلَيْلَةٌ وهو مُوَافِقٌ لِلْخَبَرِ الْمَشْهُورِ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى
ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ من قَوْلِهِ مَتَى عَهْدُكَ بِلُبْسِ
الْخُفِّ ابْتِدَاءَ اللُّبْسِ أَيْ مَتَى عَهْدُكَ بِابْتِدَاءِ اللُّبْسِ وَإِنْ
كان تَخَلَّلَ بين ذلك نَزْعُ الْخُفِّ
ثُمَّ اُخْتُلِفَ في اعْتِبَارِ مُدَّةِ الْمَسْحِ أَنَّهُ من أَيِّ وَقْتٍ
يُعْتَبَرُ فقال عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ يُعْتَبَرُ من وَقْتِ الْحَدَثِ بَعْدَ
اللُّبْسِ فَيَمْسَحُ من وَقْتِ الْحَدَثِ إلَى وَقْتِ الْحَدَثِ
وقال بَعْضُهُمْ يُعْتَبَرُ من وَقْتِ اللُّبْسِ فَيَمْسَحُ من وَقْتِ اللُّبْسِ
إلَى وَقْتِ اللُّبْسِ وقال بَعْضُهُمْ يُعْتَبَرُ من وَقْتِ الْمَسْحِ فَيَمْسَحُ
من وَقْتِ الْمَسْحِ إلَى وَقْتِ الْمَسْحِ حتى ولو تَوَضَّأَ بعدما انْفَجَرَ
الصُّبْحُ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ وَصَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ أَحْدَثَ بَعْدَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ على خُفَّيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ
فَعَلَى قَوْلِ الْعَامَّةِ يَمْسَحُ إلَى ما بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ من
الْيَوْمِ الثَّانِي إنْ كان مُقِيمًا وَإِنْ كان مُسَافِرًا يَمْسَحُ إلَى ما
بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ من الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَعَلَى قَوْلِ من اعْتَبَرَ
وَقْتَ اللُّبْسِ يَمْسَحُ إلَى ما بَعْدِ انْفِجَارِ الصُّبْحِ من الْيَوْمِ
الثَّانِي إنْ كان مُقِيمًا وَإِنْ كان مُسَافِرًا إلَى ما بَعْدِ انْفِجَارِ
الصُّبْحِ من الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَعَلَى قَوْلِ من اعْتَبَرَ وَقْتَ الْمَسْحِ
يَمْسَحُ إلَى ما بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ من الْيَوْمِ الثَّانِي إنْ كان
مُقِيمًا وَإِنْ كان مُسَافِرًا يَمْسَحُ إلَى ما بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ من
الْيَوْمِ الرَّابِعِ
وَالصَّحِيحُ اعْتِبَارُ وَقْتِ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ لِأَنَّ الْخُفَّ
جُعِلَ مَانِعًا من سِرَايَةِ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ وَمَعْنَى الْمَنْعِ
إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْحَدَثِ فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ من هذا
الْوَقْتِ لِأَنَّ هذه الْمُدَّةَ ضُرِبَتْ تَوْسِعَةً وتيسير ( ( ( وتيسيرا ) ) )
لِتَعَذُّرِ نَزْعِ الْخُفَّيْنِ في كل زَمَانٍ وَالْحَاجَةُ إلَى التَّوْسِعَةِ
عِنْدَ الْحَدَثِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى النَّزْعِ عِنْدَهُ
وَلَوْ تَوَضَّأَ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ وهو مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ فَإِنْ سَافَرَ
بَعْدَ اسْتِكْمَالِ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ لَا تَتَحَوَّلُ مُدَّتُهُ إلَى مُدَّةِ
مَسْحِ السَّفَرِ لِأَنَّ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ لَمَّا تَمَّتْ سَرَى الْحَدَثُ
السَّابِقُ إلَى الْقَدَمَيْنِ فَلَوْ جَوَّزْنَا الْمَسْحَ صَارَ الْخُفُّ
رَافِعًا لِلْحَدَثِ لَا مَانِعًا وَلَيْسَ هذا عَمَلَ الْخُفِّ في الشَّرْعِ
وَإِنْ سَافَرَ قبل أَنْ يَسْتَكْمِلَ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ فَإِنْ سَافَرَ قبل
الْحَدَثِ أو بَعْدَ
____________________
(1/8)
الْحَدَثِ
قبل الْمَسْحِ تَحَوَّلَتْ مُدَّتُهُ مُدَّةِ السَّفَرِ من وَقْتِ الْحَدَثِ
بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ سَافَرَ بَعْدَ الْمَسْحِ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ لَا يَتَحَوَّلُ وَلَكِنَّهُ يَمْسَحُ تَمَامَ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ
وَيَنْزِعُ خُفَّيْهِ وَيَغْسِلُ رِجْلَيْهِ ثُمَّ يبتدىء مُدَّةَ السَّفَرِ وَاحْتَجَّ
بِقَوْلِهِ يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً ولم يُفَصِّلْ
وَلَنَا قَوْلُهُ وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا وَهَذَا
مُسَافِرٌ وَلَا حُجَّةَ له في صَدْرِ الحديث لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمُقِيمَ
وقد بَطَلَتْ الْإِقَامَةُ بِالسَّفَرِ هذا إذَا كان مُقِيمًا فَسَافَرَ
وَأَمَّا إذَا كان مُسَافِرًا فَأَقَامَ فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ
مُدَّةِ السَّفَرِ نَزَعَ خُفَّيْهِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ
أَقَامَ قبل أَنْ يَسْتَكْمِلَ مُدَّةَ السَّفَرِ فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ تَمَامِ
يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أو أَكْثَرَ فَكَذَلِكَ يَنْزِعُ خُفَّيْهِ وَيَغْسِلُ
رِجْلَيْهِ لِأَنَّهُ لو مَسَحَ لَمَسَحَ وهو مُقِيمٌ أَكْثَرَ من يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ أَقَامَ قبل تَمَامِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
أَتَمَّ يَوْمًا وَلَيْلَةً لِأَنَّ أَكْثَرَ ما في الْبَابِ أَنَّهُ مُقِيمٌ
فَيُتِمُّ مُدَّةَ الْمُقِيمِ
ما ذَكَرْنَا من تَقْدِيرِ مُدَّةِ الْمَسْحِ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ في حَقِّ
الْمُقِيمِ وَبِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا في حَقِّ الْمُسَافِرِ في حَقِّ
الْأَصِحَّاءِ
فَأَمَّا في حَقِّ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ كَصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ
وَالِاسْتِحَاضَةِ وَمَنْ بِمِثْلِ حَالِهِمَا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ
زُفَرَ
أما عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ فَيَخْتَلِفُ الْجَوَابُ إلَّا في حَالَةٍ
وَاحِدَةٍ وَبَيَانُ ذلك أَنَّ صَاحِبَ الْعُذْرِ إذَا تَوَضَّأَ وَلَبِسَ
خُفَّيْهِ فَهَذَا على أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ
أَمَّا إنْ كان الدَّمُ مُنْقَطِعًا وَقْتَ الْوُضُوءِ وَاللُّبْسِ وَأَمَّا إنْ
كان سَائِلًا في الْحَالَيْنِ جميعا وَأَمَّا إنْ كان مُنْقَطِعًا وَقْتَ
الْوُضُوءِ سَائِلًا وَقْتَ اللُّبْسِ وَأَمَّا إنْ كان سَائِلًا وَقْتَ
الْوُضُوءِ مُنْقَطِعًا وَقْتَ اللُّبْسِ فَإِنْ كان مُنْقَطِعًا في الْحَالَيْنِ
فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَصِحَّاءِ لِأَنَّ السَّيَلَانَ وُجِدَ عَقِيبَ اللُّبْسِ
فَكَانَ اللُّبْسُ على طَهَارَةٍ املة ( ( ( كاملة ) ) ) فَمَنَعَ الْخُفُّ
سِرَايَةَ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمَيْنِ ما دَامَتْ الْمُدَّةُ بَاقِيَةً
وَأَمَّا في الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ فإنه يَمْسَحُ ما دَامَ الْوَقْتُ بَاقِيًا
فإذا خَرَجَ الْوَقْتُ نَزَعَ خُفَّيْهِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ يَسْتَكْمِلُ مُدَّةَ الْمَسْحِ كَالصَّحِيحِ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن طَهَارَةَ صَاحِبِ الْعُذْرِ طَهَارَةٌ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا
لِأَنَّ السَّيَلَانَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَدَاءُ
الصَّلَاةِ بها فَحَصَلَ اللُّبْسُ على طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ فَأُلْحِقَتْ
بِطَهَارَةِ الْأَصِحَّاءِ
وَلَنَا أَنَّ السَّيَلَانَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ في الْوَقْتِ بِدَلِيلِ أَنَّ
طَهَارَتَهُ تُنْتَقَضُ بِالْإِجْمَاعِ إذَا خَرَجَ الْوَقْتُ وَإِنْ لم يُوجَدْ
الْحَدَثُ فإذا مَضَى الْوَقْتُ صَارَ مُحْدِثًا من وَقْتِ السَّيَلَانِ
وَالسَّيَلَانُ كان سَابِقًا على لُبْسِ الْخُفِّ وَمُقَارِنًا له فَتَبَيَّنَ
أَنَّ اللُّبْسَ حَصَلَ لَا على الطَّهَارَةِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ
لِأَنَّ السَّيَلَانَ ثَمَّةَ وُجِدَ عَقِيبَ اللُّبْسِ
فَكَانَ اللُّبْسُ حَاصِلًا عن طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ
وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْمَسْحِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
الْمَاسِحِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَمْسُوحِ أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى
الْمَاسِحِ أَنْوَاعٌ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ لَابِسُ لخفين ( ( ( الخفين ) ) )
على طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ عِنْدَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ
يَكُونَ على طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ اللُّبْسِ وَلَا أَنْ يَكُونَ على
طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ أَصْلًا وَرَأْسًا
وَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ على طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ
اللُّبْسِ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ الْمُحْدِثَ إذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ أَوَّلًا وَلَبِسَ
خُفَّيْهِ ثُمَّ أَتَمَّ الْوُضُوءَ قبل أَنْ يُحْدِثَ ثُمَّ أَحْدَثَ جَازَ له
أَنْ يَمْسَحَ على الْخُفَّيْنِ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الشَّرْطِ هو لُبْسُ
الْخُفَّيْنِ على طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ وَقْتَ اللُّبْسِ
لِأَنَّ التَّرْتِيبَ عِنْدَهُ شَرْطٌ فَكَانَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مُقَدَّمًا
على الْأَعْضَاءِ الْأُخَرِ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فلم تُوجَدْ الطَّهَارَةُ
وَقْتَ اللُّبْسِ
وَكَذَلِكَ لو تَوَضَّأَ فَرَتَّبَ لَكِنَّهُ غَسَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ وَلَبِسَ
الْخُفَّ ثُمَّ غَسَلَ الْأُخْرَى وَلَبِسَ الْخُفَّ قِيلَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ
وَإِنْ وُجِدَ التَّرْتِيبُ في هذه الصُّورَةِ لَكِنَّهُ لم يُوجَدْ لُبْسُ
الْخُفَّيْنِ على طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ لُبْسِهِمَا حتى لو نَزَعَ الْخُفَّ
الْأَوَّلَ ثُمَّ لَبِسَهُ جَازَ الْمَسْحُ لِحُصُولِ اللُّبْسِ على طَهَارَةٍ
كَامِلَةٍ
وَلَنَا أَنَّ الْمَسْحَ شُرِعَ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ إلَى الْمَسْحِ
إنَّمَا تَتَحَقَّقُ وَقْتَ لحدث ( ( ( الحدث ) ) ) بَعْدَ اللُّبْسِ
أما عِنْدَ الْحَدَثِ قبل اللُّبْسِ فَلَا حَاجَةَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْغَسْلُ
وَكَذَا لَا حَاجَةَ عد اللُّبْسِ قبل الْحَدَثِ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ فَكَانَ
الشَّرْطُ كَمَالَ الطَّهَارَةِ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ وقد وُجِدَ
وَلَوْ لَبِسَ خُفَّيْهِ وهو مُحْدِثٌ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَخَاضَ الْمَاءَ حتى
أَصَابَ الْمَاءُ رِجْلَيْهِ في دَاخِلِ الْخُفِّ ثُمَّ أَحْدَثَ جَازَ له
الْمَسْحُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الشَّرْطِ وهو كَمَالُ الطَّهَارَةِ عِنْدَ
الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ
وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وهو كَمَالُ الطَّهَارَةِ عِنْدَ
اللُّبْسِ
وَلَوْ لَبِسَ خُفَّيْهِ وهو مُحْدِثٌ ثُمَّ أَحْدَثَ قبل أَنْ يُتِمَّ الْوُضُوءَ
ثُمَّ أَتَمَّ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ بِالْإِجْمَاعِ
أَمَّا عِنْدَنَا فَلِانْعِدَامِ الطَّهَارَةِ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ
وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِانْعِدَامِهَا عِنْدَ اللُّبْسِ
وَلَوْ أَرَادَ
____________________
(1/9)
الطَّاهِرُ
أَنْ يَبُولَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ بَالَ جَازَ له الْمَسْحُ لِأَنَّهُ على
طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ
وَسُئِلَ أبو حَنِيفَةَ عن هذا
فقال لَا يَفْعَلُهُ إلَّا فَقِيهٌ
وَلَوْ لَبِسَ خُفَّيْهِ على طَهَارَةِ التَّيَمُّمِ ثُمَّ وُجِدَ الْمَاءُ نَزَعَ
خُفَّيْهِ لِأَنَّهُ صَارَ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ على التَّيَمُّمِ
إذْ رُؤْيَةُ الْمَاءِ لَا تُعْقَلُ حَدَثًا إلا أنه امْتَنَعَ ظُهُورُ حُكْمِهِ
إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَاءِ فَعِنْدَ وُجُودِهِ ظَهَرَ حُكْمُهُ في
الْقَدَمَيْنِ فَلَوْ جَوَّزْنَا الْمَسْحَ لَجَعَلْنَا الْخُفَّ رَافِعًا
لِلْحَدَثِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلَوْ لَبِسَ خُفَّيْهِ على طَهَارَةِ نَبِيذِ التَّمْرِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَإِنْ
لم يَجِدْ مَاءً مُطْلَقًا تَوَضَّأَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَمَسَحَ على خُفَّيْهِ
لِأَنَّهُ طَهُورٌ مُطْلَقٌ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَإِنْ وَجَدَ مَاءً مُطْلَقًا نَزَعَ خُفَّيْهِ وَتَوَضَّأَ وَغَسَلَ قَدَمَيْهِ
لِأَنَّهُ ليس بِطَهُورٍ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَكَذَلِكَ لو
تَوَضَّأَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ وَتَيَمَّمَ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ أَحْدَثَ
وَلَوْ تَوَضَّأَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ولم يَتَيَمَّمْ حتى
أَحْدَثَ جَازَ له أَنْ يَتَوَضَّأَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ وَيَمْسَحُ على خُفَّيْهِ
ثُمَّ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي لِأَنَّ سُؤْرَ الْحِمَارِ إنْ كان طَهُورًا
فَالتَّيَمُّمُ فضل ( ( ( أفضل ) ) ) وَإِنْ كان الطَّهُورُ هو التُّرَابُ
فَالْقَدَمُ لَا حَظَّ لها من التَّيَمُّمِ
وَلَوْ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ على جَبَائِرِ قَدَمَيْهِ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ
أَحْدَثَ أو كانت إحْدَى رِجْلَيْهِ صَحِيحَةً فَغَسَلَهَا وَمَسَحَ على جَبَائِرِ
الْأُخْرَى وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَإِنْ لم يَكُنْ بَرَأَ الْجُرْحُ
مَسَحَ على الْخُفَّيْنِ لِأَنَّ الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ كَالْغَسْلِ لِمَا
تَحْتَهَا فَحَصَلَ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ على طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ كما لو
أَدْخَلَهُمَا مَغْسُولَتَيْنِ حَقِيقَةً في الْخُفِّ وَإِنْ كان بَرَأَ الْجُرْحُ
نَزَعَ خُفَّيْهِ لِأَنَّهُ صَارَ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ فَظَهَرَ
أَنَّ اللُّبْسَ حَصَلَ لَا على طَهَارَةٍ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ في الزِّيَادَاتِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ
الْحَدَثُ خَفِيفًا فَإِنْ كان غَلِيظًا وهو الْجَنَابَةُ فَلَا يَجُوزُ فيها
الْمَسْحُ لِمَا رُوِيَ عن صَفْوَانَ بن عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ أَنَّهُ قال كان
يَأْمُرُنَا رسول اللَّهِ إذَا كنا سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا لَا عن جَنَابَةٍ لَكِنْ من غَائِطٍ أو بَوْلٍ
أو نَوْمٍ وَلِأَنَّ الْجَوَازَ في الْحَدَثِ الْخَفِيفِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ
لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ وَيَغْلِبُ وُجُودُهُ فَيَلْحَقُهُ الْحَرَجُ
وَالْمَشَقَّةُ في نَزْعِ الْخُفِّ وَالْجَنَابَةُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهَا فَلَا
يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ في النَّزْعِ
وأما الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَمْسُوحِ
فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ خُفًّا يَسْتُرُ الْكَعْبَيْنِ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ
بِالْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ وما يَسْتُرُ الْكَعْبَيْنِ يَنْطَلِقُ عليه اسْمُ
الْخُفِّ وَكَذَا ما يَسْتُرُ الْكَعْبَيْنِ من الْجِلْدِ مِمَّا سِوَى الْخُفِّ
كَالْمُكَعَّبِ الْكَبِيرِ وَالْمِيثَمِ لِأَنَّهُ في مَعْنَى الْخُفِّ
مبحث الْمَسْحِ على الْجَوَارِبِ وَأَمَّا الْمَسْحُ على الْجَوْرَبَيْنِ فَإِنْ
كَانَا مُجَلَّدَيْنِ أو مُنَعَّلَيْنِ يُجْزِيهِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا وَإِنْ لم يَكُونَا مُجَلَّدَيْنِ وَلَا مُنَعَّلَيْنِ فَإِنْ كَانَا
رَقِيقَيْنِ يَشِفَّانِ الْمَاءَ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا
بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَا ثَخِينَيْنِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِهِمَا في آخِرِ عُمُرِهِ
وَذَلِكَ أَنَّهُ مَسَحَ على جَوْرَبَيْهِ في مَرَضِهِ ثُمَّ قال لِعُوَّادِهِ
فَعَلْتُ ما كُنْت أَمْنَعُ الناس عنه فَاسْتَدَلُّوا بِهِ على رُجُوعِهِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ على الْجَوَارِبِ وَإِنْ كانت
مُنَعَّلَةً إلَّا إذَا كانت مُجَلَّدَةً إلَى الْكَعْبَيْنِ
احْتَجَّ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ أَنَّ النبي
تَوَضَّأَ وَمَسَحَ على الْجَوْرَبَيْنِ وَلِأَنَّ الْجَوَازَ في الْخُفِّ
لِدَفْعِ الْحَرَجِ لِمَا يَلْحَقُهُ من الْمَشَقَّةِ بِالنَّزْعِ وَهَذَا
الْمَعْنَى مَوْجُودٌ في الْجَوْرَبِ بِخِلَافِ اللِّفَافَةِ وَالْمُكَعَّبِ
لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ في نَزْعِهِمَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جَوَازَ الْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ ثَبَتَ نَصًّا
بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَكُلُّ ما كان في مَعْنَى الْخُفِّ في إدْمَانِ الْمَشْيِ
عليه وَإِمْكَانِ قَطْعِ السَّفَرِ بِهِ يَلْحَقُ بِهِ وما لَا فَلَا وَمَعْلُومٌ
أَنَّ غير الْمُجَلَّدِ وَالْمُنَعَّلِ من الْجَوَارِبِ لَا يُشَارِكُ الْخُفَّ في
هذا الْمَعْنَى فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ على أَنَّ شَرْعَ الْمَسْحِ أن ثَبَتَ
لِلتَّرْفِيهِ لَكِنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّرْفِيهِ فِيمَا يَغْلِبُ لُبْسُهُ
وَلُبْسُ الْجَوَارِبِ مِمَّا لَا يَغْلِبُ فَلَا حَاجَةَ فيها إلَى التَّرْفِيهِ
فَبَقِيَ أَصْلُ الْوَاجِبِ بِالْكِتَابِ وهو غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا كَانَا مُجَلَّدَيْنِ أو
مُنَعَّلَيْنِ وَبِهِ نَقُولُ وَلَا عُمُومَ له لِأَنَّهُ حِكَايَةُ حَالٍ أَلَا
يُرَى أَنَّهُ لم يَتَنَاوَلْ الرَّقِيقَ من الْجَوَارِبِ
وَأَمَّا الْخُفُّ الْمُتَّخَذُ من اللَّبَدِ فلم يَذْكُرُهُ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ وَقِيلَ إنَّهُ على التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا
وَقِيلَ إنْ كان يُطِيقُ السَّفَرَ جَازَ الْمَسْحُ عليه وَإِلَّا فَلَا
وَهَذَا هو الْأَصَحُّ
وَأَمَّا الْمَسْحُ على الْجُرْمُوقَيْنِ من الْجِلْدِ فَإِنْ لَبِسَهُمَا فَوْقَ
الْخُفَّيْنِ جَازَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ وَإِنْ لَبِسَ
الْجُرْمُوقَ وَحْدَهُ قِيلَ إنَّهُ على هذا الْخِلَافِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عليه بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْمَسْحَ على الْخُفِّ بَدَلٌ عن الْغَسْلِ فَلَوْ جَوَّزْنَا
الْمَسْحَ على الجرموقن ( ( ( الجرموقين ) ) ) لَجَعَلْنَا لِلْبَدَلِ بَدَلًا
وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال رَأَيْت النبي مَسَحَ
على الْجُرْمُوقَيْنِ
____________________
(1/10)
وَلِأَنَّ
الْجُرْمُوقَ يُشَارِكُ الْخُفَّ في إمْكَانِ قَطْعِ السَّفَرِ بِهِ فَيُشَارِكُهُ
في جَوَازِ الْمَسْحِ عليه وَلِهَذَا شَارَكَهُ في حَالَةِ الِانْفِرَادِ
وَلِأَنَّ الْجُرْمُوقَ فَوْقَ الْخُفِّ بِمَنْزِلَةِ خُفٍّ ذِي طَاقَيْنِ وَذَا
يَجُوزُ الْمَسْحُ عليه فَكَذَا هذا
وَقَوْلُهُ الْمَسْحُ عليه بَدَلٌ عن الْمَسْحِ على الْخُفِّ مَمْنُوعٌ بَلْ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ عن الْغَسْلِ قَائِمٌ مَقَامَهُ إلَّا أنه إذَا نَزَعَ
الجرموقي ( ( ( الجرموق ) ) ) لَا يَجِبُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ لِوُجُودِ شَيْءٍ
آخَرَ هو بَدَلٌ عن الْغَسْلِ قَائِمٌ مَقَامَهُ وهو الْخُفُّ
ثُمَّ إنَّمَا يَجُوزُ الْمَسْحُ على الْجُرْمُوقَيْنِ عِنْدَنَا إذَا لَبِسَهُمَا
على الْخُفَّيْنِ قبل أَنْ يُحْدِثَ فَإِنْ أَحْدَثَ ثُمَّ لَبِسَ
الْجُرْمُوقَيْنِ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ مَسَحَ على
الْخُفَّيْنِ أو لَا
أَمَّا إذَا مَسَحَ فَلِأَنَّ حُكْمَ الْمَسْحِ اسْتَقَرَّ على الْخُفِّ فَلَا
يَتَحَوَّلُ إلَى غَيْرِهِ
وَأَمَّا إذَا لم يَمْسَحْ فَلِأَنَّ ابْتِدَاءَ مُدَّةِ الْمَسْحِ من وَقْتِ
الْحَدَثِ وقد انْعَقَدَ في الْخُفِّ فَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْجُرْمُوقِ بَعْدَ
ذلك
وَلِأَنَّ جَوَازَ الْمَسْحِ على الْجُرْمُوقِ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ لِتَعَذُّرِ
النَّزْعِ وَهُنَا لَا حَاجَةَ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ عليه الْمَسْحُ على
الْخُفَّيْنِ ثُمَّ لُبْسُ الْجُرْمُوقِ فلم يَجُزْ
وَلِهَذَا لم يَجُزْ الْمَسْحُ على الْخُفَّيْنِ إذَا لَبِسَهُمَا على الْحَدَثِ
كَذَا هذا
وَلَوْ مَسَحَ على الْجُرْمُوقَيْنِ ثُمَّ نَزَعَ أَحَدَهُمَا مَسَحَ على الْخُفِّ
الْبَادِي وَأَعَادَ الْمَسْحَ على الْجُرْمُوقِ الْبَاقِي في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ وَزُفَرُ يَمْسَحُ على الْخُفِّ الْبَادِي وَلَا
يُعِيدُ الْمَسْحَ على الْجُرْمُوقِ الْبَاقِي
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْزِعُ الْجُرْمُوقَ الْبَاقِي وَيَمْسَحُ على
الْخُفَّيْنِ أبو يُوسُفَ اعْتَبَرَ الْجُرْمُوقَ بِالْخُفِّ وَلَوْ نَزَعَ أَحَدَ
الْخُفَّيْنِ يَنْزِعُ الْآخَرَ وَيَغْسِلُ الْقَدَمَيْنِ كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ وَزُفَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بين الْمَسْحِ على
الْجُرْمُوقِ وَبَيْنَ الْمَسْحِ على الْخُفِّ ابْتِدَاءً بِأَنْ كان على أَحَدِ
الْخُفَّيْنِ جُرْمُوقٌ دُونَ الْآخَرِ فَكَذَا بَقَاءٌ
وإذا بَقِيَ الْمَسْحُ على الْجُرْمُوقِ الْبَاقِي فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الرِّجْلَيْنِ في حُكْمِ الطَّهَارَةِ
بِمَنْزِلَةِ عُضْوٍ وَاحِدٍ لَا يَحْتَمِلُ التجزىء ( ( ( التجزيء ) ) ) فإذا
اُنْتُقِضَتْ الطَّهَارَةُ في إحْدَاهُمَا بِنَزْعِ الْجُرْمُوقِ تُنْتَقَضُ في
الْأُخْرَى ضَرُورَةً كما إذَا نَزَعَ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ
وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ على الْقُفَّازَيْنِ وَهُمَا لِبَاسَا الْكَفَّيْنِ
لِأَنَّهُ شُرِعَ دَفْعًا لِلْحَرَجِ لِتَعَذُّرِ النَّزْعِ وَلَا حَرَجَ في
نَزْعِ الْقُفَّازَيْنِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ بِالْخُفِّ خَرْقٌ كَثِيرٌ فَأَمَّا الْيَسِيرُ فَلَا
يَمْنَعُ الْمَسْحَ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وهو اسْتِحْسَانٌ
وَالْقِيَاسُ أَنْ يُمْنَعَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَالشَّافِعِيِّ
وقال مَالِكٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْخَرْقُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْمَسْحِ
قَلَّ أو كَثُرَ بَعْدَ أَنْ كان يَنْطَلِقُ عليه اسْمُ الْخُفِّ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ فما
دَامَ اسْمُ الْخُفِّ له بَاقِيًا يَجُوزُ الْمَسْحُ عليه وَجْهُ الْقِيَاسِ
أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ شَيْءٌ من الْقَدَمِ وَإِنْ قَلَّ وَجَبَ غَسْلُهُ
لِحُلُولِ الْحَدَثِ بِهِ لِعَدَمِ الِاسْتِتَارِ بِالْخُفِّ وَالرِّجْلُ في حَقِّ
الْغَسْلِ غَيْرُ مُتَجَزِّئَةٍ فإذا وَجَبَ غَسْلُ بَعْضِهَا وَجَبَ غَسْلُ
كُلِّهَا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَمَرَ أَصْحَابَهُ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ بِالْمَسْحِ مع عِلْمِهِ بِأَنَّ خِفَافَهُمْ لَا تَخْلُو عن قَلِيلِ
الْخُرُوقِ فَكَانَ هذا منه بَيَانًا أَنَّ الْقَلِيلَ من الْخُرُوقِ لَا يَمْنَعُ
الْمَسْحَ وَلِأَنَّ الْمَسْحَ أُقِيمَ مَقَامَ الْغَسْلِ تَرَفُّهًا فَلَوْ
مَنَعَ قَلِيلَ الِانْكِشَافِ لم يَحْصُلْ التَّرْفِيهُ لِوُجُودِهِ في أَغْلَبِ
الْخِفَافِ وَالْحَدُّ الْفَاصِلُ بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ هو قَدْرُ ثَلَاثِ
أَصَابِعَ فَإِنْ كان الْخَرْقُ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ مَنَعَ وَإِلَّا فَلَا
ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ أَصَابِعُ الْيَدِ أو ( ( ( وأصابع ) ) ) أصابع الرِّجْلِ
ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ من أَصْغَرِ
أَصَابِعِ الرِّجْلِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ ثَلَاثُ أَصَابِعَ من أَصَابِعِ الْيَدِ
وَإِنَّمَا قُدِّرَ بِالثَّلَاثِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ هذا الْقَدْرَ
إذَا انْكَشَفَ مَنَعَ من قَطْعِ الْأَسْفَارِ وَالثَّانِي أَنَّ الثَّلَاثَ
أَصَابِعَ أَكْثَرُ الْأَصَابِعِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ ثُمَّ الْخَرْقُ
الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ مُنْفَتِحًا بِحَيْثُ يَظْهَرُ ما تَحْتَهُ من الْقَدَمِ
مِقْدَارَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ أو يَكُونَ مُنْضَمًّا لَكِنَّهُ يَنْفَرِجُ عِنْدَ
الْمَشْيِ فَأَمَّا إذَا كان مُنْضَمًّا لَا يَنْفَرِجُ عِنْدَ الْمَشْيِ فإنه لَا
يَمْنَعُ وَإِنْ كان أَكْثَرَ من ثَلَاثِ أَصَابِعَ
كَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ
لِأَنَّهُ إذَا كان مُنْفَتِحًا أو يَنْفَتِحُ عِنْدَ الْمَشْيِ لَا يُمْكِنُ
قَطْعُ السَّفَرِ بِهِ وإذا لم يُمْكِنْ يَمْنَعُ وَسَوَاءٌ كان الْخَرْقُ في
ظَاهِرِ الْخُفِّ أو في بَاطِنِهِ أو من نَاحِيَةِ الْعَقِبِ بَعْدَ أَنْ كان
أَسْفَلَ من الْكَعْبَيْنِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ بَدَا ثَلَاثٌ من أَنَامِلِهِ
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ لَا يَمْنَعُ وقال بَعْضُهُمْ يَمْنَعُ
وهو الصَّحِيحُ
وَلَوْ انكشف ( ( ( انكشفت ) ) ) الظِّهَارَةُ وفي دَاخِلِهِ بِطَانَةٌ من جِلْدٍ
ولم يَظْهَرْ الْقَدَمُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عليه هذا إذَا كان الْخَرْقُ في
مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَإِنْ كان في مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ يُنْظَرُ إنْ كان في
خُفٍّ وَاحِدٍ يُجْمَعُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فَإِنْ بَلَغَ قَدْرَ ثَلَاثِ
أَصَابِعَ يَمْنَعُ وَإِلَّا فَلَا
وَإِنْ كان في خُفَّيْنِ لَا يُجْمَعُ
وَقَالُوا في النَّجَاسَةِ إنْ كانت على الْخُفَّيْنِ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَعْضَهَا
إلَى بَعْضٍ فإذا زَادَتْ على قَدْرِ الدِّرْهَمِ مَنَعَتْ جَوَازَ
____________________
(1/11)
الصَّلَاةِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْخَرْقَ إنَّمَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْمَسْحَ لِظُهُورِ
مِقْدَارِ فَرْضِ الْمَسْحِ فإذا كان مُتَفَرِّقًا فلم يَظْهَرْ مِقْدَارُ فَرْضِ
الْمَسْحِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالْمَانِعُ من جَوَازِ الصَّلَاةِ في
النَّجَاسَةِ هو كَوْنُهُ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ وَمَعْنَى الْحَمْلِ مُتَحَقِّقٌ
سَوَاءٌ كان في خُفٍّ وَاحِدٍ أو في خُفَّيْنِ
وَمِنْهَا أَنْ يَمْسَحَ على ظَاهِرِ الْخُفِّ حتى لو مَسَحَ على بَاطِنِهِ لَا
يَجُوزُ وهو قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأَنَسٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وهو ظَاهِرُ
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَعَنْهُ أَنَّهُ لو اقْتَصَرَ على الْبَاطِنِ لَا يَجُوزُ وَالْمُسْتَحَبُّ
عِنْدَنَا الْجَمْعُ بين الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ في الْمَسْحِ إلَّا إذَا كان على
بَاطِنِهِ نَجَاسَةٌ
وَحَكَى إبْرَاهِيمُ بن جَابِرٍ في كِتَابِ الِاخْتِلَافِ الْإِجْمَاعَ على أَنَّ
الِاقْتِصَارَ على أَسْفَلِ الْخُفِّ لَا يَجُوزُ وَكَذَا لو مَسَحَ على الْعَقِبِ
أو على جَانِبِيِّ الْخُفِّ أو على السَّاقِ لَا يَجُوزُ وَالْأَصْلُ فيه ما
رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ يَأْمُرُ
بِالْمَسْحِ على ظَاهِرِ الْخُفَّيْنِ
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لو كان الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ
بَاطِنُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ من ظَاهِرِهِ وَلَكِنِّي رأيت رَسُولَ
اللَّهِ يَمْسَحُ على ظَاهِرِ خُفَّيْهِ دُونَ بَاطِنِهِمَا
وَلِأَنَّ بَاطِنَ الْخُفِّ لَا يَخْلُو عن لَوْثٍ عَادَةً فَالْمَسْحُ عليه
يَكُونُ تَلْوِيثًا لِلْيَدِ وَلِأَنَّ فيه بَعْضَ الْحَرَجِ وما شُرِعَ الْمَسْحُ
إلَّا لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَلَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ في الْمَسْحِ على
الْخُفَّيْنِ كما لَا تُشْتَرَطُ في مَسْحِ الرَّأْسِ وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا ليس بِبَدَلٍ عن الْغَسْلِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ مع
الْقُدْرَةِ على الْغَسْلِ بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ
وَكَذَا فِعْلُ الْمَسْحِ ليس بِشَرْطٍ أيضا لِجَوَازِهِ بِدُونِهِ أَيْضًا بَلْ
الشَّرْطُ إصَابَةُ الْمَاءِ حتى لو خَاضَ الْمَاءَ أو أَصَابَهُ الْمَطَرُ جَازَ
عن الْمَسْحِ وَلَوْ مَرَّ بِحَشِيشٍ مُبْتَلٍّ فَأَصَابَ الْبَلَلُ ظَاهِرَ
خُفَّيْهِ إنْ كان بَلَلَ الْمَاءِ أو الْمَطَرِ جَازَ وَإِنْ كان بَلَلَ الطَّلِّ
قِيلَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الطَّلَّ ليس بِمَاءٍ
مبحث مقدار المسح فَصْلٌ وَأَمَّا مِقْدَارُ الْمَسْحِ فَالْمِقْدَارُ
الْمَفْرُوضُ هو مِقْدَارُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ طُولًا وَعَرْضًا مَمْدُودًا أو
مَوْضُوعًا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْمَفْرُوضُ هو أَدْنَى ما يَنْطَلِقُ عليه اسْمُ
الْمَسْحِ كما قال في مَسْحِ الرَّأْسِ وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ أو أُصْبُعَيْنِ
وَمَدَّهُمَا حتى بَلَغَ مِقْدَارَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا
خِلَافًا لِزُفَرَ كما في مَسْحِ الرَّأْسِ وَلَوْ مَسَحَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ
مَنْصُوبَةٍ غَيْرِ مَوْضُوعَةٍ وَلَا مَمْدُودَةٍ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ بين
أَصْحَابِنَا
وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَعَادَهَا في كل مَرَّةٍ
إلَى الْمَاءِ يَجُوزُ كما في مَسْحِ الرَّأْسِ
ثُمَّ الْكَرْخِيُّ اعْتَبَرَ التَّقْدِيرَ فيه بِأَصَابِعِ الرِّجْلِ فإنه ذَكَرَ
في مُخْتَصَرِهِ إذَا مَسَحَ مِقْدَارَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ من أَصَابِعِ الرِّجْلِ
أَجْزَأَهُ فَاعْتُبِرَ الْمَمْسُوحُ لِأَنَّ الْمَسْحَ يَقَعُ عليه
وَذَكَرَ ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لو وَضَعَ ثَلَاثَةَ أَصَابِعَ
وَضْعًا أَجْزَأَهُ
وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ التَّقْدِيرَ فيه بِأَصَابِعِ الْيَدِ وهو الصَّحِيحُ
لِمَا رُوِيَ في حديث عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال في آخِرِهِ لَكِنِّي
رأيت رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَمْسَحُ على ظَاهِرِ خُفَّيْهِ
خُطُوطًا بِالْأَصَابِعِ وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّفْسِيرِ لِلْمَسْحِ أَنَّهُ
الْخُطُوطُ بِالْأَصَابِعِ وَالْأَصَابِعُ اسْمُ جَمْعٍ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ
الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ فَكَانَ هذا تَقْدِيرًا لِلْمَسْحِ بِثَلَاثِ أَصَابِعِ
الْيَدِ وَلِأَنَّ الْفَرْضَ يَتَأَدَّى بِهِ بِيَقِينٍ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ
مَحْسُوسٌ فَأَمَّا أَصَابِعُ الرِّجْلِ فَمُسْتَتِرَةٌ بِالْخُفِّ فَلَا يُعْلَمُ
مِقْدَارُهَا إلَّا بالحزر ( ( ( بالحرز ) ) ) وَالظَّنِّ فَكَانَ التَّقْدِيرُ
بِأَصَابِعِ الْيَدِ أَوْلَى
مبحث نَوَاقِضِ الْمَسْحِ فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَنْقُضُ الْمَسْحَ
وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا انْتَقَضَ فَالْمَسْحُ يُنْتَقَضُ بِأَشْيَاءَ منها
انْقِضَاءُ مُدَّةِ الْمَسْحِ وَهِيَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ في حَقِّ الْمُقِيمِ وفي حَقِّ
الْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُوَقَّتَ
إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ فإذا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ
يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي إنْ كان مُحْدِثًا وَإِنْ لم يَكُنْ مُحْدِثًا يَغْسِلُ
قَدَمَيْهِ لَا غَيْرُ وَيُصَلِّي
وَمِنْهَا نَزْعُ الْخُفَّيْنِ لِأَنَّهُ إذَا نَزَعَهُمَا فَقَدْ سَرَى الْحَدَثُ
السَّابِقُ إلَى الْقَدَمَيْنِ ثُمَّ إنْ كان مُحْدِثًا يَتَوَضَّأُ بِكَمَالِهِ
وَيُصَلِّي وَإِنْ لم يَكُنْ مُحْدِثًا يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ لَا غَيْرُ وَلَا
يَسْتَقْبِلُ الْوُضُوءَ
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ في قَوْلٍ مِثْلُ قَوْلِنَا وفي قَوْلٍ يَسْتَقْبِلُ
الْوُضُوءَ وَجْهُهُ أَنَّ الْحَدَثَ قد حَلَّ بِبَعْضِ أَعْضَائِهِ وَالْحَدَثُ
لَا يَتَجَزَّأُ فَيَتَعَدَّى إلَى الْبَاقِي
وَلَنَا أَنَّ الْحَدَثَ السَّابِقَ هو الذي حَلَّ بِقَدَمَيْهِ وقد غَسَلَ
بَعْدَهُ سَائِرَ الْأَعْضَاءِ وَبَقِيَتْ الْقَدَمَانِ فَقَطْ فَلَا يَجِبُ عليه
إلَّا غَسْلُهُمَا وهو مَذْهَبُ عبد اللَّهِ بن عُمَرَ وَكَذَلِكَ إذَا نَزَعَ
أَحَدَهُمَا أَنَّهُ يُنْتَقَضُ مَسْحُهُ في الْخُفَّيْنِ وَعَلَيْهِ نَزْعُ
الْبَاقِي وَغَسْلُهُمَا لَا غَيْرُ إنْ لم يَكُنْ مُحْدِثًا وَالْوُضُوءُ
بِكَمَالِهِ إنْ كان مُحْدِثًا وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ فيه ثَلَاثَةُ
أَقْوَالٍ في قَوْلٍ مِثْلُ قَوْلِنَا وفي قَوْلٍ لَا شَيْءَ عليه إذْ لَا
يُعْقَلُ حَدَثًا وفي قَوْلٍ يَسْتَقْبِلُ الْوُضُوءَ
وَجْهُ هذا الْقَوْلِ أَنَّ الْحَدَثَ لَا يَتَجَزَّأُ فَحُلُولُهُ بِالْبَعْضِ
كَحُلُولِهِ
____________________
(1/12)
بِالْكُلِّ
وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ الطَّهَارَةَ إذَا تَمَّتْ لَا تُنْتَقَضُ إلَّا
بِالْحَدَثِ وَنَزْعُ الْخُفِّ لَا يُعْقَلُ حَدَثًا
وَلَنَا أَنَّ الْمَانِعَ من سِرَايَةِ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ اسْتِتَارُهَا
بِالْخُفِّ وقد زَالَ بِالنَّزْعِ فَسَرَى الْحَدَثُ السَّابِقُ إلَى
الْقَدَمَيْنِ جميعا لِأَنَّهُمَا في حُكْمِ الطَّهَارَةِ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ فإذا
وَجَبَ غَسْلُ إحْدَاهُمَا وَجَبَ الْأُخْرَى
وَلَوْ أَخْرَجَ الْقَدَمَ إلَى السَّاقِ اُنْتُقِضَ مَسْحُهُ لِأَنَّ إخْرَاجَ
الْقَدَمِ إلَى السَّاقِ إخْرَاجٌ لها من الْخُفِّ وَلَوْ أَخْرَجَ بَعْضَ
قَدَمِهِ أو خَرَجَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ
إنْ أَخْرَجَ أَكْثَرَ الْعَقِبِ من الْخُفِّ اُنْتُقِضَ مَسْحُهُ وَإِلَّا فَلَا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ أَخْرَجَ أَكْثَرَ الْقَدَمِ من الْخُفِّ
اُنْتُقِضَ وَإِلَّا فَلَا
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ بَقِيَ في الْخُفِّ مِقْدَارُ ما يَجُوزُ عليه
الْمَسْحُ بَقِيَ الْمَسْحُ وَإِلَّا اُنْتُقِضَ وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّهُ
يَسْتَمْشِي فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْمَشْيُ الْمُعْتَادُ بَقِيَ الْمَسْحُ وَإِلَّا
فَيُنْتَقَضُ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أبي يُوسُفَ وهو اعْتِبَارُ أَكْثَرِ الْقَدَمِ
لِأَنَّ الْمَشْيَ يَتَعَذَّرُ بِخُرُوجِ أَكْثَرِ الْقَدَمِ وَلَا بَأْسَ
بِالِاعْتِمَادِ عليه لِأَنَّ الْمَقْصِدَ من لُبْسِ الْخُفِّ هو الْمَشْيُ فإذا
تَعَذَّرَ الْمَشْيُ انْعَدَمَ اللُّبْسُ فِيمَا قُصِدَ له وَلِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ
حُكْمَ الْكُلِّ
مبحث الْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ وَأَمَّا الْمَسْحُ على الْجَبَائِرِ
فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ جَوَازِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ
جَوَازِهِ وفي بَيَانِ صِفَةِ هذا الْمَسْحِ أَنَّهُ وَاجِبٌ أَمْ لَا وفي بَيَانِ
ما يَنْقُضُهُ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا اُنْتُقِضَ وفي بَيَانِ ما يُفَارِقُ فيه
الْمَسْحُ على الجبائر المسح على الْخُفَّيْنِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمَسْحُ على الْجَبَائِرِ جَائِزٌ وَالْأَصْلُ في جَوَازِهِ
ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كُسِرَ زَنْدِي يوم أُحُدٍ
فَسَقَطَ اللِّوَاءُ من يَدِي فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم اجْعَلُوهَا في
يَسَارِهِ فإنه صَاحِبُ لِوَائِي في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فقلت يا رَسُولَ
اللَّهِ ما أَصْنَعُ بِالْجَبَائِرِ فقال امْسَحْ عليها شُرِعَ الْمَسْحُ على
الْجَبَائِرِ عِنْدَ كَسْرِ الزَّنْدِ فَيَلْحَقُ بِهِ ما كان في مَعْنَاهُ من
الْجُرْحِ وَالْقُرْحِ
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا شُجَّ في وَجْهِهِ
يوم أُحُدٍ دَاوَاهُ بِعَظْمٍ بَالٍ وَعَصَبَ عليه وكان يَمْسَحُ على الْعِصَابَةِ
وَلَنَا في رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إسوة حَسَنَةٌ وَلِأَنَّ
الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ لِأَنَّ في نَزْعِهَا حَرَجًا
وَضَرَرًا
مبحث شَرْطِ جَوَازِ الْمَسْحِ وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ
الْغَسْلُ مِمَّا يَضُرُّ بِالْعُضْوِ الْمُنْكَسِرِ وَالْجُرْحِ وَالْقُرْحِ أو
لَا يَضُرُّهُ الْغَسْلُ لَكِنَّهُ يُخَافُ الضَّرَرَ من جِهَةٍ أُخْرَى بِنَزْعِ
الْجَبَائِرِ فَإِنْ كان لَا يضر ( ( ( يضره ) ) ) به وَلَا يُخَافُ لَا يَجُوزُ
وَلَا يَسْقُطُ الْغَسْلُ لِأَنَّ الْمَسْحَ لِمَكَانِ الْعُذْرِ وَلَا عُذْرَ
ثُمَّ إذَا مَسَحَ على الْجَبَائِرِ وَالْخِرَقِ التي فَوْقَ الْجِرَاحَةِ جَازَ
لِمَا قُلْنَا
وأما إذَا مَسَحَ على الْخِرْقَةِ الزَّائِدَةِ عن رَأْسِ الْجِرَاحَةِ ولم
يَغْسِلْ ما تَحْتَهَا فَهَلْ يَجُوزُ لم يذكر هذا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَذَكَرَ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ أَنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كان حَلَّ الْخِرْقَةَ
وَغَسَلَ ما تَحْتَهَا من حَوَالَيْ الْجِرَاحَةِ مِمَّا يَضُرُّ بِالْجُرْحِ
يَجُوزُ الْمَسْحُ على الْخِرْقَةِ الزَّائِدَةِ وَيَقُومُ الْمَسْحُ عليها
مَقَامَ غَسْلِ ما تَحْتَهَا كَالْمَسْحِ على الْخِرْقَةِ التي تُلَاصِقُ
الْجِرَاحَةَ وَإِنْ كان ذلك لَا يَضُرُّ بِالْجُرْحِ عليه أَنْ يَحِلَّ
وَيَغْسِلَ حَوَالَيْ الْجِرَاحَةِ وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عليها لِأَنَّ
الْجَوَازَ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ
وَمِنْ شَرْطِ جَوَازِ الْمَسْحِ على الْجَبِيرَةِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمَسْحُ
على عَيْنِ الْجِرَاحَةِ مِمَّا يَضُرُّ بها فَإِنْ كان لَا يَضُرُّ بها لَا
يَجُوزُ الْمَسْحُ إلَّا على نَفْسِ الْجِرَاحَةِ وَلَا يَجُوزُ على الْجَبِيرَةِ
كَذَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ لِأَنَّ الْجَوَازَ على الْجَبِيرَةِ
لِلْعُذْرِ وَلَا عُذْرَ
وَلَوْ كانت الْجِرَاحَةُ على رَأْسِهِ وَبَعْضُهُ صَحِيحٌ فَإِنْ كان الصَّحِيحُ
قَدْرَ ما يَجُوزُ عليه الْمَسْحُ وهو قَدْرُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ لَا يَجُوزُ إلَّا
أَنْ يَمْسَحَ عليه لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ من مَسْحِ الرَّأْسِ هو هذا الْقَدْرُ
وَهَذَا الْقَدْرُ من الرَّأْسِ صَحِيحٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْمَسْحِ على
الْجَبَائِرِ
وَعِبَارَةُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ في مِثْلِ هذا أنه إنْ ذَهَبَ عَيْرٌ فَعَيْرٌ
في الرِّبَاطِ
وَإِنْ كان أَقَلَّ من ذلك لم يَمْسَحْ عليه لِأَنَّ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ
بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَمْسَحُ على الْجَبَائِرِ
وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ هل هو وَاجِبٌ أَمْ لَا
فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في كِتَابِ الصَّلَاةِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا
تَرَكَ الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ وَذَلِكَ يَضُرُّهُ أَجْزَأَهُ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إذَا كان ذلك لَا يَضُرُّهُ لم يَجُزْ فَخَرَجَ
جَوَابُ أبي حَنِيفَةَ في صُورَةٍ وَخَرَجَ جَوَابُهُمَا في صُورَةٍ أُخْرَى فلم
يَتَبَيَّنْ الْخِلَافُ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا كان الْمَسْحُ على
الْجَبَائِرِ يَضُرُّهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ عنه الْمَسْحُ لِأَنَّ الْغَسْلَ
يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ فَالْمَسْحُ أَوْلَى
وَأَمَّا إذَا كان لَا يَضُرُّهُ فَقَدْ حَقَّقَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا
الِاخْتِلَافَ فقال على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ الْمَسْحُ على الْجَبَائِرِ مُسْتَحَبٌّ
وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ
وَهَكَذَا ذَكَرَ قَوْلَ أبي حَنِيفَةَ في اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ
وَعِنْدَهُمَا وَاجِبٌ
وَحُجَّتُهُمَا ما رَوَيْنَا عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمَرَ عَلِيًّا
____________________
(1/13)
رضي
اللَّهُ عنه بِالْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ بِقَوْلِهِ امْسَحْ عليها وَمُطْلَقُ
الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفَرْضِيَّةَ لَا تَثْبُتُ
إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ
وَحَدِيثُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه من أَخْبَارِ الْآحَادِ فَلَا تَثْبُتُ
الْفَرْضِيَّةُ بِهِ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إن كان الْمَسْحُ لَا يَضُرُّهُ يَجِبُ بِلَا خِلَافٍ
وَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بين حِكَايَةِ الْقَوْلَيْنِ وهو أَنَّ من قال إنَّ
الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ ليس بِوَاجِبٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عَنَى بِهِ
أَنَّهُ ليس بِفَرْضٍ عِنْدَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَفْرُوضَ اسْمٌ لِمَا
ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَوُجُوبُ الْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ
ثَبَتَ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وَأَنَّهُ من الأحاد فَيُوجِبُ
الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ وَمَنْ قال إنَّ الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ وَاجِبٌ
عِنْدَهُمَا فَإِنَّمَا عَنَى بِهِ وُجُوبَ الْعَمَلِ لَا الْفَرْضِيَّةَ وَعَلَى
هذا لَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ لِأَنَّهُمَا لا يَقُولَانِ بِفَرْضِيَّةِ
الْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ لِانْعِدَامِ دَلِيلِ الْفَرْضِيَّةِ بَلْ بِوُجُوبِهِ
من حَيْثُ الْعَمَلُ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يُحْمَلُ على الْوُجُوب في حَقِّ
الْعَمَلِ وَإِنَّمَا الْفَرْضِيَّةُ تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ زَائِدٍ وأبو حَنِيفَةَ
رضي اللَّهُ عنه يقول بِوُجُوبِهِ في حَقِّ الْعَمَلِ وَالْجَوَازُ وَعَدَمُ
الْجَوَازِ يَكُونُ مَبْنِيًّا على الْوُجُوبِ وَعَدَمُ الْوُجُوبِ في حَقِّ
الْعَمَلِ
لو تَرَكَ الْمَسْحَ على بَعْضِ الْجَبَائِرِ وَمَسَحَ على الْبَعْضِ لم يذكر هذا
في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَعَنْ الْحَسَنِ بن زِيَادٍ أَنَّهُ قال إنْ مَسَحَ على الْأَكْثَرِ جَازَ
وَإِلَّا فَلَا بِخِلَافِ مَسْحِ الرَّأْسِ وَالْمَسْحُ على الْخُفَّيْنِ أَنَّهُ
لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا الْأَكْثَرُ لِأَنَّ هُنَاكَ وَرَدَ الشَّرْعُ
بِالتَّقْدِيرِ فَلَا تُشْتَرَطُ الزِّيَادَةُ على الْمُقَدَّرِ وَهَهُنَا لَا
تَقْدِيرَ من الشَّرْعِ بَلْ وَرَدَ بِالْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ فَظَاهِرُهُ
يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ إلَّا أَنَّ ذلك لَا يَخْلُو عن ضَرْبِ حَرَجٍ فَأُقِيمَ
الْأَكْثَرُ مَقَامَ الْجَمِيعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
مبحث نَوَاقِضِ الْمَسْحِ على الجبيرة ( ( ( الجبائر ) ) ) وَأَمَّا بَيَانُ ما
يَنْقُضُ الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا انْتَقَضَ فَسُقُوطُ
الْجَبَائِرِ عن بُرْءٍ يَنْقُضُ الْمَسْحَ
جملة ( ( ( وجملة ) ) ) الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْجَبَائِرَ إذَا سَقَطَتْ فَإِمَّا
أَنْ تَسْقُطَ لَا عن بُرْءٍ أو عن بُرْءٍ وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو من أَنْ
يَكُونَ في الصَّلَاةِ أو خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنْ سَقَطَتْ لَا عن بُرْءٍ في
الصَّلَاةِ مَضَى عليها وَلَا يَسْتَقْبِلُ وَإِنْ كان خَارِجَ الصَّلَاةِ يُعِيدُ
الْجَبَائِرَ إلَى مَوْضِعِهَا وَلَا يَجِبُ عليه إعَادَةُ الْمَسْحِ وَكَذَلِكَ
إذَا شَدَّهَا بِجَبَائِرَ أُخْرَى غير الْأُولَى بِخِلَافِ الْمَسْحِ على
الْخُفَّيْنِ أنه إذَا سَقَطَ الْخُفُّ في حَالِ الصَّلَاةِ يَسْتَقْبِلُ وَإِنْ
سَقَطَ خَارِجَ الصَّلَاةِ يَجِبُ الْغَسْلُ وَالْفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ سُقُوطَ
الْغَسْلِ لِمَكَانِ الْحَرَجِ كما في النَّزْعِ فإذا سَقَطَ فَقَدْ زَالَ
الْحَرَجُ وَهَهُنَا السُّقُوطُ بِسَبَبِ الْعُذْرِ وإنه قَائِمٌ فَكَانَ
الْغَسْلُ سَاقِطًا وَإِنَّمَا وَجَبَ الْمَسْحُ وَالْمَسْحُ قَائِمٌ وَإِنَّمَا
زَالَ الْمَمْسُوحُ كما إذَا مَسَحَ على رَأْسِهِ ثُمَّ حَلَقَ الشَّعْرَ أَنَّهُ
لَا يَجِبُ إعَادَةُ الْمَسْحِ وَإِنْ زَالَ الْمَمْسُوحُ كَذَلِكَ هَهُنَا
وَإِنْ سَقَطَتْ عن بُرْءٍ فَإِنْ كان خَارِجَ الصَّلَاةِ وهو مُحْدِثٌ فإذا
أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ تَوَضَّأَ وَغَسَلَ مَوْضِعَ الْجَبَائِرِ إنْ كانت
الْجِرَاحَةُ على أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَإِنْ لم كن ( ( ( يكن ) ) ) مُحْدِثًا
غَسَلَ مَوْضِعَ الْجَبَائِرِ لَا غَيْرُ لِأَنَّهُ قَدَرَ على الْأَصْلِ فَبَطَلَ
حُكْمُ الْبَدَلِ فيه فَوَجَبَ غَسْلُهُ لَا غَيْرُ لِأَنَّ حُكْمَ الْغَسْلِ وهو
الطَّهَارَةُ في سَائِرِ الْأَعْضَاءِ قَائِمٌ لِانْعِدَامِ ما يَرْفَعُهَا وهو
الْحَدَثُ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهَا وَإِنْ كان في حَالِ الصَّلَاةِ يَسْتَقْبِلُ
لِقُدْرَتِهِ على الْأَصْلِ قبل حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ
وَلَوْ مَسَحَ على الْجَبَائِرِ وَصَلَّى أَيَّامًا ثُمَّ بَرَأَتْ جِرَاحَتُهُ
لَا يَجِبُ عليه إعَادَةُ ما صلى بِالْمَسْحِ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا
وقال الشَّافِعِيُّ إنْ كان الْجَبْرُ على الْجُرْحِ وَالْقُرْحِ يُعِيدُ قَوْلًا
وَاحِدًا وَإِنْ كان على الْكَسْرِ فَلَهُ فيه قَوْلَانِ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن هذا عُذْرٌ نَادِرٌ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عِنْدَ
زَوَالِهِ كَالْمَحْبُوسِ في السِّجْنِ إذَا لم يَجِدْ الْمَاءَ وَوَجَدَ تُرَابًا
نَظِيفًا أَنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ يُعِيدُ إذَا خَرَجَ من السِّجْنِ
كَذَلِكَ هَهُنَا
وَلَنَا ما رَوَيْنَا من حديث عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَمَرَهُ بِالْمَسْحِ على الْجَبَائِرِ ولم يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ
الصَّلَاةِ مع حَاجَتِهِ إلَى الْبَيَانِ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يُفَارِقُ فيه الْمَسْحُ على الْجَبَائِرِ الْمَسْحَ على
الْخُفَّيْنِ
فَمِنْهَا أَنَّ الْمَسْحَ على الْجَبَائِرِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِالْأَيَّامِ بَلْ
هو موقت بِالْبُرْءِ وَالْمَسْحُ على الْخُفَّيْنِ موقت بِالْأَيَّامِ لِلْمُقِيمِ
يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا لِأَنَّ
التَّوْقِيتَ بِالشَّرْعِ وَالشَّرْعُ وَقَّتَ هُنَاكَ بِقَوْلِهِ يَمْسَحُ
الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا
ولم يوقت هَهُنَا بَلْ أَطْلَقَ بِقَوْلِهِ امْسَحْ عليها
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ لِوَضْعِ الْجَبَائِرِ حتى لو
وَضَعَهَا وهو مُحْدِثٌ ثُمَّ تَوَضَّأَ جَازَ له أَنْ يَمْسَحَ عليها
وَتُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ لِلُبْسِ الْخُفَّيْنِ حتى لو لَبِسَهُمَا وهو مُحْدِثٌ
ثُمَّ تَوَضَّأَ لَا يَجُوزُ له الْمَسْحُ على الْخُفَّيْنِ لِأَنَّ الْمَسْحَ على
الْجَبَائِرِ كَالْغَسْلِ لِمَا تَحْتَهَا فإذا مَسَحَ عليها فَكَأَنَّهُ غَسَلَ
ما تَحْتَهَا لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْغَسْلِ وَالْخُفُّ جُعِلَ مَانِعًا من
نُزُولِ الْحَدَثِ بِالْقَدَمَيْنِ لَا رَافِعًا له
____________________
(1/14)
وَلَا
يَتَحَقَّقُ ذلك إلَّا أن ( ( ( وأن ) ) ) يَكُونَ لَابِسُ الْخُفِّ على طَهَارَةٍ
وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا سَقَطَتْ الْجَبَائِرُ لَا عن بُرْءٍ لَا يُنْتَقَضُ
الْمَسْحُ وَسُقُوطُ الْخُفَّيْنِ أو سُقُوطُ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ انْتِقَاضَ
الْمَسْحِ لِمَا بَيَّنَّا
مبحث شرائط أركان الوضوء فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ
فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ حتى لَا يَجُوزَ التوضأ بِمَا سِوَى
الْمَاءِ من الْمَائِعَاتِ كَالْخَلِّ وَالْعَصِيرِ وَاللَّبَنِ وَنَحْوِ ذلك
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى
الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا
برؤوسكم ( ( ( برءوسكم ) ) ) وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } وَالْمُرَادُ
منه الْغَسْلُ بِالْمَاءِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قال في آخِرِ الْآيَةِ { وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضَى أو على سَفَرٍ أو جاء أَحَدٌ مِنْكُمْ من الْغَائِطِ أو لَامَسْتُمْ
النِّسَاءَ فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } نَقَلَ
الْحُكْمَ إلَى التُّرَابِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَدَلَّ على أَنَّ الْمَنْقُولَ
منه هو الْغَسْلُ بِالْمَاءِ وَكَذَا الْغَسْلُ الْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى
الْغَسْلِ الْمُعْتَادِ وهو الْغَسْلُ بِالْمَاءِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْمَاءِ
يَنْصَرِفُ إلَى الْمَاءِ الْمُطْلَقِ فَلَا يَجُوزُ التوضأ بِالْمَاءِ الْمُقَيَّدِ
وَالْمَاءُ الْمُطْلَقُ هو الذي تَتَسَارَعُ أَفْهَامُ الناس إلَيْهِ عِنْدَ
إطْلَاقِ اسْمِ الْمَاءِ كَمَاءِ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ وَالْآبَارِ وَمَاءِ
السَّمَاءِ وَمَاءِ الْغُدْرَانِ وَالْحِيَاضِ وَالْبِحَارِ فَيَجُوزُ الْوُضُوءُ
بِذَلِكَ كُلِّهِ سَوَاءٌ كان في مَعْدِنِهِ أو في الْأَوَانِي لِأَنَّ نَقْلَهُ
من مَكَان إلَى مَكَان لَا يَسْلُبُ إطْلَاقَ اسْمِ الْمَاءِ عنه وَسَوَاءٌ كان
عَذْبًا أو مِلْحًا لِأَنَّ الْمَاءَ الْمِلْحَ يُسَمَّى مَاءً على الْإِطْلَاقِ
وقال النبي خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا ما غَيَّرَ
لَوْنَهُ أو طَعْمَهُ أو رِيحَهُ وَالطَّهُورُ هو الطَّاهِرُ في نَفْسِهِ
الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ وقال اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْزَلْنَا من السَّمَاءِ
مَاءً طَهُورًا }
وقال اللَّهُ تَعَالَى { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ من السَّمَاءِ مَاءً
لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ }
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ سُئِلَ عن الْبَحْرِ فقال هو الطَّهُورُ مَاؤُهُ
الحلج ( ( ( الحل ) ) ) مَيْتَتُهُ
وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عن الْمِيَاهِ التي تَكُونُ في الْفَلَوَاتِ وما
يَنُوبُهَا من السباع ( ( ( الدواب ) ) ) والدواب ( ( ( والسباع ) ) ) فقال لها ما
أَخَذَتْ في بُطُونِهَا وما أَبْقَتْ فَهُوَ لنا شَرَابٌ وَطَهُورٌ
وكان النبي يَتَوَضَّأُ من آبَارِ الْمَدِينَةِ
مبحث الْمَاءِ الْمُقَيَّدِ وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَهُوَ ما لَا تَتَسَارَعُ
إلَيْهِ الْأَفْهَامُ عِنْدَ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَاءِ وهو الْمَاءُ الذي
يُسْتَخْرَجُ من الْأَشْيَاءِ بِالْعِلَاجِ كَمَاءِ الْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ
وَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِ ذلك وَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِشَيْءٍ من ذلك
وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ إذَا خَالَطَهُ شَيْءٌ من الْمَائِعَاتِ
الطَّاهِرَةِ كَاللَّبَنِ وَالْخَلِّ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ وَنَحْوِ ذلك على
وَجْهٍ زَالَ عنه اسْمُ الْمَاءِ بِأَنْ صَارَ مَغْلُوبًا بِهِ فَهُوَ بِمَعْنَى
الْمَاءِ الْمُقَيَّدِ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان الذي خَالَطَهُ مِمَّا يُخَالِفُ
لَوْنُهُ لَوْنَ الْمَاءِ كَاللَّبَنِ وَمَاءِ الْعُصْفُرِ وَالزَّعْفَرَانِ
وَنَحْوِ ذلك تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ في اللَّوْنِ وَإِنْ كان لَا يُخَالِفُ
الْمَاءَ في اللَّوْنِ وَيُخَالِفُهُ في الطَّعْمِ كَعَصِيرِ الْعِنَبِ
الْأَبْيَضِ وَخَلِّهِ تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ في الطَّعْمِ وَإِنْ كان لَا
يُخَالِفُهُ فِيهِمَا تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ في الْأَجْزَاءِ فَإِنْ اسْتَوَيَا
في الْأَجْزَاءِ لم يُذْكَرْ هذا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَقَالُوا حُكْمُهُ
حُكْمُ الْمَاءِ الْمَغْلُوبِ احْتِيَاطًا
هذا إذَا لم يَكُنْ الذي خَالَطَهُ مِمَّا يُقْصَدُ منه زِيَادَةُ نَظَافَةٍ
فَإِنْ كان مِمَّا يُقْصَدُ منه ذلك وَيُطْبَخُ بِهِ أو يُخَالِطُ بِهِ كَمَاءِ
الصَّابُونِ وَالْأُشْنَانِ يَجُوزُ التوضأ بِهِ وَإِنْ تَغَيَّرَ لَوْنُ الْمَاءِ
أو طَعْمُهُ أو رِيحُهُ لِأَنَّ اسْمَ الْمَاءِ بَاقٍ وَازْدَادَ مَعْنَاهُ وهو
التَّطْهِيرُ
وَكَذَلِكَ جَرَتْ السُّنَّةُ في غُسْلِ الْمَيِّتِ بِالْمَاءِ الْمَغْلِيِّ
بِالسِّدْرِ وَالْحُرُضِ فَيَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ إلَّا إذَا صَارَ غَلِيظًا
كَالسَّوِيقِ الْمَخْلُوطِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَزُولُ عنه اسْمُ الْمَاءِ
وَمَعْنَاهُ أَيْضًا وَلَوْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ بِالطِّينِ أو
بِالتُّرَابِ أو بِالْجِصِّ أو بِالنُّورَةِ أو بِوُقُوعِ الْأَوْرَاقِ أو
الثِّمَارِ فيه أو بِطُولِ الْمُكْثِ يَجُوزُ التوضأ بِهِ لِأَنَّهُ لم يَزُلْ عنه
اسْمُ الْمَاءِ وَبَقِيَ مَعْنَاهُ أَيْضًا مع ما فيه من الضَّرُورَةِ
الظَّاهِرَةِ لِتَعَذُّرِ صَوْنِ الْمَاءِ عن ذلك
وَقِيَاسُ ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ
لِتَغَيُّرِ طَعْمِ الْمَاءِ وَصَيْرُورَتِهِ مَغْلُوبًا بِطَعْمِ التَّمْرِ
فَكَانَ في مَعْنَى الْمَاءِ الْمُقَيَّدِ وَبِالْقِيَاسِ أَخَذَ أبو يُوسُفَ وقال
لَا يَجُوزُ التوضأ بِهِ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ تَرَكَ الْقِيَاسَ
بِالنَّصِّ وهو حَدِيثُ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه فَجَوَّزَ
التوضأ بِهِ
وَذُكِرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا لم يَجِدْ الْمَاءَ
وَوَجَدَ نَبِيذَ التَّمْرِ تَوَضَّأَ بِهِ ولم يَتَيَمَّمْ وَذُكِرَ في كِتَابِ
الصَّلَاةِ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَإِنْ تَيَمَّمَ معه أَحَبُّ إلَيَّ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا لَا مَحَالَةَ
وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ
وَرَوَى نُوحٌ في الْجَامِعِ الْمَرْوَزِيِّ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عن
ذلك وقال لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَكِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وهو الذي اسْتَقَرَّ عليه
قَوْلُهُ كَذَا قال نُوحٌ وَبِهِ أَخَذَ أبو يُوسُفَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا
صَعِيدًا طَيِّبًا } نَقَلَ الْحُكْمَ من الْمَاءِ الْمُطْلَقِ إلَى التُّرَابِ
فَمَنْ نَقَلَهُ إلَى النَّبِيذِ ثُمَّ من
____________________
(1/15)
النَّبِيذِ
إلَى التُّرَابِ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَهَؤُلَاءِ طَعَنُوا في حديث عبد
اللَّهِ بن مَسْعُودٍ من وُجُوهٍ
أَحَدُهَا أَنَّهُمْ قالوا رَوَاهُ أبو فَزَارَةَ عن أبي زَيْدٍ عن ابْنِ
مَسْعُودٍ وأبو فَزَارَةَ هذا كان نَبَّاذًا بِالْكُوفَةِ وأبو زَيْدٍ مَجْهُولٌ
وَمِنْهَا أَنَّهُ قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ هل كُنْتَ مع النبي
لَيْلَةَ الْجِنِّ فقال لَيْتَنِي كنت وَسُئِلَ تِلْمِيذُهُ عَلْقَمَةُ هل كان
صَاحِبُكُمْ مع النبي لَيْلَةَ الْجِنِّ
فقال وَدِدْنَا أَنَّهُ كان
وَمِنْهَا أَنَّهُ من أَخْبَارِ الْآحَادِ وَرَدَ على مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ
وَمِنْ شَرْطِ ثُبُوتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَنْ لَا يُخَالِفَ الْكِتَابَ فإذا
خَالَفَ لم يَثْبُتْ أو ثَبَتَ لَكِنَّهُ نُسِخَ بِهِ لِأَنَّ لَيْلَةَ الْجِنِّ
كانت بِمَكَّةَ وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قام هَهُنَا دَلِيلَانِ
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وهو
حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه وَالْآخَرُ يَقْتَضِي وُجُوبَ
التَّيَمُّمِ وهو قَوْله تَعَالَى { فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا
طَيِّبًا } وَالْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ وَاجِبٌ إذَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا
وَهَهُنَا أَمْكَنَ إذْ لَا تَنَافِيَ بين وُجُوبِ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ
فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا كما في سُؤْرِ الْحِمَارِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رُوِيَ
عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كنا أَصْحَابَ رسول
اللَّهِ جُلُوسًا في بَيْتٍ فَدَخَلَ عَلَيْنَا رسول اللَّهِ فقال لِيَقُمْ
مِنْكُمْ من ليس في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ من كِبْرٍ فَقُمْتُ
وفي رِوَايَةٍ فلم يَقُمْ مِنَّا أَحَدٌ فَأَشَارَ إلَيَّ بِالْقِيَامِ فَقُمْتُ
وَدَخَلْتُ الْبَيْتَ فَتَزَوَّدْتُ بِإِدَاوَةٍ من نَبِيذٍ فَخَرَجْتُ معه
فَخَطَّ لي خَطًّا وقال إنْ خَرَجْتَ من هذا لم تَرَنِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
فَقُمْتُ قَائِمًا حتى انْفَجَرَ الصُّبْحُ فإذا أنا بِرَسُولِ اللَّهِ وقد عَرِقَ
جَبِينُهُ كَأَنَّهُ حَارَبَ جِنًّا فقال لي يا ابْنَ مَسْعُودٍ هل مَعَكَ مَاءٌ
أَتَوَضَّأُ بِهِ فقلت لَا إلَّا نَبِيذَ تَمْرٍ في إدَاوَةٍ
فقال ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ فَأَخَذَ ذلك وَتَوَضَّأ بِهِ وَصَلَّى
الْفَجْرَ وَكَذَا جَمَاعَةٌ من الصَّحَابَةِ منهم عَلِيٌّ وابن مَسْعُودٍ وابن
عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يُجَوِّزُونَ التوضأ بِنَبِيذِ التَّمْرِ
وَرُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه عن النبي أَنَّهُ قال نَبِيذُ التَّمْرِ
وُضُوءُ من لم يَجِدْ الْمَاءَ
وَرَوَى ابن عَبَّاسٍ عن النبي أَنَّهُ قال توضؤوا ( ( ( توضئوا ) ) ) بِنَبِيذِ
التَّمْرِ وَلَا تتوضؤوا ( ( ( تتوضئوا ) ) ) بِاللَّبَنِ
وَرُوِيَ عن أبي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ أَنَّهُ قال كنت في جَمَاعَةٍ من
أَصْحَابِ رسول اللَّهِ في سَفِينَةٍ في الْبَحْرِ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَفَنِيَ
مَاؤُهُمْ وَمَعَهُمْ نَبِيذُ التَّمْرِ فَتَوَضَّأَ بَعْضُهُمْ بِنَبِيذِ
التَّمْرِ وَكَرِهَ التوضأ بِمَاءِ الْبَحْرِ وَتَوَضَّأَ بَعْضُهُمْ بِمَاءِ
الْبَحْرِ وَكَرِهَ التوضأ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَهَذَا حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ
فإن من كان يَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ كان يَعْتَقِدُ جَوَازَ التَّوَضُّؤِ
بِمَاءِ الْبَحْرِ فلم يَتَوَضَّأْ بِنَبِيذِ التَّمْرِ لِكَوْنِهِ وَاجِدًا
لِلْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَمَنْ كان يَتَوَضَّأُ بِالنَّبِيذِ كان لَا يَرَى مَاءَ
الْبَحْرَ طَهُورًا أو كان يقول هو مَاءُ سَخْطَةٍ وَنِقْمَةٍ كَأَنَّهُ لم
يَبْلُغْهُ قَوْلُهُ في صِفَةِ الْبَحْرِ هو الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ
مَيْتَتُهُ فَتَوَضَّأَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ لِكَوْنِهِ عَادِمًا لِلْمَاءِ
الطَّاهِرِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الحديث وَرَدَ مَوْرِدَ الشُّهْرَةِ
وَالِاسْتِفَاضَةِ حَيْثُ عَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ فَصَارَ مُوجِبًا عِلْمًا اسْتِدْلَالِيًّا كَخَبَرِ
الْمِعْرَاجِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ من اللَّهِ وَأَخْبَارِ الرُّؤْيَةِ
وَالشَّفَاعَةِ وَغَيْرِ ذلك مِمَّا كان الرَّاوِي في الْأَصْلِ وَاحِدًا ثُمَّ
اشْتَهَرَ وَتَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ وَمِثْلُهُ مِمَّا يُنْسَخُ
بِهِ الْكِتَابُ مع ما أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لهم في الْكِتَابِ لِأَنَّ عَدَمَ
نَبِيذِ التَّمْرِ في الْأَسْفَارِ يَسْبِقُ عَدَمَ الْمَاءِ عَادَةً لِأَنَّهُ
أَعْسَرُ وُجُودًا وَأَعَزُّ إصَابَةً من الْمَاءِ فَكَانَ تَعْلِيقُ جَوَازِ
التَّيَمُّمِ بِعَدَمِ الْمَاءِ تَعْلِيقًا بِعَدَمِ النَّبِيذِ دَلَالَةً
فَكَأَنَّهُ قال فلم تَجِدُوا مَاءً وَلَا نَبِيذَ تَمْرٍ فَتَيَمَّمُوا إلَّا
أَنَّهُ لم يَنُصَّ عليه لِثُبُوتِهِ عَادَةً ويؤيد ( ( ( يؤيد ) ) ) هذا ما
ذَكَرْنَا من فَتَاوَى نُجَبَاءِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في زَمَانٍ
انْسَدَّ فيه بَابُ الْوَحْيِ مع أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْرَفَ الناس بِالنَّاسِخِ
وَالْمَنْسُوخِ فَبَطَلَ دَعْوَى النَّسْخِ
وما ذَكَرُوا من الطَّعْنِ في الرَّاوِي أَمَّا أبو فَزَارَةَ فَقَدْ ذَكَرَهُ
مُسْلِمٌ في الصَّحِيحِ فَلَا مَطْعَنَ لِأَحَدٍ فيه وَأَمَّا أبو زَيْدٍ فَقَدْ
قال صَاعِدٌ وهو من زُهَّادِ التَّابِعِينَ وَأَمَّا أبو زَيْدٍ فَهُوَ مولى
عَمْرِو بن حُرَيْثٍ فَكَانَ مَعْرُوفًا في نَفْسِهِ وَبِمَوْلَاهُ فَالْجَهْلُ
بِعَدَالَتِهِ لَا يَقْدَحُ في رِوَايَتِهِ على أَنَّهُ قد رُوِيَ هذا الْحَدِيثُ
من طُرُقٍ أُخَرَ غَيْرِ هذا الطَّرِيقِ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا طَعْنٌ
وَقَوْلُهُمْ أن ابْنَ مَسْعُودٍ لم يَكُنْ مع رسول اللَّهِ لَيْلَةَ الْجِنِّ
دَعْوَى بَاطِلَةٌ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّهُ تَرَكَهُ في الْخَطِّ وَكَذَا رُوِيَ
كَوْنُهُ مع رسول اللَّهِ في خَبَرٍ آخَرَ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ على الْعَمَلِ
بِهِ وهو أَنَّهُ طَلَبَ منه أَحْجَارًا لِلِاسْتِنْجَاءِ فَأَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ
وَرَوْثَةٍ فَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وقال إنَّهَا
____________________
(1/16)
رِجْسٌ
أو رِكْسٌ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَقْوَامًا من الزُّطِّ
بِالْعِرَاقِ قال ما أَشْبَهَ هَؤُلَاءِ بِالْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ وفي
رِوَايَةٍ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالْكُوفَةِ فقال ما رأيت أَحَدًا
أَشْبَهَ بِهَؤُلَاءِ من الْجِنِّ الَّذِينَ رَأَيْتُهُمْ مع النبي لَيْلَةَ
الْجِنِّ
وما رُوِيَ أَنَّهُ قال لَيْتَنِي كنت معه فإن ( ( ( وأن ) ) ) عَلْقَمَةَ قال
وَدِدْنَا أَنْ يَكُونَ معه محمول ( ( ( فمحمول ) ) ) على الْحَالِ التي خَاطَبَ
فيها الْجِنَّ أَيْ لَيْتَنِي كنت معه وَقْتَ خِطَابِهِ الْجِنَّ
وددنا ( ( ( ووددنا ) ) ) أَنْ يَكُونَ معه وَقْتَ ما خَاطَبَ الْجِنَّ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في جَوَازِ الِاغْتِسَالِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ على قول (
( ( أصل ) ) ) أبي حَنِيفَةَ
فقال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْجَوَازَ عُرِفَ بِالنَّصِّ وَأَنَّهُ
وَرَدَ في الْوُضُوءِ دُونَ الِاغْتِسَالِ فَيَقْتَصِرُ على مَوْرِدِ النَّصِّ
وقال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ لِاسْتِوَائِهِمَا في الْمَعْنَى
ثُمَّ لَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ تَفْسِيرِ نَبِيذِ التَّمْرِ الذي فيه الْخِلَافُ
وهو أَنْ يُلْقَى شَيْءٌ من التَّمْرِ في الْمَاءِ فَتَخْرُجُ حَلَاوَتُهُ إلَى
الْمَاءِ وَهَكَذَا ذَكَرَ ابن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه في تَفْسِيرِ نَبِيذِ
التَّمْرِ الذي تَوَضَّأَ بِهِ رسول اللَّهِ فقال تُمَيْرَاتٌ أَلْقَيْتُهَا في
الْمَاءِ لِأَنَّ من عَادَةِ الْعَرَبِ أنها تَطْرَحُ التَّمْرَ في الْمَاءِ
الْمِلْحِ لِيَحْلُوَ فما دَامَ حُلْوًا رَقِيقًا أو قَارِصًا يُتَوَضَّأُ بِهِ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ كان غليط ( ( ( غليظا ) ) ) كالمرب ( ( ( كالرب ) ) )
لَا يَجُوزُ التوضأ بِهِ بِلَا خِلَافٍ
وَكَذَا إنْ كان رَقِيقًا لَكِنَّهُ غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ
لِأَنَّهُ صَارَ مُسْكِرًا وَالْمُسْكِرُ حَرَامٌ فَلَا يَجُوزُ التوضأ بِهِ
وَلِأَنَّ النَّبِيذَ الذي تَوَضَّأَ بِهِ رسول اللَّهِ كان رَقِيقًا حُلْوًا
فَلَا يَلْحَقُ بِهِ الْغَلِيظُ وَالْمُرُّ هذا إذَا كان نيأ ( ( ( نيئا ) ) )
فَإِنْ كان مَطْبُوخًا أَدْنَى طَبْخَةٍ فما دَامَ حُلْوًا أو قَارِصًا فَهُوَ على
الِاخْتِلَافِ وَإِنْ غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ
في شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ الِاخْتِلَافَ فيه بين الْكَرْخِيِّ
وَأَبِي طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ على قَوْلِ الْكَرْخِيِّ يَجُوزُ وَعَلَى قَوْلِ أبي
طَاهِرٍ لَا يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ اسْمَ النَّبِيذِ كما يَقَعُ على النِّيءِ منه
يَقَعُ على الْمَطْبُوخِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ وَلِأَنَّ الْمَاءَ
الْمُطْلَقَ إذَا اخْتَلَطَ بِهِ الْمَائِعَاتُ الطَّاهِرَةُ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ
بِهِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا إذَا كان الْمَاءُ غَالِبًا وَهَهُنَا
أَجْزَاءُ الْمَاءِ غَالِبَةٌ على أَجْزَاءِ التَّمْرِ فَيَجُوزُ التَّوَضُّؤُ
بِهِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي طَاهِرٍ أَنَّ الْجَوَازَ عُرِفَ بِالْحَدِيثِ وَالْحَدِيثُ
وَرَدَ في النِّيءِ فإنه رُوِيَ عن عبد اللَّه بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه
أَنَّهُ سُئِلَ عن ذلك النَّبِيذِ فقال تُمَيْرَاتٌ أَلْقَيْتُهَا في الْمَاءِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْمَائِعَ الطَّاهِرَ إذَا اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ لَا
يَمْنَعُ التوضأ بِهِ فَنَعَمْ إذَا لم يَغْلِبْ على الْمَاءِ أَصْلًا فَأَمَّا
إذَا غَلَبَ عليه بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ فَلَا وَهَهُنَا غَلَبَ عليه من حَيْثُ
الطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَإِنْ لم يَغْلِبْ من حَيْثُ الْأَجْزَاءِ فَلَا يَجُوزُ
التوضأ بِهِ
وَهَذَا أَقْرَبُ الْقَوْلَيْنِ إلَى الصَّوَابِ
وَذَكَرَ الْقَاضِي الاسبيجابي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ وَجَعَلَهُ
على الِاخْتِلَافِ في شُرْبِهِ فقال على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ يَجُوزُ
التَّوَضُّؤُ بِهِ كما يَجُوزُ شُرْبُهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ كما لَا
يَجُوزُ شُرْبُهُ وأبو يُوسُفَ فَرَقَّ بين الْوُضُوءِ وَالشُّرْبِ فقال يَجُوزُ
شُرْبُهُ وَلَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَرَى التَّوَضُّؤَ
بِالنِّيءِ الْحُلْوِ منه فَبِالْمَطْبُوخِ الْمُرِّ أَوْلَى
وَأَمَّا نَبِيذُ الزَّبِيبِ وَسَائِرُ الْأَنْبِذَةِ فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ
بها عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال الْأَوْزَاعِيِّ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِالْأَنْبِذَةِ كُلِّهَا نيأ ( ( (
نيئا ) ) ) كان النَّبِيذُ أو مَطْبُوخًا حُلْوًا كان أو مُرًّا قِيَاسًا على
نَبِيذِ التَّمْرِ
وَلَنَا أَنَّ الْجَوَازَ في نَبِيذِ التَّمْرِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عن
الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى الْجَوَازَ إلَّا بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ
وَهَذَا ليس بِمَاءٍ مُطْلَقٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التوضأ بِهِ مع
الْقُدْرَةِ على الْمَاءِ الْمُطْلَقِ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا الْجَوَازَ
بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ في نَبِيذِ التَّمْرِ خَاصَّةً فَيَبْقَى ما عَدَاهُ
على أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ طَاهِرًا فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ
النَّجِسِ لِأَنَّ النبي سَمَّى الْوُضُوءَ طَهُورًا وَطَهَارَةً بِقَوْلِهِ لَا
صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ
وَقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهَارَةٍ وَيَسْتَحِيلُ حُصُولُ الطَّهَارَةِ
بِالْمَاءِ النَّجِسِ
وَالْمَاءُ النَّجِسُ ما خَالَطَهُ النَّجَاسَةُ وَسَنَذْكُرُ بَيَانَ الْقَدْرِ
الذي يُخَالِطُ الْمَاءَ من النَّجَاسَةِ فَيُنَجِّسُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ
منها ( ( ( ومنها ) ) ) أَنْ يَكُونَ طَهُورًا لِقَوْلِ النبي لَا يَقْبَلُ
اللَّهُ صَلَاةَ امرىء حتى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ
ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِرَأْسِهِ ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ
وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلطَّاهِرِ في ذَاتِهِ الْمُطَهِّرِ لِغَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ
التَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ لِأَنَّهُ نَجِسٌ عِنْدَ بَعْضِ
أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ على ما نَذْكُرُ
وَيَجُوزُ بِالْمَاءِ الْمَكْرُوهِ لِأَنَّهُ ليس بِنَجِسٍ إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى
أَنْ لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ إذَا وُجِدَ غَيْرُهُ وَلَا يَجُوزُ بِسُؤْرِ
الْحِمَارِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ مَشْكُوكُ في طَهُورِيَّتِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ
وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ في طَهَارَتِهِ وَسَنُفَسِّرُهُ وَنَسْتَوْفِي الْكَلَامَ فيه
إذَا انْتَهَيْنَا إلَى بَيَانِ حُكْمِ الْأَسْآرِ عِنْدَ بَيَانِ أَنْوَاعِ
الإنجاس إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا النِّيَّةُ فَلَيْسَتْ من الشَّرَائِطِ وَكَذَلِكَ التَّرْتِيبُ
فَيَجُوزُ الْوُضُوءُ
____________________
(1/17)
بِدُونِ
النِّيَّةِ وَمُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ عِنْدنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ من
الشَّرَائِطِ لَا يَجُوزُ بِدُونِهِمَا وَكَذَلِكَ إيمَانُ المتوضىء ( ( ( المتوضئ
) ) ) ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ وُضُوئِهِ عِنْدَنَا فَيَجُوزُ وُضُوءُ الْكَافِرِ
عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ شَرْطٌ فَلَا يَجُوزُ وُضُوءُ الْكَافِرِ وَكَذَلِكَ
الْمُوَالَاةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ وَعِنْدَ مَالِكٍ
شَرْطٌ وَسَنَذْكُرُ هذه الْمَسَائِلَ عِنْدَ بَيَانِ سُنَنِ الْوُضُوءِ
لِأَنَّهَا من السُّنَنِ عِنْدَنَا لَا من الْفَرَائِضِ فَكَانَ إلْحَاقُهَا
بِفَصْلِ السُّنَنِ أَوْلَى
مبحث الكلام في الاستخارة في مواضع فَصْلٌ وَأَمَّا سُنَنُ الْوُضُوءِ فَكَثِيرَةٌ
بَعْضُهَا قبل الْوُضُوءِ وَبَعْضُهَا في ابْتِدَائِهِ وَبَعْضُهَا في أَثْنَائِهِ
أَمَّا الذي هو قبل الْوُضُوءِ فَمِنْهَا الِاسْتِنْجَاءُ بِالْأَحْجَارِ أو ما
يَقُومُ مَقَامَهَا وَسَمَّى الْكَرْخِيُّ الِاسْتِنْجَاءَ استجمار ( ( ( استجمارا
) ) ) إذْ هو طَلَبُ الْجَمْرَةِ وَهِيَ الْحَجَرُ الصَّغِيرُ وَالطَّحَاوِيُّ
سَمَّاهُ اسْتِطَابَةً وَهِيَ طَلَبُ الطِّيبِ وهو الطَّهَارَةُ وَالِاسْتِنْجَاءُ
هو طَلَبُ طَهَارَةِ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ من النَّجْوِ وهو ما يَخْرُجُ من
الْبَطْنِ أو ما يَعْلُو وَيَرْتَفِعُ من النَّجْوَةِ وَهِيَ الْمَكَانُ
الْمُرْتَفِعُ
وَالْكَلَامُ في الِاسْتِنْجَاءِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ صِفَةِ الِاسْتِنْجَاءِ
وفي بَيَانِ ما يُسْتَنْجَى بِهِ وفي بَيَان ما يُسْتَنْجَى منه
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالِاسْتِنْجَاءُ سُنَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
فَرْضٌ حتى لو تَرَكَ الِاسْتِنْجَاءَ أَصْلًا جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا
وَلَكِنْ مع الْكَرَاهَةِ وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ وَالْكَلَامُ فيه رَاجِعٌ إلَى
أَصْلٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ سنذكره وهو أَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ
في الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ عَفْوٌ في حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ
ليس بِعَفْوٍ ثُمَّ نَاقَضَ في الِاسْتِنْجَاءِ فقال إذَا اسْتَنْجَى
بِالْأَحْجَارِ ولم يَغْسِلْ مَوْضِعَ الِاسْتِنْجَاءِ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ
تقينا ( ( ( تيقنا ) ) ) بِبَقَاءِ شَيْءٍ من النَّجَاسَةِ إذْ الْحَجَرُ لَا
يَسْتَأْصِلُ النَّجَاسَةَ وَإِنَّمَا يُقَلِّلُهَا وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ
ثُمَّ ابْتِدَاءُ الدَّلِيلِ على أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ ليس بِفَرْضٍ ما رُوِيَ عن
النبي أَنَّهُ قال من اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ من فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ
لَا فَلَا حَرَجَ عليه وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ
نَفَى الْحَرَجَ في تَرْكِهِ وَلَوْ كان فَرْضًا لَكَانَ في تَرْكِهِ حَرَجٌ
وَالثَّانِي أَنَّهُ قال من فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ
وَمِثْلُ هذا لَا يُقَالُ في الْمَفْرُوضِ وَإِنَّمَا يُقَالُ في الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ
وَالْمُسْتَحَبِّ إلَّا أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الِاسْتِنْجَاءَ أَصْلًا وَصَلَّى
يُكْرَهُ لِأَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ جُعِلَ عَفْوًا في حَقِّ جَوَازِ
الصَّلَاةِ دُونَ الْكَرَاهَةِ وإذا اسْتَنْجَى زَالَتْ الْكَرَاهَةُ لِأَنَّ
الِاسْتِنْجَاءَ بِالْأَحْجَارِ أُقِيمَ مَقَامَ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ شَرْعًا
لِلضَّرُورَةِ إذْ الْإِنْسَانُ قد لَا يَجِدُ سُتْرَةً أو مَكَانًا خَالِيًا
لِلْغَسْلِ وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ فَأُقِيمَ الِاسْتِنْجَاءُ مَقَامَ
الْغَسْلِ فَتَزُولُ بِهِ الْكَرَاهَةُ كما تَزُولُ بِالْغَسْلِ
وقد رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي كان يَسْتَنْجِي
بِالْأَحْجَارِ وَلَا يُظَنُّ بِهِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ مع الْكَرَاهَةِ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يستنجي بِهِ فَالسُّنَّةُ هو الِاسْتِنْجَاءُ بِالْأَشْيَاءِ
الطَّاهِرَةِ من الْأَحْجَارِ وَالْأَمْدَارِ وَالتُّرَابِ وَالْخِرَقِ
الْبَوَالِي وَيُكْرَهُ بِالرَّوْثِ وَغَيْرِهِ من الْأَنْجَاسِ لِأَنَّ النبي
لَمَّا سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ عن أَحْجَارِ الِاسْتِنْجَاءِ أَتَاهُ
بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَمَى بِالرَّوْثَةِ وَعَلَّلَ
بِكَوْنِهَا نَجَسًا فقال إنَّهَا رِجْسٌ أو رِكْسٌ أَيْ نَجَسٌ وَيُكْرَهُ
بِالْعَظْمِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي نهى عن الِاسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ
وَالرِّمَّةِ وقال من اسْتَنْجَى بِرَوْثٍ أو رِمَّةٍ فَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا
أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ
وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَا تَسْتَنْجُوا بِالْعَظْمِ وَلَا بِالرَّوْثِ
فإن الْعَظْمَ زَادُ إخْوَانِكُمْ الْجِنِّ وَالرَّوْثُ عَلَفُ دَوَابِّهِمْ فإن
فِعْلَ ذلك يُعْتَدُّ بِهِ عِنْدَنَا فَيَكُونُ مُقِيمًا سُنَّةً وَمُرْتَكِبًا
كَرَاهَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ جِهَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ
فَيَكُونُ بِجِهَةِ كَذَا وَبِجِهَةِ كَذَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ حتى لَا تَجُوزَ صَلَاتُهُ إذَا لم
يَسْتَنْجِ بِالْأَحْجَارِ بَعْدَ ذلك
وَجْهُ قَوْلِهِ أن النَّصَّ وَرَدَ بِالْأَحْجَارِ فَيُرَاعَى عَيْنُ
الْمَنْصُوصِ عليه وَلِأَنَّ الرَّوْثَ نَجَسٌ في نَفْسِهِ وَالنَّجَسُ كَيْفَ
يُزِيلُ النَّجَاسَةَ
وَلَنَا أَنَّ النَّصَّ مَعْلُولٌ بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ وقد حَصَلَتْ بِهَذِهِ
الْأَشْيَاءِ كما تَحْصُلُ بِالْأَحْجَارِ إلَّا أَنَّهُ كُرِهَ بِالرَّوْثِ لِمَا
فيه من اسْتِعْمَالِ النَّجَسِ وَإِفْسَادِ عَلَفِ دَوَابِّ الْجِنِّ
وَكُرِهَ بِالْعَظْمِ لِمَا فيه من إفْسَادِ زَادِهِمْ على ما نَطَقَ بِهِ
الْحَدِيثُ فَكَانَ النَّهْيُ عن الِاسْتِنْجَاءِ بِهِ لِمَعْنًى في غَيْرِهِ لَا
في عَيْنِهِ فَلَا يُمْنَعُ الِاعْتِدَادُ بِهِ
وَقَوْلُهُ الرَّوْثُ نَجَسٌ في نَفْسِهِ مُسَلَّمٌ لَكِنَّهُ يَابِسٌ لَا
يَنْفَصِلُ منه شَيْءٌ إلَى الْبَدَنِ فَيَحْصُلُ بِاسْتِعْمَالِهِ نَوْعُ
طَهَارَةٍ بِتَقْلِيلِ النَّجَاسَةِ
وَيُكْرَهُ الِاسْتِنْجَاءُ بِخِرْقَةِ الدِّيبَاجِ وَمَطْعُومِ الْآدَمِيِّ من
الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لِمَا فيه من إفْسَادِ الْمَالِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ
وَكَذَا بِعَلَفِ الْبَهَائِمِ وهو الْحَشِيشُ لِأَنَّهُ تَنْجِيسٌ لِلطَّاهِرِ من
غَيْرِ ضَرُورَةٍ
____________________
(1/18)
وَالْمُعْتَبَرُ
في إقَامَةِ هذه السُّنَّةِ عِنْدَنَا هو الْإِنْقَاءُ دُونَ الْعَدَدِ فَإِنْ
حَصَلَ بِحَجَرٍ وَاحِدٍ كَفَاهُ وَإِنْ لم يَحْصُلْ بِالثَّلَاثِ زَادَ عليه
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْعَدَدُ مع الْإِنْقَاءِ شَرْطٌ حتى لو حَصَلَ
الْإِنْقَاءُ بِمَا دُونِ الثَّلَاثِ كَمَّلَ الثَّلَاثَ وَلَوْ تَرَكَ لم
يُجْزِهِ وَاحْتَجَّ ( الشَّافِعِيُّ ) بِمَا رَوَيْنَا عن النبي أَنَّهُ قال من
اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ أَمْرٌ بِالْإِيتَارِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا من حديث ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي
سَأَلَهُ أَحْجَارَ الِاسْتِنْجَاءِ فَأَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَرَمَى
الرَّوْثَةَ ولم يَسْأَلْهُ حَجَرًا ثَالِثًا وَلَوْ كان الْعَدَدُ فيه شَرْطًا
لَسَأَلَهُ إذْ لَا يُظَنُّ بِهِ تَرْكُ الْوَاجِبِ وَلِأَنَّ الْغَرَضَ منه هو
التَّطْهِيرُ وقد حَصَلَ بِالْوَاحِدِ وَلَا يَجُوزُ تَنْجِيسُ الطَّاهِرِ من
غَيْرِ ضَرُورَةِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَحُجَّةٌ عليه لِأَنَّ أَقَلَّ الْإِيتَارِ مَرَّةً
وَاحِدَةً على أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِيتَارِ ليس لِعَيْنِهِ بَلْ لِحُصُولِ
الطَّهَارَةِ فإذا حَصَلَتْ بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ
فَيَنْتَهِي حُكْمُ الْأَمْرِ
وَكَذَا لو اسْتَنْجَى بِحَجَرٍ وَاحِدٍ له ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ لِأَنَّهُ
بِمَنْزِلَةِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ في تَحْصِيلِ مَعْنَى الطَّهَارَةِ
وَيَسْتَنْجِي بِيَسَارِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي كان يَأْكُلُ بِيَمِينِهِ
وَيَسْتَجْمِرُ بِيَسَارِهِ وَعَنْ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ النبي كان
يَأْكُلُ بِيَمِينِهِ ويستنج ( ( ( ويستنجي ) ) ) بِيَسَارِهِ وَلِأَنَّ
الْيَسَارَ لِلْأَقْذَارِ وَهَذَا إذَا كانت النَّجَاسَةُ التي على الْمَخْرَجِ
قَدْرَ الدِّرْهَمِ أو أَقَلَّ منه فَإِنْ كانت أَكْثَرَ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ لم
يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه فقال بَعْضُهُمْ
لَا يَزُولُ إلَّا بِالْغَسْلِ
وقال بَعْضُهُمْ يَزُولُ بِالْأَحْجَارِ
وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ
بِالِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ مُطْلَقًا من غَيْرِ فَصْلٍ
وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لم يَتَعَدَّ النَّجَسُ الْمَخْرَجَ فَإِنْ تَعَدَّاهُ
يُنْظَرُ إنْ كان الْمُتَعَدِّي أَكْثَرَ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ يَجِبُ غَسْلُهُ
بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان أَقَلَّ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ إن النَّجَاسَةَ إذَا
تَجَاوَزَتْ مَخْرَجَهَا وَجَبَ غَسْلُهَا ولم يذكر خِلَافَ أَصْحَابِنَا
لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْكَثِيرَ من النَّجَاسَةِ ليس بِعَفْوٍ وَهَذَا كَثِيرٌ
وَلَهُمَا أَنَّ الْقَدْرَ الذي على الْمَخْرَجِ قَلِيلٌ وَإِنَّمَا يَصِيرُ
كَثِيرًا بِضَمِّ الْمُتَعَدِّي إلَيْهِ وَهُمَا نَجَاسَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ في
الْحُكْمِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ أَلَا يُرَى أَنَّ إحْدَاهُمَا تَزُولُ
بِالْأَحْجَارِ وَالْأُخْرَى لَا تَزُولُ إلَّا بِالْمَاءِ وإذا اخْتَلَفَتَا في
الْحُكْمِ يُعْطَى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُكْمُ نَفْسِهَا وَهِيَ في
نَفْسِهَا قَلِيلَةٌ فَكَانَتْ عَفْوًا
وَأَمَّا بَيَانُ ما يستنجي منه فَالِاسْتِنْجَاءُ مَسْنُونٌ من كل نَجَسٍ
يَخْرُجُ من السَّبِيلَيْنِ له عَيْنٌ مَرْئِيَّةٌ كَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ
وَالْمَنِيِّ وَالْوَدْيِ وَالْمَذْيِ وَالدَّمِ لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ
لِلتَّطْهِيرِ بِتَقْلِيلِ النَّجَاسَةِ وإذا كان النَّجِسُ الْخَارِجُ من
السَّبِيلَيْنِ عَيْنًا مَرْئِيَّةً تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّطْهِيرِ
بِالتَّقْلِيلِ وَلَا اسْتِنْجَاءَ في الرِّيحِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَيْنٍ
مَرْئِيَّةٍ
مبحث في السِّوَاكِ وَمِنْهَا السِّوَاكُ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال
لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ على أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كل صَلَاةٍ
وفي رِوَايَةٍ عِنْدَ كل وُضُوءٍ وَلِأَنَّهُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ على ما نَطَقَ
بِهِ الْحَدِيثُ السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ وَمَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال ما زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالسِّوَاكِ حتى خَشِيتُ
أَنْ يُدْرِدَنِيَ
وَرُوِيَ أَنَّهُ قال طَهِّرُوا مَسَالِكَ الْقُرْآنِ بِالسِّوَاكِ وَلَهُ أَنْ
يَسْتَاكَ بِأَيِّ سِوَاكٍ كان رَطْبًا أو يَابِسًا مَبْلُولًا أو غير مَبْلُولٍ
صَائِمًا كان أو غير صَائِمٍ قبل الزَّوَالِ أو بَعْدَهُ لِأَنَّ نُصُوصَ
السِّوَاكِ مُطْلَقَةٌ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُكْرَهُ السِّوَاكُ بَعْدَ الزَّوَالِ لِلصَّائِمِ لِمَا
يُذْكَرُ في كِتَابِ الصَّوْمِ
وَأَمَّا الذي هو في ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ
فَمِنْهَا النِّيَّةُ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هِيَ فَرِيضَةٌ
وَالْكَلَامُ في النِّيَّةِ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ وهو أَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ
وَالْعِبَادَةِ غَيْرُ لَازِمٍ في الْوُضُوءِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَازِمٌ
وَلِهَذَا صَحَّ من الْكَافِرِ عِنْدَنَا خِلَافًا له وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن
النبي أَنَّهُ قال الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ عِبَادَةٌ فَكَذَا
شَطْرُهُ وَلِهَذَا كان التَّيَمُّمُ عِبَادَةً حتى لَا يَصِحَّ بِدُونِ
النِّيَّةِ وَأَنَّهُ خَلَفٌ عن الْوُضُوءِ وَالْخَلَفُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى
الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا
برؤوسكم ( ( ( برءوسكم ) ) ) وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } أَمْرٌ
بِالْغَسْلِ وَالْمَسْحِ مُطْلَقًا عن شَرْطِ النِّيَّةِ وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ
الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ
وقَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى حتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي
سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُوا } نهى الْجُنُبَ عن قُرْبَانِ الصَّلَاةِ إذَا لم يَكُنْ
عَابِرَ سَبِيلٍ إلَى غَايَةِ الِاغْتِسَالِ مُطْلَقًا عن شَرْطِ النِّيَّةِ
فَيَقْتَضِي انْتِهَاءَ حُكْمِ النَّهْي عِنْدَ الِاغْتِسَالِ الْمُطْلَقِ
وَعِنْدَهُ لَا يَنْتَهِي إلَّا عِنْدَ اغْتِسَالٍ مَقْرُونٍ بِالنِّيَّةِ وَهَذَا
خِلَافُ الْكِتَابِ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى في آخِرِ آيَةِ الْوُضُوءِ { وَلَكِنْ يُرِيدُ
لِيُطَهِّرَكُمْ } وَحُصُولُ
____________________
(1/19)
الطَّهَارَةِ
لَا يَقِفُ على النِّيَّةِ بَلْ على اسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ في مَحَلٍّ قَابِلٍ
لِلطَّهَارَةِ وَالْمَاءُ مُطَهِّرٌ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال خُلِقَ
الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا ما غَيَّرَ طَعْمَهُ أو رِيحَهُ
أولونه
وقال اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْزَلْنَا من السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا }
وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلطَّاهِرِ في نَفْسِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ وَالْمَحَلُّ
قَابِلٌ على ما عُرِفَ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَمَلُ الْمَاءِ
خِلْقَةً وَفِعْلُ ( العبد ( ( ( اللسان ) ) ) ) فَضْلٌ في الْبَابِ حتى لو سَالَ
عليه الْمَطَرُ أَجْزَأَهُ عن الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُمَا
النِّيَّةُ إذْ اشْتِرَاطُهَا لِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ وَبِهِ
تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّازِمَ لِلْوُضُوءِ مَعْنَى الطَّهَارَةِ وَمَعْنَى
الْعِبَادَةِ فيه من الزَّوَائِدِ فَإِنْ اتَّصَلَتْ بِهِ النِّيَّةُ يَقَعُ
عِبَادَةً وَإِنْ لم تَتَّصِلْ بِهِ لَا يَقَعُ عِبَادَةً لَكِنَّهُ يَقَعُ
وَسِيلَةً إلَى إقَامَةِ الصَّلَاةِ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ كَالسَّعْيِ إلَى
الْجُمُعَةِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ شَطْرُ الصَّلَاةِ لِإِجْمَاعِنَا على
أَنَّهُ ليس بِشَرْطِ الْإِيمَان لِصِحَّةِ الْإِيمَانِ بِدُونِهِ وَلَا شَطْرِهِ
لِأَنَّ الْإِيمَانَ هو التَّصْدِيقُ والوضؤ ( ( ( والوضوء ) ) ) ليس من
التَّصْدِيقِ في شَيْءٍ فَكَانَ الْمُرَادُ منه أَنَّهُ شَطْرُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ
الْإِيمَانَ يُذْكَرُ على إرَادَةِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ قَبُولَهَا من لَوَازِمِ
الْإِيمَانِ
قال اللَّهُ تَعَالَى { وما كان اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ } أَيْ صَلَاتَكُمْ
إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ
وَهَكَذَا نَقُولُ في التَّيَمُّمِ إنه ليس بِعِبَادَةٍ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ
إذَا لم تَتَّصِلْ بِهِ النِّيَّةُ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِهِ لَا
لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَلْ لِانْعِدَامِ حُصُولِ الطَّهَارَةِ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ
ضَرُورِيَّةٌ جُعِلَتْ طَهَارَةً عِنْدَ مُبَاشَرَةِ فِعْلٍ لَا صِحَّةَ له
بِدُونِ الطَّهَارَةِ فإذا عَرِيَ عن النِّيَّةِ لم يَقَعْ طَهَارَةً بِخِلَافِ
الْوُضُوءِ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ حَقِيقِيَّةٌ فَلَا يَقِفُ على النِّيَّةِ
مبحث التَّسْمِيَةِ في الْوُضُوءِ وَمِنْهَا التَّسْمِيَةُ
وقال مَالِكٌ إنَّهَا فَرْضٌ إلَّا إذَا كان نَاسِيًا فَتُقَامُ التَّسْمِيَةُ
بِالْقَلْبِ مَقَامَ التَّسْمِيَةِ بِاللِّسَانِ دَفْعًا لِلْحَرِجِ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَا وُضُوءَ لِمَنْ لم يُسَمِّ
وَلَنَا أَنَّ آيَةَ الْوُضُوءِ مُطْلَقَةٌ عن شَرْطِ التَّسْمِيَةِ فَلَا
تُقَيَّدُ إلَّا بِدَلِيلٍ صَالِحٍ لِلتَّقْيِيدِ وَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ من
التوضىء ( ( ( المتوضئ ) ) ) هو الطَّهَارَةُ وَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ لَا يَقْدَحُ
فيها لِأَنَّ الْمَاءَ خُلِقَ طَهُورًا في الْأَصْلِ فَلَا تَقِفُ طَهُورِيَّتُهُ
على صُنْعِ الْعَبْدِ
وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ قال من تَوَضَّأَ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عليه كان طَهُورًا لِجَمِيعِ
بَدَنِهِ وَمَنْ تَوَضَّأَ ولم يذكر اسْمَ اللَّهِ كان طَهُورًا لِمَا أَصَابَ
الْمَاءَ من بَدَنِهِ وَالْحَدِيثُ من جُمْلَةِ الْآحَادِ وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ
مُطْلَقِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ثُمَّ هو مَحْمُولٌ على نَفْيِ
الْكَمَالِ وهو مَعْنَى السُّنَّةِ كَقَوْلِ النبي لَا صَلَاةَ لِجَارِ
الْمَسْجِدِ إلَّا في الْمَسْجِدِ وَبِهِ نَقُولُ أنه سُنَّةٌ لِمُوَاظَبَةِ النبي
عليها عِنْدَ افْتِتَاحِ الْوُضُوءِ وَذَلِكَ دَلِيلُ السُّنِّيَّةِ
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لم يُبْدَأْ فيه
بِذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في أَنَّ
التَّسْمِيَةَ يؤتي بها قبل الِاسْتِنْجَاءِ أو بَعْدَهُ قال بَعْضُهُمْ قَبْلَهُ
لِأَنَّهَا سُنَّةُ افْتِتَاحِ الْوُضُوءِ
وقال بَعْضُهُمْ بَعْدَهُ لِأَنَّ حَالَ الِاسْتِنْجَاءِ حَالُ كَشْفِ الْعَوْرَةِ
فَلَا يَكُونُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى في تِلْكَ الْحَالَةِ من بَابِ
التَّعْظِيمِ
مبحث غَسْلِ الْيَدَيْنِ وَمِنْهَا غَسْلُ الْيَدَيْنِ إلَى الرُّسْغَيْنِ قبل
إدْخَالِهِمَا في الْإِنَاءِ لِلْمُسْتَيْقِظِ من مَنَامِهِ وقال قَوْمٌ أنه
فَرْضٌ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ منهم من قال أنه فَرْضٌ من نَوْمِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْهُمْ من قال أنه فَرْضٌ من نَوْمِ اللَّيْلِ
خَاصَّةً وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال إذَا اسْتَيْقَظَ أحدكم
من مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسَنَّ يَدَهُ في الْإِنَاءِ حتى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا
فإنه لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ وَالنَّهْيُ عن الْغَمْسِ يَدُلُّ على
كَوْنِ الْغَسْلِ فَرْضًا
وَلَنَا أَنَّ الْغَسْلَ لو وَجَبَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَجِبَ من الْحَدَثِ أو
من النَّجَسِ لا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغَسْلُ من
الْحَدَثِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَوْ أَوْجَبْنَا عليه غَسْلَ الْعُضْوِ
عِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ من مَنَامِهِ مَرَّةً وَمَرَّةً عِنْدَ الْوُضُوءِ
لَأَوْجَبْنَا عليه الْغَسْلَ عِنْدَ الْحَدَثِ مَرَّتَيْنِ وَلَا سَبِيلَ إلَى
الثَّانِي لِأَنَّ النَّجَسَ غَيْرُ مَعْلُومٍ بَلْ هو مَوْهُومٌ وَإِلَيْهِ
أَشَارَ في الحديث حَيْثُ قال فإنه لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ وَهَذَا
إشَارَةٌ إلَى تَوَهُّمِ النَّجَاسَةِ وَاحْتِمَالِهَا فَيُنَاسِبُهُ النَّدْبُ
إلَى الْغُسْلِ وَاسْتِحْبَابُهُ لَا الْإِيجَابُ لِأَنَّ الْأَصْلَ هو
الطَّهَارَةُ فَلَا تَثْبُتُ النَّجَاسَةُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ فَكَانَ
الْحَدِيثُ مَحْمُولًا على نَهْيِ التَّنْزِيهِ لَا التَّحْرِيمِ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في وَقْتِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ أَنَّهُ قبل
الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ أو بَعْدَهُ على ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ قال بَعْضُهُمْ
قَبْلَهُ
وقال بَعْضُهُمْ بَعْدَهُ
وقال بَعْضُهُمْ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ تَكْمِيلًا لِلتَّطْهِيرِ
وَمِنْهَا
____________________
(1/20)
الِاسْتِنْجَاءُ
بِالْمَاءِ لِمَا رُوِيَ عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ منهم عَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ
وابن عُمَرَ وَحُذَيْفَةُ بن الْيَمَانِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا
يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ حتى قال ابن
عُمَرَ فَعَلْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ دَوَاءً وَطَهُورًا
وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كان يَأْمُرُ الناس بِالِاسْتِنْجَاءِ
بالماء بعد الاستنجاء بِالْأَحْجَارِ وَيَقُولُ إنَّ من كان قَبْلَكُمْ كان
يَبْعَرُ بَعْرًا وَأَنْتُمْ تَثْلِطُونَ ثَلْطًا فاتبعوا الْحِجَارَةَ الْمَاءَ
وهو كان من الْآدَابِ في عَصْرِ رسول اللَّهِ
وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ تَوَضَّأَ وَغَسَلَ
مَقْعَدَهُ بِالْمَاءِ ثَلَاثًا
وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { فيه رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا
وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } في أَهْلِ قباء ( ( ( قبا ) ) ) سَأَلَهُمْ
رسول اللَّهِ عن شَأْنِهِمْ فَقَالُوا إنَّا نُتْبِعُ الْحِجَارَةَ الْمَاءَ ثُمَّ
صَارَ بَعْدَ عَصْرِهِ من السُّنَنِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ كَالتَّرَاوِيحِ
وَالسُّنَّةُ فيه أَنْ يَغْسِلَ بِيَسَارِهِ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال
الْيَمِينُ لِلْوَجْهِ وَالْيَسَارُ لِلْمَقْعَدِ ثُمَّ الْعَدَدُ في
الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ ليس بِلَازِمٍ وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ هو
الْإِنْقَاءُ فَإِنْ لم يَكْفِهِ الْغَسْلُ ثَلَاثًا يَزِيدُ عليه وَإِنْ كان
الرَّجُلُ مُوَسْوَسًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ على السَّبْعِ لِأَنَّ قَطْعَ
الْوَسْوَسَةِ وَاجِبٌ وَالسَّبْعُ هو نِهَايَةُ الْعَدَدِ الذي وَرَدَ الشَّرْعُ
بِهِ في الْغَسْلِ في الْجُمْلَةِ كما في حديث وُلُوغِ الْكَلْبِ
مبحث في كَيْفِيَّةِ الِاسْتِنْجَاءِ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الِاسْتِنْجَاءِ
فَيَنْبَغِي أَنْ يُرْخِيَ نَفْسَهُ إرْخَاءً تَكْمِيلًا لِلتَّطْهِيرِ
وَيَنْبَغِي أَنْ يبتدىء بِأُصْبُعٍ ثُمَّ بِأُصْبُعَيْنِ ثُمَّ بِثَلَاثٍ
أَصَابِعَ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَنْدَفِعُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ تَنْجِيسُ
الطَّاهِرِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِبُطُونِ
الْأَصَابِعِ لَا برؤوسها ( ( ( برءوسها ) ) ) كَيْلَا يُشْبِهَ إدْخَالَ الْأُصْبُعِ
في الْعَوْرَةِ وَهَذَا في حَقِّ الرَّجُلِ
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فقال بَعْضُهُمْ تَفْعَلُ مِثْلَ ما يَفْعَلُ الرَّجُلُ
وقال بَعْضُهُمْ يَنْبَغِي أَنْ تَسْتَنْجِيَ برؤوس ( ( ( برءوس ) ) )
الْأَصَابِعِ لِأَنَّ تَطْهِيرَ الْفَرْجِ الْخَارِجِ في بَابِ الْحَيْضِ
وَالنِّفَاسِ وَالْجَنَابَةِ وَاجِبٌ وفي بَابِ الْوُضُوءِ سُنَّةٌ وَلَا يَحْصُلُ
ذلك إلَّا برؤوس ( ( ( برءوس ) ) ) الْأَصَابِعِ
وَأَمَّا الذي هو في أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ فَمِنْهَا الْمَضْمَضَةُ
وَالِاسْتِنْشَاقُ
وقال أَصْحَابُ الحديث منهم أَحْمَدُ بن حَنْبَلٍ هما ( ( ( وهما ) ) ) فَرْضَانِ
في الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ جميعا
وقال الشَّافِعِيُّ سُنَّتَانِ فِيهِمَا جميعا فَأَصْحَابُ الحديث احْتَجُّوا
بِمُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهِمَا في الْوُضُوءِ
وَالشَّافِعِيُّ يقول الْأَمْرُ بِالْغَسْلِ عن الْجَنَابَةِ يَتَعَلَّقُ
بِالظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ وَدَاخِلُ الْأَنْفِ وَالْفَمِ من الْبَوَاطِنِ
فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ
وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ في بَابِ الْوُضُوءِ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ
وَمَسْحُ الرَّأْسِ وَدَاخِلُ الْأَنْفِ وَالْفَمِ ليس من جُمْلَتِهَا أَمَّا ما
سِوَى الْوَجْهِ فَظَاهِرٌ وَكَذَا الْوَجْهُ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُوَاجَهُ
إلَيْهِ عَادَةً وَدَاخِلُ الْأَنْفِ وَالْفَمُ لَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ بِكُلِّ
حَالٍ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ بِخِلَافِ بَابِ الْجَنَابَةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ
هُنَاكَ تَطْهِيرُ الْبَدَنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا
فَاطَّهَّرُوا } أَيْ طَهِّرُوا أَبْدَانَكُمْ فَيَجِبُ غَسْلُ ما يُمْكِن
غَسْلُهُ من غَيْرِ حَرَجٍ ظَاهِرًا كان أو بَاطِنًا وَمُوَاظَبَةُ النبي
عَلَيْهِمَا في الْوُضُوءِ دَلِيلُ السُّنِّيَّةِ دُونَ الْفَرْضِيَّةِ فإنه كان
يُوَاظِبُ على سُنَنِ الْعِبَادَاتِ
وَمِنْهَا التَّرْتِيبُ في الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وهو تَقْدِيمُ
الْمَضْمَضَةِ على الِاسْتِنْشَاقِ لِأَنَّ النبي كان يُوَاظِبُ على التَّقْدِيمِ
وَمِنْهَا إفْرَادُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَاءٍ على حِدَةٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ السُّنَّةُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمَاءٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يَأْخُذَ
الْمَاءَ بِكَفِّهِ فَيَتَمَضْمَضُ بِبَعْضِهِ وَيَسْتَنْشِقُ بِبَعْضِهِ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ بِكَفٍّ وَاحِدٍ
وَلَنَا أَنَّ الَّذِينَ حَكَوْا وُضُوءَ رسول اللَّهِ أَخَذُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مَاءً جَدِيدًا وَلِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ مُنْفَرِدَانِ فَيُفْرَدُ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَاءٍ على حِدَةٍ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ وما رَوَاهُ
مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ بِكَفٍّ وَاحِدٍ بِمَاءٍ
وَاحِدٍ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذلك بِمَاءٍ على حِدَةٍ فَلَا يَكُونُ
حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ أو يُرَدُّ الْمُحْتَمَلُ إلَى الْمُحْكَمِ وهو ما
ذَكَرْنَا تَوْفِيقًا بين الدَّلِيلَيْنِ
وَمِنْهَا الْمَضْمَضَةُ ( باليمين ) وَالِاسْتِنْشَاقُ بِالْيَمِينِ وقال
بَعْضُهُمْ الْمَضْمَضَةُ بِالْيَمِينِ وَالِاسْتِنْشَاقُ بِالْيَسَارِ لِأَنَّ
الْفَمَ مَطْهَرَةٌ وَالْأَنْفَ مَقْذَرَةٌ وَالْيَمِينُ للأطهار وَالْيَسَارُ
لِلْأَقْذَارِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن الْحَسَن بن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ اسْتَنْثَرَ
بِيَمِينِهِ فقال له مُعَاوِيَةُ جَهِلْتَ السُّنَّةَ فقال الْحَسَنُ رضي اللَّهُ
عنه كَيْفَ أَجْهَلُ وَالسُّنَّةُ خَرَجَتْ من بُيُوتِنَا أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ
النبي قال الْيَمِينُ لِلْوَجْهِ وَالْيَسَارُ لِلْمَقْعَدِ
وَمِنْهَا الْمُبَالَغَةُ في الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا في حَالِ
الصَّوْمِ فَيُرْفَقُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي قال لِلَقِيطِ بن صَبِرَةَ بَالِغْ
في الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا فأرفق وَلِأَنَّ
الْمُبَالَغَةَ فِيهِمَا من بَابِ التَّكْمِيلِ في التَّطْهِيرِ فَكَانَتْ
مَسْنُونَةً إلَّا في حَالِ الصَّوْمِ لِمَا فيها من تَعْرِيضِ الصَّوْمِ
لِلْفَسَادِ
مبحث في التَّرْتِيبِ
____________________
(1/21)
في
الْوُضُوءِ وَمِنْهَا التَّرْتِيبُ في الْوُضُوءِ لِأَنَّ النبي وَاظَبَ عليه
وَمُوَاظَبَتُهُ عليه دَلِيلُ السُّنَّةِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ هو فَرْضٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْغَسْلِ وَالْمَسْحِ في
آيَةِ الْوُضُوءِ بِحَرْفِ الْوَاوِ وإنها لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَكِنَّ
الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ فَيُحْمَلُ على التَّرْتِيبِ
بِفِعْلِ رسول اللَّهِ ( حَيْثُ غَسَلَ ) مُرَتِّبًا فَكَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا
لِأَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ
وَلَنَا أَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ وَالْجُمَعُ بِصِفَةِ
التَّرْتِيبِ جَمْعٌ مُقَيَّدٌ وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا
بِدَلِيلٍ وَفِعْلُ النبي يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ على مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ وهو
أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذلك لِدُخُولِهِ تَحْتَ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَكِنْ ( لا
من حَيْثُ أنه جَمْعٌ بَلْ ) من حَيْثُ أنه مُرَتَّبٌ وَعَلَى هذا الْوَجْهِ
يَكُونُ عَمَلًا بِمُوَافَقَةِ الْكِتَابِ كَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً في
كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أو الظِّهَارِ أَنَّهُ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَذَا لَا
يَنْفِي أَنْ تَكُونَ الرَّقَبَةُ الْمُطْلَقَةُ مُرَادَةً من النَّصِّ لِأَنَّ
جَوَازَ الْمُؤْمِنَةِ من حَيْثُ هِيَ رَقَبَةٌ لَا من حَيْثُ هِيَ مُؤْمِنَةٌ
كَذَا هَهُنَا وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ لِلتَّطْهِيرِ لِمَا ذَكَرْنَا في
الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالتَّطْهِيرُ لَا يَقِفُ على التَّرْتِيبِ لِمَا
مَرَّ
مبحث الْمُوَالَاةِ في الْوُضُوءُ وَمِنْهَا الْمُوَالَاةُ وَهِيَ أَنْ لَا
يَشْتَغِلُ المتوضىء ( ( ( المتوضئ ) ) ) بين أَفْعَالِ الْوُضُوءِ بِعَمَلٍ ليس
منه لِأَنَّ النبي هَكَذَا كان يَفْعَلُ وَقِيلَ في تَفْسِيرِ الْمُوَالَاةِ أَنْ
لَا يَمْكُثَ في أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ مِقْدَارَ ما يَجِفُّ فيه الْعُضْوُ
الْمَغْسُولُ فَإِنْ مَكَثَ تَنْقَطِعُ الْمُوَالَاةُ
وَعِنْدَ مَالِكٍ هِيَ فَرْضٌ
وَقِيلَ إنَّهُ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَالْكَلَامُ في الطَّرَفَيْنِ على
نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في التَّرْتِيبِ فَافْهَمْ
مبحث التَّثْلِيثِ في الْغَسْلِ وَمِنْهَا التَّثْلِيثُ في الْغَسْلِ وهو أَنْ
يَغْسِلَ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وقال هذا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ
الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ وَتَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وقال هذا وُضُوءُ من
يُضَاعِفُ اللَّهُ له الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ وَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وقال
هذا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ من قَبْلِي فَمَنْ زَادَ على هذا أو نَقَصَ
فَقَدْ تَعَدَّى وَظَلَمَ وفي رِوَايَةٍ فَمَنْ زَادَ أو نَقَصَ فَهُوَ من
الْمُعْتَدِينَ وَاخْتُلِفَ في تَأْوِيلِهِ قال بَعْضُهُمْ زَادَ على مَوَاضِعِ
الْوُضُوءِ وَنَقَصَ عن مَوَاضِعِهِ
وقال بَعْضُهُمْ زَادَ على ثَلَاثِ مَرَّاتٍ ولم يَنْوِ ابْتِدَاءَ الْوُضُوءِ
وَنَقَصَ عن الْوَاحِدَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ على الِاعْتِقَادِ دُونَ
نَفْسِ الْفِعْلِ مَعْنَاهُ فَمَنْ زَادَ على الثَّلَاثِ أو نَقَصَ عن الثَّلَاثِ
بِأَنْ لم يَرَ الثَّلَاثَ سُنَّةً لِأَنَّ من لم يَرَ سُنَّةَ رسول اللَّهِ
سُنَّةً فَقَدْ ابْتَدَعَ فَيَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ حتى لو زَادَ على الثَّلَاثِ أو
نَقَصَ وَرَأَى الثَّلَاثَ سُنَّةً لَا يَلْحَقُهُ هذا الْوَعِيدُ لِأَنَّ
الزِّيَادَةَ على الثَّلَاثِ من بَابِ الْوُضُوءِ على الْوُضُوءِ إذ نَوَى بِهِ
وإنه نُورٌ على نُورٍ على لِسَانِ رسول اللَّهِ وَكَذَا جَعَلَ رسول اللَّهِ
الْوُضُوءَ مَرَّتَيْنِ سَبَبًا لِتَضْعِيفِ الثَّوَابِ فَكَانَ الْمُرَادُ منه
الِاعْتِقَادَ لَا نَفْسَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ
مبحث الْبُدَاءَةِ بِالْيَمِينِ وَمِنْهَا الْبُدَاءَةُ بِالْيَمِينِ في ( غسل )
الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان يُوَاظِبُ على ذلك
وَهِيَ سُنَّةٌ في الْوُضُوءِ وفي غَيْرِهِ من الْأَعْمَالِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ
النبي كان يُحِبُّ التَّيَامُنَ في كل شَيْءٍ حتى التَّنَعُّلَ وَالتَّرَجُّلَ
وَمِنْهَا الْبُدَاءَةُ فيه من رؤوس الْأَصَابِعِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان
يَفْعَلُ ذلك
وَمِنْهَا تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ بَعْدَ إيصَالِ الْمَاءِ إلَى منابتها لِقَوْلِ
النبي خَلِّلُوا أَصَابِعَكُمْ قبل أَنْ تُخَلِّلَهَا نَارُ جَهَنَّمَ
( وفي رِوَايَةٍ خَلِّلُوا أَصَابِعَكُمْ لَا تُخَلِّلُهَا نَارُ جَهَنَّمَ )
وَلِأَنَّ التَّخْلِيلَ من بَابِ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ فَكَانَ مَسْنُونًا وَلَوْ
كان في أُصْبُعِهِ خَاتَمٌ فَإِنْ كان وَاسِعًا فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحْرِيكِ
وَإِنْ كان ضَيِّقًا فَلَا بُدَّ من التَّحْرِيكِ لِيَصِلَ الْمَاءُ إلَى ما
تَحْتَهُ
مبحث الِاسْتِيعَابِ في مَسْحِ الرَّأْسِ وَمِنْهَا الِاسْتِيعَابُ في مَسْحِ
الرَّأْسِ وهو أَنْ يَمْسَحَ كُلَّهُ لِمَا رَوَى عبد اللَّهِ بن زَيْدٍ أَنَّ
النبي مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ كِلْتَيْهِمَا أَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ
وَعِنْدَ مَالِكٍ فَرْضٌ
وقد مَرَّ الْكَلَامُ فيه
وَمِنْهَا الْبُدَاءَةُ بِالْمَسْحِ من مُقَدَّمِ الرَّأْسِ وقال الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ السُّنَّةُ الْبُدَاءَةُ من الْهَامَةِ فَيَضَعُ يَدَيْهِ عليها
فَيَمُدُّهُمَا إلَى مُقَدَّمِ الرَّأْسِ ثُمَّ يُعِيدُهُمَا إلَى الْقَفَا
وَهَكَذَا رَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا
رُوِيَ أَنَّ النبي كان يبتدىء بِالْمَسْحِ من مُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَلِأَنَّ
السُّنَّةَ في الْمَغْسُولَاتِ الْبُدَاءَةُ بِالْغَسْلِ من أَوَّلِ الْعُضْوِ
فَكَذَا في الْمَمْسُوحَاتِ
وَمِنْهَا أَنْ يَمْسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالتَّثْلِيثُ مَكْرُوهٌ
وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ السُّنَّةُ هِيَ التَّثْلِيثُ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي
حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَمْسَحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِمَاءٍ وَاحِدٍ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بن عَفَّانَ وَعَلِيًّا رضي
اللَّهُ عنهما حَكَيَا وُضُوءَ رسول اللَّهِ فَغَسَلَا ثَلَاثًا وَمَسَحَا
بِالرَّأْسِ ثَلَاثًا وَلِأَنَّ هذا رُكْنٌ أَصْلِيٌّ في الْوُضُوءِ فَيُسَنُّ فيه
التَّثْلِيثُ قِيَاسًا على الرُّكْنِ الْآخَرَ وهو الْغَسْلُ بِخِلَافِ الْمَسْحِ
على الْخُفَّيْنِ لِأَنَّهُ ليس
____________________
(1/22)
بِرُكْنٍ
أَصْلِيٍّ بَلْ ثَبَتَ رُخْصَةً وَمَبْنَى الرُّخْصَةِ على الْخِفَّةِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن مُعَاذٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال رأيت رَسُولَ اللَّهِ
تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَرَأَيْتُهُ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ
وَرَأَيْتُهُ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا وما رَأَيْتُهُ مَسَحَ على رَأْسِهِ إلَّا
مَرَّةً وَاحِدَةً وَكَذَا رُوِيَ عن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ
عَلَّمَ الناس وُضُوءَ رسول اللَّهِ وَمَسَحَ مَرَّةً وَاحِدَةً
وَأَمَّا حِكَايَةُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رضي اللَّهُ منهما فَالْمَشْهُورُ منهما
أَنَّهُمَا مَسَحَا مَرَّةً وَاحِدَةً كَذَا ذَكَرَ أبو دَاوُد في سُنَنِهِ أَنَّ
الصَّحِيحَ من حديث عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ
وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَكَذَا رَوَى عبد خَيْرٍ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ
عنه أَنَّهُ تَوَضَّأَ في رَحْبَةِ الْكُوفَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَمَسَحَ
رَأْسَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً ثُمَّ قال من سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وُضُوءِ رسول
اللَّهِ فَلْيَنْظُرْ إلَى وُضُوئِي هذا وَلَوْ ثَبَتَ ما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ
فَهُوَ مَحْمُولٌ على أَنَّهُ فَعَلَهُ بِمَاءٍ وَاحِدٍ
وَذَلِكَ سُنَّةٌ عِنْدَنَا في رِوَايَةِ الْحَسَنِ عن أبي حَنِيفَةَ وَلِأَنَّ
التَّثْلِيثَ بِالْمِيَاهِ الْجَدِيدَةِ تَقْرِيبٌ إلَى الْغَسْلِ فَكَانَ
مُخِلًّا بِاسْمِ الْمَسْحِ وَاعْتِبَارُهُ بِالْغَسْلِ فَاسِدٌ من وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَسْحَ بُنِيَ على التَّخْفِيفِ
وَالتَّكْرَارُ من بَابِ التَّغْلِيظِ فَلَا يَلِيقُ بِالْمَسْحِ بِخِلَافِ
الْغَسْلِ
وَالثَّانِي أَنَّ التَّكْرَارَ في الْغَسْلِ مُفِيدٌ لِحُصُولِ زِيَادَةِ
نَظَافَةٍ وَوَضَاءَةٍ لَا تَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَلَا يَحْصُلُ ذلك
بِتَكْرَارِ الْمَسْحِ فَبَطَلَ الْقِيَاسُ
مبحث الْأُذُنَيْنِ وَمِنْهَا أَنْ يَمْسَحَ الْأُذُنَيْنِ ظَاهِرَهُمَا
وَبَاطِنَهُمَا بِمَاءِ الرَّأْسِ
وقال الشَّافِعِيُّ السُّنَّةُ أَنْ يَأْخُذَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاءً
جَدِيدًا
وَجْهُ قَوْلِهِ إنهما عُضْوَانِ مُنْفَرِدَانِ وَلَيْسَا من الرَّأْسِ حَقِيقَةً
وَحُكْمًا
أَمَّا الْحَقِيقَةُ فإن الرَّأْسَ مَنْبَتُ الشَّعْرِ وَلَا شَعْرَ عَلَيْهِمَا
وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَيْهِمَا لَا يَنُوبُ عن مَسْحِ
الرَّأْسِ كَسَائِرِ أَجْزَاءِ الرَّأْسِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَسَحَ
أُذُنَيْهِ بِمَاءٍ مَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ وَرُوِيَ عن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي
اللَّهُ عنه عن النبي أَنَّهُ قال الْأُذُنَانِ من الرَّأْسِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ
ما أَرَادَ بِهِ بَيَانَ الْخِلْقَةِ بَلْ بَيَانَ الْحُكْمِ إلَّا أَنَّهُ لَا
يَنُوبُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا عن مَسْحِ الرَّأْسِ لِأَنَّ وُجُوبَ مَسْحِ
الرَّأْسِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَكَوْنُ الْأُذُنَيْنِ من الرَّأْسِ ثَبَتَ
بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ فَلَوْ نَابَ
الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا عن مَسْحِ الرَّأْسِ لَجَعَلْنَاهُمَا من الرَّأْسِ قَطْعًا
وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَصَارَ هذا كَقَوْلِ النبي الْحَطِيمُ من الْبَيْتِ
فَالْحَدِيثُ يُفِيدُ كَوْنَ الْحَطِيمِ من الْبَيْتِ حتى يُطَافَ بِهِ كما
يُطَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ إلَيْهِ لِأَنَّ
وُجُوبَ الصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَكَوْنُ
الْحَطِيمِ من الْبَيْتِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْعَمَلُ بِخَبَرِ
الْوَاحِدِ إنَّمَا يَجِبُ إذَا لم يَتَضَمَّنْ إبْطَالَ الْعَمَلِ بِدَلِيلٍ
مَقْطُوعٍ بِهِ وأما إذَا تَضَمَّنَ فَلَا كَذَلِكَ هَهُنَا
وَأَمَّا تَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ من الْآدَابِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ سُنَّةٌ هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في كِتَابِ الْآثَارِ
لِأَبِي يُوسُفَ ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ تَوَضَّأَ وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ
في لِحْيَتِهِ كَأَنَّهَا أَسْنَانُ الْمِشْطِ وَلَهُمَا أَنَّ الَّذِينَ حَكَوْا
وُضُوءَ رسول اللَّهِ ما خَلَّلُوا لِحَاهُمْ
وما رَوَاهُ أبو يُوسُفَ فَهُوَ حِكَايَةُ فِعْلِهِ ذلك اتِّفَاقًا لَا بِطَرِيقِ
الْمُوَاظَبَةِ
وَهَذَا لَا يَدُلُّ على السُّنَّةِ
مبحث مَسْحِ الرَّقَبَةِ وَأَمَّا مَسْحُ الرَّقَبَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ
الْمَشَايِخُ فيه
قال أبو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ أنه سُنَّةٌ
وقال أبو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ أنه أَدَبٌ
فَصْلٌ وَأَمَّا آدَابُ الْوُضُوءِ فَمِنْهَا أَنْ لَا يَسْتَعِينَ المتوضىء ( ( (
المتوضئ ) ) ) على وُضُوئِهِ بِأَحَدٍ لِمَا رُوِيَ عن أبي الْجَنُوبِ أَنَّهُ قال
رأيت عَلِيًّا يَسْتَقِي ماءا ( ( ( ماء ) ) ) لِوُضُوئِهِ فَبَادَرْتُ أَسْتَقِي
له فقال مَهْ يا أَبَا الْجَنُوبِ فَإِنِّي رأيت عُمَرَ يَسْتَقِي مَاءً
لِوُضُوئِهِ فَبَادَرْتُ أَسْتَقِي له فقال مَهْ يا أَبَا الْحَسَنِ فَإِنِّي رأيت
رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَسْتَقِي مَاءً لِوُضُوئِهِ فَبَادَرْتُ
أَسْتَقِي له فقال مَهْ يا عُمَرُ إنِّي لَا أُرِيدُ أَنْ يُعِينَنِي على صَلَاتِي
أَحَدٌ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يُسْرِفَ في الْوُضُوءِ وَلَا يُقَتِّرَ وَالْأَدَبُ فِيمَا
بين الْإِسْرَافِ وَالتَّقْتِيرِ إذْ الْحَقُّ بين الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا
وَمِنْهَا دَلْكُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ خُصُوصًا في الشِّتَاءِ لِأَنَّ الْمَاءَ
يَتَجَافَى عن الْأَعْضَاءِ
وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ عِنْدَ كل فِعْلٍ من أَفْعَالِ الْوُضُوءِ بِالدَّعَوَاتِ
الْمَأْثُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَأَنْ يَشْرَبَ فَضْلَ وُضُوئِهِ قَائِمًا إذَا لم
يَكُنْ صَائِمًا ثُمَّ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَيَقُولَ أَشْهَدُ أَنْ لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللَّهِ وَيَمْلَأَ
الْآنِيَةَ عِدَّةً لِوُضُوءٍ آخَرَ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ ذلك
مِمَّا وَرَدَ في الْأَخْبَارِ أَنَّهُ فَعَلَهُ صلى
____________________
(1/23)
اللَّهُ
عليه وسلم وَلَكِنْ لم يُوَاظِبْ عليه
وَهَذَا هو الْفَرْقُ بين السُّنَّةِ وَالْأَدَبِ أَنَّ السُّنَّةَ ما وَاظَبَ
عليه رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ولم يَتْرُكْهُ إلَّا مَرَّةً أو
مَرَّتَيْنِ لِمَعْنًى من الْمَعَانِي
وَالْأَدَبُ ما فَعَلَهُ مَرَّةً أو مَرَّتَيْنِ ولم يُوَاظِبْ عليه
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَاَلَّذِي يَنْقُضُهُ الْحَدَثُ
وَالْكَلَامُ في الْحَدَثِ في الْأَصْلِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ
مَاهِيَّتِه
وَالثَّانِي في بَيَانِ حُكْمِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْحَدَثُ نَوْعَانِ حَقِيقِيٌّ وَحُكْمِيٌّ
أَمَّا الْحَقِيقِيُّ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه
قال أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ هو خُرُوجُ النَّجَسِ من الْآدَمِيِّ الْحَيِّ
سَوَاءٌ كان من السَّبِيلَيْنِ الدُّبُرِ وَالذَّكَرِ أو فَرْجِ الْمَرْأَةِ أو من
غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ الْجُرْحِ وَالْقُرْحِ وَالْأَنْفِ والفم من الدَّمِ
وَالْقَيْحِ وَالرُّعَافِ وَالْقَيْءِ
وَسَوَاءٌ كان الْخَارِجُ من السَّبِيلَيْنِ مُعْتَادًا كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ
وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أو غير
مُعْتَادٍ كَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ
وقال زُفَرُ ظُهُورُ النَّجَسِ من الْآدَمِيِّ الْحَيِّ
وقال مَالِكٌ في قَوْلٍ هو خُرُوجُ النَّجَسِ الْمُعْتَادِ من السَّبِيلِ
الْمُعْتَادِ فلم يَجْعَلْ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ حَدَثًا لِكَوْنِهِ غير مُعْتَادٍ
وقال الشَّافِعِيُّ هو خُرُوجُ شَيْءٍ من السَّبِيلَيْنِ فَلَيْسَ بِحَدَثٍ وهو
أَحَدُ قَوْلَيْ مَالِكٍ
أما قَوْلُ مَالِكٍ فَمُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وهو قَوْلُهُ الْمُسْتَحَاضَةُ
تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كل صَلَاةٍ
وَقَوْلُهُ لِلْمُسْتَحَاضَةِ تَوَضَّئِي وَصَلِّي وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ على
الْحَصِيرِ قَطْرًا
وَقَوْلُهُ تَوَضَّئِي فإنه دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الذي
يَقْتَضِي كَوْنَ الْخُرُوجِ من السَّبِيلَيْنِ حَدَثًا لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين
الْمُعْتَادِ وَغَيْرِ الْمُعْتَادِ لِمَا يُذْكَرُ فَالْفَصْلُ يَكُونُ
تَحَكُّمًا على الدَّلِيلِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ فَهُوَ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول
اللَّهِ أَنَّهُ قَاءَ فَغَسَلَ فَمَهُ فَقِيلَ له أَلَا تَتَوَضَّأُ وُضُوءَكَ
لِلصَّلَاةِ فقال هَكَذَا الْوُضُوءُ من الْقَيْءِ
وَعَنْ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ حين طُعِنَ كان يُصَلِّي وَالدَّمُ يَسِيلُ
منه وَلِأَنَّ خُرُوجَ النَّجَسِ من الْبَدَنِ زَوَالُ النَّجَسِ عن الْبَدَنِ
وَزَوَالُ النَّجَسِ عن الْبَدَنِ كَيْفَ يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْبَدَنِ مع أَنَّهُ
لَا نَجَسَ على أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ حَقِيقَةً وَهَذَا هو الْقِيَاسُ في
السَّبِيلَيْنِ إلَّا أَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ عُرِفَ بِالنَّصِّ غَيْرُ مَعْقُولٍ
فَيُقْتَصَرُ على مَوْرِدِ النَّصِّ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال
دَخَلْتُ على رسول اللَّهِ فَغَرَفْتُ له غَرْفَةً فَأَكَلَهَا فَجَاءَ
الْمُؤَذِّنُ فقلت الْوُضُوءَ يا رَسُولَ اللَّهِ فقال إنَّمَا عَلَيْنَا
الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ ليس مِمَّا يَدْخُلُ علق ( ( ( وعلق ) ) ) الْحُكْمَ
بِكُلِّ ما يَخْرُجُ أو بِمُطْلَقِ الْخَارِجِ من غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمَخْرَجِ
إلَّا أَنَّ خُرُوجَ الطَّاهِرِ ليس بِمُرَادٍ فَبَقِيَ خُرُوجُ النَّجَسِ
مُرَادًا
وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من قَاءَ أو
رَعَفَ في صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيَبْنِ على صَلَاتِهِ ما
لم يَتَكَلَّمْ
وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ على الشَّافِعِيِّ في فَصْلَيْنِ في وُجُوبِ الْوُضُوءِ
بِخُرُوجِ النَّجَسِ من غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ وفي جَوَازِ الْبِنَاءِ عِنْدَ
سَبْقِ الْحَدَثِ في الصَّلَاةِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ قال لِفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ توضيء ( ( ( توضئي ) ) ) فإنه
دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ أَمَرَهَا بِالْوُضُوءِ وَعَلَّلَ بِانْفِجَارِ دَمِ
الْعِرْقِ لَا بِالْمُرُورِ على الْمَخْرَجِ
وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال الْوُضُوءُ من كل دَمٍ
سَائِلٍ
وَالْأَخْبَارُ في هذا الْبَابِ وَرَدَتْ مَوْرِدَ الِاسْتِفَاضَةِ حتى رُوِيَ عن
عَشَرَةٍ من الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قالوا مِثْلَ مَذْهَبِنَا وَهُمْ عُمَرُ
وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وابن مَسْعُودٍ وابن عَبَّاسٍ وابن عُمَرَ وَثَوْبَانُ وأبو
الدَّرْدَاءِ وَقِيلَ في التَّاسِعِ وَالْعَاشِرِ أنهما زَيْدُ بن ثَابِتٍ وأبو
مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَهَؤُلَاءِ فُقَهَاءُ الصَّحَابَةِ مُتَّبِعٌ لهم في
فَتْوَاهُمْ فَيَجِبُ تَقْلِيدُهُمْ وَقِيلَ أنه مَذْهَبُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ
بِالْجَنَّةِ وَلِأَنَّ الْخُرُوجَ من السَّبِيلَيْنِ إنَّمَا كان حَدَثًا
لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَنْجِيسَ ظَاهِرِ الْبَدَنِ لِضَرُورَةِ تَنَجُّسِ مَوْضِعِ
الْإِصَابَةِ فنزول ( ( ( فتزول ) ) ) الطَّهَارَةُ ضَرُورَةً إذْ النَّجَاسَةُ
وَالطَّهَارَةُ ضِدَّانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ في مَحَلٍّ وَاحِدٍ في زَمَانٍ
وَاحِدٍ وَمَتَى زَالَتْ الطَّهَارَةُ عن ظَاهِرِ الْبَدَنِ خَرَجَ من أَنْ
يَكُونَ أَهْلًا لِلصَّلَاةِ التي هِيَ مُنَاجَاةٌ مع اللَّهِ تَعَالَى فَيَجِبُ
تَطْهِيرُهُ بِالْمَاءِ لِيَصِيرَ أَهْلًا لها
وما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ محمول ( ( ( محتمل ) ) ) يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَاءَ
أَقَلَّ من مِلْءِ الْفَمِ وَكَذَا اسْمُ الْوُضُوءِ يَحْتَمِلُ غَسْلَ الْفَمِ
فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ أو نحمله ( ( ( محمله ) ) ) على ما
قُلْنَا تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ
وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَلَيْسَ فيه أَنَّهُ كان يُصَلِّي بَعْدَ الطَّعْنِ من
غَيْرِ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ بَعْدَ الطَّعْنِ
مع سَيَلَانِ الدَّمِ وَصَلَّى وَبِهِ نَقُولُ كما في الْمُسْتَحَاضَةِ وَقَوْلُهُ
أن خُرُوجَ النَّجَسِ عن الْبَدَنِ زَوَالُ النَّجَسِ عن الْبَدَنِ فَكَيْفَ
يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ مُسَلَّمٌ أَنَّهُ يَزُولُ بِهِ شَيْءٌ من نَجَاسَةِ
الْبَاطِنِ لَكِنْ يَتَنَجَّسُ بِهِ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الْقَدْرَ الذي زَالَ
إلَيْهِ أَوْجَبَ زَوَالَ الطَّهَارَةِ عنه وَالْبَدَنُ في حُكْمِ الطَّهَارَةِ
وَالنَّجَاسَةِ لَا يتجرأ ( ( ( يتجزأ ) ) ) وَالْعَزِيمَةُ هِيَ غَسْلُ كل
الْبَدَنِ إلَّا أَنَّهُ أُقِيمَ غَسْلُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ مَقَامَ غَسْلِ كل
____________________
(1/24)
الْبَدَنُ
رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ في
الْأَصْلِ مَعْقُولٌ فَيَتَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ وَقَوْلُهُ لَا نَجَاسَةَ على
أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ حقيقية ( ( ( حقيقة ) ) ) مَمْنُوعٌ بَلْ عليها نَجَاسَةٌ
حَقِيقِيَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ وَإِنْ كان الْحِسُّ لَا يُدْرِكُهَا وَهِيَ نَجَاسَةُ
الْحَدَثِ على ما عُرِفَ في الْخِلَافِيَّاتِ
وإذا عرف ( ( ( عرفنا ) ) ) مَاهِيَّةَ الْحَدَثِ نُخَرِّجُ عليه الْمَسَائِلَ
فَنَقُولُ إذَا ظَهَرَ شَيْءٌ من الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ على رَأْسِ الْمَخْرَجِ
انْتَقَضَتْ الطَّهَارَةُ لِوُجُودِ الْحَدَثِ وهو خُرُوجُ النَّجَسُ وهو
انْتِقَالُهُ من الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَخْرَجِ عُضْوٌ
ظَاهِرٌ وَإِنَّمَا انْتَقَلَتْ النَّجَاسَةُ إلَيْهِ من مَوْضِعٍ آخَرَ فإن
مَوْضِعَ الْبَوْلِ الْمَثَانَةُ وَمَوْضِعَ الْغَائِطِ مَوْضِعٌ في الْبَطْنِ
يُقَالُ له قُولُونٌ وَسَوَاءٌ كان الْخَارِجُ قَلِيلًا أو كَثِيرًا سَالَ عن
رَأْسِ الْمَخْرَجِ أو لم يَسِلْ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا الْمَنِيُّ وَالْمَذْيُ
وَالْوَدْيُ وَدَمُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسُ وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ لِأَنَّهَا
كُلَّهَا أَنْجَاسٌ لِمَا يُذْكَر في بَيَانِ أَنْوَاعِ الْأَنْجَاسِ وقد
انْتَقَلَتْ من الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ فَوَجَدَ خُرُوجَ النَّجَسِ من
الْآدَمِيِّ الْحَيِّ فَيَكُونُ حَدَثًا إلَّا أَنَّ بَعْضَهَا يُوجِبُ الْغُسْلَ
وهو الْمَنِيُّ وَدَمُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسُ وَبَعْضُهَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ وهو
الْمَذْيُ وَالْوَدْيُ وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ لِمَا يُذْكَرُ إنْ شَاءَ اللَّه
تَعَالَى
وَكَذَلِكَ خُرُوجُ الْوَلَدِ وَالدُّودَةِ وَالْحَصَا وَاللَّحْمِ وَعُودِ
الْحُقْنَةِ بَعْدَ غَيْبُوبَتِهَا لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ وَإِنْ كانت طَاهِرَةٌ
في أَنْفُسِهَا لَكِنَّهَا لَا تَخْلُو عن قَلِيلِ نَجَسٍ يَخْرُجُ مَعَهَا
وَالْقَلِيلُ من السَّبِيلَيْنِ خَارِجٌ لِمَا بَيَّنَّا وَكَذَا الرِّيحُ
الْخَارِجَةُ من الدُّبُرِ لِأَنَّ الرِّيحَ وَإِنْ كانت جِسْمًا طَاهِرًا في
نَفْسِهِ لَكِنَّهُ لَا يَخْلُو عن قَلِيلِ نَجَسٍ يَقُومُ بِهِ لِانْبِعَاثِهِ من
مَحَلِّ الْأَنْجَاسِ
وَرُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا وُضُوءَ إلَّا من صَوْتٍ أو رِيحٍ
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بين
إليتيه فيقول أَحْدَثْت أَحْدَثْت فَلَا يَنْصَرِفَنَّ حتى يَسْمَعَ صَوْتًا أو
يَجِدَ رِيحًا
وَأَمَّا الرِّيحُ الْخَارِجَةُ من قُبُلِ الْمَرْأَةِ أو ذَكَرِ الرَّجُلِ فلم
يذكر حُكْمَهَا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال فيها الْوُضُوءُ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ فيها إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ
مُفْضَاةً فَيَخْرُجُ منها رِيحٌ مُنْتِنَةٌ فَيُسْتَحَبُّ لها الْوُضُوءُ
وَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَسْلَكُ النَّجَاسَةِ
كَالدُّبُرِ فَكَانَتْ الرِّيحُ الْخَارِجَةُ مِنْهُمَا كَالْخَارِجَةِ من
الدُّبُرِ فَيَكُونُ حَدَثًا
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الرِّيحَ لَيْسَتْ بِحَدَثٍ في نَفْسِهَا
لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ وَخُرُوجُ الطَّاهِرِ لَا يُوجِبُ انْتِقَاضَ الطَّهَارَةِ
وَإِنَّمَا انْتِقَاضُ الطَّهَارَةِ بِمَا يَخْرُجُ بِخُرُوجِهَا من أَجْزَاءِ
النَّجَسِ وَمَوْضِعُ الْوَطْءِ من فَرْجِ الْمَرْأَةِ ليس بِمَسْلَكِ الْبَوْلِ
فَالْخَارِجُ منه من الرِّيحِ لَا يُجَاوِرُهُ النَّجَسُ وإذا كانت مُفْضَاةً
فَقَدْ صَارَ مَسْلَكُ الْبَوْلِ وَمَسْلَكُ الْوَطْءِ مَسْلَكًا وَاحِدًا فَيُحْتَمَلُ
أَنَّ الرِّيحَ خَرَجَتْ من مَسْلَكِ الْبَوْلِ فَيُسْتَحَبُّ لها الْوُضُوءُ
وَلَا يَجِبُ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ الثَّابِتَةَ بِيَقِينٍ لَا يُحْكَمُ
بِزَوَالِهَا بِالشَّكِّ وَقِيلَ إنَّ خُرُوجَ الرِّيحِ من الذَّكَرِ لَا
يُتَصَوَّرُ وَإِنَّمَا هو اخْتِلَاجٌ يَظُنُّهُ الْإِنْسَانُ رِيحًا هذا حُكْمُ
السَّبِيلَيْنِ
فَأَمَّا حُكْمُ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ من الْجُرْحِ وَالْقُرْحِ فَإِنْ سَالَ
الدَّمُ وَالْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ عن رَأْسِ الْجُرْحِ وَالْقُرْحِ يُنْتَقَضُ
الْوُضُوءُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْحَدَثِ وهو خُرُوجُ النَّجَسِ وهو انْتِقَالُ
النَّجَسِ من الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُنْتَقَضُ لِانْعِدَامِ الْخُرُوجِ من السَّبِيلَيْنِ
وَعِنْدَ زُفَرَ يُنْتَقَضُ سَوَاءٌ سَالَ أو لم يَسِلْ بِنَاءً على ما ذَكَرَ
فَلَوْ ظَهَرَ الدَّمُ على رَأْسِ الْجُرْحِ ولم يَسِلْ لم يَكُنْ حَدَثًا عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَكُونُ حَدَثًا سَالَ أو لم يَسِلْ
بِنَاءً على ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَدَثَ الْحَقِيقِيَّ عِنْدَهُ هو ظُهُورُ
النَّجَسِ من الْآدَمِيِّ الْحَيِّ وقد ظَهَرَ وَجْهُ قَوْلِهِ أن ظُهُورَ
النَّجَسِ اُعْتُبِرَ حَدَثًا في السَّبِيلَيْنِ سَالَ عن رَأْسِ الْمَخْرَجِ أو
لم يَسِلْ فَكَذَا في غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ
وَلَنَا أَنَّ الظُّهُورَ ما اُعْتُبِرَ حَدَثًا في مَوْضِعٍ ما وَإِنَّمَا
اُنْتُقِضَتْ الطَّهَارَةُ في السَّبِيلَيْنِ إذَا طهر ( ( ( ظهر ) ) ) النَّجَسُ
على رَأْسِ الْمَخْرَجِ لَا بِالظُّهُورِ بَلْ بِالْخُرُوجِ وهو الِانْتِقَالُ من
الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ على ما بَيَّنَّا كَذَا هَهُنَا وَهَذَا لِأَنَّ
الدَّمَ إذَا لم يَسِلْ كان في مَحَلِّهِ لِأَنَّ الْبَدَنَ مَحَلُّ الدَّمِ
وَالرُّطُوبَاتِ إلَّا أَنَّهُ كان مُسْتَتِرًا بِالْجَلْدَةِ وَانْشِقَاقُهَا
يُوجِبُ زَوَالَ السُّتْرَةِ لَا زَوَالَ الدَّمِ عن مَحَلِّهِ وَلَا حُكْمَ
لِلنَّجَسِ ما دَامَ في مَحَلِّهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ مع ما
في الْبَطْنِ من الْأَنْجَاسِ فإذا سَالَ عن رَأْسِ الْجُرْحِ فَقَدْ انْتَقَلَ عن
مَحَلِّهِ فيعطى له حُكْمَ النَّجَاسَةِ وفي السَّبِيلَيْنِ وُجِدَ الِانْتِقَالُ
لِمَا ذَكَرْنَا وَعَلَى هذا خُرُوجُ الْقَيْءِ مِلْءَ الْفَمِ أَنَّهُ يَكُونُ
حَدَثًا وَإِنْ كان أَقَلَّ من مِلْءِ الْفَمِ لَا يَكُونُ حَدَثًا وَعِنْدَ
زُفَرَ يَكُونُ حَدَثًا قَلَّ أو كَثُرَ
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ أَنَّ الْفَمَ له حُكْمُ الظَّاهِرِ
عِنْدَهُ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّائِمَ إذَا تَمَضْمَضَ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ فإذا
وَصَلَ الْقَيْءُ إلَيْهِ فَقَدْ
____________________
(1/25)
طهر
( ( ( ظهر ) ) ) النَّجَسُ من الْآدَمِيِّ الْحَيِّ فَيَكُونُ حَدَثًا وَإِنَّا
نَقُولُ له مع الظَّاهِرِ حُكْمُ الظَّاهِرِ كما ذَكَرَهُ زُفَرُ وَلَهُ مع
الْبَاطِنِ حُكْمُ الْبَاطِنِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّائِمَ إذَا ابْتَلَعَ رِيقَهُ
لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ فَلَا يَكُونُ الْخُرُوجُ إلَى الْفَمِ حَدَثًا لِأَنَّهُ
انْتِقَالٌ من بَعْضِ الْبَاطِنِ إلَى بَعْضٍ وَإِنَّمَا الْحَدَثُ هو الْخُرُوجُ
من الْفَمِ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ من الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ وَالْخُرُوجُ لَا
يَتَحَقَّقُ في الْقَلِيلِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ رَدُّهُ وَإِمْسَاكُهُ فَلَا
يَخْرُجُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ بَلْ بِالْإِخْرَاجِ فَلَا يُوجَدُ السَّيَلَانُ
وَيَتَحَقَّقُ في الْكَثِيرِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ وَإِمْسَاكُهُ
فَكَانَ خَارِجًا بِقُوَّةِ نَفْسِهِ لَا بِالْإِخْرَاجِ فَيُوجَدُ السَّيَلَانُ
ثُمَّ نَتَكَلَّمُ في الْمَسْأَلَةِ ابْتِدَاءً فَحُجَّةُ زُفَرَ ما رُوِيَ عن
النبي أَنَّهُ قال الْقَلْسُ حَدَثٌ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ
وَلِأَنَّ الْحَدَثَ ( إن كان ) اسْمٌ لِخُرُوجِ النَّجَسِ وقد وُجِدَ لِأَنَّ
الْقَلِيلَ خَارِجٌ نَجِسٌ كَالْكَثِيرِ فَيَسْتَوِي فيه الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ
كَالْخَارِجِ من السَّبِيلَيْنِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه مَوْقُوفًا عليه وَمَرْفُوعًا إلَى
رسول اللَّهِ أَنَّهُ عَدَّ الْأَحْدَاثَ جُمْلَةً وقال فيها أو ( ( ( أود ) ) )
دسعة ( ( ( سعة ) ) ) تَمْلَأُ الْفَمَ وَلَوْ كان الْقَلِيلُ حَدَثًا لعده عِنْدَ
عَدِّ الْأَحْدَاثِ كُلِّهَا
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ منه الْقَيْءُ مِلْءُ الْفَمِ لِأَنَّ
الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وهو الْقَيْءُ مِلْءُ الْفَمِ أو
يُحْمَلُ على هذا تَوْفِيقًا بين الْحَدِيثَيْنِ صِيَانَةً لَهُمَا عن
التَّنَاقُضِ وَقَوْلُهُ وُجِدَ خُرُوجُ النَّجَسِ في الْقَلِيلِ قُلْنَا إنْ
سَلَّمْنَا ذلك فَفِي قَلِيلِ الْقَيْءُ ضَرُورَةٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا
يَخْلُو منه خُصُوصًا حَالَ الِامْتِلَاءِ وَمِنْ صَاحِبِ السُّعَالِ وَلَوْ
جُعِلَ حَدَثًا لَوَقَعَ الناس في الْحَرَجِ وَاَللَّهُ تَعَالَى ما جَعَلَ
عَلَيْنَا في الدِّينِ من حَرَجٍ وَلَا ضَرُورَةَ في الْقَلِيلِ من السَّبِيلَيْنِ
وَلَا فَرْقَ بين أَنْ يَكُونَ الْقَيْءُ مَرَّةً صَفْرَاءَ أو سَوْدَاءَ وَبَيْنَ
أَنْ يَكُونَ طَعَامًا أو مَاءً صَافِيًا لِأَنَّ الْحَدَثَ اسْمٌ لِخُرُوجِ
النَّجَسِ وَالطَّعَامِ أو الْمَاءِ صار نَجَسًا لِاخْتِلَاطِهِ بِنَجَاسَاتِ
الْمِعْدَةِ ولم يذكر في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَفْسِيرَ مِلْءِ الْفَمِ
وقال أبو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ هو أَنْ يَمْنَعَهُ من الْكَلَامِ
وَعَنْ الْحَسَنِ بن زِيَادٍ هو أَنْ يَعْجَزَ عن إمْسَاكِهِ وَرَدِّهِ وَعَلَيْهِ
اعْتَمَدَ الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ ما قَدَرَ على
إمْسَاكِهِ وَرَدِّهِ فَخُرُوجُهُ لَا يَكُون بِقُوَّةِ نَفْسِهِ بَلْ
بِالْإِخْرَاجِ فَلَا يَكُونُ سَائِلًا وما عَجَزَ عن إمْسَاكِهِ وَرَدِّهِ
فَخُرُوجُهُ يَكُونُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ سَائِلًا وَالْحُكْمُ
مُتَعَلِّقٌ بِالسَّيَلَانِ وَلَوْ قَاءَ أَقَلَّ من مِلْءِ الْفَمِ مِرَارًا هل
يُجْمَعُ وَيُعْتَبَرُ حَدَثًا
لم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كان في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ يُجْمَعُ وَإِلَّا
فَلَا وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ كان بِسَبَبِ غَثَيَانٍ وَاحِدٍ يُجْمَعُ
وَإِلَّا فَلَا
وقال أبو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ يُجْمَعُ كَيْفَمَا كان
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمَجْلِسَ جُعِلَ في الشَّرْعِ جَامِعًا
لِأَشْيَاءَ مُتَفَرِّقَةٍ كما في بَاب الْبَيْعِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ
وَنَحْوِ ذلك
وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَظْهَرُ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمَجْلِسِ اعْتِبَارُ
الْمَكَانِ وَاعْتِبَارَ الْغَثَيَانِ اعْتِبَارُ السَّبَبِ وَالْوُجُودُ يُضَافُ
إلَى السَّبَبِ لَا إلَى الْمَكَانِ وَلَوْ سَالَ الدَّمُ إلَى ما لَانَ من
الْأَنْفِ أو إلَى صِمَاخِ الْأُذُنِ يَكُونُ حَدَثًا لِوُجُودِ خُرُوجِ النَّجَسِ
وهو انْتِقَالُ الدَّمِ من الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ أَقْلَفَ خَرَجَ الْبَوْلُ أو الْمَذْيُ من
ذَكَرِهِ حتى صَارَ في قُلْفَتِهِ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ
وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ إذَا خَرَجَ الْمَذْي أو الْبَوْلُ من فَرْجِهَا
ولم يَظْهَرْ
وَلَوْ حَشَا الرَّجُلُ إحْلِيلَهُ بِقُطْنَةٍ فَابْتَلَّ الْجَانِبُ الدَّاخِلُ
منها لم يُنْتَقَضْ وضوؤه لِعَدَمِ الْخُرُوجِ وَإِنْ تَعَدَّتْ الْبَلَّةُ إلَى
الْجَانِبِ الْخَارِجِ يُنْظَرَ إنْ كانت الْقُطْنَةُ عَالِيَةً أو مُحَاذِيَةً
لِرَأْسِ الْإِحْلِيلِ يُنْتَقَضُ وضوؤه لِتَحَقُّقِ الْخُرُوجِ وَإِنْ كانت (
مستفلة ( ( ( متسفلة ) ) ) ) لم يُنْتَقَضْ لِأَنَّ الْخُرُوجَ لم يَتَحَقَّقْ
وَلَوْ حَشَتْ الْمَرْأَةُ فَرْجَهَا بِقُطْنَةٍ فَإِنْ وَضَعَتْهَا في الْفَرْجِ
الْخَارِجِ فَابْتَلَّ الْجَانِبُ الدَّاخِلُ من الْقُطْنَةِ كان حَدَثًا وَإِنْ
لم يَنْفُذْ إلَى الْجَانِبِ الْخَارِجِ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّ الْفَرْجَ
الْخَارِجَ منها بِمَنْزِلَةِ الإليتين من الدُّبُرِ فَوُجِدَ الْخُرُوجُ وَإِنْ
وَضَعَتْهَا في الْفَرْجِ الدَّاخِلِ فَابْتَلَّ الْجَانِبُ الدَّاخِلُ من
الْقُطْنَةِ لم يَكُنْ حَدَثًا لِعَدَمِ الْخُرُوجِ
وَإِنْ تَعَدَّتْ الْبِلَّةُ إلَى الْجَانِبِ الْخَارِجِ فَإِنْ كانت الْقُطْنَةُ
عَالِيَةً أو مُحَاذِيَةً ( لجوف ( ( ( لجانب ) ) ) ) الْفَرْجِ كان حَدَثًا
لِوُجُودِ الْخُرُوجِ وَإِنْ كانت مستفلة ( ( ( متسفلة ) ) ) لم يَكُنْ حَدَثًا
لِعَدَمِ الْخُرُوجِ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لم تَسْقُطْ الْقُطْنَةُ فَإِنْ
سَقَطَتْ الْقُطْنَةُ فَهُوَ حَدَثٌ وَحَيْضٌ في الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ ابْتَلَّ
الْجَانِبُ الْخَارِجُ أو الدَّاخِلُ لِوُجُودِ الْخُرُوجِ
وَلَوْ كان في أَنْفِهِ قُرْحٌ فَسَالَ الدَّمُ عن رَأْسِ الْقُرْحِ يَكُونُ
حَدَثًا وَإِنْ لم يَخْرُجُ من الْمَنْخَرِ لِوُجُودِ السَّيَلَانِ عن مَحَلِّهِ
وَلَوْ بَزَقَ فَخَرَجَ معه الدَّمُ إنْ كانت الْغَلَبَةُ لِلْبُزَاقِ لَا يَكُونُ
حَدَثًا لِأَنَّهُ ما خَرَجَ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وَإِنْ كانت الْغَلَبَةُ لِلدَّمِ
يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّ الْغَالِبَ إذَا كان هو الْبُزَاقُ لم يَكُنْ خَارِجًا
بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فلم يَكُنْ سَائِلًا وَإِنْ كان الْغَالِبُ هو الدَّمُ كان
خُرُوجُهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَكَانَ سَائِلًا
وَإِنْ كَانَا سَوَاءً
____________________
(1/26)
فَالْقِيَاسُ
أَنْ لَا يَكُونُ حَدَثًا وفي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ حَدَثًا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُمَا إذَا اسْتَوَيَا احْتَمَلَ أَنَّ الدَّمَ خَرَجَ
بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وَاحْتَمَلَ أَنَّهُ خَرَجَ بِقُوَّةِ الْبُزَاقِ فَلَا يُجْعَلُ
حَدَثًا بِالشَّكِّ وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا إذَا
اسْتَوَيَا تَعَارَضَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدَهُمَا تَبَعًا
لِلْآخَرِ فيعطي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَ نَفْسِهِ فَيُعْتَبَرُ خَارِجًا
بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ سَائِلًا
وَالثَّانِي أَنَّ الْأَخْذَ بِالِاحْتِيَاطِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَاجِبٌ
وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا وَلَوْ ظَهَرَ الدَّمُ على رَأْسِ الْجُرْحِ فَمَسَحَهُ
مِرَارًا فَإِنْ كان بِحَالٍ لو تَرَكَهُ لَسَالَ يَكُونُ حَدَثًا وَإِلَّا فَلَا
لِأَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّيَلَانِ وَلَوْ أَلْقَى عليه الرَّمَادَ أو
التُّرَابَ فَتَشَرَّبَ فيه أو رَبَطَ عليه رِبَاطًا فَابْتَلَّ الرِّبَاطُ
وَنَفَذَ قالوا يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّهُ سَائِلُ وَكَذَا لو كان الرِّبَاطُ ذَا
طَاقَيْنِ فَنَفَذَ إلَى أَحَدِهِمَا لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ سَقَطَتْ الدُّودَةُ أو اللَّحْمُ من ( القرح ( ( ( الفرج ) ) ) ) لم
يَكُنْ حَدَثًا وَلَوْ سَقَطَتْ من السَّبِيلَيْنِ يَكُونُ حَدَثًا وَالْفَرْقُ
أَنَّ الدُّودَةَ الْخَارِجَةَ من السَّبِيلِ نَجِسَةٌ في نَفْسِهَا
لِتَوَلُّدِهَا من الْأَنْجَاسِ وقد خَرَجَتْ بِنَفْسِهَا
وَخُرُوجُ النَّجِسِ بِنَفْسِهِ حَدَثٌ بِخِلَافِ الْخَارِجَةِ من الْقُرْحِ
لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ في نَفْسُهَا لِأَنَّهَا تَتَوَلَّدُ من اللَّحْمِ
وَاللَّحْمُ طَاهِرٌ وَإِنَّمَا النَّجَسُ ما عليها من الرُّطُوبَاتِ وَتِلْكَ
الرُّطُوبَاتُ خَرَجَتْ بِالدَّابَّةِ لَا بِنَفْسِهَا فلم يُوجَدْ خُرُوجُ
النَّجَسِ فَلَا يَكُونُ حَدَثًا
وَلَوْ خَلَّلَ أَسْنَانَهُ فَظَهَرَ الدَّمُ على رَأْسِ الْخِلَالِ لَا يَكُونُ
حَدَثًا لِأَنَّهُ ما خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَكَذَا لو عَضَّ على شَيْءٍ فَظَهَرَ
الدَّمُ على أَسْنَانِهِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ سَعَطَ في أَنْفِهِ وَوَصَلَ
السَّعُوطُ إلَى رَأْسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْأَنْفِ أو إلَى الْأُذُنِ لَا
يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّ الرَّأْسَ ليس مَوْضِعَ الْأَنْجَاسِ وَلَوْ عَادَ إلَى
الْفَمِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِمَا قُلْنَا
وَرَوَى عَلِيُّ بن الْجَعْدِ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْقَيْءِ
لِأَنَّ ما وَصَلَ إلَى الرَّأْسِ لَا يَخْرُجُ من الْفَمِ إلَّا بَعْدَ نُزُولِهِ
في الْجَوْفِ
وَلَوْ قَاءَ بَلْغَمًا لم يَكُنْ حَدَثًا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَكُونُ حَدَثًا فَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال لَا خِلَافَ في
الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ جَوَابَ أبي يُوسُفَ في الصَّاعِدِ من الْمَعِدَةِ وهو
حَدَثٌ عِنْدَ الْكُلِّ وَجَوَابُهُمَا في الْمُنْحَدِرِ من الرَّأْسِ وهو ليس بِحَدَثٍ
عِنْدَ الْكُلِّ وَمِنْهُمْ من قال في الْمُنْحَدَرِ من الرَّأْسِ اتِّفَاقٌ
أَنَّهُ ليس بِحَدَثٍ وفي الصَّاعِدِ من الْمَعِدَةِ اخْتِلَافٌ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ نَجَسٌ لِاخْتِلَاطَهِ بِالْأَنْجَاسِ لِأَنَّ
الْمَعِدَةَ مَعْدِنُ الْأَنْجَاسِ فَيَكُونُ حَدَثًا كما لو قَاءَ طَعَامًا أو
مَاءً وَلَهُمَا أَنَّهُ شَيْءٌ صَقِيلٌ لَا يَلْتَصِقُ بِهِ شَيْءٌ من
الْأَنْجَاسِ فَكَانَ طَاهِرًا على أَنَّ الناس من لَدُنْ رسول اللَّهِ اعْتَادُوا
أَخْذَ الْبَلْغَمِ بِأَطْرَافِ أَرْدِيَتِهِمْ وَأَكْمَامِهِمْ من غَيْرِ نَكِيرٍ
فَكَانَ إجْمَاعًا منهم على طَهَارَتِهِ
وَذَكَرَ أبو مَنْصُورٍ أَنَّهُ لَا خِلَافَ في الْمَسْأَلَةِ في الْحَقِيقَةِ
لِأَنَّ جَوَابَ أبي يُوسُفَ في الصَّاعِدِ من الْمَعِدَةِ وَأَنَّهُ حَدَثٌ
بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ نَجَسٌ وَجَوَابُهُمَا في الصَّاعِدِ من حَوَاشِي
الْحَلْقِ وَأَطْرَافِ الرِّئَةِ وَأَنَّهُ ليس بِحَدَثٍ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ
طاهر فَيُنْظَرُ إنْ كان صَافِيًا غير مَخْلُوطٍ بِشَيْءٍ من الطَّعَامِ
وَغَيْرِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَصْعَدْ من الْمَعِدَةِ فَلَا يَكُونُ نَجَسًا فَلَا
يَكُونُ حَدَثًا وَإِنْ كان مَخْلُوطًا بِشَيْءٍ من ذلك تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَعِدَ
منها فَكَانَ نَجِسًا فَيَكُونُ حَدَثًا وَهَذَا هو الْأَصَحُّ
وَأَمَّا إذَا قَاءَ دَمًا فلم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ نَصًّا
وَذَكَرَ الْمُعَلَّى عن أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَكُونُ حَدَثًا
قَلِيلًا كان أو كَثِيرًا جَامِدًا كان أو مَائِعًا وَرُوِيَ عن الْحَسَنِ بن
زِيَادٍ عنهما أَنَّهُ إنْ كان مَائِعًا يَنْقُضُ قَلَّ أو كَثُرَ وَإِنْ كان
جَامِدًا لَا يَنْقُضُ ما لم يَمْلَأْ الْفَمَ
وَرَوَى ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا ما لم يَمْلَأْ
الْفَمَ كَيْفَمَا كان وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا صَحَّحُوا رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ
وَحَمَلُوا رِوَايَةَ الْحَسَنِ وَالْمُعَلَّى في الْقَلِيلِ من الْمَائِعِ على
الرُّجُوعِ وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ شَيْخُنَا لِأَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِأُصُولِ
أَصْحَابِنَا في اعْتِبَارِ خُرُوجِ النَّجَسِ لِأَنَّ الْحَدَثَ اسْمٌ له
وَالْقَلِيلُ ليس بِخَارِجٍ لِمَا مَرَّ وَإِلَيْهِ أَشَارَ في الْجَامِعِ
الصَّغِيرِ من غَيْرِ خِلَافٍ فإنه قال وإذا قَلَسَ أَقَلَّ من مِلْءِ الْفَمِ لم
يُنْتَقَضْ الْوُضُوءُ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الدَّمِ وَغَيْرِهِ وَعَامَّةُ
مَشَايِخِنَا حَقَّقُوا الِاخْتِلَافَ وَصَحَّحُوا قَوْلَهُمَا لِأَنَّ الْقِيَاسَ
في الْقَلِيلِ من سَائِرِ أَنْوَاعِ الْقَيْءِ أَنْ يَكُونَ حَدَثًا لِوُجُودِ
الْخُرُوجِ حَقِيقَةً وهو الِانْتِقَالُ من الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ
الْفَمَ له حُكْمُ الظَّاهِرِ على الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ
الْقَلِيلِ لِأَجْلِ الْحَرَجِ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ وُجُودُهُ وَلَا حَرَجَ في
اعْتِبَارِ الْقَلِيلِ من الدَّمِ
لِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ بَلْ يَنْدُرُ فَبَقِيَ على أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ الْأَصِحَّاءِ
وَأَمَّا أَصْحَابُ الْأَعْذَارِ كَالْمُسْتَحَاضَةِ وَصَاحِبِ الْجُرْحِ
السَّائِلِ وَالْمَبْطُونِ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ وَمَنْ بِهِ رُعَافٌ دَائِمٌ
أو رِيحٌ وَنَحْوُ ذلك مِمَّنْ لَا يَمْضِي عليه وَقْتُ
____________________
(1/27)
صَلَاةٍ
إلَّا وَيُوجَدُ ما اُبْتُلِيَ بِهِ من الْحَدَثِ فيه فَخُرُوجُ النَّجَسِ من
هَؤُلَاءِ لَا يَكُونُ حَدَثًا في الْحَالِ ما دَامَ وَقْتُ الصَّلَاةِ قَائِمًا
حتى أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ لو تَوَضَّأَتْ في أَوَّلِ الْوَقْتِ فَلَهَا أَنْ
تُصَلِّيَ ما شَاءَتْ من الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ ما لم يَخْرُجْ الْوَقْتُ
وَإِنْ دَامَ السَّيَلَانِ
وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ إنْ كان الْعُذْرُ من أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ كَالِاسْتِحَاضَةِ
وَسَلَسِ الْبَوْلِ وَخُرُوجِ الرِّيحِ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ فَرْضٍ وَيُصَلِّي ما
شَاءَ من النَّوَافِلِ
وقال مَالِكٌ في أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ
وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال أن الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ
لِكُلِّ صَلَاةٍ فَمَالِكٌ عَمِلَ بِمُطْلَقِ اسْمِ الصَّلَاةِ وَالشَّافِعِيُّ
قَيَّدَهُ بِالْفَرْضِ لِأَنَّهُ الصَّلَاةُ الْمَعْهُودَةَ وَلِأَنَّ طَهَارَةَ
الْمُسْتَحَاضَةِ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لِأَنَّهُ قَارَنَهَا ما يُنَافِيهَا أو
طَرَأَ عليها وَالشَّيْءُ لَا يُوجَدُ وَلَا يَبْقَى مع الْمُنَافِي إلَّا أَنَّهُ
لم يَظْهَرْ حُكْمُ الْمُنَافِي لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى الْأَدَاءِ
وَالضَّرُورَةِ إلَى أَدَاءِ فَرْضِ الْوَقْتِ فإذا فَرَغَ من الْأَدَاءِ
ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ فَظَهَرَ حُكْمُ الْمُنَافِي وَالنَّوَافِلُ اتِّبَاعُ
الْفَرَائِضِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِتَكْمِيلِ الْفَرَائِضِ جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ
للتمكن ( ( ( المتمكن ) ) ) فيها فَكَانَتْ مُلْحَقَةٌ بِأَجْزَائِهَا
وَالطَّهَارَةُ الْوَاقِعَةُ لِصَلَاةٍ وَاقِعَةٌ لها بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا
بِخِلَافِ فَرْضٍ آخَرَ لِأَنَّهُ ليس بِتَبَعٍ بَلْ هو أَصْلٌ بِنَفْسِهِ
وَلَنَا ما رَوَى أبو حَنِيفَةَ بِإِسْنَادِهِ عن النبي أَنَّهُ قال
الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كل صَلَاةٍ هذا نَصٌّ في الْبَابِ
وَلِأَنَّ الْعَزِيمَةَ شَغْلُ جَمِيعِ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ شُكْرًا
لِلنِّعْمَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَإِحْرَازًا لِلثَّوَابِ على الْكَمَالِ
إلَّا أَنَّهُ جَوَّزَ تَرْكَ شَغْلِ بَعْضِ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ رُخْصَةً
وَتَيْسِيرًا فَضْلًا من اللَّهِ وَرَحْمَةً تَمْكِينًا من اسْتِدْرَاكِ
الْفَائِتِ بِالْقَضَاءِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْقِوَامِ وَجُعِلَ ذلك
شَغْلًا لِجَمِيعِ الْوَقْتِ حُكْمًا فَصَارَ وَقْتُ الْأَدَاءِ شَرْعًا
بِمَنْزِلَةِ وَقْتِ الْأَدَاءِ فِعْلًا ثُمَّ قِيَامُ الْأَدَاءِ مُبْقٍ
لِلطَّهَارَةِ فَكَذَلِكَ الْوَقْتُ الْقَائِمُ مَقَامَهُ
وما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَهُوَ حُجَّةٌ عليه لِأَنَّ مُطْلَقَ الصَّلَاةِ
يَنْصَرِفُ إلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى
الْمَعْهُودِ الْمُتَعَارَفِ كما في قَوْلِهِ الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ وما
رُوِيَ أَنَّهُ صلى صَلَوَاتٍ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ وَنَحْوُ ذلك والصلوات ( ( (
والصلاة ) ) ) الْمَعْهُودَةُ هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ في الْيَوْمِ
وَاللَّيْلَةِ فَكَأَنَّهُ قال الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ في الْيَوْمِ
وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَلَوْ أَوْجَبْنَا عليها الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ
أو لِكُلِّ فَرْضٍ تَقْضِي لَزَادَ على الْخَمْسِ بِكَثِيرٍ وَهَذَا خِلَافُ
النَّصِّ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ تُذْكَرُ على إرَادَةِ وَقْتِهَا
قال النبي في حديث التَّيَمُّمِ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَيَمَّمَتْ
وَصَلَّيْت وَالْمُدْرَكُ هو الْوَقْتُ دُونَ الصَّلَاةِ التي هِيَ فِعْلُهُ
وقال إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا أَيْ لِوَقْتِ الصَّلَاةِ وَيُقَالُ
آتِيك لِصَلَاةِ الظُّهْرِ أَيْ لِوَقْتِهَا فَجَازَ أَنْ تُذْكَرَ الصَّلَاةُ
وَيُرَادُ بها وَقْتُهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ الْوَقْتُ وَيُرَادُ بِهِ
الصَّلَاةُ فَيُحْمَلُ الْمُحْتَمَلَ على الْمُحْكَمِ تَوْفِيقًا بين
الدَّلِيلَيْنِ صِيَانَةً لَهُمَا عن التَّنَاقُضِ
وَإِنَّمَا تَبْقَى طَهَارَةُ صَاحِبِ الْعُذْرِ في الْوَقْتِ إذَا لم يُحْدِثْ
حَدَثًا آخَرَ أَمَّا إذَا أَحْدَثَ حَدَثًا آخَرَ فَلَا تَبْقَى لِأَنَّ
الضَّرُورَةَ في الدَّمِ السَّائِلِ لَا في غَيْرِهِ فَكَانَ هو في غَيْرِهِ
كَالصَّحِيحِ قبل الْوُضُوءِ وَكَذَلِكَ إذَا تَوَضَّأَ لِلْحَدَثِ أولا ثُمَّ
سَالَ الدَّمُ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِأَنَّ ذلك الْوُضُوءَ لم يَقَعْ لدم ( ( (
لعدم ) ) ) الْعُذْرِ فَكَانَ عَدَمًا في حَقِّهِ وَكَذَا إذَا سَالَ الدَّمُ من
أَحَدِ مَنْخَرَيْهِ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ سَالَ من الْمَنْخَرِ الْآخَرَ فَعَلَيْهِ
الْوُضُوءُ لِأَنَّ هذا حَدَثٌ جَدِيدٌ لم يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الطَّهَارَةِ
فلم تَقَعُ الطَّهَارَةُ له فَكَانَ هو وَالْبَوْلُ وَالْغَائِطُ سَوَاءً فَأَمَّا
إذَا سَالَ مِنْهُمَا جميعا فَتَوَضَّأَ ثُمَّ انْقَطَعَ أَحَدُهُمَا فَهُوَ على
وُضُوءٍ ما بَقِيَ الْوَقْتُ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ حَصَلَتْ لَهُمَا جميعا
وَالطَّهَارَةُ مَتَى وَقَعَتْ لِعُذْرٍ لَا يَضُرُّهَا السَّيَلَانُ ما بَقِيَ
الْوَقْتُ فَبَقِيَ هو صَاحِبَ عُذْرٍ بِالْمَنْخَرِ الْآخَرِ وَعَلَى هذا حُكْمُ
صَاحِبُ الْقُرُوحِ إذَا كان الْبَعْضُ سَائِلًا ثُمَّ سَالَ الْآخَرُ أو كان
الْكُلُّ سَائِلًا فَانْقَطَعَ السَّيَلَانُ عن الْبَعْضِ
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ أنها تُنْتَقَضُ
عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَمْ عِنْدَ دُخُولِهِ أَمْ عند أَيَّهُمَا كان
قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ تُنْتَقَضُ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا غَيْرُ
وقال زُفَرُ عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَا غَيْرُ وقال أبو يُوسُفَ عِنْدَ
أَيِّهِمَا كان وَثَمَرَةُ هذا الِاخْتِلَافِ لَا تَظْهَرُ إلَّا في مَوْضِعَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنْ يُوجَدَ الْخُرُوجُ بِلَا دُخُولٍ كما إذَا تَوَضَّأَتْ في
وَقْتِ الْفَجْرِ ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فإن طَهَارَتَهَا تُنْتَقَضُ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِوُجُودِ الْخُرُوجِ وَعِنْدَ زُفَرَ
لَا تُنْتَقَضُ لِعَدَمِ الدُّخُولِ
وَالثَّانِي أَنْ يُوجَدَ الدُّخُولُ بِلَا خُرُوجٍ كما إذَا تَوَضَّأَتْ قبل
الزَّوَالِ ثُمَّ زَالَتْ الشَّمْسُ فإن
____________________
(1/28)
طَهَارَتَهَا
لَا تُنْتَقَضُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ وَعِنْدَ
أبي يُوسُفَ وَزُفَرَ تُنْتَقَضُ لِوُجُودِ الدُّخُولِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِ الْمُنَافِي لِمَكَانِ
الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ قبل دُخُولِ الْوَقْتِ فَلَا يَسْقُطُ وَبِهِ
يَحْتَجُّ أبو يُوسُفَ في جَانِبِ الدُّخُولِ وفي جَانِبِ الْخُرُوجِ بقول ( ( (
يقول ) ) ) كما لَا ضَرُورَةَ إلَى إسْقَاطِ اعْتِبَارِ الْمُنَافِي قبل
الدُّخُولِ لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ بَعْدَ الْخُرُوجِ فَيَظْهَرُ حُكْمُ
الْمُنَافِي وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ما ذَكَرْنَا أَنَّ وَقْتَ
الْأَدَاءِ شَرْعًا أُقِيمَ مَقَامَ وَقْتِ الْأَدَاءِ فِعْلًا لِمَا بَيَّنَّا من
الْمَعْنَى ثُمَّ لَا بُدَّ من تَقْدِيمِ وَقْتِ الطَّهَارَةِ على وَقْتِ
الْأَدَاءِ حَقِيقَةً فَكَذَا لَا بُدَّ من تَقْدِيمِهَا على وَقْتِ الْأَدَاءِ
شَرْعًا حتى يُمْكِنُهُ شَغْلُ جَمِيعِ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ وَهَذِهِ
الْحَالَةُ انْعَدَمَتْ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَظَهَرَ حُكْمُ الْحَدَثِ
وَمَشَايِخُنَا أَدَارُوا الْخِلَافَ على الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ فَقَالُوا
تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهَا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ أو بِدُخُولِهِ لِتَيْسِيرِ
الْحِفْظِ على الْمُتَعَلِّمِينَ لَا لِأَنَّ لِلْخُرُوجِ أو الدُّخُولِ
تَأْثِيرًا في انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ وَإِنَّمَا الْمَدَارُ على ما ذَكَرْنَا
وَلَوْ تَوَضَّأَ صَاحِبُ الْعُذْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ
أو لِصَلَاةِ الضُّحَى وَصَلَّى هل يَجُوزُ له أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ بِتِلْكَ
الطَّهَارَةِ
أَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَزُفَرَ فَلَا يُشْكِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
لِوُجُودِ الدُّخُولِ وَأَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَقَدْ
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ هذه طَهَارَةً وَقَعَتْ لِصَلَاةٍ مَقْصُودَةٍ
فَتُنْتَقَضُ بِخُرُوجِ وَقْتِهَا
وقال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ لِأَنَّ هذه الطَّهَارَةَ إنَّمَا صَحَّتْ لِلظُّهْرِ
لِحَاجَتِهِ إلَى تَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ على وَقْتِ الظُّهْرِ على ما مَرَّ
فَيَصِحُّ بها أَدَاءُ صَلَاةِ الْعِيدِ وَالضُّحَى وَالنَّفَلُ كما إذَا
تَوَضَّأَ لِلظُّهْرِ قبل الْوَقْتِ ثُمَّ دخل الْوَقْتُ أَنَّهُ يَجُوزُ له أَنْ
يُؤَدِّيَ بها الظُّهْرَ وَصَلَاةً أُخْرَى في الْوَقْتِ كَذَا هذا
وَلَوْ تَوَضَّأَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَصَلَّى ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا آخَرَ في
وَقْتِ الظُّهْرِ لِلْعَصْرِ وَدَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ هل يَجُوزُ له أَنْ
يُصَلِّيَ الْعَصْرَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ على قَوْلِهِمَا اخْتَلَفَ
الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ قد صَحَّتْ لِجَمِيعِ وَقْتِ
الظُّهْرِ فَتَبْقَى ما بَقِيَ الْوَقْتُ فَلَا تَصِحُّ الطَّهَارَةُ الثَّانِيَةُ
مع قِيَامِ الْأُولَى بَلْ كانت تَكْرَارًا لِلْأُولَى فَالْتَحَقَتْ الثَّانِيَةُ
بِالْعَدَمِ فَتُنْتَقَضُ الْأَوْلَى بِخُرُوجِ الْوَقْتِ
وقال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ على
وَقْتِ الْعَصْرِ حتى يَشْتَغِلَ جَمِيعَ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ وَالطَّهَارَةُ
الْوَاقِعَةُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ عَدَمٌ في حَقِّ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَإِنَّمَا
تُنْتَقَضُ بِخُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ طَهَارَةُ الظُّهْرِ لَا طَهَارَةُ
الْعَصْرِ
وَلَوْ تَوَضَّأَتْ مُسْتَحَاضَةٌ وَدَمُهَا سَائِلٌ أو سَالَ بَعْدَ الْوُضُوءِ
قبل خُرُوجِ الْوَقْتِ ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ وَهِيَ في الصَّلَاةِ فَعَلَيْهَا
أَنْ تَسْتَقْبِلَ لِأَنَّ طَهَارَتَهَا تُنْتَقَضُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ لِمَا
بَيَّنَّا فإذا خَرَجَ الْوَقْتُ قبل فراغها ( ( ( الخروج ) ) ) من الصَّلَاةِ
انْتَقَضَتْ طَهَارَتُهَا فَتُنْتَقَضُ صَلَاتُهَا وَلَا تَبْنِي لِأَنَّهَا
صَارَتْ مُحْدِثَةً عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ من حِينِ دُرُورِ الدَّمِّ
كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ قبل الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ
وَلَوْ تَوَضَّأَتْ وَالدَّمُ مُنْقَطِعٌ وَخَرَجَ الْوَقْتُ وَهِيَ في خِلَالِ
الصَّلَاةِ قبل سَيَلَانِ الدَّمِ ثُمَّ سَالَ الدَّمُ تَوَضَّأَتْ وَبَنَتْ
لِأَنَّ هذا حَدَثٌ لَاحِقٌ وَلَيْسَ بِسَابِقٍ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ كانت
صَحِيحَةً لِانْعِدَامِ ما يُنَافِيهَا وَقْتَ حُصُولِهَا وقد حَصَلَ الْحَدَثُ
لِلْحَالِ مُقْتَصِرًا غير مُوجِبٍ ارْتِفَاعَ الطَّهَارَةِ من الْأَصْلِ
وَلَوْ تَوَضَّأَتْ وَالدَّمُ سَائِلٌ ثُمَّ انْقَطَعَ ثُمَّ صَلَّتْ وهو
مُنْقَطِعٌ حتى خَرَجَ الْوَقْتُ وَدَخَلَ وَقْتُ صَلَاةِ أُخْرَى ثُمَّ سَالَ
الدَّمُ أَعَادَتْ الصَّلَاةَ الْأُولَى لِأَنَّ الدَّمَ لَمَّا انْقَطَعَ ولم
يَسِلْ حتى خَرَجَ الْوَقْتُ لم تَكُنْ تِلْكَ الطَّهَارَةُ طَهَارَةَ عُذْرٍ في حَقِّهَا
لِانْعِدَامِ الْعُذْرِ فَتَبَيَّنَ أنها صَلَّتْ بِلَا طَهَارَةٍ وَأَصْلُ هذه
الْمَسَائِلِ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وهذا الذي ذَكَرْنَاهُ حُكْمُ صَاحِبِ
الْعُذْرِ
وَأَمَّا حُكْمُ نَجَاسَةِ ثَوْبِهِ فَنَقُولُ إذَا أَصَابَ ثَوْبَهُ من ذلك
أَكْثَرُ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ يَجِبُ غَسْلُهُ إذَا كان الْغَسْلُ مُفِيدًا
بِأَنْ كان لَا يُصِيبُهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حتى لو لم يَغْسِلْ وَصَلَّى لم
يجزئه ( ( ( يجوز ) ) ) وَإِنْ لم يَكُنْ مُفِيدًا لَا يَجِبُ ما دَامَ الْعُذْرُ
قَائِمًا وهو اخْتِيَارُ مَشَايِخِنَا وكان محمد بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ يقول
يَجِبُ غَسْلُهُ في وَقْتِ كل صَلَاةٍ قِيَاسًا على الْوُضُوءِ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ مَشَايِخِنَا لِأَنَّ حُكْمَ الْحَدَثِ عَرَفْنَاهُ
بِالنَّصِّ وَنَجَاسَةُ الثَّوْبِ ليس في مَعْنَاهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَلِيلَ
منها عَفْوٌ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ
وَأَمَّا الْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ فَنَوْعَانِ أَيْضًا أَحَدُهُمَا أَنْ يُوجَدَ
أَمْرٌ يَكُونُ سَبَبًا لِخُرُوجِ النَّجَسِ الْحَقِيقِيِّ غَالِبًا فَيُقَامُ
السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ احْتِيَاطًا
وَالثَّانِي أَنْ لَا يُوجَدُ شَيْءٌ من ذلك لَكِنَّهُ جُعِلَ حَدَثًا شَرْعًا
تَعَبُّدًا مَحْضًا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَنْوَاعٌ منها الْمُبَاشَرَةُ الْفَاحِشَةُ وهو أَنْ
يُبَاشِرَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِشَهْوَةٍ وَيَنْتَشِرَ لها وَلَيْسَ
بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ ولم يَرَ بَلَلًا فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
يَكُونُ حَدَثًا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ حَدَثًا وهو قَوْلُ
مُحَمَّدٍ وَهَلْ
____________________
(1/29)
تُشْتَرَطُ
مُلَاقَاةُ الْفَرْجَيْنِ وَهِيَ مُمَاسَّتُهُمَا على قَوْلِهِمَا لَا يُشْتَرَطُ
ذلك في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عنهما وَشَرَطَهُ في النَّوَادِرِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ مُلَاقَاةَ الْفَرْجَيْنِ أَيْضًا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا يُقَامُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ في
مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ على الْمُسَبِّبِ من غَيْرِ حَرَجٍ وَالْوُقُوفُ
على الْمُسَبَّبِ هَهُنَا مُمْكِنٌ بِلَا حَرَجٍ لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ يَقِظَةٍ
فَيُمْكِنُ الْوُقُوفُ على الْحَقِيقَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إقَامَةِ السَّبَبِ
مَقَامَهَا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ما رُوِيَ أَنَّ أَبَا الْيُسْرِ بَائِعُ الْعَسَلِ سَأَلَ
رَسُولَ اللَّهِ فقال إنِّي أَصَبْت من امْرَأَتِي كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الْجِمَاعَ
فقال تَوَضَّأْ وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَلِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ على الصِّفَةِ التي
ذَكَرْنَا لَا تَخْلُو عن خُرُوجِ الْمَذْيِ عَادَةً إلَّا أنه يُحْتَمَلُ أَنَّهُ
جَفَّ لِحَرَارَةِ الْبَدَنِ فلم يَقِفْ عليه أو غَفَلَ عن نَفْسِهِ لِغَلَبَةِ
الشَّبَقِ فَكَانَتْ سَبَبًا مُفْضِيًا إلَى الْخُرُوجِ وَإِقَامَةُ السَّبَبِ
مَقَامَ الْمُسَبِّبِ طَرِيقَةٌ مَعْهُودَةٌ في الشَّرِيعَةِ خُصُوصًا في أَمْرٍ
يُحْتَاطُ فيه كما يُقَامُ الْمَسُّ مَقَامَ الْوَطْءِ في حَقِّ ثُبُوتِ حُرْمَةِ
الْمُصَاهَرَةِ بَلْ يُقَامُ نَفْسُ النِّكَاحِ مَقَامَهُ وَيُقَامُ نَوْمُ
الْمُضْطَجِعِ مَقَامَ الْحَدَثِ وَنَحْوَ ذلك كَذَا هَهُنَا
وَلَوْ لَمَسَ امْرَأَتَهُ بِشَهْوَةٍ أو غَيْرِ شَهْوَةِ فَرْجِهَا أو سَائِرِ
أَعْضَائِهَا من غَيْرِ حَائِلٍ ولم يُنْشَرْ لها لَا يُنْتَقَضُ وضوؤه عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ إنْ كان الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ يَكُونُ حَدَثًا وَإِنْ كان بِغَيْرِ
شَهْوَةٍ بِأَنْ كانت صَغِيرَةً أو كانت ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه لَا يَكُونُ
حَدَثًا وهو أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ
وفي قَوْلٍ يَكُونُ حَدَثًا كَيْفَمَا كان بِشَهْوَةٍ أو بِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَهَلْ
تُنْتَقَضُ طَهَارَةُ الْمَلْمُوسَةِ لَا شَكَّ أنها لَا تُنْتَقَضُ عِنْدَنَا
وَلِلشَّافِعِيِّ فيه قَوْلَانِ احتجاجا ( ( ( احتجا ) ) ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى {
أو لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } وَالْمُلَامَسَةُ مُفَاعَلَةٌ من اللَّمْسِ
وَاللَّمْسُ وَالْمَسُّ وَاحِدٌ لُغَةً قال اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنَّا لَمَسْنَا
السَّمَاءَ } حقيقة ( ( ( وحقيقة ) ) ) المس ( ( ( اللمس ) ) ) بِالْيَدِ
وَلِلْجِمَاعِ مَجَازٌ أو هو حَقِيقَةٌ لَهُمَا جميعا لِوُجُودِ الْمَسِّ فِيهِمَا
جميعا وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ آلَةُ الْمَسِّ فَكَانَ الِاسْمُ حَقِيقَةً لَهُمَا
لِوُجُودِ مَعْنَى الِاسْمِ فِيهِمَا وقد جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى اللَّمْسَ
حَدَثًا حَيْثُ أَوْجَبَ بِهِ إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ وَهِيَ التَّيَمُّمُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها سُئِلَتْ عن هذه
الْحَادِثَةِ فقالت كان رسول اللَّهِ يُقَبِّلُ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ
إلَى الصَّلَاةِ وَلَا يَتَوَضَّأُ
وَلِأَنَّ الْمَسَّ ليس بِحَدَثٍ بِنَفْسِهِ وَلَا سَبَبٌ لِوُجُودِ الْحَدَثِ
غَالِبًا فَأَشْبَهَ مَسَّ الرَّجُلِ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ
وَلِأَنَّ مَسَّ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ فَلَوْ
جُعِلَ حَدَثًا لَوَقَعَ الناس في الْحَرَجِ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ نُقِلَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ
الْمُرَادَ من اللَّمْسِ الْجِمَاعُ
وهو تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ
وَذَكَرَ ابن السِّكِّيتِ في إصْلَاحِ الْمَنْطِقِ أَنَّ اللَّمْسَ إذَا قُرِنَ
بِالنِّسَاءِ يُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ
تَقُولُ الْعَرَبُ لَمَسْت الْمَرْأَةَ أَيْ جَامَعْتهَا على أَنَّ اللَّمْسَ
يَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ إمَّا حَقِيقَةً وإما مَجَازًا فَيُحْمَلُ عليه تَوْفِيقًا
بين الدَّلَائِلِ
وَلَوْ مَسَّ ذَكَرَهُ بِبَاطِنِ كَفِّهِ من غَيْرِ حَائِلٍ لَا يُنْتَقَضُ وضوؤه
عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُنْتَقَضُ
احْتَجَّ بِمَا رَوَتْ بُسْرَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ عن النبي أَنَّهُ قال من مَسَّ
ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ وَعِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ وَحُذَيْفَةَ بن الْيَمَانِ وَأَبِي
الدَّرْدَاءِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لم يَجْعَلُوا
مَسَّ الذَّكَرِ حَدَثًا حتى قال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه لَا أُبَالِي مَسِسْته
أو أَرْنَبَةَ أَنْفِي
وقال بَعْضُهُمْ لِلرَّاوِي إنْ كان نَجَسًا فَاقْطَعْهُ وَلِأَنَّهُ ليس بِحَدَثٍ
بِنَفْسِهِ وَلَا سَبَبٌ لِوُجُودِ الْحَدَثِ غَالِبًا فَأَشْبَهَ مَسَّ الْأَنْفِ
وَلِأَنَّ مَسَّ الْإِنْسَانِ ذَكَرَهُ مِمَّا يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَلَوْ جُعِلَ
حَدَثًا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ
وما رَوَاهُ فَقَدْ قِيلَ أَنَّهُ ليس بِثَابِتٍ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ
مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وهو ما ذَكَرْنَا
وَالثَّانِي أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ هذه الْحَادِثَةَ وَقَعَتْ في زَمَنِ مَرْوَانَ
بن الْحَكَمِ فَشَاوَرَ من بَقِيَ من الصَّحَابَةِ فَقَالُوا لَا نَدَعُ كِتَابَ
رَبِّنَا وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ
أَمْ كَذَبَتْ
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَوْ
ثَبَتَ لَاشْتَهَرَ وَلَوْ ثَبَتَ فَهُوَ مَحْمُولٌ على غَسْلِ الْيَدَيْنِ
لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْأَحْجَارِ دُونَ الْمَاءِ فإذا
مَسُّوهُ بِأَيْدِيهِمْ كانت تَتَلَوَّثُ خُصُوصًا في أَيَّامِ الصَّيْفِ فَأَمَرَ
بِالْغَسْلِ لِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْإِغْمَاءُ وَالْجُنُونُ وَالسُّكْرُ الذي يَسْتُرُ الْعَقْلَ أَمَّا
الْإِغْمَاءُ فَلِأَنَّهُ في اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ وَاسْتِطْلَاقِ الْوِكَاءِ
فَوْقَ النَّوْمِ مُضْطَجِعًا وَذَلِكَ حَدَثٌ فَهَذَا أَوْلَى وَأَمَّا
الْجُنُونُ فَلِأَنَّ الْمُبْتَلَى بِهِ يُحْدِثُ حَدَثًا وَلَا يَشْعُرُ بِهِ
فَأُقِيمَ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ وَالسُّكْرُ الذي يَسْتُرُ الْعَقْلَ في
مَعْنَى الْجُنُونِ في عَدَمِ التَّمْيِيزِ وقد انْضَافَ إلَيْهِ اسْتِرْخَاءُ
الْمَفَاصِلِ وَلَا فَرْقَ في حَقِّ هَؤُلَاءِ بين الِاضْطِّجَاعِ وَالْقِيَامِ
لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين حَالٍ وَحَالٍ
وَمِنْهَا النَّوْمُ مُضْطَجِعًا في الصَّلَاةِ أو في غَيْرِهَا بِلَا
____________________
(1/30)
خِلَافٍ
بين الْفُقَهَاءِ
وَحُكِيَ عن النَّظَّامُ أَنَّهُ ليس بِحَدَثٍ وَلَا عِبْرَةَ بِخِلَافِهِ
لِمُخَالَفَتِهِ الْإِجْمَاعَ وَخُرُوجِهِ عن أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالدَّلِيلُ
عليه ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبي نَامَ في
صَلَاتِهِ حتى غَطَّ وَنَفَخَ ثُمَّ قال لَا وُضُوءَ على من نَامَ قَائِمًا أو
قَاعِدًا أو رَاكِعًا أو سَاجِدًا إنَّمَا الْوُضُوءُ على من نَامَ مُضْطَجِعًا فإنه
إذَا نَامَ مُضْطَجِعًا اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ نَصَّ على الْحُكْمِ وَعَلَّلَ
بِاسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ وَكَذَا النَّوْمُ مُتَوَرِّكًا بِأَنْ نَامَ على
أَحَدِ وِرْكَيْهِ لِأَنَّ مَقْعَدَهُ يَكُونُ مُتَجَافِيًا عن الْأَرْضِ فَكَانَ
في مَعْنَى النَّوْمِ مُضْطَجِعًا في كَوْنِهِ سَبَبًا لِوُجُودِ الْحَدَثِ
بِوَاسِطَةِ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ وَزَوَالُ مَسْكَةُ الْيَقَظَةِ
فَأَمَّا النَّوْمُ في غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ فإما إنْ كان في
الصَّلَاةِ وإما إنْ كان في غَيْرِهَا فَإِنْ كان في الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ
حَدَثًا سَوَاءٌ غَلَبَهُ النَّوْمُ أو تَعَمَّدَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عن النَّوْمِ في
الصَّلَاةِ فقال لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَلَا أَدْرِي سألته ( ( ( أسألته ) ) )
عن الْعَمْدِ أو الْغَلَبَةِ وَعِنْدِي أَنَّهُ إنْ نَامَ مُتَعَمِّدًا يُنْتَقَضُ
وضوؤه
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّوْمَ حَدَثٌ على كل حَالٍ إلَّا إذَا كان
قَاعِدًا مُسْتَقِرًّا على الْأَرْضِ فَلَهُ فيه قَوْلَانِ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ
عن صَفْوَانَ بن عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ أَنَّهُ قال كان النبي يَأْمُرُنَا أَنْ
لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا إذَا كنا سَفْرًا
إلَّا من جَنَابَةٍ لَكِنْ من نَوْمٍ أو بَوْلٍ أو غَائِطٍ فَقَدْ جُعِلَ
النَّوْمُ حَدَثًا على الْإِطْلَاقِ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال الْعَيْنَانِ
وِكَاءُ السه ( ( ( الاست ) ) ) فإذا نَامَتْ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءَ
أَشَارَ إلَى كَوْنِ النَّوْمِ حَدَثًا حَيْثُ جَعَلَهُ عِلَّةَ اسْتِطْلَاقِ
الْوِكَاءِ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا عن ابْنِ عَبَّاسٍ عن النبي حَيْثُ نَفَى الْوُضُوءَ في
النَّوْمِ في غَيْرِ حَالِ الِاضْطِجَاعِ وَأَثْبَتَهُ فيها بِعِلَّةِ
اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ وَزَوَالِ مَسْكَةِ الْيَقَظَةِ ولم يُوجَدْ في هذه
الْأَحْوَالِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ فيها بَاقٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لم يَسْقُطْ
وفي الْمَشْهُورِ من الْأَخْبَارِ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال إذَا نَامَ
الْعَبْدُ في سُجُودِهِ يُبَاهِي اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَلَائِكَتَهُ فيقول
اُنْظُرُوا إلَى عَبْدِي رُوحُهُ عِنْدِي وَجَسَدُهُ في طَاعَتِي وَلَوْ كان
النَّوْمُ في الصَّلَاةِ حَدَثًا لِمَا كان جَسَدُهُ في طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى
وَلَا حُجَّةَ له فِيمَا روى لِأَنَّ مُطْلَقَ النَّوْمِ يَنْصَرِفُ إلَى
النَّوْمِ الْمُتَعَارَفِ وهو نَوْمُ الْمُضْطَجِعِ وَكَذَا اسْتِطْلَاقُ
الْوِكَاءِ يَتَحَقَّقُ بِهِ لَا بِكُلِّ نَوْمٍ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ إن الْقِيَاسَ في النَّوْمِ حَالَة الْقِيَامِ
وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَنْ يَكُونَ حَدَثًا لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِوُجُودِ
الْحَدَثِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ حَالَةَ الْغَلَبَةِ لِضَرُورَةِ
التَّهَجُّدِ نظرا ( ( ( نظر ) ) ) لِلْمُتَهَجِّدِينَ وَذَلِكَ عِنْدَ
الْغَلَبَةِ دُونَ التَّعَمُّدِ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا من الْحَدِيثَيْنِ من غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّ
الِاسْتِمْسَاكَ في هذه الْأَحْوَالِ بَاقٍ لِمَا بَيَّنَّا
وَإِنْ كان خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنْ كان قَاعِدًا مُسْتَقِرًّا على الْأَرْضِ
غير مُسْتَنِدٍ إلَى شَيْءٍ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّهُ ليس بِسَبَبٍ لِوُجُودِ
الْحَدَثِ غَالِبًا وَإِنْ كان قَائِمًا أو على هَيْئَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
غير مُسْتَنِدٍ إلَى شَيْءٍ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه وَالْعَامَّةُ على أَنَّهُ
لَا يَكُونُ حَدَثًا لِمَا رَوَيْنَا من الحديث من غَيْرِ فَصْلٍ بين حَالَةِ
الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَلِأَنَّ الِاسْتِمْسَاكَ فيها بَاقٍ على ما مَرَّ
وَالْأَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ في النَّوْمِ على هَيْئَةِ السُّجُودِ خَارِجَ
الصَّلَاةِ ما ذَكَرَهُ الْقُمِّيُّ أَنَّهُ لَا نَصَّ فيه وَلَكِنْ يُنْظَرُ فيه
إنْ سَجَدَ على الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ بِأَنْ كان رَافِعًا بَطْنَهُ عن
فَخْذَيْهِ مُجَافِيًا عَضُدَيْهِ عن جَنْبَيْهِ لَا يَكُونُ حَدَثًا وَإِنْ
سَجَدَ لَا على وَجْهِ السُّنَّةِ بِأَنْ أَلْصَقَ بَطْنَهُ بِفَخِذَيْهِ
وَاعْتَمَدَ على ذِرَاعَيْهِ على الْأَرْضِ يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّ في الْوَجْهِ
الْأَوَّلِ الِاسْتِمْسَاكَ بَاقٍ وَالِاسْتِطْلَاقَ مُنْعَدِمٌ وفي الْوَجْهِ
الثَّانِي بِخِلَافِهِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هذا الْقِيَاسَ في حَالَةِ
الصَّلَاةِ بِالنَّصِّ
وَلَوْ نَامَ مُسْتَنِدًا إلَى جِدَارٍ أو سَارِيَةٍ أو رَجُلٍ مُتَّكِئًا على
يَدَيْهِ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ إنْ كان بِحَالٍ لو زايل ( ( ( أزيل ) ) )
السَّنَدُ لَسَقَطَ يَكُونُ حَدَثًا وَإِلَّا فَلَا وَبِهِ أَخَذَ كَثِيرٌ من
مَشَايِخِنَا
وَرَوَى خَلَفُ بن أَيُّوبَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّنْ
اسْتَنَدَ إلَى سَارِيَةٍ أو رَجُلٍ فَنَامَ
وَلَوْلَا السَّارِيَةُ وَالرَّجُلُ لم يَسْتَمْسِكْ قال إذَا كانت إليته
مُسْتَوْثِقَةً من الْأَرْضِ فَلَا وُضُوءَ عليه وَبِهِ أَخَذَ عَامَّةُ
مَشَايِخِنَا وهو الْأَصَحُّ لِمَا رَوَيْنَا من الحديث وَذَكَرْنَا من الْمَعْنَى
وَلَوْ نَامَ قَاعِدًا مُسْتَقِرًّا على الْأَرْضِ فَسَقَطَ وَانْتَبَهَ فَإِنْ
انْتَبَهَ بَعْدَمَا سَقَطَ على الْأَرْضِ وهو نَائِمٌ انْتَقَضَ وضوؤه
بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ النَّوْمِ مُضْطَجِعًا وَإِنْ قَلَّ وَإِنْ انْتَبَهَ
قبل أَنْ يَصِلَ جَنْبُهُ إلَى الْأَرْضِ رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا
يُنْتَقَضُ وضوؤه لِانْعِدَامِ النَّوْمِ مُضْطَجِعًا
ووعن ( ( ( وعن ) ) ) أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُنْتَقَضُ وضوؤه لِزَوَالِ
الِاسْتِمْسَاكِ بِالنَّوْمِ حَيْثُ سَقَطَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ انْتَبَهَ
قبل أَنْ يُزَايِلَ مَقْعَدُهُ الْأَرْضَ لم يُنْتَقَضُ وضوؤه وَإِنْ زَايَلَ
مَقْعَدُهُ قبل
____________________
(1/31)
أَنْ
يَنْتَبِهَ اُنْتُقِضَ وضوؤه
مبحث القهقهة في الصلاة وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ الْقَهْقَهَةُ في صَلَاةٍ
مُطْلَقَةٍ وَهِيَ الصَّلَاةُ التي لها رُكُوعٌ وَسُجُودٌ فَلَا يَكُونُ حَدَثًا
خَارِجَ الصَّلَاةِ وَلَا في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ
وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَكُونَ حَدَثًا وهو قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ وَلَا خِلَافَ في التَّبَسُّمِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى جَابِرٌ عن النبي أَنَّهُ قال الضَّحِكُ
يَنْقُضُ الصَّلَاةَ وَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَلِأَنَّهُ لم يُوجَدْ الْحَدَثُ
حَقِيقَةً وَلَا ما هو سَبَبُ وُجُودِهِ وَالْوُضُوءُ لَا يُنْتَقَضُ إلَّا
بِأَحَدِ هَذَيْنِ وَلِهَذَا لم يُنْتَقَضْ بِالْقَهْقَهَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ
وفي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَلَا يُنْقَضُ بِالتَّبَسُّمِ
وَلَنَا ما رُوِيَ في الْمَشَاهِيرِ عن النبي أَنَّهُ كان يُصَلِّي فَجَاءَ
أَعْرَابِيٌّ في عَيْنَيْهِ سَوْءٌ فَوَقَعَ في بِئْرٍ عليها خُصْفَةٌ فَضَحِكَ
بَعْضُ من خَلْفِهِ فلما قَضَى النبي الصَّلَاةَ قال من قَهْقَهَ مِنْكُمْ
فَلْيُعِدْ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ وَمِنْ تَبَسَّمَ فَلَا شَيْءَ عليه طَعَنَ
أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ في الْحَدِيث من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ليس في
مَسْجِدِ رسول اللَّهِ بِئْرٌ
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالصَّحَابَةِ الضَّحِكُ في الصلاة خُصُوصًا
خَلْفَ رسول اللَّهِ وَهَذَا الطَّعْنُ فَاسِدٌ لِأَنَّا ما رَوَيْنَا أن
الصَّلَاةَ كانت في الْمَسْجِدِ على أَنَّهُ كانت في الْمَسْجِدِ حَفِيرَةٌ
يُجْمَعُ فيها مَاءُ الْمَطَرِ وَمِثْلُهَا يُسَمَّى بِئْرًا وَكَذَا ما رَوَيْنَا
أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ أو الْعَشَرَةَ الْمُبَشِّرِينَ أو
الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ أو فُقَهَاءَ الصَّحَابَةِ وَكِبَارَ الْأَنْصَارِ
هُمْ الَّذِينَ ضَحِكُوا بَلْ كان الضَّاحِكُ بَعْضُ الْأَحْدَاثِ أو الْأَعْرَابِ
أو بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عليهم حتى رُوِيَ أَنَّ
أَعْرَابِيًّا بَالَ في مَسْجِدِ رسول اللَّهِ وَحَدِيثُ جَابِرٍ مَحْمُولٌ على ما
دُونِ الْقَهْقَهَةِ تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ مع أَنَّهُ قِيلَ إنَّ الضَّحِكَ
ما يُسْمِعُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ وَلَا يُسْمِعُ جِيرَانَهُ ( وَالْقَهْقَهَةُ ما
يُسْمِعُ جِيرَانَهُ ) وَالتَّبَسُّمُ ما لَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَلَا جِيرَانَهُ
وَقَوْلُهُ لم يُوجَدْ الْحَدَثُ وَلَا سَبَبُ وُجُودِهِ
مُسَلَّمٌ لَكِنْ هذا حُكْمُ عُرْفٍ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ
وَرَدَ بِانْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِالْقَهْقَهَةِ في صَلَاةٍ مُسْتَتِمَّةِ
الْأَرْكَانِ فَبَقِيَ ما وَرَاءَ ذلك على أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَرُوِيَ عن جَرِيرِ بن عبد اللَّهِ الْبَجَلِيِّ أَنَّهُ قال ما رَآنِي رسول
اللَّهِ إلَّا تَبَسَّمَ وَلَوْ في الصَّلَاةِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ تَبَسَّمَ في صَلَاتِهِ فلما فَرَغَ سُئِلَ عن ذلك فقال أَتَانِي
جِبْرِيلُ عليه السَّلَامُ وَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يقول من صلى
عَلَيْك مَرَّةً صلى اللَّهُ عليه عَشْرًا
وَلَوْ قَهْقَهَ الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ جميعا فَإِنْ قهقهة ( ( ( قهقه ) ) )
الإمام أَوَّلًا انْتَقَضَ وضوؤه ( ( ( وضؤه ) ) ) دُونَ الْقَوْمِ لِأَنَّ
قَهْقَهَتَهُمْ لم تُصَادِفْ تَحْرِيمَةَ الصَّلَاةِ لِفَسَادِ صَلَاتِهِمْ
بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَجَعَلْت قهقهتهم ( ( ( قهقهتم ) ) ) خَارِجَ
الصَّلَاةِ وَإِنْ قَهْقَهَ الْقَوْمُ أَوَّلًا ثُمَّ الْإِمَامُ انْتَقَضَ
طَهَارَةُ الْكُلِّ لِأَنَّ قَهْقَهَتَهُمْ حَصَلَتْ في الصَّلَاةِ أَمَّا
الْقَوْمُ فَلَا إشْكَالَ وَأَمَّا الْإِمَامُ فَلِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ خَارِجًا
من الصَّلَاةِ بِخُرُوجِ الْقَوْمِ وَكَذَلِكَ إنْ قَهْقَهُوا مَعًا لِأَنَّ
قَهْقَهَةَ الْكُلِّ حَصَلَتْ في تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ
وَأَمَّا تَغْمِيضُ الْمَيِّتِ وَغَسْلِهِ وَحَمْلُ الْجِنَازَةِ وَأَكْلُ ما
مَسَّتْهُ النَّارُ وَالْكَلَامُ الْفَاحِشِ فَلَيْسَ شَيْءٌ من ذلك حَدَثًا
عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال بَعْضُهُمْ كُلُّ ذلك حَدَثٌ وَرَوَوْا في ذلك
عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من غَمَّضَ مَيِّتًا فَلْيَتَوَضَّأْ وَمَنْ غَسَّلَ
مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ وَمَنْ حَمَلَ جِنَازَةً فَلْيَتَوَضَّأْ
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت لِلْمُتَسَابَّيْنِ إنَّ بَعْضَ ما
أَنْتُمَا فيه لَشَرٌّ من الْحَدَثِ فَجَدِّدَا الْوُضُوءَ
وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي أَنَّهُ قال توضؤوا ( ( ( توضئوا ) )
) مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ
وَمِنْهُمْ من أَوْجَبَ من لَحْمِ الْإِبِلِ خَاصَّةً وَرُوِيَ توضؤوا ( ( (
توضئوا ) ) ) من لُحُومِ الْإِبِلِ وَلَا تتوضؤوا ( ( ( تتوضئوا ) ) ) من لُحُومِ
الْغَنَمِ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا عن النبي أَنَّهُ قال إنَّمَا عَلَيْنَا الْوُضُوءُ مِمَّا
يَخْرُجُ ليس مِمَّا يَدْخُلُ
وقال ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ يَعْنِي
الْخَارِجَ النَّجِسَ ولم يُوجَدْ وَالْمَعْنَى في الْمَسْأَلَةِ إن الْحَدَثَ هو
خُرُوجُ النَّجَسِ حَقِيقَةً أو ما هو سَبَبُ الْخُرُوجِ ولم يُوجَدْ وَإِلَيْهِ
أَشَارَ ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما حين بَلَغَهُ حَدِيثُ حَمْلِ الْجِنَازَةِ
فقال أَنَتَوَضَّأُ من مَسِّ عِيدَانٍ يَابِسَةٍ وَلِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ
مِمَّا يَغْلِبُ وُجُودُهَا فَلَوْ جُعِلَ شَيْءٌ من ذلك حَدَثًا لَوَقَعَ الناس
في الْحَرَجِ وما رَوَوْا أَخْبَارَ آحَادٍ وَرَدَتْ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى
وَيَغْلِبُ وُجُودُهُ وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ في مِثْلِهِ لِأَنَّهُ
دَلِيلُ عَدَمِ الثُّبُوتِ إذْ لو ثَبَتَ لَاشْتَهَرَ بِخِلَافِ خَبَرِ
الْقَهْقَهَةِ فإنه من الْمَشَاهِيرِ مع ما أنه وَرَدَ فِيمَا لَا تَعُمُّ بِهِ
الْبَلْوَى لِأَنَّ الْقَهْقَهَةَ في الصَّلَاةِ مِمَّا لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ
وَلَوْ ثَبَتَ ما رَوَوْا فَالْمُرَادُ من الْوُضُوءِ بِتَغْمِيضِ الْمَيِّتِ
غَسْلُ الْيَدِ لِأَنَّ ذلك الْمَوْضِعَ لَا يَخْلُو عن قَذَارَةٍ عَادَةً وَكَذَا
بِأَكْلِ ما مَسَّتْهُ النَّارُ وَلِهَذَا خَصَّ لَحْمَ الْإِبِلِ في رِوَايَةٍ
لِأَنَّ له
____________________
(1/32)
من
اللُّزُوجَةِ ما ليس لِغَيْرِهِ
وَهَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ أَكَلَ طَعَامًا فَغَسَلَ يَدَيْهِ وقال هَكَذَا
الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ وَالْمُرَادُ من حديث الْغُسْلِ
فَلْيَغْتَسِلْ إذَا أَصَابَتْهُ الْغَسَّالَاتُ النَّجِسَةُ وَقَوْلُهُ
فَلْيَتَوَضَّأْ في حَمْلِ الْجِنَازَةِ لِلْمُحْدِثِ لِيَتَمَكَّنَ من الصَّلَاةِ
عليه وَعَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها إنَّمَا نَدَبَتْ الْمُتَسَابَّيْنِ إلَى
تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ تَكْفِيرًا لِذَنْبِ سَبِّهِمَا
وَمَنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ جَزَّ شَعْرَهُ أو قَلَّمَ ظُفْرَهُ أو قَصَّ شَارِبَهُ أو
نَتَفَ إبِطَيْهِ لم يَجِبْ عليه إيصَالُ الْمَاءِ إلَى ذلك الْمَوْضِعِ عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وَعِنْدَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ يَجِبُ عليه في قَلْمِ الظُّفْرِ وَجَزِّ
الشَّعْرِ وَقَصِّ الشَّارِبِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ ما حَصَلَ فيه التَّطْهِيرُ قد زَالَ وما ظَهَرَ لم
يَحْصُلْ فيه التَّطْهِيرُ فَأَشْبَهَ نَزْعَ الْخُفَّيْنِ
وَلَنَا أَنَّ الْوُضُوءَ قد تَمَّ فَلَا يُنْتَقَضُ إلَّا بِالْحَدَثِ ولم
يُوجَدْ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَدَثَ على ( ( ( يحل ) ) ) ظَاهِرَ الْبَدَنِ وقد
زَالَ الْحَدَثُ عن الظَّاهِرِ إمَّا بِالْغَسْلِ أو بِالْمَسْحِ وما بَدَا لم
يَحِلَّهُ الْحَدَثُ السَّابِقُ وَبَعْدَ بُدُوِّهِ لم يُوجَدْ حَدَثٌ آخَرُ فَلَا
تُعْقَلُ إزَالَتُهُ بِخِلَافِ الْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ لِأَنَّ هُنَاكَ الوضوء
لم يَتِمَّ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِغَسْلِ لقدمين ( ( ( القدمين ) ) ) ولم يُوجَدْ
إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الْمَسْحَ على الْخُفَّيْنِ مَقَامَ غَسْلِ
الْقَدَمَيْنِ لِضَرُورَةِ تَعَذُّرِ النَّزْعِ في كل زَمَانٍ فإذا نَزَعَ زَالَتْ
الضَّرُورَةُ فَوَجَبَ غَسْلُ الْقَدَمَيْنِ تَتْمِيمًا لِلْوُضُوءِ
وَإِنَّمَا أَوْرَدَ نَتْفَ الْإِبِطِ وَإِنْ لم يَكُنْ ما يَظْهَرُ بِالنَّتْفِ
مَحَلًّا لِحُلُولِ الْحَدَثِ فيه بِخِلَافِ قَلْمِ الْأَظْفَارِ لِأَنَّهُ رُوِيَ
عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال من مَسَحَ إبِطَيْهِ فَلْيَتَوَضَّأْ
وَتَأْوِيلُهُ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ لِتَلَوُّثِهِمَا بِعَرَقِهِ
وَلَوْ مَسَّ كَلْبًا أو خِنْزِيرًا أو وطىء نَجَاسَةً لَا وُضُوءَ عليه
لِانْعِدَامِ الْحَدَثِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا إلَّا أَنَّهُ إذَا الْتَزَقَ بيده
شَيْءٌ من النَّجَاسَةِ يَجِبُ غَسْلُ ذلك الْمَوْضِعِ وَإِلَّا فَلَا
وَمَنْ أَيْقَنَ بِالطَّهَارَةِ وَشَكَّ في الْحَدَثِ فَهُوَ على الطَّهَارَةِ
وَمَنْ أَيْقَنَ بِالْحَدَثِ وَشَكَّ في الطَّهَارَةِ فَهُوَ على الْحَدَثِ
لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال
المتوضىء ( ( ( المتوضئ ) ) ) إذَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ دخل الْخَلَاءَ لِقَضَاءِ
الْحَاجَةِ وَشَكَّ أَنَّهُ خَرَجَ قبل أَنْ يَقْضِيَهَا أو بَعْدَ ما قَضَاهَا
فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ ما خَرَجَ إلَّا بَعْدَ
قَضَائِهَا وَكَذَلِكَ الْمُحْدِثُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ جَلَسَ لِلْوُضُوءِ
وَمَعَهُ الْمَاءُ وَشَكَّ في أَنَّهُ تَوَضَّأَ أو قام قبل أَنْ يَتَوَضَّأَ
فَلَا وُضُوءَ عليه لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَقُومُ ما لم يَتَوَضَّأْ
وَلَوْ شَكَّ في بَعْضِ وُضُوئِهِ وهو أَوَّلُ ما شَكَّ غَسَلَ الْمَوْضِعَ الذي
شَكَّ فيه لِأَنَّهُ على يَقِينٍ من الْحَدَثِ في ذلك الْمَوْضِعِ وفي شَكِّ من
غَسَلَهُ وَالْمُرَادُ من قَوْلِهِ أَوَّلَ ما شَكَّ أَنَّ الشَّكَّ في مِثْلِهِ
يَصِرْ عَادَةً له لَا أَنَّهُ لم يَبْتَلَّ بِهِ قَطُّ وَإِنْ كان يَعْرِضُ له
ذلك كَثِيرًا لم يُلْتَفَتْ إلَيْهِ لِأَنَّ ذلك وَسْوَسَةٌ وَالسَّبِيلُ في
الْوَسْوَسَةِ قَطْعُهَا لِأَنَّهُ لو اشْتَغَلَ بِذَلِكَ لَأَدَّى إلَى أَنْ لا (
( ( يتفرع ) ) ) يتفرغ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلَوْ تَوَضَّأَ ثُمَّ رَأَى الْبَلَلَ سَائِلًا من ذَكَرِهِ أَعَادَ الْوُضُوءَ
لِوُجُودِ الْحَدَثِ وهو سَيَلَانُ الْبَوْلِ وَإِنَّمَا قال رَآهُ سَائِلًا
لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْبَلَلِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ من مَاءِ الطَّهَارَةِ
فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ بَوْلٌ ظَهَرَ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ وَإِنْ لم يَكُنْ
سَائِلًا وَإِنْ كان الشَّيْطَانُ يُرِيه ذلك كَثِيرًا ولا ( ( ( ولم ) ) )
يَعْلَمْ أَنَّهُ بَوْلٌ أو مَاءٌ مَضَى على صَلَاتِهِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى ذلك
لِأَنَّهُ من بَابِ الْوَسْوَسَةِ فَيَجِبُ قَطْعُهَا
وقال النبي إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بين إليتيه فيقول
أَحْدَثْت أَحْدَثْت فَلَا يَنْصَرِفْ حتى يَسْمَعَ صَوْتًا أو يَجِدَ رِيحًا
وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْضَحَ فَرْجَهُ أو إزَارَهُ بِالْمَاءِ إذَا تَوَضَّأَ
قَطْعًا لِهَذِهِ الْوَسْوَسَةِ حتى إذَا أَحَسَّ شيئا من ذلك أَحَالَهُ إلَى ذلك
الْمَاءِ
وقد رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ كان يَنْضَحُ إزَارَهُ بِالْمَاءِ إذَا تَوَضَّأَ وفي
بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قال نَزَلَ عَلَيَّ جِبْرِيلُ صَلَوَاتُ عليه وَأَمَرَنِي
بِذَلِكَ
مبحث مَسِّ الْمُصْحَفِ وَأَمَّا الثَّانِي وهو بَيَانُ حُكْمِ الْحَدَثِ
فَلِلْحَدَثِ أَحْكَامٌ وَهِيَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْمُحْدِثِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ
لِفَقْدِ شَرْطِ جَوَازِهَا وهو الْوُضُوءُ
قال لَا صَلَاةَ إلَّا بِوُضُوءٍ وَلَا مَسُّ الْمُصْحَفِ من غَيْرِ غُلَافٍ
عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُبَاحُ له مَسُّ الْمُصْحَفِ من غَيْرِ غُلَافٍ
وَقَاسَ الْمَسَّ على الْقِرَاءَةِ فقال يَجُوزُ له الْقِرَاءَةُ فَيَجُوزُ له
الْمَسُّ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ } وَقَوْلُ النبي
لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ وَلِأَنَّ تَعْظِيمَ الْقُرْآنِ وَاجِبٌ
وَلَيْسَ مَسُّ التعظيم من الْمُصْحَفِ بِيَدٍ حَلَّهَا حَدَثٌ واعتباره ( ( (
واعتبار ) ) ) الْمَسِّ بِالْقِرَاءَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَدَثِ
لم يَظْهَرْ في الْفَمِ وَظَهَرَ في الْيَدِ بِدَلِيلٍ أَنَّهُ افْتَرَضَ غَسْلَ
الْيَدِ ولم يَفْتَرِضْ غَسْلَ الْفَمِ في الْحَدَثِ فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ وَلَا
مَسُّ الدَّرَاهِمِ التي عليها الْقُرْآنُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمُصْحَفِ
كَحُرْمَةِ ما كُتِبَ منه فَيَسْتَوِي فيه الْكِتَابَةُ في الْمُصْحَفِ وَعَلَى
الدَّرَاهِمِ وَلَا مَسُّ كِتَابِ التَّفْسِيرِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَسِّهِ
مَاسًّا لِلْقُرْآنِ
وَأَمَّا مَسُّ كِتَابِ الْفِقْهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ
____________________
(1/33)
وَالْمُسْتَحَبُّ
له أَنْ لَا يَفْعَلَ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَإِنْ طَافَ جَازَ مع النُّقْصَانِ
لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ شَبِيهٌ بِالصَّلَاةِ قال النبي الطَّوَافُ
بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ ليس بِصَلَاةٍ حقيقة ( ( ( حقيقية ) ) ) فَلِكَوْنِهِ
طَوَافًا حَقِيقَةً يَحْكُمُ بِالْجَوَازِ وَلِكَوْنِهِ شَبِيهًا بِالصَّلَاةِ يُحْكَمَ
بِالْكَرَاهَةِ
ثُمَّ ذَكَرَ الْغِلَافَ ولم يذكر تَفْسِيرَهُ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في
تَفْسِيرِهِ فقال بَعْضُهُمْ هو الْجِلْدُ الْمُتَّصِلُ بِالْمُصْحَفِ
وقال بَعْضُهُمْ هو الْكُمُّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ الْغِلَافُ الْمُنْفَصِلُ عن
الْمُصْحَفِ وهو الذي يُجْعَلُ فيه الْمُصْحَفُ وقد يَكُونُ من الْجِلْدِ وقد
يَكُونُ من الثَّوْبِ وهو الْخَرِيطَةُ لِأَنَّ الْمُتَّصِلَ بِهِ تَبَعٌ له
فَكَانَ مَسُّهُ مَسًّا لِلْقُرْآنِ وَلِهَذَا لو بيع ( ( ( لبيع ) ) )
الْمُصْحَفُ دخل الْمُتَّصِلُ بِهِ في الْبَيْعِ وَالْكُمُّ تَبَعٌ لِلْحَامِلِ
فَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ فَلَيْسَ بِتَبَعٍ حتى لَا يَدْخُلَ في بَيْعِ الْمُصْحَفِ
من غَيْرِ شَرْطٍ وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّمَا يُكْرَهُ مَسُّ الْمَوْضِعِ
الْمَكْتُوبِ دُونَ الْحَوَاشِي لِأَنَّهُ لم يَمَسَّ الْقُرْآنَ حَقِيقَةً وَالصَّحِيحُ
أَنَّهُ يُكْرَهُ مَسُّ كُلِّهِ لِأَنَّ الْحَوَاشِيَ تَابِعَةٌ لِلْمَكْتُوبِ
فَكَانَ مَسُّهَا مَسًّا لِلْمَكْتُوبِ
وَيُبَاحُ له قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان لَا
يَحْجِزُهُ عن قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إلَّا الْجَنَابَةُ وَيُبَاحُ له
دُخُولُ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ وُفُودَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَأْتُونَ رَسُولَ
اللَّهِ وهو في الْمَسْجِدِ فَيَدْخُلُونَ عليه ولم يَمْنَعْهُمْ من ذلك وَيَجِبُ
عليه الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ حتى يَجِبَ قَضَاؤُهُمَا بِالتَّرْكِ لِأَنَّ الْحَدَثَ
لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ أَدَاءِ الصَّوْمِ فَلَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ وُجُوبِهِ
وَلَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَيْضًا وَإِنْ كان يُنَافِي
أَهْلِيَّةَ أَدَائِهَا لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ رَفْعُهُ بِالطَّهَارَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْغُسْلُ فَالْكَلَامُ فيه يَقَعُ في مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِ
الْغُسْلِ وفي بَيَانِ رُكْنِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ
سُنَنِ الْغُسْلِ وفي بَيَانِ آدَابِهِ وفي بَيَانِ مِقْدَارِ الْمَاءِ الذي يغتسل
( ( ( يغسل ) ) ) بِهِ وفي بَيَانِ صِفَة الْغُسْلِ
أَمَّا تَفْسِيرُهُ فَالْغُسْلُ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْمَاءِ الذي يُغْتَسَلُ
بِهِ لَكِنْ في عُرْفِ الْفُقَهَاءِ يُرَادُ بِهِ غَسْلُ الْبَدَنِ وقد مَرَّ
تَفْسِيرُ الْغَسْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ الْإِسَالَةُ حتى لَا يَجُوزُ
بِدُونِهَا
وَأَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ إسَالَةُ الْمَاءِ على جَمِيعِ ما يُمْكِنُ إسَالَتُهُ
عليه من الْبَدَنِ من غَيْرِ حَرَجٍ مَرَّةً وَاحِدَةً حتى لو بَقِيَتْ لُمْعَةٌ
لم يُصِبْهَا الْمَاءُ لم يَجُزْ الْغُسْلُ وَإِنْ كانت يَسِيرَةً لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } أَيْ طَهِّرُوا أَبْدَانَكُمْ
وَاسْمُ الْبَدَنِ يَقَعُ على الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَيَجِبُ تَطْهِيرُ ما
يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ منه بِلَا حَرَجٍ وَلِهَذَا وَجَبَتْ الْمَضْمَضَةُ
وَالِاسْتِنْشَاقُ في الْغُسْلِ لِأَنَّ إيصَالَ الْمَاءِ إلَى دَاخِلِ الْفَمِ
وَالْأَنْفِ مُمْكِنٌ بِلَا حَرَجٍ وَإِنَّمَا لَا يَجِبَانِ في الْوُضُوءِ لَا
لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ بَلْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ
غَسْلُ الْوَجْهِ وَلَا تَقَعُ الْمُوَاجِهَةُ إلَى ذلك رَأْسًا
وَيَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى أَثْنَاءِ اللِّحْيَةِ كما يَجِبُ إلَى أُصُولِهَا
وَكَذَا يَجِبُ على الْمَرْأَةِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى أَثْنَاءِ شَعْرِهَا إذَا
كان مَنْقُوضًا كَذَا ذكره الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ لِأَنَّهُ
يُمْكِنُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى ذلك من غَيْرِ حَرَجٍ وَأَمَّا إذَا كان شَعْرُهَا
ضَفِيرًا فَهَلْ يَجِبُ عليها إيصَالُ الْمَاءِ إلَى أَثْنَائِهِ اخْتَلَفَ
الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ يَجِبُ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
تَحْتَ كل شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ أَلَا فَبُلُّوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَجِبُ وهو اخْتِيَارُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أبي بَكْرٍ
مُحَمَّدِ بن الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ وهو الْأَصَحُّ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أُمَّ
سَلَمَةَ رضي اللَّهُ عنها سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقالت
إنِّي أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ إذَا اغْتَسَلْت فقال صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَفِيضِي الْمَاءَ على رَأْسِك وَسَائِرِ جَسَدِك وَيَكْفِيك إذَا
بَلَغَ الْمَاءُ أصولع ( ( ( أصول ) ) ) شَعْرِك وَلِأَنَّ ضَفِيرَتَهَا إذَا كانت
مَشْدُودَةً فَتَكْلِيفُهَا نَقْضُهَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ وَلَا حَرَجَ حَالَ
كَوْنِهَا مَنْقُوضَةٌ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على هذه الْحَالَةِ
وَيَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى دَاخِلِ السُّرَّةِ لِإِمْكَانِ الْإِيصَالِ
إلَيْهَا بِلَا حَرَجٍ وَيَنْبَغِي أَنْ يُدْخِلَ أُصْبُعَهُ فيها المبالغة ( ( (
للمبالغة ) ) ) وَيَجِبُ على الْمَرْأَةِ غَسْلُ الْفَرْجِ الْخَارِجِ لِأَنَّهُ
يُمْكِنُ غَسْلُهُ بِلَا حَرَجٍ وَكَذَا الْأَقْلَفُ يحب ( ( ( يجب ) ) ) عليه
إيصَالُ الْمَاءِ إلَى الْقُلْفَةِ
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَجِبُ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِإِمْكَانِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ
من غَيْرِ حَرَجٍ
وَأَمَّا شُرُوطُهُ فما ذَكَرْنَا في الْوُضُوءِ
وَأَمَّا سُنَنُهُ فَهِيَ أَنْ يَبْدَأَ فَيَأْخُذَ الْإِنَاءَ بِشِمَالِهِ
وَيَكْفِيهِ على يَمِينِهِ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ إلَى الرُّسْغَيْنِ ثَلَاثًا ثُمَّ
يُفْرِغُ الْمَاءَ بِيَمِينِهِ على شِمَالِهِ فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ حتى يُنَقِّيَهُ
ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا إلَّا أَنَّهُ لَا
يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ حتى يُفِيضَ الْمَاءَ على رَأْسِهِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ
ثَلَاثًا ثُمَّ يَتَنَحَّى فَيَغْسِلُ قَدَمَيْهِ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن مَيْمُونَةَ زَوْجِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أنها قالت وَضَعْتُ غُسْلًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِيَغْتَسِلَ
من الْجَنَابَةِ فَأَخَذَ الْإِنَاءَ بِشِمَالِهِ وَأَكْفَأَهُ على يَمِينِهِ
فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ أَنْقَى فَرْجَهُ
____________________
(1/34)
بِالْمَاءِ
ثُمَّ مَالَ بيده إلَى الْحَائِطِ فَدَلَّكَهَا بِالتُّرَابِ ثُمَّ تَوَضَّأَ
وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ غير غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ ثُمَّ أَفَاضَ الْمَاءَ على
رَأْسِهِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ
فَالْحَدِيثُ مُشْتَمِلٌ على بَيَانِ السُّنَّةِ وَالْفَرِيضَةِ جميعا وَهَلْ
يَمْسَحُ رَأْسَهُ عِنْدَ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ على الْغُسْلِ ذُكِرَ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَمْسَحُ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَمْسَحُ لِأَنَّ تَسْيِيلَ
الْمَاءِ عليه بَعْدَ ذلك يُبْطِلُ مَعْنَى الْمَسْحِ فلم يَكُنْ فيه فَائِدَةٌ
بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ لِأَنَّ التَّسْيِيلَ من بَعْدُ لَا يُبْطِلُ
التَّسْيِيلَ من قَبْلُ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ السُّنَّةَ
وَرَدَتْ بِتَقْدِيمِ الْوُضُوءِ على الْإِفَاضَةِ على جَمِيعِ الْبَدَنِ على ما
رَوَيْنَا وَالْوُضُوءُ اسْمٌ لِلْمَسْحِ وَالْغُسْلِ جميعا إلَّا أَنَّهُ
يُؤَخِّرُ غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ في تَقْدِيمِ غَسْلِهِمَا
لِأَنَّهُمَا يَتَلَوَّثَانِ بِالْغُسَالَاتِ من بَعْدُ حتى لو اغْتَسَلَ على
مَوْضِعٍ لَا يَجْتَمِعُ الْغُسَالَةُ تَحْتَ قَدَمِهِ كَالْحَجَرِ وَنَحْوِهِ لَا
يُؤَخِّرُ لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّلَوُّثِ وَلِهَذَا قالوا في غُسْلِ
الْمَيِّتِ إنَّهُ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ عِنْدَ التَّوْضِئَةِ وَلَا يُؤَخِّرُ
غَسْلَهُمَا لِأَنَّ الْغُسَالَةَ لَا تَجْتَمِعُ على التَّخْتِ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من اسْتَدَلَّ بِتَأْخِيرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ عِنْدَ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ على الْإِفَاضَةِ على أَنَّ
الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ نَجَسٌ إذْ لو لم يَكُنْ نَجَسًا لم يَكُنْ
لِلتَّحَرُّجِ عن الظاهر ( ( ( الطاهر ) ) ) مَعْنَى فَجَعَلُوهُ حُجَّةَ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ على مُحَمَّدٍ وَلَيْسَ فيه كَبِيرُ حُجَّةٍ لِأَنَّ
الْإِنْسَانَ كما يَتَحَرَّجُ عن النَّجَسِ يَتَحَرَّجُ عن الْقَذَرِ خُصُوصًا
الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليهم وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ
قد أُزِيلَ إلَيْهِ قَذَرُ الْحَدَثِ حتى تَعَافُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
مبحث آداب الوضوء وَأَمَّا آدَابُهُ فما ذَكَرْنَا في الْوُضُوءِ
وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْمَاءِ الذي يَغْتَسِلُ بِهِ فَقَدْ ذُكِرَ فيظاهر
الرِّوَايَةِ وقال أَدْنَى ما يَكْفِي في الْغُسْلِ من الْمَاءِ صَاعٌ وفي
الْوُضُوءِ مُدٌّ لِمَا رُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم كان يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ فَقِيلَ له
إنْ لم يَكْفِنَا فَغَضِبَ وقال لقد كَفَى من هو خَيْرٌ مِنْكُمْ وَأَكْثَرُ
شَعْرًا
ثُمَّ إنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ الصَّاعَ في الْغُسْلِ وَالْمُدَّ
في الْوُضُوءِ مُطْلَقًا عن الْأَحْوَالِ ولم يُفَسِّرْهُ
قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا هذا التَّقْدِيرُ في الْغُسْلِ إذَا لم يَجْمَعْ بين
الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فَأَمَّا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا يَحْتَاجُ إلَى عَشْرَةِ
أَرْطَالٍ رَطْلَانِ لِلْوُضُوءِ وَثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ لِلْغُسْلِ وقال
عَامَّةُ الْمَشَايِخِ إنَّ الصَّاعَ كَافٍ لَهُمَا
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال في الْوُضُوءِ إنْ كان المتوضىء (
( ( المتوضئ ) ) ) مُتَخَفِّفًا وَلَا يَسْتَنْجِي يَكْفِيهِ رَطْلٌ وَاحِدٌ
لِغَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ وَإِنْ كان مُتَخَفِّفًا
وَيَسْتَنْجِي يَكْفِيهِ رَطْلَانِ رَطْلٌ لِلِاسْتِنْجَاءِ وَرَطْلٌ لِلْبَاقِي
ثُمَّ هذا التَّقْدِيرُ الذي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ من الصَّاعِ وَالْمُدِّ في
الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ ليس بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ
النُّقْصَانُ عنه أو الزِّيَادَةُ عليه بَلْ هو بَيَانُ مِقْدَارِ أَدْنَى
الْكِفَايَةِ عَادَةً حتى إنَّ من أسبع ( ( ( أسبغ ) ) ) الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ
بِدُونِ ذلك أَجْزَأَهُ وَإِنْ لم يَكْفِهِ زَادَ عليه لِأَنَّ طِبَاعَ الناس
وَأَحْوَالَهُمْ تَخْتَلِفُ
وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان
يَتَوَضَّأُ بِثُلُثَيْ مُدٍّ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ عليه بِقَدْرِ ما لَا
إسْرَافَ فيه لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَرَّ على سَعْدِ بن
أبي وَقَّاصٍ وهو يَتَوَضَّأُ وَيَصُبُّ صَبًّا فَاحِشًا فقال إيَّاكَ وَالسَّرَفَ
فقال أو في الْوُضُوءِ سَرَفٌ قال نعم لو كُنْت على ضِفَّةِ نَهْرٍ جَارٍ وفي
رِوَايَةٍ وَلَوْ كُنْت على شَطِّ بَحْرٍ
وَأَمَّا صِفَةُ الْغُسْلِ فَالْغُسْلُ قد يَكُونُ فَرْضًا وقد يَكُونُ وَاجِبًا
وقد يَكُونُ سُنَّةٌ وقد يَكُونُ مُسْتَحَبًّا
أَمَّا الْغُسْلُ الْوَاجِبُ فَهُوَ غُسْلُ الْمَوْتَى والسنة فَهُوَ غُسْلُ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَيَوْمِ عَرَفَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَعِنْدَ الْإِحْرَامِ
وَسَنَذْكُرُ ذلك في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهَهُنَا نَذْكُرُ
الْمُسْتَحَبَّ وَالْفَرْضَ
أَمَّا الْمُسْتَحَبُّ فَهُوَ غُسْلُ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ من جَاءَهُ
يُرِيدُ الْإِسْلَامَ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ النَّدْبُ وَالِاسْتِحْبَابُ
هذا إذَا لم يَعْرِفْ أَنَّهُ جُنُبٌ فَأَسْلَمَ فَأَمَّا إذَا عَلِمَ كَوْنَهُ
جُنُبًا فَأَسْلَمَ قبل الِاغْتِسَالِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ لَا يَلْزَمُهُ الِاغْتِسَالُ أَيْضًا لِأَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ
مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ من الْقُرُبَاتِ وَالْغُسْلُ يَصِيرُ قُرْبَةً
بِالنِّيَّةِ فَلَا يَلْزَمُهُ
وقال بَعْضُهُمْ يَلْزَمُهُ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُنَافِي بَقَاءَ
الْجَنَابَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الْحَدَثِ حتى يَلْزَمَهُ
الْوُضُوءُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَذَا الْجَنَابَةُ وَعَلَى هذا غُسْلُ الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ عِنْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ
وَأَمَّا الْغُسْلُ الْمَفْرُوضُ فَثَلَاثَةٌ الْغُسْلُ من الْجَنَابَةِ
وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ
أَمَّا الْجَنَابَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا
فَاطَّهَّرُوا } أَيْ اغْتَسِلُوا وقَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حتى تَعْلَمُوا ما
تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُوا } فالكلام ( (
( والكلام ) ) ) في الْجَنَابَةِ
____________________
(1/35)
في
مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما تَثْبُتُ بِهِ الْجَنَابَةُ وَيَصِيرُ
الشَّخْصُ بِهِ جُنُبًا
وَالثَّانِي في بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْجَنَابَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْجَنَابَةُ تَثْبُتُ بِأُمُورٍ بَعْضُهَا مُجْمَعٌ عليه
وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فيه
أَمَّا الْمُجْمَعُ عليه فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا خُرُوجُ الْمَنِيِّ عن شَهْوَةٍ
دَفْقًا من غَيْرِ إيلَاجٍ بِأَيِّ سَبَبٍ حَصَلَ الْخُرُوجُ كَاللَّمْسِ
وَالنَّظَرِ وَالِاحْتِلَامِ حتى يَجِبَ الْغُسْلُ بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم الْمَاءُ من الْمَاءِ أَيْ الِاغْتِسَالُ من الْمَنِيِّ ثُمَّ
إنَّمَا وَجَبَ غَسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ ولم يَجِبْ
بِخُرُوجِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَإِنَّمَا وَجَبَ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ
الْمَخْصُوصَةِ لَا غير لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا إن قَضَاءَ الشَّهْوَةِ بِإِنْزَالِ
الْمَنِيِّ اسْتِمْتَاعٌ بِنِعْمَةٍ يَظْهَرُ أَثَرُهَا في جَمِيعِ الْبَدَنِ وهو
اللَّذَّةُ فَأَمَرَ بِغَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ شُكْرًا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ
وَهَذَا لَا يَتَقَرَّرُ في الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ
وَالثَّانِي إن الْجَنَابَةَ تَأْخُذُ جَمِيعَ الْبَدَنِ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ
لِأَنَّ الْوَطْءَ الذي هو سَبَبُهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاسْتِعْمَالٍ لِجَمِيعِ
ما في الْبَدَنِ من الْقُوَّةِ حتى يَضْعُفُ الْإِنْسَانُ بِالْإِكْثَارِ منه
وَيَقْوَى بِالِامْتِنَاعِ فإذا أَخَذَتْ الْجَنَابَةُ جَمِيعَ الْبَدَنِ
الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَجَبَ غَسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ
بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَلَا كَذَلِكَ الْحَدَثُ فإنه لَا يَأْخُذُ إلَّا
الظَّاهِرَ من الْأَطْرَافِ لِأَنَّ سَبَبَهُ يَكُونُ بِظَوَاهِرِ الْأَطْرَافِ من
الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَلَا يَكُونَانِ بِاسْتِعْمَالِ جَمِيعِ الْبَدَنِ
فَأَوْجَبَ غَسْلَ ظَوَاهِرِ الْأَطْرَافِ لَا جَمِيعَ الْبَدَنِ
وَالثَّالِثُ أَنَّ غَسْلَ الْكُلِّ أو الْبَعْضِ وَجَبَ وَسِيلَةً إلَى
الصَّلَاةِ التي هِيَ خِدْمَةُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْقِيَامُ بين
يَدَيْهِ وَتَعْظِيمِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي على أَطْهُرْ
الْأَحْوَالِ وَأَنْظَفِهَا لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى التَّعْظِيمِ وَأَكْمَلَ في
الْخِدْمَةِ وَكَمَالُ النَّظَافَةِ يَحْصُلُ بِغَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَهَذَا
هو الْعَزِيمَةُ في الْحَدَثِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ ذلك مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ
فَاكْتَفَى فيه بِأَيْسَرِ النَّظَافَةِ وَهِيَ تَنْقِيَةُ الْأَطْرَافِ التي
تَنْكَشِفُ كَثِيرًا وَتَقَعُ عليها الْأَبْصَارُ أَبَدًا وَأُقِيمَ ذلك مَقَامَ
غَسْلِ كل الْبَدَنِ رخصة دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَتَيْسِيرًا فَضْلًا من اللَّهِ
وَنِعْمَةً وَلَا حَرَجَ في الْجَنَابَةِ لِأَنَّهَا لَا تَكْثُرُ فَبَقِيَ
الْأَمْرُ فيها على الْعَزِيمَةِ
وَالْمَرْأَةُ في الِاحْتِلَامِ كالرجل لِمَا رُوِيَ عن أُمِّ سُلَيْمٍ أنها
سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن الْمَرْأَةِ تَرَى في
مَنَامِهَا مِثْلَ ما يَرَى الرَّجُلُ فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إنْ كان
منها مِثْلُ ما يَكُونُ من الرَّجُلِ فَلْتَغْتَسِلْ
وَرُوِيَ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كانت مُجَاوِرَةً لِأُمِّ سَلَمَةَ رضي اللَّهُ
عنها وَكَانَتْ تَدْخُلُ عليها فَدَخَلَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَأُمُّ سُلَيْمٍ عِنْدَهَا فقالت يا رَسُولَ اللَّهِ الْمَرْأَةُ إذَا رَأَتْ
أَنَّ زَوْجَهَا يُجَامِعُهَا في الْمَنَامِ أَتَغْتَسِلُ فقالت أُمُّ سَلَمَةَ
لِأُمِّ سُلَيْمٍ تَرِبَتْ يَدَاك يا أُمَّ سُلَيْمٍ فضحت ( ( ( فضحكت ) ) )
النِّسَاءُ عِنْدَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقالت أُمُّ سُلَيْمٍ إنَّ
اللَّهَ لَا ليستحي ( ( ( يستحي ) ) ) من الْحَقِّ وَإِنَّا إنْ نَسْأَلْ رَسُولَ
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عَمَّا يُشْكِلُ عَلَيْنَا خَيْرٌ من أَنْ نَكُونَ
فيه على عَمًى فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بَلْ أَنْتِ يا أُمَّ
سَلَمَةَ تَرِبَتْ يَدَاك يا أُمَّ سُلَيْمٍ عليها الْغُسْلُ إذَا وَجَدَتْ
الْمَاءَ
وَذَكَرَ ابن رُسْتُمَ في نَوَادِرِهِ إذَا احْتَلَمَ الرَّجُلُ ولم يَخْرُجْ
الْمَاءُ من إحْلِيلِهِ لَا غُسْلَ عليه وَالْمَرْأَةُ إذَا احْتَلَمَتْ ولم
يَخْرُجْ الْمَاءُ إلَى ظَاهِرِ فَرْجِهَا اغْتَسَلَتْ لِأَنَّ لها فَرْجَيْنِ
وَالْخَارِجُ مِنْهُمَا له حُكْمُ الظَّاهِرِ حتى يُفْتَرَضَ إيصَالُ الْمَاءِ
إلَيْهِ في الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الْمَاءَ بَلَغَ ذلك
الْمَوْضِعَ ولم يَخْرُجْ حتى لو كان الرَّجُلُ أَقْلَفَ فَبَلَغَ الْمَاءُ
قُلْفَتَهُ وَجَبَ عليه الْغُسْلُ
وَالثَّانِي إيلَاجُ الْفَرْجِ في الْفَرْجِ في السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ سَوَاءٌ
أَنْزَلَ أو لم يُنْزِلْ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
لَمَّا اخْتَلَفُوا في وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ بَعْدَ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وكان الْمُهَاجِرُونَ يُوجِبُونَ الْغُسْلَ
وَالْأَنْصَارُ لَا
بَعَثُوا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ إلَى عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها فقالت
سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يقول إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ
وَغَابَتْ الْحَشَفَةُ وَجَبَ الْغُسْلُ أَنْزَلَ أو لم يُنْزِلْ فَعَلْت أنا
وَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَاغْتَسَلْنَا فَقَدْ رَوَتْ قَوْلًا
وَفِعْلًا
وَرُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه ( ( ( عنها ) ) ) أَنَّهُ قال في
الْإِكْسَالِ يُوجِبُ الْحَدَّ أَفَلَا يُوجِبُ صَاعًا من مَاءٍ وَلِأَنَّ
إدْخَالَ الْفَرْجِ في الْفَرْجِ الْمُعْتَادِ من الْإِنْسَانِ سَبَبٌ لِنُزُولِ
الْمَنِيِّ عَادَةً فَيُقَامُ مَقَامَهُ احْتِيَاطًا
وَكَذَا الْإِيلَاجُ في السَّبِيلِ الْآخَرِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْإِيلَاجِ في
السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ في وُجُوبِ الْغُسْلِ بِدُونِ الْإِنْزَالِ
أَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْحَدَّ
أَفَلَا يُوجِبُ صَاعًا من مَاءٍ وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَإِنَّمَا لم
يُوجِبْ الْحَدَّ احْتِيَاطًا وَالِاحْتِيَاطُ في وُجُوبِ الْغُسْلِ وَلِأَنَّ
الْإِيلَاجَ فيه سَبَبٌ لِنُزُولِ الْمَنِيِّ عَادَةً مِثْلَ الْإِيلَاجِ في السَّبِيلِ
الْمُعْتَادِ وَالسَّبَبُ
____________________
(1/36)
يَقُومُ
مَقَامَ الْمُسَبِّبِ خُصُوصًا في مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ
وَلَا غُسْلَ فِيمَا دُونِ الْفَرْجِ بِدُونِ الْإِنْزَالِ وَكَذَا الْإِيلَاجُ في
الْبَهَائِمِ لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ ما لم يُنْزِلْ وَكَذَا الِاحْتِلَامُ لِأَنَّ
الْفِعْلَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وفي الْبَهِيمَةِ ليس نَظِيرَ الْفِعْلِ في
فَرْجِ الْإِنْسَانِ في السَّبَبِيَّةِ
وَكَذَا الِاحْتِلَامُ فَيُعْتَبَرُ في ذلك كُلِّهِ حَقِيقَةُ الْإِنْزَالِ
وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فيه فَمِنْهَا أَنْ يَنْفَصِلَ الْمَنِيُّ لَا عن شَهْوَةٍ
وَيَخْرُجُ لَا عن شَهْوَةٍ بِأَنْ ضَرَبَ على ظَهْرِهِ ضَرْبًا قَوِيًّا أو
حَمَلَ حَمْلًا ثَقِيلًا فَلَا غُسْلَ فيه عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فيه
الْغُسْلُ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال الْمَاءُ من الْمَاءِ أَيْ الِاغْتِسَالُ من الْمَنِيِّ من غَيْرِ
فَصْلٍ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عن
الْمَرْأَةِ تَرَى في الْمَنَامِ يُجَامِعُهَا زَوْجُهَا فقال صلى اللَّهُ عليه
وسلم أَتَجِدُ لَذَّةً
فَقِيلَ نعم فقال عليها الِاغْتِسَالُ إذَا وَجَدَتْ الْمَاءَ وَلَوْ لم
يَخْتَلِفْ الْحُكْمُ بِالشَّهْوَةِ وَعَدَمِهَا لم يَكُنْ لِلسُّؤَالِ عن
اللَّذَّةِ مَعْنًى وَلِأَنَّ وُجُوبَ الِاغْتِسَالِ مُعَلَّقٌ بِنُزُولِ
الْمَنِيِّ وَأَنَّهُ في اللُّغَةِ اسْمٌ المنزل ( ( ( للمنزل ) ) ) عن شَهْوَةٍ
لِمَا نَذْكُرُ في تَفْسِيرِ الْمَنِيِّ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ من
الْمَاءِ الْمَاءُ الْمُتَعَارَفُ وهو الْمُنْزَلُ عن شَهْوَةٍ لِانْصِرَافِ
مُطْلَقِ الْكَلَامِ إلَى الْمُتَعَارَفِ
وَمِنْهَا أَنْ يَنْفَصِلَ الْمَنِيُّ عن شَهْوَةٍ وَيَخْرُجُ لَا عن شَهْوَةٍ
وإنه يُوجِبُ الْغُسْلَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
لَا يُوجِبُ فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمَا الِانْفِصَالُ عن شَهْوَةٍ وَعِنْدَهُ
الْمُعْتَبَرُ هو الِانْفِصَالُ مع الْخُرُوجِ عن شَهْوَةٍ وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ
في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا إذَا احْتَلَمَ الرَّجُلُ فَانْتَبَهَ وَقَبَضَ على
عَوْرَتِهِ حتى سَكَنَتْ شَهْوَتُهُ ثُمَّ خَرَجَ الْمَنِيُّ بِلَا شَهْوَةٍ
وَالثَّانِي إذَا جَامَعَ فَاغْتَسَلَ قبل أَنْ يَبُولَ ثُمَّ خَرَجَ منه
بَقِيَّةُ الْمَنِيِّ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ إن جَانِبَ الِانْفِصَالِ يُوجِبُ الْغُسْلَ وَجَانِبَ
الْخُرُوجِ يَنْفِيهِ فَلَا يَجِبُ مع الشَّكِّ وَلَهُمَا أَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ
الْوُجُوبَ وَالْعَدَمَ فَالْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ أَوْلَى احْتِيَاطًا
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا اسْتَيْقَظَ فَوَجَدَ على فَخِذِهِ أو على فِرَاشِهِ
بَلَلًا على صُورَةِ الْمَذْيِ ولم يَتَذَكَّرْ الِاحْتِلَامَ فَعَلَيْهِ
الْغُسْلُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَجِبُ
وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لو كان مَنِيًّا أَنَّ عليه الْغُسْلُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ
أَنَّهُ عن احْتِلَامٍ وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ إنْ كان وَدْيًا لَا غُسْلَ عليه
لِأَنَّهُ بَوْلٌ غَلِيظٌ وَعَنْ الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ
أَنَّهُ إذَا وَجَدَ على فرشه ( ( ( فراشه ) ) ) مَنِيًّا فَهُوَ على
الِاخْتِلَافِ وكان يَقِيسُهُ على ما ذَكَرْنَا من الْمَسْأَلَتَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمَذْيَ يُوجِبُ الْوُضُوءَ دُونَ
الِاغْتِسَالِ وَلَهُمَا ما رَوَى إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ
الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ بِإِسْنَادِهِ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها
عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا رَأَى الرَّجُلُ بَعْدَ
ما يَنْتَبِهُ من نَوْمِهِ بَلَّةً ولم يذكر احْتِلَامًا اغْتَسَلَ وَإِنْ رَأَى
احْتِلَامًا ولم يَرَ بَلَّةً فَلَا غُسْلَ عليه وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
وَلِأَنَّ الْمَنِيَّ قد يَرِقُّ بِمُرُورِ الزَّمَانِ فَيَصِيرُ في صُورَةِ
الْمَذْيِ وقد يَخْرُجُ ذَائِبًا لِفَرْطِ حَرَارَةِ الرَّجُلِ أو ضَعْفِهِ
فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ في الْإِيجَابِ
ثُمَّ الْمَنِيُّ خَاثِرٌ أَبْيَضُ يَنْكَسِرُ منه الذَّكَرُ وقال الشَّافِعِيُّ
في كِتَابِهِ أن له رَائِحَةَ الطَّلْعِ وَالْمَذْيُ رَقِيقٌ يَضْرِبُ إلَى
الْبَيَاضِ يَخْرُجُ عِنْدَ مُلَاعَبَةِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ وَالْوَدْيُ رَقِيقٌ
يَخْرُجُ بَعْدَ الْبَوْلِ وَكَذَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها
فَسَرَّتْ هذه الْمِيَاهَ بِمَا ذَكَرْنَا
وَلَا غُسْلَ في الْوَدْيِ وَالْمَذْيِ أَمَّا الْوَدْيُ فَلِأَنَّهُ بَقِيَّةُ
الْبَوْلِ وَأَمَّا الْمَذْيُ فَلِمَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ
قال كُنْت رجلا ( ( ( فحلا ) ) ) مَذَّاءً فَاسْتَحْيَيْت أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِمَكَانِ ابْنَتِهِ تَحْتِي فَأَمَرْت
الْمِقْدَادَ بن الْأَسْوَدِ رضي اللَّهُ عنه فَسَأَلَهُ فقال رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم كُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي وَفِيهِ الْوُضُوءُ نَصَّ على الْوُضُوءِ
وَأَشَارَ إلَى نَفْيِ وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ بِعِلَّةِ كَثْرَةِ الْوُقُوعِ
بِقَوْلِهِ كُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجَنَابَةِ فما لَا يُبَاحُ
لِلْمُحْدِثِ فِعْلُهُ من مَسِّ الْمُصْحَفِ بِدُونِ غِلَافِهِ وَمَسِّ
الدَّرَاهِمِ التي عليها الْقُرْآنُ وَنَحْوِ ذلك لَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ من
طَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْجَنَابَةَ أَغْلَظُ الْحَدَثَيْنِ وَلَوْ كانت
الصَّحِيفَةُ على الْأَرْضِ فَأَرَادَ الْجُنُبُ أَنْ يَكْتُبَ الْقُرْآنَ عليها
رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِأَنَّهُ ليس بِحَامِلٍ لِلصَّحِيفَةِ
وَالْكِتَابَةُ تُوجَدُ حَرْفًا حَرْفًا وَهَذَا ليس بِقُرْآنٍ
وقال مُحَمَّدٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَكْتُبَ لِأَنَّ كِتَابَةَ الْحُرُوفِ
تَجْرِي مَجْرَى الْقِرَاءَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ الْكَافِرَ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ
لِأَنَّ الْكَافِرَ نَجَسٌ فَيَجِبُ تَنْزِيهُ الْمُصْحَفِ عن مَسِّهِ
وقال مُحَمَّدٌ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا اغْتَسَلَ لِأَنَّ الْمَانِعَ هو الْحَدَثُ
وقد زَالَ بِالْغُسْلِ وَإِنَّمَا بَقِيَ نَجَاسَةُ اعْتِقَادِهِ وَذَلِكَ في
قَلْبِهِ لَا في يَدِهِ وَلَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ يُبَاحُ له ذلك
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْجَنَابَةَ أَحَدُ الْحَدَثَيْنِ فَيُعْتَبَرُ بِالْحَدَثِ
الْآخَرِ وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ من الْقِرَاءَةِ
كَذَا
____________________
(1/37)
الْجَنَابَةُ
وَلَنَا ما روين ( ( ( روي ) ) ) إن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان لَا
يَحْجِزُهُ شَيْءٌ عن قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إلَّا الْجَنَابَةُ
وَعَنْ عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شيئا من الْقُرْآنِ وما
ذُكِرَ من الِاعْتِبَارِ فَاسِدٌ لِأَنَّ أَحَدَ الْحَدَثَيْنِ حَلَّ الْفَمَ ولم
يَحِلَّ الْآخَرَ فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَيَسْتَوِي في
الْكَرَاهَةِ الْآيَةُ التَّامَّةُ وما دُونَ الْآيَةِ عِنْدَ عَامَّةِ
الْمَشَايِخِ
وقال الطَّحَاوِيُّ لَا بَأْسَ بِقِرَاءَةِ ما دُونَ الْآيَةِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ
الْعَامَّةِ لِمَا رَوَيْنَا من الْحَدِيثَيْنِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْقَلِيلِ
وَالْكَثِيرِ وَلِأَنَّ الْمَنْعَ من الْقِرَاءَةِ لِتَعْظِيمِ الْقُرْآنِ
وَمُحَافَظَةً حُرْمَتِهِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين الْقَلِيلِ
وَالْكَثِيرِ فيلزم ( ( ( فيكره ) ) ) ذلك كُلُّهُ لَكِنْ إذَا قَصَدَ
التِّلَاوَةَ فَأَمَّا إذَا لم يَقْصِدْ بِأَنْ قال بِاسْمِ اللَّهِ لِافْتِتَاحِ
الْأَعْمَالِ تَبَرُّكًا أو قال الْحَمْدُ لِلَّهِ لِلشُّكْرِ لَا بَأْسَ بِهِ
لِأَنَّهُ من بَابِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْجُنُبُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ
عن ذلك
وَتُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ في الْمُغْتَسَلِ وَالْمَخْرَجِ لِأَنَّ ذلك
مَوْضِعُ الْأَنْجَاسِ فَيَجِبُ تَنْزِيهُ الْقُرْآنِ عن ذلك
وَأَمَّا في الْحَمَّامِ فَتُكْرَهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ طَاهِرٌ فَلَا تُكْرَهُ
وَلَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ وَإِنْ احْتَاجَ إلَى ذلك
يَتَيَمَّمُ وَيَدْخُلُ سَوَاءٌ كان الدُّخُولُ لِقَصْدِ الْمُكْثِ أو
لِلِاجْتِيَازِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ يُبَاحُ له الدُّخُولُ بِدُونِ التَّيَمُّمِ إذَا كان
مُجْتَازًا
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا
الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا
عَابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُوا }
قِيلَ الْمُرَادُ من الصَّلَاةِ مَكَانُهَا وهو الْمَسْجِدُ كَذَا ورد ( ( ( روي )
) ) عن ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَابِرُ سَبِيلٍ هو الْمَارُّ يُقَالُ عَبَرَ أَيْ مَرَّ
نهى الْجُنُبِ عن دُخُولِ الْمَسْجِدِ بِدُونِ الِاغْتِسَالِ وَاسْتَثْنَى
عَابِرِي السَّبِيلِ وَحُكْمُ الْمُسْتَثْنَى يُخَالِفُ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى منه
فَيُبَاحُ له الدُّخُولُ بِدُونِ الِاغْتِسَالِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي ( ( ( رسول ) ) ) صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
سُدُّوا الْأَبْوَابَ فَإِنِّي لَا أُحِلُّهَا لِجُنُبٍ وَلَا لِحَائِضٍ
وَالْهَاءُ كِنَايَةٌ عن الْمَسَاجِدِ نفي الْحِلَّ من غَيْرِ فَصْلٍ بين
الْمُجْتَازِ وَغَيْرِهِ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ رُوِيَ عن عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهم
أَنَّ الْمُرَادَ هو حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ وإن عَابِرَ السَّبِيلِ هو الْمُسَافِرُ
الْجُنُبُ الذي لَا يَجِدُ الْمَاءَ فَيَتَيَمَّمُ فَكَانَ هذا إبَاحَةَ
الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ الْمُسَافِرِ إذَا لم يَجِدْ الْمَاءَ
وَبِهِ نَقُولُ وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى لِأَنَّ فيه بَقَاءَ اسْمِ
الصَّلَاةِ على حَالِهَا فَكَانَ أَوْلَى أو يَقَعُ التَّعَارُضُ بين
التَّأْوِيلَيْنِ فَلَا تَبْقَى الْآيَةُ حُجَّةً له
وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَإِنْ طَافَ جَازَ مع النُّقْصَانِ لِمَا ذَكَرْنَا في
الْمُحْدِثِ إلَّا أَنَّ النُّقْصَانَ مع الْجَنَابَةِ أَفْحَشُ لِأَنَّهَا
أَغْلَظُ وَيَصِحُّ من الْجُنُبِ أَدَاءُ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ
الطَّهَارَةَ شَرْطُ جِوَازِ الصَّلَاةِ دُونَ الصَّوْمِ وَيَجِبُ عليه كِلَاهُمَا
حتى يَجِبَ عليه قَضَاؤُهُمَا بِالتَّرْكِ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تَمْنَعُ من
وُجُوبِ الصَّوْمِ بِلَا شَكٍّ وَيَصِحُّ أَدَاؤُهُ مع الْجَنَابَةِ وَلَا
يُمْنَعُ من وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كان لَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا مع قِيَامِ
الْجَنَابَةِ لِأَنَّ في وُسْعِهِ رَفْعَهَا بِالْغُسْلِ ( قبل أَنْ يَتَوَضَّأَ )
وَلَا بَأْسَ لِلْجُنُبِ أَنْ يَنَامَ وَيُعَاوِدَ أَهْلَهُ لِمَا رُوِيَ عن
عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال يا رَسُولَ اللَّهِ أَيَنَامُ أَحَدُنَا وهو
جُنُبٌ قال نعم وَيَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ وَلَهُ أَنْ يَنَامَ قبل أَنْ
يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ لِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها
أنها قالت كان النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يَنَامُ وهو جُنُبٌ من غَيْرِ أَنْ
يَمَسَّ مَاءً وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ ليس بِقُرْبَةٍ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا هو
لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ في النَّوْمِ ذلك وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أو
يَشْرَبَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَمَضْمَضَ وَيَغْسِلَ يَدَيْهِ ثُمَّ يَأْكُلَ
وَيَشْرَبَ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ حَلَّتْ الْفَمَ فَلَوْ شَرِبَ قبل أَنْ
يَتَمَضْمَضَ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا فَيَصِيرُ شَارِبًا الماء ( ( ( بالماء
) ) ) الْمُسْتَعْمَلِ وَيَدُهُ لَا تَخْلُو عن نَجَاسَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ
يَغْسِلَهَا ثُمَّ يَأْكُلَ
وَهَلْ يَجِبُ على الزَّوْجِ ثَمَنُ مَاءِ الِاغْتِسَالِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ
فيه
قال بَعْضُهُمْ لَا يَجِبُ سَوَاءٌ كانت الْمَرْأَةُ غَنِيَّةً أو فَقِيرَةً غير
أنها إنْ كانت فَقِيرَةً يُقَالُ لِلزَّوْجِ إمَّا أَنْ تَدَعَهَا حتى تَنْتَقِلَ
إلَى الْمَاءِ أو تَنْقُلَ الْمَاءَ إلَيْهَا
وقال بَعْضُهُمْ يَجِبُ وهو قَوْلُ الْفَقِيهِ أبي اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ
لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لها منه فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْمَاءِ الذي لِلشُّرْبِ وَذَلِكَ
( يجب ) عليه
كَذَا هذا
وَأَمَّا الْحَيْضُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ
} أَيْ يَغْتَسِلْنَ وَلِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِلْمُسْتَحَاضَةِ
دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك أَيْ أَيَّامَ حَيْضِك ثُمَّ اغْتَسِلِي
وَصَلِّي وَلَا نَصَّ في وُجُوبِ الْغُسْلِ من النِّفَاسِ وَإِنَّمَا عُرِفَ
بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ثُمَّ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً
على خَبَرٍ في الْبَابِ لَكِنَّهُمْ تَرَكُوا نَقْلَهُ اكْتِفَاءً بِالْإِجْمَاعِ
عن نَقْلِهِ لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ أَقْوَى وَيَجُوزُ أَنَّهُمْ قَاسُوا على دَمِ
الْحَيْضِ لِكَوْنِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمًا خَارِجًا من الرَّحِمِ فَبَنَوْا
الْإِجْمَاعَ على الْقِيَاسِ إذْ الْإِجْمَاعُ
____________________
(1/38)
يَنْعَقِدُ
عن الْخَبَرِ وَعَنْ الْقِيَاسِ على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ
فَصْلٌ ثُمَّ الْكَلَامُ يَقَعُ في تَفْسِيرِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ
وَالِاسْتِحَاضَةِ وَأَحْكَامِهَا أَمَّا الْحَيْضُ فَهُوَ في عُرْفِ الشَّرْعِ
اسْمٌ لِدَمٍ خَارِجٍ من الرَّحِمِ لَا يَعْقُبُ الْوِلَادَةَ مُقَدَّرٌ بِقَدْرٍ
مَعْلُومٍ في وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ لَوْنِ الدَّمِ
وَحَالِهِ وَمَعْرِفَةِ خُرُوجِهِ وَمِقْدَارِهِ وَوَقْتِهِ
أَمَّا لَوْنُهُ فَالسَّوَادُ حَيْضٌ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَلِكَ الْحُمْرَةُ
عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ دَمُ الْحَيْضِ هو الْأَسْوَدُ فَقَطْ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ
عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ حين كانت
مُسْتَحَاضَةً إذَا كان الْحَيْضُ فإنه دَمٌ أَسْوَدُ فَأَمْسِكِي عن الصَّلَاةِ
وإذا كان الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَيَسْأَلُونَك عن الْمَحِيضِ قُلْ هو أَذًى } جَعَلَ
الْحَيْضَ أَذًى وَاسْمُ الْأَذَى لَا يَقْتَصِرُ على الْأَسْوَدِ وَرُوِيَ أَنَّ
النِّسَاءَ كُنَّ يَبْعَثْنَ بِالْكُرْسُفِ إلَى عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها
فَكَانَتْ تَقُولُ لَا حتى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ أَيْ الْبَيَاضَ
الْخَالِصَ كَالْجِصِّ فَقَدْ أَخْبَرَتْ أَنَّ ما سِوَى الْبَيَاضِ حَيْضٌ
وَالظَّاهِرُ أنها إنَّمَا قالت ذلك سَمَاعًا من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم لِأَنَّهُ حُكْمٌ لَا يُدْرَكُ بِالِاجْتِهَادِ وَلِأَنَّ لَوْنَ الدَّمِ
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَغْذِيَةِ فَلَا مَعْنَى لِلْقَصْرِ على لَوْنٍ
وَاحِدٍ وما رَوَاهُ غَرِيبٌ فَلَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلْمَشْهُورِ مع ما
أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ على أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم عَلِمَ من طَرِيقِ الْوَحْيِ أَيَّامَ حَيْضِهَا بِلَوْنِ الدَّمِ
فَبَنَى الْحُكْمَ في حَقِّهَا على اللَّوْنِ لَا في حَقِّ غَيْرِهَا وَغَيْرُ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَعْلَمُ أَيَّامَ الْحَيْضِ بِلَوْنِ الدَّمِ
وَأَمَّا الْكُدْرَةُ فَفِي آخِرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ حيض بِلَا خِلَافٍ بين
أَصْحَابِنَا
وَكَذَا في أَوَّلِ الْأَيَّامِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وقال أبو
يُوسُفَ لَا يَكُونُ حَيْضًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْحَيْضَ هو الدَّمُ الْخَارِجُ من الرَّحِمِ لَا من
الْعِرْقِ وَدَمُ الرَّحِمِ يَجْتَمِعُ فيه في زَمَانِ الطُّهْرِ ثُمَّ يَخْرُجُ
الصَّافِي منه ثُمَّ الْكَدِرُ وَدَمُ الْعِرْقِ يَخْرُجُ الْكَدِرُ منه أَوَّلًا
ثُمَّ الصَّافِي فَيُنْظَرُ إنْ خَرَجَ الصَّافِي أَوَّلًا عُلِمَ أَنَّهُ من
الرَّحِمِ فَيَكُونُ حَيْضًا وَإِنْ خَرَجَ الْكَدِرُ أَوَّلًا عُلِمَ أَنَّهُ من
( الْعِرْقِ ) فَلَا يَكُونُ حَيْضًا
وَلَنَا ما ذَكَرْنَا من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ من غَيْرِ فَصْلٍ وَقَوْلُهُ
إنَّ كُدْرَةَ دَمِ الرَّحِمِ تَتْبَعُ صافية مَمْنُوعٌ وَهَذَا أَمْرٌ غَيْرُ
مَعْلُومٍ وقد ( ( ( بل ) ) ) يَتْبَعُ الصَّافِي الْكَدِرَ خُصُوصًا فِيمَا ( إذا
) كان الثُّقْبُ من الْأَسْفَلِ وَأَمَّا التُّرْبَةُ فَهِيَ كَالْكُدْرَةِ
وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيها فَقَدْ كان الشَّيْخُ
أبو مَنْصُورٍ يقول إذَا رَأَتْ في أَوَّلِ أَيَّامِ الْحَيْضِ ابْتِدَاءً كان
حَيْضًا أَمَّا إذَا رَأَتْ في آخِرِ أَيَّامِ الطُّهْرِ وَاتَّصَلَ بِهِ أَيَّامَ
الْحَيْضِ لَا يَكُونُ حَيْضًا وَالْعَامَّةُ على أنها حَيْضٌ كَيْفَمَا كانت
وَأَمَّا الْخُضْرَةُ فَقَدْ قال بَعْضُهُمْ هِيَ مِثْلُ الْكُدْرَةِ فَكَانَتْ
على الْخِلَافِ وقال بَعْضُهُمْ الْكَدِرَةُ وَالتُّرْبَةُ وَالصُّفْرَةُ
وَالْخُضْرَةُ إنَّمَا تَكُونُ حَيْضًا على الْإِطْلَاقِ من غَيْرِ الْعَجَائِزِ
فَأَمَّا في الْعَجَائِزُ فَيُنْظَرُ إنْ وَجَدْتَهَا على الْكُرْسُفِ وَمُدَّةُ
الْوَضْعِ قَرِيبَةٌ فَهِيَ حَيْضٌ وَإِنْ كانت مُدَّةُ الْوَضْعِ طَوِيلَةً لم
يَكُنْ حَيْضًا لِأَنَّ رَحِمَ الْعَجُوزِ يَكُونُ مُنْتِنًا فَيَتَغَيَّرُ
الْمَاءُ لِطُولِ الْمُكْثِ وما عَرَفْت من الْجَوَابِ في هذه الْأَبْوَابِ في
الْحَيْضِ فَهُوَ الْجَوَابُ فيها في النِّفَاسِ لِأَنَّهَا أُخْتُ الْحَيْضِ
وَأَمَّا خُرُوجُهُ فَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ من بَاطِنِ الْفَرْجِ إلَى ظَاهِرِهِ
إذْ لَا يَثْبُتُ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ وَالِاسْتِحَاضَةُ إلَّا بِهِ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ في
الِاسْتِحَاضَةِ كَذَلِكَ فَأَمَّا الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ فَإِنَّهُمَا
يَثْبُتَانِ إذَا أَحَسَّتْ بِبُرُوزِ الدَّمِ وَإِنْ لم يَبْرُزْ وَجْهُ
الْفَرْقِ بين الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالِاسْتِحَاضَةِ على هذه الرِّوَايَةِ
أَنَّ لَهُمَا أَعْنِي الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ وَقْتًا مَعْلُومًا فَتَحْصُلُ
بِهِمَا الْمَعْرِفَةُ بِالْإِحْسَاسِ وَلَا كَذَلِكَ الِاسْتِحَاضَةُ لِأَنَّهُ
لَا وَقْتَ لها تُعْلَمُ بِهِ فَلَا بُدَّ من الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ لِيُعْلَمَ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ما رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً قالت لِعَائِشَةَ رضي
اللَّهُ عنها أَنَّ فُلَانَةَ تَدْعُو بِالْمِصْبَاحِ لَيْلًا فَتَنْظُرُ إلَيْهَا
فقالت عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها كنا في عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم لَا نَتَكَلَّفُ لِذَلِكَ إلَّا بِالْمَسِّ وَالْمَسُّ لَا يَكُونُ إلَّا
بَعْدَ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ
وَأَمَّا مِقْدَارُهُ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في أَصْلِ
التَّقْدِيرِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ أَمْ لَا
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما هو مُقَدَّرٌ بِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قال
عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ أنه مُقَدَّرٌ وقال مَالِكٌ إنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَلَيْسَ
لِأَقَلِّهِ حَدٌّ وَلَا لِأَكْثَرِهِ غَايَةٌ وَاحْتَجَّ قَوْله تَعَالَى {
وَيَسْأَلُونَك عن الْمَحِيضِ قُلْ هو أَذًى } جَعَلَ الْحَيْضَ أَذًى من غَيْرِ
تَقْدِيرٍ وَلِأَنَّ الْحَيْضَ اسْمُ الدَّمِ الْخَارِجِ من الرَّحِمِ
وَالْقَلِيلُ خَارِجٌ من الرَّحِمِ كَالْكَثِيرِ وَلِهَذَا لم يُقَدِّرْ دَمَ
النِّفَاسِ
وَلَنَا ما رَوَى أبو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال أَقَلُّ ما يَكُونُ الْحَيْضُ لِلْجَارِيَةِ
الثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ جميعا
____________________
(1/39)
ثَلَاثَةُ
أَيَّامٍ وَأَكْثَرُ ما يَكُونُ من الْحَيْضِ عَشْرَةُ أَيَّامٍ وما زَادَ على
الْعَشَرَةِ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ وَهَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ وَرُوِيَ عن جَمَاعَةٍ
من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ منهم عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَأَنَسُ بن
مَالِكٍ وَعِمْرَانُ بن حُصَيْنٍ وَعُثْمَانُ بن أبي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ إنهم قالوا الْحَيْضُ ثَلَاثٌ أَرْبَعٌ خَمْسٌ سِتٌّ سبع ثَمَانٌ
تِسْعٌ عَشْرٌ
ولم يُرْوَ عن غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَالتَّقْدِيرُ
الشَّرْعِيُّ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ الْمُقَدَّرِ حُكْمُ المقدر ( ( (
المقدور ) ) ) وبه ( ( ( به ) ) ) تَبَيَّنَ أَنَّ الْخَبَرَ الْمَشْهُورَ
وَالْإِجْمَاعَ خَرَجَا بَيَانًا لِلْمَذْكُورِ في الْكِتَابِ وَالِاعْتِبَارُ
بِالنِّفَاسِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْقَلِيلَ هُنَاكَ عُرِفَ خَارِجًا من
الرَّحِمِ بِقَرِينَةِ الْوَلَدِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا
وَأَمَّا الثَّانِي فذكر في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إن أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ
أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا وَحُكِيَ عن أبي يُوسُفَ في النَّوَادِرِ يَوْمَانِ
وَأَكْثَرُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيْلَتَيْهِمَا
الْمُتَخَلَّلَتَيْنِ
وقال الشَّافِعِيُّ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ في قَوْلٍ وفي قَوْلٍ يَوْمٌ بِلَا لَيْلَةٍ
وَاحْتَجَّ بِمَا احْتَجَّ بِهِ مَالِكٌ إلَّا أَنَّهُ قال لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ
الْقَلِيلِ حَيْضًا لِأَنَّ أَقْبَالَ النِّسَاءِ لَا تَخْلُو عن قَلِيلِ لَوَثٍ
عَادَةً فَيُقَدَّرُ بِالْيَوْمِ أو بِالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ
مِقْدَارٍ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ وَحُجَّتُنَا ما ذَكَرْنَا مع مَالِكٍ وَحُجَّةُ
ما رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ أَكْثَرَ الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَ كُلِّهِ
وَهَذَا على الْإِطْلَاقِ غَيْرُ سَدِيدٍ فإنه لو جَازَ إقَامَةُ يَوْمَيْنِ
وَأَكْثَرُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَقَامَ الثَّلَاثَةِ لَجَازَ إقَامَةُ
يَوْمَيْنِ مَقَامَ الثَّلَاثَةِ لِوُجُودِ الْأَكْثَرِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ دُخُولَ اللَّيَالِي ضَرُورَةُ دُخُولِ
الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ في الحديث لَا مَقْصُودًا وَالضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ
بِاللَّيْلَتَيْنِ الْمُتَخَلَّلَتَيْنِ وَالْجَوَابُ أَنَّ دُخُولَ اللَّيَالِي
تَحْتَ اسْمِ الْأَيَّامِ ليس من طَرِيقِ الضَّرُورَةِ بَلْ يَدْخُلُ مَقْصُودًا
لِأَنَّ الْأَيَّامَ إذَا ذُكِرَتْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَتَنَاوَلُ ما
بِإِزَائِهَا من اللَّيَالِي لُغَةً فَكَانَ دُخُولًا مَقْصُودًا لَا ضَرُورَةً
وَأَمَّا أَكْثَرُ الْحَيْضِ فَعَشْرَةُ أَيَّامٍ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا
وقال الشَّافِعِيُّ خَمْسَةَ عشر وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَنَّهُ قال تَقْعُدُ إحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تَصُومُ وَلَا
تُصَلِّي ثُمَّ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ الذي تُصَلِّي فيه وهو الطُّهْرُ خَمْسَةَ
عَشْرَ كَذَا الشَّطْرُ الْآخَرُ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الشَّهْرَ مَقَامَ
حَيْضٍ وَطُهْرٍ في حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ فَهَذَا يَقْتَضِي انْقِسَامَ
الشَّهْرِ على الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وهو أَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ طُهْرًا
وَنِصْفُهُ حَيْضًا
وَلَنَا ما رَوَيْنَا من الحديث الْمَشْهُورِ وإجماع الصَّحَابَةِ وَلَيْسَ
الْمُرَادُ من الشَّطْرِ الْمَذْكُورِ النِّصْفَ لِأَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أنها
لَا تَقْعُدُ نِصْفَ عُمْرِهَا ألا تَرَى أنها لَا تَقْعُدُ حَالَ صِغَرِهَا
وَإِيَاسِهَا وَكَذَا زَمَانُ الطُّهْرَ يَزِيدُ على زَمَانِ الْحَيْضِ عَادَةً
فَكَانَ الْمُرَادُ ما يُقَرِّبُ من النِّصْفِ وهو عَشْرَةٌ وَكَذَا ليس من
ضَرُورَةِ انْقِسَامِ الشَّهْرِ على الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ أَنْ تَكُونَ
مُنَاصَفَةً إذْ قد تَكُونُ الْقِسْمَةُ مُثَالَثَةً فَيَكُونُ ثُلُثُ الشَّهْرِ لِلْحَيْضِ
وَثُلُثَاهُ لِلطُّهْرِ والله أعلم
وإذا عرف ( ( ( عرفت ) ) ) مِقْدَارَ الْحَيْضِ لَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ
الطُّهْرِ الصَّحِيحِ الذي يُقَابِلُ الْحَيْضَ وَأَقَلُّهُ خَمْسَةَ عَشْرَ
يَوْمًا عِنْدَنَا إلَّا ما رُوِيَ عن أبي حَازِمٍ الْقَاضِي وَأَبِي عبد اللَّهِ
الْبَلْخِيّ أَنَّهُ تِسْعَةَ عَشْرَ يَوْمًا وقال الشَّافِعِيُّ مِثْلَ قَوْلِنَا
وقال مَالِكٌ عَشْرَةُ أَيَّامِ
وَجْهُ قَوْلٍ أبي حَازِمٍ وَأَبِي عبد اللَّهِ إن الشَّهْرَ يَشْتَمِلُ على
الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ عَادَةً وقد قام الدَّلِيلُ على أَنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ
عَشْرَةً فَيَبْقَى من الشَّهْرِ عِشْرُونَ إلَّا أَنَّا نَقَصْنَا يَوْمًا
لِأَنَّ الشَّهْرَ قد يَنْقُصُ بِيَوْمٍ
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ على ما قُلْنَا وَنَوْعٌ من الِاعْتِبَارِ
بِأَقَلَّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ لِأَنَّ لِمُدَّةِ الطُّهْرِ شَبَهًا بِمُدَّةِ
الْإِقَامَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ بِالطُّهْرِ تَعُودُ إلَى ما سَقَطَ
عنها بِالْحَيْضِ كما أَنَّ الْمُسَافِرَ بِالْإِقَامَةِ يَعُودُ إلَى ما سَقَطَ
عنه بِالسَّفَرِ ثُمَّ أَقَلُّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا
كَذَا أَقَلُّ الطُّهْرِ وما قَالَاهُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا
تَحِيضُ في الشَّهْرِ عَشَرَةً لَا مَحَالَةَ وَلَوْ حَاضَتْ عَشَرَةً لَا
تَطْهُرُ عِشْرِينَ لَا مَحَالَةَ بَلْ قد تَحِيضُ ثَلَاثَةً وَتَطْهُرُ عِشْرِينَ
وقد تَحِيضُ عَشَرَةً وَتَطْهُرُ خَمْسَةَ عَشَرَ
وَأَمَّا أَكْثَرُ الطُّهْرِ فَلَا غَايَةَ له حتى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا
طَهُرَتْ سِنِينَ كَثِيرَةً فَإِنَّهَا تَعْمَلُ ما تَعْمَلُ الطَّاهِرَاتُ بِلَا
خِلَافٍ بين الْأَئِمَّةِ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ في بَنَاتِ آدَمَ أَصْلٌ وَالْحَيْضُ
عَارِضٌ فإذا لم يَظْهَرْ الْعَارِضُ يَجِبُ بِنَاءُ الْحُكْمِ على الْأَصْلِ
وَإِنْ طَالَ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا وَرَاءَ ذلك وهو أَنَّ أَكْثَرَ
الطُّهْرِ الذي يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ عِنْدَ الِاسْتِمْرَارِ كَمْ هو
قال أبو عِصْمَةَ سَعْدُ بن مُعَاذٍ الْمَرْوَزِيِّ وأبو حَازِمٍ الْقَاضِي أن
الطُّهْرَ وَإِنْ طَالَ يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ حتى أن الْمَرْأَةَ إذَا
حَاضَتْ خَمْسَةً وَطَهُرَتْ سِتَّةً ثُمَّ اسْتَمَرَّ بها الدَّمُ يُبْنَى
الِاسْتِمْرَارُ عليه فَتَقْعُدُ خَمْسَةً وَتُصَلِّي سِتَّةً وَكَذَا لو رَأَتْ
أَكْثَرَ من سِتَّةٍ وقال محمد بن إبْرَاهِيمَ الْمَيْدَانِيُّ وَجَمَاعَةٌ من
أَهْلِ بُخَارَى أن أَكْثَرَ الطُّهْرِ
____________________
(1/40)
الذي
يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ أَقَلُّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ وإذا كان سِتَّةَ
أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَا يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ وإذا لم يَصْلُحُ له
تَرُدُّ أَيَّامَهَا إلَى الشَّهْرِ فَتَقْعُدُ ما كانت رَأَتْ فيه من خَمْسَةٍ أو
سِتَّةٍ أو نَحْوِ ذلك وَتُصَلِّي بَقِيَّةَ الشَّهْرِ هَكَذَا دَأْبُهَا
وقال محمد بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ وأبو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ أَكْثَرُ الطُّهْرِ
الذي يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ سَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ يَوْمًا وإذا زَادَ عليه
تَرُدُّ أَيَّامَهَا إلَى الشَّهْرِ وقال بَعْضُهُمْ أَكْثَرُهُ شَهْرٌ وإذا زَادَ
عليه تَرُدُّ إلَى الشَّهْرِ
وقال بَعْضُهُمْ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَدَلَائِلُ هذه الْأَقَاوِيلِ
تُذْكَرُ في كِتَابِ الْحَيْضِ
وَأَمَّا وَقْتُهُ فَوَقْتُهُ حين تَبْلُغُ الْمَرْأَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَصَاعِدًا
عليه أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ فَلَا يَكُونُ الْمَرْئِيُّ فِيمَا دُونَهُ حَيْضًا
وإذا بَلَغَتْ تِسْعًا كان حَيْضًا إلَى أَنْ تَبْلُغَ حَدَّ الْإِيَاسِ على
اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ في حَدِّهِ وَلَوْ بَلَغَتْ ذلك وقد انْقَطَعَ عنها
الدَّمُ ثُمَّ رَأَتْ بَعْدَ ذلك لَا يَكُونُ حَيْضًا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَكُونُ
حَيْضًا وَمَوْضِعُ مَعْرِفَةِ ذلك كُلِّهِ كِتَابِ الْحَيْضِ
وَأَمَّا النِّفَاسُ فَهُوَ في عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِلدَّمِ الْخَارِجِ من
الرَّحِمِ عَقِيبِ الْوِلَادَةِ
وَسُمِّيَ نِفَاسًا إمَّا لِتَنَفُّسِ الرَّحِمِ بِالْوَلَدِ أو لخروج ( ( ( بخروج
) ) ) النَّفْسِ وهو الْوَلَدُ أو الدَّمُ وَالْكَلَامُ في لَوْنِهِ وَخُرُوجِهِ
كَالْكَلَامِ في دَمِ الْحَيْضِ وقد ذَكَرْنَاهُ
وَأَمَّا الْكَلَامُ في مِقْدَارِهِ فَأَقَلُّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِلَا خِلَافٍ
حتى إنها إذَا وَلَدَتْ وَنَفِسَتْ وَقْتَ صَلَاةٍ لَا تَجِبُ عليها تِلْكَ
الصَّلَاةُ لِأَنَّ النِّفَاسَ دَمُ الرَّحِمِ وقد قام الدَّلِيلُ على كَوْنِ
الْقَلِيلُ منه خَارِجًا من الرَّحِمِ وهو شَهَادَةُ الْوِلَادَةِ وَمِثْلُ هذه
الدَّلَالَةِ لم يُوجَدْ في بَابِ الْحَيْضِ فلم يُعْرَفْ الْقَلِيلُ منه أَنَّهُ
من الرَّحِمِ فلم يَكُنْ حَيْضًا على أَنَّ قَضِيَّةَ الْقِيَاسِ أَنْ لَا
يَتَقَدَّرُ أَقَلُّ الْحَيْضِ أَيْضًا كما قال مَالِكٌ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا
التَّقْدِيرَ ثَمَّ بِالتَّوْقِيفِ وَلَا تَوْقِيفَ هَهُنَا فَلَا يَتَقَدَّرُ
فإذا طَهُرَتْ قبل الْأَرْبَعِينَ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ بِنَاءً على الظَّاهِرِ
لِأَنَّ مُعَاوَدَةَ الدَّمِ مَوْهُومٌ فَلَا يُتْرَكُ الْمَعْلُومُ
بِالْمَوْهُومِ وما ذُكِرَ من الِاخْتِلَافِ بين أَصْحَابِنَا في أَقَلِّ
النِّفَاسِ فَذَاكَ في مَوْضِعٍ آخَرَ وهو أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا طَلُقَتْ بَعْدَ
ما وَلَدَتْ ثُمَّ جَاءَتْ وَقَالَتْ نَفِسْت ثُمَّ طَهُرْت ثَلَاثَةَ أَطْهَارٍ
وَثَلَاثَ حِيَضٍ فَبِكَمْ تُصَدَّقُ في النِّفَاسِ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا
تُصَدَّقُ إلا إذَا ادَّعَتْ في أَقَلَّ من خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ لَا تُصَدَّقُ في أَقَلَّ من أَحَدَ عَشْرَ يَوْمًا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
تُصَدَّقُ فِيمَا ادَّعَتْ وَإِنْ كان قَلِيلًا على ما يُذْكَرُ في كِتَابِ
الطَّلَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا أَكْثَرُ النِّفَاسِ فَأَرْبَعُونَ يَوْمًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا
وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ سِتُّونَ يَوْمًا وَلَا دَلِيلَ لَهُمَا سِوَى
ما حُكِيَ عن الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ كان يقول سِتُّونَ يَوْمًا وَلَا حُجَّةَ في
قَوْلِ الشَّعْبِيِّ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي
هُرَيْرَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
قال أَكْثَرُ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا
وَأَمَّا الِاسْتِحَاضَةُ فَهِيَ ما انْتَقَصَ عن أَقَلِّ الْحَيْضِ وما زَادَ على
أَكْثَرِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ ثُمَّ الْمُسْتَحَاضَةُ نَوْعَانِ مُبْتَدَأَةٌ
وَصَاحِبَةُ عَادَةٍ وَالْمُبْتَدَأَةُ نَوْعَانِ مُبْتَدَأَةٌ بِالْحَيْضِ
وَمُبْتَدَأَةٌ بِالْحَبَلِ وَصَاحِبَةُ الْعَادَةِ نَوْعَانِ صَاحِبَةُ
الْعَادَةِ في الْحَيْضِ وَصَاحِبَةُ الْعَادَةِ في النِّفَاسِ
أَمَّا الْمُبْتَدَأَةُ بِالْحَيْضِ وَهِيَ التي اُبْتُدِئَتْ بِالدَّمِ
وَاسْتَمَرَّ بها فَالْعَشَرَةُ من أَوَّلِ الشَّهْرِ حَيْضٌ لِأَنَّ هذا دَمٌ في
أَيَّامِ الْحَيْضِ وَأَمْكَنَ جَعْلُهُ حَيْضًا فَيُجْعَلُ حَيْضًا وما زَادَ على
الْعَشَرَةِ يَكُونُ اسْتِحَاضَةً لِأَنَّهُ لَا مَزِيدَ لِلْحَيْضِ على
الْعَشَرَةِ وَهَكَذَا في كل شَهْرٍ
وَأَمَّا صَاحِبَةُ الْعَادَّةِ في الْحَيْض إذَا كانت عَادَتُهَا عَشْرَةً
فَزَادَ الدَّمُ عليها فَالزِّيَادَةُ اسْتِحَاضَةٌ وَإِنْ كانت عَادَتُهَا
خَمْسَةً فَالزِّيَادَةُ عليها حَيْضٌ مَعَهَا إلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ لِمَا
ذَكَرْنَا في الْمُبْتَدَأَةِ بِالْحَيْضِ وَإِنْ جَاوَزَ الْعَشَرَةَ
فَعَادَتُهَا حَيْضٌ وما زَادَ عليها اسْتِحَاضَةٌ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا أَيْ
أَيَّامُ حَيْضِهَا وَلِأَنَّ ما رَأَتْ في أَيَّامِهَا حَيْضٌ بِيَقِينٍ وما
زَادَ على الْعَشَرَةِ اسْتِحَاضَةٌ بِيَقِينٍ وما بين ذلك مُتَرَدِّدٌ بين أَنْ
يُلْحَقَ بِمَا قَبْلَهُ فَيَكُونُ حَيْضًا فَلَا تُصَلِّي وَبَيْنَ أَنْ يُلْحَقَ
بِمَا بَعْدَهُ فَيَكُونُ اسْتِحَاضَةً فَتُصَلِّي فَلَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ
بِالشَّكِّ وَإِنْ لم يَكُنْ لها عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِأَنْ كانت تَرَى شَهْرًا
سِتًّا وَشَهْرًا سَبْعًا فَاسْتَمَرَّ بها الدَّمُ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ في حَقِّ
الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالرَّجْعَةِ بِالْأَقَلِّ وفي حَقِّ انْقِضَاءِ
الْعِدَّةِ وَالْغَشَيَانِ بِالْأَكْثَرِ فَعَلَيْهَا إذَا رَأَتْ سِتَّةَ أَيَّامٍ
في الِاسْتِمْرَارِ أَنْ تَغْتَسِلَ في الْيَوْمِ السَّابِعِ لِتَمَامِ السَّادِسِ
وَتُصَلِّيَ فيه وَتَصُومَ إنْ كان دخل عليها شَهْرُ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّابِعُ حَيْضًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونُ
فَدَارَ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ بين الْجَوَازِ منها وَالْوُجُوبِ عليها في
الْوَقْتِ فَيَجِبُ
وَتَصُومُ رَمَضَانَ احْتِيَاطًا لِأَنَّهَا إنْ فَعَلَتْ وَلَيْسَ عليها أَوْلَى
إن تَتْرُكَ وَعَلَيْهَا ذلك وَكَذَلِكَ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ لِأَنَّ تَرْكَ
الرَّجْعَةِ مع
____________________
(1/41)
ثُبُوتِ
حَقِّ الرَّجْعَةِ أَوْلَى من إثْبَاتِهَا من غَيْرِ حَقِّ الرَّجْعَةِ
وَأَمَّا في انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ( وَالْغَشَيَانِ ) فَتَأْخُذُ بِالْأَكْثَرِ
لِأَنَّهَا إنْ تَرَكَتْ التَّزَوُّجَ مع جَوَازِ التَّزَوُّجِ أَوْلَى من أَنْ
تَتَزَوَّجَ بِدُونِ حَقِّ التَّزَوُّجِ وَكَذَا تَرْكُ الْغَشَيَانِ مع الْحِلِّ
أَوْلَى من الْغَشَيَانِ مع الْحُرْمَةِ فإذا جاء الْيَوْمُ الثَّامِنُ
فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ ثَانِيًا وَتَقْضِيَ الْيَوْمَ الذي صَامَتْ في
الْيَوْمِ السَّابِعِ لِأَنَّ الْأَدَاءَ كان وَاجِبًا وَوَقَعَ الشَّكُّ في
السُّقُوطِ إنْ لم تَكُنْ حَائِضًا فيه صَحَّ صَوْمُهَا وَلَا قَضَاءَ عليها
وَإِنْ كانت حَائِضًا فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ فَلَا يَسْقُطُ الْقَضَاءُ
بِالشَّكِّ وَلَيْسَ عليها قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّهَا إنْ كانت طَاهِرَةً في
هذا الْيَوْمِ فَقَدْ صَلَّتْ وَإِنْ كانت حَائِضًا فيه فَلَا صَلَاةَ عليها
لِلْحَالِّ وَلَا الْقَضَاءِ في الثَّانِي وَلَوْ كانت عَادَتُهَا خَمْسَةً
فَحَاضَتْ سِتَّةً ثُمَّ حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى سَبْعَةً ثُمَّ حَاضَتْ
حَيْضَةً أُخْرَى سِتَّةً فَعَادَتُهَا سِتَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ حتى يبني
الِاسْتِمْرَارُ عليها أَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَلِأَنَّ الْعَادَةَ تَنْتَقِلُ
بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَإِنَّمَا يُبْنَى الِاسْتِمْرَارُ على الْمَرَّةِ
الْأَخِيرَةِ لِأَنَّ الْعَادَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهَا
وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَيْضًا فَلِأَنَّ الْعَادَةَ وَإِنْ
كانت لَا تَنْتَقِلُ إلَّا بِالْمَرَّتَيْنِ فَقَدْ رَأَتْ السِّتَّةَ مَرَّتَيْنِ
فَانْتَقَلَتْ عَادَتُهَا إلَيْهَا هذا مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ كُلَّمَا
عَاوَدَهَا الدَّمُ في يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ فَحَيْضُهَا ذلك
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ إذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ في شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ فَهِيَ
مُسْتَحَاضَةٌ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ في شَهْرٍ وَاحِدٍ
حَيْضَتَانِ وَطُهْرَانِ لِأَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةٌ وَأَقَلَّ الطُّهْرِ
خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا وقد ذَكَرَ في الْأَصْلِ سُؤَالًا وقال أَرَأَيْت لو
رَأَتْ في أَوَّلِ الشَّهْرِ خَمْسَةً ثُمَّ طَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشْرَ ثُمَّ
رَأَتْ الدَّمَ خَمْسَةً أَلَيْسَ قد حَاضَتْ في شهر ( ( ( شهرين ) ) )
مَرَّتَيْنِ ثُمَّ أَجَابَ فقال إذَا ضَمَمْت إلَيْهِ طُهْرًا آخَرَ كان
أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَالشَّهْرُ لَا يَشْتَمِلُ على ذلك
وَحُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وَقَالَتْ إنِّي
حِضْت في شَهْرٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فقال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه لِشُرَيْحٍ مَاذَا
تَقُولُ في ذلك فقال إنْ أَقَامَتْ على ذلك بَيِّنَةً من بِطَانَتِهَا مِمَّنْ
يُرْضَى بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ قُبِلَ منها فقال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه قالون
وَهِيَ بِالرُّومِيَّةِ حَسَنٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ شُرَيْحٌ بِذَلِكَ تَحْقِيقَ
النَّفْيِ أنها لَا تَجِدُ ذلك وَإِنَّ هذا لَا يَكُونُ كما قال اللَّهُ تَعَالَى
{ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حتى يَلِجَ الْجَمَلُ في سَمِّ الْخِيَاطِ } أَيْ
لَا يَدْخُلُونَهَا رَأْسًا
وَدَمُ الْحَامِلِ ليس بِحَيْضٍ وَإِنْ كان مُمْتَدًّا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ هو حَيْضٌ في حَقِّ تَرْكِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَحُرْمَةِ
الْقُرْبَانِ لَا في حَقِّ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ إذا أَقْبَلَ
قُرْؤُك فَدَعِي الصَّلَاةَ من غَيْرِ فَصْلٍ بين حَالٍ وَحَالٍ وَلِأَنَّ
الْحَامِلَ من ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ
صَغِيرَةً أو آيِسَةً أو من ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَالْحَامِلُ لَيْسَتْ
بِصَغِيرَةٍ وَلَا آيِسَةٍ فَكَانَتْ من ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ إلَّا أَنَّ
حَيْضَهَا لَا يُعْتَبَرُ في حَقِّ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من
أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ فَرَاغُ الرَّحِمِ وَحَيْضُهَا لَا يَدُلُّ على ذلك
وَلَنَا قَوْلُ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها الْحَامِلُ لَا تَحِيضُ
وَمِثْلُ هذا لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ فَالظَّاهِرُ أنها قَالَتْهُ سَمَاعًا من
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلِأَنَّ الْحَيْضَ اسْمٌ لِلدَّمِ
الْخَارِجِ من الرَّحِمِ وَدَمُ الْحَامِلِ لَا يَخْرُجُ من الرَّحِمِ لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَبِلَتْ يَنْسَدُّ
الرَّحِمِ فَلَا يَخْرُجُ منه شَيْءٌ فَلَا يَكُونُ حَيْضًا
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إن دَمَ
الْحَامِلِ قُرْءٌ وَالْكَلَامُ فيه وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ ليس بِقُرْءٍ ما
ذَكَرْنَا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الحديث لَا يَتَنَاوَلُ حَالَةَ الْحَبْلِ
وَأَمَّا الْمُبْتَدَأَةُ بِالْحَبَلِ وَهِيَ التي حَبِلَتْ من زَوْجِهَا قبل أَنْ
تَحِيضَ إذَا وَلَدَتْ فَرَأَتْ الدَّمَ زِيَادَةً على أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَهُوَ
اسْتِحَاضَةٌ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ لِلنِّفَاسِ كَالْعَشَرَةِ لِلْحَيْضِ ثُمَّ
الزِّيَادَةُ على الْعَشَرَةِ في الْحَيْضِ اسْتِحَاضَةٌ فَكَذَا الزِّيَادَةُ على
الْأَرْبَعِينَ في النِّفَاسِ
وَأَمَّا صَاحِبَةُ الْعَادَةِ في النِّفَاسِ إذَا رَأَتْ زيادة ( ( ( زيادتها ) )
) على عَادَتِهَا فَإِنْ كانت عَادَتُهَا أَرْبَعِينَ فَالزِّيَادَةُ اسْتِحَاضَةٌ
لِمَا مَرَّ وَإِنْ كانت دُونَ الْأَرْبَعِينَ فما زَادَ يَكُونُ نِفَاسًا إلَى
الْأَرْبَعِينَ
فَإِنْ زَادَ علي الْأَرْبَعِينَ تُرَدُّ إلَى عَادَتِهَا فَتَكُونُ عَادَتُهَا
نِفَاسًا وما زَادَ عليها يَكُونُ اسْتِحَاضَةً ثُمَّ يَسْتَوِي الْجَوَابُ فِيمَا
إذَا كان خَتْمُ عَادَتِهَا بِالدَّمِ أو بِالطُّهْرِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ كان خَتْمُ عَادَتِهَا بِالدَّمِ فَكَذَلِكَ وَأَمَّا إذَا
كان بِالطُّهْرِ فَلَا لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَرَى خَتْمَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ
بِالطُّهْرِ إذَا كان بَعْدَهُ دَمٌ وَمُحَمَّدٌ لَا يَرَى ذلك وَبَيَانُهُ ما
ذُكِرَ في الْأَصْلِ إذَا كانت عَادَتُهَا في النِّفَاسِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا
فَانْقَطَعَ دَمُهَا على رَأْسِ عِشْرِينَ يَوْمًا وَطَهُرَتْ عَشْرَةَ أَيَّامٍ
تَمَامَ عَادَتِهَا فَصَلَّتْ وَصَامَتْ ثُمَّ عَاوَدَهَا الدَّمُ وَاسْتَمَرَّ
بها حتى جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ ذَكَرَ أنها مُسْتَحَاضَةً فِيمَا زَادَ على
الثَّلَاثِينَ وَلَا يُجْزِيهَا صَوْمُهَا في الْعَشَرَةِ التي صَامَتْ
فَيَلْزَمُهَا الْقَضَاءُ
قال الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ هذا على مَذْهَبِ أبي يُوسُفَ يَسْتَقِيمُ فَأَمَّا على
مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ فَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ
____________________
(1/42)
يَرَى
خَتْمَ النِّفَاسِ بِالطُّهْرِ إذَا كان بَعْدَهُ دَمٌ فَيُمْكِنُ جَعْلُ
الثَّلَاثِينَ نِفَاسًا لها عِنْدَهُ وَإِنْ كان خَتْمُهَا بِالطُّهْرِ
وَمُحَمَّدٌ لَا يَرَى خَتْمَ النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ بِالطُّهْرِ فَنِفَاسُهَا في
هذا الْفَصْلِ عِنْدَهُ عِشْرُونَ يَوْمًا فَلَا يَلْزَمُهَا قَضَاءُ ما صَامَتْ
في الْعَشَرَةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ الْعِشْرِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وما تَرَاهُ النُّفَسَاءُ من الدَّمِ بين الْوِلَادَتَيْنِ فَهُوَ دَمٌ صَحِيحٌ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فَاسِدٌ
بِنَاءً على أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا وَلَدَتْ وفي بَطْنِهَا وَلَدٌ آخَرُ
فَالنِّفَاسُ من الْوَلَدِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ من الْوَلَدِ الثَّانِي وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِالْوَلَدِ
الثَّانِي بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ النِّفَاسَ يَتَعَلَّقُ بِوَضْعِ ما في
الْبَطْنِ كَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فتعلق ( ( ( فيتعلق ) ) ) بِالْوَلَدِ الْأَخِيرِ
كَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَهَذَا لِأَنَّهَا بَعْدُ حُبْلَى وَكَمَا لَا
يُتَصَوَّرُ انْقِضَاءُ عِدَّةِ الجمع ( ( ( الحمل ) ) ) بِدُونِ وَضْعِ الْحَمْلِ
لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ النِّفَاسِ من الْحُبْلَى لِأَنَّ النِّفَاسَ
بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ وَلِأَنَّ النِّفَاسَ مَأْخُوذٌ من تَنَفُّسِ الرَّحِمِ
وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك على الْكَمَالِ إلَّا بِوَضْعِ الْوَلَدِ الثَّانِي فَكَانَ
الْمَوْجُودُ قبل وَضْعِ الْوَلَدِ الثَّانِي نِفَاسًا من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ
فَلَا تَسْقُطُ الصَّلَاةُ عنها بِالشَّكِّ كما إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا وَاحِدًا
وَخَرَجَ بَعْضُهُ دُونَ الْبَعْضِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ النِّفَاسَ إنْ كان دَمًا يَخْرُجُ
عَقِيبَ النَّفْسِ فَقَدْ وُجِدَ بِوِلَادَةِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كان دَمًا
يَخْرُجُ بَعْدَ تَنَفُّسِ الرَّحِمِ فَقَدْ وُجِدَ أَيْضًا بِخِلَافِ انْقِضَاءِ
الْعِدَّةِ لِأَنَّ ذلك يَتَعَلَّقُ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ ولم يُوجَدْ وَالنِّفَاسُ
يَتَعَلَّقُ بِتَنَفُّسِ الرَّحِمِ أو بِخُرُوجِ النَّفْسِ وقد وُجِدَ أو يقول
بَقَاءُ الْوَلَدِ في الْبَطْنِ لَا يُنَافِي النِّفَاسَ لِانْفِتَاحِ الرَّحِمِ
وأما الْحَيْضُ من الْحُبْلَى فَمُمْتَنِعٌ لِانْسِدَادِ الرَّحِمِ وَالْحَيْضُ
اسْمٌ لِدَمٍ يَخْرُجُ من الرَّحِمِ فَكَانَ الْخَارِجُ دَمَ عِرْقٍ لَا دَمَ
رَحِمٍ
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا وُجِدَ تَنَفُّسُ الرَّحِمِ من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ
فَمَمْنُوعٌ بَلْ وُجِدَ على سَبِيلِ الْكَمَالِ لِوُجُودِ خُرُوجِ الْوَلَدِ
بِكَمَالِهِ بِخِلَافِ ما إذَا خَرَجَ بَعْضُ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْخَارِجَ منه
إنْ كان أَقَلُّهُ لم تَصِرْ نُفَسَاءَ حتى قالوا يَجِبُ عليها أَنْ تُصَلِّيَ
وَتَحْفِرَ لها حَفِيرَةً لِأَنَّ النِّفَاسَ يَتَعَلَّقُ بِالْوِلَادَةِ ولم
يُوجَدْ لِأَنَّ الْأَقَلَّ يُلْحَقُ بِالْعَدَمِ بِمُقَابَلَةِ الْأَكْثَرِ
فَأَمَّا إذَا كان الْخَارِجُ أَكْثَرَهُ فَالْمَسْأَلَةُ مَمْنُوعَةٌ أو هِيَ على
هذا الِاخْتِلَافِ وأما فِيمَا نَحْنُ فيه فَقَدْ وُجِدَتْ الْوِلَادَةُ على
طَرِيقِ الْكَمَالِ فَالدَّمُ الذي يَعْقُبُهُ يَكُونُ نِفَاسًا ضَرُورَةً
وَالسِّقْطُ إذَا اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ فَهُوَ مِثْلُ الْوَلَدِ التَّامِّ
يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْوِلَادَةِ من انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَصَيْرُورَةِ
الْمَرْأَةِ نُفَسَاءَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ وَلَدًا مَخْلُوقًا عن
الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِخِلَافِ ما إذَا لم يَكُنْ اسْتَبَانَ من خَلْقِهِ
شَيْءٌ لِأَنَّا لَا نَدْرِي ذَاكَ هو الْمَخْلُوقُ من مَائِهِمَا أو دَمٍ جَامِدٍ
أو شَيْءٍ من الْأَخْلَاطِ الرَّدِيَّةِ اسْتَحَالَ إلَى صُورَةِ لَحْمٍ فَلَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ من أَحْكَامِ الْوِلَادَةِ
وَأَمَّا أَحْوَالُ الدَّمِ فَنَقُولُ الدَّمُ قد يُدَرُّ دُرُورًا مُتَّصِلًا وقد
يُدَرُّ مَرَّةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ اسْتِمْرَارًا
مُتَّصِلًا وَالثَّانِي مُنْفَصِلًا
أَمَّا الِاسْتِمْرَارُ الْمُتَّصِلُ فَحُكْمُهُ ظَاهِرٌ وهو أَنْ يُنْظَرَ إنْ
كانت الْمَرْأَةُ مُبْتَدَأَةٌ فَالْعَشَرَةُ من أَوَّلِ ما رَأَتْ حَيْضٌ
وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ ذلك طُهْرُهَا هَكَذَا إلَى أَنْ يُفَرِّجَ اللَّهُ عنها
وَإِنْ كانت صَاحِبَةَ عَادَةٍ فَعَادَتُهَا في الْحَيْضِ حَيْضُهَا وَعَادَتُهَا
في الطُّهْرِ طُهْرُهَا وَتَكُونُ مُسْتَحَاضَةً في أَيَّامِ طُهْرِهَا
وَأَمَّا الِاسْتِمْرَارُ الْمُنْفَصِلُ فَهُوَ أَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ مَرَّةً
دَمًا وَمَرَّةً طُهْرًا هَكَذَا فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّ الطُّهْرَ
الْمُتَخَلِّلَ بين الدَّمَيْنِ إذَا كان خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا
يَكُونُ فَاصِلًا بَيْن الدَّمَيْنِ ثُمَّ بَعْدَ ذلك إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ
أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا يُجْعَلُ ذلك حَيْضًا وَإِنْ أَمْكَنَ جَعْلُ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ حَيْضًا وَإِنْ كان لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ
أَحَدُهُمَا حَيْضًا لَا يُجْعَلُ شَيْءٌ من ذلك حَيْضًا وَكَذَا لَا خِلَافَ بين
أَصْحَابِنَا في أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بين الدَّمَيْنِ إذَا كان أَقَلَّ
من ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَكُونُ فَاصِلًا بين الدَّمَيْنِ وَإِنْ كان أَكْثَرَ
من الدَّمَيْنِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بين ذلك
وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ فيه أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ رَوَى أبو يُوسُفَ عنه أَنَّهُ قال
الطُّهْرِ الْمُتَخَلِّلُ بين الدَّمَيْنِ إذَا كان أَقَلَّ من خَمْسَةَ عَشْرَ
يَوْمًا يَكُونُ طُهْرًا فَاسِدًا وَلَا يَكُونُ فَاصِلًا بين الدَّمَيْنِ بَلْ
يَكُونُ كُلُّهُ كَدَمٍ مُتَوَالٍ ثُمَّ يُقَدَّرُ ما يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ
حَيْضًا يُجْعَلُ حَيْضًا وَالْبَاقِي يَكُونُ اسْتِحَاضَةً
وَرَوَى مُحَمَّدٌ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّمَ إذَا كان في طَرَفَيْ
الْعَشَرَةِ فَالطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ بَيْنَهُمَا لَا يَكُونُ فَاصِلًا
وَيُجْعَلُ كُلُّهُ كَدَمٍ مُتَوَالٍ وَإِنْ لم يَكُنْ الدَّمُ في طَرَفَيْ
الْعَشَرَةِ كان الطُّهْرُ فَاصِلًا بين الدَّمَيْنِ ثُمَّ بَعْدَ ذلك إنْ أَمْكَنَ
أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا يُجْعَلُ ذلك حَيْضًا وَإِنْ أَمْكَنَ
أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ أَسْرَعُهُمَا حَيْضًا
وهو أَوَّلُهُمَا وَإِنْ لم يُمْكِنْ جَعْلُ أَحَدِهِمَا حَيْضًا لَا يُجْعَلُ
شَيْءٌ من ذلك حَيْضًا
وَرَوَى عبد اللَّهِ بن الْمُبَارَكِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّمَ إذَا كان في
طَرَفَيْ الْعَشَرَةِ وكان بِحَالٍ لو جُمِعَتْ الدِّمَاءُ الْمُتَفَرِّقَةُ
تَبْلُغُ
____________________
(1/43)
حَيْضًا
لَا يَصِيرُ الطُّهْرُ فَاصِلًا بين الدَّمَيْنِ وَيَكُونُ كُلُّهُ حَيْضًا وَإِنْ
كان بِحَالٍ لو جُمِعَ لَا يَبْلُغُ حَيْضًا يَصِيرُ فَاصِلًا بين الدَّمَيْنِ
ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا يُجْعَلُ
ذلك حَيْضًا وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ
أَسْرَعُهُمَا حَيْضًا وَإِنْ لم يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا لا
يُجْعَلُ شَيْءٌ من ذلك حَيْضًا
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بين
الدَّمَيْنِ إذَا كان أَقَلَّ من ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَكُونُ فَاصِلًا بين
الدَّمَيْنِ وَكُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَالِي وإذا كان ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
كان فَاصِلًا بَيْنَهُمَا ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ
الدَّمَيْنِ حَيْضًا جُعِلَ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ أَسْرَعُهُمَا وَإِنْ لم يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ
شَيْءٍ من ذلك حَيْضًا لَا يُجْعَلُ حَيْضًا
وَاخْتَارَ مُحَمَّدٌ لِنَفْسِهِ في كِتَابِ الْحَيْضِ مَذْهَبًا فقال الطُّهْرُ
الْمُتَخَلِّلُ بين الدَّمَيْنِ إذَا كان أَقَلَّ من ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا
يُعْتَبَرُ فَاصِلًا وَإِنْ كان أَكْثَرَ من الدَّمَيْنِ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ
الدَّمِ الْمُتَوَالِي وإذا كان ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَهُوَ طُهْرٌ
كَثِيرٌ فَيُعْتَبَرُ لَكِنْ يُنْظَرُ بَعْدَ ذلك إنْ كان الطُّهْرُ مِثْلَ
الدَّمَيْنِ أو أَقَلَّ من الدَّمَيْنِ في الْعَشَرَةِ لَا يَكُونُ فَاصِلًا
وَإِنْ كان أَكْثَرَ من الدَّمَيْنِ يَكُونُ فَاصِلًا ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ
أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا جُعِلَ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ أَسْرَعُهُمَا حَيْضًا وَإِنْ لم يُمْكِنْ
أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا لَا يُجْعَلُ شَيْءٌ من ذلك حَيْضًا
وَتَقْرِيرُ هذه الْأَقْوَالِ وَتَفْسِيرُهَا يُذْكَرُ في كِتَابِ الْحَيْضِ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا حُكْمُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَمَنْعُ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ
وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ إلَّا بِغِلَافٍ وَدُخُولِ
الْمَسْجِدِ وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْجُنُبِ إلَّا أَنَّ
الْجُنُبَ يَجُوزَ له أَدَاءُ الصَّوْمِ مع الْجَنَابَةِ وَلَا يَجُوزُ
لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ لِأَنَّ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ أَغْلَظُ من الْحَدَثِ
أو بِأَنَّ النَّصَّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى وهو قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه
وسلم تَقْعُدُ إحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي
أو ثَبَتَ مَعْلُولًا بِدَفْعِ الْحَرَجِ لِأَنَّ دُرُورَ الدَّمِ يُضْعِفُهُنَّ
مع أَنَّهُنَّ خُلِقْنَ ضَعِيفَاتٍ في الْجِبِلَّةِ فَلَوْ كُلِّفْنَ بِالصَّوْمِ
لَا يَقْدِرْنَ على الْقِيَامِ بِهِ إلَّا بِحَرَجٍ وَهَذَا لَا يُوجَدُ في
الْجَنَابَةِ وَلِهَذَا الْجُنُبُ يَقْضِي الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَهُنَّ لَا
يَقْضِينَ الصَّلَاةَ لِأَنَّ الْحَيْضَ يَتَكَرَّرُ في كل شَهْرٍ ثَلَاثَةُ
أَيَّامٍ إلَى الْعَشَرَةِ فَيَجْتَمِعُ عليها صَلَوَاتٌ كَثِيرَةٌ فَتُحْرَجُ في
قَضَائِهَا وَلَا حَرَجَ في قَضَاءِ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أو عَشْرَةِ
أَيَّامٍ في السَّنَةِ
وَكَذَا يَحْرُمُ الْقُرْبَانُ في حَالَتَيْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَلَا
يَحْرُمُ قُرْبَانُ الْمَرْأَةِ التي أَجْنَبَتْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ }
وَمِثْلُ هذا لم يَرِدْ في الْجَنَابَةِ بَلْ وَرَدَتْ الْإِبَاحَةُ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } أَيْ
الْوَلَدَ فَقَدْ أَبَاحَ الْمُبَاشَرَةَ وَطَلَبَ الْوَلَدِ وَذَلِكَ
بِالْجِمَاعِ مُطْلَقًا عن الْأَحْوَالِ
وَأَمَّا حُكْمُ الِاسْتِحَاضَةِ فالاستحاضة ( ( ( فالمستحاضة ) ) ) حُكْمُهَا
حُكْمُ الطَّاهِرَاتِ غير أنها تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كل صَلَاةٍ على ما بَيَّنَّا
فَصْلٌ وَأَمَّا التَّيَمُّمُ فَالْكَلَامُ في التَّيَمُّمِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ
في بَيَانِ جَوَازِهِ وفي بَيَانِ مَعْنَاهُ لُغَةً وَشَرْعًا وفي بَيَانِ رُكْنِهِ
وفي كَيْفِيَّتِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ ما يُتَيَمَّمُ
بِهِ وفي بَيَانِ وَقْتِ التَّيَمُّمِ وفي بَيَانِ صِفَةِ التَّيَمُّمِ وفي
بَيَانِ ما يُتَيَمَّمُ منه وفي بَيَانِ ما يَنْقُضُهُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا خِلَافَ في أَنَّ التَّيَمُّمَ من الْحَدَثِ جَائِزٌ
عُرِفَ جَوَازُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَمَّا الْكِتَابُ
فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو على سَفَرٍ أو جاء أَحَدٌ
مِنْكُمْ من الْغَائِطِ أو لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا
صَعِيدًا طَيِّبًا }
وَقِيلَ إنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ في غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ نَزَلَ رسول اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم لِلتَّعْرِيسِ فَسَقَطَ من عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها
قِلَادَةٌ لِأَسْمَاءِ رضي اللَّهُ عنها فلما ارْتَحَلُوا ذَكَرَتْ ذلك لِرَسُولِ
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَبَعَثَ رَجُلَيْنِ في طَلَبِهَا فَأَقَامَ
يَنْتَظِرُهُمَا فَعَدِمَ الناس الْمَاءَ وَحَضَرَتْ صَلَاةُ الْفَجْرِ فَأَغْلَظَ
أبو بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه على عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها وقال لها حَبَسْت
الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ الْآيَةَ فقال أُسَيْدُ بن حُضَيْرٍ يَرْحَمُك اللَّهُ
يا عَائِشَةُ ما نَزَلَ بِك أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إلَّا جَعَلَ اللَّهُ
لِلْمُسْلِمِينَ فيه فَرَجًا
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما ( ( ( فلما ) ) ) رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ ما لم
يَجِدْ الْمَاءَ أو يُحْدِثْ
وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم جُعِلَتْ لي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا أَيْنَمَا
أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَيَمَّمْتُ وَصَلَّيْتُ
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ ما لم يَجِدْ الْمَاءَ
وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ
وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ في جَوَازِهِ من الْجَنَابَةِ فقال عَلِيٌّ وَعَبْدُ
اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهم جَائِزٌ
وقال عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه وَعَبْدُ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي الله عنهما لَا
يَجُوزُ
وقال الضَّحَّاكُ رَجَعَ ابن مَسْعُودٍ عن هذا وَحَاصِلُ اخْتِلَافِهِمْ رَاجِعٌ
إلَى تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى في آيَةِ التَّيَمُّمِ { أو لَامَسْتُمْ
النِّسَاءَ }
____________________
(1/44)
أو
لَمَسْتُمْ فَعَلِيٌّ وابن عَبَّاسٍ أَوَّلَا ذلك بِالْجِمَاعِ وَقَالَا كَنَّى
اللَّهُ تَعَالَى عن الْوَطْءِ بِالْمَسِيسِ وَالْغَشَيَانِ وَالْمُبَاشَرَةِ
وَالْإِفْضَاءِ وَالرَّفَثِ وَعُمَرُ وابن مَسْعُودٍ أَوَّلَاهُ بِالْمَسِّ
بِالْيَدِ فلم يَكُنْ الْجُنُبُ دَاخِلًا في هذه الْآيَةِ فَبَقِيَ الْغُسْلُ وَاجِبًا
عليه بِقَوْلِهِ { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } وَأَصْحَابُنَا
أَخَذُوا بِقَوْلِ على وَابْنِ عَبَّاسٍ لِمُوَافَقَةِ الْأَحَادِيثِ
الْمَرْوِيَّةِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِلْجُنُبِ من
الْجِمَاعِ أَنْ يَتَيَمَّمَ إذَا لم يَجِدْ الْمَاءَ
وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وقال
يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا قَوْمٌ نَسْكُنُ الرِّمَالَ وَلَا نَجِدُ الْمَاءَ
شَهْرًا أو شَهْرَيْنِ وَفِينَا الْجُنُبُ وَالنُّفَسَاءُ وَالْحَائِضُ فَكَيْفَ
نَصْنَعُ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم عَلَيْكُمْ بِالْأَرْضِ وفي رِوَايَةٍ
عَلَيْكُمْ بِالصَّعِيدِ وَكَذَا حَدِيثُ عَمَّارٍ رضي اللَّهُ عنه وَغَيْرِهِ على
ما نَذْكُرُهُ
وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ من الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ لِمَا رُوِينَا من حديث أبي
هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه وَلِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْجَنَابَةِ فَكَانَ
وُرُودُ النَّصِّ في الْجَنَابَةِ وُرُودًا فِيهِمَا دَلَالَةٌ
وَلِلْمُسَافِرِ أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتَهُ وان كان لَا يَجِدُ الْمَاءَ وقال
مَالِكٌ يُكْرَهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ اخْتَلَفَ فيه كِبَارُ
الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فَكَانَ الْجِمَاعُ اكْتِسَابًا لِسَبَبِ
وُقُوعِ الشَّكِّ في جَوَازِ الصَّلَاةِ فَيُكْرَهُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن أبي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال
قُلْت لِلنَّبِيِّ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَأُجَامِعُ امْرَأَتِي وأنا لَا أَجِدُ
الْمَاءَ فقال جَامِعْ إمرأتك وَإِنْ كُنْت لَا تَجِدُ الْمَاءَ إلَى عَشْرِ
حِجَجٍ فإن التُّرَابَ كَافِيك
وَأَمَّا بَيَانُ مَعْنَاهُ فَالتَّيَمُّمُ في اللُّغَةِ الْقَصْدُ يُقَالُ
تَيَمَّمَ وَيَمَّمَ إذَا قَصَدَ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ وما أَدْرِي إذَا
يَمَّمْت أَرْضًا أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي ألخير ( ( ( أألخير ) ) )
الذي أنا أَبْتَغِيهِ أَمْ الشَّرُّ الذي هو يَبْتَغِينِي قَوْلُهُ يَمَّمْت أَيْ
قَصَدْت
وفي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عن اسْتِعْمَالِ الصَّعِيدِ في عُضْوَيْنِ
مَخْصُوصَيْنِ على قَصْدِ التَّطْهِيرِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ نَذْكُرُهَا في
مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا رُكْنُهُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال أَصْحَابُنَا هو ضَرْبَتَانِ
ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وهو أَحَدُ
قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وفي قَوْلِهِ الْآخَرِ وهو قَوْلُ مَالِكٍ ضَرْبَةٌ
لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الرُّسْغَيْنِ
وقال الزُّهْرِيُّ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْآبَاطِ
وقال ابن أبي لَيْلَى ضَرْبَتَانِ يَمْسَحُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْوَجْهَ
وَالذِّرَاعَيْنِ جميعا
وقال ابْنَ سِيرِينَ ثَلَاثُ ضَرَبَاتٍ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ
لِلذِّرَاعَيْنِ وَضَرْبَةٌ أُخْرَى لَهُمَا جميعا
وقال بَعْضُ الناس هو ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ يَسْتَعْمِلُهَا في وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ
وَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه } أَمْرٌ بِالتَّيَمُّمِ وَفَسَّرَهُ
بِمَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِالصَّعِيدِ مُطْلَقًا عن شَرْطِ الضَّرْبَةِ
وَالضَّرْبَتَيْنِ فَيَجْرِي على إطْلَاقِهِ وَبِهِ يَحْتَجُّ الزُّهْرِيُّ فيقول
إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِمَسْحِ الْيَدِ وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ
الْجَارِحَةِ من رؤس الْأَصَابِعِ إلَى الْآبَاطِ وَلَوْلَا ذِكْرُ الْمَرَافِقِ
غَايَةً لِلْأَمْرِ بِالْغَسْلِ في بَابِ الْوُضُوءِ لَوَجَبَ غَسْلُ هذا
الْمَحْدُودِ وَالْغَايَةُ ذُكِرَتْ في الْوُضُوءِ دُونَ التَّيَمُّمِ
وَاحْتَجَّ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارَ بن يَاسِرٍ رضي
اللَّهُ عنه أَجْنَبَ فَتَمَعَّكَ في التُّرَابِ فقال له رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَمَا عَلِمْت أَنَّهُ يَكْفِيك الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ
وَلَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه }
وَالْآيَةُ حُجَّةٌ على مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ
بِمَسْحِ الْيَدِ فَلَا يَجُوزُ التَّقْيِيدُ بِالرُّسْغِ إلَّا بِدَلِيلٍ وقد قام
دَلِيلُ التَّقْيِيدِ بِالْمِرْفَقِ وهو أَنَّ الْمِرْفَقَ جُعِلَ غَايَةً
لِلْأَمْرِ بِالْغُسْلِ وهو الْوُضُوءُ وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ عن الْوُضُوءِ
وَالْبَدَلُ لَا يُخَالِفُ الْمُبْدَلَ فَذِكْرُ الْغَايَةِ هُنَاكَ يَكُونُ
ذِكْرًا هَهُنَا دَلَالَةً وهو الْجَوَابُ عن قَوْلِ من يقول أن التَّيَمُّمَ
ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ النَّصَّ لم يَتَعَرَّضْ لِلتَّكْرَارِ لِأَنَّ
النَّصَّ إنْ كان لم يَتَعَرَّضْ لِلتَّكْرَارِ أَصْلًا نَصًّا فَهُوَ مُتَعَرِّضٌ
له دَلَالَةً لِأَنَّ التَّيَمُّمَ خَلْفٌ عن الْوُضُوءِ وَلَا يَجُوزُ
اسْتِعْمَالُ مَاءٍ وَاحِدٍ في عُضْوَيْنِ في الْوُضُوءِ فَلَا يَجُوزُ
اسْتِعْمَالُ تُرَابٍ وَاحِدٍ في عُضْوَيْنِ في التَّيَمُّمِ لِأَنَّ الْخَلْفَ
لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ وَكَذَا هِيَ حُجَّةٌ على ابْنِ أبي لَيْلَى وَابْنِ
سِيرِينَ لِأَنَّ اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِمَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ
فَيَقْتَضِي وُجُودَ فِعْلِ الْمَسْحِ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرَّةً وَاحِدَةً
لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَفِيمَا قَالَاهُ
تَكْرَارٌ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ على الْكِتَابِ إلَّا بِدَلِيلٍ صَالِحٍ
لِلزِّيَادَةِ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما
____________________
(1/45)
رُوِيَ
عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ إلَى
الْمِرْفَقَيْنِ وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ على الْكُلِّ
وَأَمَّا حَدِيثُ عَمَّارٍ فَفِيهِ تَعَارُضٌ لِأَنَّهُ رُوِيَ في رِوَايَةٍ
أُخْرَى أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال يَكْفِيك ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ
لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَالْمُتَعَارِضُ لَا
يَصْلُحُ حُجَّةً
فَصْلٌ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّيَمُّمِ فذكر أبو يُوسُفَ في الْأَمَالِي فقال (
( ( قال ) ) ) سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عن التَّيَمُّمِ فقال التَّيَمُّمُ
ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ
فَقُلْت له كَيْفَ هو فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ على الْأَرْضِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا
وَأَدْبَرَ ثُمَّ نَفَضَهُمَا ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ ثُمَّ أَعَادَ
كَفَّيْهِ إلى الصَّعِيدِ ثَانِيًا فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ ثُمَّ
نَفَضَهُمَا ثُمَّ مَسَحَ بِذَلِكَ ظَاهِرَ الذِّرَاعَيْنِ وَبَاطِنَهُمَا إلَى
الْمِرْفَقَيْنِ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْسَحَ بِبَاطِنِ أَرْبَعِ أَصَابِعِ
يَدِهِ الْيُسْرَى ظَاهِرَ يَدِهِ الْيُمْنَى من رؤوس الْأَصَابِعِ إلَى
الْمِرْفَقِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِكَفِّهِ الْيُسْرَى دُونَ الْأَصَابِعِ بَاطِنَ
يَدِهِ الْيُمْنَى من الْمِرْفَقِ إلَى الرُّسْغِ ثُمَّ يُمِرُّ بِبَاطِنِ إبْهَامِهِ
الْيُسْرَى على ظَاهِرِ ابهامه الْيُمْنَى ثُمَّ يَفْعَلُ بِالْيَدِ الْيُسْرَى
كَذَلِكَ
وقال بَعْضُهُمْ يَمْسَحُ بِالضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ بِبَاطِنِ كَفِّهِ
الْيُسْرَى مع الْأَصَابِعِ ظَاهِرَ يَدِهِ الْيُمْنَى إلَى الْمِرْفَقِ ثُمَّ
يَمْسَحُ بِهِ أَيْضًا بَاطِنَ يَدِهِ الْيُمْنَى إلَى أَصْلِ الْإِبْهَامِ ثُمَّ
يَفْعَلُ بيده الْيُسْرَى كَذَلِكَ وَلَا يَتَكَلَّفُ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى
الِاحْتِيَاطِ لِمَا فيه من الِاحْتِرَازِ عن اسْتِعْمَالِ التُّرَابِ
الْمُسْتَعْمَلِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ لِأَنَّ التُّرَابَ الذي على الْيَدِ
يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالْمَسْحِ حتى لَا يَتَأَدَّى فَرْضُ الْوَجْهِ
وَالْيَدَيْنِ بِمَسْحَةٍ وَاحِدَةٍ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ
ثُمَّ ذَكَرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَنْفُضُهُمَا نَفْضَةً روي ( ( (
وروي ) ) ) عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْفُضُهُمَا نَفْضَتَيْنِ وَقِيلَ إنَّ هذا
لَا يُوجِبُ اخْتِلَافًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من النَّفْضِ تَنَاثُرُ التُّرَابِ
صِيَانَةً عن التَّلَوُّثِ الذي يُشْبِهُ الْمُثْلَةَ إذْ التَّعَبُّدُ وَرَدَ بمس
( ( ( بمسح ) ) ) كفيه ( ( ( كف ) ) ) التُّرَابُ على الْعُضْوَيْنِ لَا
تَلْوِيثُهُمَا بِهِ فَلِذَلِكَ يَنْفُضُهُمَا وَهَذَا الْغَرَضُ قد يَحْصُلُ
بِالنَّفْضِ مَرَّةً واحدة وقد لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالنَّفْضِ مَرَّتَيْنِ على
قَدْرٍ ما يَلْتَصِقُ بِالْيَدَيْنِ من التُّرَابِ فَإِنْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِنَفْضَةٍ
وَاحِدَةٍ اكْتَفَى بها وان لم يَحْصُلْ نَفَضَ نَفْضَتَيْنِ
وَأَمَّا اسْتِيعَابُ الْعُضْوَيْنِ بِالتَّيَمُّمِ فَهَلْ هو من تَمَامِ
الرُّكْنِ لم يَذْكُرْهُ في الْأَصْلِ نَصًّا لَكِنَّهُ ذَكَرَ ما يَدُلُّ عليه
فإنه قال إذَا تَرَكَ ظَاهِرَ كَفَّيْهِ لم يُجْزِهِ وَنَصَّ الْكَرْخِيُّ إنه
إذَا تَرَكَ شيئا من مَوَاضِعِ التَّيَمُّمِ قَلِيلًا أو كَثِيرًا لَا يَجُوزُ
وَذَكَرَ الْحَسَنُ في الْمُجَرَّدِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا يَمَّمَ
الْأَكْثَرَ جَازَ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ هذا مَسْحٌ فَلَا يَجِبُ فيه الِاسْتِيعَابُ
كَمَسْحِ الرَّأْسِ
وجه ما ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَسْحِ في بَابِ التَّيَمُّمِ
تَعَلَّقَ بِاسْمِ الْوَجْهِ وَالْيَدِ وإنه يَعُمُّ الْكُلَّ وَلِأَنَّ
التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عن الْوُضُوءِ وَالِاسْتِيعَابُ في الْأَصْلِ من تَمَامِ
الرُّكْنِ فَكَذَا في الْبَدَلِ وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَلْزَمُ تَخْلِيلُ
الْأَصَابِعِ وَنَزْعُ الْخَاتَمِ وَلَوْ تُرِكَ لم يَجُزْ وَعَلَى رِوَايَةِ
الْحَسَنِ لَا يَلْزَمُ وَيَجُوزُ وَيَمْسَحُ الْمِرْفَقَيْنِ مع الذِّرَاعَيْنِ
عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ حتى أَنَّهُ لو كان مَقْطُوعَ
الْيَدَيْنِ من الْمِرْفَقِ يَمْسَحُ مَوْضِعَ الْقَطْعِ عِنْدَنَا خِلَافًا له
وَالْكَلَامُ فيه كَالْكَلَامِ في الْوُضُوءِ وقد مَرَّ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِدًا
لِلْمَاءِ قَدْرَ ما يَكْفِي الْوُضُوءَ أو الْغُسْلَ في الصَّلَاةِ التي تَفُوتُ
إلَى خَلْفٍ وما هو من أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فلم تَجِدُوا
مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } شَرَطَ عَدَمَ وِجْدَانِ الْمَاءِ
لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ وَقَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم التَّيَمُّمُ
وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ ما لم يَجِدْ الْمَاءَ أو يُحْدِثْ
جَعَلَهُ وُضُوءَ الْمُسْلِمِ إلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ أو الْحَدَثِ وَالْمَمْدُودُ
إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ وَلَا وُجُودَ لِلشَّيْءِ مع
وُجُودِ ما يَنْتَهِي وُجُودُهُ عِنْدَ وُجُودِهِ
وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ ما لم يَجِدْ الْمَاءَ
أو يُحْدِثْ وَلِأَنَّهُ بَدَلٌ وَوُجُودُ الْأَصْلِ يَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى
الْبَدَلِ
ثُمَّ عَدَمُ الْمَاءِ نَوْعَانِ عَدَمٌ من حَيْثُ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى
وَعَدَمٌ من حَيْثُ الْمَعْنَى لَا من حَيْثُ الصُّورَةِ
أَمَّا الْعَدَمُ من حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْمَعْنَى فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ
بَعِيدًا عنه ولم يُذْكَرْ حَدُّ الْبُعْدِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِالْمِيلِ وهو أَنْ يَكُونَ مِيلًا
فَصَاعِدًا فَإِنْ كان أَقَلَّ من مِيلٍ لم يَجُزْ التَّيَمُّمُ وَالْمِيلُ ثُلُثُ
فَرْسَخٍ
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ من تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إنْ كان الْمَاءُ أَمَامَهُ
يَعْتَبِرُ مِيلَيْنِ وَإِنْ كان يَمْنَةً أو يَسْرَةً يُعْتَبَرُ مِيلًا وَاحِدًا
وَبَعْضُهُمْ فَصَلَ بين الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِر فَقَالُوا إنْ كان مُقِيمًا
يَعْتَبِرُ قَدْرَ مِيلٍ كَيْفَمَا كان وَإِنْ كان مُسَافِرًا وَالْمَاءُ على
يَمِينِهِ أو يَسَارِهِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كان أَمَامَهُ يَعْتَبِرُ مِيلَيْنِ
وَرُوِيَ عن
____________________
(1/46)
أبي
يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كان الْمَاءُ بِحَيْثُ لو ذَهَبَ إلَيْهِ لَا تَنْقَطِعُ عنه
جَلَبَةُ الْعِيرِ وَيُحِسُّ أَصْوَاتَهُمْ أو أَصْوَاتَ الدَّوَابِّ فَهُوَ
قَرِيبٌ وَإِنْ كان يَغِيبُ عنه ذلك فَهُوَ بَعِيدٌ
وقال بَعْضُهُمْ إنْ كان بِحَيْثُ يَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْمَاءِ فَهُوَ
قَرِيبٌ وَإِنْ كان لَا يَسْمَعُ فَهُوَ بَعِيدٌ
وَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ
وقال بَعْضُهُمْ قَدْرَ فَرْسَخٍ
وقال بَعْضُهُمْ مِقْدَارَ ما لَا يَسْمَعُ الْأَذَانَ وقال بَعْضُهُمْ إذَا
خَرَجَ من الْمِصْرِ مِقْدَارَ ما لَا يَسْمَعُ لو نُودِيَ من أَقْصَى الْمِصْرِ
فَهُوَ بَعِيدٌ وَأَقْرَبُ الْأَقَاوِيلِ اعْتِبَارُ الْمِيلِ لِأَنَّ الْجَوَازَ لِدَفْعِ
الْحَرَجِ وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ في آيَةِ التَّيَمُّمِ وهو قَوْله
تَعَالَى على أَثَرِ الْآيَةِ { ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ من
حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } وَلَا حَرَجَ فِيمَا دُونَ الْمِيلِ
فَأَمَّا الْمِيلُ فَصَاعِدًا فَلَا يَخْلُو عن حَرَجٍ وَسَوَاءٌ خَرَجَ من
الْمِصْرِ لِلسَّفَرِ أو لِأَمْرٍ آخَرَ
وقال بعضهم ( ( ( بعض ) ) ) لَا يَتَيَمَّمُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَصَدَ سَفَرًا
وإنه ليس بِسَدِيدٍ لِأَنَّ ما له ثَبَتَ الْجَوَازُ وهو دَفْعُ الْحَرَجِ لَا
يُفْصَلُ بين الْمُسَافِرِ وَغَيْرِهِ
هذا إذَا كان عَلِمَ بِبُعْدِ الْمَاءِ بِيَقِينٍ أو بِغَلَبَةِ الرَّأْي أو
أَكْبَرِ الظَّنِّ أو أخبره بِذَلِكَ رَجُلٌ عَدْلٌ وَأَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّ
الْمَاءَ قَرِيبٌ منه أما قَطْعًا أو ظَاهِرًا أو أخبره عَدْلٌ بِذَلِكَ لَا يَجُوزُ
له التَّيَمُّمُ لِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ لم يُوجَدْ وهو عَدَمُ
الْمَاءِ وَلَكِنْ يَجِبُ عليه الطَّلَبُ هَكَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال
إذَا كان الْمَاءُ على مِيلٍ فَصَاعِدًا لم يَلْزَمْهُ طَلَبُهُ وَإِنْ كان
أَقَلَّ من مِيلٍ أَتَيْتَ الْمَاءَ وَإِنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ
هَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ وَلَا يَبْلُغُ بِالطَّلَبِ مِيلًا
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَبْلُغُ بِهِ مِيلًا فَإِنْ طَلَبَ أَقَلَّ من ذلك
لم يَجُزْ التَّيَمُّمُ وَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ وهو رِوَايَةٌ عن أبي
حَنِيفَةَ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَطْلُبُ قَدْرَ ما لَا يَضُرُّ بِنَفْسِهِ
وَرُفْقَتِهِ بِالِانْتِظَارِ وَكَذَلِكَ إذَا كان بِقُرْبٍ من الْعُمْرَانِ
يَجِبُ عليه الطَّلَبُ حتى لو تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ ظَهَرَ الْمَاءُ لم تَجُزْ
صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْعُمْرَانَ لَا يَخْلُو عن الْمَاءِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا
وَالظَّاهِرُ مُلْحَقٌ بِالْمُتَيَقَّنِ في الْأَحْكَامِ
وَلَوْ كان بِحَضْرَتِهِ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ عن قُرْبِ الْمَاءِ فلم يَسْأَلْهُ حتى
تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ سَأَلَهُ فَإِنْ لم يُخْبِرْهُ بِقُرْبِ الْمَاءِ
فَصَلَاتُهُ مَاضِيَةٌ وَإِنْ أخبره بِقُرْبِ الْمَاءِ تَوَضَّأَ وَأَعَادَ
الصَّلَاةَ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَاءَ بِقُرْبٍ منه وَلَوْ سَأَلَهُ
لَأَخْبَرَهُ فلم يُوجَدْ الشَّرْطُ وهو عَدَمُ الْمَاءِ وَإِنْ سَأَلَهُ في
الِابْتِدَاءِ فلم يُخْبِرْهُ حتى تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ أخبره بِقُرْبِ
الْمَاءِ لَا يَجِبُ عليه إعَادَةُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمُتَعَنِّتَ لَا قَوْلَ
له فَإِنْ لم يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ يُخْبِرُهُ بِقُرْبِ الْمَاءِ وَلَا
غَلَبَ على ظَنِّهِ أَيْضًا قُرْبُ الْمَاءِ لَا يَجِبُ عليه الطَّلَبُ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ يَجِبُ عليه أَنْ يَطْلُبَ عن يَمِينِ الطَّرِيقِ وَيَسَارِهِ
قَدْرَ غَلْوَةٍ حتى لو تَيَمَّمَ وَصَلَّى قبل الطَّلَبِ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ
الْمَاءَ قَرِيبٌ منه فَصَلَاتُهُ مَاضِيَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لم تَجُزْ
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فلم تَجِدُوا مَاءً } وَهَذَا يَقْتَضِي
سَابِقِيَّةَ الطَّلَبِ فَكَانَ الطَّلَبُ شَرْطًا وَصَارَ كما لو كان في
الْعُمْرَانِ
وَلَنَا أَنَّ الشَّرْطَ عَدَمُ الْمَاءِ وقد تَحَقَّقَ من حَيْثُ الظَّاهِرِ إذْ
الْمَفَازَةُ مَكَانُ عَدَمِ الْمَاءِ غَالِبًا بِخِلَافِ الْعُمْرَانِ
وَقَوْلُهُ الْوُجُودُ يَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ الطَّلَبِ من الْوَاجِدِ مَمْنُوعٌ
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من وَجَدَ لُقَطَةً
فَلْيُعَرِّفْهَا وَلَا طَلَبَ من الْمُلْتَقِطِ وَلِأَنَّ الطَّلَبَ لَا يُفِيدُ
إذَا لم يَكُنْ على طَمَعٍ من وُجُودِ الْمَاءِ وَالْكَلَامُ فيه وَرُبَّمَا
يَنْقَطِعُ عن أَصْحَابِهِ فَيَلْحَقُهُ الضَّرَرُ فَلَا يَجِبُ عليه الطَّلَبُ
وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ له ذلك إذَا كان على طَمَعٍ من وُجُودِ الْمَاءِ فإن أَبَا يُوسُفَ
قال في الْأَمَالِي سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عن الْمُسَافِرِ لَا يَجِدُ الْمَاءَ
أَيَطْلُبُ عن يَمِينِ الطَّرِيقِ وَيَسَارِهِ قال إنْ طَمِعَ في ذلك فَلْيَفْعَلْ
وَلَا يَبْعُدُ فَيَضُرُّ بِأَصْحَابِهِ إنْ انْتَظَرُوهُ أو بِنَفْسِهِ إنْ
انْقَطَعَ عَنْهُمْ
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من اعْتِبَارِ الْبُعْدِ وَالْقُرْبِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ
فَأَمَّا على مَذْهَبِ زُفَرَ فَلَا عِبْرَةَ لِلْبُعْدِ وَالْقُرْبِ في هذا
الْبَابِ بَلْ الْعِبْرَةُ لِلْوَقْتِ بَقَاءً وَخُرُوجًا فَإِنْ كان يَصِلُ
الْمَاءِ قبل خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا يُجْزِيهِ التَّيَمُّمُ وَإِنْ كان الْمَاءُ
بَعِيدًا وَإِنْ كان لَا يَصِلُ إلَيْهِ قبل خُرُوجِ الْوَقْتِ يُجْزِئُهُ
التَّيَمُّمُ وَإِنْ كان الْمَاءُ قَرِيبًا
وَالْمَسْأَلَةُ نَذْكُرُهَا بَعْدُ إن شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا الْعَدَمُ من حَيْثُ الْمَعْنَى لَا من حَيْثُ الصُّورَةِ فَهُوَ أَنْ
يَعْجِزَ عن اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِمَانِعٍ مع قُرْبِ الْمَاءِ منه نحو ما إذَا
كان على رَأْسِ الْبِئْرِ ولم يَجِدْ آلَةَ الِاسْتِقَاءِ فَيُبَاحُ له
التَّيَمُّمُ لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ عن اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لم يَكُنْ وَاجِدًا
له من حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ وَكَذَا إذَا كان بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْمَاءِ عَدُوٌّ أو لُصُوصٌ أو سَبْعٌ أو حَيَّةٌ يَخَافُ على نَفْسِهِ
الْهَلَاكَ إذَا أَتَاهُ لِأَنَّ إلْقَاءَ النَّفْسِ في التَّهْلُكَةِ حَرَامٌ
فَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ عن اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ
وَكَذَا إذَا كان معه مَاءٌ وهو يَخَافُ على نَفْسِهِ الْعَطَشَ لِأَنَّهُ
مُسْتَحَقُّ الصَّرْفِ إلَى الْعَطَشِ وَالْمُسْتَحَقُّ كَالْمَصْرُوفِ فَكَانَ
عَادِمًا لِلْمَاءِ مَعْنًى
وَسُئِلَ نَصْرُ
____________________
(1/47)
بن
يحيى عن مَاءٍ مَوْضُوعٍ في الْفَلَاةِ في الحب ( ( ( الجب ) ) ) أو نَحْوِ ذلك
أَيَكُونُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَتَيَمَّمَ أو يَتَوَضَّأَ بِهِ قال يَتَيَمَّمُ
وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ لِأَنَّهُ لم يُوضَعْ لِلْوُضُوءِ وَإِنَّمَا وُضِعَ
لِلشُّرْبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَيُسْتَدَلُّ بِكَثْرَتِهِ على أَنَّهُ
وُضِعَ لِلشُّرْبِ وَالْوُضُوءِ جميعا فَيَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ
وَكَذَا إذَا كان بِهِ جِرَاحَةٌ أو جُدَرِيٌّ أو مَرَضٌ يَضُرُّهُ اسْتِعْمَالُ
الْمَاءِ فَيَخَافُ زِيَادَةَ الْمَرَضِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ يَتَيَمَّمُ
عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ حتى يَخَافَ التَّلَفَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْعَجْزَ عن اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ شَرْطُ جَوَازِ
التَّيَمُّمِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ إلَّا عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو على سَفَرٍ } إلَى قَوْلِهِ
{ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } أَبَاحَ التَّيَمُّمَ لِلْمَرِيضِ مُطْلَقًا
من غَيْرِ فَصْلٍ بين مَرَضٍ وَمَرَضٍ إلَّا أَنَّ الْمَرَضَ الذي لَا يَضُرُّ معه
اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ ليس بِمُرَادٍ فَبَقِيَ الْمَرَضُ الذي يَضُرُّ معه
اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ مُرَادًا بِالنَّصِّ وَرُوِيَ أَنَّ وَاحِدًا من
الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْنَبَ وَبِهِ جُدَرِيٌّ فَاسْتَفْتَى
أَصْحَابَهُ فَأَفْتَوْهُ بِالِاغْتِسَالِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَبَلَغَ ذلك
رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ هَلَّا
سَأَلُوا إذْ لم يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ كان يَكْفِيهِ
التَّيَمُّمُ وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَرَضِ سَبَبُ الْمَوْتِ
وَخَوْفُ الْمَوْتِ مُبِيحٌ فَكَذَا خَوْفُ سَبَبِ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ خَوْفُ
الْمَوْتِ بِوَاسِطَةٍ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ أَثَّرَ في إبَاحَةِ
الْإِفْطَارِ وَتَرْكِ الْقِيَامِ بِلَا خِلَافٍ فَهَهُنَا أَوْلَى لِأَنَّ
الْقِيَامَ رُكْنٌ في بَابِ الصَّلَاةِ وَالْوُضُوءُ شَرْطٌ فَخَوْفُ زِيَادَةِ
الْمَرَضِ لَمَّا أَثَّرَ في إسْقَاطِ الرُّكْنِ فَلَأَنْ يُؤَثِّرَ في إسْقَاطِ
الشَّرْطِ أَوْلَى
وَلَوْ كان مَرِيضًا لَا يَضُرُّهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لَكِنَّهُ عَاجِزٌ عن
الِاسْتِعْمَالِ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ له خَادِمٌ وَلَا مَالٌ يَسْتَأْجِرُ بِهِ
أَجِيرًا فَيُعِينُهُ على الْوُضُوءِ أَجْزَأْهُ التَّيَمُّمُ سَوَاءٌ كان في
الْمَفَازَةِ أو في الْمِصْرِ وهو ( مذهب أصحابنا ( ( ( المذهب ) ) ) ) لِأَنَّ
الْعَجْزَ مُتَحَقِّقٌ وَالْقُدْرَةُ مَوْهُومَةٌ فَوُجِدَ شَرْطُ الْجَوَازِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ كان في الْمِصْرِ لَا يُجْزِيهِ إلَّا أَنْ
يَكُونَ مَقْطُوعَ الْيَدِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَجِدُ أَحَدًا من قَرِيبٍ
أو بَعِيدٍ يُعِينُهُ وَكَذَا الْعَجْزُ لِعَارِضٍ على شَرَفِ الزَّوَالِ
بِخِلَافِ مَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ
وَلَوْ أَجْنَبَ في لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ يَخَافُ على نَفْسِهِ الْهَلَاكَ لو
اغْتَسَلَ ولم يَقْدِرْ على تَسْخِينِ الْمَاءِ وَلَا على أُجْرَةِ الْحَمَّامِ في
الْمِصْرِ أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إنْ كان في الْمِصْرِ لَا يُجْزِئُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ في الْمِصْرِ وُجُودُ الْمَاءِ الْمُسَخَّنِ
وَالدِّفْءِ فَكَانَ الْعَجْزُ نَادِرًا فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
بَعَثَ سَرِيَّةً وَأَمَّرَ عليهم عَمْرَو بن الْعَاصِ رضي اللَّهُ عنه وكان ذلك
في غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ فلما رَجَعُوا شَكَوْا منه أَشْيَاءَ من
جُمْلَتِهَا أَنَّهُمْ قالوا صلى بِنَا وهو جُنُبٌ فذكر النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم ذلك له فقال يا رَسُولَ اللَّهِ أَجْنَبْتُ في لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ وخفت ( ( (
فخفت ) ) ) على نَفْسِي الْهَلَاكَ لو اغْتَسَلْتُ فَذَكَرْتُ ما قال اللَّهُ
تَعَالَى { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كان بِكُمْ رَحِيمًا }
فَتَيَمَّمْتُ وَصَلَّيْتُ بِهِمْ فقال لهم رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَلَا تَرَوْنَ صَاحِبَكُمْ كَيْفَ نَظَر