ج10. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587
يَمِينٌ
عِنْدَنَا وَيَصِيرُ مُولِيًا حتى لو تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ
بِتَطْلِيقَةٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ في تَحْرِيمِ الْحَلَالِ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا
لِمَا تَبَيَّنَ وَإِنْ قال أَرَدْت بِهِ الْكَذِبَ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَكُونُ شيئا وَلَا يُصَدَّقُ في نَفْيِ
الْيَمِينِ في الْقَضَاءِ
وقد اخْتَلَفَ السَّلَفُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في هذه الْمَسْأَلَةِ رُوِيَ عن أبي
بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ
وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا الْحَرَامُ يَمِينٌ حتى روى عن
ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال إذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ
فَهُوَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا
أَمَا كان لَكُمْ في رسول اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
وروى عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال إنْ نَوَى طَلَاقًا
فَطَلَاقٌ وَإِنْ لم يَنْوِ طَلَاقًا فَيَمِينٌ يكفرها ( ( ( كفرها ) ) )
وَعَنْ زَيْدِ بن ثَابِتٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال فيه كَفَّارَةُ يَمِينٍ
وَمِنْهُمْ من جَعَلَهُ طَلَاقًا ثَلَاثًا وهو قَوْلُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه
وَمِنْهُمْ من جَعَلَهُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا
وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قال ليس ذلك بِشَيْءٍ ما أُبَالِي حُرْمَتَهَا أو قصعة (
( ( قطعة ) ) ) من ثَرِيدٍ وقال الشَّافِعِيُّ ليس بِيَمِينٍ وَفِيهِ كَفَّارَةُ
يَمِينٍ بِنَفْسِ اللَّفْظِ
وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ هل هو يَمِينٌ عِنْدَنَا
يَمِينٌ وَعِنْدَهُ ليس بِيَمِينٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ تَغْيِيرُ الشَّرْعِ وَالْعَبْدُ لَا
يَمْلِكُ تَغْيِيرَ الشَّرْعِ وَلِهَذَا خَرَجَ قَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا
النبي لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لك } مَخْرَجَ الْعِتَابِ لِرَسُولِ
اللَّهِ فَدَلَّ أَنَّهُ ليس لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ ما أَحَلَّ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْيَمِينَ لَا يُحَرِّمُ
الْمَحْلُوفَ عليه على الْحَالِفِ وَإِنَّمَا يَمْنَعُهُ منه بِكَوْنِهِ حَلَالًا
وَلَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ عز
وجل { يا أَيُّهَا النبي لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لك } إلَى قَوْلِهِ {
قد فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } قِيلَ نَزَلَتْ الْآيَةُ في
تَحْرِيمِ جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ لَمَّا قال هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ
وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى ذلك يَمِينًا بِقَوْلِهِ { قد فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ
تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } أَيْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أو أَبَاحَ لَكُمْ
أَنْ تُحِلُّوا من أَيْمَانِكُمْ بِالْكَفَّارَةِ وفي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ { قد
فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تحلة ( ( ( كفارة ) ) ) أَيْمَانِكُمْ } وَالْخِطَابُ
عَامٌّ يَتَنَاوَلُ رَسُولَ اللَّهِ وَأُمَّتَهُ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رَوَى ابن عَبَّاسٍ عن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي اللَّهُ
عنهما أَنَّ النبي جَعَلَ الْحَرَامَ يَمِينًا
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فما رُوِيَ عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ أَنَّ النبي جَعَلَ الْحَرَامَ يَمِينًا وَبَعْضُهُمْ نَصَّ على وُجُوبِ
كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فيه وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَلَا يَمِينَ لَا تُتَصَوَّرُ
فَدَلَّ على أَنَّهُ يَمِينٌ وَقَوْلُ من جَعَلَهُ طَلَاقًا ثَلَاثًا مَحْمُولٌ
على ما إذَا نَوَى الثَّلَاثَ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ نَوْعَانِ غَلِيظَةٌ
وَخَفِيفَةٌ فَكَانَتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ تَعْيِينَ بَعْضِ ما يَحْتَمِلُهُ
اللَّفْظُ فَيَصِحُّ وإذا نَوَى وَاحِدَةً كانت وَاحِدَةً بَائِنَةً لِأَنَّ
اللَّفْظَ ينبىء عن الْحُرْمَةِ وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يُوجِبُ
الْحُرْمَةَ لِلْحَالِ وَإِثْبَاتُ حُكْمِ اللَّفْظِ على الْوَجْهِ الذي ينبىء عنه
اللَّفْظُ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْمُخَالِفَ يُوجِبُ فيه كَفَّارَةَ يَمِينٍ
وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ تَسْتَدْعِي وُجُودَ الْيَمِينِ فَدَلَّ أَنَّ هذا
اللَّفْظَ يَمِينٌ في الشَّرْعِ فإذا نَوَى بِهِ الْكَذِبَ لَا يُصَدَّقُ في
إبْطَالِ الْيَمِينِ في الْقَضَاءِ لعدوله ( ( ( بعدوله ) ) ) عن الظَّاهِرِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أن تَحْرِيمَ الْحَلَالِ تَغْيِيرُ للشرع ( ( ( الشرع ) ) )
فَالْجَوَابُ عنه من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ هذا ليس بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ
من الْحَالِفِ حَقِيقَةً بَلْ من اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِأَنَّ
التَّحْرِيمَ إثْبَاتُ الْحُرْمَةِ كَالتَّحْلِيلِ إثْبَاتُ الْحِلِّ وَالْعَبْدُ
لَا يَمْلِكُ ذلك بَلْ الْحُرْمَةُ وَالْحِلُّ وَسَائِرُ الْحُكُومَاتِ
الشَّرْعِيَّةِ ثَبَتَتْ بِإِثْبَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا منع ( ( ( صنع ) ) )
لِلْعَبْدِ فيها أَصْلًا إنَّمَا من الْعَبْدِ مُبَاشَرَةُ سَبَبِ الثُّبُوتِ
هذا هو الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فلم يَكُنْ هذا من
الزَّوْجِ تَحْرِيمَ ما أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ مُبَاشَرَةَ سَبَبِ ثُبُوتِ
الْحُرْمَةِ أو مَنْعَ النَّفْسِ عن الِانْتِفَاعِ بِالْحَلَالِ لِأَنَّ
التَّحْرِيمَ في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن الْمَنْعِ وقد يُمْنَعُ الْمَرْءُ من
تَنَاوُلِ الْحَلَالِ لِغَرَضٍ له في ذلك وَيُسَمَّى ذلك تَحْرِيمًا قال اللَّهُ
تَعَالَى { وَحَرَّمْنَا عليه الْمَرَاضِعَ من قَبْلُ } وَالْمُرَادُ منه
امْتِنَاعُ سَيِّدِنَا مُوسَى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عن الإرتضاع من غَيْرِ
ثَدْيِ أُمِّهِ لَا التَّحْرِيمُ الشَّرْعِيُّ وَعَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ
الْوَجْهَيْنِ يُحْمَلُ التَّحْرِيمُ الْمُضَافُ إلَى رسول اللَّهِ
فَإِنْ قِيلَ لو كان الْأَمْرُ على ما ذَكَرْتُمْ لم يَكُنْ ذلك منه تَحْرِيمَ
الْحَلَالِ حَقِيقَةً فما مَعْنَى إلْحَاقِ الْعِتَابِ بِهِ فَالْجَوَابُ عنه من
وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ ظَاهِرَ الْكَلَامِ إنْ كان يُوهِمُ الْعِتَابَ
فَلَيْسَ بِعِتَابٍ في الْحَقِيقَةِ بَلْ هو تَخْفِيفُ الْمُؤْنَةِ عليه في حُسْنِ
الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ مع أَزْوَاجِهِ لِأَنَّهُ كان مَنْدُوبًا إلَى حُسْنِ
الْعِشْرَةِ مَعَهُنَّ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ وَالرَّحْمَةِ بِهِنَّ فَبَلَغَ
من حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ مَبْلَغًا امْتَنَعَ عن الِامْتِنَاعِ بِمَا
أَحَلَّ اللَّهُ له يَبْتَغِي بِهِ حُسْنَ الْعِشْرَةِ فَخَرَجَ ذلك مَخْرَجَ
تَخْفِيفِ الْمُؤْنَةِ في حُسْنِ الْعِشْرَةِ مَعَهُنَّ لَا مَخْرَجَ النَّهْيِ
وَالْعِتَابِ وَإِنْ كانت صِيغَتُهُ صِيغَةَ النَّهْيِ وَالْعِتَابِ وهو كَقَوْلِهِ
تَعَالَى { فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عليهم حَسَرَاتٍ }
____________________
(3/168)
وَالثَّانِي إنْ كان ذلك الْخِطَابُ عِتَابًا فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنَّمَا
عُوتِبَ لِأَنَّهُ فَعَلَ بِلَا إذْنٍ سَبَقَ من اللَّهِ عز وجل وَإِنْ كان ما
فَعَلَ مُبَاحًا في نَفْسِهِ وهو مَنْعُ النَّفْسِ عن تَنَاوُلِ الْحَلَالِ
وَالْأَنْبِيَاءُ عليهم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُعَاتَبُونَ على أَدْنَى شَيْءٍ
منهم يُوجَدُ مِمَّا لو كان ذلك من غَيْرِهِمْ لَعُدَّ من أَفْضَلِ شَمَائِلِهِ
كما قال تَعَالَى { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لهم }
وَقَوْلِهِ { عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى } ونو ( ( ( ونحو ) ) )
ذلك وَالثَّانِي إنْ كان هذا تَحْرِيمَ الْحَلَالِ لَكِنْ لِمَ قُلْت إنَّ كُلَّ
تَحْرِيمِ حَلَالٍ من الْعَبْدِ تَغْيِيرٌ لِلشَّرْعِ بَلْ ذلك نَوْعَانِ تَحْرِيمُ
ما أحل ( ( ( أحله ) ) ) اللَّهُ تَعَالَى مُطْلَقًا وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ بَلْ
اعْتِقَادُهُ كُفْرٌ وَتَحْرِيمُ ما أَحَلَّهُ اللَّهُ مُؤَقَّتًا إلَى غَايَةٍ
لَا يَكُونُ تَغْيِيرًا بَلْ يَكُونُ بَيَانَ نِهَايَةِ الْحَلَالِ أَلَا تَرَى
أَنَّ الطَّلَاقَ مَشْرُوعٌ وَإِنْ كان تَحْرِيمَ الْحَلَالِ لَكِنْ لَمَّا كان
الْحِلُّ مُؤَقَّتًا إلَى غَايَةِ وُجُودِ الطَّلَاقِ لم يَكُنْ التَّطْلِيقُ من
الزَّوْجِ تَغْيِيرًا لِلشَّرْعِ بَلْ كان بَيَانَ انْتِهَاءِ الْحِلِّ
وَعَلَى هذا سَائِرُ الْأَحْكَامِ التي تَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ وَالسُّقُوطَ
وَعَلَى هذا سَبِيلُ النَّسْخِ فِيمَا يحمل ( ( ( يحتمل ) ) ) التَّنَاسُخَ
فَكَذَا قَوْلُهُ لامرته ( ( ( لامرأته ) ) ) أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَإِنْ نَوَى
بِقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ الظِّهَارَ كان ظِهَارًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ وقال مُحَمَّدٌ لَا يَكُونُ ظِهَارًا
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الظِّهَارَ تَشْبِيهُ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ وَالتَّشْبِيهُ
لَا بُدَّ له من حَرْفِ التَّشْبِيهِ ولم يُوجَدْ فَلَا يَكُونُ ظِهَارًا
وَلَهُمَا أن وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةً وَالْمَرْأَةُ تَارَةً تَكُونُ
مُحَرَّمَةً بِالطَّلَاقِ وَتَارَةً تَكُونُ مُحَرَّمَةً بِالظِّهَارِ فَأَيَّ ذلك
نَوَى فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَيُصَدَّقُ فيه
هذا إذَا أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَى الْمَرْأَةِ
فإما إذَا أَضَافَهُ إلَى الطَّعَامِ أو الشَّرَابِ أو اللِّبَاسِ بِأَنْ قال هذا
الطَّعَامُ عَلَيَّ حَرَامٌ أو هذا الشَّرَابُ أو هذا اللِّبَاسُ فَهُوَ يَمِينٌ
عِنْدَنَا
وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إذَا فَعَلَ
وقال الشَّافِعِيُّ إذَا قال ذلك في غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالْجَارِيَةِ لَا يَجِبُ
شَيْءٌ وَهِيَ مَسْأَلَةُ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ أَنَّهُ يَمِينٌ أَمْ لَا
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ما ذَكَرْنَا في
الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى
وَلَنَا قَوْلُهُ عز وجل { يا أَيُّهَا النبي لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ
لك } قِيلَ نَزَلَتْ الْآيَةُ في تَحْرِيمِ الْعَسَلِ وقد سَمَّاهُ اللَّهُ
تَعَالَى يَمِينًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { قد فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ
تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فَدَلَّ أَنَّ تَحْرِيمَ غَيْرِ الزَّوْجَةِ
وَالْجَارِيَةِ يَمِينٌ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ لِأَنَّ تَحِلَّةَ الْيَمِينِ هِيَ
الْكَفَّارَةُ
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رُوِيَ أنها نَزَلَتْ في تَحْرِيمِ جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ نَزَلَتْ
فِيهِمَا لِعَدَمِ التَّنَافِي وَلِأَنَّهُ لو أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَى
الزَّوْجَةِ وَالْجَارِيَةِ لَكَانَ يَمِينًا فَكَذَا إذَا أُضِيفَ إلَى
غَيْرِهِمَا كان يَمِينًا كَلَفْظِ الْقَسَمِ إذَا أُضِيفَ إلَى الزَّوْجَةِ
وَالْجَارِيَةِ كان يَمِينًا وإذا أُضِيفَ إلَى غَيْرِهِمَا كان يَمِينًا أَيْضًا
كَذَا هذا فَإِنْ فَعَلَ كان يَمِينًا مِمَّا حَرَّمَهُ قَلِيلًا أو كَثِيرًا
حَنِثَ وَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ الْمُضَافَ إلَى
الْمُعَيَّنِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ كل جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الْمُعَيَّنِ كَتَحْرِيمِ
الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فإذا تَنَاوَلَ شيئا منه فَقَدْ
فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عليه فَيَحْنَثُ وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ بِخِلَافِ ما إذَا
حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هذا الطَّعَامَ فَأَكَلَ بَعْضَهُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ
لِأَنَّ الْحِنْثَ هُنَاكَ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ وهو أَكْلُ كل الطَّعَامِ
وَالْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ لَا يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ بَعْضِ الشَّرْطِ
وَلَوْ قال نِسَائِي عَلَيَّ حَرَامٌ ولم يَنْوِ الطَّلَاقَ فَقَرِبَ إحْدَاهُنَّ
كَفَّرَ وَسَقَطَتْ الْيَمِينُ فِيهِنَّ جميعا لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّحْرِيمَ
إلَى جَمْعٍ فَيُوجِبُ تَحْرِيمَ كل فَرْدٍ من أَفْرَادِ الْجَمْعِ فَصَارَ كُلُّ
فَرْدٍ من أَفْرَادِ الْجَمْعِ مُحَرَّمًا على الِانْفِرَادِ فإذا قَرِبَ
وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَقَدْ فَعَلَ ما حَرَّمَهُ على نَفْسِهِ فَيَحْنَثُ
وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ وَإِنْ لم يَقْرُبْ وَاحِدَةً
مِنْهُنَّ حتى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بِنَّ جميعا لِأَنَّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ
لَا يَثْبُتُ في حَقِّ كل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ على انْفِرَادِهَا وَالْإِيلَاءُ
يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ من غَيْرِ فَيْءٍ هذا إذَا أَضَافَ
التَّحْرِيمَ إلَى نَوْعٍ خَاصٍّ فَأَمَّا إذَا أَضَافَهُ إلَى الْأَنْوَاعِ
كُلِّهَا بِأَنْ قال كُلُّ حَلَالٍ عَلَيَّ حَرَامٌ فَإِنْ لم تَكُنْ له نِيَّةٌ
فَهُوَ على الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ خَاصَّةً اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ عَقِيبَ كَلَامِهِ وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ اللَّفْظَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْعُمُومِ فَيَتَنَاوَلُ
كُلَّ حَلَالٍ وَكَمَا فَرَغَ عن يَمِينِهِ لَا يَخْلُو عن نَوْعِ حَلَالٍ يُوجَدُ
منه فَيَحْنَثُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هذا عَامٌّ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ
لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ على كل مُبَاحٍ من فَتْحِ عَيْنِهِ وَغَضِّ
بَصَرِهِ وَتَنَفُّسِهِ وَغَيْرِهَا من حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ الْمُبَاحَةِ
لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عنه وَالْعَاقِلُ لَا يَقْصِدُ
بِيَمِينِهِ مَنْعَ نَفْسِهِ عَمَّا لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عنه فلم
يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِعُمُومِ هذا اللَّفْظِ فَيُحْمَلُ على الْخُصُوصِ وهو
الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لِأَنَّ هذا
اللَّفْظَ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِمَا في الْعُرْفِ
وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى { لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ
الْجَنَّةِ } أَنَّهُ لَمَّا لم يُمْكِنْ
____________________
(3/169)
الْعَمَلُ
بِعُمُومِهِ لِثُبُوتِ الْمُسَاوَاةِ بين الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ في أَشْيَاءَ
كَثِيرَةٍ حُمِلَ على الْخُصُوصِ وهو نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا في
الْعَمَلِ في الدُّنْيَا أو في الْجَزَاءِ في الْآخِرَةِ كَذَا هذا
فَإِنْ نَوَى مع ذلك اللِّبَاسَ أو امْرَأَتَهُ فَالتَّحْرِيمُ وَاقِعٌ على
جَمِيعِ ذلك وَأَيَّ شَيْءٍ من ذلك فَعَلَ وَحْدَهُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ
لِأَنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِتَنَاوُلِ كل الْمُبَاحَاتِ وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ
على الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِدَلِيلِ الْعُرْفِ فإذا نَوَى شيئا زَائِدًا على
الْمُتَعَارَفِ فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ على
نَفْسِهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فإذا نَوَى شيئا بِعَيْنِهِ دُونَ غَيْرِهِ بِأَنْ
نَوَى الطَّعَامَ خَاصَّةً أو الشَّرَابَ خَاصَّةً أو اللِّبَاسَ خَاصَّةً أو
امْرَأَتَهُ خَاصَّةً فَهُوَ على ما نَوَى فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى وفي الْقَضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هذا اللَّفْظَ مَتْرُوكُ الْعَمَلِ
بِظَاهِرِ عُمُومِهِ وَمِثْلُهُ يُحْمَلُ على الْخُصُوصِ
فإذا قال أَرَدْت وَاحِدًا بِعَيْنِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَقَدْ تَرَكَ ظَاهِرَ
لَفْظٍ هو مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ فلم يُوجَدْ منه الْعُدُولُ فَيُصَدَّقُ وَإِنْ
قال كُلُّ حِلٍّ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى امْرَأَتَهُ كان عليها وعلي الطَّعَامِ
وَالشَّرَابِ لِأَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ دَخَلَا تَحْتَ ظَاهِرِ هذا
اللَّفْظِ ولم يَنْفِهِمَا بِنِيَّتِهِ فَبَقِيَا دَاخِلَيْنِ تَحْتَ اللَّفْظِ
بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ هُنَاكَ نَوَى امْرَأَتَهُ خَاصَّةً
ونفي الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ بِنِيَّتِهِ فلم يَدْخُلَا وَهَهُنَا لم يَنْفِ
الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ بنيته ( ( ( نيته ) ) ) وقد دَخَلَا تَحْتَ اللَّفْظِ
فَبَقِيَا كَذَلِكَ ما لم يُنْفَيَا بِالنِّيَّةِ وَإِنْ نَوَى في امْرَأَتِهِ
الطَّلَاقَ لَزِمَهُ الطَّعَامُ فيها فَإِنْ أَكْلَ أو شَرِبَ لم تَلْزَمْهُ
الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ على الطَّلَاقِ
وَالْيَمِينِ لِاخْتِلَافِ مَعْنَيَيْهِمَا وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَشْتَمِلُ
على مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فإذا أَرَادَ بِهِ في الزَّوْجَةِ الطَّلَاقَ
الذي هو أَشَدُّ الْأَمْرَيْنِ وَأَغْلَظُهُمَا لَا يَبْقَى الْآخَرُ مُرَادًا
وَكَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ في رجال ( ( ( رجل ) ) ) قال
لِامْرَأَتَيْنِ له أَنْتُمَا عَلَيَّ حَرَامٌ يَعْنِي في إحْدَاهُمَا الطَّلَاقَ
وفي الْأُخْرَى الْإِيلَاءَ فَهُمَا طَالِقَانِ جميعا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ
اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فإذا
أَرَادَهُمَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ يُحْمَلُ على أَغْلَظِهِمَا وَيَقَعُ الطَّلَاقُ
عَلَيْهِمَا
وَلَوْ قال هذه عَلَيَّ حَرَامٌ يَنْوِي الطَّلَاقَ وَهَذِهِ عَلَيَّ حَرَامٌ
يَنْوِي الْإِيلَاءَ كان كما فنوى ( ( ( نوى ) ) ) لِأَنَّهُمَا لَفْظَانِ
فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِأَحَدِهِمَا خِلَافُ ما يُرَادُ بِالْآخَرِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ فِيمَنْ قال لِامْرَأَتَيْهِ أَنْتُمَا عَلَيَّ حَرَامٌ يَنْوِي
في إحْدَاهُمَا ثَلَاثًا وفي الْأُخْرَى وَاحِدَةً أَنَّهُمَا جميعا طَالِقَانِ
ثَلَاثًا لِأَنَّ حُكْمَ الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ خِلَافُ حُكْمِ الثَّلَاثِ
لِأَنَّ الثَّلَاثَ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ الْغَلِيظَةَ وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا
يَتَنَاوَلُ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فإذا نَوَاهُمَا
يُحْمَلُ على أَغْلَظِهِمَا وَأَشَدِّهِمَا
وقال ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ يقول في رَجُلٍ قال ما
أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ من مَالٍ وَأَهْلٍ وَنَوَى الطَّلَاقَ في أَهْلِهِ
قال وَلَا نِيَّةَ له في الطَّعَامِ فَإِنْ أَكْلَ لم يَحْنَثْ لِمَا قُلْنَا قال
وَكَذَلِكَ لو قال هذا الطَّعَامُ عَلَيَّ حَرَامٌ وَهَذِهِ يَنْوِي الطَّلَاقَ
لِأَنَّ اللَّفْظَةَ وَاحِدَةٌ وقد تَنَاوَلَتْ الطَّلَاقَ فَلَا تَتَنَاوَلُ
تَحْرِيمَ الطَّعَامِ
وَقَالُوا فِيمَنْ قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَالدَّمِ أو الْمَيْتَةِ أو
لح ( ( ( لحم ) ) ) الْخِنْزِيرِ أو كَالْخَمْرِ أَنَّهُ يسئل ( ( ( يسأل ) ) ) عن
نِيَّتِهِ فَإِنْ نَوَى كَذِبًا فَهُوَ كَذِبٌ لِأَنَّ هذا اللَّفْظَ ليس صَرِيحًا
في التَّحْرِيمِ لِيُجْعَلَ يَمِينًا فَيُصَدَّقُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْكَذِبَ
بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فإنه صَرِيحٌ في التَّحْرِيمِ فَكَانَ
يَمِينًا وَإِنْ نَوَى التَّحْرِيمَ فَهُوَ إيلَاءٌ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِمَا هو
مُحَرَّمٌ فَكَأَنَّهُ قال أَنْتِ حَرَامٌ وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَالْقَوْلُ
فيه كَالْقَوْلِ فِيمَنْ قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَنْوِي
الطَّلَاقَ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قال لِامْرَأَتِهِ إنْ فَعَلْت كَذَا
فَأَنْتِ أُمِّي يُرِيدُ التَّحْرِيمَ قال هو بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لم يَجْعَلْهَا
مِثْلَ أُمِّهِ لِيَكُونَ تَحْرِيمًا وَإِنَّمَا جَعَلَهَا أُمَّهُ فَيَكُونُ
كَذِبًا
قال مُحَمَّدٌ وَلَوْ ثَبَتَ التَّحْرِيمُ بهذا لَثَبَتَ إذَا قال أَنْتِ حَوَّاءُ
وَهَذَا لَا يَصِحُّ وقال ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قال لِامْرَأَتِهِ
أَنْتِ مَعِي حَرَامٌ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ لِأَنَّ هذه
الْحُرُوفَ يُقَامُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ رُكْنِ الْإِيلَاءِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ هو شَرْطُ
صِحَّتِهِ في حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ وَنَوْعٌ هو شَرْطُ صِحَّتِهِ في حَقِّ
حُكْمِ الْبِرِّ وهو الطَّلَاقُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَوْضِعُ بَيَانِهِ كِتَابُ الْأَيْمَانِ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ
يُسَاوِي سَائِرَ الْأَيْمَانِ في حَقِّ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ وهو حُكْمُ
الْحِنْثِ وَإِنَّمَا يُخَالِفُهَا في حَقِّ الْحُكْمِ الْآخَرِ وهو حُكْمُ
الْبِرِّ لأنه ( ( ( ولأنه ) ) ) لَا حُكْمَ لِسَائِرِ الْأَيْمَانِ عِنْدَ
تَحَقُّقِ الْبِرِّ فيها وَلِلْإِيلَاءِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْبِرِّ حُكْمٌ وهو
وُقُوعُ الطَّلَاقِ إذْ هو تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ شَرْعًا بِشَرْطِ
الْبِرِّ كَأَنَّهُ قال إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ولم أَقْرَبْكِ فيها
فَأَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ فَنَذْكُرُ الشَّرَائِطَ المخفضة ( ( ( المختصة ) ) )
بِهِ في حَقِّ هذا الْحُكْمِ وهو الطَّلَاقُ فَنَقُولُ لِرُكْنِ الْإِيلَاءِ في حَقِّ
هذا الْحُكْمِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا يَعُمُّ كُلَّ يَمِينٍ بِالطَّلَاقِ
وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْإِيلَاءَ أَمَّا الذي يَعُمُّ فما ذَكَرْنَا من
الشَّرَائِطِ فِيمَا تَقَدَّمَ من الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَقِيَامِ مِلْكِ
النِّكَاحِ وَالْإِضَافَةِ إلَى الْمِلْكِ حتى لَا يَصْلُحَ إيلَاءُ الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ الطَّلَاقِ
وَكَذَا لو آلَى من أَمَتِهِ أو مُدَبَّرَتِهِ أو أُمِّ وَلَدِهِ لم يَصِحَّ
إيلَاؤُهُ في حَقِّ هذا الْحُكْمِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الْإِيلَاءَ
بِالزَّوْجَاتِ بِقَوْلِهِ عز وجل { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ من نِسَائِهِمْ }
____________________
(3/170)
وَالزَّوْجَةُ
اسْمٌ لِلْمَمْلُوكَةِ بِمِلْكِ النِّكَاحِ وَشَرْعُ الْإِيلَاءِ في حَقِّ هذا
الْحُكْمِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وإنها
وَرَدَتْ في الْأَزْوَاجِ فَتَخْتَصُّ بِهِمْ وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْإِيلَاءِ في
حَقِّ هذا الْحُكْمِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ عنها من قِبَلِ الزَّوْجِ لِمَنْعِهِ
حَقَّهَا في الْجِمَاعِ مَنْعًا مُؤَكَّدًا بِالْيَمِينِ وَلَا حَقَّ لِلْأَمَةِ
قِبَلَ مَوْلَاهَا في الْجِمَاعِ فلم يَتَحَقَّقْ الظُّلْمُ فَلَا تَقَعُ
الْحَاجَةُ إلَى الدَّفْعِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ
الْحَاصِلَةَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ من غَيْرِ في ( ( ( فيء ) ) ) فُرْقَةٌ
بِطَلَاقٍ وَلَا طَلَاقَ بِدُونِ النِّكَاحِ وَلَوْ آلَى منها وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ
فَإِنْ كان الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَهُوَ مُولٍ لِقِيَامِ الْمِلْكِ من كل وَجْهٍ
وَلِهَذَا صَحَّ طَلَاقُهُ وَظِهَارُهُ وَيَتَوَارَثَانِ وَإِنْ كان بَائِنًا أو
ثَلَاثًا لم يَكُنْ مُولِيًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ وَالْمَحَلِّ بِالْإِبَانَةِ
وَالثَّلَاثِ وَالْإِيلَاءُ لَا يَنْعَقِدُ في غَيْرِ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً وَإِنْ
كان يَبْقَى بِدُونِ الْمِلْكِ على ما نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قال لِأَجْنَبِيَّةٍ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكَ
ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُولِيًا في حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ حتى لو
مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا بَعْدَ التَّزَوُّجِ ولم يفيء ( ( ( يفئ )
) ) إلَيْهَا لَا يَقَعُ عليها شَيْءٌ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَالْإِضَافَةِ إلَى
الْمِلْكِ وَلَوْ قَرِبَهَا بَعْدَ التَّزَوُّجِ أو قَبْلَهُ تَلْزَمُهُ
الْكَفَّارَةُ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ في حَقِّ الْحِنْثِ
وَلَوْ قال لها إنْ تَزَوَّجْتُك فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَتَزَوَّجَهَا صَارَ
مُولِيًا عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْمِلْكِ عِنْدَ المتزوج ( ( ( التزوج ) ) )
وَالْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ يَصِحُّ في الْمِلْكِ أو مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ
وَهَهُنَا وُجِدَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ فَيَصِيرُ مُولِيًا بِخِلَافِ
الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَكَذَا جَمِيعُ ما ذَكَرْنَا من شَرَائِطِ صِحَّةِ
التَّطْلِيقِ فَهُوَ من شَرْطِ صِحَّةِ الْإِيلَاءِ في حَقِّ الطَّلَاقِ وَأَمَّا
الذي يَخُصُّ الْإِيلَاءَ فشيآن ( ( ( فشيئان ) ) ) أَحَدُهُمَا الْمُدَّةُ وَهِيَ
أَنْ يَحْلِفَ على أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا في الْحُرَّةِ أو يَحْلِفَ
مُطْلَقًا أو مُؤَبَّدًا حتى لو حَلَفَ على أَقَلَّ من أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لم
يَكُنْ مُولِيًا في حَقِّ الطَّلَاقِ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أن مُدَّةَ الْإِيلَاءِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ
يَسْتَوِي فيها الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ حتى لو حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا يَوْمًا أو
سَاعَةً كان مُولِيًا حتى لو تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ وَكَذَا
رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه وقال ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما
أن الْإِيلَاءَ على الْأَبَدِ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَكُونُ مُولِيًا حتى يَحْلِفَ على أَكْثَرَ من أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ
وَجْهُ قَوْلِ الْأَوَّلِينَ ما رُوِيَ عن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي اللَّهُ عنه
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ آلَى من نِسَائِهِ شَهْرًا فلما كان تِسْعَةً وَعِشْرِينَ
يَوْمًا تَرَكَ إيلَاءَهُنَّ فَقِيلَ له إنَّك آلَيْتَ شَهْرًا يا رَسُولَ اللَّهِ
فقال الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لم
يَذْكَرْ في كِتَابِهِ الْكَرِيمِ لِلْإِيلَاءِ مُدَّةً بَلْ أَطْلَقَهُ إطْلَاقًا
بِقَوْلِهِ عز وجل { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ من نِسَائِهِمْ } فَيَجْرِي على
إطْلَاقِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمُدَّةَ لِثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ حتى تَبِينَ
بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ من غَيْرِ فَيْءٍ لَا لِيَصِيرَ إيلَاءً شَرْعًا وَبِهِ
نَقُولُ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ من نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } ذِكْرٌ لِلْإِيلَاءِ في حُكْمِ الطَّلَاقِ مُدَّةً
مُقَدَّرَةً فَلَا يَكُونُ الْحَلِفُ على ما دُونَهَا إيلَاءً في حَقِّ هذا
الْحُكْمِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيلَاءَ ليس بِطَلَاقٍ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا جُعِلَ
طَلَاقًا مُعَلَّقًا بِشَرْطِ الْبِرِّ شَرْعًا بِوَصْفِ كَوْنِهِ مَانِعًا من
الْجِمَاعِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَلَا يُجْعَلُ طَلَاقًا بِدُونِهِ
وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ هو الْيَمِينُ التي تَمْنَعُ الْجِمَاعَ خَوْفًا من لُزُومِ
الْحِنْثِ وَبَعْدَ مُضِيِّ يَوْمٍ أو شَهْرٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَطَأَهَا من غَيْرِ
حِنْثٍ يَلْزَمُهُ فَلَا يَكُونُ هذا إيلَاءً
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أن الْمُدَّةَ ذُكِرَتْ لِثُبُوتِ حُكْمِ الْإِيلَاءِ لَا
لِلْإِيلَاءِ فَنَقُولُ ذِكْرُ الْمُدَّةِ في حُكْمِ الْإِيلَاءِ لَا يَكُونُ
ذِكْرًا في الْإِيلَاءِ لِأَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ بِالْإِيلَاءِ إذْ بِهِ
يَتَأَكَّدُ الْمَنْعُ الْمُحَقِّقُ لِلظُّلْمِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمَرْوِيُّ أَنَّ النبي آلَى أَنْ لَا يَدْخُلَ على
نِسَائِهِ شَهْرًا وَعِنْدَنَا من حَلَفَ لَا يَدْخُلُ على امْرَأَتِهِ يَوْمًا أو
شَهْرًا أو سَنَةً لَا يَكُونُ مُولِيًا في حَقِّ حُكْمِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ
الْإِيلَاءَ يَمِينٌ يَمْنَعُ الْجِمَاعَ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ الْجِمَاعَ
وَقَوْلُ عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما الْإِيلَاءُ على الْأَبَدِ
مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِيلَاءَ إذَا ذُكِرَ
مُطْلَقًا عن الْوَقْتِ يَقَعُ على الْأَبَدِ وَإِنْ لم يُذْكَرْ الْأَبَدُ
وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ إن ذِكْرَ الْأَبَدِ
شَرْطُ صِحَّةِ الْإِيلَاءِ في حَقِّ حُكْمِ الطَّلَاقِ فَيُحْمَلُ على الْأَوَّلِ
تَوْفِيقًا بين الْأَقَاوِيلِ
وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال كان
إيلَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ
____________________
(3/171)
وَالسَّنَتَيْنِ
وَأَكْثَرَ من ذلك فَوَقَّتَهُ اللَّهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَمَنْ كان إيلَاؤُهُ
أَقَلَّ من أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ وَلِأَنَّهُ ليس في النَّصِّ
شَرْطُ الْأَبَدِ فَيَلْزَمُهُ إثْبَاتُ حُكْمِ الْإِيلَاءِ في حَقِّ الطَّلَاقِ
عِنْدَ تَرَبُّصِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ إلَّا بِدَلِيلٍ
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ فَمَبْنِيٌّ على حُكْمِ الْإِيلَاءِ في
حَقِّ الطَّلَاقِ فَعِنْدَنَا إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ تَبِينُ منه
وَعِنْدَهُ لَا تَبِينُ بَلْ تُوقَفُ بَعْدَ مُضِيِّ هذه الْمُدَّةِ وَيُخَيَّرُ
بين الْفَيْءِ وَالتَّطْلِيقِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَزِيدَ الْمُدَّةُ على
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في بَيَانِ حُكْمِ الْإِيلَاءِ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَسَوَاءٌ كان الْإِيلَاءُ في حَالِ الرِّضَا أو الْغَضَبِ
أو أَرَادَ بِهِ إصْلَاحَ وَلَدِهِ في الرَّضَاعِ أو الْإِضْرَارَ بِالْمَرْأَةِ
عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وهو
الصَّحِيحُ لِأَنَّ نَصَّ الْإِيلَاءِ لَا يَفْصِلُ بين حَالٍ وَحَالٍ وَلِأَنَّ
الْإِيلَاءَ يَمِينٌ فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِالرِّضَا وَالْغَضَبِ
وَإِرَادَةِ الْإِصْلَاحِ وَالْإِضْرَارِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ
وَأَمَّا مُدَّةُ إيلَاءِ الْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ فَشَهْرَانِ فَصَاعِدًا
عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُدَّةُ إيلَاءِ الْأَمَةِ كَمُدَّةِ إيلَاءِ
الْحُرَّةِ
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ من نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ وَالْكَلَامُ
من حَيْثُ الْمَعْنَى مَبْنِيٌّ على اخْتِلَافِ أَصْلٍ نَذْكُرُهُ في حُكْمِ
الْإِيلَاءِ وهو أَنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ ضُرِبَتْ أَجَلًا لِلْبَيْنُونَةِ
عِنْدَنَا فَأَشْبَهَ مُدَّةَ الْعِدَّةِ فَيَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ كَمُدَّةِ
الْعِدَّةِ وَعِنْدَهُ ضُرِبَتْ لِإِظْهَارِ ظُلْمِ الزَّوْجِ بِمَنْعِ حَقِّهَا
عن الْجِمَاعِ في الْمُدَّةِ وَهَذَا يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بين الْأَمَةِ
وَالْحُرَّةِ في الْمُدَّةِ كَأَجَلِ الْعِنِّينِ وَلَا حُجَّةَ له في الْآيَةِ
لِأَنَّهَا تَنَاوَلَتْ الْحَرَائِرَ لَا الْإِمَاءَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى ذَكَرَ عَزْمَ الطَّلَاقِ ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَهِيَ
عِدَّةُ الْحَرَائِرِ وَسَوَاءٌ كان زَوْجُهَا عَبْدًا أو حُرًّا فَالْعِبْرَةُ
لِرِقِّ الْمِرْأَةِ وَحُرِّيَّتِهَا لَا لِرِقِّ الرَّجُلِ وَحُرِّيَّتِهِ
لِأَنَّ الْإِيلَاءَ في حَقِّ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ طَلَاقٌ فَيُعْتَبَرُ فيه
جَانِبُ النِّسَاءِ وَلَوْ اعترض ( ( ( اعتض ) ) ) الْعِتْقُ على الرِّقِّ بِأَنْ
كانت مَمْلُوكَةً وَقْتَ الْإِيلَاءِ ثُمَّ أُعْتِقَتْ تَحَوَّلَتْ مُدَّتُهَا
مُدَّةَ الْحَرَائِرِ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا إذَا طَلُقَتْ طَلَاقًا
بَائِنًا ثُمَّ أُعْتِقَتْ لَا تَنْقَلِبُ عِدَّتُهَا عِدَّةَ الْحَرَائِرِ وفي
الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ تَنْقَلِبُ وَالْفَرْقُ بين هذه الْجُمْلَةِ يُعْرَفُ في
مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا قال لِامْرَأَتِهِ الْحُرَّةِ وَاَللَّهِ لَا
أَقْرَبُكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إلَّا يَوْمًا لَا يَكُونُ مُولِيًا لِنُقْصَانِ
الْمُدَّةِ وَلَوْ قال لها وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ شَهْرَيْنِ وَشَهْرَيْنِ
بَعْدَ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ فَهُوَ مُولٍ لِأَنَّهُ جَمَعَ بين شَهْرَيْنِ
وَشَهْرَيْنِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ وَالْجَمْعُ بِحَرْفِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ
بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قال وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ
وَلَوْ قال لها وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ شَهْرَيْنِ فَمَكَثَ يَوْمًا ثُمَّ قال
وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ شَهْرَيْنِ بَعْدَ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ
الْأَوَّلَيْنِ لم يَكُنْ مُولِيًا لِأَنَّهُ إذَا سَكَتَ يَوْمًا فَقَدْ مَضَى
يَوْمٌ من غَيْرِ حُكْمِ الْإِيلَاءِ لِأَنَّ الشَّهْرَيْنِ لَيْسَا بِمُدَّةِ
الْإِيلَاءِ في حَقِّ الْحُرَّةِ فإذا قال وَشَهْرَيْنِ بَعْدَ هَذَيْنِ
الشَّهْرَيْنِ فَقَدْ جَمَعَ الشَّهْرَيْنِ الأخريين ( ( ( الآخرين ) ) ) إلَى الْأُولَيَيْنِ
بَعْدَمَا مَضَى يَوْمٌ من غَيْرِ حُكْمِ الْإِيلَاءِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قال
وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إلَّا يَوْمًا وَلَوْ قال ذلك لم
يَكُنْ مُولِيًا لِنُقْصَانِ الْمُدَّةِ كَذَا هذا
وَلَوْ قال وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ سَنَةً إلَّا يَوْمًا لم يَكُنْ مُولِيًا
لِلْحَالِ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَكُونُ مُولِيًا
لِلْحَالِ حتى لو مَضَتْ السَّنَةُ ولم يَقْرَبْهَا فيها لَا تَبِينُ وَلَوْ
قَرِبَهَا يَوْمًا لَا كَفَّارَةَ عليه عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ إذَا مَضَتْ
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مُنْذُ قال هذه الْمَقَالَةَ ولم يَقْرَبْهَا فيها تَبِينُ
ولو قَرِبَهَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْيَوْمَ الْمُسْتَثْنَى يَنْصَرِفُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ
كما في الْإِجَارَةِ فإنه لو قال أَجَّرْتُكَ هذه الدَّارَ سَنَةً إلَّا يَوْمًا
انْصَرَفَ الْيَوْمُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ حتى صَحَّتْ الْإِجَارَةُ كَذَا هَهُنَا
وإذا انْصَرَفَ إلَى آخِرِ السَّنَةِ كانت مُدَّةُ الْإِيلَاءِ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ وَزِيَادَةً فَيَصِيرُ مُولِيًا وَلِأَنَّهُ إذَا انْصَرَفَ إلَى آخِرِ
السَّنَةِ فَلَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُ امْرَأَتِهِ في الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ من
غَيْرِ حنيث ( ( ( حنث ) ) ) يَلْزَمُهُ وَهَذَا حَدُّ المولى
وَلَنَا أَنَّ الْمُسْتَثْنَى يَوْمٌ مُنْكَرٌ فَتَعْيِينُ الْيَوْمِ الْآخَرِ
تَغْيِيرُ الْحَقِيقَةِ وَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ الْحَقِيقَةِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ
فَبَقِيَ الْمُسْتَثْنَى يَوْمًا شَائِعًا في السَّنَةِ فَكَانَ له أَنْ يَجْعَلَ
ذلك الْيَوْمَ أَيَّ يَوْمٍ شَاءَ فَلَا تَكْمُلُ الْمُدَّةُ ولأنه إذَا
اسْتَثْنَى يَوْمًا شَائِعًا في الْجُمْلَةِ فلم يَمْنَعْ نَفْسَهُ عن قُرْبَانِ
امْرَأَتِهِ بِمَا يَصْلُحُ مَانِعًا من الْقُرْبَانِ في الْمُدَّةِ لِأَنَّ له
أَنْ يُعَيِّنَ يَوْمًا لَلْقُرْبَانِ أَيَّ يَوْمٍ كان فَيَقْرَبُهَا فيه من
غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ فلم يَكُنْ مُولِيًا وفي بَابِ الْإِجَارَةِ مَسَّتْ
الضَّرُورَةُ إلَى تَعْيِينِ الْحَقِيقَةِ لِتَصْحِيحِ الْإِجَارَةِ إذْ لَا
صِحَّةَ لها بِدُونِهِ لِأَنَّ كَوْنَ الْمُدَّةِ مَعْلُومَةً في الْإِجَارَةِ
شَرْطُ صِحَّةِ الْإِجَارَةِ وَلَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً إلَّا بِانْصِرَافِ
الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْيَوْمِ الْأَخِيرِ وَهَهُنَا لَا ضَرُورَةَ لِأَنَّ
جَهَالَةَ الْمُدَّةِ لَا تُبْطِلُ الْيَمِينَ فَإِنْ قال ذلك ثُمَّ قَرِبَهَا
____________________
(3/172)
يَوْمًا
يُنْظَرْ إنْ كان قد بَقِيَ من السَّنَةِ أَرْبَعَةٌ أشهر فَصَاعِدًا صَارَ
مُولِيًا لِوُجُودِ كَمَالِ الْمُدَّةِ وَلِوُجُودِ حَدِّ الْمُولِي وَإِنْ بَقِيَ
أَقَلُّ من ذلك لم يَصِرْ مُولِيًا لِنُقْصَانِ الْمُدَّةِ وَلِانْعِدَامِ حَدِّ
الْإِيلَاءِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا قال وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ سَنَةً إلَّا مَرَّةً
غير أَنَّ في قَوْلِهِ إلَّا يَوْمًا إذَا قَرِبَهَا وقد بَقِيَ من السَّنَةِ
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَا يَصِيرُ مُولِيًا ما لم تَغْرُبْ الشَّمْسُ من
ذلك الْيَوْمِ وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ من وَقْتِ غُرُوبِ الشَّمْسِ من
ذلك الْيَوْمِ لِأَنَّ الْيَوْمَ اسْمٌ لِجَمِيعِ هذا الْوَقْتِ من أَوَّلِهِ إلَى
آخِرِهِ فَلَا يَنْتَهِي إلَّا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ وفي قَوْلِهِ إلَّا مَرَّةً
يَصِيرُ مُولِيًا عَقِيبَ الْقُرْبَانِ بِلَا فَصْلٌ وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ
الْمُدَّةِ من وَقْتِ فَرَاغِهِ من الْقُرْبَانِ مَرَّةً لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى
هَهُنَا هو الْقُرْبَانُ مَرَّةً لَا الْيَوْمَ وَالْمُسْتَثْنَى هُنَاكَ هو
الْيَوْمُ لَا الْمَرَّةُ لِذَلِكَ افْتَرَقَا ثُمَّ مُدَّةُ أَشْهُرِ الْإِيلَاءِ
تُعْتَبَرُ بِالْأَهِلَّةِ أَمْ بِالْأَيَّامِ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ أَنَّ
الْإِيلَاءَ إذَا وَقَعَ في غُرَّةِ الشَّهْرِ تُعْتَبَرُ الْمُدَّةُ
بِالْأَهِلَّةِ وإذا وَقَعَ في بَعْضِ الشَّهْرِ لم يُذْكَرْ عن أبي حَنِيفَةَ
نَصُّ رِوَايَةٍ
وقال أبو يُوسُفَ تُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ وَذَلِكَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا
وَرُوِيَ عن زُفَرَ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ
وَالشَّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثَ بِالْأَهِلَّةِ وَتُكَمَّلُ أَيَّامُ
الشَّهْرِ الْأَوَّلِ بِالْأَيَّامِ من أَوَّلِ الشَّهْرِ الرَّابِعِ وَيُحْتَمَلَ
أَنْ يَكُونَ هذا على اخْتِلَافِهِمْ في عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ على ما
نَذْكُرُهُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَالثَّانِي تَرْكُ الْفَيْءِ في الْمُدَّةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ
عَزْمَ الطَّلَاقِ شَرْطَ وُقُوعِهِ بِقَوْلِهِ { وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فإن
اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وَكَلِمَةُ إنْ لِلشَّرْطِ وَعَزْمُ الطَّلَاقِ تَرْكُ
الْفَيْءِ في الْمُدَّةِ
وَالْكَلَامُ في الْفَيْءِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِ الْفَيْءِ
الْمَذْكُورِ في الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ ما هو وفي بَيَانِ شَرْطِ صِحَّةِ
الْفَيْءِ وفي بَيَانِ وَقْتِ الْفَيْءِ أَنَّهُ في الْمُدَّةِ أو بَعْدَ
انْقِضَائِهَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْفَيْءُ عِنْدَنَا على ضَرْبَيْنِ
أَحَدُهُمَا بِالْفِعْلِ وهو الْجِمَاعُ في الْفَرْجِ حتى لو جَامَعَهَا فِيمَا
دُونَ الْفَرْجِ أو قَبْلَهَا بِشَهْوَةٍ أو لَمَسَهَا لِشَهْوَةٍ أو نَظَرَ إلَى
فَرْجِهَا عن شَهْوَةٍ لَا يَكُونُ ذلك فيأ ( ( ( فيئا ) ) ) لِأَنَّ حَقَّهَا في
الْجِمَاعِ في الْفَرْجِ فَصَارَ ظَالِمًا بِمَنْعِهِ فَلَا يَنْدَفِعُ الظُّلْمُ
إلَّا بِهِ فَلَا يَحْصُلُ الْفَيْءُ وهو الرُّجُوعُ عَمَّا عَزَمَ عليه عِنْدَ
الْقُدْرَةِ إلَّا بِهِ بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ أنها تَثْبُتُ بِالْجِمَاعِ فِيمَا
دُونَ الْفَرْجِ وَبِالْمَسِّ عن شَهْوَةٍ وَالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ عن شَهْوَةٍ
لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ هُنَاكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ تَثْبُتُ من وَقْتِ
وُجُودِ الطَّلَاقِ من وَجْهٍ فَلَوْ لم تَثْبُتْ الرَّجْعَةُ بِهِ لَصَارَ
مُرْتَكِبًا لِلْحَرَامِ فَجُعِلَ الْإِقْدَامُ عليه دَلَالَةَ الرَّجْعَةِ
تَحَرُّزًا عن الْحَرَامِ وَهَذَا الْمَعْنَى لم يُوجَدْ هَهُنَا لِأَنَّ
الْبَيْنُونَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ثَبَتَتْ مَقْصُورَةً على الْحَالِ
فَلَوْ لم يُجْعَلْ منه فيأ ( ( ( فيئا ) ) ) لم يَصِرْ مُرْتَكِبًا لِلْحَرَامِ
لِذَلِكَ فَافْتَرَقَا
وَالثَّانِي بِالْقَوْلِ وَالْكَلَامُ فيه يَقَعُ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في
صُورَةِ الْفَيْءِ بِالْقَوْلِ وَالثَّانِي في بَيَانِ شَرْطِ صِحَّتِهِ أَمَّا
صُورَتُهُ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ لها فِئْت إلَيْكِ أو رَاجَعْتُكِ وما أَشْبَهَ ذلك
وَذَكَرَ الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ في صِفَةِ الْفَيْءِ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ
اشْهَدُوا أَنِّي قد فِئْت إلَى امْرَأَتِي وَأَبْطَلْت الْإِيلَاءَ وَلَيْسَ هذا
من أبي حَنِيفَةَ شَرْطَ الشَّهَادَةِ على الْفَيْءِ فإنه يَصِحُّ بِدُونِ
الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشَّهَادَةَ احْتِيَاطًا لِبَابِ الْفُرُوجِ
لِاحْتِمَالِ أَنْ يَدَّعِيَ الزَّوْجُ الْفَيْءَ إلَيْهَا بَعْدَ مُضِيِّ
الْمُدَّةِ فَتُكَذِّبَهُ الْمَرْأَةُ فَيَحْتَاجَ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ
عليه إلَّا أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْفَيْءِ وقد قال
أَصْحَابُنَا أنه إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ في الفىء ( ( ( الفيء )
) ) مع بَقَاءِ الْمُدَّةِ وَالزَّوْجُ ادَّعَى الْفَيْءَ وَأَنْكَرَتْ
الْمَرْأَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْمُدَّةَ إذَا كانت بَاقِيَةً
فَالزَّوْجُ يَمْلِكُ الْفَيْءَ فيها وقد ادَّعَى الْفَيْءَ قي وَقْتٍ يَمْلِكُ
إنشاءه فيه فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا له فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَإِنْ
اخْتَلَفَا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الزَّوْجَ
يَدَّعِي الْفَيْءَ في وَقْتٍ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْفَيْءِ فيه فَكَانَ
الظَّاهِرُ شَاهِدًا عليه لِلْمَرْأَةِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا
وَأَمَّا شَرْطُ صِحَّتِهِ فَلِصِحَّةِ الْفَيْءِ بِالْقَوْلِ شَرَائِطُ ثَلَاثَةٌ
أَحَدُهَا الْعَجْزُ عن الْجِمَاعِ فَلَا يَصِحُّ مع الْقُدْرَةِ على الْجِمَاعِ
لِأَنَّ الْأَصْلَ هو الْفَيْءُ بِالْجِمَاعِ لِأَنَّ الظُّلْمَ بِهِ يَنْدَفِعُ
حَقِيقَةً وَإِنَّمَا الْفَيْءُ بِالْقَوْلِ خَلَفَ عنه وَلَا عِبْرَةَ بالخلف ( (
( بالخالف ) ) ) مع الْقُدْرَةِ على الْأَصْلِ كَالتَّيَمُّمِ مع الْوُضُوءِ
وَنَحْوِ ذلك ثُمَّ الشَّرْطُ هو الْعَجْزُ عن الْجِمَاعِ حَقِيقَةً أو مُطْلَقُ
الْعَجْزِ إمَّا حَقِيقَةً وَإِمَّا حُكْمًا فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ
الْعَجْزَ نَوْعَانِ حَقِيقِيٌّ وَحُكْمِيٌّ أَمَّا الْحَقِيقِيُّ فَنَحْوُ أَنْ يَكُونَ
أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَرِيضًا مَرَضًا يَتَعَذَّرُ معه الْجِمَاعُ أو كانت
الْمَرْأَةُ صَغِيرَةً لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا أو رَتْقَاءَ أو يَكُونَ الزَّوْجُ
مَجْبُوبًا أو يَكُونَ بَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ لَا يَقْدِرُ على قَطْعِهَا في
مُدَّةِ الْإِيلَاءِ أو تَكُونَ نَاشِزَةً مُحْتَجِبَةً في مَكَان لَا يَعْرِفُهُ
أو يَكُونَ مَحْبُوسًا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَهَا وَفَيْؤُهُ في هذا كُلِّهِ
بِالْقَوْلِ كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لو آلَى من
امْرَأَتِهِ وَهِيَ مَحْبُوسَةٌ أو هو مَحْبُوسٌ أو كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ
امْرَأَتِهِ مَسَافَةٌ أَقَلَّ من
____________________
(3/173)
أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ إلَّا أَنَّ الْعَدُوَّ أو السُّلْطَانَ مَنَعَهُ عن ذلك فإن فَيْأَهُ
لَا يَكُونُ إلَّا بِالْفِعْلِ
وَيُمْكِنُ أَنْ يُوَفَّقَ بين الْقَوْلَيْنِ في الْحَبْسِ بِأَنْ يُحْمَلَ ما
ذَكَرَهُ الْقَاضِي على أَنْ يَقْدِرَ أَحَدُهُمَا على أَنْ يَصِلَ إلَى صَاحِبِهِ
في السِّجْنِ وَالْوَجْهُ في الْمَنْعِ من الْعَدُوِّ أو السُّلْطَانِ أَنَّ ذلك
نَادِرٌ وَعَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ
وَأَمَّا الْحُكْمِيُّ فَمِثْلُ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا وَقْتَ الإيلا ( ( (
الإيلاء ) ) ) بينه ( ( ( وبينه ) ) ) وَبَيْنَ الجمع ( ( ( الحج ) ) ) أَرْبَعَةُ
أَشْهُرٍ
وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا كان عَاجِزًا عن
الْجِمَاعِ حَقِيقَةً أَنَّهُ يَنْتَقِلُ الْفَيْءُ بِالْجِمَاعِ إلَى الْفَيْءِ
بِالْقَوْلِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا إذَا كان قَادِرًا على الْجِمَاعِ
حَقِيقَةً وَعَاجِزًا عنه حُكْمًا أَنَّهُ هل يَصِحُّ الْفَيْءُ بِالْقَوْلِ قال
أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ لَا يَصِحُّ وَلَا يَكُونُ فَيْؤُهُ إلَّا بِالْجِمَاعِ
وقال زُفَرُ يَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْعَجْزَ حُكْمًا كَالْعَجْزِ حَقِيقَةً في أُصُولِ
الشَّرِيعَةِ كما في الْخَلْوَةِ فإنه يَسْتَوِي الْمَانِعُ الْحَقِيقِيُّ
وَالشَّرْعِيُّ في الْمَنْعِ من صِحَّةِ الْخَلْوَةِ كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّهُ قَادِرٌ على الْجِمَاعِ حَقِيقَةً فَيَصِيرُ ظَالِمًا بِالْمَنْعِ
فَلَا يَنْدَفِعُ الظُّلْمُ عنها إلَّا بِإِيفَائِهَا حَقَّهَا بِالْجِمَاعِ
وَحَقُّ الْعَبْدِ لَا يَسْقُطُ لِأَجْلِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى في الْجُمْلَةِ
لغنا ( ( ( لغنى ) ) ) اللَّهِ عز وجل وَحَاجَةِ الْعَبْدِ
وَالثَّانِي دَوَامُ الْعَجْزِ عن الْجِمَاعِ إلَى أَنْ تَمْضِيَ الْمُدَّةُ حتى
لو قَدِرَ على الْجِمَاعِ في الْمُدَّةِ بَطَلَ الْفَيْءُ بِالْقَوْلِ وَانْتَقَلَ
إلَى الْفَيْءِ بِالْجِمَاعِ حتى لو تَرَكَهَا ولم يَقْرَبْهَا في الْمُدَّةِ حتى
مَضَتْ تَبِينُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَيْءَ بِاللِّسَانِ بَدَلٌ عن الْفَيْءِ
بِالْجِمَاعِ وَمَنْ قَدِرَ على الْأَصْلِ قبل حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ بَطَلَ
حُكْمُ الْبَدَلِ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا قَدِرَ على الْمَاءِ في الصَّلَاةِ
وَكَذَا إذَا آلَى وهو صَحِيحٌ ثُمَّ مَرِضَ فَإِنْ كان قَدْرُ مُدَّةِ صِحَّتِهِ
ما يُمْكِنُ فيه الْجِمَاعُ فَفَيْؤُهُ بِالْجِمَاعِ لِأَنَّهُ كان قَادِرًا على
الْجِمَاعِ في مُدَّةِ الصِّحَّةِ فإذا لم يُجَامِعْهَا مع الْقُدْرَةِ عليه
فَقَدْ فَرَّطَ في إيفَاءِ حَقِّهَا فَلَا يُعْذَرُ بِالْمَرَضِ الْحَادِثِ وَإِنْ
كان لَا يُمْكِنُهُ فَيْؤُهُ بِالْجِمَاعِ لِقِصَرِهِ فَفَيْؤُهُ بِالْقَوْلِ
لِأَنَّهُ إذَا لم يَقْدِرْ على الْجِمَاعِ فيه لم يَكُنْ مُفَرِّطًا في تَرْكِ
الْجِمَاعِ فَكَانَ مَعْذُورًا وَلَوْ آلَى وهو مَرِيضٌ فلم يفيء ( ( ( يفئ ) ) )
بِاللِّسَانِ إلَيْهَا حتى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَبَانَتْ ثُمَّ صَحَّ ثُمَّ مَرِضَ
فَتَزَوَّجَهَا وهو مَرِيضٌ فَفَاءَ إلَيْهَا بِاللِّسَانِ صَحَّ فَيْؤُهُ في
قَوْلِ أبي يُوسُفَ حتى لو تَمَّتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ من وَقْتِ التَّزَوُّجِ
لَا تَبِينُ
وقال مُحَمَّدٌ لَا يَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ إذَا صَحَّ في الْمُدَّةِ الثَّانِيَةِ فَقَدْ قَدِرَ على
الْجِمَاعِ حَقِيقَةً فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْفَيْءِ بِاللِّسَانِ في تِلْكَ
الْمُدَّةِ وَإِنْ كان لَا يَقْدِرُ على جِمَاعِهَا إلَّا بِمَعْصِيَةٍ كما إذَا
كان مُحْرِمًا فَفَاءَ بِلِسَانِهِ أَنَّهُ لم يَصِحَّ فَيْؤُهُ بِاللِّسَانِ
لِكَوْنِهِ قَادِرًا على الْجِمَاعِ حَقِيقَةً وَإِنْ كان لَا يَقْدِرُ عليه إلَّا
بِمَعْصِيَةٍ كَذَا هذا
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الصِّحَّةَ إنَّمَا تَمْنَعُ الْفَيْءَ بِاللِّسَانِ
لِلْقُدْرَةِ على إيفَائِهَا حَقَّهَا في الْجِمَاعِ وَلَا حَقَّ لها في حَالَةِ
الْبَيْنُونَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ الصِّحَّةُ مَانِعَةً منه
وَالثَّالِثُ قِيَامُ مِلْكِ النِّكَاحِ وَقْتَ الْفَيْءِ بِالْقَوْلِ وهو أَنْ
تَكُونَ الْمَرْأَةُ في حَالِ ما يَفِيءُ إلَيْهَا زَوْجَتَهُ غير بَائِنَةٍ منه
فَإِنْ كانت بَائِنَةً منه فَفَاءَ بِلِسَانِهِ لم يَكُنْ ذلك فيأ ( ( ( فيئا ) )
) وَيَبْقَى الْإِيلَاءُ لِأَنَّ الْفَيْءَ بِالْقَوْلِ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ
إنَّمَا يَرْفَعُ الْإِيلَاءَ في حَقِّ حُكْمِ الطَّلَاقِ لِحُصُولِ إيفَاءِ
حَقِّهَا بِهِ وَلَا حَقَّ لها حَالَةَ الْبَيْنُونَةِ على ما نَذْكُرُهُ وَلَا
يُعْتَبَرُ الْفَيْءُ وَصَارَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ فَيَبْقَى
الْإِيلَاءُ فإذا تَزَوَّجَهَا وَمَضَتْ الْمُدَّةُ تَبِينُ منه بِخِلَافِ
الْفَيْءِ بِالْفِعْلِ وهو الْجِمَاعُ أَنَّهُ يَصِحُّ بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ
وَثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ حتى لَا يَبْقَى الْإِيلَاءُ بَلْ يَبْطُلُ لِأَنَّهُ
حِنْثٌ بِالْوَطْءِ فَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ وَبَطَلَتْ ولم يُوجَدْ الْحِنْثُ
هَهُنَا فَلَا تَنْحَلُّ الْيَمِينُ فَلَا يَرْتَفِعُ الْإِيلَاءُ ثُمَّ الْفَيْءُ
بِالْقَوْلِ عِنْدَنَا إنَّمَا يَصِحُّ في حَقِّ حُكْمِ الطَّلَاقِ حتى لَا يَقَعَ
الطَّلَاقُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ إلَّا في حَقِّ الْحِنْثِ لِأَنَّ الْيَمِينَ في
حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ بَاقِيَةٌ لِأَنَّهَا لَا تَنْحَلُّ إلَّا بِالْحِنْثِ
وَالْحِنْثُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عليه وَالْقَوْلُ ليس
مَحْلُوفًا عليه فَلَا تَنْحَلُّ بِهِ الْيَمِينُ هذا الذي ذَكَرْنَا مَذْهَبُ
أَصْحَابِنَا وقال الشَّافِعِيُّ لَا فَيْءَ إلَّا بِالْجِمَاعِ وَإِلَيْهِ مَالَ
الطَّحَاوِيَّ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْفَيْءَ بِالْحِنْثِ وَلَا حِنْثَ بِاللِّسَانِ
فَلَا يَحْصُلُ الْفَيْءُ بِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْحِنْثَ هو فِعْلُ الْمَحْلُوفِ
عليه وَالْمَحْلُوفُ عليه هو الْقُرْبَانُ فَلَا يَحْصُلُ الْفَيْءُ إلَّا بِهِ
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي
اللَّهُ عنه وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ
قالوا الْفَيْءُ عِنْدَ الْعَجْزِ بِالْقَوْلِ وَكَذَا روى عن جَمَاعَةٍ من
التَّابِعِينَ مِثْلِ مَسْرُوقٍ وَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ
وَسَعِيدِ بن جُبَيْرٍ وَلِأَنَّ الْفَيْءَ في اللُّغَةِ هو الرُّجُوعُ يُقَالُ
فَاءَ الظِّلُّ أَيْ رَجَعَ وَمَعْنَى الرُّجُوعِ في الْإِيلَاءِ هو أَنَّهُ
بِالْإِيلَاءِ عَزَمَ على مَنْعِ حَقِّهَا في الْجِمَاعِ وَأَكَّدَ الْعَزْمَ
بِالْيَمِينِ فَبِالْفَيْءِ رَجَعَ عَمَّا عَزَمَ وَالرُّجُوعُ كما يَكُونُ
بِالْفِعْلِ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَهَذَا لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ
لِصَيْرُورَتِهِ ظَالِمًا بِمَنْعِ حَقِّهَا وَالظُّلْمُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ على
الْجِمَاعِ بِمَنْعِ حَقِّهَا في الْجِمَاعِ فَيَكُونُ إزَالَةُ الظُّلْمِ
بِإِيفَاءِ حَقِّهَا في الْجِمَاعِ فَيَكُونُ إزَالَةُ هذا الظُّلْمِ بِذِكْرِ
إيفَاءِ حَقِّهَا في الْجِمَاعِ أَيْضًا وَعِنْدَ الْعَجْزِ عن الْجِمَاعِ يَكُونُ
بِإِيذَائِهِ إيَّاهَا مَنْعَ حَقِّهَا
____________________
(3/174)
في
الْجِمَاعِ لِيَكُونَ إزَالَةُ هذا الظُّلْمِ بِقَدْرِ الظُّلْمِ فَيَثْبُتُ
الْحُكْمُ على وَفْقِ الْعِلَّةِ
وَأَمَّا وَقْتُ الْفَيْءِ فَالْفَيْءُ عِنْدَنَا في الْمُدَّةِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في
بَيَانِ حُكْمِ الْإِيلَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا حُرِّيَّةُ المولى فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ إيلَائِهِ بِاَللَّهِ
تَعَالَى وَمِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ حتى لو قال الْعَبْدُ لِامْرَأَتِهِ
وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أو قال إنْ قَرِبْتُك فَعَلَيَّ صَوْمٌ أو حَجٌّ أو
عُمْرَةٌ أو امْرَأَتِي طَالِقٌ يَصِحُّ إيلَاؤُهُ حتى لو لم يَقْرَبْهَا تَبِينُ
منه في الْمُدَّةِ وَلَوْ قَرِبَهَا فَفِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى
تَلْزَمُهُ بالكفارة ( ( ( الكفارة ) ) ) بِالصَّوْمِ وفي غَيْرِهَا يَلْزَمُهُ
الْجَزَاءُ الْمَذْكُورُ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ أَهْلٌ لِذَلِكَ وَإِنْ كان يَحْلِفُ
بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ بِأَنْ قال إنْ قَرِبْتُكِ فعلى عِتْقُ رَقَبَةٍ أو
عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِكَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ مِلْكِ
الْمَالِ
وَأَمَّا إسْلَامُ المولى فَهَلْ هو شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِيلَاءِ
فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا آلَى من امْرَأَتِهِ
بِالطَّلَاقِ أو الْعَتَاقِ أَنَّهُ يَصِحُّ إيلَاؤُهُ لِأَنَّ الْكَافِرَ من
أَهْلِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا في أَنَّهُ إذَا آلَى
بِشَيْءٍ من الْقُرَبِ كَالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِأَنْ
قال لِامْرَأَتِهِ إنْ قَرِبْتُكِ فَعَلَيَّ صَوْمٌ أو صَدَقَةٌ أو حَجَّةٌ أو عُمْرَةٌ
أو غَيْرُ ذلك من الْقُرَبِ لَا يَكُونُ مُولِيًا لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ
الْقُرْبَةِ فَيُمْكِنُهُ قُرْبَانُ امْرَأَتِهِ من غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ فلم
يَكُنْ مُولِيًا
وَكَذَا إذَا قال لِامْرَأَتِهِ إنْ قَرِبْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي
أو فُلَانَةُ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لم يَكُنْ مُولِيًا لِأَنَّ الْكُفْرَ
يَمْنَعُ صِحَّةَ الظِّهَارِ عِنْدَنَا وإذا لم يَصِحَّ يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا
من غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ فَلَا يَكُونُ مُولِيًا وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا آلَى
بِاَللَّهِ تَعَالَى فقال وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك تَنْعَقِدُ مُوجِبَةً
لِلْكَفَّارَةِ على تَقْدِيرِ الْحِنْثِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يَكُونُ مُولِيًا
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَكُونُ مُولِيًا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا تَنْعَقِدُ من
الذِّمِّيِّ كما في غَيْرِ الْإِيلَاءِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْيَمِينَ
بِاَللَّهِ تَعَالَى تَنْعَقِدُ مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ على تَقْدِيرِ الْحِنْثِ
وَالْكَافِرُ ليس من أَهْلِ الْكَفَّارَةِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ من
نِسَائِهِمْ } من غَيْرِ تَخْصِيصِ الْمُسْلِمِ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ بِاَللَّهِ
يَمِينٌ يَمْنَعُ الْقُرْبَانَ خَوْفًا من هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ عز وجل
وَالذِّمِّيُّ يَعْتَقِدُ حُرْمَةَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُ
على الدعاوي كَالْمُسْلِمِ وَيَتَعَلَّقُ حِلُّ الذَّبِيحَةِ بتسمية ( ( ( بتسميته
) ) ) كما يَتَعَلَّقُ بتسيمة ( ( ( بتسمية ) ) ) الْمُسْلِمِ فإنه إذَا ذَكَرَ
اسْمَ اللَّهِ عليها أُكِلَتْ وَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ لم تُؤْكَلْ فَيَصِحُّ
إيلَاؤُهُ كما يَصِحُّ إيلَاءُ الْمُسْلِمِ وإذا صَحَّ إيلَاؤُهُ بِاَللَّهِ
تَعَالَى تَثْبُتُ أَحْكَامُ الْإِيلَاءِ في حَقِّهِ كما تَثْبُتُ في حَقِّ
الْمُسْلِمِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ في حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ وهو
الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَادَةٌ وهو ليس من أَهْلِ الْعِبَادَةِ
فَيَظْهَرُ في حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ وهو الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ من أَهْلِهِ وَلَوْ
آلَى مُسْلِمٌ أو ظَاهَرَ من امْرَأَتِهِ ثُمَّ ارْتَدَّ عن الْإِسْلَامِ وَلَحِقَ
بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ رَجَعَ مُسْلِمًا وَتَزَوَّجَهَا فَهُوَ مُولٍ
وَمُظَاهِرٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ يَسْقُطُ عنه الْإِيلَاءُ وَالظِّهَارُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْكُفْرَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ
ابْتِدَاءً فَيَمْنَعُ بَقَاءَهُمَا على الصِّحَّةِ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ
وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ على تَقْدِيرِ الْحِنْثِ وَحُكْمُ الظِّهَارِ حُرْمَةٌ
مُؤَقَّتَةٌ إلَى غَايَةِ التَّكْفِيرِ وَالْكَافِرُ ليس من أَهْلِ وُجُوبِ
الْكَفَّارَةِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكُفْرَ لَمَّا لم يَمْنَعْ انْعِقَادَ الْإِيلَاءِ
لِمَا بَيَّنَّا فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ بَقَاءَهُ أَوْلَى لِأَنَّ الْبَقَاءَ
أَسْهَلُ وَلِأَنَّ الايلاء قد انْعَقَدَ لِوُجُودِهِ من الْمُسْلِمِ وَالْعَارِضُ
هو الرِّدَّةُ وَأَثَرُهَا في زَوَالِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَزَوَالُ الْمِلْكِ لَا
يُوجِبُ بُطْلَانَ الْيَمِينِ فَتَبْقَى الْيَمِينُ فإذا عَادَ يَعُودُ حُكْمُ
الْإِيلَاءِ ولأن كُلَّ عَارِضٍ على أَصْلٍ يَلْتَحِقُ بِالْعَدَمِ من الْأَصْلِ
إذَا ارْتَفَعَ وَيُجْعَلُ كَأَنْ لم يَكُنْ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ انْعَقَدَ
بِيَقِينٍ وَالْعَارِضُ وهو الرِّدَّةُ يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ
وَالتَّصَرُّفَ الشَّرْعِيَّ إذَا انْعَقَدَ بِيَقِينٍ لِاحْتِمَالِ الْفَائِدَةِ
في الْبَقَاءِ وَاحْتِمَالُ الْفَائِدَةِ هَهُنَا ثَابِتٌ لِأَنَّ رَجَاءَ
الْإِسْلَامِ قَائِمٌ وَالظِّهَارُ قد انْعَقَدَ مُوجِبًا حُكْمَهُ وهو
الْحُرْمَةُ الْمُؤَقَّتَةُ لِصُدُورِهِ من الْمُسْلِمِ وَبِالرِّدَّةِ زَالَتْ صِفَةُ
الْحُكْمِ وَبَقِيَ الْأَصْلُ وهو الْحُرْمَةُ إذْ الْكَافِرُ من أَهْلِ ثُبُوتِ
الْحُرْمَةِ وَبَقَائِهَا في حَقِّهِ لِأَنَّ حُكْمَ الْحُرْمَةِ وُجُوبُ
الِامْتِنَاعِ وهو قَادِرٌ على الِامْتِنَاعِ بِخِلَافِ الْقُرْبَةِ وَلِهَذَا
خُوطِبَ بِالْحُرُمَاتِ دُونَ الْقُرُبَاتِ وَالطَّاعَاتِ على ما عُرِفَ في
أُصُولِ الْفِقْهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْإِيلَاءِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ أنه
يَتَعَلَّقُ بِالْإِيلَاءِ حُكْمَانِ حُكْمُ الْحِنْثِ وَحُكْمُ الْبِرِّ أَمَّا
حُكْمُ الْحِنْثِ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَحْلُوفِ بِهِ فَإِنْ كان
الْحَلِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ وُجُوبُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ كَسَائِرِ
الْأَيْمَانِ بِاَللَّهِ وَإِنْ كان الْحَلِفُ بِالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَلُزُومُ
الْمَحْلُوفِ بِهِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ بِالشُّرُوطِ والاجزية أو لُزُومُ
حُكْمِهِ على تَقْدِيرِ وُجُودِهِ على ما بَيَّنَّا
وَأَمَّا حُكْمُ الْبِرِّ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَصْلِ
الْحُكْمِ وفي بَيَانِ وَصْفِهِ وفي بَيَانِ وَقْتِهِ وفي بَيَانِ قَدْرِهِ أَمَّا
أَصْلُ الْحُكْمِ فَهُوَ
____________________
(3/175)
وُقُوعُ
الطَّلَاقِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ من غَيْرِ فَيْءٍ لِأَنَّهُ بِالْإِيلَاءِ
عَزَمَ على مَنْعِ نَفْسِهِ من إيفَاءِ حَقِّهَا في الْجِمَاعِ في الْمُدَّةِ
وَأَكَّدَ الْعَزْمَ بِالْيَمِينِ فإذا مَضَتْ الْمُدَّةُ ولم يفيء ( ( ( يفئ ) )
) إلَيْهَا مع الْقُدْرَةِ على الْفَيْءِ فَقَدْ حَقَّقَ الْعَزْمَ الْمُؤَكَّدَ
بِالْيَمِينِ بِالْفِعْلِ فَتَأَكَّدَ الظُّلْمُ في حَقِّهَا فَتَبِينُ منه
عُقُوبَةً عليه جَزَاءً على ظلمة وَمَرْحَمَةً عليها وَنَظَرًا لها بِتَخْلِيصِهَا
عن حِبَالِهِ لِتَتَوَصَّلَ إلَى إيفَاءِ حَقِّهَا من زَوْجٍ آخَرَ وَهَذَا
عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ حُكْمُ الْإِيلَاءِ في حَقِّ الْبِرِّ هو الْوَقْفُ وهو أَنْ
يُوقَفَ الزَّوْجُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَيُخَيَّرَ بين الْفَيْءِ إلَيْهَا
بِالْجِمَاعِ وَبَيْنَ تَطْلِيقِهَا فَإِنْ أَبَى أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ على
أَحَدِهِمَا فَإِنْ لم يَفْعَلْ طَلَّقَ عليه الْقَاضِي فَاشْتَمَلَتْ مَعْرِفَةُ
هذا الْحُكْمِ على مَعْرِفَةِ مسئلتين ( ( ( مسألتين ) ) ) مُخْتَلِفَتَيْنِ
إحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَا يُوقَفُ المولى بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ عِنْدَنَا
بَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَقِبَ انْقِضَائِهَا بِلَا فَصْلٍ وَعِنْدَهُ يُوقَفُ
وَيُخَيَّرُ بين الْفَيْءِ وَالتَّطْلِيقِ على ما بَيَّنَّا
وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْفَيْءَ يحب ( ( ( يجب ) ) ) أَنْ يَكُونَ في الْمُدَّةِ
عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ والمسئلتان ( ( ( والمسألتان ) )
) مُخْتَلِفَتَانِ بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ من
نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤوا ( ( ( فاءوا ) ) ) فإن
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ } خَيَّرَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى المولى بين الْفَيْءِ وَبَيْنَ الْعَزْمِ على الطَّلَاقِ بَعْدَ
أَرْبَعَةِ أسهر ( ( ( أشهر ) ) ) فَدَلَّ أَنَّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ في حَقِّ
الْبِرِّ هو تَخْيِيرُ الزَّوْجِ بين الْفَيْءِ وَالطَّلَاقِ بَعْدَ الْمُدَّةِ
لَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَإِنْ وَقَّتَ الْفَيْءَ
بَعْدَ الْمُدَّةِ لَا في الْمُدَّةِ وَلِأَنَّهُ قال عز وجل { وَإِنْ عَزَمُوا
الطَّلَاقَ فإن اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أَيْ سَمِيعٌ لِلطَّلَاقِ فَلَا بُدَّ
وَأَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ مَسْمُوعًا وَذَلِكَ بِوُجُودِ صَوْتِ الطَّلَاقِ إذْ
غَيْرُ الصَّوْتِ لَا يَحْتَمِلُ السَّمَاعَ وَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِنَفْسِ
مُضِيِّ الْمُدَّةِ من غَيْرِ قَوْلٍ وُجِدَ من الزَّوْجِ أو من الْقَاضِي لم
يَتَحَقَّقْ صَوْتُ الطَّلَاقِ فَلَا يَنْعَقِدُ سَمَاعُهُ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ
يَمِينٌ يَمْنَعُ من الْجِمَاعِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ
عليه فَقَطْ لَا على الطَّلَاقِ فَالْقَوْلُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمُضِيِّ
الْمُدَّةِ قَوْلٌ بِالْوُقُوعِ من غَيْرِ إيقَاعٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَالْوَقْفُ يُوجِبُ الزِّيَادَةَ على الْمُدَّةِ الْمَنْصُوصِ عليها وَهِيَ
مُدَّةُ اخْتِيَارِ الْفَيْءِ أو الطَّلَاقِ من يَوْمٍ أو سَاعَةٍ فَلَا تَجُوزُ
الزِّيَادَةُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلِهَذَا لَمَّا جَعَلَ الشَّرْعُ لِسَائِرِ
الْمُدَّةِ التي بين الزَّوْجَيْنِ مِقْدَارًا مَعْلُومًا من الْمُدَّةِ وَمُدَّةُ
الْعِنِّينِ لم تَحْتَمِلْ الزِّيَادَةَ على ذلك الْقَدْرِ فَكَذَا مُدَّةُ الطَّلَاقِ
وَلِأَنَّ الْفَيْءَ نَقَضَ الْيَمِينَ وَنَقْضُهَا حَرَامٌ في الْأَصْلِ قال
اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وقد
جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا } إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ الْإِطْلَاقُ في
الْمُدَّةِ بِقِرَاءَةِ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بن كَعْبٍ رضي اللَّهُ
عنهما فَإِنْ فاؤا ( ( ( فاءوا ) ) ) فِيهِنَّ فَبَقِيَ النَّقْضُ حَرَامًا فِيمَا
وَرَاءَهَا فَلَا يَحِلُّ الْفَيْءُ فِيمَا وَرَاءَهَا فَلَزِمَ الْقَوْلُ
بِالْفَيْءِ في الْمُدَّةِ وَبِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ مُضِيِّهَا وَلِأَنَّ
الْإِيلَاءَ كان طَلَاقًا مُعَجَّلًا في الْجَاهِلِيَّةِ فَجَعَلَهُ الشَّرْعُ
طَلَاقًا مُؤَجَّلًا وَالطَّلَاقُ الْمُؤَجَّلُ يَقَعُ بنفس ( ( ( نفس ) ) )
انْقِضَاءِ الْأَجَلِ من غَيْرِ إيقَاعِ أَحَدٍ بَعْدَهُ كما إذَا قال لها أَنْتِ طَالِقٌ
رَأْسَ الشَّهْرِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْفَيْءَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ فَنَعَمْ لَكِنْ هذا لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْفَيْءُ بَعْدَ
مُضِيِّهَا أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى { فإذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ذَكَرَ تَعَالَى الْإِمْسَاكَ بِمَعْرُوفٍ بَعْدَ
بُلُوغِ الْأَجَلِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْإِمْسَاكَ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ
وهو الْعِدَّةُ بَلْ يُوجِبُ الْإِمْسَاكَ وهو الرَّجْعَةُ في الْعِدَّةِ
وَالْبَيْنُونَةُ بَعْدَ انْقِضَائِهَا كَذَا هَهُنَا
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فإن اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ } فَقَدْ قال قَوْمٌ من أَهْلِ التَّأْوِيلِ أن الْمُرَادَ من قَوْلِهِ {
سَمِيعٌ } في هذا الْمَوْضِعِ أَيْ سَمِيعٌ بِإِيلَائِهِ وَالْإِيلَاءُ مِمَّا
يُنْطَقُ بِهِ وَيُقَالُ فَيَكُونُ مَسْمُوعًا وقَوْله تَعَالَى { عَلِيمٌ }
يَنْصَرِفُ إلَى الْعَزْمِ أَيْ عَلِيمٌ بِعَزْمِهِ الطَّلَاقَ وهو تَرْكُ
الْفَيْءِ وَدَلِيلُ صِحَّةِ هذا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَوْلَهُ {
سَمِيعٌ عَلِيمٌ } عَقِيبَ أَمْرَيْنِ
أَحَدُهُمَا يَحْتَمِلُ السماع وهو الْإِيلَاءُ وَالْآخَرُ لَا يَحْتَمِلُ وهو
عَزْمُ الطَّلَاقِ فَيَنْصَرِفُ كُلُّ لَفْظٍ إلَى ما يَلِيقُ بِهِ لِيُفِيدَ
فَائِدَتَهُ وَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { لِتَسْكُنُوا فيه وَلِتَبْتَغُوا من
فَضْلِهِ } عَقِيبَ ذِكْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِقَوْلِهِ { الله الذي جَعَلَ
لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فيه وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إن الله لذو فضل على
الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } إنه صَرَفَ إلَى كل ما يَلِيقُ بِهِ لِيُفِيدَ
فَائِدَتَهُ وهو السُّكُونُ إلَى اللَّيْلِ وَابْتِغَاءُ الْفَضْلِ إلَى
النَّهَارِ كَذَا هَهُنَا
وَلِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَكُلُّ مَسْمُوعٍ مَعْلُومٌ
وَلَيْسَ كُلُّ مَعْلُومٍ مَسْمُوعًا لِأَنَّ السَّمَاعَ لَا يَكُونُ إلى
لِلصَّوْتِ فَلَوْ كان الطَّلَاقُ في الْإِيلَاءِ بِالْقَوْلِ لَكَانَ مَسْمُوعًا
وَالْإِيلَاءُ مَسْمُوعٌ أَيْضًا فَوَقَعَتْ الْكِفَايَةُ بِذِكْرِ السَّمِيعِ
فَلَا يَتَعَلَّقُ بِذِكْرِ الْعَلِيمِ فَائِدَةٌ مُبْتَدَأَةٌ وَلَوْ كان
الْأَمْرُ على ما قُلْنَا إنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ من
غَيْرِ قَوْلٍ يُسْمَعُ لَانْصَرَفَ ذِكْرُ الْعَلِيمِ إلَيْهِ لِأَنَّ ذلك ليس
بِمَسْمُوعٍ
____________________
(3/176)
حتى
يُغْنِيَ ذِكْرُ السَّمِيعِ عن ذِكْرِ الْعَلِيمِ فَيَتَعَلَّقَ بِذِكْرِ
الْعَلِيمِ فَائِدَةٌ جَدِيدَةٌ فَكَانَ ما قُلْنَاهُ أَوْلَى مع ما أَنَّا لَا
نُسَلِّمُ أَنَّ سَمَاعَ الطَّلَاقِ يَقِفُ على ذِكْرِ الطَّلَاقِ بِحُرُوفِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ طَلَاقٌ وَهِيَ مَسْمُوعَةٌ وَإِنْ لم
يَكُنْ الطَّلَاقُ مَسْمُوعًا مَذْكُورًا بِحُرُوفِهِ
وَكَذَا طَلَاقُ الْأَخْرَسِ فلم يَكُنْ من ضَرُورَةِ كَوْنِ الْإِيلَاءِ طَلَاقًا
التَّلَفُّظُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ فَلَا يَقِفُ سَمَاعُ صَوْتِ الطَّلَاقِ عليه
وَقَوْلُهُ لَفْظُ الْإِيلَاءِ لَا يَدُلُّ على الطَّلَاقِ مَمْنُوعٌ بَلْ يَدُلُّ
عليه شَرْعًا فإن الشَّرْعَ جَعَلَ الْإِيلَاءَ طَلَاقًا مُعَلَّقًا بِشَرْطِ
الْبِرِّ فَيَصِيرُ الزَّوْجُ بِالْإِصْرَارِ على مُوجِبِ هذه الْيَمِينِ
مُعَلِّقًا طَلَاقًا بَائِنًا بِتَرْكِ الْقُرْبَانِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
كَأَنَّهُ قال إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ولم أَقْرَبْكِ فيها فَأَنْتِ
طَالِقٌ بَائِنٌ
عَرَفْنَا ذلك بِإِشَارَةِ النَّصِّ وهو قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ عَزَمُوا
الطَّلَاقَ فإن اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } سَمَّى تَرْكَ الْفَيْءِ في الْمُدَّةِ
عَزْمَ الطَّلَاقِ وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ سَمِيعٌ
لِلْإِيلَاءِ فَدَلَّ أَنَّ الْإِيلَاءَ السَّابِقَ يَصِيرُ طَلَاقًا عِنْدَ
مُضِيِّ الْمُدَّةِ من غَيْرِ فَيْءٍ وَبِمَا ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى
الْمَعْقُولِ
وَأَمَّا صِفَتُهُ فَقَدْ قال أَصْحَابُنَا إنَّ الْوَاقِعَ بَعْدَ مُضِيِّ
الْمُدَّةِ من غَيْرِ فَيْءٍ طَلَاقٌ بَائِنٌ
وقال الشَّافِعِيُّ إذَا خُيِّرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَاخْتَارَ
الطَّلَاقَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ بِنَاءً على أَصْلِهِ أَنَّ الطَّلَاقَ
بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ يَقَعُ بِإِيقَاعٍ مبتدأ وهو صَرِيحُ الطَّلَاقِ
فَيَكُونُ رَجْعِيًّا
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ عن عُثْمَانَ
وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ
رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهِيَ
تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا يَقَعُ عِنْدَ مُضِيِّ
الْمُدَّةِ دَفْعًا لِلظُّلْمِ فَلَا يَنْدَفِعُ الظُّلْمُ عنها إلَّا
بِالْبَائِنِ لِتَتَخَلَّصَ عنه فَتَتَمَكَّنَ من اسْتِيفَاءِ حَقِّهَا من زَوْجٍ
آخَرَ وَلَا يَتَخَلَّصُ إلَّا بِالْبَائِنِ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِوُقُوعِ
الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ يُؤَدِّي إلَى الْعَبَثِ لِأَنَّ الزَّوْجَ إذَا أَبَى
الْفَيْءَ وَالتَّطْلِيقَ يُقَدَّمُ إلَى الْحَاكِمِ لِيُطَلِّقَ عليه الْحَاكِمُ
عِنْدَهُ ثُمَّ إذَا طَلَّقَ عليه الْحَاكِمُ يُرَاجِعُهَا الزَّوْجُ فَيَخْرُجُ
فِعْلُ الْحَاكِمِ مَخْرَجَ الْعَبَثِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَأَمَّا قَدْرُهُ وهو قَدْرُ الْوَاقِعِ من الطَّلَاقِ في الْإِيلَاءِ
فَالْأَصْلُ أَنَّ الطَّلَاقَ في الْإِيلَاءِ يَتْبَعُ الْمُدَّةَ لَا الْيَمِينَ
فَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِ الْمُدَّةِ وَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهَا في قَوْلِ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَتْبَعُ الْيَمِينَ فَيَتَعَدَّدُ
بِتَعَدُّدِ الْيَمِينِ وَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِهَا وَلَا خِلَافَ في أَنَّ
الْمُعْتَبَرَ في حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ هو الْيَمِينُ فَيُنْظَرُ إلَى
الْيَمِينِ في الِاتِّحَادِ وَالتَّعَدُّدِ لَا إلَى الْمُدَّةِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَلُزُومَ الْكَفَّارَةِ حُكْمُ
الْإِيلَاءِ وَالْإِيلَاءُ يَمِينٌ فَيَدُورُ الْحُكْمُ مع الْيَمِينِ فَيَتَّحِدُ
بِاتِّحَادِهَا وَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهَا لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَكَرَّرُ
بِتَكَرُّرِ السَّبَبِ وَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِهِ
وَلَنَا أَنَّ الْإِيلَاءَ إنَّمَا اُعْتُبِرَ طَلَاقًا من الزَّوْجِ لِمَنْعِهِ
حَقَّهَا في الْجِمَاعِ في الْمُدَّةِ مَنْعًا مُؤَكَّدًا بِالْيَمِينِ إذْ بِهِ
يَصِيرُ ظَالِمًا وَالْمَنْعُ يَتَّحِدُ بِاتِّحَادِ الْمُدَّةِ فَيَتَّحِدُ الظُّلْمُ
فَيَتَّحِدُ الطَّلَاقُ وَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهَا فَيَتَعَدَّدُ الظُّلْمُ
فَيَتَعَدَّدُ الطَّلَاقُ فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَإِنَّهَا تَجِبُ لِهَتْكِ
حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ عز وجل وَالْهَتْكُ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الِاسْمِ
وَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِهِ وَعَلَى هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ إذَا قال
لِامْرَأَتِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ فلم يَقْرَبْهَا حتى
مَضَتْ الْمُدَّةُ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ قَرِبَهَا لَزِمَهُ
كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِاتِّحَادِ الْمُدَّةِ وَالْيَمِينِ جميعا
وَلَوْ قال لها في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ وَاَللَّهِ لَا
أَقْرَبُكِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ فَإِنْ عَنَى بِهِ التَّكْرَارَ فَهُوَ
إيلَاءٌ وَاحِدٌ في حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ وَالْبِرِّ جميعا حتى لو مَضَتْ
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ولم يَقْرَبْهَا بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ
قَرِبَهَا في الْمُدَّةِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ
مِثْلَ هذا يُذْكَرُ لِلتَّكْرَارِ في الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فإذا نَوَى بِهِ
تَكْرَارَ الْأَوَّلِ فَقَدْ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَيُصَدَّقُ فيه
وَإِنْ لم تَكُنْ له نِيَّةٌ فَهُوَ إيلَاءٌ وَاحِدٌ في حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ في
قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَثَلَاثٌ في حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ
بِالْإِجْمَاعِ حتى لو مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ولم يَقْرَبْهَا بَانَتْ
بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَلَوْ قَرِبَهَا في
الْمُدَّةِ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ بِالْإِجْمَاعِ وَعِنْدَ زُفَرَ هو
ثَلَاثُ إيلاآت ( ( ( إيلاءات ) ) ) في حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ وَالْبِرِّ جميعا
وَيَنْعَقِدُ كُلُّ إيلَاءٍ من حِينِ وُجُودِهِ فإذا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ
ولم يفيء ( ( ( يفئ ) ) ) إليها بانت بِتَطْلِيقَةٍ ثُمَّ إذَا مَضَتْ سَاعَةٌ
بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ أُخْرَى ثُمَّ إذَا مَضَتْ سَاعَةٌ أُخْرَى بَانَتْ
بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ أُخْرَى وَإِنْ قَرِبَهَا في الْمُدَّةِ فَعَلَيْهِ
ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ
وَأَصْلُ هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ من قال لِامْرَأَتِهِ إذَا جاء غَدٌ
فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك قَالَهُ ثَلَاثًا فَجَاءَ غَدٌ يَصِيرُ مُولِيًا في
حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ إيلَاءً وَاحِدًا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَصِيرُ مُولِيًا
ثَلَاثَ إيلاآت ( ( ( إيلاءات ) ) ) في حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ وَإِنْ أَرَادَ
بِهِ التَّغْلِيظَ وَالتَّشْدِيدَ فكذلك ( ( ( فكذا ) ) ) في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إيلَاءٌ وَاحِدٌ في حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ اسْتِحْسَانًا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ هو ثَلَاثٌ في حَقِّ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ جميعا وهو
الْقِيَاسُ
____________________
(3/177)
أَمَّا
زُفَرُ فَقَدْ مَرَّ على أَصْلِهِ أَنَّ الْحُكْمَ لِلْيَمِينِ لَا لِلْمُدَّةِ
لِأَنَّ الْيَمِينَ هِيَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ وقد تَعَدَّدَتْ فَيَتَعَدَّدُ
السَّبَبُ بِتَعَدُّدِ الْحُكْمِ
وَأَمَّا وَجْهُ الْقِيَاسِ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُدَّةَ قد اخْتَلَفَتْ لِأَنَّ
كُلَّ وَاحِدَةٍ من هذه الْأَيْمَانِ وُجِدَتْ في زَمَانٍ فَكَانَتْ مُدَّةُ كل
وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غير مُدَّةِ الْأُخْرَى فَصَارَ كما لو آلَى منها ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ في ثَلَاثِ مَجَالِسَ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُدَدَ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ حَقِيقَةً فَهِيَ
مُتَعَدِّدَةٌ حُكْمًا لِتَعَذُّرِ ضَبْطِ الْوَقْتِ الذي بين الْيَمِينَيْنِ
عِنْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَصَارَتْ مُدَّةُ الْأَيْمَانِ كُلُّهَا
مُدَّةً وَاحِدَةً حُكْمًا وَالثَّابِتُ حُكْمًا مُلْحَقٌ بِالثَّابِتِ حَقِيقَةً
وَلَوْ قال إذَا جاء غَدٌ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ وإذا جاء بَعْدُ غَدٍ
فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ يَصِيرُ مُولِيًا إيلَاءَيْنِ في حَقِّ الْحِنْثِ
وَالْبِرِّ جميعا إذَا جاء غَدٌ يَصِيرُ مُولِيًا وإذا جاء بَعْدُ غَدٍ يَصِيرُ
مُولِيًا إيلَاءً آخَرَ وَكَذَلِكَ إذَا آلَى منها في مَجْلِسٍ ثُمَّ آلَى منها في
مَجْلِسٍ آخَرَ بِأَنْ قال وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ فَمَكَثَ يَوْمًا ثُمَّ قال
وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ يَصِيرُ مُولِيًا إيلَاءَيْنِ
أَحَدُهُمَا في الْحَالِ وَالْآخَرُ في الْغَدِ في حَقِّ الْحِنْثِ وَالْبِرِّ
جميعا لِأَنَّ الْمُدَدَ قد تَعَدَّدَتْ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لِاخْتِلَافِ
ابْتِدَاءِ كل مُدَّةٍ وَانْتِهَائِهَا وَإِمْكَانِ ضَبْطِ الْوَقْتِ الذي بين الْيَمِينَيْنِ
وَلَوْ قال كُلَّمَا دَخَلْت هذه الدَّارَ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أو قال
وَاَللَّهِ إنْ دَخَلْت هذه الدَّارَ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أو قال
وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ كُلَّمَا دَخَلْتُ هذه الدَّارَ يَصِيرُ مُولِيًا
إيلَاءَيْنِ في حَقِّ الْبِرِّ وَإِيلَاءً وَاحِدًا في حَقِّ الْحِنْثِ فإذا دخل
الدَّارَ دَخْلَتَيْنِ يَنْعَقِدُ الْإِيلَاءُ الْأَوَّلُ عِنْدَ الدَّخْلَةِ
الْأُولَى وَالثَّانِي عِنْدَ الدَّخْلَةِ الثَّانِيَةِ حتى لو مَضَتْ أَرْبَعَةُ
أَشْهُرٍ من وَقْتِ الدَّخْلَةِ الْأُولَى بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ وإذا تَمَّتْ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ من وَقْتِ الدَّخْلَةِ الثَّانِيَةِ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ
أُخْرَى وَلَوْ قَرِبَهَا بَعْدَ الدَّخْلَتَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا كَفَّارَةٌ
وَاحِدَةٌ لِتَعَدُّدِ الْمُدَّةِ وَاتِّحَادِ الْيَمِينِ في حُكْمِ الْحِنْثِ
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَتَى عُلِّقَتْ بِشَرْطٍ
مُتَكَرِّرٍ لَا يَتَكَرَّرُ انْعِقَادُهَا بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ وَالْيَمِينُ
بِمَا هو شَرْطٌ وَجَزَاءٌ إذَا عُلِّقَتْ بِشَرْطٍ مُتَكَرِّرٍ تَتَكَرَّرُ
بِتَكْرَارِ الشَّرْطِ وَقَوْلُهُ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ يَمِينٌ بِاَللَّهِ
تَعَالَى في حَقِّ الْحِنْثِ وَيَمِينٌ بِالطَّلَاقِ في حَقِّ الْبِرِّ وَدَلِيلُ
هذا الْأَصْلِ وَبَيَانُ فُرُوعِهِ يُعْرَفُ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَكَذَلِكَ
إذَا قال كُلَّمَا دَخَلْتُ وَاحِدَةً من هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ فَوَاَللَّهِ لَا
أَقْرَبُكِ أو قال كُلَّمَا كَلَّمْتُ وَاحِدًا من هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ
فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ فَدَخَلَ إحْدَاهُمَا أو كَلَّمَ أَحَدَهُمَا صَارَ
مُولِيًا وإذا دخل مَرَّةً أُخْرَى أو كَلَّمَهُ أُخْرَى صَارَ مُولِيًا إيلَاءً
آخَرَ في حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ وهو إيلَاءٌ وَاحِدٌ في حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَبْطُلُ بِهِ الْإِيلَاءُ فما يَبْطُلُ بِهِ
الْإِيلَاءُ نَوْعَانِ نَوْعٌ يطل ( ( ( يبطل ) ) ) بِهِ أَصْلًا في حَقِّ
الْحُكْمَيْنِ جميعا وهو الْبِرُّ وَالْحِنْثُ وَنَوْعٌ يَبْطُلُ بِهِ في حَقِّ
أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ وهو حُكْمُ الْبِرِّ وَيَبْقَى في حَقِّ الْحُكْمِ الْآخَرِ
وهو حُكْمُ الْحِنْثِ أَمَّا الذي يَبْطُلُ بِهِ الْإِيلَاءُ في حَقِّ
الْحُكْمَيْنِ جميعا فَشَيْءٌ وَاحِدٌ وهو الْفَيْءُ بِالْجِمَاعِ في الْفَرْجِ في
الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ يَحْنَثُ بِهِ وَالْيَمِينُ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْحِنْثِ
لِأَنَّ حِنْثَ الْيَمِينِ نَقَضَهَا وَالشَّيْءُ لَا يَبْقَى مع وُجُودِ ما
يَنْقُضُهُ وَأَمَّا ما يَبْطُلُ بِهِ في حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ دُونَ الْحِنْثِ
فَشَيْئَانِ أَحَدُهُمَا الْفَيْءُ بِالْقَوْلِ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ
التي وَصَفْنَاهَا فَيَبْطُلُ بِهِ الْإِيلَاءُ في حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ حتى لَا
تَبِينَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَرْكَ الْفَيْءِ في
الْمُدَّةِ شَرْطُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ مُضِيِّهَا إذْ هو عَزِيمَةُ
الطَّلَاقِ وَأَنَّهَا شَرْطٌ بِالنَّصِّ لَكِنَّهُ يَبْقَى في حَقِّ حُكْمِ
الْحِنْثِ حتى لو فَاءَ إلَيْهَا بِالْقَوْلِ في الْمُدَّةِ ثُمَّ قَدَرَ على
الْجِمَاعِ بَعْدَ الْمُدَّةِ فَجَامَعَهَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ
وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ مُعَلَّقٌ بِالْحِنْثِ وَالْحِنْثُ هو فِعْلُ الْمَحْلُوفِ
عليه وَالْمَحْلُوفُ عليه هو الْجِمَاعُ في الْفَرْجِ فَلَا يَحْصُلُ الْحِنْثُ
بِدُونِهِ
وَالثَّانِي الطَّلْقَاتُ الثَّلَاثُ حتى لو وَقَعَ عليها ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ
بِالْإِيلَاءِ أو طَلَّقَهَا ثَلَاثًا عَقِيبَ الْإِيلَاءِ فَتَزَوَّجَتْ ثُمَّ
عَادَتْ إلَيْهِ فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لم يَطَأْهَا فيها لَا يَقَعُ عليها
شَيْءٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَبْطُلُ بها
الْإِيلَاءُ وَيَقَعُ عليها الطَّلَاقُ بِالْإِيلَاءِ أَبَدًا بِنَاءً على أَنَّ
اسْتِيفَاءَ طَلَاقِ الْمِلْكِ الْقَائِمِ لِلْحَالِ يُبْطِلُ الْيَمِينَ
وَعِنْدَنَا
وَعِنْدَهُ لَا يُبْطِلُهَا وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَوْ آلَى منها ولم يفيء ( ( ( يفئ ) ) ) إلَيْهَا حتى مَضَتْ أَرْبَعَةُ
أَشْهُرٍ فَبَانَتْ منه بِتَطْلِيقَةٍ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجَتْ زوج (
( ( بزوج ) ) ) آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ عَادَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ
بِالْإِجْمَاعِ لَكِنْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بِثَلَاثِ
تَطْلِيقَاتٍ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِمَا بَقِيَ بِنَاءً على أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِي يَهْدِمُ
الطَّلْقَةَ وَالطَّلْقَتَيْنِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا يَهْدِمُ
وَالْمَسْأَلَةُ قد مَرَّتْ وَلَا يَبْطُلُ بِالْإِبَانَةِ حتى لو آلَى منها ثُمَّ
أَبَانَهَا قبل مُضِيِّ الْمُدَّةِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَمَضَتْ الْمُدَّةُ من
غَيْرِ فَيْءٍ تَبِينُ بِتَطْلِيقَةٍ
____________________
(3/178)
أُخْرَى
بِالْإِيلَاءِ السَّابِقِ وَلَوْ أَبَانَهَا ولم يَتَزَوَّجْهَا حتى مَضَتْ
الْمُدَّةُ وَهِيَ في الْعِدَّةِ يَقَعُ عليها تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى عِنْدَنَا
وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَقَعُ وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ
وَهَلْ يَبْطُلُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ من غَيْرِ فَيْءٍ فَإِنْ كان الْإِيلَاءُ
مُطْلَقًا أو مُؤَبَّدًا بِأَنْ قال وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أَبَدًا أو قال
وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ ولم يُذْكَرْ الْوَقْتَ فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ
من غَيْرِ فَيْءٍ حتى بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ لَا يَبْطُلُ الْإِيلَاءُ حتى لو
تَزَوَّجَهَا فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى مُنْذُ تَزَوَّجَ يَقَعُ عليها
تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى لِأَنَّ الْيَمِينَ عُقِدَتْ مُطْلَقَةً أو مُؤَبَّدَةً
وَالْعَارِضُ ليس إلَّا الْبَيْنُونَةُ وَأَثَرُهَا في زَوَالِ الْمِلْكِ
وَزَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ لِمَا عُرِفَ
أَنَّ الْيَمِينَ إذَا انْعَقَدَتْ تَبْقَى لِاحْتِمَالِ الْفَائِدَةِ
وَاحْتِمَالُ الْفَائِدَةِ ثَابِتٌ لِاحْتِمَالِ التَّزَوُّجِ فَيَبْقَى
الْيَمِينُ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ من الْمِلْكِ لِانْعِقَادِ الْمُدَّةِ
الثَّانِيَةِ فإذا تَزَوَّجَهَا عَادَ الْمِلْكُ فَعَادَ حَقُّهَا في الْجِمَاعِ
فإذا مَضَتْ الْمُدَّةُ الثَّانِيَةُ من غَيْرِ فَيْءٍ إلَيْهَا فَقَدْ مَنَعَهَا
حَقَّهَا فَقَدْ ظَلَمَهَا فَيَقَعُ تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى جَزَاءً على ظُلْمِهِ
وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا بعد ما بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ ثَانِيَةٍ وَمَضَتْ
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى مُنْذُ تَزَوَّجَهَا تَبِينُ بِثَالِثَةٍ لِمَا
قُلْنَا فَإِنْ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ
فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لم يَقْرَبْهَا فيها لَا يَقَعُ عليها شَيْءٌ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَلَوْ آلَى منها مُطْلَقًا أو أَبَدًا
فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ولم يفيء ( ( ( يفئ ) ) ) إلَيْهَا حتى بَانَتْ
ثُمَّ لم يَتَزَوَّجْهَا حتى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى وَهِيَ في
الْعِدَّةِ لَا يَقَعُ عليها تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى لِأَنَّ الْيَمِينَ قد بَطَلَتْ
بَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أنها مُبَانَةٌ لَا تَسْتَحِقُّ
الْوَطْءَ على الزَّوْجِ فَلَا يَصِيرُ الزَّوْجُ بِالِامْتِنَاعِ عن قُرْبَانِهَا
في الْمُدَّةِ ظَالِمًا وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ كان لِهَذَا الْمَعْنَى ولم يُوجَدْ
فَلَا يَقَعُ لَكِنْ تَبْقَى الْيَمِينُ حتى لو تَزَوَّجَهَا وَمَضَتْ الْمُدَّةُ
من غَيْرِ فَيْءٍ يَقَعُ
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُدَّةَ الْمُنْعَقِدَةَ لَا تَبْطُلُ بِالْبَيْنُونَةِ
وَإِنْ كانت لَا تَنْعَقِدُ على الْمُبَانَةِ على طَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ وَلَوْ
قَرِبَهَا قبل أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْيَمِينَ
بَاقِيَةٌ وقد وُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ فَيَحْنَثُ
وَلَوْ كان الْإِيلَاءُ مُؤَقَّتًا إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أو
أَكْثَرَ فَمَضَتْ الْمُدَّةُ من غَيْرِ فَيْءٍ حتى وَقَعَ الطَّلَاقُ لَا يَبْقَى
الْإِيلَاءُ وَيَنْتَهِي حتى لو قَرِبَهَا لَا كَفَّارَةَ عليه وَلَوْ لم
يَقْرَبْهَا حتى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَا يَقَعُ عليها شَيْءٌ لِأَنَّ
الْمُؤَقَّتَ إلَى وَقْتٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْوَقْتِ
وَلَوْ حَلَفَ على قُرْبَانِ امْرَأَتِهِ بِعِتْقِ عَبْدٍ له ثُمَّ بَاعَهُ سَقَطَ
الْإِيلَاءُ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِقُرْبَانِهَا ثُمَّ
إذَا دخل في مِلْكِهِ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ قبل الْقُرْبَانِ عَادَ حُكْمُ
الْإِيلَاءِ حتى لو تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لم يَقْرَبْهَا فيها تَبِينُ
لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا تتقيد ( ( ( يتقيد ) ) ) بِالْمِلْكِ الْقَائِمِ لِلْحَالِ
كَمَنْ قال لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ ثُمَّ
اشْتَرَاهُ فَدَخَلَ الدَّارَ أَنَّهُ يُعْتَقُ
وَلَوْ دخل في مِلْكِهِ بَعْدَ الْقُرْبَانِ لَا يَعُودُ الْإِيلَاءُ
لِبُطْلَانِهِ بِالْقُرْبَانِ وَكَذَا إذَا مَاتَ الْعَبْدُ بَطَلَ الْإِيلَاءُ
لِأَنَّ الْجَزَاءَ صَارَ بِحَالٍ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ فَبَطَلَتْ
الْيَمِينُ
وَلَوْ قال إنْ قَرِبْتُك فَعَبْدَيَّ هَذَانِ حُرَّانِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا أو
بَاعَ أَحَدَهُمَا لَا يَبْطُلُ الْإِيلَاءُ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِالْقُرْبَانِ
عِتْقٌ وَلَوْ مَاتَا جميعا بَطَلَ الْإِيلَاءُ وَكَذَا لو بَاعَهُمَا جميعا مَعًا
أو على التَّعَاقُبِ وَلَوْ بَاعَهُمَا ثُمَّ دخل أَحَدُهُمَا في مِلْكِهِ
بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ قبل الْقُرْبَانِ عَادَ الْإِيلَاءُ فيه ثُمَّ إذَا دخل
الْآخَرُ في مِلْكِهِ عَادَ الْإِيلَاءُ فيه من وَقْتِ دُخُولِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ
الْعَائِدَ عَيْنُ الْأَوَّلِ وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قبل أَنْ
أَقْرَبَكِ بِشَهْرٍ فَقَرِبَهَا قبل تَمَامِ الشَّهْرِ من وَقْتِ الْيَمِينِ
بَطَلَتْ الْيَمِينُ وَلَوْ لم يَقْرَبْهَا حتى مَضَى شَهْرٌ يَصِيرُ مُولِيًا
لِأَنَّ مَعْنَى هذا الْكَلَامِ إذَا مَضَى شَهْرٌ لم أَقْرَبْكِ فيه فَأَنْتِ
طَالِقٌ إنْ قَرِبْتُكِ
وَلَوْ قال ذلك وَمَضَى شَهْرٌ لم يَقْرَبْهَا فيه لَصَارَ مُولِيًا لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ قَرِبْتُكِ إيلَاءٌ أَلَا تَرَى
أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا من غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ وهو الطَّلَاقُ
وَهَذَا حَدُّ المولى فإذا صَارَ مُولِيًا فَإِنْ قَرِبَهَا بَعْدَ ذلك وَقَعَ
الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِالْقُرْبَانِ وَإِنْ لم يَقْرَبْهَا
حتى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ لِأَنَّ هذا حُكْمُ
الْإِيلَاءِ في حَقِّ الْبِرِّ
وَلَوْ قال أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا قبل أَنْ أَقْرَبَكِ ولم يَقُلْ بِشَهْرٍ لَا
يَصِيرُ مُولِيًا وَيَقَعُ الطَّلَاقُ من سَاعَتِهِ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ
في وَقْتٍ هو قبل الْقُرْبَانِ وَكَمَا فَرَغَ من كَلَامِهِ فَقَدْ وُجِدَ هذا
الْوَقْتُ فَيَقَعُ
وَلَوْ قال قبل أَنْ أَقْرَبَكِ يَصِيرُ مُولِيًا لِأَنَّ قبل الشَّيْءِ اسْمٌ
لِزَمَانٍ مُتَقَدِّمٍ عليه مُطْلَقًا وَكَمَا فَرَغَ من هذه الْمَقَالَةِ فَقَدْ
وُجِدَ زَمَانٌ مُتَقَدِّمٌ عليه مُتَّصِلٌ بِهِ فما لم يُوجَدْ الْقُرْبَانُ لَا
يُعْرَفُ هذا الزَّمَانُ فَكَانَ هذا تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالْقُرْبَانِ
كَأَنَّهُ قال إنْ قَرِبْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنْ قَرِبَهَا وَقَعَ
الطَّلَاقُ بَعْدَ الْقُرْبَانِ بِلَا فَصْلٍ فَإِنْ تَرَكَهَا حتى مَضَتْ
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ كما لو نَصَّ على التَّعْلِيقِ
بِالْقُرْبَانِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
____________________
(3/179)
فَصْلٌ
وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الطَّلَاقِ فَحُكْمُ الطَّلَاقِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ
الطَّلَاقِ من الرَّجْعِيِّ وَالْبَائِنِ وَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَحْكَامٌ بَعْضُهَا أَصْلِيٌّ وَبَعْضُهَا من التَّوَابِعِ
أَمَّا الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ فَالْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ له هو نُقْصَانُ
الْعَدَدِ فَأَمَّا زَوَالُ الْمِلْكِ وَحِلُّ الْوَطْءِ فَلَيْسَ بِحُكْمٍ
أَصْلِيٍّ له لَازِمٍ حتى لَا يَثْبُتَ لِلْحَالِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ في
الثَّانِي بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنْ طَلَّقَهَا ولم يُرَاجِعْهَا بَلْ
تَرَكَهَا حتى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَانَتْ
وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ زَوَالُ حِلِّ الْوَطْءِ من أَحْكَامِهِ
الْأَصْلِيَّةِ حتى لَا يَحِلَّ له وَطْؤُهَا قبل الرَّجْعَةِ وَإِلَيْهِ مَالَ
أبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ
وَأَمَّا زَوَالُ الْمِلْكِ فَقَدْ اخْتَلَفَ فيه أَصْحَابُنَا قال بَعْضُهُمْ
الْمِلْكُ يَزُولُ في حَقِّ حِلِّ الْوَطْءِ لَا غَيْرُ
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَزُولُ أَصْلًا وَإِنَّمَا يَحْرُمُ وَطْؤُهَا مع قِيَامِ
الْمِلْكِ من كل وَجْهٍ كَالْوَطْءِ في حَالَةِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الطَّلَاقَ وَاقِعٌ لِلْحَالِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ له
أَثَرٌ نَاجِزٌ وهو زَوَالُ حِلِّ الْوَطْءِ وَزَوَالُ الْمِلْكِ في حَقِّ
الْحِلِّ وقد ظَهَرَ أَثَرُ الزَّوَالِ في الْأَحْكَامِ حتى لَا يَحِلَّ له
الْمُسَافَرَةُ بها وَالْخَلْوَةُ وَيَزُولَ قَسَمُهَا وَالْأَقْرَاءُ قبل
الرَّجْعَةِ مَحْسُوبَةٌ من الْعِدَّةِ وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى
الرَّجْعَةَ رَدًّا في كِتَابِهِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ عز وجل { وَبُعُولَتُهُنَّ
} أَيْ أَزْوَاجُهُنَّ { أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذلك } وَالرَّدُّ في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ
عن إعَادَةِ الْغَائِبِ فَيَدُلُّ على زَوَالِ الْمِلْكِ من وَجْهٍ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذلك }
وقَوْله تَعَالَى { وَبُعُولَتُهُنَّ } أَيْ أَزْوَاجُهُنَّ وقَوْله تَعَالَى
هُنَّ كِنَايَةٌ عن الْمُطَلَّقَاتِ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى زَوْجَهَا بَعْدَ
الطَّلَاقِ وَلَا يَكُونُ زَوْجًا إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ فَدَلَّ
أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَائِمَةٌ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَحَلَّ لِلرَّجُلِ وَطْءَ زَوْجَتِهِ بِقَوْلِهِ عز وجل {
وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا على أَزْوَاجِهِمْ أو ما
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } وقَوْله تَعَالَى {
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } وَقَوْلِهِ عز
وجل { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ من أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا } وَنَحْوِ ذلك من النُّصُوصِ وَالدَّلِيلُ على قِيَامِ
الْمِلْكِ من كل وَجْهٍ أَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَظِهَارُهُ وَإِيلَاؤُهُ
وَيَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا وَيَتَوَارَثَانِ وَهَذِهِ أَحْكَامُ الْمِلْكِ
الْمُطْلَقِ وَكَذَا يَمْلِكُ مُرَاجَعَتَهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا وَلَوْ كان مِلْكُ
النِّكَاحِ زَائِلًا من وَجْهٍ لَكَانَتْ الرَّجْعَةُ إنشاء النِّكَاحِ على
الْحُرَّةِ من غَيْرِ رِضَاهَا من وَجْهٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ الطَّلَاقُ وَاقِعٌ في الْحَالِ فَمُسَلَّمٌ لَكِنْ
التَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ قد يَظْهَرُ أَثَرُهُ لِلْحَالِ وقد يَتَرَاخَى عنه
كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَكَالتَّصَرُّفِ الْحِسِّيِّ وهو الرَّمْيُ
وَغَيْرُ ذلك فَجَازَ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُ هذا الطَّلَاقِ بَعْدَ انْقِضَاءَ
الْعِدَّةِ وهو زَوَالُ الْمِلْكِ وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ على أَنَّ له أَثَرًا
نَاجِزًا وهو نُقْصَانُ عَدَدِ الطَّلَاقِ وَنُقْصَانُ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ
وَغَيْرُ ذلك على ما عُرِفَ في الْخِلَافِيَّاتِ
أما الْمُسَافَرَةُ بها فَقَدْ قال زُفَرُ من أَصْحَابِنَا أنه يَحِلُّ له
الْمُسَافَرَةُ بها قبل الرَّجْعَةِ وَأَمَّا على قَوْلِ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ فَإِنَّمَا لَا تَحِلُّ لَا لِزَوَالِ الْمِلْكِ بَلْ لِكَوْنِهَا
مُعْتَدَّةً وقد قال اللَّهُ تَعَالَى في الْمُعْتَدَّاتِ { لَا تُخْرِجُوهُنَّ من
بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ }
نهى الرِّجَالَ عن الْإِخْرَاجِ وَالنِّسَاءَ عن الْخُرُوجِ فَيُسْقِطُ الزَّوْجُ
الْعِدَّةَ بِالرَّجْعَةِ لِتَزُولَ الْحُرْمَةُ ثُمَّ يُسَافِرُ
وَأَمَّا الْخَلْوَةُ فَإِنْ كان من قَصْدِهِ الرَّجْعَةُ لَا يُكْرَهُ وَإِنْ لم
يَكُنْ من قَصْدِهِ الْمُرَاجَعَةُ يُكْرَهُ لَكِنْ لَا لِزَوَالِ النِّكَاحِ
وَارْتِفَاعِ الْحِلِّ بَلْ لِلْإِضْرَارِ بها لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ من
قَصْدِهِ اسْتِيفَاءُ النِّكَاحِ بِالرَّجْعَةِ فَمَتَى خَلَا بها يَقَعُ بَيْنَهُمَا
الْمِسَاسُ عن شَهْوَةٍ فَيَصِيرُ مُرَاجِعًا لها ثُمَّ يُطَلِّقُهَا ثَانِيًا
فَيُؤَدِّي إلَى تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عليها فَتَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ وهو مَعْنَى
قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا } وَكَذَلِكَ
الْقَسَمُ لِأَنَّهُ لو ثَبَتَ الْقَسَمُ لَخَلَا بها فَيُؤَدِّي إلَى ما
ذَكَرْنَا إذَا لم يَكُنْ من قَصْدِهِ أَنْ يُرَاجِعَهَا حتى لو كان من قَصْدِهِ
أَنْ يُرَاجِعَهَا لَكَانَ لها الْقَسَمُ وَلَهُ الْخَلْوَةُ بها وَإِنَّمَا
احْتَسَبْنَا الْأَقْرَاءَ من الْعِدَّةِ لِانْعِقَادِ الطَّلَاقِ سَبَبًا
لِزَوَالِ الْمِلْكِ وَالْحِلِّ لِلْحَالِ على وَجْهٍ يَتِمُّ عليه عِنْدَ
انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وهو الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى
الرَّجْعَةَ رَدًّا لِأَنَّهُ يَجُوزُ إطْلَاقُ اسْمِ الرَّدِّ عِنْدَ انْعِقَادِ
سَبَبِ زَوَالِ الْمِلْك بِدُونِ الزَّوَالِ كما في الْبَيْعِ بِشَرْطِ خِيَارِ
الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَنَّهُ يُطْلَقُ اسْمُ الرَّدِّ عِنْدَ اخْتِيَارِ الْفَسْخِ
وَإِنْ لم يَزُلْ الْمِلْكُ عن الْبَائِعِ ولم يَثْبُتْ لِلْمُشْتَرِي
لِانْعِقَادِ سَبَبِ الزَّوَالِ بِدُونِ الزَّوَالِ وَيَكُونُ الرَّدُّ فَسْخًا
لِلسَّبَبِ وَمَنْعًا له عن الْعَمَلِ في إثْبَاتِ الزَّوَالِ
كَذَا هَهُنَا
وَيُسْتَحَبُّ لها أَنْ تَتَشَوَّفَ وَتَتَزَيَّنَ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ
قَائِمَةٌ من كل وَجْهٍ
وَيُسْتَحَبُّ لها ذلك لَعَلَّ زَوْجَهَا يُرَاجِعُهَا وَعَلَى هذا يبني حَقُّ
الرَّجْعَةِ أَنَّهُ ثَابِتٌ لِلزَّوْجِ بِالْإِجْمَاعِ سَوَاءٌ كان الطَّلَاقُ
وَاحِدًا أو اثْنَيْنِ أَمَّا عِنْدَنَا فَلِقِيَامِ الْمِلْكِ من كل وَجْهٍ
وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِقِيَامِهِ فِيمَا وَرَاءَ حِلِّ الْوَطْءِ
ثُمَّ الْكَلَامُ في الرَّجْعَةِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ شَرْعِيَّةِ الرَّجْعَةِ
وفي بَيَانِ مَاهِيَّتِهَا وفي بَيَانِ رُكْنِهَا وفي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ
الرُّكْنِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالرَّجْعَةُ مَشْرُوعَةٌ عُرِفَتْ شَرْعِيَّتُهَا
بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا الْكِتَابُ
الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } أَيْ
____________________
(3/180)
رَجْعَتِهِنَّ
وقَوْله تَعَالَى { وإذا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أو سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } وقَوْله تَعَالَى {
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ }
وَالْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ هو الرَّجْعَةُ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رَوَيْنَا عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما
لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ في حَالَةِ الْحَيْضِ قال رسول اللَّهِ لِعُمَرَ رضي
اللَّهُ عنه مُرْ ابْنَك يُرَاجِعْهَا الحديث
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا طَلَّقَ حَفْصَةَ رضي اللَّهُ عنها جَاءَهُ
جِبْرِيلُ فقال له رَاجِعْ حَفْصَةَ فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ
فَرَاجَعَهَا وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ طَلَّقَ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ رضي
اللَّهُ عنها ثُمَّ رَاجَعَهَا وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ إلَى الرَّجْعَةِ لِأَنَّ
الْإِنْسَانَ قد يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يَنْدَمُ على ذلك على ما أَشَارَ
الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ بِقَوْلِهِ { لَا تَدْرِي
لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلك أَمْرًا } فَيَحْتَاجُ إلَى التَّدَارُكِ
فَلَوْ لم تَثْبُتْ الرَّجْعَةُ لَا يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ لِمَا عَسَى لَا
تُوَافِقُهُ الْمَرْأَةُ في تَجْدِيدِ النِّكَاحِ وَلَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عنها
فَيَقَعُ في الزِّنَا
وَأَمَّا بَيَانُ مَاهِيَّةِ الرَّجْعَةِ فَالرَّجْعَةُ عِنْدَنَا اسْتِدَامَةُ
الْمِلْكِ الْقَائِمِ وَمَنْعُهُ من الزَّوَالِ وَفَسْخُ السَّبَبِ الْمُنْعَقِدِ
لِزَوَالِ الْمِلْكِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هِيَ اسْتِدَامَةٌ من وَجْهٍ وَإِنْشَاءٌ من وَجْهٍ
بِنَاءً على أَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ قَائِمٌ من وَجْهٍ زَائِلٌ من وَجْهٍ وهو
عِنْدَنَا قَائِمٌ من كل وَجْهٍ وَعَلَى هذا يَنْبَنِي أَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ
بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الرَّجْعَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ شَرْطٌ
وَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطُ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ وَإِنْشَائِهِ
لَا شَرْطُ الْبَقَاءِ وَالرَّجْعَةُ اسْتِيفَاءُ الْعَقْدِ عِنْدَنَا فَلَا
يُشْتَرَطُ له الشَّهَادَةُ وَعِنْدَهُ هِيَ اسْتِيفَاءٌ من وَجْهٍ وَإِنْشَاءٌ من
وَجْهٍ فَيُشْتَرَطُ لها الشَّهَادَةُ من حَيْثُ هِيَ إنشاء لَا من حَيْثُ هِيَ
اسْتِيفَاءٌ فَصَحَّ الْبِنَاءُ
ثُمَّ الْكَلَامُ فيه على وَجْهِ الِابْتِدَاءِ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وأشهدوا ( ( ( فإذا ) ) ) ذوي ( ( (
بلغن ) ) ) عدل ( ( ( أجلهن ) ) ) منكم ( ( ( فأمسكوهن ) ) ) } فَظَاهِرُ
الْأَمْرِ وُجُوبُ الْعَمَلِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ الشَّهَادَةِ
وَلَنَا نُصُوصُ الرَّجْعَةِ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُطْلَقَةً عن شَرْطِ
الْإِشْهَادِ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِشْهَادُ عليها إذْ لو لم يَشْهَدْ
لَا يَأْمَنُ من أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَلَا تُصَدِّقُهُ الْمَرْأَةُ في
الرَّجْعَةِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَنُدِبَ
إلَى الْإِشْهَادِ لِهَذَا وَعَلَى هذا تُحْمَلُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وفي
الْآيَةِ ما يَدُلُّ عليه لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال { فإذا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أو فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } جَمَعَ
بين الْفُرْقَةِ وَالرَّجْعَةِ أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْإِشْهَادِ بِقَوْلِهِ {
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ }
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِشْهَادَ على الْفُرْقَةِ ليس بِوَاجِبٍ بَلْ هو
مُسْتَحَبٌّ كَذَا على الرَّجْعَةِ أو تُحْمَلُ على هذا تَوْفِيقًا بين النُّصُوصِ
بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَكَذَا لَا مَهْرَ في الرَّجْعَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ فيها
رِضَا الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا من شَرَائِطِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لَا من شَرْطِ
الْبَقَاءِ وَكَذَا إعْلَامُهَا بِالرَّجْعَةِ ليس بِشَرْطٍ حتى لو لم يُعْلِمْهَا
بِالرَّجْعَةِ جَازَتْ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ حَقُّهُ على الْخُلُوصِ لِكَوْنِهِ
تَصَرُّفًا في مِلْكِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ فيه
إعْلَامُ الْغَيْرِ كَالْإِجَازَةِ في الْخِيَارِ لَكِنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ
وَمُسْتَحَبٌّ لِأَنَّهُ إذَا رَاجَعَهَا ولم يُعْلِمْهَا بِالرَّجْعَةِ فَمِنْ
الْجَائِزِ أنها تَتَزَوَّجُ عِنْدَ مُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ ظَنًّا منها إن
عِدَّتَهَا قد انْقَضَتْ فَكَانَ تَرْكُ الْإِعْلَامِ فيه تَسَبُّبًا إلَى عَقْدٍ
حَرَامٍ عَسَى فَاسْتُحِبَّ له أَنْ يُعْلِمَهَا
وَلَوْ رَاجَعَهَا ولم يُعْلِمْهَا حتى انْقَضَتْ مُدَّةُ عِدَّتِهَا
وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ جاء زَوْجُهَا الْأَوَّلُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ
سَوَاءٌ كان دخل بها الثَّانِي أو لم يَدْخُلْ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
الثَّانِي لِأَنَّ الرَّجْعَةَ قد صَحَّتْ بِدُونِ عِلْمِهَا فَتَزَوَّجَهَا
الثَّانِي وَهِيَ امْرَأَةُ الْأَوَّلِ فلم يَصِحَّ وَعَلَى هذا تُبْنَى
الرَّجْعَةُ بِالْفِعْلِ بِأَنْ جَامَعَهَا أنها جَائِزَةٌ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ الرَّجْعَةُ إلَّا بِالْقَوْلِ
وَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ أَنَّ الرَّجْعَةَ عِنْدَهُ إنْشَاءُ
النِّكَاحِ من وَجْهٍ وَإِنْشَاءُ النِّكَاحِ من كل وَجْهٍ لَا يَجُوزُ إلَّا
بِالْقَوْلِ فَكَذَا إنْشَاؤُهُ من وَجْهٍ وَعِنْدَنَا هِيَ اسْتِدَامَةُ
النِّكَاحِ من كل وَجْهٍ فَلَا تَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ ويبني أَيْضًا على حِلِّ
الْوَطْءِ وَحُرْمَتِهِ
وَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ الْوَطْءَ لَمَّا كان حَلَالًا عِنْدَنَا فإذا وَطِئَهَا
فَلَوْ لم يُجْعَلْ الْوَطْءُ دَلَالَةَ الرَّجْعَةِ وَرُبَّمَا لَا يُرَاجِعُهَا
بِالْقَوْلِ بَلْ يَتْرُكُهَا حتى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فَيَزُولَ الْمِلْكُ
عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالطَّلَاقِ السَّابِقِ لِأَنَّهُ لَا فِعْلَ منه
إلَّا ذلك فَيَزُولُ الْمِلْكُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ وُجُودِ الطَّلَاقِ
فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْكُ كان زَائِلًا من وَقْتِ الطَّلَاقِ من وَجْهٍ
فَيَظْهَرُ أَنَّ الْوَطْءَ كان حَرَامًا فَجُعِلَ الْإِقْدَامُ على الْوَطْءِ
دَلَالَةَ الرَّجْعَةِ صِيَانَةً له عن الْحَرَامِ وَعِنْدَهُ لَمَّا كان
الْوَطْءُ حَرَامًا لَا يُقْدَمُ عليه فَلَا ضَرُورَةَ إلَى جَعْلِهِ دَلَالَةَ
الرَّجْعَةِ
ثُمَّ ابْتِدَاءُ الدَّلِيلِ في الْمَسْأَلَةِ قَوْله تَعَالَى { وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ }
____________________
(3/181)
سَمَّى
الرَّجْعَةَ رَدًّا وَالرَّدُّ لَا يَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ
وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ
قال النبي على الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تَرُدَّهُ وقَوْله تَعَالَى {
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } وَقَوْلُهُ عز وجل { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ }
سَمَّى الرَّجْعَةَ إمْسَاكًا وَالْإِمْسَاكُ حَقِيقَةً يَكُونُ بِالْفِعْلِ
وَكَذَا إنْ جَامَعَتْهُ وهو نَائِمٌ أو مَجْنُونٌ لِأَنَّ ذلك حَلَالٌ لها
عِنْدَنَا فَلَوْ لم يُجْعَلْ رَجْعَةً لَصَارَتْ مُرْتَكِبَةً لِلْحَرَامِ على
تَقْدِيرِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ من غَيْرِ رَجْعَةٍ من الزَّوْجِ فَجُعِلَ ذلك
منها رَجْعَةً شَرْعًا ضَرُورَةَ التَّحَرُّزِ عن الْحَرَامِ وَلِأَنَّ جِمَاعَهَا
كَجِمَاعِهِ لها في بَابِ التَّحْرِيمِ فَكَذَا في بَابِ الرَّجْعَةِ
وَكَذَلِكَ إذَا لَمَسَهَا لِشَهْوَةٍ أو نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا عن شَهْوَةٍ
فَهُوَ مُرَاجِعٌ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ لَمَسَ أو نَظَرَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لم يكن
( ( ( يك ) ) ) رَجْعَةً لِأَنَّ ذلك حَلَالٌ في الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ
الْقَابِلَةَ وَالطَّبِيبَ يَنْظُرَانِ إلَى الْفَرْجِ وَيَمَسُّ الطَّبِيبُ
عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى جَعْلِهِ
رَجْعَةً
وَكَذَلِكَ إذَا نَظَرَ إلَى غَيْرِ الْفَرْجِ لِشَهْوَةٍ لِأَنَّ ذلك أَيْضًا
مُبَاحٌ في الْجُمْلَةِ وَيُكْرَهُ التَّقْبِيلُ وَاللَّمْسُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ
إذَا لم يُرِدْ بِهِ الْمُرَاجَعَةَ وَكَذَا يُكْرَهُ أَنْ يَرَاهَا مُتَجَرِّدَةً
لِغَيْرِ شَهْوَةٍ كَذَا قال أبو يُوسُفَ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ من أَنْ
يَشْتَهِيَ فَيَصِيرَ مُرَاجِعًا من غَيْرِ إشْهَادٍ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَكَذَا
لَا يَأْمَنُ من الْإِضْرَارِ بها لِجَوَازِ أَنْ يَشْتَهِيَ فَيَصِيرَ بِهِ
مُرَاجِعًا وهو لَا يُرِيدُ إمْسَاكَهَا فَيُطَلِّقُهَا فَتَطُولُ الْعِدَّةُ
عليها فَتَتَضَرَّرُ بِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى نهى عن ذلك بِقَوْلِهِ { وَلَا
تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا } وَكَذَا قال أبو يُوسُفَ إن الْأَحْسَنَ
إذَا دخل عليها أَنْ يَتَنَحْنَحَ وَيُسْمِعَهَا خَفْقَ نَعْلَيْهِ ليس من أَجْلِ
أنها حَرَامٌ وَلَكِنْ لَا يَأْمَنُ من أَنْ يَرَى الْفَرْجَ بِشَهْوَةٍ فَيَكُونَ
رَجْعَةً بِغَيْرِ إشْهَادٍ وَهَذِهِ عِبَارَةُ أبي يُوسُفَ
وَلَوْ نَظَرَ إلَى دُبُرِهَا مَوْضِعِ خُرُوجِ الْغَائِطِ بِشَهْوَةٍ لم يَكُنْ
ذلك رَجْعَةً كَذَا ذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ الْأَخِيرُ وكان
يقول أَوَّلًا أنه يَكُونُ رَجْعَةً ثُمَّ رَجَعَ حَكَى إبْرَاهِيمُ بن رُسْتُمَ
رُجُوعَهُ وهو قِيَاسُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ ذلك السَّبِيلَ لَا يَجْرِي
مَجْرَى الْفَرْجِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَطْءَ فيه لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَهُ فَكَانَ النَّظَرُ
إلَيْهِ كَالنَّظَرِ إلَى سَائِرِ الْبَدَنِ وَلِأَنَّ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ
بِشَهْوَةٍ إنَّمَا كان رَجْعَةً لِكَوْنِ الْوَطْءِ حَلَالًا تَقْرِيرًا
لِلْحِلِّ صِيَانَةً عن الْحَرَامِ وَالنَّظَرُ إلَى هذا الْمَحَلِّ عن شَهْوَةٍ
مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْحِلَّ بِحَالٍ كما أَنَّ الْفِعْلَ فيه لَا يَحْتَمِلُ
الْحِلَّ بِحَالٍ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا على الرَّجْعَةِ
وَلَوْ نَظَرَتْ إلَى فَرْجِهِ بِشَهْوَةٍ قال أبو يُوسُفَ قِيَاسُ قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ أَنْ يَكُونَ رَجْعَةً وَهَذَا قَبِيحٌ وَلَا يَكُونُ رَجْعَةً وَكَذَا
قال أبو يُوسُفَ وَالصَّحِيحُ قِيَاسُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا
فِيمَا إذَا جَامَعَتْهُ وهو نَائِمٌ أو مَجْنُونٌ وَلِأَنَّ النَّظَرَ حَلَالٌ
لها كَالْوَطْءِ فَيُجْعَلُ رَجْعَةً تَقْرِيرًا لِلْحِلِّ وَصِيَانَةً عن
الْحُرْمَةِ وَلِأَنَّ النَّظَرَيْنِ يَسْتَوِيَانِ في التَّحْرِيمِ
أَلَا تَرَى أَنَّ نَظَرَهَا إلَى فَرْجِهِ كَنَظَرِهِ إلَى فَرْجِهَا في
التَّحْرِيمِ فَكَذَا في الرَّجْعَةِ وَلَوْ لَمَسَتْهُ لِشَهْوَةٍ مُخْتَلِسَةً
أو كان نَائِمًا أو اعْتَرَفَ الزَّوْجُ أَنَّهُ كان بِشَهْوَةٍ فَهُوَ رَجْعَةٌ
في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وقال أبو يُوسُفَ ليس بِرَجْعَةٍ فَأَبُو
حَنِيفَةَ سَوَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ بِشَرْطِ
الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي إذَا لَمَسَتْ الْمُشْتَرِيَ أَنَّهُ يَبْطُلُ خِيَارُهُ
وَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فقال هَهُنَا يَكُونُ رَجْعَةً وَهُنَاكَ لَا
يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ في الْجَارِيَةِ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ فَرَّقَ فقال
ثَمَّةَ يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ وَهَهُنَا لَا يَكُونُ رَجْعَةً وفي
رِوَايَةٍ سَوَّى بَيْنَهُمَا فقال فِعْلُهَا لَا يَكُونُ رَجْعَةً هَهُنَا وَلَا
فِعْلُ الْأَمَةِ يَكُونُ إجَازَةً ثَمَّةَ فَعَلَى هذه الرِّوَايَةِ لَا يُحْتَاجُ
إلَى الْفَرْقِ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ له على الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ بُطْلَانَ الْخِيَارِ
لَا يَقِفُ على فِعْلِ الْمُشْتَرِي بَلْ قد يَبْطُلُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ كما إذَا
تعينت ( ( ( تعيبت ) ) ) في يَدِهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ
فَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ إلَّا بِاخْتِيَارِ الزَّوْجِ
حتى قال أبو يُوسُفَ إنَّهَا إذَا لَمَسَتْهُ فَتَرَكَهَا وهو يَقْدِرُ على
مَنْعِهَا كان ذلك رَجْعَةً لِأَنَّهُ لَمَّا مَكَّنَهَا من اللَّمْسِ فَقَدْ
حَصَلَ ذلك بِاخْتِيَارِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمَسَهَا وَكَذَلِكَ قال أبو
يُوسُفَ إذَا ابْتَدَأَتْ اللَّمْسَ وهو مُطَاوِعٌ لها أَنَّهُ يَكُونُ رَجْعَةً
لِمَا قُلْنَا
وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ إسْقَاطَ الْخِيَارِ إدْخَالُ الشَّيْءِ في
مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَالْأَمَةُ لَا تَمْلِكُ ذلك وَلَيْسَتْ الرَّجْعَةُ
إدْخَالَ الْمَرْأَةِ على مِلْكِ الزَّوْجِ لِأَنَّهَا على مِلْكِهِ فَلَوْ
جَعَلْنَاهُ مراجعا بِفِعْلِهَا لم تَمْلِكْهُ ما لم يَكُنْ مِلْكًا له فَصَحَّتْ
الرَّجْعَةُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا وهو أَنَّ اللَّمْسَ
حَلَالٌ من الْجَانِبَيْنِ عِنْدَنَا فَلَزِمَ تَعَذُّرُ الْحِلِّ فيه
وَصِيَانَتُهُ عن الْحُرْمَةِ وَذَلِكَ يَجْعَلُهُ رَجْعَةً على ما سَبَقَ
بَيَانُهُ كما قال في الْجَارِيَةِ أن اللَّمْسَ منها لو لم يُجْعَلْ إجَازَةً
لِلْبَيْعِ وَرُبَّمَا يُفْسَخُ البيع فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ اللَّمْسَ حَصَلَ في
مِلْكِ الْغَيْرِ من وَجْهٍ وما
____________________
(3/182)
ذَكَرَهُ
أبو يُوسُفَ أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تُعْتَبَرُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ
يُشْكِلُ بِمَا إذَا جَامَعَتْهُ وهو نَائِمٌ أَنَّهُ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ من
غَيْرِ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ وما ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّ إسْقَاطَ الْخِيَارِ
إدْخَالُ الْمَبِيعِ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَلَيْسَ بِمَمْنُوعٍ بَلْ الْمَبِيعُ
يَدْخُلُ في مِلْكِهِ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ على أَنَّ
هذا فَرْقًا بين الْمَسْأَلَتَيْنِ فِيمَا وَرَاءَ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ
وَالْفَرْقُ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ فِيمَا وَرَاءَ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ لَا
يَقْدَحُ في الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا في الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ
قال مُحَمَّدٌ وَلَوْ صَدَّقَهَا الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ أنها لَمَسَتْهُ
بِشَهْوَةٍ لَكَانَ ذلك رَجْعَةً لِأَنَّ الْوَرَثَةَ قَامُوا مَقَامَهُ
فَكَأَنَّهُ صَدَّقَهَا قبل مَوْتِهِ
قال وَلَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ أنها قَبَّلَتْهُ لِشَهْوَةٍ لم تُقْبَلْ
شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ مَعْنًى في الْقَلْبِ لَا يَقِفُ عليه
الشُّهُودُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فيه وَإِنْ شَهِدُوا على الْجِمَاعِ
قُبِلَتْ لِأَنَّ الْجِمَاعَ مَعْنًى يُوقَفُ عليه وَيُشَاهَدُ وَلَا يَحْتَاجُ
إلَى شَرْطِ الشَّهْوَةِ فَتُقْبَلُ فيه الشَّهَادَةُ
وَأَمَّا رُكْنُ الرَّجْعَةِ فَهُوَ قَوْلٌ أو فِعْلٌ يَدُلُّ على الرَّجْعَةِ
أَمَّا الْقَوْلُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لها رَاجَعْتُك أو رَدَدْتُك أو رَجَعْتُك
أو أَعَدْتُك أو رَاجَعْت امْرَأَتِي أو رَاجَعْتهَا أو رَدَّدْتهَا أو أَعَدْتهَا
وَنَحْوُ ذلك لِأَنَّ الرَّجْعَةَ رَدٌّ وَإِعَادَةٌ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى
وَلَوْ قال لها نَكَحْتُك أو تَزَوَّجْتُك كان رَجْعَةً في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ رَجْعَةً
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ قَائِمٌ
من كل وَجْهٍ فَكَانَ قَوْلُهُ نَكَحْتُك إثْبَاتَ الثَّابِتِ وَأَنَّهُ مُحَالٌ
فلم يَكُنْ مَشْرُوعًا فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ شَرْعًا فلم يَكُنْ رَجْعَةً
بِخِلَافِ قَوْلِهِ رَاجَعْتُك لِأَنَّ ذلك ليس بِإِثْبَاتِ النِّكَاحِ بَلْ هو
اسْتِيفَاءُ النِّكَاحِ الثَّابِتِ وَأَنَّهُ مَحَلٌّ لِلِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّهُ
انْعَقَدَ سَبَبُ زَوَالِهِ وَالرَّجْعَةُ فَسْخُ السَّبَبِ وَمَنْعٌ له عن
الْعَمَلِ فَيَصِحُّ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ النِّكَاحَ وَإِنْ كان ثَابِتًا حَقِيقَةً
لَكِنْ الْمَحَلُّ لَا يَحْتَمِلُ الْإِثْبَاتَ فَيُجْعَلُ مَجَازًا عن
اسْتِيفَاءِ الثَّابِتِ لِمَا بَيْنَهُمَا من الْمُشَابَهَةِ تَصْحِيحًا
لِتَصَرُّفِهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وقد قِيلَ في أَحَدِ تَأْوِيلَيْ قَوْله
تَعَالَى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذلك } أَيْ أَزْوَاجُهُنَّ
أَحَقُّ بِنِكَاحِهِنَّ في الْعِدَّةِ من غَيْرِهِمْ من الرِّجَالِ وَالنِّكَاحُ
الْمُضَافُ إلَى الْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَدَلَّ على ثُبُوتِ الرجعة (
( ( الرجعية ) ) ) بِالنِّكَاحِ
وَأَمَّا الْفِعْلُ الدَّالُّ على الرَّجْعَةِ فَهُوَ أَنْ يُجَامِعَهَا أو
يَمَسَّ شيئا من أَعْضَائِهَا لِشَهْوَةٍ أو يَنْظُرَ إلَى فَرْجِهَا عن شَهْوَةٍ
أو يُوجَدَ شَيْءٌ من ذلك هَهُنَا على ما بَيَّنَّا
وَوَجْهُ دَلَالَةِ هذه الْأَفْعَالِ على الرَّجْعَةِ ما ذَكَرْنَا فِيمَا
تَقَدَّمَ وَهَذَا عِنْدَنَا فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلَا تَثْبُتُ
الرَّجْعَةُ إلَّا بِالْقَوْلِ بِنَاءً على أَصْلِ ما ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ عز
وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الرَّجْعَةِ فَمِنْهَا قِيَامُ الْعِدَّةِ
فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ
اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ يَزُولُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَا
تُتَصَوَّرُ الِاسْتِدَامَةُ إذْ الِاسْتِدَامَةُ لِلْقَائِمِ لِصِيَانَتِهِ عن
الزَّوَالِ لَا لِلْمُزِيلِ كما في الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ
إذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ الْمِلْكِ في
الْمَبِيعِ بِزَوَالِ مِلْكِهِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ كَذَا هذا
وَلَوْ طَهُرَتْ عن الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ ثُمَّ رَاجَعَهَا فَهَذَا على
وَجْهَيْنِ إنْ كانت أَيَّامُهَا في الْحَيْضِ عَشْرًا لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ وَتَحِلُّ
لِلْأَزْوَاجِ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ انْقِضَاءَهَا
بِانْقِضَاءِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وقد انْقَضَتْ بِيَقِينٍ لِانْقِطَاعِ دَمِ
الْحَيْضِ بِيَقِينٍ إذْ لَا مَزِيدَ لِلْحَيْضِ على عَشَرَةٍ
أَلَا تَرَى أنها إذَا رَأَتْ أَكْثَرَ من عَشَرَةٍ لم يَكُنْ الزَّائِدُ على
الْعَشَرَةِ حَيْضًا فَتَيَقَّنَّا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَا رَجْعَةَ بَعْدَ
انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ
وَإِنْ كانت أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَإِنْ كانت تَجِدُ مَاءً فلم
تَغْتَسِلْ وَلَا تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ بِهِ وَلَا مضي عليها وَقْتٌ كَامِلٌ من
أَوْقَاتِ أَدْنَى الصَّلَوَاتِ إلَيْهَا لَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ وَلَا
تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا أَعْرِفُ بَعْدَ الْأَقْرَاءِ مَعْنًى مُعْتَبَرًا في
انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ
وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ عز وجل { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ }
أَيْ يَغْتَسِلْنَ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال الزَّوْجُ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا
ما دَامَتْ في مُغْتَسَلِهَا وروى ما لم تَغْتَسِلْ من الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ
وَأَمَّا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه رَوَى عَلْقَمَةُ عن
عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كُنْت عِنْدَ عُمَرَ رضي
اللَّهُ عنه فَجَاءَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فقال الرَّجُلُ زَوْجَتِي طَلَّقْتُهَا
وَرَاجَعْتُهَا فقالت ما يَمْنَعُنِي ما صَنَعَ أَنْ أَقُولَ ما كان أنه
طَلَّقَنِي وَتَرَكَنِي حتى حِضْت الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ وَانْقَطَعَ الدَّمُ
وَغَلَّقْت بَابِي وَوَضَعْت غُسْلِي وَخَلَعْت ثِيَابِي فَطَرَقَ الْبَابَ فقال
قد رَاجَعْتُك فقال عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه قُلْ فيها يا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ
فَقُلْت أَرَى أَنَّ الرَّجْعَةَ قد صَحَّتْ ما لم تَحِلَّ لها الصَّلَاةُ فقال
عُمَرُ لو قُلْت غير هذا لم أَرَهُ صَوَابًا
____________________
(3/183)
وَرُوِيَ
عن مَكْحُولٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ وَأَبَا
الدَّرْدَاءِ وَعُبَادَةَ بن الصَّامِتِ وَعَبْدَ اللَّهِ بن قَيْسٍ
الْأَشْعَرِيَّ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ في الرَّجُلِ يُطَلِّقُ
امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً أو تَطْلِيقَتَيْنِ أنه أَحَقُّ بها ما لم تَغْتَسِلْ من
الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ تَرِثُهُ وَيَرِثُهَا ما دَامَتْ في الْعِدَّةِ
فَاتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على اعْتِبَارِ الْغُسْلِ فَكَانَ
قَوْلُهُ مُخَالِفًا لِلْحَدِيثِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ
وَلِأَنَّ أَيَّامَهَا إذَا كانت أَقَلَّ من عَشَرَةٍ لم تُسْتَيْقَنْ
بِانْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ لِاحْتِمَالِ الْمُعَاوَدَةِ في أَيَّامِ الْحَيْضِ
إذْ الدَّمُ لَا يُدَرُّ دَرًّا وَاحِدًا وَلَكِنَّهُ يُدَرُّ مَرَّةً وَيَنْقَطِعُ
أُخْرَى فَكَانَ احْتِمَالُ الْعَوْدِ قَائِمًا وَالْعَائِدُ يَكُونُ دَمَ حَيْضٍ
إلَى الْعَشَرَةِ فلم يُوجَدْ انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضِ بِيَقِينٍ فَلَا يَثْبُتُ
الطُّهْرُ بِيَقِينٍ فَتَبْقَى الْعِدَّةُ لِأَنَّهَا كانت ثَابِتَةً بِيَقِينٍ
وَالثَّابِتُ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ كَمَنْ اسْتَيْقَنَ بِالْحَدَثِ
وَشَكَّ في الطَّهَارَةِ بِخِلَافِ ما إذَا كانت أَيَّامُهَا عَشْرًا لِأَنَّهُ
هُنَاكَ لَا يَحْتَمِلُ عَوْدُ دَمِ الْحَيْضِ بَعْدَ الْعَشَرَةِ إذْ الْعَشَرَةُ
أَكْثَرُ الْحَيْضِ فَتَيَقَّنَّا بِانْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ فَيَزُولُ
الْحَيْضُ ضَرُورَةً وَيَثْبُتُ الطُّهْرُ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ على ما بَيَّنَّا
وَالشَّافِعِيُّ بَنَى قَوْلَهُ في هذا على أَصْلِهِ أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي
بِالْأَطْهَارِ لَا بِالْحِيَضِ فإذا طَعَنَتْ في أَوَّلِ الْحَيْضَةِ
الثَّالِثَةِ فَقَدْ انْقَضَتْ الْعِدَّةُ من غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى شَيْءٍ آخَرَ
وَيُسْتَدَلُّ على بُطْلَانِ هذا الْأَصْلِ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى فَيَبْطُلُ الْفَرْعُ ضَرُورَةً
وإذا اغْتَسَلَتْ انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لها حُكْمٌ من
أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ وهو إبَاحَةُ أَدَاءِ الصَّلَاةِ إذْ لَا يُبَاحُ
أَدَاؤُهَا لِلْحَائِضِ فَتَقَرَّرَ الِانْقِطَاعُ بِقَرِينَةِ الِاغْتِسَالِ
فَتَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ
وَكَذَا إذَا لم تَغْتَسِلْ لَكِنْ مَضَى عليها وَقْتُ الصَّلَاةِ تَنْقَطِعُ
الرَّجْعَةُ لِأَنَّهُ لَمَّا مَضَى عليها وَقْتُ الصَّلَاةِ صَارَتْ الصَّلَاةُ
دَيْنًا في ذِمَّتِهَا وَهَذَا من أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ إذْ لَا تَجِبُ
الصَّلَاةُ على الْحَائِضِ فَلَا تَصِيرُ دَيْنًا عليها فَاسْتَحْكَمَ
الِانْقِطَاعُ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ فَانْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ
وَكَذَلِكَ إذَا لم تَجِدْ الْمَاءَ بِأَنْ كانت مُسَافِرَةً فَتَيَمَّمَتْ
وَصَلَّتْ لِأَنَّ صِحَّةَ الصَّلَاةِ حُكْمٌ من أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ إذْ لَا
صِحَّةَ لها مع قِيَامِ الْحَيْضِ فَقَدْ يُضَافُ إلَى الِانْقِطَاعِ حُكْمٌ من
أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ فَاسْتَحْكَمَ الِانْقِطَاعُ فَتَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ
فَأَمَّا إذَا تَيَمَّمَتْ ولم تُصَلِّ فَهَلْ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ
اخْتَلَفَ فيه أَصْحَابُنَا
قال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ لَا تَنْقَطِعُ وقال مُحَمَّدٌ تَنْقَطِعُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أنها لَمَّا تَيَمَّمَتْ فَقَدْ ثَبَتَ لها حُكْمٌ من أَحْكَامِ
الطَّاهِرَاتِ وهو إبَاحَةُ الصَّلَاةِ فَلَا يَبْقَى الْحَيْضُ ضَرُورَةً كما لو
اغْتَسَلَتْ أو تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ بِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ أَيَّامَهَا إذَا كانت دُونَ
الْعَشَرَةِ لم تَسْتَيْقِنْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِنَفْسِ انْقِطَاعِ الدَّمِ
من غَيْرِ قَرِينَةٍ تَنْضَمُّ إلَيْهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُعَاوِدَهَا الدَّمُ في
الْعَشَرَةِ فَتَبَيَّنَ أنها حَائِضٌ وَالْحَيْضُ كان ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا
يُحْكَمُ بِزَوَالِهِ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الطُّهْرِ بِيَقِينٍ ولم يُوجَدْ
وَبِقَرِينَةِ التَّيَمُّمِ لَا تَصِيرُ في حُكْمِ الطَّاهِرَاتِ بِيَقِينٍ
لِأَنَّهُ ليس بِطَهُورٍ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا جُعِلَ طَهُورًا شَرْعًا عِنْدَ
عَدَمِ الْمَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا
طَيِّبًا }
وَالدَّلِيلُ عليه أنها لو رَأَتْ الْمَاءَ قبل الشُّرُوعِ في الصَّلَاةِ أو بعد
ما شَرَعَتْ فيها قبل الْفَرَاغِ منها بَطَلَ تَيَمُّمُهَا فَكَانَ التَّيَمُّمُ
طَهَارَةً مُطْلَقَةً شَرْعًا
لَكِنْ حَالُ عَدَمِ الْمَاءِ وَاحْتِمَالُ وُجُودِ الْمَاءِ في كل سَاعَةٍ
قَائِمٌ فَكَانَ احْتِمَالُ عَدَمِ الطَّهُورِيَّةِ ثَابِتًا فلم تُوجَدْ
الطَّهَارَةُ الْحَاصِلَةُ بِيَقِينٍ فَتَبْقَى نَجَاسَةُ الْحَيْضِ إلَّا أَنَّهُ
أُبِيحَ لها أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِهِ لِعَدَمِ الْمَاءِ في الْحَالَيْنِ من حَيْثُ
الظَّاهِرُ مع احْتِمَالِ الْوُجُودِ فإذا لم تَجِدْ الْمَاءَ وَصَلَّتْ بِهِ
وَفَرَغَتْ من الصَّلَاةِ فَقَدْ اُسْتُحْكِمَ الْعَدَمُ فَاسْتَحْكَمَتْ
الطَّهَارَةُ الْحَاصِلَةُ بِالتَّيَمُّمِ فَلَا يَبْقَى الْحَيْضُ
فَأَمَّا قبل ذلك فَاحْتِمَالُ عَدَمِ الطَّهَارَةِ ثَابِتٌ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ
الْمَاءِ فَلَا يَكُونُ طَهَارَةً شَرْعًا بِيَقِينٍ بَلْ مع الِاحْتِمَالِ
فَيَبْقَى حُكْمُ الْحَيْضِ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ بِخِلَافِ الِاغْتِسَالِ
لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ بِيَقِينٍ لِكَوْنِ الْمَاءِ طَهُورًا مُطْلَقًا
فإذا ثَبَتَتْ الطَّهَارَةُ بِيَقِينٍ انْتَفَى الْحَيْضُ ضَرُورَةً لِأَنَّهُ
ضِدُّهَا بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ على ما بَيَّنَّاهُ وَبِخِلَافِ ما إذَا مَضَى
عليها وَقْتٌ كَامِلٌ من أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ صَارَتْ دَيْنًا
في ذِمَّتِهَا بِيَقِينٍ فَقَدْ ثَبَتَ في حَقِّهَا حُكْمٌ من أَحْكَامِ
الطَّاهِرَاتِ بِيَقِينٍ فَلَا يَبْقَى الْحَيْضُ بِيَقِينٍ فَتَنْقَضِيَ
الْعِدَّةُ بِيَقِينٍ
وَلَوْ اغْتَسَلَتْ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ بِنَفْسِ
الِاغْتِسَالِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَكِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ لِأَنَّ
سُؤْرَ الْحِمَارِ مَشْكُوكٌ فيه إمَّا في طَهُورِيَّتِهِ أو في طَهَارَتِهِ على
اخْتِلَافِهِمْ في ذلك
فَإِنْ كان ذلك طَاهِرًا أو طَهُورًا انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ وَتَحِلُّ
لِلْأَزْوَاجِ لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِتَقَرُّرِ الِانْقِطَاعِ بِالِاغْتِسَالِ
وَإِنْ لم يَكُنْ أو كان طَاهِرًا غير طَهُورٍ لَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ وَلَا
تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ فإذا وَقَعَ الشَّكُّ لَزِمَ الِاحْتِيَاطُ في ذلك كُلِّهِ
وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا وهو أَنْ تَنْقَطِعَ الرَّجْعَةُ وَلَا تَحِلُّ
لِلْأَزْوَاجِ أَخْذًا بِالثِّقَةِ في الْحُكْمَيْنِ احْتِرَازًا عن الْحُرْمَةِ
في الْبَابَيْنِ وَلَا
____________________
(3/184)
تُصَلِّي
بِذَلِكَ الْغُسْلِ ما لم تَتَيَمَّمْ
وَلَوْ اغْتَسَلَتْ الْمُعْتَدَّةُ وَبَقِيَ من بَدَنِهَا شَيْءٌ لم يُصِبْهُ
الْمَاءُ فَالْبَاقِي لَا يَخْلُو إما أن كان عُضْوًا كَامِلًا وَأَمَّا إنْ كان
أَقَلَّ من عُضْوٍ فَإِنْ كان عُضْوًا كَامِلًا فَلَهُ الرَّجْعَةُ وَإِنْ كان
أَقَلَّ من عُضْوٍ فَلَا رَجْعَةَ له ثُمَّ اخْتَلَفَ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فقال
أبو يُوسُفَ قَوْلُهُ لَا رَجْعَةَ له في الْأَقَلِّ
هذا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ له فيه الرَّجْعَةُ فَمُحَمَّدٌ قَاسَ
الْمَتْرُوكَ إذَا كان عُضْوًا على تَرْكِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ
وقال رَحِمَهُ اللَّهُ هُنَاكَ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ وَالْقِيَاسُ عليه أَنْ
تَنْقَطِعَ هُنَا أَيْضًا إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَقَالُوا لَا تَنْقَطِعُ
الرَّجْعَةُ لِأَنَّ الْعُضْوَ الْكَامِلَ مُجْمَعٌ على وُجُوبِ غَسْلِهِ وهو
مِمَّا لَا يُتَغَافَلُ عنه عَادَةً فَتَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ كما لو كان الْمَتْرُوكُ
زَائِدًا على عُضْوٍ بِخِلَافِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ لِأَنَّ ذلك
غَيْرُ مُجْمَعٍ على وجوده ( ( ( وجوبه ) ) ) مُجْتَهَدٌ فيه وأبو يُوسُفَ يقول
الْمَتْرُوكُ وَإِنْ قَلَّ فَحُكْمُ الْحَدَثِ بَاقٍ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تُبَاحُ معه وَإِنْ قَلَّ وَمَعَ بَقَاءِ الْحَدَثِ لَا
تَثْبُتُ الطَّهَارَةُ وَهَذَا يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ
إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا في الْقَلِيلِ وهو ما دُونَ الْعُضْوِ فَقَالُوا
أنه تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ فيه لِأَنَّ هذا الْقَدْرَ مِمَّا يُتَغَافَلُ عنه
عَادَةً وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّهُ أَصَابَهُ الْمَاءُ ثُمَّ جَفَّ فَيُحْكَمُ
بِانْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ فيه وَيَبْقَى الْأَمْرُ في الْعُضْوِ التَّامِّ على
أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عن أبي يُوسُفَ في الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ
رُوِيَ عنه أَنَّهُ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ وَرُوِيَ عنه أَيْضًا أَنَّهُ لَا
تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ وقال مُحَمَّدٌ تَبِينُ من زَوْجِهَا وَلَكِنَّهَا لَا
تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ
وَجْهُ قَوْلِهِ وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي يُوسُفَ في انْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ
أَنَّ وُجُوبَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ مُخْتَلَفٌ فيه وَمَوْضِعُ
الِاجْتِهَادِ مَوْضِعُ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فَلَا يَخْلُو عن الشَّكِّ
وَالشُّبْهَةِ وَالرَّجْعَةُ يُسْلَكُ بها مَسْلَكُ الِاحْتِيَاطِ فَلَا يَجُوزُ
بَقَاؤُهَا بِالشَّكِّ فَيَنْقَطِعُ وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ حَالِ التَّزَوُّجِ
بِالشَّكِّ أَيْضًا لِذَلِكَ لم يُجِزْهُ مُحَمَّدٌ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الحدث ( ( ( الحديث ) ) )
قد بَقِيَ في عُضْوٍ كَامِلٍ فَتَبْقَى الرَّجْعَةُ هذا إذَا كانت الْمُطَلَّقَةُ
مُسْلِمَةً فَأَمَّا إذَا كانت كِتَابِيَّةً فَقَدْ قالوا أن الرَّجْعَةَ
تَنْقَطِعُ عنها بِنَفْسِ انْقِطَاعِ الدَّمِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ
بِالْغُسْلِ وَلَا يَلْزَمُهَا فَرْضُ الْغُسْلِ كَالْمُسْلِمَةِ إذَا اغْتَسَلَتْ
وَمِنْهَا عَدَمُ التَّطْلِيقِ بِشَرْطٍ وَالْإِضَافَةُ إلَى وَقْتٍ في
الْمُسْتَقْبَلِ حتى لو قال الزَّوْجُ بَعْدَ الطَّلَاقِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ
فَقَدْ رَاجَعْتُكِ أو رَاجَعْتُكِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أو إنْ كَلَّمْت زَيْدًا
أو إذَا جاء غَدٌ فَقَدْ رَاجَعْتُك غَدًا أو رَأْسَ شَهْرِ كَذَا لم تَصِحَّ
الرَّجْعَةُ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِيفَاءُ مِلْكِ
النِّكَاحِ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ
وَالْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ في الْمُسْتَقْبَلِ كما لَا يَحْتَمِلُهَا إنْشَاءُ
الْمِلْكِ وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ تَتَضَمَّنُ انْفِسَاخَ الطَّلَاقِ في
انْعِقَادِهِ سَبَبًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ وَمَنْعَهُ عن عَمَلِهِ في ذلك فإذا
عَلَّقَهَا بِشَرْطٍ أو أَضَافَهَا إلَى وَقْتٍ في الْمُسْتَقْبَلِ فَقَدْ
اسْتَبْقَى الطَّلَاقَ إلَى غَايَةٍ وَاسْتِبْقَاءُ الطَّلَاقِ إلَى غَايَةٍ يَكُونُ
تَأْبِيدًا له إذْ هو لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ كما إذَا قال لِامْرَأَتِهِ
أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمًا أو شَهْرًا أو سَنَةً أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّوْقِيتُ
وَيَتَأَبَّدُ الطَّلَاقُ فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ هذا إذَا أَنْشَأَ
الرَّجْعَةَ فَأَمَّا إذَا أَخْبَرَ عن الرَّجْعَةِ في الزَّمَنِ الْمَاضِي بِأَنْ
قال كُنْت رَاجَعْتُك أَمْسِ فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فَقَدْ ثَبَتَتْ
الرَّجْعَةُ سَوَاءٌ قال ذلك في الْعِدَّةِ أو بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ
بَعْدَ إن كانت الْمَرْأَةُ في الْعِدَّةِ أَمْسِ وَإِنْ كَذَّبَتْهُ فَإِنْ قال
ذلك في الْعِدَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا يَمْلِكُ
إنشاءه في الْحَالِ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ في الْحَالِ وَمَنْ
أَخْبَرَ عن أَمْرٍ يَمْلِكُ إنشاءه في الْحَالِ يُصَدَّقْ فيه إذْ لو لم
يُصَدَّقْ يُنْشِئُهُ لِلْحَالِ فَلَا يُفِيدُ التَّكْذِيبَ فَصَارَ كَالْوَكِيلِ
قبل الْعَزْلِ إذَا قال بِعْته أَمْسِ
وَإِنْ قال بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا لِأَنَّهُ
أَخْبَرَ عَمَّا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ في الْحَالِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ
الرَّجْعَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَصَارَ كَالْوَكِيلِ بَعْدَ الْعَزْلِ
إذَا قال قد بِعْت وَكَذَّبَهُ الْمُوَكِّلُ وَلَا يَمِينَ عليها في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تُسْتَحْلَفُ وَهَذِهِ من
الْمَسَائِلِ الْمَعْدُودَةِ التي لَا يَجْرِي فيها الِاسْتِحْلَافُ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ نَذْكُرُهَا في كِتَابِ الدَّعْوَى فَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ بَيِّنَةً
قُبِلَتْ ببينته ( ( ( بينته ) ) ) وَتَثْبُتُ الرَّجْعَةُ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ
قَامَتْ على الرَّجْعَةِ في الْعِدَّةِ فَتُسْمَعُ وَلَوْ كانت الْمُطَلَّقَةُ
أَمَةَ الْغَيْرِ فقال زَوْجُهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كُنْت رَاجَعْتُكِ
وَكَذَّبَتْهُ الْأَمَةُ وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَلَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ وَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى
وَتَثْبُتُ الرَّجْعَةُ لِأَنَّهَا مِلْكُ الْمَوْلَى
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا إخْبَارٌ منها عن حَيْضِهَا
وَذَلِكَ إلَيْهَا لَا إلَى الْمَوْلَى كَالْحُرَّةِ فَإِنْ قال الزَّوْجُ لها قد
رَاجَعْتُكِ فقالت مُجِيبَةً له قد انْقَضَتْ عِدَّتِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ مع يَمِينِهَا وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الْقَوْلُ
قَوْلُ الزَّوْجِ وَأَجْمَعُوا على أنها لو سَكَتَتْ
____________________
(3/185)
سَاعَةً
ثُمَّ قالت انْقَضَتْ عِدَّتِي يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ وَلَا خِلَافَ
أَيْضًا في أنها إذَا بَدَأَتْ فقالت انْقَضَتْ عِدَّتِي فقال الزَّوْجُ مُجِيبًا
لها مَوْصُولًا بِكَلَامِهَا رَاجَعْتُكِ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَ الزَّوْجِ رَاجَعْتُكِ وَقَعَ رَجْعَةً صَحِيحَةً
لِقِيَامِ الْعِدَّةِ من حَيْثُ الظَّاهِرِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَرْأَةِ
انْقَضَتْ عِدَّتِي إخْبَارًا عن انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَا عِدَّةَ
لِبُطْلَانِهَا بِالرَّجْعَةِ فَلَا يُسْمَعُ كما لو سَكَتَتْ سَاعَةً ثُمَّ قالت
انْقَضَتْ عِدَّتِي وَلِأَنَّ قَوْلَهَا انْقَضَتْ عِدَّتِي إنْ كان إخْبَارًا عن
انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ في زَمَانٍ مُتَقَدِّمٍ على قَوْلِ الزَّوْجِ لَا يُقْبَلْ
منها بِالْإِجْمَاعِ كما لو أَسْنَدَتْ الْخَبَرَ عن الِانْقِضَاءِ إلَيْهِ نَصًّا
بِأَنْ قالت كانت عِدَّتِي قد انْقَضَتْ قبل رَجْعَتِكَ لِأَنَّهَا مُتَّهَمَةٌ في
التَّأْخِيرِ في الْإِخْبَارِ وَإِنْ كان ذلك إخْبَارًا عن انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ
في زَمَانٍ مُقَارِنٍ لِقَوْلِ الزَّوْجِ فَهَذَا نَادِرٌ فَلَا يُقْبَلُ
قَوْلُهَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَرْأَةَ أَمِينَةٌ في إخْبَارِهَا عن انْقِضَاءِ
الْعِدَّةِ فإن الشَّرْعَ ائْتَمَنَهَا في هذا الْبَابِ قال اللَّهُ تَعَالَى {
وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ في أَرْحَامِهِنَّ إنْ
كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } قِيلَ في التَّفْسِيرِ أنه
الْحَيْضُ وَالْحَبَلُ نَهَاهُنَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن الْكِتْمَانِ
وَالنَّهْيُ عن الْكِتْمَانِ أَمْرٌ بِالْإِظْهَارِ إذْ النَّهْيُ عن الشَّيْءِ
أَمْرٌ بِضِدِّهِ وَالْأَمْرُ بِالْإِظْهَارِ أَمْرٌ بِالْقَبُولِ لِتَظْهَرَ
فَائِدَةُ الْإِظْهَارِ فَلَزِمَ قَبُولُ قَوْلِهَا وَخَبَرِهَا بِانْقِضَاءِ
الْعِدَّةِ وَمِنْ ضَرُورَةِ قَبُولِ الْإِخْبَارِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ
حِلُّهَا لِلْأَزْوَاجِ ثُمَّ إنْ كانت عِدَّتُهَا انْقَضَتْ قبل قَوْلِ الزَّوْجِ
رَاجَعْتُكِ فَقَوْلُهُ رَاجَعْتُكِ يَقَعُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَلَا
يَصِحُّ وَإِنْ كانت انْقَضَتْ حَالَ قَوْلِهِ رَاجَعْتُكِ فَيَقَعُ حَالَ
قَوْلِهِ رَاجَعْتُكِ حَالَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَكَمَا لَا تَصِحُّ
الرَّجْعَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَا تَصِحُّ حَالَ انْقِضَائِهَا
لِأَنَّ الْعِدَّةَ حَالَ انْقِضَائِهَا مُنْقَضِيَةٌ فَكَانَ ذلك رَجْعَةً
لِمُنْقَضِيَةِ الْعِدَّةِ فَلَا تَصِحُّ فَإِنْ قِيلَ يَحْتَمِلُ أنها انْقَضَتْ
حَالَ إخْبَارِهَا عن الِانْقِضَاءِ وَإِخْبَارُهَا مُتَأَخِّرٌ عن قَوْلِهِ
رَاجَعْتُكِ فَكَانَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ مُتَأَخِّرًا عنه ضَرُورَةً فَتَصِحُّ
الرَّجْعَةُ فَالْجَوَابُ إذَا احْتَمَلَ ما قُلْنَا وَاحْتَمَلَ ما قُلْتُمْ
وَقَعَ الشَّكُّ في صِحَّةِ الرَّجْعَةِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ ما لم يَكُنْ ثَابِتًا إذَا وَقَعَ الشَّكُّ في ثُبُوتِهِ لَا
يَثْبُتُ مع الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ خُصُوصًا فِيمَا يُحْتَاطُ فيه وَلَا
سِيَّمَا إذَا كان جِهَةُ الْفَسَادِ آكَدَ وَهَهُنَا جِهَةُ الْفَسَادِ آكَدُ
لِأَنَّهَا تَصِحُّ من وَجْهٍ وَتَفْسُدُ من وَجْهَيْنِ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا
يَصِحَّ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
ثُمَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ تُسْتَحْلَفُ وإذا نَكَلَتْ يُقْضَى بِالرَّجْعَةِ
وَهَذَا يُشْكِلُ على أَصْلِهِ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لِلنُّكُولِ وَالنُّكُولُ
بَدَلٌ عِنْدَهُ وَالرَّجْعَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَدَلَ لَكِنَّ الِاسْتِحْلَافَ
قد يَكُونُ لِلنُّكُولِ ليقضي بِهِ وقد يَكُونُ لَا لِلنُّكُولِ بَلْ لِنَفْيِ
التُّهْمَةِ بِالْحَلِفِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ عِنْدَهُ فِيمَا لَا يقضي بِالنُّكُولِ أَصْلًا
كما في دَعْوَى الْقِصَاصِ في النَّفْسِ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ وَالْمَرْأَةُ
وَإِنْ كانت أَمِينَةً لَكِنْ الْأَمِينُ قد يُسْتَحْلَفُ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ
بِالْحَلِفِ فإذا نَكَلَتْ فَقَدْ تَحَقَّقَتْ التُّهْمَةُ فلم يَبْقَ قَوْلُهَا
حُجَّةً فَبَقِيَتْ الرَّجْعَةُ على حَالِهَا حُكْمًا لِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ
لِعَدَمِ دَلِيلِ الزَّوَالِ لِأَنَّهُ جُعِلَ نُكُولُهَا بَدَلًا مع ما أَنَّهُ
يُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْبَدَلِ هَهُنَا لِمَا ذَكَرْنَا أنها بِالنُّكُولِ
صَارَتْ مُتَّهَمَةً فَخَرَجَ قَوْلُهَا من أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لِلتُّهْمَةِ
فَتَبْقَى الْعِدَّةُ وَأَثَرُهَا في الْمَنْعِ من الْأَزْوَاجِ وَالسُّكُونِ في
مَنْزِلِ الزَّوْجِ فَقَطْ ثُمَّ يقضي بِالرَّجْعَةِ حُكْمًا لِاسْتِصْحَابِ
الْحَالِ لِأَنَّهَا بِإِخْبَارِهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا حَلَّتْ
لِلْأَزْوَاجِ وإذا نَكَلَتْ فَقَدْ بَدَّلَتْ الِامْتِنَاعَ من الْأَزْوَاجِ
وَالسُّكُونِ في مَنْزِلِ الزَّوْجِ وَهَذَا مَعْنًى يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ
وَمِنْهَا عَدَمُ شَرْطِ الْخِيَارِ حتى لو شُرِطَ الْخِيَارُ في الرَّجْعَةِ لم
يَصِحَّ لِأَنَّهَا اسْتِبْقَاءُ النِّكَاحِ فَلَا يَحْتَمِلُ شَرْطَ الْخِيَار
كما لَا يَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ نَوْعَيْ رُكْنِ الرَّجْعَةِ وهو الْقَوْلُ منه لَا
منها حتى لو قالت لِلزَّوْجِ رَاجَعْتُك لم يَصِحَّ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } أَيْ أَحَقُّ
بِرَجْعَتِهِنَّ مِنْهُنَّ
وَلَوْ كانت لها وِلَايَةُ الرَّجْعَةِ لم يَكُنْ الزَّوْجُ أَحَقَّ بِالرَّجْعَةِ
منها فَظَاهِرُ النَّصِّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ لها وِلَايَةُ الرَّجْعَةِ
أَصْلًا إلَّا أَنَّ جَوَازَ الرَّجْعَةِ بِالْفِعْلِ منها عَرَفْنَاهُ بِدَلِيلٍ
آخَرَ وهو ما بَيَّنَّا وَأَمَّا رِضَا الْمَرْأَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ
الرَّجْعَةِ وَكَذَا الْمَهْرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ
بِرَدِّهِنَّ } مُطْلَقًا عن شَرْطِ الرِّضَا وَالْمَهْرِ وَلِأَنَّهُ لو شُرِطَ
الرِّضَا وَالْمَهْرُ لم يَكُنْ الزَّوْجُ أَحَقَّ بِرَجْعَتِهَا منها لِأَنَّهُ
لَا يَمْلِكُ بِدُونِ رِضَاهَا وَالْمَهْرِ فَيُؤَدِّي إلَى الْخُلْفِ في خَبَرِ
اللَّهِ عز وجل وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ شُرِعَتْ لِإِمْكَانِ
التَّدَارُكِ عِنْدَ النَّدَمِ فَلَوْ شُرِطَ رِضَاهَا لَا يُمْكِنُهُ
التَّدَارُكُ لِأَنَّهَا عَسَى لَا تَرْضَى وَعَسَى لَا يَجِدُ الزَّوْجُ الْمَهْرَ
وَكَذَا كَوْنُ الزَّوْجِ طَائِعًا وَجَادًّا وَعَامِدًا ليس بِشَرْطٍ لِجَوَازِ
الرَّجْعَةِ فَتَصِحُّ الرَّجْعَةُ مع الْإِكْرَاهِ وَالْهَزْلِ وَاللَّعِبِ
وَالْخَطَأِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِبْقَاءُ النِّكَاحِ وَأَنَّهُ دُونَ
الْإِنْشَاءِ ولم تُشْتَرَطْ هذه
____________________
(3/186)
الْأَشْيَاءُ
لِلْإِنْشَاءِ فَلَأَنْ لَا تُشْتَرَطَ لِلِاسْتِبْقَاءِ أَوْلَى وقد رُوِيَ في
بَعْضِ الرِّوَايَاتِ ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ النِّكَاحُ
وَالرَّجْعَةُ وَالطَّلَاقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ فَالطَّلَاقُ الْبَائِنُ نَوْعَانِ
أَحَدُهُمَا الطَّلْقَاتُ وَالثَّانِي الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ الْبَائِنَةُ
وَالثِّنْتَانِ الْبَائِنَتَانِ وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ كل وَاحِدٍ من النَّوْعَيْنِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إما إنْ كَانَا حُرَّيْنِ وإما إنْ
كَانَا مَمْلُوكَيْنِ وإما إنْ كان أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ مَمْلُوكًا
فَإِنْ كَانَا حُرَّيْنِ فَالْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِمَا دُونَ الثَّلَاثِ من
الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ وَالثِّنْتَيْنِ الْبَائِنَتَيْنِ هو نُقْصَانُ عَدَدِ
الطَّلَاقِ وَزَوَالُ الْمِلْكِ أَيْضًا حتى لَا يَحِلَّ له وَطْؤُهَا إلَّا
بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ وَلَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ وَإِيلَاؤُهُ وَلَا يَجْرِي اللِّعَانُ
بَيْنَهُمَا وَلَا يَجْرِي التَّوَارُثُ وَلَا يُحَرَّمُ حُرْمَةً غَلِيظَةً حتى
يَجُوزَ له نِكَاحُهَا من غَيْرِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ لِأَنَّ ما
دُونَ الثَّلَاثَةِ وَإِنْ كان بَائِنًا فإنه يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ لَا
زَوَالَ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ
وَأَمَّا الطَّلْقَاتُ الثَّلَاثُ فَحُكْمُهَا الْأَصْلِيُّ هو زَوَالُ الْمِلْكِ
وَزَوَالُ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ أَيْضًا حتى لَا يَجُوزَ له نِكَاحُهَا قبل
التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ لِقَوْلِهِ عز وجل { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ
له من بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَسَوَاءٌ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا
مُتَفَرِّقًا أو جُمْلَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا في
مَوَاضِعِ التَّطْلِيقَةِ الثَّالِثَةِ من كِتَابِ اللَّهِ قال بَعْضُهُمْ هو
قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ له من بَعْدُ حتى تَنْكِحَ
زَوْجًا غَيْرَهُ } بَعْدَ قَوْلِهِ { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ
أو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ }
وَقَالُوا الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ هو الرَّجْعَةُ وَالتَّسْرِيحُ
بِالْإِحْسَانِ هو أَنْ يَتْرُكَهَا حتى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا
وقال بَعْضُهُمْ هو قَوْله تَعَالَى { أو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فَالتَّسْرِيحُ
هو الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ وَعَلَى ذلك جاء الْخَبَرُ وَكُلُّ ذلك جَائِزٌ
مُحْتَمَلٌ غير أَنَّهُ إنْ كان التَّسْرِيحُ هو تَرْكُهَا حتى تَنْقَضِيَ
عِدَّتُهَا كان تَقْدِيرُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَإِنْ طَلَّقَهَا
فَلَا تَحِلُّ له } أَيْ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً ثَالِثَةً
وَإِنْ كان الْمُرَادُ من التَّسْرِيحِ التَّطْلِيقَةُ الثَّالِثَةُ كان تَقْدِيرُ
قَوْله تَعَالَى فَإِنْ طَلَّقَهَا أَيْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا ثَلَاثًا فَلَا
تَحِلُّ له من بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَإِنَّمَا تَنْتَهِي
الْحُرْمَةُ وَتَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بِشَرَائِطَ منها النِّكَاحُ وهو
أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { حتى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ } نَفَى الْحِلَّ وَحَدَّ النَّفْيَ إلَى غَايَةِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ
آخَرَ وَالْحُكْمُ الْمَمْدُودُ إلَى غَايَةٍ لَا يَنْتَهِي قبل وُجُودِ
الْغَايَةِ فَلَا تَنْتَهِي الْحُرْمَةُ قبل التَّزَوُّجِ فَلَا تحل ( ( ( يحل ) )
) لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ قَبْلَهُ ضَرُورَةً
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا وَطِئَهَا إنْسَانٌ بِالزِّنَا أو بِشُبْهَةٍ أنها
لَا تَحِلُّ لِزَوْجِهَا لِعَدَمِ النِّكَاحِ
وَكَذَا إذَا وَطِئَهَا الْمَوْلَى بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِأَنْ حَرُمَتْ أَمَتُهُ
الْمَنْكُوحَةُ على زَوْجِهَا حُرْمَةً غَلِيظَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا
فَوَطِئَهَا الْمَوْلَى لَا تَحِلُّ لِزَوْجِهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَفَى
الْحِلَّ إلَى غَايَةٍ فَلَا يَنْتَهِي النَّفْيُ قبل وُجُودِ النِّكَاحِ ولم
يُوجَدْ
وَكَذَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال في هذه الْمَسْأَلَةِ ليس
بِزَوْجٍ يَعْنِي الْمَوْلَى
وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ سُئِلَ عن ذلك وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَزَيْدُ بن ثَابِتٍ
رضي اللَّهُ عنهما فَرَخَّصَ في ذلك عُثْمَانُ وَزَيْدٌ وَقَالَا هو زَوْجٌ
فَقَامَ عَلِيٌّ مُغْضَبًا كَارِهًا لِمَا قَالَا
وقد رُوِيَ أَنَّهُ قال ليس بِزَوْجٍ وَكَذَا إنْ اشْتَرَاهَا الزَّوْجُ قبل أَنْ
تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ لم تَحِلَّ له بِمِلْكِ الْيَمِينِ
وَكَذَا إذَا أُعْتِقَتْ لِمَا قُلْنَا
فَصْلٌ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ الثَّانِي صَحِيحًا حتى لو تَزَوَّجَتْ
رَجُلًا نِكَاحًا فَاسِدًا وَدَخَلَ بها لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ
النِّكَاحَ الْفَاسِدَ ليس بِنِكَاحٍ حَقِيقَةً وَمُطْلَقُ النِّكَاحِ يَنْصَرِفُ
إلَى ما هو نِكَاحٌ حَقِيقَةً
وَلَوْ كان النِّكَاحُ الثَّانِي مُخْتَلِفًا في فَسَادِهِ وَدَخَلَ بها لَا
تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ عِنْدَ من يقول بِفَسَادِهِ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ تَزَوَّجْت
بِزَوْجٍ آخَرَ وَمِنْ نِيَّتِهَا التَّحْلِيلُ فَإِنْ لم يَشْرُطَا ذلك
بِالْقَوْلِ وَإِنَّمَا نَوَيَا وَدَخَلَ بها على هذه النِّيَّةِ حَلَّتْ
لِلْأَوَّلِ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ في الْمُعَامَلَاتِ
غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَوَقَعَ النِّكَاحُ صَحِيحًا لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ
الصِّحَّةِ فَتَحِلُّ لِلْأَوَّلِ كما لو نَوَيَا التَّوْقِيتَ وَسَائِرَ
الْمَعَانِي الْمُفْسِدَةِ
وَإِنْ شَرَطَ الْإِحْلَالَ بِالْقَوْلِ وَأَنَّهُ يَتَزَوَّجُهَا لِذَلِكَ وكان
الشَّرْطُ منها فَهُوَ نِكَاحٌ صَحِيحٌ عَنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَتَحِلُّ
لِلْأَوَّلِ وَيُكْرَهُ لِلثَّانِي وَالْأَوَّلِ
وقال أبو يُوسُفَ النِّكَاحُ الثَّانِي فَاسِدٌ وَإِنْ وَطِئَهَا لم تَحِلَّ
لِلْأَوَّلِ
وقال مُحَمَّدٌ النِّكَاحُ الثَّانِي صَحِيحٌ وَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ النِّكَاحَ بِشَرْطِ الْإِحْلَالِ في مَعْنَى
النِّكَاحِ الْمُؤَقَّتِ وَشَرْطُ التَّوْقِيتِ في النِّكَاحِ يُفْسِدُهُ
وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ لَا يَقَعُ بِهِ التَّحْلِيلُ وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ
النِّكَاحَ عَقْدٌ مُؤَبَّدٌ فَكَانَ شَرْطُ الْإِحْلَالِ اسْتِعْجَالَ ما
أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِغَرَضِ الْحِلِّ فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَيَبْقَى
النِّكَاحُ صَحِيحًا لَكِنْ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْغَرَضُ كَمَنْ قَتَلَ
مُوَرِّثَهُ أَنَّهُ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا وَلِأَبِي
حَنِيفَةَ أَنَّ عُمُومَاتِ النِّكَاحِ تَقْتَضِي الْجَوَازَ من غَيْرِ فَصْلٍ بين
ما إذَا شُرِطَ فيه الْإِحْلَالُ أو لَا فَكَانَ النِّكَاحُ بهذا الشَّرْطِ
نِكَاحًا صَحِيحًا فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى { حتى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ }
____________________
(3/187)
فَتَنْتَهِي
الْحُرْمَةُ عِنْدَ وُجُودِهِ إلَّا أَنَّهُ كُرِهَ النِّكَاحُ بهذا الشَّرْطِ
لِغَيْرِهِ وهو أَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي الْمَقْصُودَ من النِّكَاحِ وهو السَّكَنُ
وَالتَّوَالُدُ وَالتَّعَفُّفُ لِأَنَّ ذلك يَقِفُ على الْبَقَاءِ وَالدَّوَامِ
على النِّكَاحِ وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَعْنَى إلْحَاقِ اللَّعْنِ
بِالْمُحَلِّلِ في قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ
وَالْمُحَلَّلَ له
وَأَمَّا إلْحَاقُ اللَّعْنِ بِالزَّوْجِ الْأَوَّلِ وهو الْمُحَلَّلُ له
فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِمُبَاشَرَةِ
الزَّوْجِ الثَّانِي هذا النِّكَاحَ لِقَصْدِ الْفِرَاقِ وَالطَّلَاقِ دُونَ
الْإِبْقَاءِ وَتَحْقِيقِ ما وُضِعَ له وَالْمُسَبِّبُ شَرِيكُ الْمُبَاشِرِ في
الإثم ( ( ( الاسم ) ) ) وَالثَّوَابِ في التَّسَبُّبِ لِلْمَعْصِيَةِ
وَالطَّاعَةِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ بَاشَرَ ما يقضي ( ( ( يفضي ) ) ) إلَى ذلك ( ( ( الذي ) ) )
تَنْفِرُ منه الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ وَتَكْرَهُهُ من عَوْدِهَا إلَيْهِ من
مُضَاجَعَةِ غَيْرِهِ إيَّاهَا وَاسْتِمْتَاعِهِ بها وهو الطَّلْقَاتُ الثَّلَاثُ
إذْ لَوْلَاهَا لَمَا وَقَعَ فيه فَكَانَ إلْحَاقُهُ اللَّعْنَ بِهِ لِأَجْلِ
الطَّلْقَاتِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا قَوْلُ أبي يُوسُفَ أن التَّوْقِيتَ في النِّكَاحِ يُفْسِدُ النِّكَاحَ
فَنَقُولُ الْمُفْسِدُ له هو التَّوْقِيتُ نَصًّا أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ
مُؤَقَّتٍ فإنه يَتَوَقَّتُ بِالطَّلَاقِ وَبِالْمَوْتِ وَغَيْرِ ذلك ولم يُوجَدْ
التَّوْقِيتُ نَصًّا فَلَا يَفْسُدُ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أنه اسْتِعْجَالُ ما
أَجَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَمْنُوعٌ فإن اسْتِعْجَالَ ما أَجَّلَهُ اللَّهُ
تَعَالَى لَا يُتَصَوَّرُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا ضَرَبَ لِأَمْرٍ أَجَلًا
لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ فإذا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي تَبَيَّنَ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَّلَ هذا النِّكَاحَ إلَيْهِ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ
الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ
وَمِنْهَا الدُّخُولُ من الزَّوْجِ الثَّانِي فَلَا تَحِلُّ لِزَوْجِهَا
الْأَوَّلِ بِالنِّكَاحِ الثَّانِي حتى يَدْخُلَ بها
وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال سَعِيدُ بن الْمُسَيِّبِ تَحِلُّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ له من بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ } وَالنِّكَاحُ هو الْعَقْدُ وَإِنْ كان يُسْتَعْمَلُ في الْعَقْدِ
وَالْوَطْءِ جميعا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَكِنَّهُ يُصْرَفُ إلَى الْعَقْدِ عِنْدَ
وُجُودِ الْقَرِينَةِ وقد وُجِدَتْ لِأَنَّهُ أَضَافَ النِّكَاحَ إلَى الْمَرْأَةِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى { حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَالْعَقْدُ يُوجَدُ منها
كما يُوجَدُ من الرَّجُلِ
فَأَمَّا الْجِمَاعُ فإنه يَقُومُ بِالرَّجُلِ وَحْدَهُ وَالْمَرْأَةُ مَحَلُّهُ
فَانْصَرَفَ إلَى الْعَقْدِ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ فإذا وُجِدَ الْعَقْدُ
تَنْتَهِي الْحُرْمَةُ بِظَاهِرِ النَّصِّ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ له من بَعْدُ حتى
تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَالْمُرَادُ من النِّكَاحِ الْجِمَاعُ لِأَنَّ
النِّكَاحَ في اللُّغَةِ هو الضَّمُّ حَقِيقَةً وَحَقِيقَةُ الضَّمِّ في
الْجِمَاعِ وَإِنَّمَا الْعَقْدُ سَبَبٌ داعي ( ( ( داع ) ) ) إلَيْهِ فَكَانَ
حَقِيقَةً الجماع ( ( ( للجماع ) ) ) مَجَازًا لِلْعَقْدِ مع ما أَنَّا لو
حَمَلْنَاهُ على الْعَقْدِ لَكَانَ تَكْرَارًا لِأَنَّ مَعْنَى الْعَقْدِ
يُفِيدُهُ ذِكْرُ الزَّوْجِ فَكَانَ الْحَمْلُ على الْجِمَاعِ أَوْلَى
بَقِيَ قَوْلُهُ إنه أَضَافَ النِّكَاحَ إلَيْهَا وَالْجِمَاعُ مِمَّا تَصِحُّ
إضَافَتُهُ إلَى الزَّوْجَيْنِ لِوُجُودِ مَعْنَى الإجتماع مِنْهُمَا حَقِيقَةً
فَأَمَّا الْوَطْءُ فَفِعْلُ الرَّجُلِ حَقِيقَةً لَكِنْ إضَافَةُ النِّكَاحِ
إلَيْهَا من حَيْثُ هو ضَمٌّ وَجَمْعٌ لَا من حَيْثُ هو وَطْءٌ ثُمَّ إنْ كان
الْمُرَادُ من النِّكَاحِ في الْآيَةِ هو الْعَقْدُ فَالْجِمَاعُ يُضْمَرُ فيه
عَرَفْنَا ذلك بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَضَرْبٍ من الْمَعْقُولِ
أَمَّا الْحَدِيثُ فما رَوَيْنَا عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ رِفَاعَةَ
الْقُرَظِيَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا عبد الرحمن بن
الزُّبَيْرِ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَقَالَتْ إنَّ
رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي وَبَتَّ طَلَاقِي فَتَزَوَّجَنِي عبد الرحمن بن الزُّبَيْرِ
ولم يَكُنْ معه إلَّا مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ لَا حتى تَذُوقِي من
عُسَيْلَتِهِ وَيَذُوقَ من عُسَيْلَتِكِ
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
هذا الْحَدِيثُ ولم يَذْكُرَا قِصَّةَ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ وهو ما رُوِيَ عنهما
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم سُئِلَ وهو على الْمِنْبَرِ عن
رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ فَأَغْلَقَ الْبَابَ
وَأَرْخَى السِّتْرَ وَكَشَفَ الْخِمَارَ ثُمَّ فَارَقَهَا فقال النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حتى تَذُوقَ عُسَيْلَةَ الْآخَرِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْحُرْمَةَ الْغَلِيظَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ
عُقُوبَةً لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بِمَا أَقْدَمَ على الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ الذي
هو مكرره ( ( ( مكروه ) ) ) شَرْعًا زَجْرًا وَمَنْعًا له عن ذلك لَكِنْ إذَا
تَفَكَّرَ في حُرْمَتِهَا عليه إلَّا بِزَوْجٍ آخَرَ الذي تَنْفِرُ منه الطِّبَاعُ
السَّلِيمَةُ وَتَكْرَهُهُ الزجر ( ( ( انزجر ) ) ) عن ذلك وَمَعْلُومٌ أَنَّ
الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ لَا تَنْفِرُ عنه الطِّبَاعُ وَلَا تَكْرَهُهُ إذْ لَا
يَشْتَدُّ على الْمَرْأَةِ مُجَرَّدُ النِّكَاحِ ما لم يَتَّصِلْ بِهِ الْجِمَاعُ
فَكَانَ الدُّخُولُ شَرْطًا فيه لِيَكُونَ زَجْرًا له وَمَنْعًا عن ارْتِكَابِهِ
فَكَانَ الْجِمَاعُ مُضْمَرًا في الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ كَأَنَّهُ قال عز وجل {
حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَيُجَامِعَهَا
وَأَمَّا الْإِنْزَالُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْإِحْلَالِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
جَعَلَ الْجِمَاعَ غَايَةَ الْحُرْمَةِ وَالْجِمَاعُ في الْفَرْجِ هو الْتِقَاءُ
الْخِتَانَيْنِ فإذا وُجِدَ فَقَدْ انْتَهَتْ الْحُرْمَةُ وَسَوَاءٌ كان الزَّوْجُ
الثَّانِي بَالِغًا أو صَبِيًّا يُجَامِعُ فَجَامَعَهَا أو مَجْنُونًا
فَجَامَعَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } من غَيْرِ
فَصْلٍ بين
____________________
(3/188)
زَوْجٍ
وَزَوْجٍ وَلِأَنَّ وَطْءَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ
النِّكَاحِ من الْمَهْرِ وَالتَّحْرِيمِ كَوَطْءِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ
وَكَذَلِكَ الصَّغِيرَةُ التي يُجَامَعُ مِثْلُهَا إذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا
ثَلَاثًا وَدَخَلَ بها الزَّوْجُ الثَّانِي حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ لاطلاق قَوْله
تَعَالَى { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ له من بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ } وَلِأَنَّ وَطْأَهَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْوَطْءِ من الْمَهْرِ
وَالتَّحْرِيمِ فَصَارَ كَوَطْءِ الْبَالِغَةِ وَسَوَاءٌ كان الزَّوْجُ الثَّانِي
حُرًّا أو عَبْدًا قِنًّا أو مُدَبَّرًا أو مُكَاتَبًا بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَ
بِإِذْنِ مَوْلَاهُ وَدَخَلَ بها لِقَوْلِهِ تَعَالَى { حتى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ } مُطْلَقًا من غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّ أَحْكَامَ النِّكَاحِ
تَتَعَلَّقُ بِوَطْءِ هَؤُلَاءِ كما تَتَعَلَّقُ بِوَطْءِ الْحُرِّ
وَكَذَا إذَا كان مَشْلُولًا يَنْتَشِرُ له وَيُجَامِعُ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ في
النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَإِنَّمَا الْفَائِتُ هو الْإِنْزَالُ وَذَا ليس بِشَرْطٍ
كَالْفَحْلِ إذَا جَامَعَ ولم يُنْزِلْ
وَأَمَّا الْمَجْبُوبُ فإنه لَا يُحِلُّهَا لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ
منه الْجِمَاعُ وَإِنَّمَا يُوجَدُ منه السَّحْقُ وَالْمُلَاصَقَةُ وَالتَّحْلِيلُ
يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ وَأَنَّهُ اسْمٌ لِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ ولم
يُوجَدْ فَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ وَإِنْ حَمَلَتْ امْرَأَةُ الْمَجْبُوبِ
وَوَلَدَتْ هل تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ
قال أبو يُوسُفَ حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ وَكَانَتْ مُحْصَنَةً
وقال زُفَرُ لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ وَلَا تَكُونُ مُحْصَنَةً وهو قَوْلُ
الْحَسَنِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ ظَاهِرٌ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ ليس بِوَطْءٍ حَقِيقَةً
بَلْ يُقَامُ مَقَامَ الْوَطْءِ حُكْمًا وَالتَّحْلِيلُ يَتَعَلَّقُ حَقِيقَةً لَا
حُكْمًا كَالْخَلْوَةِ فَإِنَّهَا لَا تُفِيدُ الْحِلَّ وَإِنْ أُقِيمَ مَقَامَ
الْوَطْءِ حُكْمًا كَذَا هذا وَلِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ من صَاحِبِ الْفِرَاشِ
مع كَوْنِ الْمَرْأَةِ زَانِيَةً حَقِيقَةً لِكَوْنِهِ مَوْلُودًا على الْفِرَاشِ
وَالتَّحْلِيلُ لَا يَقَعُ بِالزِّنَا
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ النَّسَبَ ثَابِتٌ منه وَثُبُوتُ النَّسَبِ حُكْمُ
الْوَطْءِ في الْأَصْلِ فَصَارَ كَالدُّخُولِ سَوَاءٌ وَطِئَهَا الزَّوْجُ
الثَّانِي في حَيْضٍ أو نِفَاسٍ أو صَوْمٍ أو إحْرَامٍ لِوُجُودِ الدُّخُولِ في
النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَلَوْ كانت كِتَابِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ طَلَّقَهَا
ثَلَاثًا فَنَكَحَتْ كِتَابِيًّا نِكَاحًا يُقَرَّانِ عليه لو أَسْلَمَا وَدَخَلَ
بها فَإِنَّهَا تَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ الدُّخُولِ في النِّكَاحِ
الصَّحِيحِ في حَقِّهِمْ لانهم يُقَرُّونَ عليه بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَصَارَ
كَنِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ وَسَوَاءٌ كانت الْمَرْأَةُ مُطَلَّقَةً من زَوْجٍ
وَاحِدٍ أو من زَوْجَيْنِ أو أَكْثَرَ من ذلك فَالزَّوْجُ الْوَاحِدُ إذَا دخل بها
تَحِلُّ لِلزَّوْجَيْنِ أو أَكْثَرَ من ذلك بِأَنْ طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ
ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ فَطَلَّقَهَا الثَّانِي قبل أَنْ يَدْخُلَ
بها ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ زَوْجًا ثَالِثًا وَدَخَلَ بها حَلَّتْ
لِلْأَوَّلَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ له من
بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } جَعَلَ الزَّوْجَ الثَّانِي مَنْهِيًّا
لِلْحُرْمَةِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين ما إذَا حَرُمَتْ على زَوْجٍ وَاحِدٍ أو
أَكْثَرَ
ثُمَّ وَطْءُ الزَّوْجُ الثَّانِي هل يَهْدِمُ ما كان في مِلْكِ الزَّوْجِ
الْأَوَّلِ من الطَّلَاقِ لَا خِلَافَ في أَنَّهُ يَهْدِمُ الثَّلَاثَ وَهَلْ
يَهْدِمُ ما دُونَ الثَّلَاثِ
قال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ يَهْدِمُ
وقال مُحَمَّدٌ لَا يَهْدِمُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وقد ذَكَرْنَا الْحُجَجَ
وَالشُّبَهَ فِيمَا تَقَدَّمَ وإذا طَلَّقَ الرَّجُلُ إمرأته ثَلَاثًا فَغَابَتْ
عنه مُدَّةً ثُمَّ أَتَتْهُ فقالت إنِّي تَزَوَّجْت زَوْجًا غَيْرَكَ وَدَخَلَ بِي
وَطَلَّقَنِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي
قال مُحَمَّدٌ لَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيُصَدِّقَهَا إذَا كانت ثِقَةً
عِنْدَهُ أو وَقَعَ في قَلْبِهِ أنها صَادِقَةٌ لِأَنَّ هذا من بَابِ الدِّيَانَةِ
وَخَبَرُ الْعَدْلِ في بَابِ الدِّيَانَةِ مَقْبُولٌ رَجُلًا كان أو امْرَأَةً كما
في الْإِخْبَارِ عن طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ وَكَمَا في رِوَايَةِ
الْأَخْبَارِ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَإِنْ تَزَوَّجَهَا ولم
تُخْبِرْهُ بِشَيْءٍ فلما وَقَعَ قالت لم أَتَزَوَّجْ زَوْجًا غَيْرَكَ أو قالت
تَزَوَّجْت ولم يَدْخُلْ بِي أو قالت قد خَلَا بِي وَجَامَعَنِي فِيمَا دُونَ
الْفَرْجِ وَكَذَّبَهَا الْأَوَّلُ وقال قد دخل بِك الثَّانِي لم يُذْكَرْ هذا في
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَذَكَرَ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ في ذاك ( ( (
ذلك ) ) ) كُلِّهِ لِأَنَّ هذا الْمَعْنَى لَا يُعْلَمُ إلَّا من جِهَتِهَا
فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا كما في الْخَبَرِ عن الْحَيْضِ وَالْحَبَلِ وَفِيهِ
إشْكَالٌ وهو أَنَّهُ إنَّمَا يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا إذَا لم يَسْبِقْ منها
ما يُكَذِّبُهَا وقد سَبَقَ منها ما يُكَذِّبُهَا في قَوْلِهَا وهو إقْدَامُهَا
على النِّكَاحِ من الزَّوْجِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ شيئا من ذلك لَا يَجُوزُ إلَّا
بَعْدَ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ وَالدُّخُولِ بها فَكَانَ فِعْلُهَا
مُنَاقِضًا لِقَوْلِهَا فَلَا يُقْبَلُ وَإِنْ كان الزَّوْجُ هو الذي قال لها لم
تَتَزَوَّجِي أو قال لم يَدْخُلْ بِك الثَّانِي وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ قد دخل بِي
قال الْحَسَنُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ وَهَذَا صَحِيحٌ لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّ هذا إنَّمَا يُعْلَمُ من جِهَتِهَا ولم يُوجَدْ منها دَلِيلُ التَّنَاقُضِ
فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا
قال وَيَفْسُدُ النِّكَاحُ بِقَوْلِ الزَّوْجِ وَلَهَا نِصْفُ
____________________
(3/189)
الْمُسَمَّى
إنْ كان لم يَدْخُلْ بها وَالْكُلُّ إنْ كان قد دخل بها لِأَنَّ الزَّوْجَ
مُعْتَرِفٌ بِالْحُرْمَةِ
وَقَوْلُهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْحُرْمَةِ مَقْبُولٌ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ
إنْشَاءَ الْحُرْمَةِ فَكَانَ اعْتِرَافُهُ بِفَسَادِ النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ
إنْشَاءِ الْفُرْقَةِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فيه وَلَا يُقْبَلُ في إسْقَاطِ
حَقِّهَا من الْمَهْرِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَإِنْ كان الزَّوْجَانِ مَمْلُوكَيْنِ فَحُكْمُ الْوَاحِدَةِ البائنة ( ( (
الثانية ) ) ) لَا يَخْتَلِفُ وَأَمَّا حُكْمُ الثنتين ( ( ( الاثنتين ) ) )
فَحُكْمُهُمَا في الْمَمْلُوكَيْنِ ما هو حُكْمُ الثَّلَاثِ في الْحُرَّيْنِ بِلَا
خِلَافٍ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم طَلَاقُ الْأَمَةِ اثنتان ( ( ( ثنتان )
) ) وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ وَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم يُطَلِّقُ
الْعَبْدُ اثنتين
وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ مَمْلُوكًا فَيُعْتَبَرُ فيه جَانِبُ
النِّسَاءِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ جَانِبُ الرِّجَالِ
بِنَاءً على أَنَّ اعْتِبَارَ الطَّلَاقِ بِهِنَّ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ بِهِمْ لَا
بِهِنَّ وَالْمَسْأَلَةُ قد تَقَدَّمَتْ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ هذا الذي ذَكَرْنَا بَيَانُ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ لِلطَّلَاقِ وَأَمَّا
الذي هو من التَّوَابِعِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَعُمُّ الطَّلَاقَ الْمُعَيَّنَ
وَالْمُبْهَمَ وَنَوْعٌ يَخُصُّ الْمُبْهَمَ أَمَّا الذي يَعُمُّ الْمُعَيَّنَ
وَالْمُبْهَمَ فَوُجُوبُ الْعِدَّةِ على بَعْضِ الْمُطَلَّقَاتِ دُونَ بَعْضٍ
وَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ الْمَدْخُولُ بها وَالْكَلَامُ في الْعِدَّةِ في مَوَاضِعَ
في تَفْسِيرِ الْعِدَّةِ في عُرْفِ الشَّرْعِ وَبَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِهَا وفي
بَيَانِ أَنْوَاعِ الْعِدَدِ وَسَبَبِ وُجُوبِ كل نَوْعٍ وما له وَجَبَ وَشَرْطِ
وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ مَقَادِيرِ الْعِدَدِ وفي بَيَانِ انْتِقَالِ الْعِدَّةِ وَتَغَيُّرِهَا
وفي بَيَانِ أَحْكَامِ الْعِدَّةِ وفي بَيَانِ ما يُعْرَفُ بِهِ انْقِضَاءُ
الْعِدَّةِ وما يَتَّصِلُ بها
أَمَّا تَفْسِيرُ الْعِدَّةِ وَبَيَانُ وَقْتِ وُجُوبِهَا
فَالْعِدَّةُ في عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِأَجَلٍ ضُرِبَ لِانْقِضَاءِ ما بَقِيَ
من آثَارِ النِّكَاحِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هِيَ اسْمٌ
لِفِعْلِ التَّرَبُّصِ وَعَلَى هذا يَنْبَنِي الْعِدَّتَانِ إذَا وَجَبَتَا
أَنَّهُمَا يَتَدَاخَلَانِ سَوَاءٌ كَانَتَا من جِنْسٍ وَاحِدٍ أو من جِنْسَيْنِ
وَصُورَةُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ الْمُطَلَّقَةُ إذَا تَزَوَّجَتْ في عِدَّتِهَا
فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ ثُمَّ تَتَارَكَا حتى وَجَبَتْ عليها عِدَّةٌ أُخْرَى فإن
الْعِدَّتَيْنِ يَتَدَاخَلَانِ عِنْدَنَا وَصُورَةُ الْجِنْسَيْنِ
الْمُخْتَلِفَيْنِ الْمُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ تَدَاخَلَتْ
أَيْضًا وَتَعْتَدُّ بِمَا رَأَتْهُ من الْحَيْضِ في الْأَشْهُرِ من عِدَّةِ
الْوَطْءِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ تَمْضِي في الْعِدَّةِ الْأُولَى فإذا انْقَضَتْ اسْتَأْنَفَتْ
الْأُخْرَى احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } وقَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وقَوْله تَعَالَى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ
بِرَدِّهِنَّ في ذلك } أَيْ في التَّرَبُّصِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزَّوْجَ إنَّمَا
يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ في الْعِدَّةِ فَدَلَّ أَنَّ الْعِدَّةَ تَرَبُّصٌ سَمَّى
اللَّهُ تَعَالَى الْعِدَّةَ تَرَبُّصًا وهو اسْمٌ الفعل ( ( ( للفعل ) ) ) وهو
الْكَفُّ وَالْفِعْلَانِ وَإِنْ كَانَا من جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا يَتَأَدَّيَانِ
بِأَحَدِهِمَا كَالْكَفِّ في بَابِ الصَّوْمِ وَغَيْرِ ذلك
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حتى يَبْلُغَ
الْكِتَابُ أَجَلَهُ } سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْعِدَّةَ أَجَلًا وَالْأَجَلُ
اسْمٌ لِزَمَانٍ مُقَدَّرٍ مَضْرُوبٍ لِانْقِضَاءِ أَمْرٍ كَآجَالِ الدُّيُونِ
وَغَيْرِهَا سُمِّيَتْ الْعِدَّةُ أَجَلًا لِكَوْنِهِ وَقْتًا مَضْرُوبًا
لِانْقِضَاءِ ما بَقِيَ من آثَارِ النِّكَاحِ وَالْآجَالُ إذَا اجْتَمَعَتْ
تَنْقَضِي بِمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ كَالْآجَالِ في بَابِ الدُّيُونِ وَالدَّلِيلُ على
أنها اسْمٌ لِلْأَجَلِ لَا لِلْفِعْلِ أنها تَنْقَضِي من غَيْرِ فِعْلِ
التَّرَبُّصِ بِأَنْ لم تُجْتَنَبْ عن مَحْظُورَاتِ الْعِدَّةِ حتى انْقَضَتْ
الْمُدَّةُ
وَلَوْ كانت فِعْلًا لَمَا تُصُوِّرَ انْقِضَاؤُهَا مع ضِدِّهَا وهو التَّرْكُ
وَأَمَّا الْآيَاتُ فَالتَّرَبُّصُ هو التَّثَبُّتُ وَالِانْتِظَارُ قال تَعَالَى
{ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حتى حِينٍ }
وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمْ الدَّوَائِرَ } وقال
سُبْحَانَهُ { فَتَرَبَّصُوا إنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ }
وَالِانْتِظَارُ يَكُونُ في الْآجَالِ الْمُعْتَدَّةِ تَنْتَظِرُ انْقِضَاءَ
الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ التَّرَبُّصَ ليس هو فِعْلَ الْكَفِّ على أَنَّا إنْ
سَلَّمْنَا أَنَّهُ كَفٌّ لَكِنَّهُ ليس بِرُكْنٍ في الْبَابِ بَلْ هو تَابِعٌ
بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِدُونِهِ على ما بَيَّنَّا وَكَذَا
تَنْقَضِي بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ وَلَوْ كان رُكْنًا لَمَا تُصُوِّرَ
الِانْقِضَاءُ بِدُونِهِ وَبِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ وَعَلَى هذا يبني وَقْتُ
وُجُوبِ الْعِدَّةِ إنها تَجِبُ من وَقْتِ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ من
الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ وَغَيْرِ ذلك حتى لو بَلَغَ الْمَرْأَةَ طَلَاقُ
زَوْجِهَا أو مَوْتُهُ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ من يَوْمِ طَلَّقَ أو مَاتَ عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَحُكِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال من يَوْمِ يَأْتِيهَا الْخَبَرُ
وَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ أَنَّ الْفِعْلَ لَمَّا كان رُكْنًا عِنْدَهُ
فَإِيجَابُ الْفِعْلِ على من لَا عَلِمَ له بِهِ وَلَا سَبَبَ إلَى الْوُصُولِ
إلَى الْعِلْمِ بِهِ مُمْتَنِعٌ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ إلَّا من وَقْتِ بُلُوغِ
الْخَبَرِ لِأَنَّهُ وَقْتُ حُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ وَلَمَّا كان الرُّكْنُ هو
الْأَجَلُ عِنْدَنَا وهو مُضِيُّ الزَّمَانِ لَا يَقِفُ وُجُوبُهُ على الْعِلْمِ
بِهِ كَمُضِيِّ سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ ثُمَّ قد بَيَّنَّا إنه لَا يَقِفُ على
فِعْلِهَا أَصْلًا وهو الْكَفُّ فَإِنَّهَا لو عَلِمَتْ فلم
____________________
(3/190)
تَكُفَّ
ولم تَجْتَنِبْ ما يجتنبه ( ( ( تجتنبه ) ) ) الْمُعْتَدَّةُ حتى انْقَضَتْ
الْمُدَّةُ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وإذا لم يَقِفْ على فِعْلِهَا فَلَأَنْ لَا
يَقِفَ على عِلْمِهَا بِهِ أَوْلَى
وما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه مَحْمُولٌ على أنها لم تَعْلَمْ وَقْتَ
الْمَوْتِ فَأَمَرَهَا بِالْأَخْذِ بِالْيَقِينِ وَبِهِ نَقُولُ
وقد رُوِيَ عنه رضي اللَّهُ عنه في الْعِدَّةِ أنها من يَوْمِ الطَّلَاقِ مِثْلُ
قَوْلِ الْعَامَّةِ فإما أن يُحْمَلَ على الرُّجُوعِ أو على ما قُلْنَا
وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِ الْعِدَدِ فَالْعِدَدُ في الشَّرْعِ أَنْوَاعٌ
ثَلَاثَةٌ عِدَّةُ الْأَقْرَاءِ وَعِدَّةُ الْأَشْهُرِ وَعِدَّةُ الْحَبَلِ
أَمَّا عِدَّةُ الْأَقْرَاءِ فَلِوُجُوبِهَا أَسْبَابٌ
منها الْفُرْقَةُ في النِّكَاحِ الصَّحِيحِ سَوَاءٌ كانت بِطَلَاقٍ أو بِغَيْرِ
طَلَاقٍ وَإِنَّمَا تَجِبُ هذه الْعِدَّةُ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ وَتُعْرَفُ
بَرَاءَتُهَا عن الشُّغْلِ بِالْوَلَدِ لِأَنَّهَا لو لم تَجِبْ وَيَحْتَمِلُ أنها
حَمَلَتْ من الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَتَتَزَوَّجُ بِزَوْجٍ آخَرَ وَهِيَ حَامِلٌ من
الْأَوَّلِ فَيَطَأُهَا الثَّانِي فَيَصِيرُ سَاقِيًا مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ وقد
نهى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن ذلك بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
من كان يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِيَنَّ ماؤه ( ( (
ماءه ) ) ) زَرْعَ غَيْرِهِ
وَكَذَا إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ يُشْتَبَهُ النَّسَبُ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ
وَيَضِيعُ الْوَلَدُ أَيْضًا لِعَدَمِ الْمُرَبِّي وَالنِّكَاحُ سَبَبُهُ فَكَانَ
تَسَبُّبًا إلَى هَلَاكِ الْوَلَدِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ
لِيُعْلَمَ بها فَرَاغُ الرَّحِمِ وَشَغْلُهَا فَلَا يُؤَدِّي إلَى هذه
الْعَوَاقِبِ الْوَخِيمَةِ وَشَرْطُ وُجُوبِهَا الدُّخُولُ أو ما يَجْرِي مَجْرَى
الدُّخُولِ وهو الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ في النِّكَاحِ الصَّحِيحِ دُونَ
الْفَاسِدِ فَلَا يَجِبُ بِدُونِ الدُّخُولِ وَالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ
الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ من قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فما لَكُمْ
عَلَيْهِنَّ من عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } وَلِأَنَّ وُجُوبَهَا بِطَرِيقِ
اسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ على ما بَيَّنَّا وَالْحَاجَةُ إلَى الِاسْتِبْرَاءِ
بَعْدَ الدُّخُولِ لَا قَبْلَهُ إلَّا أَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ في
النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أُقِيمَتْ مَقَامَ الدُّخُولِ في وُجُوبِ الْعِدَّةِ التي
فيها حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى يُحْتَاطُ في
إيجَابِهِ وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ بِالْوَاجِبِ بِالنِّكَاحِ قد حَصَلَ
بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ فَتَجِبُ بِهِ الْعِدَّةُ كما تَجِبُ بِالدُّخُولِ
بِخِلَافِ الْخَلْوَةِ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ
إنَّمَا أُقِيمَتْ مَقَامَ الدُّخُولِ في وُجُوبِ الْعِدَّةِ مع أنها لَيْسَتْ
بِدُخُولٍ حَقِيقَةً لِكَوْنِهَا سَبَبًا مفيضا ( ( ( مفضيا ) ) ) إلَيْهِ
فَأُقِيمَتْ مَقَامَهُ احْتِيَاطًا إقَامَةً لِلسَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ
فِيمَا يُحْتَاطُ فيه
وَالْخَلْوَةُ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا تُفْضِي إلَى الدُّخُولِ لِوُجُودِ
الْمَانِعِ وهو فَسَادُ النِّكَاحِ وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ فلم تُوجَدْ الْخَلْوَةُ
الْحَقِيقِيَّةُ إذْ هِيَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ انْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ
أو وُجِدَتْ بِصِفَةِ الْفَسَادِ فَلَا تَقُومُ مَقَامَ الدُّخُولِ وَكَذَا
التَّسْلِيمُ الْوَاجِبُ بِالْعَقْدِ لم يُوجَدْ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ
لَا يُوجِبُ التَّسْلِيمَ فَلَا تَجِبُ الْعِدَّةُ
وَأَمَّا الْخَلْوَةُ الْفَاسِدَةُ في النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَقَدْ ذَكَرْنَا
تَفْصِيلَ الْكَلَامِ فيها في كِتَابِ النِّكَاحِ وَسَوَاءٌ كانت الْمُطَلَّقَةُ
حُرَّةً أو أَمَةً قِنَّةً أو مُدَبَّرَةً أو مُكَاتَبَةً أو مُسْتَسْعَاةً لَا
يَخْتَلِفُ أَصْلُ الْحُكْمِ بِاخْتِلَافِ الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ ما
وَجَبَ له لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِمَا وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ في الْقَدْرِ
لِمَا تَبَيَّنَ وَالْكَلَامُ في الْقَدْرِ يَأْتِي في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى
وَسَوَاءٌ كانت مُسْلِمَةً أو كِتَابِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ الْحُرَّةُ كَالْحُرَّةِ
وَالْأَمَةُ كَالْأَمَةِ لِأَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ بِحَقِّ اللَّهِ وَبِحَقِّ
الزَّوْجِ قال تَعَالَى { فما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ من عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا }
وَالْكِتَابِيَّةُ مُخَاطَبَةٌ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَتَجِبُ عليها الْعِدَّةُ
وتجب ( ( ( وتجبر ) ) ) عليها لِأَجْلِ حَقِّ الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ لِأَنَّهَا من
أَهْلِ إيفَاءِ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَإِنْ كانت تَحْتَ ذِمِّيٍّ فَلَا عِدَّةَ
عليها في الْفُرْقَةِ وَلَا في الْمَوْتِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ إذَا كان ذلك
كَذَلِكَ في دِينِهِمْ حتى لو تَزَوَّجَتْ في الْحَالِ جَازَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ عليها الْعِدَّةُ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في جَامِعِهِ في الذِّمِّيَّةِ تَحْتَ ذِمِّيٍّ إذَا مَاتَ
عنها أو طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَتْ في الْحَالِ جَازَ إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا
فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الذِّمِّيَّةَ من أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ أَلَا تَرَى
أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يَجْرِي عليهم سَائِرُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ كَذَا هذا
الْحُكْمُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لو وَجَبَتْ عليها الْعِدَّةُ إما أن
تَجِبَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أو بِحَقِّ الزَّوْجِ وَلَا سَبِيلَ إلَى
إيجَابِهَا بِحَقِّ الزَّوْجِ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَعْتَقِدُ حَقًّا لِنَفْسِهِ
وَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِهَا بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْعِدَّةَ فيها
مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَهِيَ غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ بِالْقُرُبَاتِ إلَّا أنها إذَا
كانت حَامِلًا تُمْنَعُ من التَّزْوِيجِ لِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ الثَّانِي
يُوجِبُ اشْتِبَاهَ النَّسَبِ وَحِفْظُ النَّسَبِ حَقُّ الْوَلَدِ فَلَا يَمْلِكُ
إبْطَالَ حَقِّهِ فَكَانَ على الْحُكْمِ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ بِالْمَنْعِ من التَّزْوِيجِ
وَلَا عِدَّةَ على الْمُهَاجِرَةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا عليها
الْعِدَّةُ وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ في كِتَابِ النِّكَاحِ
فَإِنْ جاء الزَّوْجُ مُسْلِمًا وَتَرَكَهَا في دَارِ الْحَرْبِ فَلَا عِدَّةَ
عليها في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ الْكَافِرَةُ
تَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ لِحَقِّ الْمُسْلِمِ وَاخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ يَمْنَعُ
ثُبُوتَ الْحَقِّ لِأَحَدِهِمَا على الْآخَرِ وعل ( ( ( وعلى ) ) ) أَصْلِهِمَا
وُجُوبُ
____________________
(3/191)
الْعِدَّةِ
على الْكَافِرَةِ لِجَرَيَانِ حُكْمِنَا على أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا يَجْرِي
حُكْمُنَا على الْحَرْبِيَّةِ وَلَا عِدَّةَ على الزَّانِيَةِ حَامِلًا كانت أو
غير حَامِلٍ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ وَمِنْهَا
الْفُرْقَةُ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي أو بِالْمُتَارَكَةِ
وَشَرْطُهَا الدُّخُولُ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ يُجْعَلُ مُنْعَقِدًا
عِنْدَ الْحَاجَةِ وَهِيَ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ وقد مَسَّتْ الْحَاجَةُ
إلَى الِانْعِقَادِ لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَصِيَانَةً الماء ( ( ( للماء ) ) ) عن
الضَّيَاعِ بِثُبُوتِ النَّسَبِ وَتَجِبُ هذه الْعِدَّةُ على الْحُرَّةِ
وَالْأَمَةِ وَالْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَا يُوجِبُ
الْفَصْلَ وَيَسْتَوِي فيها الْفُرْقَةُ وَالْمَوْتُ لِأَنَّ وُجُوبَ هذه
الْعِدَّةِ على وَجْهِ الِاسْتِبْرَاءِ وقد مَسَّتْ الْحَاجَةُ في الِاسْتِبْرَاءِ
لِوُجُودِ الْوَطْءِ
فَأَمَّا عِدَّةُ الْوَفَاةِ فَإِنَّمَا تَجِبُ لِمَعْنًى آخَرَ وهو إظْهَارُ
الْحُزْنِ على ما فَاتَهَا من نِعْمَةِ النِّكَاحِ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ ليس بِنِكَاحٍ على الْحَقِيقَةِ فلم
يَكُنْ نِعْمَةً ثُمَّ يُعْتَبَرُ الْوُجُوبُ في الْفُرْقَةِ من وَقْتِ
الْفُرْقَةِ وفي الْمَوْتِ من وَقْتِ الْمَوْتِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ من آخِرِ وَطْءٍ وَطِئَهَا وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ في كِتَابِ
النِّكَاحِ
وَمِنْهَا الْوَطْءُ عن شُبْهَةِ النِّكَاحِ بِأَنْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ
امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تُقَامُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ في
مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ وَإِيجَابُ الْعِدَّةِ من بَابِ الِاحْتِيَاطِ
وَمِنْهَا عِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ
وَمِنْهَا مَوْتُ مَوْلَاهَا بِأَنْ أَعْتَقَهَا سَيِّدُهَا أو مَاتَ عنها
وَسَبَبُ وُجُوبِ هذه الْعِدَّةِ هو زَوَالُ الْفِرَاشِ وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا عِدَّةَ عليها وَإِنَّمَا عليها الِاسْتِبْرَاءُ
بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ وَسَبَبُ وُجُوبِهَا عِنْدَهُ هو زَوَالُ مِلْكِ الْيَمِينِ
وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في بَيَانِ مَقَادِيرِ الْعِدَدِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا عِدَّةُ الْأَشْهُرِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَجِبُ بَدَلًا عن
الْحَيْضِ وَنَوْعٌ يَجِبُ أَصْلًا بِنَفْسِهِ أَمَّا الذي يَجِبُ بَدَلًا عن
الْحَيْضِ فَهُوَ عِدَّةُ الصَّغِيرَةِ والأيسة وَالْمَرْأَةِ التي لم تَحِضْ
رَأْسًا في الطَّلَاقِ وَسَبَبُ وُجُوبِهَا هو الطَّلَاقُ وهو سَبَبُ وُجُوبِ
عِدَّةِ الاقراء وإنها تَجِبُ قَضَاءً لِحَقِّ النِّكَاحِ الذي استوفى فيه
الْمَقْصُودُ وَشَرْطُ وُجُوبِهَا شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا أَحَدُ الْأَشْيَاءِ
الثَّلَاثَةِ الصِّغَرُ أو الْكِبَرُ أو فَقْدُ الْحَيْضِ أَصْلًا مع عَدَمِ
الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ
وَالْأَصْلُ فيه قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ من الْمَحِيضِ من نِسَائِكُمْ
إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللَّائِي لم يَحِضْنَ }
وَالثَّانِي الدُّخُولُ أو ما هو في مَعْنَاهُ وهو الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ في
النِّكَاحِ الصَّحِيحِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ من قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ فما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ من عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } من غَيْرِ
تَخْصِيصٍ إلَّا أَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ في النِّكَاحِ الصَّحِيحِ
أُلْحِقَتْ بِالدُّخُولِ في حَقِّ وُجُوبِ الْعِدَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا أنها
أُلْحِقَتْ بِهِ في حَقِّ تَأْكِيدِ كل الْمَهْرِ فَفِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ
أَوْلَى احْتِيَاطًا وَتَجِبُ هذه الْعِدَّةُ على الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ وَأَصْلُ
الْوُجُوبِ إن ما وَجَبَتْ له لَا يَخْتَلِفُ وهو ما بَيَّنَّا وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ
في مِقْدَارِ الْوَاجِبِ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَكَذَا يَسْتَوِي فيها الْمُسْلِمَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ لِعُمُومِ النَّصِّ
وَكَذَا الْمَعْنَى الذي له وَجَبَتْ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ وَأَمَّا الذي يَجِبُ
أَصْلًا بِنَفْسِهِ فَهُوَ عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَسَبَبُ وُجُوبِهَا الْوَفَاةُ قال
اللَّهُ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وإنها تَجِبُ
لِإِظْهَارِ الْحُزْنِ بِفَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ إذْ النِّكَاحُ كان نِعْمَةً
عَظِيمَةً في حَقِّهَا فإن الزَّوْجَ كان سَبَبَ صِيَانَتِهَا وَعَفَافِهَا
وَإِيفَائِهَا بِالنَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ وَالْمَسْكَنِ فوجبت ( ( ( فوجب ) ) )
عليها الْعِدَّةُ إظْهَارًا لِلْحُزْنِ يفوت ( ( ( بفوت ) ) ) النِّعْمَةِ وَتَعْرِيفًا
لِقَدْرِهَا وَشَرْطُ وُجُوبِهَا النِّكَاحُ الصَّحِيحُ فَقَطْ فَتَجِبُ هذه
الْعِدَّةُ على الْمُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا سَوَاءٌ كانت مَدْخُولًا بها أو غير
مَدْخُولٍ بها وَسَوَاءٌ كانت مِمَّنْ تَحِيضُ أو مِمَّنْ لَا تَحِيضُ لِعُمُومِ
قَوْلِهِ عز وجل { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وَلِمَا ذَكَرْنَا
أنها تَجِبُ إظْهَارًا لِلْحُزْنِ يفوت ( ( ( بفوت ) ) ) نِعْمَةِ النِّكَاحِ وقد
وُجِدَ وَإِنَّمَا شَرَطْنَا النِّكَاحَ الصَّحِيحَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَوْجَبَهَا على الْأَزْوَاجِ وَلَا يَصِيرُ زَوْجًا حَقِيقَةً إلَّا بِالنِّكَاحِ
الصَّحِيحِ وَسَوَاءٌ كانت مُسْلِمَةً أو كِتَابِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ لِعُمُومِ
النَّصِّ ولوجود ( ( ( ولوجوب ) ) ) الْمَعْنَى الذي وَجَبَتْ له
وَسَوَاءٌ كانت حُرَّةً أو أَمَةً أو مُدَبَّرَةً أو مُكَاتَبَةً أو مُسْتَسْعَاةً
لَا يَخْتَلِفُ أَصْلُ الْحُكْمِ لِأَنَّ ما وَجَبَتْ له لَا يَخْتَلِفُ
وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ الْقَدْرُ لِمَا نَذْكُرُ
فَصْلٌ وَأَمَّا عِدَّةُ الْحَبَلِ فَهِيَ مُدَّةُ الْحَمْلِ وَسَبَبُ وُجُوبِهَا
الْفُرْقَةُ أو الْوَفَاةُ وَالْأَصْلُ فيه قَوْله تَعَالَى { وَأُولَاتُ
الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } أَيْ انْقِضَاءُ
أَجَلِهِنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وإذا كان انْقِضَاءُ أَجَلِهِنَّ بِوَضْعِ
حَمْلِهِنَّ كان
____________________
(3/192)
أَجَلَهُنَّ
لِأَنَّ أَجَلَهُنَّ مُدَّةُ حَمْلِهِنَّ وَهَذِهِ الْعِدَّةُ إنَّمَا تَجِبُ
لِئَلَّا يَصِيرَ الزَّوْجُ بها سَاقِيًا مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ وَشَرْطُ
وُجُوبِهَا أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ من النِّكَاحِ صَحِيحًا كان أو فَاسِدًا
لِأَنَّ الْوَطْءَ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ يُوجِبُ الْعِدَّةَ وَلَا تَجِبُ على
الْحَامِلِ بِالزِّنَا لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُوجِبُ الْعِدَّةَ إلَّا أَنَّهُ
إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَهِيَ حَامِلٌ من الزِّنَا جَازَ النِّكَاحُ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ له أَنْ يَطَأَهَا ما لم تَضَعْ لِئَلَّا
يَصِيرَ سَاقِيًا مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مَقَادِيرِ الْعِدَّةِ وما تَنْقَضِي بِهِ فَأَمَّا
عِدَّةُ الإقراء فَإِنْ كانت الْمَرْأَةُ حُرَّةً فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ
قُرُوءٍ } وَسَوَاءٌ وَجَبَتْ بِالْفُرْقَةِ في النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أو
بِالْفُرْقَةِ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ أو بِالْوَطْءِ عن شُبْهَةِ النِّكَاحِ
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ بَعْدَ الدُّخُولِ يُجْعَلُ
مُنْعَقِدًا في حَقِّ وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَيَلْحَقُ بِهِ فيه وَشُبْهَةُ
النِّكَاحِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِيمَا يُحْتَاطُ فيه وَالنَّصُّ الْوَارِدُ
في الْمُطَلَّقَةِ يَكُونُ وَارِدًا فيها دَلَالَةً وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ
إذَا أُعْتِقَتْ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى أو بِمَوْتِهِ فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ
بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَعْتَدُّ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذه
الْعِدَّةَ لم تَجِبْ بِزَوَالِ مِلْكِ النِّكَاحِ لِعَدَمِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا
وَجَبَتْ بِزَوَالِ مِلْكِ الْيَمِينِ فَكَانَ وُجُوبُهَا بِطَرِيقِ
الِاسْتِبْرَاءِ فيكتفي بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ كما في اسْتِبْرَاءِ سَائِرِ
الْمَمْلُوكَاتِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عُمَرَ وَغَيْرِهِ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
قالوا عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ ثَلَاثُ حِيَضٍ وَهَذَا نَصٌّ فيه وَبِهِ تَبَيَّنَ
أَنَّ الْوَاجِبَ عِدَّةٌ وَلَيْسَ بِاسْتِبْرَاءٍ إلَّا أَنَّهُمْ سَمَّوْهُ
عِدَّةً وَالْعِدَّةُ لَا تُقَدَّرُ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ وَالدَّلِيلُ على
أَنَّهُ عِدَّةٌ أَنَّهُ يَجِبُ على الْحُرَّةِ وَالْحُرَّةُ لايلزمها
الِاسْتِبْرَاءُ وإذا كان عِدَّةً لَا يَجُوزُ تَقْدِيرُهَا بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ
كَسَائِرِ الْعِدَدِ وَلِأَنَّ هذه الْعِدَّةَ تَجِبُ بِزَوَالِ الْفِرَاشِ
لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لها فِرَاشٌ إلَّا أَنَّ فِرَاشَهَا قبل الْعِتْقِ غَيْرُ
مُسْتَحْكَمٍ بَلْ هو ضَعِيفٌ لِاحْتِمَالِهِ النَّقْلَ إلَى غَيْرِهِ فإذا
أُعْتِقَتْ فَقَدْ اسْتَحْكَمَ فَالْتَحَقَ بِالْفِرَاشِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ
وَالْعِدَّةِ التي تَجِبُ بِزَوَالِ الْفِرَاشِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ وهو
النِّكَاحُ الْفَاسِدُ مُقَدَّرَةً بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ وَلِهَذَا اسْتَوَى في
الْوَاجِبِ عليها الْمَوْتُ وَالْعِتْقُ كما في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ
وَعِدَّةُ الْمُسْتَحَاضَةِ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ
لِعُمُومِ النَّصِّ وَإِنْ كانت أَمَةً فقرآن ( ( ( فقرءان ) ) ) عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ وقال نُفَاةُ الْقِيَاسِ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ كَعِدَّةِ الْحُرَّةِ
احْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } من غَيْرِ تَخْصِيصِ الْحُرَّةِ
وَلَنَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وهو ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي
اللَّهُ عنهما عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ
وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ وقال عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه عِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ
وَلَوْ اسْتَطَعْت لَجَعَلْتهَا حَيْضَةً وَنِصْفًا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ
الْإِمَاءَ مَخْصُوصَاتٌ من عُمُومِ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَتَخْصِيصُ الْكِتَابِ
بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ من
حُقُوقِ النِّكَاحِ مُقَدَّرٌ فَيُؤَثِّرُ الرِّقُّ في تَنْصِيفِهِ كَالْقَسَمِ
كان يَنْبَغِي أَنْ ينتصف ( ( ( يتنصف ) ) ) فَتَعْتَدُّ حَيْضَةً وَنِصْفًا كما
أَشَارَ إلَيْهِ عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَنَّ
الْحَيْضَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَتَجَزَّأُ فَتَكَامَلَتْ ضَرُورَةً وَسَوَاءٌ كان
زَوْجُهَا حُرًّا أو عَبْدًا بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الْعِدَّةَ تُعْتَبَرُ
بِالنِّسَاءِ بِالْإِجْمَاعِ وَيَسْتَوِي في مِقْدَارِ هذه الْعِدَّةِ
الْمُسْلِمَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ الْحُرَّةُ كَالْحُرَّةِ وَالْأَمَةُ كَالْأَمَةِ
لِأَنَّ الدَّلَائِلَ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا تَنْقَضِي بِهِ هذه الْعِدَّةُ أَنَّهُ
الْحَيْضُ أَمْ الْأَطْهَارُ قال أَصْحَابُنَا الْحَيْضُ
وقال الشَّافِعِيُّ الْأَطْهَارُ وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ إن من طَلَّقَ
امْرَأَتَهُ في حَالَةِ الطُّهْرِ لَا يُحْتَسَبُ بِذَلِكَ الطُّهْرِ من
الْعِدَّةِ عِنْدَنَا حتى لَا تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ما لم تَحِضْ ثَلَاثَ حِيَضٍ
بَعْدَهُ وَعِنْدَهُ يُحْتَسَبُ بِذَلِكَ الطُّهْرِ من الْعِدَّةِ فَتَنْقَضِي
عِدَّتُهَا بِانْقِضَاءِ ذلك الطُّهْرِ الذي طَلَّقَهَا فيه ويطهر ( ( ( وبطهر ) )
) آخَرَ بَعْدَهُ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ روي ( ( ( وروي ) ) ) عن أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ
وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وَأَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعُبَادَةَ بن الصَّامِتِ وَعَبْدِ اللَّهِ
بن قَيْسٍ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا الزَّوْجُ أَحَقُّ
بِمُرَاجَعَتِهَا ما لم تَغْتَسِلْ من الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ كما هو
مَذْهَبُنَا
وَعَنْ زَيْدِ بن ثَابِتٍ وَحُذَيْفَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ وَعَائِشَةَ
رضي اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ قَوْلِهِ وَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ
الْقُرْءَ الْمَذْكُورَ في قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } ما هو
الْحَيْضُ أَمْ الطُّهْرِ فَعِنْدَنَا الْحَيْضُ وَعِنْدَهُ الطُّهْرُ وَلَا
خِلَافَ بين أَهْلِ اللُّغَةِ في أَنَّ الْقُرْءَ من الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ
يؤنث ( ( ( يذكر ) ) ) وَيُرَادُ بِهِ الْحَيْضُ وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ
الطُّهْرُ على طَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ فَيَكُونُ حَقِيقَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا كما في سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ من اسْمِ الْعَيْنِ
وَغَيْرِ ذلك أَمَّا اسْتِعْمَالُهُ في الْحَيْضِ فَلِقَوْلِ
____________________
(3/193)
النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا
أَيْ أَيَّامَ حَيْضِهَا إذْ أَيَّامُ الْحَيْضِ هِيَ التي تَدَعُ الصَّلَاةَ فيها
لَا أَيَّامَ الطُّهْرِ
وَأَمَّا في الطُّهْرِ فَلِمَا رَوَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قال لِعَبْدِ
اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما إنَّ من السُّنَّةِ أَنْ تَسْتَقْبِلَ
الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا فَتُطَلِّقَهَا لِكُلِّ قُرْءٍ تَطْلِيقَةً أَيْ طُهْرٍ
وإذا كان الِاسْمُ حَقِيقَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ
فَيَقَعُ الْكَلَامُ في التَّرْجِيحِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ {
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وقد فَسَّرَ النبي الْعِدَّةَ بِالطُّهْرِ في
ذلك الحديث حَيْثُ قال فَتِلْكَ الْعِدَّةُ التي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ
لها النِّسَاءُ فَدَلَّ أَنَّ الْعِدَّةَ بِالطُّهْرِ لَا بِالْحَيْضِ
وَلِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْهَاءَ في الثَّلَاثَةِ بِقَوْلِهِ عز وجل { ثَلَاثَةَ
قُرُوءٍ } وَإِنَّمَا تَدْخُلُ الْهَاءُ في جَمْعِ الْمُذَكَّرِ لَا في جَمْعِ
الْمُؤَنَّثِ يُقَالُ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ وَالْحَيْضُ مُؤَنَّثٌ
وَالطُّهْرُ مُذَكَّرٌ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ منها الْأَطْهَارُ وَلِأَنَّكُمْ
لو حَمَلْتُمْ الْقُرْءَ الْمَذْكُورَ على الْحَيْضِ لَلَزِمَكُمْ الْمُنَاقَضَةُ
لِأَنَّكُمْ قُلْتُمْ في الْمُطَلَّقَةِ إذَا كانت أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ
فَانْقَطَعَ دَمُهَا إنه لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا ما لم تَغْتَسِلْ من
الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَقَدْ جَعَلْتُمْ الْعِدَّةَ بِالطُّهْرِ وَهَذَا
تَنَاقُضٌ
وَلَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ
فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ
قُرُوءٍ } أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاعْتِدَادِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ وَلَوْ
حُمِلَ الْقُرْءُ على الطُّهْرِ لَكَانَ الِاعْتِدَادُ بِطُهْرَيْنِ وَبَعْضِ
الثَّالِثِ لِأَنَّ بَقِيَّةَ الطُّهْرِ الذي صَادَفَهُ الطَّلَاقُ مَحْسُوبٌ من
الْأَقْرَاءِ عِنْدَهُ وَالثَّلَاثَةُ اسْمٌ لِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ وَالِاسْمُ
الْمَوْضُوعُ لِعَدَدٍ لَا يَقَعُ على ما دُونَهُ فَيَكُونُ تَرْكُ الْعَمَلِ
بِالْكِتَابِ وَلَوْ حَمَلْنَاهُ على الْحَيْضِ يَكُونُ الِاعْتِدَادُ بِثَلَاثِ
حِيَضٍ كَوَامِلَ لِأَنَّ ما بَقِيَ من الطُّهْرِ غَيْرُ مَحْسُوبٍ من الْعِدَّةِ
عِنْدَنَا فَيَكُونُ عَمَلًا بِالْكِتَابِ فَكَانَ الْحَمْلُ على ما قُلْنَا أَوْلَى
وَلَا يَلْزَمُ قَوْله تَعَالَى { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } أَنَّهُ
ذَكَرَ الْأَشْهُرَ وَالْمُرَادُ منه شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ فَكَذَا
الْقُرُوءُ جَائِزٌ أَنْ يُرَادَ بها القرآن ( ( ( القرءان ) ) ) وَبَعْضُ
الثَّالِثِ لِأَنَّ الْأَشْهُرَ اسْمُ جَمْعٍ لَا اسْمُ عَدَدٍ وَاسْمُ الْجَمْعِ
جَازَ أَنْ يُذْكَرَ وَيُرَادَ بِهِ بَعْضُ ما يَنْتَظِمُهُ مَجَازًا وَلَا
يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ الِاسْمُ الْمَوْضُوعُ لِعَدَدٍ مَحْصُورٍ وَيُرَادُ بِهِ
ما دُونَهُ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ رَأَيْت ثَلَاثَةَ رِجَالٍ
وَيُرَادُ بِهِ رَجُلَانِ وَجَازَ أَنْ يُقَالَ رَأَيْت رِجَالًا وَيُرَادُ بِهِ
رَجُلَانِ مع ما أَنَّ هذا إنْ كان في حَدِّ الْجَوَازِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ
بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عن الْحَقِيقَةِ من غَيْرِ دَلِيلٍ
إذْ الْحَقِيقَةُ هِيَ الْأَصْلُ في حَقِّ الْأَحْكَامِ لِلْعَمَلِ بها
وَإِنْ كان في حَقِّ الِاعْتِقَادِ يَجِبُ التَّوَقُّفُ لِمُعَارَضَةِ الْمَجَازِ
الْحَقِيقَةَ في الِاسْتِعْمَالِ وفي بَابِ الْحَجِّ قام دَلِيلُ الْمَجَازِ
وَقَوْلُهُ عز وجل { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ من الْمَحِيضِ من نِسَائِكُمْ إنْ
ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ } جَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
الْأَشْهُرَ بَدَلًا عن الْأَقْرَاءِ عِنْدَ الْيَأْسِ عن الْحَيْضِ وَالْمُبْدَلُ
هو الذي يُشْتَرَطُ عَدَمُهُ لِجَوَازِ إقَامَةِ الْبَدَلِ مَقَامَهُ فَدَلَّ
أَنَّ الْمُبْدَلَ هو الْحَيْضُ فَكَانَ هو الْمُرَادُ من الْقُرْءِ الْمَذْكُورِ
في الْآيَةِ كما في قَوْله تَعَالَى { فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا
طَيِّبًا } لَمَّا شَرَطَ عَدَمَ الْمَاءِ عِنْدَ ذِكْرِ الْبَدَلِ وهو
التَّيَمُّمُ دَلَّ أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عن الْمَاءِ فَكَانَ الْمُرَادُ منه
الْغُسْلُ الْمَذْكُورُ في آيَةِ الْوُضُوءِ وهو الْغَسْلُ بِالْمَاءِ
كَذَا هَهُنَا
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال طَلَاقُ الْأَمَةِ
ثِنْتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ بين
الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ في الْعِدَّةِ فِيمَا يَقَعُ بِهِ الِانْقِضَاءُ إذْ
الرِّقُّ أَثَرُهُ في تَنْقِيصِ الْعِدَّةِ التي تَكُونُ في حَقِّ الْحُرَّةِ لَا
في تَغْيِيرِ أَصْلِ الْعِدَّةِ فَدَلَّ أَنَّ أَصْلَ ما تَنْقَضِي بِهِ
الْعِدَّةُ هو الْحَيْضُ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ هذه الْعِدَّةَ وَجَبَتْ للتعرف ( ( ( للتعريف
) ) ) عن بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَالْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ يَحْصُلُ
بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ فَكَانَ الِاعْتِدَادُ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَالْمُرَادُ من الْعِدَّةِ الْمَذْكُورَةِ فيها
عِدَّةُ الطَّلَاقِ وَالنَّبِيُّ جَعَلَ الطُّهْرَ عِدَّةَ الطَّلَاقِ أَلَا تَرَى
أَنَّهُ قال فَتِلْكَ الْعِدَّةُ التي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلَّقَ لها
النِّسَاءُ وَالْكَلَامُ في الْعِدَّةِ عن الطَّلَاقِ أنها ما هِيَ وَلَيْسَ في
الْآيَةِ بَيَانُهَا
وَأَمَّا قَوْلُهُ أَدْخَلَ الْهَاءَ في الثَّلَاثَةِ فَنَعَمْ لَكِنْ هذا لَا
يَدُلُّ على أَنَّ الْمُرَادَ هو الطُّهْرُ من الْقُرُوءِ لِأَنَّ اللُّغَةَ لَا
تَمْنَعُ من تَسْمِيَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِاسْمِ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ
كَالْبُرِّ وَالْحِنْطَةِ فَيُقَالُ هذا الْبُرُّ وَهَذِهِ الْحِنْطَةُ وَإِنْ
كانت الْبُرُّ وَالْحِنْطَةُ شيئا وَاحِدًا فَكَذَا الْقُرْءُ وَالْحَيْضُ
أَسْمَاءٌ لِلدَّمِ الْمُعْتَادِ وَأَحَدُ الِاسْمَيْنِ مُذَكَّرٌ وهو الْقُرْءُ
فَيُقَالُ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ وَالْآخَرُ مُؤَنَّثٌ وهو الْحَيْضُ
فَيُقَالُ ثَلَاثُ حِيَضٍ وَدَعْوَى التَّنَاقُضِ مَمْنُوعَةٌ فإن في تِلْكَ
الصُّورَةِ الْحَيْضُ بَاقٍ وَإِنْ كان الدَّمُ مُنْقَطِعًا لِأَنَّ انْقِطَاعَ
الدَّمِ لَا يُنَافِي الْحَيْضَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ
____________________
(3/194)
الدَّمَ
لَا يُدَرُّ في جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ بَلْ في وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَاحْتِمَالُ
الدُّرُورِ في وَقْتِ الْحَيْضِ قَائِمٌ فإذا لم يُجْعَلْ ذلك الطُّهْرُ عِدَّةً
لَا يَلْزَمُنَا التَّنَاقُضُ
وَأَمَّا الْمُمْتَدُّ طُهْرُهَا وَهِيَ امْرَأَةٌ كانت تَحِيضُ ثُمَّ ارْتَفَعَ
حَيْضُهَا من غَيْرِ حَمْلٍ وَلَا بأس ( ( ( يأس ) ) ) فَانْقِضَاءُ عِدَّتِهَا في
الطَّلَاقِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الْفَرْقِ بِالْحَيْضِ لِأَنَّهَا من ذَاتِ
الْأَقْرَاءِ إلَّا أَنَّهُ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لِعَارِضٍ فَلَا تَنْقَضِي
عِدَّتُهَا حتى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ أو حتى تَدْخُلَ في حَدِّ الْإِيَاسِ
فَتُسْتَأْنَفَ عِدَّةُ الْآيِسَةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وهو مَذْهَبُ عَلِيٍّ
وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرُوِيَ عن عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أنها تَمْكُثُ تِسْعَةَ
أَشْهُرٍ فَإِنْ لم تَحِضْ اعْتَدَّتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ بَعْدَ ذلك وهو قَوْلُ
مَالِكٍ
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ من الْمَحِيضِ من
نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ }
نَقَلَ اللَّهُ الْعِدَّةَ عِنْدَ الِارْتِيَابِ إلَى الْأَشْهُرِ وَاَلَّتِي
ارْتَفَعَ حَيْضُهَا فَهِيَ مُرْتَابَةٌ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ عِدَّتُهَا
بِالشُّهُورِ
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ ليس الْمُرَادُ من الِارْتِيَابِ الْمَذْكُورِ هو
الِارْتِيَابُ في الْيَأْسِ بَلْ الْمُرَادُ منه ارْتِيَابُ الْمُخَاطَبِينَ في
عِدَّةِ الْآيِسَةِ قبل نُزُولِ الْآيَةِ
كَذَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا
بَيَّنَ لهم عِدَّةَ ذَاتِ الْقُرُوءِ وَعِدَّةَ الْحَامِلِ شَكُّوا الْآيِسَةِ
فلم يَدْرُوا ما عِدَّتُهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هذه الْآيَةَ وفي
الْآيَةِ ما يَدُلُّ عليه فإنه قال { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ من الْمَحِيضِ من
نِسَائِكُمْ } وَلَا يَأْسَ مع الِارْتِيَابِ إذْ الِارْتِيَابُ يَكُونُ وَقْتَ
رَجَاءِ الْحَيْضِ وَالرَّجَاءُ ضِدُّ الْيَأْسِ
وَكَذَا قال سُبْحَانَهُ { إنْ ارْتَبْتُمْ } وَلَوْ كان الْمُرَادُ منه
الِارْتِيَابُ في الْإِيَاسِ لَكَانَ من حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ إنْ
ارْتَبْنَ فَدَلَّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَرَادَ بِهِ ما ذَكَرْنَا
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا عِدَّةُ الْأَشْهُرِ فَالْكَلَامُ فيها في مَوْضِعَيْنِ أَيْضًا في
بَيَانِ مِقْدَارِهَا وما تَنْقَضِي بِهِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ ما يُعْتَبَرُ
بِهِ الِانْقِضَاءُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فما وَجَبَ بَدَلًا عن الْحَيْضِ وهو عِدَّةُ الْآيِسَةِ
وَالصَّغِيرَةِ وَالْبَالِغَةِ التي لم تَرَ الْحَيْضَ أَصْلًا فَثَلَاثَةُ
أَشْهُرٍ إنْ كانت حُرَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ من
الْمَحِيضِ من نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ
وَاَللَّائِي لم يَحِضْنَ } وَلِأَنَّ الْأَشْهُرَ في حَقِّ هَؤُلَاءِ تَدُلُّ على
الْأَقْرَاءِ وَالْأَصْلُ مُقَدَّرٌ بِالثَّلَاثِ كَذَا الْبَدَلُ سَوَاءٌ
وَجَبَتْ الْفُرْقَةُ بِطَلَاقٍ أو بِغَيْرِ طَلَاقٍ في النِّكَاحِ الصَّحِيحِ
لِعُمُومِ النَّصِّ أو وَجَبَتْ بِالْفُرْقَةِ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ أو بالوطء
عن شُبْهَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا في عِدَّةِ الْأَقْرَاءِ
وَكَذَا إذَا وَجَبَتْ على أُمِّ الْوَلَدِ بِالْعِتْقِ أو بِمَوْتِ الْمَوْلَى
عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ
وَإِنْ كانت أَمَةً فَشَهْرٌ وَنِصْفٌ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ
وقد تَنَصَّفَ الْمُبْدَلُ فَيَتَنَصَّفُ الْبَدَلُ وَلِأَنَّ الرِّقَّ
مُتَنَصَّفٌ وَالتَّكَامُلُ في عِدَّةِ الْأَقْرَاءِ ثَبَتَ لِضَرُورَةِ عَدَمِ
التجزىء ( ( ( التجزيء ) ) ) وَالشَّهْرُ متجزىء فَبَقِيَ الْحُكْمُ فيه على
الْأَصْلِ وَلِهَذَا تَتَنَصَّفُ عِدَّتُهَا في الْوَفَاةِ وَسَوَاءٌ كان
زَوْجُهَا حُرًّا أو عَبْدًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ في الْعِدَّةِ
جَانِبُ النِّسَاءِ وَسَوَاءٌ كانت قِنَّةً أو مُدَبَّرَةً أو أُمَّ وَلَدٍ أو
مُكَاتَبَةً أو مُسْتَسْعَاةً عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا في مُدَّةِ
الْأَقْرَاءِ
وَكَذَا إذَا وَجَبَتْ على أُمِّ الْوَلَدِ بِالْعِتْقِ أو بِمَوْتِ الْمَوْلَى
عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وما وَجَبَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ وهو عِدَّةُ
الْمُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا فَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَقِيلَ إنَّمَا
قُدِّرَتْ هذه الْعِدَّةُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ إنْ كانت حُرَّةً لِقَوْلِهِ عز وجل
{ وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }
وَقِيلَ إنَّمَا قُدِّرَتْ هذه الْعِدَّةُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ الْوَلَدَ
يَكُونُ في بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ أَرْبَعِينَ
يَوْمًا عَلَقَةً ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَةً ثُمَّ يُنْفَخُ فيه الرُّوحُ
في الْعَشْرِ فَأُمِرَتْ بِتَرَبُّصِ هذه الْمُدَّةِ لِيَسْتَبِينَ الْحَبَلُ إنْ
كان بها حَبَلٌ وَإِنْ كانت أَمَةً فَشَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ لِمَا
بَيَّنَّا بِالْإِجْمَاعِ سَوَاءٌ كانت قِنَّةً أو مُدَبَّرَةً أو أُمَّ وَلَدٍ أو
مُكَاتَبَةً أو مُسْتَسْعَاةً عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَالْمُسْلِمَةُ
وَالْكِتَابِيَّةُ سَوَاءٌ كان في مِقْدَارِ هَاتَيْنِ الْعِدَّتَيْنِ الْحُرَّةُ
كَالْحُرَّةِ وَالْأَمَةُ كَالْأَمَةِ لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ لَا
يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا وَانْقِضَاءُ هذه الْعِدَّةِ بِانْقِضَاءِ هذه
الْمُدَّةِ في الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ
وَأَمَّا الثَّانِي وهو بَيَانُ كَيْفِيَّةِ ما يُعْتَبَرُ بِهِ انْقِضَاءُ هذه
الْعِدَّةِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ هذه الْعِدَّةِ من
الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِ ذلك إذَا اتَّفَقَ في غُرَّةِ الشَّهْرِ
اُعْتُبِرَتْ الْأَشْهُرُ بِالْأَهِلَّةِ وَإِنْ نَقَصَتْ عن الْعَدَدِ في قَوْلِ
أَصْحَابِنَا جميعا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْعِدَّةِ بِالْأَشْهُرِ
بِقَوْلِهِ عز وجل { فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ } وَقَوْلُهُ عز وجل {
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } فَلَزِمَ اعْتِبَارُ الْأَشْهُرِ وَالشَّهْرُ قد
يَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وقد يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا بِدَلِيلِ
ما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ
بِأَصَابِعِ يَدَيْهِ كُلِّهَا ثُمَّ قال الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا
وَحَبَسَ إبْهَامَهُ في الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ
وَإِنْ كانت الْفُرْقَةُ في بَعْضِ الشَّهْرِ
____________________
(3/195)
اخْتَلَفُوا
فيه
قال أبو حَنِيفَةَ يُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ فَتَعْتَدُّ من الطَّلَاقِ
وَأَخَوَاتِهِ تِسْعِينَ يَوْمًا وَمِنْ الْوَفَاةِ مِائَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا
وَكَذَلِكَ قال في صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ إذَا ابْتَدَأَ
الصَّوْمُ في نِصْفِ الشَّهْرِ
وقال مُحَمَّدٌ تعقد ( ( ( تعتد ) ) ) بَقِيَّةَ الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ وَبَاقِي
الشُّهُورِ بِالْأَهِلَّةِ ويكمل ( ( ( وتكمل ) ) ) الشَّهْرَ الْأَوَّلَ من
الشَّهْرِ الْأَخِيرِ بِالْأَيَّامِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ مِثْلُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وفي
رِوَايَةٍ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وهو قَوْلُهُ الْأَخِيرُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هو الِاعْتِدَادُ بِالشَّهْرِ
وَالْأَشْهُرُ اسْمُ الْأَهِلَّةِ فَكَانَ الْأَصْلُ في الِاعْتِدَادِ هو
الْأَهِلَّةُ قال اللَّهُ تَعَالَى { يَسْأَلُونَكَ عن الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ
مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } جَعَلَ الْهِلَالَ لِمَعْرِفَةِ الْمَوَاقِيتِ
وَإِنَّمَا يُعْدَلُ إلَى الْأَيَّامِ عِنْدَ تعذر اعتبار الأهلة وقد تَعَذُّرِ
اعْتِبَارِ الْهِلَالِ في الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَعَدَلْنَا عنه إلَى الْأَيَّامِ
وَلَا تَعَذُّرَ في بَقِيَّةِ الْأَشْهُرِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا بِالْأَهِلَّةِ
وَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا كَذَلِكَ في بَابِ الْإِجَارَةِ إذَا وَقَعَتْ في بَعْضِ
الشَّهْرِ كَذَا هَهُنَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعِدَّةَ يُرَاعَى فيها الِاحْتِيَاطُ فَلَوْ
اعْتَبَرْنَاهَا في الْأَيَّامِ لَزَادَتْ على الشُّهُورِ وَلَوْ اعْتَبَرْنَاهَا
بِالْأَهِلَّةِ لَنَقَصَتْ عن الْأَيَّامِ فَكَانَ إيجَابُ الزِّيَادَةِ أَوْلَى
احْتِيَاطًا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ
وَالْمَنَافِعُ تُوجَدُ شيئا فَشَيْئًا على حَسَبِ حُدُوثِ الزَّمَانِ فَيَصِيرُ كُلُّ
جُزْءٍ منها كَالْمَعْقُودِ عليه عَقْدًا مُبْتَدَأً فَيَصِيرُ عِنْدَ استهلال ( (
( استهلاك ) ) ) الشَّهْرِ كَأَنَّهُ ابتداء ( ( ( ابتدأ ) ) ) الْعَقْدَ
فَيَكُونُ بِالْأَهِلَّةِ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ فإن كُلَّ جُزْءٍ منها ليس
كَعِدَّةٍ مُبْتَدَأَةٍ
وَأَمَّا الْإِيلَاءُ في بَعْضِ الشَّهْرِ فَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ بين أبي
يُوسُفَ وَزُفَرَ في كَيْفِيَّةِ اعْتِبَارِ الشَّهْرِ فيه أَنَّ على قَوْلِ أبي
يُوسُفَ يُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ فَيُكْمِلُ مِائَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَلَا
يُنْظَرُ إلَى نُقْصَانِ الشَّهْرِ وَلَا إلَى تَمَامِهِ
وَعِنْدَ زُفَرَ يُعْتَبَرُ بِالْأَهِلَّةِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ مُدَّةَ
الْإِيلَاءِ كَمُدَّةِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَعَلَّقُ
بِهِ الْبَيْنُونَةُ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْأَيَّامِ في مُدَّةِ الْإِيلَاءِ يُوجِبُ
تَأْخِيرَ الْفُرْقَةِ وَاعْتِبَارُ الْأَشْهُرِ يُوجِبُ التَّعْجِيلَ فَوَقَعَ
الشَّكُّ في وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَلَا يَقَعُ بِالشَّكِّ كَمَنْ عَلَّقَ طَلَاقَ
امْرَأَتِهِ بِمُدَّةٍ في الْمُسْتَقْبَلِ وَشَكَّ في الْمُدَّةِ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ
لِأَنَّ الطَّلَاقَ هُنَاكَ وَاقِعٌ بِيَقِينٍ وَحُكْمُهُ مُتَأَجِّلٌ فإذا وَقَعَ
الشَّكُّ في التَّأْجِيلِ لَا يَتَأَجَّلُ بِالشَّكِّ
وَأَمَّا عِدَّةُ الْحَبَلِ فَمِقْدَارُهَا بَقِيَّةُ مُدَّةِ الْحَمْلِ قَلَّتْ
أو كَثُرَتْ حتى لو وَلَدَتْ بَعْدَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ بِيَوْمٍ أو أَقَلَّ أو
أَكْثَرَ انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُولَاتُ
الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } من غَيْرِ فَصْلٍ وَذُكِرَ
في الْأَصْلِ أنها لو وَلَدَتْ وَالْمَيِّتُ على سَرِيرِهِ انْقَضَتْ بِهِ
الْعِدَّةُ على ما جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ هَكَذَا ذُكِرَ وَالسُّنَّةُ
الْمَذْكُورَةُ هِيَ ما رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال في
الْمُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا إذَا وَلَدَتْ وَزَوْجُهَا على سَرِيرِهِ جَازَ لها
أَنْ تَتَزَوَّجَ وَشَرْطُ انْقِضَاءِ هذه الْعِدَّةِ أَنْ يَكُونَ ما وَضَعَتْ قد
اسْتَبَانَ خَلْقُهُ أو بَعْضُ خَلْقِهِ فَإِنْ لم يَسْتَبِنْ رَأْسًا بِأَنْ
أَسْقَطَتْ عَلَقَةً أو مُضْغَةً لم تَنْقَضِ الْعِدَّةُ لِأَنَّهُ إذَا
اسْتَبَانَ خَلْقُهُ أو بَعْضُ خَلْقِهِ فَهُوَ وَلَدٌ فَقَدْ وُجِدَ وَضْعُ
الْحَمْلِ فَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وإذا لم يَسْتَبِنْ لم يُعْلَمْ كَوْنُهُ
وَلَدًا بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ فَيَقَعَ
الشَّكُّ في وَضْعِ الْحَمْلِ فَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِالشَّكِّ
وقال الشَّافِعِيُّ في أَحَدِ قَوْلَيْهِ يُرَى النساء ( ( ( للنساء ) ) )
وَهَذَا ليس بِشَيْءٍ لِأَنَّهُنَّ لم يُشَاهِدْنَ انْخِلَاقَ الْوَلَدِ في
الرَّحِمِ لِيَقِسْنَ هذا عليه فَيَعْرِفْنَ وقال في قَوْلٍ آخَرَ يُجْعَلُ في
الْمَاءِ الْحَارِّ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ انْحَلَّ فَلَيْسَ بِوَلَدٍ وَإِنْ لم
يَنْحَلَّ فَهُوَ وَلَدٌ وَهَذَا أَيْضًا فَاسِدٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ
قِطْعَةٌ من كَبِدِهَا أو لَحْمِهَا انقصلت ( ( ( انفصلت ) ) ) منها وَأَنَّهَا
لَا تَنْحَلُّ بِالْمَاءِ الْحَارِّ كما لَا يَنْحَلُّ الْوَلَدُ فَلَا يُعْلَمُ
بِهِ أَنَّهُ وَلَدٌ وَلَوْ ظَهَرَ أَكْثَرُ الْوَلَدِ لم يُذْكَرْ هذا في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ وقد قالوا في الْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا أنه إذَا ظَهَرَ
منها أَكْثَرُ وَلَدِهَا أنها تَبِينُ فَعَلَى هذا يَجِبُ أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ
الْعِدَّةُ أَيْضًا بِظُهُورِ أَكْثَرِ الْوَلَدِ وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ
بَيْنَهُمَا فَيُقَامَ الْأَكْثَرُ مَقَامَ الْكُلِّ في انْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ
احْتِيَاطًا وَلَا يُقَامُ في انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حتى لَا تَحِلَّ
لِلْأَزْوَاجِ احْتِيَاطًا أَيْضًا ثُمَّ انْقِضَاءُ عِدَّةِ الْحَمْلِ بِوَضْعِ
الْحَمْلِ إذَا كانت مُعْتَدَّةً عن طَلَاقٍ أو غَيْرِهِ من أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ
بِلَا خِلَافٍ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ
أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وَكَذَلِكَ إذَا كانت مُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا
عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرُوِيَ عن عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ وَعَبْدِ
اللَّهِ بن عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا
عِدَّتُهَا بِوَضْعِ ما في بَطْنِهَا وَإِنْ كان زَوْجُهَا على السَّرِيرِ وقال
عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي
اللَّهُ عنهما أَنَّ الْحَامِلَ إذَا تُوُفِّيَ عنها زَوْجُهَا فَعِدَّتُهَا
أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ وُضِعَ الْحَمْلُ أو مضي أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ
أَيُّهُمَا كان أَخِيرًا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ
وَجْهُ هذا الْقَوْلِ أَنَّ الِاعْتِدَادَ بِوَضْعِ الْحَمْلِ إنَّمَا ذُكِرَ في
الطَّلَاقِ لَا في الْوَفَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ
أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }
____________________
(3/196)
لِأَنَّهُ
مَعْطُوفٌ على قَوْلِهِ عز وجل { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ من الْمَحِيضِ من
نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللَّائِي لم
يَحِضْنَ } وَذَلِكَ بِنَاءً على قَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا النبي إذَا طَلَّقْتُمْ
النِّسَاءَ } فَكَانَ الْمُرَادُ من قَوْلِهِ { وَاَللَّائِي لم يَحِضْنَ }
الْمُطَلَّقَاتُ وَلِأَنَّ في الِاعْتِدَادِ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ جَمْعًا بين
الْآيَتَيْنِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ لِأَنَّ فيه عَمَلًا بِآيَةِ عِدَّةِ
الْحَبَلِ إنْ كان أَجَلُ تِلْكَ الْعِدَّةِ أَبْعَدَ وَعَمَلًا بِآيَةِ عِدَّةِ
الْوَفَاةِ إنْ كان أَجَلُهَا أَبْعَدَ فَكَانَ عَمَلًا بِهِمَا جميعا بِقَدْرِ
الْإِمْكَانِ وَفِيمَا قُلْتُمْ عَمَلٌ بِإِحْدَاهُمَا وَتَرْكُ الْعَمَلِ
بِالْأُخْرَى أَصْلًا فَكَانَ ما قُلْنَا أَوْلَى
وَلِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ قَوْله
تَعَالَى { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } من
غَيْرِ فَصْلٍ بين الْمُطَلَّقَةِ وَالْمُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا وَقَوْلُهُ هذا
بِنَاءً على قَوْلِهِ { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ من الْمَحِيضِ من نِسَائِكُمْ }
مَمْنُوعٌ بَلْ هو ابْتِدَاءُ خِطَابٍ وفي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ما يَدُلُّ عليه
فإنه قال { إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ } وَمَعْلُومٌ
أَنَّهُ لَا يَقَعُ الِارْتِيَابُ فِيمَنْ يَحْتَمِلُ الْقُرْءَ وَذَلِكَ لِأَنَّ
الْأَشْهُرَ في الْآيِسَاتِ إنَّمَا أُقِيمَتْ مَقَامَ الْأَقْرَاءِ في ذَوَاتِ
الْحَيْضِ وإذا كانت الْحَامِلُ مِمَّنْ تَحِيضُ لم يَجُزْ أَنْ يَقَعَ لهم شَكٌّ
في عِدَّتِهَا لِيَسْأَلُوا عن عِدَّتِهَا وإذا كان كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ
خِطَابٌ مُبْتَدَأٌ وإذا كان خِطَابًا مُبْتَدَأً تَنَاوَلَ الْعِدَدَ كُلَّهَا
وَقَوْلُهُ الِاعْتِدَادُ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ عَمَلٌ بِالْآيَتَيْنِ
بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فَيُقَالُ إنَّمَا يُعْمَلُ بِهِمَا إذَا لم يَثْبُتْ
نَسْخُ إحْدَاهُمَا بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ أو لم يَكُنْ إحْدَاهُمَا
أَوْلَى بِالْعَمَلِ بها وقد قِيلَ أن آيَةَ وَضْعِ الْحَمْلِ آخِرُهُمَا نُزُولًا
بِمَا رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال من شَاءَ
بأهلته أَنَّ قَوْلَهُ { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ } نَزَلَ بَعْدَ قَوْلِهِ { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }
فَأَمَّا نَسْخُ الْأَشْهُرِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ إذَا كان بين نُزُولِ
الْآيَتَيْنِ زَمَانٌ يَصْلُحُ لِلنَّسْخِ فَيُنْسَخُ الْخَاصُّ الْمُتَقَدِّمُ
بِالْعَامِّ الْمُتَأَخِّرِ كما هو مَذْهَبُ مَشَايِخِنَا بِالْعِرَاقِ وَلَا
يُبْنَى الْعَامُّ على الْخَاصِّ أو يُعْمَلُ بِالنَّصِّ الْعَامِّ بِعُمُومِهِ
وَيُتَوَقَّفُ في حَقِّ الِاعْتِقَادِ في التَّخْرِيجِ على التَّنَاسُخِ كما هو
مَذْهَبُ مَشَايِخِنَا بِسَمَرْقَنْدَ وَلَا يُبْنَى الْعَامُّ على الْخَاصِّ على
ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ
وَرُوِيَ عن عَمْرِو بن شُعَيْبٍ عن أبيه عن جَدِّهِ قال قُلْت يا رَسُولَ اللَّهِ
حين نُزُولِ قَوْلِهِ { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ } أنها في الْمُطَلَّقَةِ أَمْ في الْمُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا فقال
رسول اللَّهِ فِيهِمَا جميعا
وقد رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ سُبَيْعَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ
الْأَسْلَمِيَّةَ وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِبِضْعٍ وَعِشْرِينَ
لَيْلَةً فَأَمَرَهَا رسول اللَّهِ بِأَنْ تَتَزَوَّجَ
وروى أَيْضًا عن أبي السَّنَابِلِ بن بعكل ( ( ( بعكك ) ) ) أَنَّ سُبَيْعَةَ
بِنْتَ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةَ وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِبِضْعٍ
وَعِشْرِينَ لَيْلَةً فَأَمَرَهَا رسول اللَّهِ بِأَنْ تَتَزَوَّجَ
وروى أنها لَمَّا مَاتَ عنها زَوْجُهَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا
وَسَأَلَتْ أَبَا السَّنَابِلِ بن بعكل ( ( ( بعكك ) ) ) هل يَجُوزُ لها أَنْ
تَتَزَوَّجَ
فقال لها حتى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ فَذَكَرَتْ ذلك لِرَسُولِ اللَّهِ فقال
كَذَبَ أبو السَّنَابِلِ ابتغى الْأَزْوَاجَ وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وقد رُوِيَ
من طُرُقٍ صَحِيحَةٍ لَا مَسَاغَ لِأَحَدٍ في الْعُدُولِ عنها وَلِأَنَّ
الْمَقْصُودَ من الْعِدَّةِ من ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ الْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ
الرَّحِمِ وَوَضْعِ الْحَمْلِ في الدَّلَالَةِ على الْبَرَاءَةِ فَوْقَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ
فَكَانَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِهِ أَوْلَى من الِانْقِضَاءِ بِالْمُدَّةِ
وَسَوَاءٌ كانت الْمَرْأَةُ حُرَّةً أو مَمْلُوكَةً قِنَّةً أو مُدَبَّرَةً أو
مُكَاتَبَةً أو أُمَّ وَلَدٍ أو مُسْتَسْعَاةً مُسْلِمَةً أو كِتَابِيَّةً
لِعُمُومِ النَّصِّ
وقال أبو يُوسُفَ كَذَلِكَ إلَّا في امْرَأَةِ الصَّغِيرِ في عِدَّةِ الْوَفَاةِ
بِأَنْ مَاتَ الصَّغِيرُ عن امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ فإن عِدَّتَهَا أَرْبَعَةُ
أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
عِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا الْحَمْلَ ليس منه بِيَقِينٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا
يَثْبُتُ نَسَبُهُ منه فَكَانَ من الزِّنَا فَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ
كَالْحَمْلِ من الزِّنَا وَكَالْحَمْلِ الحادث بَعْدَ مَوْتِهِ
وَلَهُمَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وَقَوْلُهُ الْحَمْلُ من الزِّنَا لَا تَنْقَضِي بِهِ
الْعِدَّةُ وَهَذَا حَمْلٌ من الزِّنَا فَيَكُونُ مَخْصُوصًا من الْعُمُومِ
فَنَقُولُ الْحَمْلُ من الزِّنَا قد تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ على قِيَاسِ قَوْلِهِمَا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً حَامِلًا من الزِّنَا جَازَ
نِكَاحُهَا عِنْدَهُمَا وَلَوْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَوَضَعَتْ
حَمْلَهَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا عِنْدَهُمَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ
وَإِنْ كان الْحَمْلُ من الزِّنَا وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ لِلْعِلْمِ
بِحُصُولِ فَرَاغِ الرَّحِمِ وَالْوِلَادَةِ دَلِيلُ فَرَاغِ الرَّحِمِ بِيَقِينٍ
وَالشَّهْرُ لَا يَدُلُّ على الْفَرَاغِ بِيَقِينٍ فَكَانَ إيجَابُ ما دَلَّ على
الْفَرَاغِ بِيَقِينٍ أَوْلَى وَلَا أَثَرَ لِلنَّسَبِ في هذا الْبَابِ وَإِنَّمَا
الْأَثَرُ لِمَا بَيَّنَّا في الْجُمْلَةِ
فَإِنْ مَاتَ وَهِيَ حَائِلٌ ثُمَّ حَمَلَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ قبل انْقِضَاءِ
الْعِدَّةِ فَعِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ
بِالْإِجْمَاعِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْرًا }
____________________
(3/197)
وَلِأَنَّ
الْحَمْلَ إذَا لم يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَوْتِ وَجَبَتْ الْعِدَّةُ
بِالْأَشْهُرِ فَلَا تَتَغَيَّرُ بِالْحَمْلِ الْحَادِثِ وإذا كان مَوْجُودًا
وَقْتَ الْمَوْتِ وَجَبَتْ عِدَّةُ الْحَبَلِ فَكَانَ انْقِضَاؤُهَا بِوَضْعِ
الْحَمْلِ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ في الْوَجْهَيْنِ جميعا لِأَنَّ
الْوَلَدَ لَا يَحْصُلُ عَادَةً إلَّا من الْمَاءِ وَالصَّبِيُّ لَا مَاءَ له
حَقِيقَةً
وَيَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ عَادَةً فَيَسْتَحِيلُ تَقْدِيرُهُ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ في زَوْجَةِ الْكَبِيرِ تَأْتِي بِوَلَدٍ بَعْدَ
مَوْتِهِ لِأَكْثَرَ من سَنَتَيْنِ وقد تَزَوَّجَتْ بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ لِأَنَّ إقْدَامَهَا على النِّكَاحِ
في هذه الْحَالَةِ إقْرَارٌ منها بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِتَحَرُّزِ
الْمُسْلِمَةِ عن النِّكَاحِ في الْعِدَّةِ ولم يَرِدْ على إقْرَارِهَا ما
يُبْطِلُهُ أَلَا تَرَى أنها لو جَاءَتْ بَعْدَ التَّزْوِيجِ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ
أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا كان النِّكَاحُ جَائِزًا لِمَا بَيَّنَّا فَهَهُنَا أَوْلَى
وإذا كانت الْمُعْتَدَّةُ حَامِلًا فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا
بِالْأَخِيرِ مِنْهُمَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إذَا وَضَعَتْ أَحَدَ الْوَلَدَيْنِ انْقَضَتْ
عِدَّتُهَا
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ
أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } ولم يَقُلْ أَحْمَالَهُنَّ فإذا وَضَعَتْ
إحْدَاهُمَا فَقَدْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا إلَّا أَنَّ ما قَالَهُ لَا يَسْتَقِيمُ
لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قرىء ( ( ( قرئ ) ) ) في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ
أَنْ يَضَعْنَ أَحْمَالَهُنَّ
وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَّقَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ لَا
بِالْوِلَادَةِ حَيْثُ قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } ولم
يَقُلْ يَلِدْنَ وَالْحَمْلُ اسْمٌ لِجَمِيعِ ما في بَطْنِهَا وَوَضْعُ أَحَدِ
الْوَلَدَيْنِ وَضْعُ بَعْضِ حَمْلِهَا لَا وَضْعُ حَمْلِهَا فَلَا تَنْقَضِي بِهِ
الْعِدَّةُ وَلِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ إنَّمَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ لِبَرَاءَةِ
الرَّحِمِ بِوَضْعِهِ وما دَامَ في بَطْنِهَا وَلَدٌ لَا تَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ
بِهِ فَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُعْرَفُ بِهِ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ فما يُعْرَفُ
بِهِ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ نَوْعَانِ قَوْلٌ وَفِعْلٌ
أَمَّا الْقَوْلُ فَهُوَ إخْبَارُ الْمُعْتَدَّةِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ في
مُدَّةٍ يَحْتَمِلُ الِانْقِضَاءُ في مِثْلِهَا فَلَا بُدَّ من بَيَانِ أَقَلِّ
الْمُدَّةِ التي تُصَدَّقُ فيها الْمُعْتَدَّةُ في إقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ
عِدَّتِهَا وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ إنْ كانت من ذَوَاتِ
الْأَشْهُرِ فَإِنَّهَا لَا تُصَدَّقُ في أَقَلَّ من ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ في
عِدَّةِ الطَّلَاقِ إنْ كانت حُرَّةً وَمِنْ شَهْرٍ وَنِصْفٍ إنْ كانت أَمَةً وفي
عِدَّةِ الْوَفَاةِ لَا تُصَدَّقُ في أَقَلَّ من أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ إنْ
كانت حُرَّةً وَمِنْ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ إنْ كانت أَمَةً وَلَا
خِلَافَ في هذه الْجُمْلَةِ
وَإِنْ كانت من ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَإِنْ كانت مُعْتَدَّةً من وَفَاةٍ
فَكَذَلِكَ لَا تُصَدَّقُ في أَقَلَّ مِمَّا ذَكَرْنَا في الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ
وَإِنْ كانت مُعْتَدَّةً من طَلَاقٍ فَإِنْ أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا في
مُدَّةٍ تَنْقَضِي في مِثْلِهَا الْعِدَّةُ يُقْبَلُ قَوْلُهَا وَإِنْ أَخْبَرَتْ
في مُدَّةٍ لَا تَنْقَضِي في مِثْلِهَا الْعِدَّةُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إلَّا
إذَا فَسَّرَتْ ذلك بِأَنْ قالت أَسْقَطْت سَقْطًا مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ أو
بَعْضِهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ في
إخْبَارِهَا عن انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فإن اللَّه تَعَالَى ائْتَمَنَهَا في ذلك
بِقَوْلِهِ عز وجل { وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ في
أَرْحَامِهِنَّ } قبل ( ( ( قيل ) ) ) في التَّفْسِيرِ أنه الْحَيْضُ وَالْحَبَلُ
وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مع الْيَمِينِ كَالْمُودِعِ إذَا قال رَدَدْت
الْوَدِيعَةَ أو هَلَكَتْ فإذا أَخْبَرَتْ بِالِانْقِضَاءِ في مُدَّةٍ تَنْقَضِي
في مِثْلِهَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا وَلَا يُقْبَلُ إذَا كانت الْمُدَّةُ مِمَّا لَا
تَنْقَضِي في مِثْلِهَا الْعِدَّةُ لِأَنَّ قَوْلَ الْأَمِينِ إنَّمَا يُقْبَلُ
فِيمَا لَا يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ وَالظَّاهِرُ هَهُنَا يُكَذِّبُهَا فَلَا يُقْبَلُ
قَوْلُهَا إلَّا إذَا فَسَّرَتْ فقال ( ( ( فقالت ) ) ) أَسْقَطْتُ سَقْطًا
مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ أو بَعْضِ الْخَلْقِ مع يَمِينِهَا فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا مع
هذا التَّفْسِيرِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يُكَذِّبُهَا مع التَّفْسِيرِ
ثُمَّ اُخْتُلِفَ في أَقَلَّ ما تُصَدَّقُ فيه الْمُعْتَدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ
قال أبو حَنِيفَةَ أَقَلُّ ما تُصَدَّقُ فيه الْحُرَّةُ سِتُّونَ يَوْمًا
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَاخْتَلَفَتْ
الرِّوَايَةُ في تَخْرِيجِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ فَتَخْرِيجُهُ في رِوَايَةِ
مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِالطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ
بِالْحَيْضِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ بِالطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ
بِالْحَيْضِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ بِالطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ
بِالْحَيْضِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ فَتِلْكَ سِتُّونَ يَوْمًا وَتَخْرِيجُهُ على
رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِالْحَيْضِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ثُمَّ
بِالطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ بِالْحَيْضِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ثُمَّ
بِالطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ بِالْحَيْضِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ
فَذَلِكَ سِتُّونَ يَوْمًا فَاخْتَلَفَ التَّخْرِيجُ مع اتِّفَاقِ الْحُكْمِ
وَتَخْرِيجُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِالْحَيْضِ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ بِالطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ بِالْحَيْضِ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ بِالطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ بِالْحَيْضِ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ أَمِينَةٌ في هذا الْبَابِ وَالْأَمِينُ
يُصَدَّقُ ما أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ تَصْدِيقُهَا هَهُنَا بِأَنْ يُحْكَمَ
بِالطَّلَاقِ في آخِرِ الطُّهْرِ فَيُبْدَأُ بِالْعِدَّةِ من الْحَيْضِ
فَيُعْتَبَرُ أَقَلُّهُ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ أَقَلُّ الطُّهْرِ وهو خَمْسَةَ
عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ أَقَلُّ الْحَيْضِ ثُمَّ أَقَلُّ الطُّهْرِ ثُمَّ أَقَلُّ
الْحَيْضِ
____________________
(3/198)
فَتَكُونُ
الْجُمْلَةُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ على تَخْرِيجِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ وَإِنْ
كانت أَمِينَةً في الْأَقْرَاءِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَكِنْ الْأَمِينُ
إنَّمَا يُصَدَّقُ فِيمَا لَا يُخَالِفُهُ الظَّاهِرُ فَأَمَّا فِيمَا يُخَالِفُهُ
الظَّاهِرُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ كَالْوَصِيِّ إذَا قال أَنْفَقْتُ على
الْيَتِيمِ في يَوْمٍ وَاحِدٍ أَلْفَ دِينَارٍ وما قَالَاهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ
لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ من أَرَادَ الطَّلَاقَ فَإِنَّمَا يُوقِعُهُ في أَوَّلِ
الطُّهْرِ وَكَذَا حَيْضُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ نَادِرٌ وَحَيْضُ عَشَرَةٍ نَادِرٌ
أَيْضًا فَيُؤْخَذُ بِالْوَسَطِ وهو خَمْسَةٌ
وَاعْتِبَارُ هذا التَّخْرِيجِ يُوجِبُ أَنَّ أَقَلَّ ما تُصَدَّقُ فيه سِتُّونَ
يَوْمًا
وَأَمَّا الْوَجْهُ على تَخْرِيجِ رِوَايَةِ الْحَسَنِ فَهُوَ أَنْ يُحْكَمَ
بِالطَّلَاقِ في آخِرِ الطُّهْرِ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ في أَوَّلِ الطُّهْرِ
وَإِنْ كان سُنَّةً لَكِنْ الظَّاهِرُ هو الْإِيقَاعُ في آخِرِ الطُّهْرِ
لِأَنَّهُ يُجَرِّبُ نَفْسَهُ في أَوَّلِ الطُّهْرِ هل يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عنها
ثُمَّ يُطَلِّقُ فَكَانَ الظَّاهِرُ هو الْإِيقَاعُ في آخِرِ الطُّهْرِ لَا
أَنَّهُ يَعْتَبِرُ مُدَّةَ الْحَيْضِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَإِنْ كانت أَكْثَرَ
الْمُدَّةِ لِأَنَّا قد اعْتَبَرْنَا في الطُّهْرِ أَقَلَّهُ فَلَوْ نَقَصْنَا من
الْعَشَرَةِ في الْحَيْضِ لَلَزِمَ النَّقْصُ في الْعِدَّةِ فَيَفُوتُ حَقُّ
الزَّوْجِ من كل وَجْهٍ فَيُحْكَمُ بِأَكْثَرِ الْحَيْضِ وَأَقَلِّ الطُّهْرِ
رِعَايَةً لِلْحَقَّيْنِ وَاعْتِبَارُ هذا التَّخْرِيجِ أَيْضًا يُوجِبُ ما
ذَكَرْنَا وهو أَنْ يَكُونَ أَقَلّ ما تُصَدَّقُ فيه سِتُّونَ
وَأَمَّا الْأَمَةُ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ أَقَلُّ ما تُصَدَّقُ فيه على
رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عنه أَرْبَعُونَ يَوْمًا وهو أَنْ يُقَدِّرَ كَأَنَّهُ
طَلَّقَهَا في أَوَّلِ الطُّهْرِ فَيُبْدَأَ بِالطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا
ثُمَّ بِالْحَيْضِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ بِالطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا
ثُمَّ بِالْحَيْضِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ فَذَلِكَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا
وَأَمَّا على رِوَايَةِ الْحَسَنِ فَأَقَلُّ ما تُصَدَّقُ فيه خَمْسَةٌ
وَثَلَاثُونَ يَوْمًا لِأَنَّهُ يُجْعَلُ كَأَنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ في آخِرِ
الطُّهْرِ فَيُبْدَأُ بِالْحَيْضِ عَشَرَةً ثُمَّ بِالطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ
يَوْمًا ثُمَّ بِالْحَيْضِ عَشَرَةً فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا
فَاخْتَلَفَ حُكْمُ روايتيهما ( ( ( روايتهما ) ) ) في الْأَمَةِ وَاتَّفَقَ في
الْحُرَّةِ
وَأَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَأَقَلُّ ما تُصَدَّقُ فيه إحْدَى
وَعِشْرُونَ يَوْمًا لِأَنَّهُمَا يُقَدِّرَانِ الطَّلَاقَ في آخِرِ الطُّهْرِ
وَيَبْتَدِئَانِ بِالْحَيْضِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ بِالطُّهْرِ خَمْسَةَ
عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ بِالْحَيْضِ ثَلَاثَةً فَذَلِكَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ إذَا كانت نُفَسَاءَ بِأَنْ وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ
وَطَلَّقَهَا عَقِيبَ الْوِلَادَةِ ثُمَّ قالت انْقَضَتْ عِدَّتِي قال أبو
حَنِيفَةَ في رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عنه لَا تُصَدَّقُ الْحُرَّةُ في أَقَلَّ من
خَمْسَةٍ وَثَمَانِينَ يَوْمًا لِأَنَّهُ يَثْبُتُ النِّفَاسُ خَمْسَةً
وَعِشْرِينَ لِأَنَّهُ لو ثَبَتَ أَقَلُّ من ذلك لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يَثْبُتَ
بَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ظهرا ( ( ( طهرا ) ) ) ثُمَّ يُحْكَمَ بِالدَّمِ
فَيَبْطُلَ الطُّهْرُ لِأَنَّ من أَصْلِهِ أَنَّ الدَّمَيْنِ في الْأَرْبَعِينَ
لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا طُهْرٌ وَإِنْ كَثُرَ حتى لو رَأَتْ في أَوَّلِ
النِّفَاسِ سَاعَةً دَمًا وفي آخِرِهَا سَاعَةً كان الْكُلُّ نِفَاسًا عِنْدَهُ
فَجَعَلَ النِّفَاسَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا حتى يَثْبُتَ بَعْدَهُ طُهْرُ
خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَقَعَ الدَّمُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ فإذا كان كَذَلِكَ كان
بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ خَمْسَةً حَيْضًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا وَخَمْسَةً
حَيْضًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا وَخَمْسَةً حَيْضًا فَذَلِكَ خَمْسَةٌ
وَثَمَانُونَ
وَأَمَّا على رِوَايَةِ الْحَسَنِ عنه فَلَا تُصَدَّقُ في أَقَلَّ من مِائَةِ
يَوْمٍ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ عَشَرَةٌ حَيْضًا وَخَمْسَةَ
عَشَرَ طُهْرًا وَعَشَرَةٌ حَيْضًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا وَعَشَرَةٌ حَيْضًا
فَذَلِكَ مِائَةٌ
وقال أبو يُوسُفَ لَا تُصَدَّقُ في أَقَلَّ من خَمْسَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا
لِأَنَّهُ يَثْبُتُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا نِفَاسًا لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ
أَقَلَّ النِّفَاسِ يَزِيدُ على أَكْثَرِ الْحَيْضِ ثُمَّ يَثْبُتُ خَمْسَةَ عَشَرَ
يَوْمًا طُهْرًا وَثَلَاثَةٌ حَيْضًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا وَثَلَاثَةٌ
حَيْضًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا وَثَلَاثَةٌ حَيْضًا فَذَلِكَ خَمْسَةٌ
وَسِتُّونَ يَوْمًا
وقال مُحَمَّدٌ لَا تُصَدَّقُ في أَقَلَّ من أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ وَسَاعَةٍ
لِأَنَّ أَقَلَّ النِّفَاسِ ما وُجِدَ من الدَّمِ فَيُحْكَمُ بِنِفَاسِ سَاعَةٍ
وَبَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا وَثَلَاثَةٌ حَيْضًا وَخَمْسَةَ
عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا وَثَلَاثَةٌ حَيْضًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا
وَثَلَاثَةٌ حَيْضًا فَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ وَسَاعَةٌ وَإِنْ كانت
أَمَةً فَعَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عن أبي حَنِيفَةَ لَا تُصَدَّقُ في أَقَلَّ من
خَمْسَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ خَمْسَةٌ
حَيْضًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا وَخَمْسَةٌ حَيْضًا فَذَلِكَ خَمْسَةٌ
وَسِتُّونَ
وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ عنه لَا تُصَدَّقُ في أَقَلَّ من خَمْسَةٍ
وَسَبْعِينَ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ عَشَرَةٌ حَيْضًا
وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا وَعَشَرَةٌ حَيْضًا فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ وقال
أبو يُوسُفَ لَا تُصَدَّقُ في أَقَلَّ من سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ لِأَنَّهُ
يَثْبُتُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا نِفَاسًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا وَثَلَاثَةٌ
حَيْضًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا وَثَلَاثَةٌ حَيْضًا فَذَلِكَ سَبْعَةٌ
وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا
وقال مُحَمَّدٌ لَا تُصَدَّقُ في أَقَلَّ من سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا
وَسَاعَةٍ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ سَاعَةً نِفَاسًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا
وَثَلَاثَةً حَيْضًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا وَثَلَاثَةً حَيْضًا فَذَلِكَ
سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَةٌ
وَأَمَّا الْفِعْلُ فَنَحْوُ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ بَعْدَمَا مَضَتْ
مُدَّةٌ تَنْقَضِي في مِثْلِهَا الْعِدَّةُ حتى لو قالت لم تَنْقَضِ عِدَّتِي لم
تُصَدَّقْ لَا في حَقِّ الزَّوْجِ
____________________
(3/199)
الْأَوَّلِ
وَلَا في حَقِّ الزَّوْجِ الثَّانِي وَنِكَاحُ الزَّوْجِ الثَّانِي جَائِزٌ
لِأَنَّ إقْدَامَهَا على التَّزَوُّجِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَحْتَمِلُ
الِانْقِضَاءَ في مِثْلِهَا دَلِيلُ الِانْقِضَاءِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ انْتِقَالِ الْعِدَّةِ وَتَغَيُّرِهَا أم انْتِقَالُ
الْعِدَّةِ فَضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا انْتِقَالُهَا من الْأَشْهُرِ إلَى الإقراء
وَالثَّانِي انْتِقَالُهَا من الْأَقْرَاءِ إلَى الْأَشْهُرِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوُ الصَّغِيرَةِ اعْتَدَّتْ بِبَعْضِ الْأَشْهُرِ ثُمَّ
رَأَتْ الدَّمَ تَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا من الْأَشْهُرِ إلَى الْأَقْرَاءِ لِأَنَّ
الشَّهْرَ في حَقِّ الصَّغِيرَةِ بَدَلٌ عن الْأَقْرَاءِ وقد تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ
على الْمُبْدَلِ وَالْقُدْرَةُ على الْمُبْدَلِ قبل حُصُولِ الْمَقْصُودِ
بِالْبَدَلِ يُبْطِلُ حُكْمَ الْبَدَلِ كَالْقُدْرَةِ على الْوُضُوءِ في حَقِّ
الْمُتَيَمِّمِ وَنَحْوِ ذلك فَيُبْطِلُ حُكْمَ الْأَشْهُرِ فَانْتَقَلَتْ
عِدَّتُهَا إلَى الْحَيْضِ وكذلك الْآيِسَةُ إذَا اعْتَدَّتْ بِبَعْضِ الْأَشْهُرِ
ثُمَّ رأيت ( ( ( رأت ) ) ) الدَّمَ تَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا إلَى الْحَيْضِ كَذَا
ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ ما ذَكَرَهُ أبو الْحَسَنِ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ
التي لم يُقَدِّرُوا لِلْإِيَاسِ تَقْدِيرًا بَلْ هو غَالِبٌ على ظَنِّهَا أنها
آيِسَةٌ لِأَنَّهَا لَمَّا رَأَتْ الدَّمَ دَلَّ على أنها لم تَكُنْ آيِسَةً
وَأَنَّهَا أَخْطَأَتْ في الظَّنِّ فَلَا يُعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ في حَقِّهَا
لِمَا ذَكَرْنَا أنها بَدَلٌ فَلَا يُعْتَبَرُ مع وُجُودِ الْأَصْلِ
وَأَمَّا على الرِّوَايَةِ التي وَقَّتُوا لِلْإِيَاسِ وَقْتًا إذَا بَلَغَتْ ذلك
الْوَقْتَ ثُمَّ رَأَتْ بَعْدَهُ الدَّمَ لم يَكُنْ ذلك الدَّمُ حَيْضًا كَالدَّمِ
الذي تَرَاهُ الصَّغِيرَةُ التي لَا يَحِيضُ مِثْلُهَا وَكَذَا ذَكَرَهُ
الْجَصَّاصُ أَنَّ ذلك في التي ظَنَّتْ أنها آيِسَةٌ فَأَمَّا الْآيِسَةُ فما
تَرَى من الدَّمِ لَا يَكُونُ حَيْضًا أَلَا تَرَى أَنَّ وُجُودَ الْحَيْضِ منها
كان مُعْجِزَةَ نَبِيٍّ من الْأَنْبِيَاءِ عليهم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَا
يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ إلَّا على وَجْهِ الْمُعْجِزَةِ كَذَا عَلَّلَ الْجَصَّاصُ
وَأَمَّا الثَّانِي وهو انْتِقَالُ الْعِدَّةِ من الْأَقْرَاءِ إلَى الْأَشْهُرِ
فَنَحْوُ ذَاتِ الْقُرْءِ اعْتَدَّتْ بِحَيْضَةٍ أو حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ أَيِسَتْ
تَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا من الْحَيْضِ إلَى الْأَشْهُرِ فَتَسْتَقْبِلُ الْعِدَّةَ
بِالْأَشْهُرِ لِأَنَّهَا لَمَّا أَيِسَتْ فَقَدْ صَارَتْ عِدَّتُهَا
بِالْأَشْهُرِ لِقَوْلِهِ عز وجل { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ من الْمَحِيضِ من
نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ } وَالْأَشْهُرُ
بَدَلٌ عن الْحَيْضِ فَلَوْ لم تَسْتَقْبِلْ وَثَبَتَتْ على الْأَوَّلِ لَصَارَ
الشَّيْءُ الْوَاحِدُ أَصْلًا وَبَدَلًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ من شَرَعَ في الصَّلَاةِ بِالْوُضُوءِ ثُمَّ سَبَقَهُ
الْحَدَثُ فلم يَجِدْ مَاءً أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيَبْنِي على صَلَاتِهِ وَهَذَا
جَمْعٌ بين الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ في صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فَهَلَّا جَازَ ذلك في
الْعِدَّةِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ كَوْنُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بَدَلًا
وَأَصْلًا وَهَهُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِدَّةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَفَصْلُ
الصَّلَاةِ ليس من هذا الْقَبِيلِ لِأَنَّ ذلك جَمْعٌ بين الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ
في شَيْءٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فإن الْإِنْسَانَ قد يُصَلِّي
بَعْضَ صَلَاتِهِ قَائِمًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَبَعْضَهَا بِالْإِيمَاءِ
وَيَكُونُ جَمْعًا بين الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ في صلاة ( ( ( صلاته ) ) ) واحدة
وَمِنْ هذا الْقَبِيلِ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ مَاتَ فَإِنْ كان
الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا انْتَقَلَتْ عِدَّتُهَا إلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ سَوَاءٌ
طَلَّقَهَا في حَالَةِ الْمَرَضِ أو الصِّحَّةِ وَانْهَدَمَتْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ
وَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَأْنِفَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهَا
زَوْجَتُهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ إذْ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يُوجِبُ زَوَالَ
الزَّوْجِيَّةِ وَمَوْتُ الزَّوْجِ يُوجِبُ على زَوْجَتِهِ عِدَّةَ الْوَفَاةِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } كما لو
مَاتَ قبل الطَّلَاقِ وَإِنْ كان بَائِنًا أو ثَلَاثًا فَإِنْ لم تَرِثْ بِأَنْ
طَلَّقَهَا في حَالَةِ الصِّحَّةِ لَا تَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَوْجَبَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ على الزَّوْجَاتِ بِقَوْلِهِ عز وجل {
وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ } وقد
زَالَتْ الزَّوْجِيَّةُ بِالْإِبَانَةِ وَالثَّلَاثِ فَتَعَذَّرَ إيجَابُ عِدَّةِ
الْوَفَاةِ فَبَقِيَتْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ على حَالِهَا وَإِنْ وَرِثَتْ بِأَنْ
طَلَّقَهَا في حَالَةِ الْمَرَضِ ثُمَّ مَاتَ قبل أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَوَرِثَتْ
اعْتَدَّتْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فيها ثَلَاثُ حِيَضٍ حتى أنها لو لم
تَرَ في مُدَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَالْعَشْرِ ثَلَاثَ حِيَضٍ تَسْتَكْمِلُ
بَعْدَ ذلك وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وَكَذَلِكَ كُلُّ مُعْتَدَّةٍ وَرِثَتْ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وعني بِذَلِكَ
امْرَأَةَ الْمُرْتَدِّ بِأَنْ ارْتَدَّ زَوْجُهَا بَعْدَمَا دخل بها وَوَجَبَتْ
عليها الْعِدَّةُ ثُمَّ مَاتَ أو قُتِلَ وَوَرِثَتْهُ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في امْرَأَةِ الْمُرْتَدِّ رِوَايَتَيْنِ عن أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ ليس عليها إلَّا ثَلَاثُ حِيَضٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا أَوْجَبَ عِدَّةَ
الْوَفَاةِ على الزَّوْجَاتِ وقد بَطَلَتْ الزَّوْجِيَّةُ بِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ
إلَّا أَنَّا أبقيناها ( ( ( بقيناها ) ) ) في حَقِّ الأرث خَاصَّةً لِتُهْمَةِ
الْفِرَارِ فمن ( ( ( ممن ) ) ) ادَّعَى بَقَاءَهَا في حَقِّ وُجُوبِ عِدَّةِ
الْوَفَاةِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا بَقِيَ في حَقِّ الْإِرْثِ فَلَأَنْ
يَبْقَى في حَقِّ زوجب ( ( ( وجوب ) ) ) الْعِدَّةِ أَوْلَى لِأَنَّ الْعِدَّةَ
يحتاج ( ( ( يحتاط ) ) ) في إيجَابِهَا فَكَانَ قِيَامُ النِّكَاحِ من وَجْهٍ
كَافِيًا لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ احْتِيَاطًا فَيَجِبُ عليها الِاعْتِدَادُ
____________________
(3/200)
أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فيها ثَلَاثُ حِيَضٍ وَلَوْ حَمَلَتْ الْمُعْتَدَّةُ في
عِدَّتِهَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ من حَمَلَتْ في عِدَّتِهَا فَالْعِدَّةُ
أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا
ولم يَفْصِلْ بين الْمُعْتَدَّةِ عن طَلَاقٍ أو وَفَاةٍ وقد فَصَلَ مُحَمَّدٌ
بَيْنَهُمَا فإنه قال فِيمَنْ مَاتَ عن امْرَأَتِهِ وهو صَغِيرٌ أو كَبِيرٌ ثُمَّ
حَمَلَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَعِدَّتُهَا الشُّهُورُ فَهَذَا نَصٌّ على أَنَّ
عِدَّةَ المتوفي عنها زَوْجُهَا لَا تَنْتَقِلُ بِوُجُودِ الْحَمْلِ من
الْأَشْهُرِ إلَى وَضْعِ الْحَمْلِ قال وَإِنْ كانت في عِدَّةِ الطَّلَاقِ
فَحَبِلَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَعُلِمَ بِذَلِكَ فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ
حَمْلَهَا
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ أَصْلُ الْعِدَدِ لِأَنَّ
الْعِدَّةَ وُضِعَتْ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ وَلَا شَيْءَ أَدَلُّ على بَرَاءَةِ
الرَّحِمِ من وَضْعِ الْحَمْلِ فَيَجِبُ أَنْ يَسْقُطَ معه ما سِوَاهُ كما
تَسْقُطُ الشُّهُورُ مع الْحَيْضِ
وَالصَّحِيحُ ما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ أَنَّ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا
لَا تَتَغَيَّرُ بِوُجُودِ الْحَمْلِ بَعْدَ الْوَفَاةِ وَلَا تَنْتَقِلُ من
الْأَشْهُرِ إلَى وَضْعِ الْحَمْلِ بِخِلَافِ عِدَّةِ الطَّلَاقِ
وَجْهُ الْفَرْقِ بين الْعِدَّتَيْنِ أَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ إنَّمَا وَجَبَتْ
لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ بِدَلِيلِ أنها تَتَأَدَّى بِالْأَشْهُرِ مع وُجُودِ
الْحَيْضِ وَكَذَا تَجِبُ قبل الدُّخُولِ وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِإِظْهَارِ
التَّأَسُّفِ على فَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ وكان الْأَصْلُ في هده ( ( ( هذه ) )
) الْعِدَّةِ هو الْأَشْهُرُ إلَّا إذَا كانت حَامِلًا وَقْتَ الْوَفَاةِ
فَيَتَعَلَّقُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ فإذا كانت حَامِلًا بَقِيَتْ على حُكْمِ
الْأَصْلِ فَلَا تَتَغَيَّرُ بِوُجُودِ الْحَمْلِ فَلَا تَنْتَقِلُ بِخِلَافِ
عِدَّةِ الطَّلَاقِ فإن الْمَقْصُودَ منها الِاسْتِبْرَاءُ وَوَضْعُ الْحَمْلِ
أَصْلٌ في الِاسْتِبْرَاءِ فإذا قَدَرَتْ عليه سَقَطَ ما سِوَاهُ أو يُحْمَلُ ما
ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ على الْخُصُوصِ وَهِيَ التي حَبِلَتْ في عِدَّةِ الطَّلَاقِ
وَذِكْرُ الْعَامِّ على إرَادَةِ الْخَاصِّ مُتَعَارَفٌ
وقال مُحَمَّدٌ في عِدَّةِ الطَّلَاقِ أنها إذَا حَبِلَتْ فَإِنْ لم يُعْلَمْ أنها
حَبِلَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ من سَنَتَيْنِ
فَقَدْ حَكَمْنَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بَعْدَ الْوَضْعِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ
حَمْلًا لِأَمْرِهَا على الصَّلَاحِ إذْ الظَّاهِرُ من حَالِ الْمُسْلِمَةِ أَنْ
لَا تَتَزَوَّجَ في عِدَّتِهَا فَيُحْكَمَ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قبل
التَّزَوُّجِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا تَغْيِيرُ الْعِدَّةِ فَنَحْوُ الْأَمَةِ إذَا طَلُقَتْ ثُمَّ
أُعْتِقَتْ فَإِنْ كان الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا تَتَغَيَّرُ عِدَّتُهَا إلَى عِدَّةِ
الْحَرَائِرِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُزِيلُ الزَّوْجِيَّةَ
فَهَذِهِ حُرَّةٌ وَجَبَتْ عليها الْعِدَّةُ وَهِيَ زَوْجَتُهُ فَتَعْتَدُّ
عِدَّةَ الْحَرَائِرِ كما إذَا عَتَقَهَا الْمَوْلَى ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ
وَإِنْ كانت بَائِنًا لَا تَتَغَيَّرُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
تَتَغَيَّرُ فِيهِمَا جميعا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَصْلَ في الْعِدَّةِ هو الْكَمَالُ وَإِنَّمَا
النُّقْصَانُ بِعَارِضِ الرِّقِّ فإذا أُعْتِقَتْ فَقَدْ زَالَ الْعَارِضُ
وَأَمْكَنَ تَكْمِيلُهَا فَتَكْمُلُ
وَلَنَا أَنَّ الطَّلَاقَ أَوْجَبَ عليها عِدَّةَ الْإِمَاءِ لِأَنَّهُ صَادَفَهَا
وَهِيَ أَمَةٌ وَالْإِعْتَاقُ وُجِدَ وَهِيَ مُبَانَةٌ فَلَا يَتَغَيَّرُ
الْوَاجِبُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ كَعِدَّةِ الْوَفَاةِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ
الرَّجْعِيِّ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ فَوُجِدَ الاعتاق وَهِيَ
زَوْجَتُهُ فَوَجَبَتْ عليها الْعِدَّةُ وَهِيَ حُرَّةٌ فَتَعْتَدُّ عِدَّةَ
الْحَرَائِرِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِيلَاءِ بِأَنْ كانت الزَّوْجَةُ مَمْلُوكَةً
وَقْتَ الْإِيلَاءِ ثُمَّ أُعْتِقَتْ أَنَّهُ تَنْقَلِبُ عِدَّتُهَا إلَى عِدَّةِ
الْحَرَائِرِ وَإِنْ كان الْإِيلَاءُ طَلَاقًا بَائِنًا وقد سَوَّى بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الرَّجْعِيِّ في هذا الْحُكْمِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ
الْبَيْنُونَةَ في الْإِيلَاءِ لَا تَثْبُتُ لِلْحَالِ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بَعْدَ
انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَكَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً لِلْحَالِ فَأَشْبَهَ
الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ بِأَنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ رَجْعِيًّا ثُمَّ
أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى وَهُنَاكَ تَنْقَلِبُ عِدَّتُهَا عِدَّةَ الْحَرَائِرِ
فَكَذَا مُدَّتُهَا هَهُنَا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ فإنه يُوجِبُ زَوَالَ
الْمِلْكِ لِلْحَالِ وقد وَجَبَتْ عِدَّةُ الْإِمَاءِ بِالطَّلَاقِ فَلَا
تَتَغَيَّرُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ بِالْعِتْقِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ إذَا رَاجَعَهَا الزَّوْجُ ثُمَّ
طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها قال أَصْحَابُنَا عليها عِدَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ
وقال الشَّافِعِيُّ في أَحَدِ قَوْلَيْهِ أنها تُكْمِلُ الْعِدَّةَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أنها تَعْتَدُّ عن الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ لَا عن الثَّانِي
لِأَنَّ الثَّانِي طَلَاقٌ قبل الدُّخُولِ فَلَا يُوجِبُ الْعِدَّةَ
وَلَنَا أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّانِي طَلَاقٌ بَعْدَ الدُّخُولِ لِأَنَّ
الرَّجْعَةَ لَيْسَتْ إنْشَاءَ النِّكَاحِ بَلْ هِيَ فَسْخُ الطَّلَاقِ وَمَنْعُهُ
عن الْعَمَلِ بِثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَانَتْ
مُطْلَقَةً بِالطَّلَاقِ الثَّانِي بَعْدَ الدُّخُولِ فَتَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله
تَعَالَى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ }
وَلَوْ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ مَاتَ عنها وَهِيَ تَحْتَ زَوْجٍ أو في
عِدَّةٍ من زَوْجٍ فَلَا عِدَّةَ عليها بِمَوْتِ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْعِدَّةَ
إنَّمَا تَجِبُ عليها بِمَوْتِ الْمَوْلَى لِزَوَالِ الْفِرَاشِ فإذا كانت تَحْتَ
زَوْجٍ أو في عِدَّةٍ من زَوْجٍ لم تَكُنْ فِرَاشًا له لِقِيَامِ فِرَاشِ
الزَّوْجِ فَلَا تَجِبُ عليها الْعِدَّةُ فَإِنْ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى ثُمَّ
طَلَّقَهَا الزَّوْجُ فَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْحَرَائِرِ لِأَنَّ اعتاق الْمَوْلَى
صَادَفَهَا وَهِيَ فِرَاشُ الزَّوْجِ فَلَا يُوجِبُ عليها الْعِدَّةَ وَطَلَاقُ
الزَّوْجِ صَادَفَهَا وَهِيَ حُرَّةٌ فَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْحَرَائِرِ
وَلَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ أَوَّلًا ثُمَّ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى فَإِنْ
____________________
(3/201)
كان
الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا تَتَغَيَّرُ عِدَّتُهَا إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ وَإِنْ
كان بَائِنًا لَا تَتَغَيَّرُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَإِنْ انْقَضَتْ
عِدَّتُهَا ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَعَلَيْهَا بِمَوْتِ الْمَوْلَى ثَلَاثُ
حِيَضٍ لِأَنَّهَا لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا من الزَّوْجِ فَقَدْ عَادَ فِرَاشُ
الْمَوْلَى ثُمَّ زَالَ بِالْمَوْتِ فَتَجِبُ الْعِدَّةُ لِزَوَالِ الْفِرَاشِ كما
إذَا مَاتَ قبل أَنْ يُزَوِّجَهَا فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى وللزوج ( ( ( والزوج )
) ) فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو أما إنْ عُلِمَ أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا وَإِمَّا
أَنْ لَا يُعْلَمَ وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا أن عُلِمَ كَمْ بين موتهما ( ( (
موتيهما ) ) ) واما أن لم يُعْلَمْ فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الزَّوْجَ مَاتَ أَوَّلًا
وَعُلِمَ أَنَّ بين مَوْتَيْهِمَا أَكْثَرَ من شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ
فَعَلَيْهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ مُدَّةُ عِدَّةِ الْأَمَةِ في وَفَاةِ
الزَّوْجِ فإذا مَاتَ الْمَوْلَى فَعَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ لِأَنَّهُ مَاتَ
بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا من الْوَفَاةِ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ من الْمَوْلَى
وَذَلِكَ ثَلَاثُ حِيَضٍ وَإِنْ كان بين مَوْتَيْهِمَا أَقَلُّ من شَهْرَيْنِ
وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ فَكَذَلِكَ عليها شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ مُدَّةُ
عِدَّةِ وَفَاةِ الزَّوْجِ فإذا مَاتَ الْمَوْلَى لَا شَيْءَ عليها بِمَوْتِهِ
لِأَنَّهُ مَاتَ وَهِيَ في عِدَّةِ الزَّوْجِ
وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْمَوْلَى مَاتَ أَوَّلًا فَلَا عِدَّةَ عليها من الْمَوْلَى
لِأَنَّهَا تَحْتَ زَوْجٍ فلم تَكُنْ فِرَاشًا لِلْمَوْلَى فإذا مَاتَ الزَّوْجُ
فَعَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وعشرة ( ( ( وعشر ) ) ) عِدَّةُ الْوَفَاةِ من
الزَّوْجِ لِأَنَّهَا اعتقت بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَعِدَّةُ الْحُرَّةِ في
الْوَفَاةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَإِنْ لم يُعْلَمْ أَيُّهُمَا مَاتَ
أَوَّلًا فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ بين موتيهما ( ( ( موتهما ) ) ) أَكْثَرَ من
شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ فَعَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٌ وَعَشْرٌ فيها
ثَلَاثُ حِيَضٍ وَتَفْسِيرُهُ أنها إذَا لم تَرَ ثَلَاثَ حِيَضٍ في هذه
الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ تَسْتَكْمِلُ بَعْدَ ذلك لِأَنَّهُ إنْ
مَاتَ الزَّوْجُ أَوَّلًا فَقَدْ وَجَبَ عليها شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ
لِأَنَّهَا أَمَةٌ وَعِدَّةُ الْأَمَةِ من زَوْجِهَا الْمُتَوَفَّى هذا الْقَدْرُ
ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَوَجَبَ عليها ثَلَاثُ
حِيَضٍ عِدَّةُ الْمَوْلَى
وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوَّلًا فَقَدْ عَتَقَتْ بِمَوْتِهِ وَلَا عِدَّةَ عليها
منه
لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِرَاشًا له وَعِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ من مَوْلَاهَا تَجِبُ
بِزَوَالِ الْفِرَاشِ فلما مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى فَقَدْ مَاتَ
الزَّوْجُ وَهِيَ حُرَّةٌ فَوَجَبَ عليها عِدَّةُ الْحَرَائِرِ في الْوَفَاةِ
وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فَإِذًا في حَالٍ يَجِبُ عليها شَهْرَانِ
وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ وَثَلَاثُ حِيَضٍ وفي حَالٍ يَجِبُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ
وَعَشْرٌ وَالشَّهْرَانِ يَدْخُلَانِ في الشُّهُورِ فَيَجِبُ عليها أَرْبَعَةُ
أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فيها ثَلَاثُ حِيَضٍ على التَّفْسِيرِ الذي ذَكَرْنَا
احْتِيَاطًا وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ بين مَوْتَيْهِمَا أَقَلُّ من شَهْرَيْنِ
وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ فَعَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ في قَوْلِهِمْ
جميعا لِأَنَّهُ لَا حَالَ هَهُنَا لِوُجُوبِ الْحَيْضِ لِأَنَّهُ ان مَاتَ
الْمَوْلَى أَوَّلًا لم يَجِبْ بِمَوْتِهِ شَيْءٌ لِأَنَّهَا تَحْتَ زَوْجٍ فإذا
مَاتَ وَجَبَ عليها أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ عشر ( ( ( وعشر ) ) ) لِأَنَّهَا عَتَقَتْ
بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَعِدَّةُ الْحُرَّةِ في الْوَفَاةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ
وَعَشْرٌ
وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ أَوَّلًا وَجَبَ عليها شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ
لِأَنَّهَا أَمَةٌ فإذا مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَهُ لَا يَجِبُ عليها شَيْءٌ
بِمَوْتِهِ لِأَنَّهُ مَاتَ وَهِيَ في عِدَّةِ الزَّوْجِ فلم تَكُنْ فِرَاشًا له
فَإِذًا في حَالٍ يَجِبُ عليها أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فَقَطْ وفي حَالٍ
شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ فَقَطْ فَأَوْجَبْنَا الِاعْتِدَادَ بِأَكْثَرِ
الْمُدَّتَيْنِ احْتِيَاطًا فإذا لم يُعْلَمْ أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا ولم
يُعْلَمْ أَيْضًا كَمْ بين موتيهما ( ( ( موتهما ) ) ) فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه
قال أبو حَنِيفَةَ عليها أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ لَا حَيْضَ فيها وقال أبو
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ عليها أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فيها ثَلَاثُ حِيَضٍ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الزَّوْجَ مَاتَ أَوَّلًا
وَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ
فَيَجِبُ عليها ثَلَاثُ حِيَضٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى مَاتَ
أَوَّلًا فَعَتَقَتْ بِمَوْتِهِ ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ فَيَجِبُ أَرْبَعَةُ
أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فَيُرَاعَى فيه الِاحْتِيَاطُ فَيُجْمَعُ بين الْأَرْبَعَةِ
الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ وَالْحَيْضِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْرًا } وَهَذَا تَقْدِيرٌ لِعِدَّةِ الْوَفَاةِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
وَعَشْرٍ فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عليه إلَّا بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في
كل أَمْرَيْنِ حَادِثَيْنِ لم يُعْلَمْ تَارِيخُ ما بَيْنَهُمَا إن يُحْكَمَ
بِوُقُوعِهِمَا مَعًا كَالْغَرْقَى وَالْحَرْقَى وَالْهَدْمَى وإذا حُكِمَ
بِمَوْتِ الزَّوْجِ مع مَوْتِ الْمَوْلَى فَقَدْ وَجَبَتْ عليها الْعِدَّةُ وَهِيَ
حُرَّةٌ فَكَانَتْ عِدَّةَ الْحَرَائِرِ فلم يَكُنْ لايجاب الْحَيْضِ حَالٌ فَلَا
يُمْكِنُ إيجَابُهَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ قال أبو يُوسُفَ إذَا تَزَوَّجَ أُمَّ الْوَلَدِ بِغَيْرِ
إذْنِ مَوْلَاهَا وَدَخَلَ بها الزَّوْجُ ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ وَالْمَوْلَى
وَلَا يُعْلَمْ أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا وَلَا كَمْ بين موتيهما ( ( ( موتيها )
) ) فَعَلَيْهَا حَيْضَتَانِ في قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ يُحْكَمُ
بِمَوْتِهِمَا مَعًا وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ يَجِبُ عليها ثَلَاثُ حِيَضٍ في
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ بِنَاءً على أَصْلِهِ في اعْتِبَارِ الِاحْتِيَاطِ
لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمَوْلَى مَاتَ أَوَّلًا فَنَفَذَ النِّكَاحُ
لِمَوْتِهِ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ فَجَازَ نِكَاحُهَا بِعِتْقِهَا ثُمَّ مَاتَ
الزَّوْجُ وَهِيَ حُرَّةٌ فَوَجَبَ
____________________
(3/202)
عليها
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ الزَّوْجُ أَوَّلًا
وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ
فَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْمَوْلَى ثَلَاثُ حِيَضٍ فَوَجَبَ عليها أَرْبَعَةُ
أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فيها ثَلَاثُ حِيَضٍ احْتِيَاطًا
وَإِنْ عُلِمَ إن بين مَوْتَيْهِمَا ما لَا تَحِيضُ فيه حَيْضَتَيْنِ فَعَلَيْهَا
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فيها حَيْضَتَانِ لِأَنَّ عِدَّةَ الْمَوْلَى قد
سَقَطَتْ سَوَاءٌ مَاتَ أَوَّلًا أو آخِرًا إذَا كان بين مَوْتَيْهِمَا ما لَا
تَحِيضُ فيه حَيْضَتَيْنِ وَوَقَعَ التَّرَدُّدُ في عِدَّةِ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ
إنْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوَّلًا فَعَتَقَتْ نَفَذَ نِكَاحُهَا بِعِتْقِهَا فَوَجَبَ
عليها عِدَّةُ الْحَرَائِرِ بِالْوَفَاةِ وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ أَوَّلًا وَجَبَ
عليها حَيْضَتَانِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا احْتِيَاطًا
وَلَوْ حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ بين مَوْتَيْهِمَا فَعَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ
وَعَشْرٌ فيها ثَلَاثُ حِيَضٍ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوَّلًا فَعَتَقَتْ
فَنَفَذَ نِكَاحُهَا فلما مَاتَ الزَّوْجُ وَجَبَ عليها عِدَّةُ الشُّهُورِ وَإِنْ
مَاتَ الزَّوْجُ أَوَّلًا ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ
فَيَجِبُ عليها ثَلَاثُ حِيَضٍ فَيُجْمَعُ بين الشُّهُورِ وَالْحِيَضِ احْتِيَاطًا
وَلَوْ اشْتَرَى الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ وَلَهُ منها وَلَدٌ فاعتقها فَعَلَيْهَا
ثَلَاثُ حِيَضٍ حَيْضَتَانِ من النِّكَاحِ تَجْتَنِبُ فِيهِمَا ما تَجْتَنِبُ
الْمَنْكُوحَةُ وَحَيْضَةٌ من الْعِتْقِ لَا تَجْتَنِبُ فيها لِأَنَّهُ لَمَّا
اشْتَرَاهَا فَقَدْ فَسَدَ نِكَاحُهَا وَوَجَبَتْ عليها الْعِدَّةُ فَصَارَتْ
مُعْتَدَّةً في حَقِّ غَيْرِهِ وَإِنْ لم تَكُنْ مُعْتَدَّةً في حَقِّهِ بِدَلِيلِ
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ له أَنْ يُزَوِّجَهَا فإذا أَعْتَقَهَا صَارَتْ مُعْتَدَّةً
في حَقِّهِ وفي حَقِّ غَيْرِهِ لِأَنَّ المانع ( ( ( المنافع ) ) ) من كَوْنِهَا
مُعْتَدَّةً في حَقِّهِ هو إبَاحَةُ وَطْئِهَا وقد زَالَ ذلك بِزَوَالِ مِلْكِ
الْيَمِينِ فَزَالَ الْمَانِعُ فَظَهَرَ حُكْمُ الْعِدَّةِ في حَقِّهِ أَيْضًا
فَيَجِبُ عليها حَيْضَتَانِ من فَسَادِ النِّكَاحِ وَهُمَا مُعْتَبَرَانِ من
الاعتاق أَيْضًا وَعِدَّةُ النِّكَاحِ يَجِبُ فيها الاحداد
وَأَمَّا الْحَيْضَةُ الثَّالِثَةُ فَإِنَّمَا تَجِبُ من الْعِتْقِ خَاصَّةً
وَعِدَّةُ الْعِتْقِ لَا إحْدَادَ فيها فَإِنْ كان طَلَّقَهَا قبل أَنْ
يَشْتَرِيَهَا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً بَائِنَةً ثُمَّ اشْتَرَاهَا حَلَّ له
وَطْؤُهَا وكان لها أَنْ تَتَزَيَّنَ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ سَبَبٌ لِحِلِّ
الْوَطْءِ في الْأَصْلِ لَا لِمَانِعٍ وَمَاؤُهُ لَا يَصْلُحُ مَانِعًا لِوَطْئِهِ
كما لو جَدَّدَ النِّكَاحَ فإذا حَلَّ له وَطْؤُهَا سَقَطَ عنها الْإِحْدَادُ
فَإِنْ حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ قبل الْعِتْقِ ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَلَا عِدَّةَ
عليها من النِّكَاحِ وَتَعْتَدُّ في الْعِتْقِ ثَلَاثَ حِيَضٍ لِأَنَّهَا وَإِنْ
لم تَكُنْ مُعْتَدَّةً في حَقِّهِ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَهِيَ مُعْتَدَّةٌ في حَقِّ
غَيْرِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فإذا مَضَتْ الْحِيَضُ
بَعْدَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ وجه ( ( ( بوجه ) ) ) من الْوُجُوهِ تَعْتَدُّ بها فإذا
أَعْتَقَهَا وَجَبَ عليها بِالْعِتْقِ عِدَّةٌ أُخْرَى وَهِيَ عِدَّةُ أُمِّ
الْوَلَدِ ثَلَاثُ حِيَضٍ وإذا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ زَوْجَتَهُ ثُمَّ مَاتَ
وَتَرَكَ وَفَاءً فَأَدَّتْ الْمُكَاتَبَةُ فَسَدَ النِّكَاحُ قبل الْمَوْتِ بِلَا
فَصْلٍ وَوَجَبَتْ عليها الْعِدَّةُ من فَسَادِ النِّكَاحِ حَيْضَتَانِ إذَا كانت
لم تَلِدْ منه وقد دخل بها
أَمَّا فَسَادُ النِّكَاحِ قبل مَوْتِهِ بِلَا فَصْلٍ فَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا
مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً فأدى يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ في آخِرِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ
حَيَاتِهِ وإذا أُعْتِقَ مَلَكَهَا الْآنَ فَفَسَدَ نِكَاحُهَا
وَأَمَّا وُجُوبُ الْعِدَّةِ عليها حَيْضَتَانِ فَلِأَنَّهَا بَانَتْ وَهِيَ
أَمَةٌ فَإِنْ كانت وَلَدَتْ فَعَلَيْهَا تَمَامُ ثَلَاثِ حِيَضٍ لِأَنَّهَا أُمُّ
وَلَدٍ فَيَجِبُ عليها حَيْضَتَانِ بِالنِّكَاحِ وَالْعِتْقِ وَحَيْضَةٌ
بِالْعِتْقِ خَاصَّةً فَإِنْ لم يَتْرُكْ وَفَاءً ولم تَلِدْ منه فَعَلَيْهَا
شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ دخل بها أو لم يَدْخُلْ بها إذَا لم تَكُنْ
وَلَدَتْ منه لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ عَاجِزًا لم يَفْسُدْ نِكَاحُهَا لِأَنَّهُ
مَاتَ عَبْدًا فلم يَمْلِكْهَا فَمَاتَ عن مَنْكُوحَتِهِ وَهِيَ زَوْجَتُهُ أَمَةً
فَيَجِبُ عليها شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ عِدَّةُ الْأَمَةِ في الْوَفَاةِ
وَيَسْتَوِي فيه الدُّخُولُ وَعَدَمُ الدُّخُولِ لِأَنَّ الْعِدَّةَ عِدَّةُ
الْوَفَاةِ فَإِنْ كانت وَلَدَتْ منه سَعَتْ وَسَعَى وَلَدُهَا على نُجُومِهِ
فَإِنْ عَجَزَا فَعِدَّتُهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ لِمَا بَيَّنَّا
فَإِنْ أَدَّيَا عَتَقَا وَعَتَقَ الْمُكَاتَبُ فَإِنْ كان الْأَدَاءُ في
الْعِدَّةِ فَعَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ مُسْتَأْنَفَةٍ من يَوْمِ عَتَقَا
يَسْتَكْمِلُ فيها شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ من يَوْمِ مَاتَ الْمُكَاتَبُ
لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا تَرَكَ وَلَدًا ولم يَتْرُكْ وَفَاءً
فَاكْتَسَبَ الْوَلَدُ وَأَدَّى يُحْكَمُ بِعِتْقِ الْمُكَاتَبِ في الْحَالِ
وَيُسْتَنَدُ إلَى ما قبل الْمَوْتِ من طَرِيقِ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ إذَا لم
يَتْرُكْ وَفَاءً فَقَدْ مَاتَ عَاجِزًا في الظَّاهِرِ فلم يُحْكَمْ بِعِتْقِهِ
قبل مَوْتِهِ مع الْعَجْزِ وَإِنَّمَا يُحْكَمُ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَيُحْكَمُ
بِعِتْقِهِ لِلْحَالِ ثُمَّ يُسْتَنَدُ فَيُعْتَقُ بِعِتْقِهِ وَيَجِبُ عليها
الْحَيْضُ بَعْدَ الْعِتْقِ بِخِلَافِ ما إذَا تَرَكَ وَفَاءً لِأَنَّهُ إذَا كان
له مَالٌ فَالدَّيْنُ وهو بَدَلُ الْكِتَابَةِ يَنْتَقِلُ من ذِمَّتِهِ إلَى
الْمَالِ فَيَمْنَعُ ظُهُورَ الْعَجْزِ فإذا أَدَّى يُحْكَمُ بِسُقُوطِ الدين ( (
( دين ) ) ) الْكِتَابَةِ عنه وَسَلَامَتِهِ لِلْمَوْلَى في آخِرِ جُزْءٍ من
أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَيُعْتَقُ في ذلك الْوَقْتِ
وَعِنْدَ زُفَرَ في الْفَصْلَيْنِ جميعا يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ قبل الْمَوْتِ
وَيُجْعَلُ الْوَلَدُ إذَا أَدَّى كَالْكَسْبِ إذَا أَدَّى عنه وَالْمَسْأَلَةُ
تُعْرَفُ في مَوْضِعٍ آخَرَ فَإِنْ أَدَّيَا فَعَتَقَا بَعْدَمَا انْقَضَتْ
الْعِدَّةُ بِالشَّهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ فَعَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ
مُسْتَقْبَلَةٍ لِأَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ لَمَّا
____________________
(3/203)
انْقَضَتْ
تَجَدَّدَ وُجُوبُ عِدَّةٍ أُخْرَى بِالْعِتْقِ فَكَانَ عليها أَنْ تَعْتَدَّ بها
وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ عن مُحَمَّدٍ إذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ
امْرَأَتَهُ وَوَلَدَهُ منها وَمَاتَ ترك ( ( ( وترك ) ) ) وَفَاءً من دُيُونٍ له
أو مَالٍ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ في شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ لِأَنِّي
لَا أَعْلَمُ يؤدي الْمَالُ فَيُحْكَمُ بِعِتْقِهِ أو يَنْوِي فَيُحْكَمُ
بِعَجْزِهِ فَوَجَبَ الْجَمْعُ بين الْعِدَّتَيْنِ
وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمُكَاتَبُ بِنْتَ مَوْلَاهُ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى وَمَاتَ
الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ وَفَاءً فَعَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ دخل بها
أو لم يَدْخُلْ بها لِأَنَّ النِّكَاحَ عِنْدَنَا لَا يَفْسُدُ بِمَوْتِ
الْمَوْلَى فإذا مَاتَ الْمُكَاتَبُ عن مَنْكُوحَتِهِ الْحُرَّةِ وَجَبَتْ عليها
عِدَّةُ الْحَرَائِرِ وَإِنْ لم يَتْرُكْ وَفَاءً فَعَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ إنْ
كان قد دخل بها وَإِنْ لم يَكُنْ دخل بها فَلَا عِدَّةَ عليها لِأَنَّهُ مَاتَ
عَاجِزًا فَمَلَكَتْهُ قبل مَوْتِهِ وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ وَوَجَبَتْ عليها
الْعِدَّةُ بِالْفُرْقَةِ في حَالِ الْحَيَاةِ إنْ كان دخل بها وَإِلَّا فَلَا
فَصْلٌ وَأَمَّا أَحْكَامُ الْعِدَّةِ فَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
لِلْأَجْنَبِيِّ نِكَاحُ الْمُعْتَدَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَعْزِمُوا
عُقْدَةَ النِّكَاحِ حتى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } قِيلَ أَيْ لَا
تَعْزِمُوا على عُقْدَةِ النِّكَاحِ وَقِيلَ أَيْ لَا تَعْقِدُوا عَقْدَ
النِّكَاحِ حتى يَنْقَضِيَ ما كَتَبَ اللَّهُ عليها من الْعِدَّةِ وَلِأَنَّ
النِّكَاحَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ قَائِمٌ من كل وَجْهٍ وَبَعْدَ
الثَّلَاثِ وَالْبَائِنِ قَائِمٌ من وَجْهٍ حَالَ قِيَامِ الْعِدَّةِ لِقِيَامِ
بَعْضِ الْآثَارِ وَالثَّابِتُ من وَجْهٍ كَالثَّابِتِ من كل وَجْهٍ في بَابِ
الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا
وَيَجُوزُ لِصَاحِبِ الْعِدَّةِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّ النَّهْيَ عن
التَّزَوُّجِ لِلْأَجَانِبِ لَا لِلْأَزْوَاجِ لِأَنَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ إنَّمَا
لَزِمَتْهَا حَقًّا لِلزَّوْجِ لِكَوْنِهَا بَاقِيَةً على حُكْمِ نِكَاحِهِ من
وَجْهٍ فَإِنَّمَا يَظْهَرُ في حَقِّ التَّحْرِيمِ على الأجنبى لَا على الزَّوْجِ
إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ حَقَّهُ
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ للأجنبى خِطْبَةُ الْمُعْتَدَّةِ صَرِيحًا سَوَاءٌ
كانت مُطَلَّقَةً أو مُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا
أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَلِأَنَّهَا زَوْجَةُ الْمُطَلِّقِ
لِقِيَامِ مِلْكِ النِّكَاحِ من كل وَجْهٍ فَلَا يَجُوزُ خِطْبَتُهَا كما لَا تجوز
( ( ( يجوز ) ) ) قبل الطَّلَاقِ
وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا أو بَائِنًا وَالْمُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا
فَلِأَنَّ النِّكَاحَ حَالَ قِيَامِ الْعِدَّةِ قَائِمٌ من كل وَجْهٍ لِقِيَامِ
بَعْضِ آثَارِهِ كَالثَّابِتِ من كل وَجْهٍ في بَابِ الْحُرْمَةِ وَلِأَنَّ
التَّصْرِيحَ بِالْخِطْبَةِ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ من وَجْهِ وُقُوفِ مَوْقِفِ
التُّهْمَةِ وَرَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى وقد قال النبي من كان يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ وقال من رَتَعَ حَوْلَ
الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فيه فَلَا يَجُوزُ التَّصْرِيحُ بِالْخِطْبَةِ في
الْعِدَّةِ أَصْلًا
وَأَمَّا التَّعْرِيضُ فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا في عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَلَا بَأْسَ
بِهِ في عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُعْتَدَّةِ من طَلَاقٍ الْخُرُوجُ من مَنْزِلِهَا
أَصْلًا بِاللَّيْلِ وَلَا بِالنَّهَارِ فَلَا يُمْكِنُ التَّعْرِيضُ على وَجْهٍ
لَا يَقِفُ عليه الناس وَالْإِظْهَارُ بِذَلِكَ بِالْحُضُورِ إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا
قَبِيحٌ
وَأَمَّا الْمُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا فَيُبَاحُ لها الْخُرُوجُ نَهَارًا
فَيُمْكِنُ التَّعْرِيضُ على وَجْهٍ لَا يَقِفُ عليه سِوَاهَا
وَالثَّانِي أَنَّ تَعْرِيضَ الْمُطَلَّقَةِ اكْتِسَابُ عَدَاوَةٍ وَبُغْضٍ فِيمَا
بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا إذْ الْعِدَّةُ من حَقِّهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا
لم يَدْخُلْ بها لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ وَمَعْنَى الْعَدَاوَةِ لَا يَتَقَدَّرُ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَيِّتِ وَلَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَرَثَتِهِ أَيْضًا
لِأَنَّ الْعِدَّةَ في الْمُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا لَيْسَتْ لِحَقِّ الزَّوْجِ
بِدَلِيلِ أنها تَجِبُ قبل الدُّخُولِ بها فَلَا يَكُونُ التَّعْرِيضُ في هذه
الْعِدَّةِ نسبيا ( ( ( تسبيبا ) ) ) إلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبُغْضِ بَيْنَهَا
وَبَيْنَ وَرَثَةِ الْمُتَوَفَّى فلم يَكُنْ بها بَأْسٌ وَالْأَصْلُ في جَوَازِ التَّعْرِيضِ
في عِدَّةِ الْوَفَاةِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
عَرَّضْتُمْ بِهِ من خِطْبَةِ النِّسَاءِ }
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ في التَّعْرِيضِ أَنَّهُ ما هو قال بَعْضُهُمْ هو
أَنْ يَقُولَ لها إنَّكِ لجميلة ( ( ( الجميلة ) ) ) وَإِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ
وَإِنَّك لتعجبيني ( ( ( لتعجبينني ) ) ) أو إنِّي لَأَرْجُو أَنْ نَجْتَمِعَ أو
ما أُجَاوِزُكِ إلَى غَيْرِكِ وَإِنَّكِ لَنَافِعَةٌ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ وَلَا
يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُشَافِهَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً لَا يَحِلُّ له نِكَاحُهَا
لِلْحَالِ بِمِثْلِ هذه الْكَلِمَاتِ لِأَنَّ بَعْضَهَا صَرِيحٌ في الْخِطْبَةِ
وَبَعْضَهَا صَرِيحٌ في إظْهَارِ الرَّغْبَةِ فَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ من ذلك
وَإِنَّمَا الْمُرَخَّصُ هو التَّعْرِيضُ وهو أَنْ يَرَى من نَفْسِهِ الرَّغْبَةَ
في نِكَاحِهَا بِدَلَالَةٍ في الْكَلَامِ من غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِهِ إذْ
التَّعْرِيضُ في اللُّغَةِ هو تَضْمِينُ الْكَلَامِ في الدَّلَالَةِ على شَيْءٍ من
غَيْرِ التَّصْرِيحِ بِهِ بِالْقَوْلِ على ما ذُكِرَ في الْخَبَرِ أَنَّ فَاطِمَةَ
بِنْتَ قَيْسٍ لَمَّا اسْتَشَارَتْ رَسُولَ اللَّهِ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ فقال لها
إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُكِ فَآذِنِينِي فَآذَنَتْهُ في رَجُلَيْنِ كَانَا
خَطَبَاهَا فقال لها أَمَّا فُلَانٌ فإنه لَا يَرْفَعُ الْعَصَا عن عَاتِقِهِ
وَأَمَّا فُلَانٌ فإنه صُعْلُوكٌ لَا مَالَ له فَهَلْ لَكِ في أُسَامَةَ بن زَيْدٍ
فَكَانَ قَوْلُهُ آذِنِينِي كِنَايَةَ خِطَابٍ إلَى أَنْ أَشَارَ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ إلَى أُسَامَةَ بن زَيْدٍ
____________________
(3/204)
وَصَرَّحَ
بِهِ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال التَّعْرِيضُ بِالْخِطْبَةِ
أَنْ يَقُولَ لها أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ امْرَأَةً من أَمْرِهَا كَذَا وَكَذَا
يُعَرِّضُ لها بِالْقَوْلِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا حُرْمَةُ الْخُرُوجِ من الْبَيْتِ لِبَعْضِ الْمُعْتَدَّاتِ دُونَ
بَعْضٍ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في هذا الْحُكْمِ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ لَا يَخْلُو
إمَّا أَنْ تَكُونَ مُعْتَدَّةً من نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ
مُعْتَدَّةً من نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ حُرَّةً
وَإِمَّا تَكُونَ أَمَةً بَالِغَةً أو صَغِيرَةً عَاقِلَةً أو مَجْنُونَةً
مُسْلِمَةً أو كِتَابِيَّةً مُطَلَّقَةً أو مُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا وَالْحَالُ
حَالُ الِاخْتِيَارِ أو حَالُ الِاضْطِرَارِ فَإِنْ كانت مُعْتَدَّةً من نِكَاحٍ
صَحِيحٍ وَهِيَ حُرَّةٌ مُطَلَّقَةٌ بَالِغَةٌ عَاقِلَةٌ مُسْلِمَةٌ وَالْحَالُ
حَالُ الِاخْتِيَارِ فَإِنَّهَا لَا تَخْرُجُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا سَوَاءٌ كان
الطَّلَاقُ ثَلَاثًا أو بَائِنًا أو رَجْعِيًّا
أَمَّا في الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تُخْرِجُوهُنَّ من
بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ }
قِيلَ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عز وجل { إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ } إلَّا أَنْ تَزْنِيَ فَتَخْرُجَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عليها وقبل (
( ( وقيل ) ) ) الْفَاحِشَةُ هِيَ الْخُرُوجُ نَفْسُهُ أَيْ إلَّا أَنْ يَخْرُجْنَ
فَيَكُونَ خُرُوجُهُنَّ فَاحِشَةً نهى اللَّهُ تَعَالَى الْأَزْوَاجَ عن
الْإِخْرَاجِ وَالْمُعْتَدَّاتِ عن الْخُرُوجِ
وقَوْله تَعَالَى { أَسْكِنُوهُنَّ من حَيْثُ سَكَنْتُمْ } وَالْأَمْرُ
بِالْإِسْكَانِ نَهْيٌ عن الْإِخْرَاجِ وَالْخُرُوجِ وَلِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ
بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِقِيَامِ مِلْكِ النِّكَاحِ من كل وَجْهٍ فَلَا
يُبَاحُ لها الْخُرُوجُ كما قبل الطَّلَاقِ إلَّا أَنَّ بَعْدَ الطَّلَاقِ لَا
يُبَاحُ لها الْخُرُوجُ وَإِنْ أُذِنَ لها بِالْخُرُوجِ بِخِلَافِ ما قبل
الطَّلَاقِ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْخُرُوجِ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِمَكَانِ الْعِدَّةِ
وفي الْعِدَّةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِخِلَافِ ما
قبل الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَمَّةَ لِحَقِّ الزَّوْجِ خَاصَّةً
فَيَمْلِكُ ابطال حَقِّ نَفْسِهِ بِالْإِذْنِ بِالْخُرُوجِ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ
يَحْتَاجُ إلَى تَحْصِينِ مَائِهِ وَالْمَنْعُ من الْخُرُوجِ طَرِيقُ التَّحْصِينِ
لِلْمَاءِ لِأَنَّ الْخُرُوجَ يُرِيبُ الزَّوْجَ أَنَّهُ وَطِئَهَا غَيْرُهُ
فَيَشْتَبِهُ النَّسَبُ إذَا حَبِلَتْ
وَأَمَّا في الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أو الْبَائِنِ فَلِعُمُومِ النَّهْيِ وَمِسَاسِ
الْحَاجَةِ إلَى تَحْصِينِ الْمَاءِ على ما بَيَّنَّا وَأَمَّا الْمُتَوَفَّى عنها
زَوْجُهَا فَلَا تَخْرُجُ لَيْلًا وَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَخْرُجَ نَهَارًا في
حَوَائِجِهَا لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ بِالنَّهَارِ لِاكْتِسَابِ ما
تُنْفِقُهُ لِأَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لها من الزَّوْجِ الْمُتَوَفَّى بَلْ
نَفَقَتُهَا عليها فَتَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ لِتَحْصِيلِ النَّفَقَةِ وَلَا
تَخْرُجُ بِاللَّيْلِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى الْخُرُوجِ بِاللَّيْلِ بِخِلَافِ
الْمُطَلَّقَةِ فإن نَفَقَتَهَا على الزَّوْجِ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ
حتى لو اخْتَلَعَتْ بِنَفَقَةِ عِدَّتِهَا بَعْضُ مَشَايِخِنَا قالوا يُبَاحُ لها
الْخُرُوجُ بِالنَّهَارِ لِلِاكْتِسَابِ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْمُتَوَفَّى عنها
زَوْجُهَا
وَبَعْضُهُمْ قالوا لَا يُبَاحُ لها الْخُرُوجُ لِأَنَّهَا هِيَ التي أَبْطَلَتْ
النَّفَقَةَ بإختيارها وَالنَّفَقَةُ حَقٌّ لها فَتَقْدِرُ على إبْطَالِهِ
فَأَمَّا لُزُومُ الْبَيْتِ فَحَقٌّ عليها فَلَا تَمْلِكُ إبطالة وإذا خَرَجَتْ
بِالنَّهَارِ في حَوَائِجِهَا لَا تَبِيتُ عن مَنْزِلِهَا الذي تَعْتَدُّ فيه
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ فُرَيْعَةَ أُخْتَ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي
اللَّهُ عنه لَمَّا قُتِلَ زَوْجُهَا أَتَتْ النبي فَاسْتَأْذَنَتْهُ في
الِانْتِقَالِ إلَى بَنِي خُدْرَةَ فقال لها اُمْكُثِي في بَيْتِكِ حتى يَبْلُغَ
الْكِتَابُ أَجَلَهُ
وفي رِوَايَةٍ لَمَّا اسْتَأْذَنَتْ أَذِنَ لها ثُمَّ دَعَاهَا فقال أَعِيدِي
الْمَسْأَلَةَ فَأَعَادَتْ فقال لَا حتى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ
أَفَادَنَا الْحَدِيثُ حُكْمَيْنِ إبَاحَةُ الْخُرُوجِ بِالنَّهَارِ وَحُرْمَةُ
الِانْتِقَالِ حَيْثُ لم يُنْكِرْ خُرُوجَهَا وَمَنَعَهَا من الِانْتِقَالِ
فَدَلَّ على جَوَازِ الْخُرُوجِ بِالنَّهَارِ من غَيْرِ انْتِقَالٍ
وَرَوَى عَلْقَمَةُ أَنَّ نِسْوَةً من هَمْدَانَ نعى إلَيْهِنَّ أَزْوَاجُهُنَّ
فَسَأَلْنَ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه فَقُلْنَ إنَّا نَسْتَوْحِشُ
فَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَجْتَمِعْنَ بِالنَّهَارِ فإذا كان بالليل ( ( ( الليل ) ) )
فَلْتَرُحْ كُلُّ امْرَأَةٍ إلَى بَيْتِهَا
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال لَا بَأْسَ أَنْ تَنَامَ عن بَيْتِهَا أَقَلَّ
من نِصْفِ اللَّيْلِ لِأَنَّ البينونة ( ( ( البيتوتة ) ) ) في الْعُرْفِ
عِبَارَةٌ عن الْكَوْنِ في الْبَيْتِ أَكْثَرَ اللَّيْلِ فما دُونَهُ لَا يُسَمَّى
بَيْتُوتَةً في الْعُرْفِ وَمَنْزِلُهَا الذي تُؤْمَرُ بِالسُّكُونِ فيه
لِلِاعْتِدَادِ هو الْمَوْضِعُ الذي كانت تَسْكُنُهُ قبل مُفَارَقَةِ زَوْجِهَا
وَقَبْلَ مَوْتِهِ سَوَاءٌ كان الزَّوْجُ سَاكِنًا فيه أو لم يَكُنْ لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ الْبَيْتَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ عز وجل { لَا
تُخْرِجُوهُنَّ من بُيُوتِهِنَّ } وَالْبَيْتُ الْمُضَافُ إلَيْهَا هو الذي
تَسْكُنُهُ وَلِهَذَا قال أَصْحَابُنَا إنَّهَا إذَا زَارَتْ أَهْلَهَا
فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا كان عليها أَنْ تَعُودَ إلَى مَنْزِلِهَا الذي كانت
تَسْكُنُ فيه فَتَعْتَدَّ ثَمَّةَ لِأَنَّ ذلك هو الْمَوْضِعُ الذي يُضَافُ
إلَيْهَا وَإِنْ كانت هِيَ في غَيْرِهِ وَهَذَا في حَالَةِ الِاخْتِيَارِ
وَأَمَّا في حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَإِنْ اُضْطُرَّتْ إلَى الْخُرُوجِ من
بَيْتِهَا بِأَنْ خَافَتْ سُقُوطَ مَنْزِلِهَا أو خَافَتْ على مَتَاعِهَا أو كان
الْمَنْزِلُ بِأُجْرَةٍ وَلَا تَجِدُ ما تُؤَدِّيهِ في أُجْرَتِهِ في عِدَّةِ
الْوَفَاةِ فَلَا بَأْسَ عِنْدَ ذلك أَنْ تَنْتَقِلَ ولأن كانت تَقْدِرُ على
الْأُجْرَةِ لَا تَنْتَقِلُ
وَإِنْ كان الْمَنْزِلُ لِزَوْجِهَا وقد مَاتَ عنها فَلَهَا أَنْ تَسْكُنَ في
نَصِيبِهَا إنْ كان
____________________
(3/205)
نَصِيبُهَا
من ذلك ما تَكْتَفِي بِهِ في السُّكْنَى وَتَسْتَتِرُ عن سَائِرِ الْوَرَثَةِ
مِمَّنْ ليس بِمَحْرَمٍ لها وَإِنْ كان نَصِيبُهَا لَا يَكْفِيهَا أو خَافَتْ على
مَتَاعِهَا منهم فَلَا بَأْسَ أَنْ تَنْتَقِلَ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ
السُّكْنَى وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عليها
وَالْعِبَادَاتُ تَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ
وقد رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه نَقَلَ عَلِيٌّ رضي
اللَّهُ عنه أُمَّ كُلْثُومٍ رضي اللَّهُ عنها لِأَنَّهَا كانت في دَارِ
الْإِجَارَةِ
وقد رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها نَقَلَتْ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ
بِنْتَ أبي بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه لَمَّا قُتِلَ طَلْحَةُ رضي اللَّهُ عنه
فَدَلَّ ذلك على جَوَازِ الِانْتِقَالِ لِلْعُذْرِ
وإذا كانت تَقْدِرُ على أُجْرَةِ الْبَيْتِ في عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَلَا عُذْرَ
فَلَا تَسْقُطُ عنها الْعِبَادَةُ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا قَدَرَ على شِرَاءِ
الْمَاءِ بِأَنْ وَجَدَ ثَمَنَهُ وَجَبَ عليه الشِّرَاءُ وَإِنْ لم يَقْدِرْ لَا
يَجِبُ لِعُذْرِ الْعَدَمِ كَذَا هَهُنَا
وإذا انْتَقَلَتْ لِعُذْرٍ يَكُونُ سُكْنَاهَا في الْبَيْتِ الذي انْتَقَلَتْ
إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهَا في الْمَنْزِلِ الذي انْتَقَلَتْ منه في حُرْمَةِ
الْخُرُوجِ عنه لِأَنَّ الِانْتِقَالَ من الْأَوَّلِ إلَيْهِ كان لِعُذْرٍ فَصَارَ
الْمَنْزِلُ الذي انْتَقَلَتْ إلَيْهِ كَأَنَّهُ مَنْزِلُهَا من الْأَصْلِ
فَلَزِمَهَا الْمُقَامُ فيه حتى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ
وَكَذَا ليس لِلْمُعْتَدَّةِ من طَلَاقِ ثَلَاثٍ أو بَائِنٍ أَنْ تَخْرُجَ من
مَنْزِلِهَا الذي تَعْتَدُّ فيه إلَى سَفَرٍ إذَا كانت مُعْتَدَّةً من نِكَاحٍ
صَحِيحٍ وَهِيَ على الصِّفَاتِ التي ذَكَرْنَاهَا
وَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُسَافِرَ بها أَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا
تُخْرِجُوهُنَّ من بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ }
وَقَوْلُهُ عز وجل { هُنَّ } كِنَايَةٌ عن الْمُعْتَدَّاتِ وَلِأَنَّ
الزَّوْجِيَّةَ قد زَالَتْ بِالثَّلَاثِ وَالْبَائِنِ فَلَا يَجُوزُ له
الْمُسَافَرَةُ بها
وَكَذَا الْمُعْتَدَّةُ من طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ ليس لها أَنْ تَخْرُجَ إلَى سَفَرٍ
سَوَاءٌ كان سَفَرَ حَجٍّ فَرِيضَةً أو غير ذلك لَا مع زَوْجِهَا وَلَا مع
مَحْرَمٍ غَيْرِهِ حتى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا أو يُرَاجِعَهَا لِعُمُومِ قَوْله
تَعَالَى { لَا تُخْرِجُوهُنَّ من بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ } من غَيْرِ
فَصْلٍ بين خُرُوجٍ وَخُرُوجٍ
وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَائِمَةٌ
لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ فَلَا يُبَاحُ لها الْخُرُوجُ لِأَنَّ
الْعِدَّةَ لَمَّا مَنَعَتْ أَصْلَ الْخُرُوجِ فَلَأَنْ تُمْنَعَ من خُرُوجٍ
مَدِيدٍ وهو الْخُرُوجُ إلى السَّفَرِ أَوْلَى وَإِنَّمَا اسْتَوَى فيه سَفَرُ
الْحَجِّ وَغَيْرِهِ وَإِنْ كان حَجُّ الْإِسْلَامِ فَرْضًا لِأَنَّ الْمُقَامَ في
مَنْزِلِهَا وَاجِبٌ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ
وَسَفَرُ الْحَجِّ وَاجِبٌ يُمْكِن تَدَارُكُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ
لِأَنَّ جَمِيعَ الْعُمُرِ وَقْتُهُ فَكَانَ تَقْدِيمَ وَاجِبٍ لَا يُمْكِنُ
تَدَارُكُهُ بَعْدَ الْفَوْتِ جَمْعًا بين الْوَاجِبِينَ فَكَانَ أَوْلَى وَلَيْسَ
لِزَوْجِهَا أَنْ يُسَافِرَ بها عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ له ذلك
وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا في تَخْرِيجِ قَوْلِ زُفَرَ قال بَعْضُهُمْ إنَّمَا قال
ذلك لِأَنَّهُ قد ثَبَتَ من أَصْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ
عَدَمٌ في حَقِّ الْحُكْمِ قبل انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَانَ الْحَالُ قبل
الرَّجْعَةِ وَبَعْدَهَا سَوَاءً
وقال بَعْضُهُمْ إنَّمَا قال ذلك لِأَنَّ الْمُسَافِرَةَ بها رَجْعَةٌ عِنْدَهُ
دَلَالَةً
وَوَجْهُهُ أَنَّ إخْرَاجَ الْمُعْتَدَّةِ من بَيْتِ الْعِدَّةِ حَرَامٌ فَلَوْ لم
يَكُنْ من قَصْدِهِ الرَّجْعَةُ لم يُسَافِرْ بها ظَاهِرًا تَحَرُّزًا عن
الْحَرَامِ فَيَجْعَلُ الْمُسَافِرَةَ بها رَجْعَةً دَلَالَةً حَمْلًا لِأَمْرِهِ
على الصَّلَاحِ صِيَانَةً له عن ارْتِكَابِ الْحَرَامِ وَلِهَذَا جَعَلْنَا
الْقُبْلَةَ وَاللَّمْسَ عن شهرة ( ( ( شهوة ) ) ) رَجْعَةً
كَذَا هذا
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { لَا تُخْرِجُوهُنَّ من بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ
إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } نهى الْأَزْوَاجَ عن الْإِخْرَاجِ
وَالنِّسَاءَ عن الْخُرُوجِ وَبِهِ تَبَيَّنَ فَسَادُ التَّخْرِيجِ الْأَوَّلِ
لِأَنَّ نَصَّ الْكِتَابِ العزيز ( ( ( العزير ) ) ) يَقْتَضِي حُرْمَةَ إخْرَاجِ
الْمُعْتَدَّةِ وَإِنْ كان مِلْكُ النِّكَاحِ قَائِمًا في الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ
فَيُتْرَكُ الْقِيَاسُ في مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَإِلَيْهِ أَشَارَ أبو حَنِيفَةَ
فِيمَا رُوِيَ عنه أَنَّهُ قال لَا يُسَافِرْ بها ليس من قِبَلِ أَنَّهُ غَيْرُ
زَوْجٍ وهو زَوْجٌ وهو بِمَنْزِلَةِ الْمَحْرَمِ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قال {
لَا تُخْرِجُوهُنَّ من بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ }
وَأَمَّا التَّخْرِيجُ الثَّانِي وهو قَوْلُهُمْ إنَّ مُسَافَرَةَ الزَّوْجِ بها
دَلَالَةُ الرَّجْعَةِ فَمَمْنُوعٌ وماذ ( ( ( وما ) ) ) كروا ( ( ( ذكروا ) ) )
أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الرَّجْعَةَ تَحَرُّزًا عن الْحَرَامِ فَذَلِكَ
فِيمَا كان النَّهْيُ في التَّحْرِيمِ ظَاهِرًا فَأَمَّا فِيمَا كان خَفِيًّا
فَلَا وَحُرْمَةُ إخْرَاجِ الْمُعْتَدَّةِ عن طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ مع قِيَامِ مِلْكِ
النِّكَاحِ من كل وَجْهٍ مِمَّا لَا يَخْفَى عن الْفُقَهَاءِ فَضْلًا عن
الْعَوَامّ فَلَا يَثْبُتُ الِامْتِنَاعُ عنه من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ مع ما أَنَّ
الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا كان الزَّوْجُ يقول أنه لَا يُرَاجِعُهَا نَصًّا
وَلَا مُعْتَبَرَ بِالدَّلَالَةِ مع التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهَا وإذا لم تَكُنْ
الْمُسَافَرَةُ بها دَلَالَةَ الرَّجْعَةِ فَلَوْ أَخْرَجَهَا لَأَخْرَجَهَا مع
قِيَامِ الْعِدَّةِ وَهَذَا حَرَامٌ بِالنَّصِّ
وقد قالوا فِيمَنْ خَرَجَتْ مُحْرِمَةً فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَبَيْنَهَا
وَبَيْنَ مِصْرِهَا أَقَلُّ من ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أنها تَرْجِعُ وَتَصِيرُ
بِمَنْزِلَةِ الْمُحْصَرِ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَمْنُوعَةً من الْمُضِيِّ في
حَجِّهَا لِمَكَانِ الْعِدَّةِ فَأَمَّا إذَا رَاجَعَهَا الزَّوْجُ فَقَدْ
بَطَلَتْ الْعِدَّةُ وَعَادَتْ الزَّوْجِيَّةُ فَجَازَ له السَّفَرُ بها
وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ في حُرْمَةِ الْخُرُوجِ وَالْإِخْرَاجِ إلَى السَّفَرِ وما
دُونَ ذلك لِعُمُومِ النَّهْيِ إلَّا أَنَّ النَّهْيَ
____________________
(3/206)
عن
الْخُرُوجِ وَالْإِخْرَاجِ إلَى ما دُونَ السَّفَرِ أَخَفُّ لِخِفَّةِ الْخُرُوجِ
وَالْإِخْرَاجِ في نَفْسِهِ
وإذا خَرَجَ مع امْرَأَتِهِ مُسَافِرًا فَطَلَّقَهَا في بَعْضِ الطَّرِيقِ أو
مَاتَ عنها فَإِنْ كان بَيْنَهَا وَبَيْنَ مِصْرِهَا الذي خَرَجَتْ منه أَقَلُّ من
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَقْصِدِهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ
فَصَاعِدًا رَجَعَتْ إلَى مِصْرِهَا لِأَنَّهَا لو مَضَتْ لَاحْتَاجَتْ إلَى
إنْشَاءِ سَفَرٍ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ وَلَوْ رَجَعَتْ ما احْتَاجَتْ إلَى ذلك
فَكَانَ الرُّجُوعُ أَوْلَى كما إذَا طَلُقَتْ في الْمِصْرِ خَارِجَ بَيْتِهَا
أنها تَعُودُ إلَى بَيْتِهَا كَذَا هذا
وَإِنْ كان بَيْنَهَا وَبَيْنَ مِصْرِهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا
وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَقْصِدِهَا أَقَلُّ من ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَإِنَّهَا
تَمْضِي لِأَنَّهُ ليس في الْمُضِيِّ إنْشَاءُ سَفَرٍ وفي الرُّجُوعِ إنْشَاءُ
سَفَرٍ وَالْمُعْتَدَّةُ مَمْنُوعَةٌ عن السَّفَرِ وَسَوَاءٌ كان الطَّلَاقُ في
مَوْضِعٍ لَا يَصْلُحُ لِلْإِقَامَةِ كَالْمَفَازَةِ وَنَحْوِهَا أو في مَوْضِعٍ
يَصْلُحُ لها كَالْمِصْرِ وَنَحْوِهَا
وَإِنْ كان بينها ( ( ( بينهما ) ) ) وَبَيْنَ مِصْرِهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ
وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَقْصِدِهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَإِنْ كان
الطَّلَاقُ في الْمَفَازَةِ أو في مَوْضِعٍ لَا يَصْلُحُ لِلْإِقَامَةِ بِأَنْ
خَافَتْ على نَفْسِهَا أو مَتَاعِهَا فَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ
وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ لِأَنَّهُ ليس أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى من الْآخَرِ سَوَاءٌ
كان مَعَهَا مَحْرَمٌ أو لم يَكُنْ
وإذا عَادَتْ أو مَضَتْ فَبَلَغَتْ أَدْنَى الْمَوَاضِعِ فَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ
شَاءَتْ مَضَتْ وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ إلَى التي تَصْلُحُ لِلْإِقَامَةِ في
مُضِيِّهَا أو رُجُوعِهَا أَقَامَتْ فيه وَاعْتَدَّتْ إنْ لم تَجِدْ مَحْرَمًا
بِلَا خِلَافٍ
وَإِنْ وَجَدَتْ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لو وُجِدَ الطَّلَاقُ
فيه ابْتِدَاءً لَكَانَ لَا يَجُوزُ لها أَنْ تَتَجَاوَزَهُ عِنْدَهُ وَإِنْ
وَجَدَتْ مَحْرَمًا فَكَذَا إذَا وَصَلَتْ إلَيْهِ وَإِنْ كان الطَّلَاقُ في
الْمِصْرِ أو في مَوْضِعٍ يَصْلُحُ لِلْإِقَامَةِ اُخْتُلِفَ فيه قال أبو
حَنِيفَةَ تُقِيمُ فيه حتى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَلَا تَخْرُجُ بَعْدَ
انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا إلَّا مع مَحْرَمٍ حَجًّا كان أو غَيْرَهُ وقال أبو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ إنْ كان مَعَهَا مَحْرَمٌ مَضَتْ على سَفَرِهَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ حُرْمَةَ الْخُرُوجِ لَيْسَتْ لِأَجْلِ الْعِدَّةِ بَلْ
لِمَكَانِ السَّفَرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُبَاحُ لها الْخُرُوجُ إذَا لم يَكُنْ بين
مَقْصِدِهَا وَمَنْزِلِهَا مَسِيرَةُ ثلاث أَيَّامٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحُرْمَةَ
الثَّابِتَةَ لِلْعِدَّةِ لَا تَخْتَلِفُ بِالسَّفَرِ وَغَيْرِ السَّفَرِ وإذا
كانت الْحُرْمَةُ لِمَكَانِ السَّفَرِ تَسْقُطُ بِوُجُودِ الْمَحْرَمِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعِدَّةَ مَانِعَةٌ من الْخُرُوجِ وَالسَّفَرِ في
الْأَصْلِ إلَّا أَنَّ الْخُرُوجَ إلَى ما دُونَ السَّفَرِ هَهُنَا سَقَطَ
اعْتِبَارُهُ لِأَنَّهُ ليس بِخُرُوجٍ مبتدأ بَلْ هو خُرُوجٌ مَبْنِيٌّ على
الْخُرُوجِ الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ له حُكْمُ نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْخُرُوجِ من
بَيْتِ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ مُبْتَدَأٌ فإذا كان من الْجَانِبَيْنِ جميعا
مَسِيرَةُ سَفَرٍ كانت مُنْشِئَةً لِلْخُرُوجِ بِاعْتِبَارِ السَّفَرِ
فَيَتَنَاوَلُهُ التَّحْرِيمُ وما حُرِّمَ لِأَجْلِ الْعِدَّةِ لَا يَسْقُطُ
بِوُجُودِ الْمَحْرَمِ
وَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ لِأَنَّ
أَحْكَامَ الْعِدَّةِ مُرَتَّبَةٌ على أَحْكَامِ النِّكَاحِ بَلْ هِيَ أَحْكَامُ
النِّكَاحِ السَّابِقِ في الْحَقِيقَةِ بَقِيَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ
وَالنِّكَاحُ للفاسد ( ( ( الفاسد ) ) ) لَا يُفِيدُ الْمَنْعَ من الْخُرُوجِ
فَكَذَا الْعِدَّةُ إلَّا إذَا مَنَعَهَا الزَّوْجُ لِتَحْصِينِ مَائِهِ فَلَهُ
ذلك
وَأَمَّا الْأَمَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبَةُ
وَالْمُسْتَسْعَاةُ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَيَخْرُجْنَ في ذلك كُلِّهِ من
الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ أَمَّا الْأَمَةُ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَالَ
الْعِدَّةِ مَبْنِيَّةٌ على حَالِ النِّكَاحِ وَلَا يَلْزَمُهَا الْمُقَامُ في
مَنْزِلِ زَوْجِهَا في حَالِ النِّكَاحِ كَذَا في حَالِ الْعِدَّةِ وَلِأَنَّ
خِدْمَتَهَا حَقُّ الْمَوْلَى فَلَوْ مَنَعْنَاهَا من الْخُرُوجِ لَأَبْطَلْنَا حَقَّ
الْمَوْلَى في الْخِدْمَةِ من غَيْرِ رِضَاهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا
بَوَّأَهَا مَوْلَاهَا مَنْزِلًا فَحِينَئِذٍ لَا تَخْرُجُ ما دَامَتْ على ذلك
لِأَنَّهُ رضي بِسُقُوطِ حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ أَرَادَ الْمَوْلَى أَنْ
يُخْرِجَهَا فَلَهُ ذلك لِأَنَّ الْخِدْمَةَ لِلْمَوْلَى وَإِنَّمَا كان
أَعَارَهَا لِلزَّوْجِ وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْعَارِيَّةُ وَلِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّ حَالَ الْعِدَّةِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ النِّكَاحِ مُرَتَّبَةٌ
عليها وَلَوْ بَوَّأَهَا الْمَوْلَى في حَالِ النِّكَاحِ كان لِلزَّوْجِ أَنْ
يَمْنَعَهَا من الْخُرُوجِ حتى يَبْدُوَ لِلْمَوْلَى فَكَذَا في حَالِ الْعِدَّةِ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في الْأَمَةِ إذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وكان
الْمَوْلَى مُسْتَغْنِيًا عن خِدْمَتِهَا فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ وَإِنْ لم
يَأْمُرْهَا لِأَنَّهُ قال إذَا جَازَ لها أَنْ تَخْرُجَ بِإِذْنِهِ جَازَ لها
أَنْ تَخْرُجَ بِكُلِّ وَجْهٍ أَلَا تَرَى أَنَّ حُرْمَةَ الْخُرُوجِ لِحَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى فَلَوْ لَزِمَهَا لم يَسْقُطْ بِإِذْنِهِ وَكَذَلِكَ
الْمُدَبَّرَةُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ إذَا طَلَّقَهَا
زَوْجُهَا أو مَاتَ عنها لِأَنَّهَا أَمَةُ الْمَوْلَى وَكَذَا إذَا عَتَقَتْ أو
مَاتَ عنها سَيِّدُهَا لها أَنْ تَخْرُجَ لِأَنَّ عِدَّتَهَا عِدَّةُ وَطْءٍ
فَكَانَتْ كَالْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا
وَأَمَّا الْمُكَاتَبَةُ فَلِأَنَّ سِعَايَتَهَا حَقُّ الْمَوْلَى إذْ بها يَصِلُ
الْمَوْلَى إلَى حَقِّهِ فَلَوْ مَنَعْنَاهَا من الْخُرُوجِ لَتَعَذَّرَتْ عليها
السِّعَايَةُ وَالْمُعْتَقُ بَعْضُهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبَةِ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا حُرَّةٌ وَلَوْ أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ في الْعِدَّةِ
يَلْزَمُهَا فِيمَا بَقِيَ من عِدَّتِهَا ما يَلْزَمُ الْحُرَّةَ لِأَنَّ
الْمَانِعَ من
____________________
(3/207)
الْخُرُوجِ
قد زَالَ
وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ من مَنْزِلِهَا إذَا كانت
الْفُرْقَةُ لَا رَجْعَةَ فيها سَوَاءٌ أَذِنَ الزَّوْجُ لها أو لم يَأْذَنْ
لِأَنَّ وُجُوبَ السُّكْنَى في الْبَيْتِ على الْمُعْتَدَّةِ لِحَقِّ اللَّهِ
تَعَالَى وَحَقِّ الزَّوْجِ وَحَقُّ اللَّهِ عز وجل لَا يَجِبُ على الصَّبِيِّ
وَحَقُّ الزَّوْجِ في حِفْظِ الْوَلَدِ وَلَا وَلَدَ منها وَإِنْ كانت الْفُرْقَةُ
رَجْعِيَّةً فَلَا يَجُوزُ لها الْخُرُوجُ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ لِأَنَّهَا
زَوْجَتُهُ وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لها بِالْخُرُوجِ وَكَذَا الْمَجْنُونَةُ لها
أَنْ تَخْرُجَ من مَنْزِلِهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ كَالصَّغِيرَةِ إلَّا
أَنَّ لِزَوْجِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا من الْخُرُوجِ لِتَحْصِينِ مَائِهِ بِخِلَافِ
الصَّغِيرَةِ فإن الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ مَنْعَهَا لِأَنَّ الْمَنْعَ في حَقِّ
الْمَجْنُونَةِ لِصِيَانَةِ الْمَاءِ لِاحْتِمَالِ الْحَبَلِ وَالصَّغِيرَةُ لَا
تَحْبَلُ وَالْمَنْعُ من الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِكَوْنِهَا زَوْجَتَهُ
وَأَمَّا الْكِتَابِيَّةُ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ لِأَنَّ السُّكْنَى في الْعِدَّةِ
حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى من وَجْهٍ فَتَكُونُ عِبَادَةً من هذا الْوَجْهِ
وَالْكُفَّارُ لَا يُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ إلَّا إذَا مَنَعَهَا
الزَّوْجُ من الْخُرُوجِ لِتَحْصِينِ مَائِهِ لِأَنَّ الْخُرُوجَ حَقٌّ في
الْعِدَّةِ وهو صِيَانَةُ مَائِهِ عن الِاخْتِلَاطِ فَإِنْ أَسْلَمَتْ
الْكِتَابِيَّةُ في الْعِدَّةِ لَزِمَهَا فِيمَا بَقِيَ من الْعِدَّةِ ما يَلْزَمُ
الْمُسْلِمَةَ لِأَنَّ الْمَانِعَ من اللُّزُومِ وهو الْكُفْرُ وقد زَالَ
بِالْإِسْلَامِ وَكَذَا الْمَجُوسِيَّةُ إذَا أَسْلَمَ زَوْجُهَا وَأَبَتْ
الْإِسْلَامَ حتى وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ فَإِنْ كان
الزَّوْجُ قد دخل بها لها أَنْ تَخْرُجَ لِمَا قُلْنَا إلَّا إذَا أَرَادَ
الزَّوْجُ مَنْعَهَا من الْخُرُوجِ لِتَحْصِينِ مَائِهِ فإذا طَلَبَ منها ذلك
يَلْزَمُهَا لِأَنَّ حَقَّ الْإِنْسَانِ يحب ( ( ( يجب ) ) ) إبْقَاؤُهُ عِنْدَ
طَلَبِهِ وَلَوْ قَبَّلَتْ الْمُسْلِمَةُ ابْنَ زَوْجِهَا حتى وَقَعَتْ
الْفُرْقَةُ وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ إذَا كان بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَيْسَ لها أَنْ
تَخْرُجَ من مَنْزِلِهَا لِأَنَّ السُّكْنَى في الْعِدَّةِ فيها حَقُّ اللَّهِ
تَعَالَى وَهِيَ مُخَاطَبَةٌ بِحُقُوقِ اللَّهِ عز وجل
وَأَمَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى ما دُونَ
مَسِيرَةِ سَفَرٍ بِلَا مَحْرَمٍ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى ذلك فَلَوْ شُرِطَ له
الْمَحْرَمُ لَضَاقَ الْأَمْرُ عليها وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَا يَجُوزُ لها أَنْ
تَخْرُجَ إلَى مَسِيرَةِ سَفَرٍ إلَّا مع الْمَحْرَمِ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ
فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أو ذُو رَحِمِ مَحْرَمٍ منها
وَسَوَاءٌ كان الْمَحْرَمُ من النَّسَبِ أو الرَّضَاعِ أو الْمُصَاهَرَةِ لِأَنَّ
النَّصَّ وَإِنْ وَرَدَ في ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَالْمَقْصُودُ هو
الْمَحْرَمِيَّةُ وهو حُرْمَةُ الْمُنَاكَحَةِ بَيْنَهُمَا على التَّأْبِيدِ وقد
وُجِدَ فَكَانَ النَّصُّ الْوَارِدُ في ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ واردا ( ( (
وارد ) ) ) في الْمَحْرَمِ بِلَا رَحِمٍ دَلَالَةً وَمِنْهَا وُجُوبُ الْإِحْدَادِ
على الْمُعْتَدَّةِ وَالْكَلَامُ في هذا الْحُكْمِ في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ
أَحَدُهَا في تَفْسِيرِ الْإِحْدَادِ وَالثَّانِي في بَيَانِ أَنَّ الْإِحْدَادَ
وَاجِبٌ في الْجُمْلَةِ أَوَّلًا وَالثَّالِثُ في بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْإِحْدَادُ في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن الِامْتِنَاعِ من
الزِّينَةِ يُقَالُ أَحَدَّتْ على زَوْجِهَا وَحَدَّتْ أَيْ امْتَنَعَتْ من
الزِّينَةِ وهو أَنْ تَجْتَنِبَ الطِّيبَ وَلُبْسَ الْمُطَيَّبِ وَالْمُعَصْفَرِ
وَالْمُزَعْفَرِ وَتَجْتَنِبَ الدُّهْنَ وَالْكُحْلَ وَلَا تَخْتَضِبَ وَلَا
تَمْتَشِطَ وَلَا تَلْبَسَ حُلِيًّا وَلَا تَتَشَوَّفَ
أَمَّا الطِّيبُ فَلِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ النبي نهى
الْمُعْتَدَّةَ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ وقال الْحِنَّاءُ طِيبٌ فَيَدُلُّ
على وُجُوبِ اجْتِنَابِ الطِّيبِ وَلِأَنَّ الطِّيبَ فَوْقَ الْحِنَّاءِ
فَالنَّهْيُ عن الْحِنَّاءِ يَكُونُ نَهْيًا عن الطِّيبِ دَلَالَةً كَالنَّهْيِ عن
التَّأْفِيفِ نَهِيٌّ عن الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ دَلَالَةً وَكَذَا لُبْسُ
الثَّوْبِ الْمُطَيَّبِ وَالْمَصْبُوغِ بِالْعُصْفُرِ وَالزَّعْفَرَانِ له رَائِحَةٌ
طَيِّبَةٌ فَكَانَ كَالطِّيبِ وَأَمَّا الدُّهْنُ فَلِمَا فيه من زِينَةِ
الشَّعْرِ وفي الْكُحْلِ زِينَةُ الْعَيْنِ وَلِهَذَا حُرِّمَ على الْمُحْرِمِ
جَمِيعُ ذلك وَهَذَا في حَالِ الِاخْتِيَارِ فَأَمَّا في حَالِ الضَّرُورَةِ فَلَا
بَأْسَ بِهِ بِأَنْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَكْتَحِلَ أو
اشْتَكَتْ رَأْسَهَا فَلَا بَأْسَ أَنْ تَصُبَّ فيه الدُّهْنَ أو لم يَكُنْ لها
إلَّا ثَوْبٌ مَصْبُوغٌ فَلَا بَأْسَ أَنْ تَلْبَسَهُ لَكِنْ لَا تَقْصِدُ بِهِ
الزِّينَةَ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ
وقال أبو يُوسُفَ لَا بَأْسَ أَنْ تَلْبَسَ الْقَصَبَ وَالْخَزَّ الْأَحْمَرَ
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ وقال وَلَا تَلْبَسُ قَصَبًا وَلَا خَزًّا تَتَزَيَّنُ بِهِ
لِأَنَّ الْخَزَّ وَالْقَصَبَ قد يُلْبَسُ لِلزِّينَةِ وقد يُلْبَسُ لِلْحَاجَةِ
وَالرَّفَاءِ فَاعْتُبِرَ فيه الْقَصْدُ فَإِنْ قُصِدَ بِهِ الزِّينَةُ لم يَجُزْ
وَإِنْ لم يُقْصَدْ بِهِ جَازَ
وَأَمَّا الثَّانِي وهو بَيَانُ أَنَّهُ وَاجِبٌ أَمْ لَا فَنَقُولُ لَا خِلَافَ
بين الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا يَلْزَمُهَا الْإِحْدَادُ
وقال نُفَاةُ الْقِيَاسِ لَا إحْدَادَ عليها وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِالْأَحَادِيثِ
وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
أَمَّا الْأَحَادِيثُ فَمِنْهَا ما رُوِيَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ رضي اللَّهُ عنها
لَمَّا بَلَغَهَا مَوْتُ أَبِيهَا أبي سُفْيَانَ انْتَظَرَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
ثُمَّ دَعَتْ بِطِيبٍ وَقَالَتْ مالي إلَى الطِّيبِ من حَاجَةٍ لَكِنْ سَمِعْت
رَسُولَ اللَّهِ يقول لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ على مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا على زَوْجِهَا
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَرُوِيَ
____________________
(3/208)
أَنَّ
امْرَأَةً مَاتَ زَوْجُهَا فَجَاءَتْ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
تَسْتَأْذِنُهُ في الِانْتِقَالِ فقال رسول اللَّهِ إنَّ إحْدَاكُنَّ كانت
تَمْكُثُ في شَرِّ أَحْلَاسِهَا إلَى الْحَوْلِ ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُلْقِي
الْبَعْرَةَ أَفَلَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَدَلَّ الْحَدِيثُ أَنَّ
عِدَّتَهُنَّ من قَبْلِ نُزُولِ هذه الْآيَةِ كانت حَوْلًا وإنهن كُنَّ في شَرِّ
أَحْلَاسِهِنَّ مُدَّةَ الْحَوْلِ ثُمَّ اُنْتُسِخَ ما زَادَ على هذه الْمُدَّةِ
وَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيمَا بَقِيَ على ما كان قبل النَّسْخِ وهو أَنْ تَمْكُثَ
الْمُعْتَدَّةُ هذه الْمُدَّةَ في شَرِّ أَحْلَاسِهَا وَهَذَا تَفْسِيرُ
الْحِدَادِ
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فإنه رُوِيَ عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ منهم عبد اللَّهِ بن عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَغَيْرُهُمْ
رضي اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ قَوْلِنَا وهو قَوْلُ السَّلَفِ وَاخْتُلِفَ في
الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا أو بَائِنًا قال أَصْحَابُنَا يَلْزَمُهَا الْحِدَادُ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَلْزَمُهَا الْحِدَادُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْحِدَادَ في الْمَنْصُوصِ عليه إنَّمَا وَجَبَ لِحَقِّ
الزَّوْجِ تَأَسُّفًا على ما فَاتَهَا من حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَإِدَامَةِ
الصُّحْبَةِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ وَهَذَا الْمَعْنَى لم يُوجَدْ في
الْمُطَلَّقَةِ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَوْحَشَهَا بِالْفُرْقَةِ وَقَطَعَ الْوُصْلَةَ
بِاخْتِيَارٍ ولم يَمُتْ عنها فَلَا يَلْزَمُهَا التَّأَسُّفُ
وَلَنَا أَنَّ الْحِدَادَ إنَّمَا وَجَبَ على الْمُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا
لِفَوَاتِ النِّكَاحِ الذي هو نِعْمَةٌ في الدِّينِ خَاصَّةً في حَقِّهَا لِمَا فيه
من قَضَاءِ شَهْوَتِهَا وَعِفَّتِهَا عن الْحَرَامِ وَصِيَانَةِ نَفْسِهَا عن
الْهَلَاكِ بِدُرُورِ النَّفَقَةِ وقد انْقَطَعَ ذلك كُلُّهُ بِالْمَوْتِ
فَلَزِمَهَا الْإِحْدَادُ إظْهَارًا لِلْمُصِيبَةِ وَالْحُزْنِ وقد وُجِدَ هذا
الْمَعْنَى في الْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثِ وَالْمُبَانَةِ فَيَلْزَمُهَا
الْإِحْدَادُ وَقَوْلُهُ الْإِحْدَادُ في عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَجَبَ لِحَقِّ
الزَّوْجِ لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّهُ لو كان لِحَقِّ الزَّوْجِ لَمَا زَادَ على
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كما في مَوْتِ الْأَبِ
وَأَمَّا الثَّالِثُ في شَرَائِطِ وُجُوبِهِ فَهِيَ أَنْ تَكُونَ الْمُعْتَدَّةُ
بَالِغَةً عَاقِلَةً مُسْلِمَةً من نِكَاحٍ صَحِيحٍ سَوَاءٌ كانت مُتَوَفَّى عنها
زَوْجُهَا أو مُطَلَّقَةً ثَلَاثًا أو بَائِنًا فَلَا يَجِبُ على الصَّغِيرَةِ
وَالْمَجْنُونَةِ الْكَبِيرَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ وَالْمُعْتَدَّةِ من نِكَاحٍ
فَاسِدٍ وَالْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا وَهَذَا عِنْدَنَا وقال
الشَّافِعِيُّ يَجِبُ على الصَّغِيرَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْحِدَادَ من أَحْكَامِ الْعِدَّةِ وقد لَزِمَتْهَا
الْعِدَّةُ فَيَلْزَمُهَا حُكْمُهَا
وَلَنَا أَنَّ الْحِدَادَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَلَا تَجِبُ على الصَّغِيرَةِ
وَالْكَافِرَةِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ من الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ
وَغَيْرِهِمَا بِخِلَافِ الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا اسْمٌ لِمُضِيِّ زَمَانٍ وَذَا لَا
يَخْتَلِفُ بِالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ وَالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ على أَنَّ بَعْضَ
أَصْحَابِنَا قالوا لَا تَجِبُ عَلَيْهِمَا الْعِدَّةُ وَإِنَّمَا يَجِبُ
عَلَيْنَا أَنْ لَا نَتَزَوَّجَهُمَا
وَلَا إحْدَادَ على أُمِّ الْوَلَدِ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا أو مَاتَ عنها
لِأَنَّهَا تَعْتَدُّ من الْوَطْءِ كَالْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا وَلَا
إحْدَادَ على الْمُعْتَدَّةِ من نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَكَذَا عليها وَلَا إحْدَادَ على
الْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا لِأَنَّهُ يَجِبُ إظْهَارًا لِلْمُصِيبَةِ على
فَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ وَالنِّكَاحُ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ غَيْرُ
فَائِتٍ بَلْ هو قَائِمٌ من كل وَجْهٍ فَلَا يَجِبُ الْحِدَادُ بَلْ يُسْتَحَبُّ
لها أَنْ تَتَزَيَّنَ لِتَحْسُنَ في عَيْنِ الزَّوْجِ فَيُرَاجِعَهَا وَلَا
إحْدَادَ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ ليس بِنِعْمَةٍ
في الدِّينِ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَمِنْ الْمُحَالِ إيجَابُ إظْهَارِ
الْمُصِيبَةِ على فَوَاتِ الْمَعْصِيَةِ بَلْ الْوَاجِبُ إظْهَارُ السُّرُورِ
وَالْفَرَحِ على فَوَاتِهَا
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ الوجوب ( ( ( لوجوب ) ) )
الْإِحْدَادِ فَيَجِبُ على الْأَمَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ إذَا كان
لها زَوْجٌ فَمَاتَ عنها أو طَلَّقَهَا وَالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُسْتَسْعَاةِ
لِأَنَّ ما وَجَبَ له الْحِدَادُ لَا يَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ
فَكَانَتْ الْأَمَةُ فيه كَالْحُرَّةِ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا وُجُوبُ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وهو مُؤْنَةُ السُّكْنَى لِبَعْضِ
الْمُعْتَدَّاتِ دُونَ بَعْضٍ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ أما إنْ
كانت عن طَلَاقٍ أو عن فُرْقَةٍ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وأما إنْ كانت عن وَفَاةٍ وَلَا
يَخْلُو من أَنْ تَكُونَ مُعْتَدَّةً من نِكَاحٍ صَحِيحٍ أو فَاسِدٍ أو ما هو في
مَعْنَى النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَإِنْ كانت مُعْتَدَّةً من نِكَاحٍ صَحِيحٍ عن
طَلَاقٍ فَإِنْ كان الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى بِلَا
خِلَافٍ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ فَكَانَ الْحَالُ بَعْدَ الطَّلَاقِ
كَالْحَالِ قَبْلَهُ وَلِمَا نَذْكُرُ من دَلَائِلَ أُخَرَ وَإِنْ كان الطَّلَاقُ
ثَلَاثًا أو بَائِنًا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى إنْ كانت حَامِلًا
بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا
عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وَإِنْ كانت حَائِلًا فَلَهَا النَّفَقَةُ
وَالسُّكْنَى عِنْدَ أَصْحَابِنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لها السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ لها وقال ابن أبي لَيْلَى لَا
نَفَقَةَ لها وَلَا سُكْنَى
وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا
عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } خَصَّ الْحَامِلَ بِالْأَمْرِ
بِالْإِنْفَاقِ عليها فَلَوْ وَجَبَ الْإِنْفَاقُ على غَيْرِ الْحَامِلِ لَبَطَلَ
التَّخْصِيصُ
وَرُوِيَ عن فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أنها قالت طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا فلم
يَجْعَلْ لي النبي نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ
بِالْمِلْكِ وقد زَالَ الْمِلْكُ بِالثَّلَاثِ وَالْبَائِنِ إلَّا أَنَّ
الشَّافِعِيَّ يقول عَرَفْتُ وُجُوبَ السُّكْنَى في الْحَامِلِ بِالنَّصِّ
بِخِلَافِ الْبَائِنِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { أَسْكِنُوهُنَّ من حَيْثُ سَكَنْتُمْ من وُجْدِكُمْ }
وفي قِرَاءَةِ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه
____________________
(3/209)
أَسْكِنُوهُنَّ
من حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ من وُجْدِكُمْ وَلَا اخْتِلَافَ
بين الْقِرَاءَتَيْنِ لَكِنَّ إحْدَاهُمَا تَفْسِيرُ الْأُخْرَى كَقَوْلِهِ عز وجل
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَقِرَاءَةُ ابْنِ
مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَيْمَانَهُمَا وَلَيْسَ ذلك اخْتِلَافَ الْقِرَاءَةِ
بَلْ قِرَاءَتُهُ تَفْسِيرُ الْقِرَاءَةِ الظَّاهِرَةِ كَذَا هذا وَلِأَنَّ
الْأَمْرَ بِالْإِسْكَانِ أَمْرٌ بِالْإِنْفَاقِ لِأَنَّهَا إذَا كانت مَحْبُوسَةً
مَمْنُوعَةً عن الْخُرُوجِ لَا تَقْدِرُ على اكْتِسَابِ النَّفَقَةِ فَلَوْ لم
تَكُنْ نَفَقَتُهَا على الزَّوْجِ وَلَا مَالَ لها لَهَلَكَتْ أو ضَاقَ الْأَمْرُ
عليها وَعَسُرَ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وقَوْله تَعَالَى { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ من
سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عليه رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } من
غَيْرِ فَصْلٍ بين ما قبل الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ في الْعِدَّةِ وَلِأَنَّ
النَّفَقَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ قبل الطَّلَاقِ لِكَوْنِهَا مَحْبُوسَةً عن
الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ لِحَقِّ الزَّوْجِ وقد بَقِيَ ذلك الِاحْتِبَاسُ بَعْدَ
الطَّلَاقِ في حَالَةِ الْعِدَّةِ وَتَأَبَّدَ بِانْضِمَامِ حَقِّ الشَّرْعِ
إلَيْهِ لِأَنَّ الْحَبْسَ قبل الطَّلَاقِ كان حَقًّا لِلزَّوْجِ على الْخُلُوصِ
وَبَعْدَ الطَّلَاقِ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الشَّرْعِ حتى لَا يُبَاحَ لها
الْخُرُوجُ وَإِنْ أَذِنَ الزَّوْجُ لها بِالْخُرُوجِ فَلِمَا وَجَبَتْ بِهِ
النَّفَقَةُ قبل التَّأَكُّدِ فَلَأَنْ تَجِبَ بَعْدَ التَّأَكُّدِ أَوْلَى
وَأَمَّا الْآيَةُ فَفِيهَا أَمْرٌ بِالْإِنْفَاقِ على الْحَامِلِ وإنه لَا
يَنْفِي وُجُوبَ الْإِنْفَاقِ على غَيْرِ الْحَامِلِ وَلَا يُوجِبُهُ أَيْضًا
فَيَكُونُ مسكوتا ( ( ( مسكونا ) ) ) مَوْقُوفًا على قِيَامِ الدَّلِيلِ وقد قام
دَلِيلُ الْوُجُوبِ وهو ما ذَكَرْنَا
وَأَمَّا حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَقَدْ رَدَّهُ عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه
فإنه روى أنها لَمَّا رَوَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لم يَجْعَلْ لها سُكْنَى وَلَا
نَفَقَةَ قال عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَلَا سُنَّةَ
نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ وفي بَعْضِ
الرِّوَايَاتِ قال لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا وَنَأْخُذُ
بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَعَلَّهَا نَسِيَتْ أو شُبِّهَ لها سمعت رَسُولَ اللَّهِ يقول
لها السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ
وَقَوْلُ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ
أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ عز وجل { أَسْكِنُوهُنَّ من حَيْثُ سَكَنْتُمْ من
وُجْدِكُمْ } كما هو قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه وَيَكُونُ هذا
قِرَاءَةَ عُمَرَ أَيْضًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ قَوْلَهُ عز وجل {
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ من سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عليه رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ
مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } مُطْلَقًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَا نَدَعُ
كِتَابَ رَبِّنَا في السُّكْنَى خَاصَّةً وهو قَوْلُهُ عز وجل { أَسْكِنُوهُنَّ من
حَيْثُ سَكَنْتُمْ من وُجْدِكُمْ } كما هو الْقِرَاءَةُ الظَّاهِرَةُ وَأَرَادَ
بِقَوْلِهِ رضي اللَّهُ عنه سُنَّةَ نَبِيِّنَا ما رُوِيَ عنه رضي اللَّهُ عنه
أَنَّهُ قال سمعت رَسُولَ اللَّهِ يقول لها النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه في هذا تِلَاوَةٌ
رُفِعَتْ عَيْنُهَا وَبَقِيَ حُكْمُهَا فَأَرَادَ بِقَوْلِهِ لَا نَدَعُ كِتَابَ
رَبِّنَا تِلْكَ الْآيَةَ كما رُوِيَ عنه أَنَّهُ قال في بَابِ الزِّنَا كنا نتلو
( ( ( نتلوا ) ) ) في سُورَةِ الْأَحْزَابِ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا
فَارْجُمُوهُمَا نَكَالًا من اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ثُمَّ رُفِعَتْ
التِّلَاوَةُ وَبَقِيَ حُكْمُهَا كَذَا هَهُنَا
وَرُوِيَ أَنَّ زَوْجَهَا أُسَامَةَ بن زَيْدٍ كان إذَا سَمِعَهَا تَتَحَدَّثُ
بِذَلِكَ حَصَبَهَا بِكُلِّ شَيْءٍ في يَدِهِ
وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت لقد فَتَنْتِ الناس بهذا الحديث
وَأَقَلُّ أَحْوَالِ إنْكَارِ الصَّحَابَةِ على رَاوِي الحديث أَنْ يُوجِبَ
طَعْنًا فيه
ثُمَّ قد قِيلَ في تَأْوِيلِهِ أنها كانت تَبْدُو على أَحْمَائِهَا أَيْ تَفْحُشُ
عليهم بِاللِّسَانِ من قَوْلِهِمْ بَذَوْتُ على فُلَانٍ أَيْ فَحُشْتُ عليه أَيْ
كانت تُطِيلُ لِسَانَهَا عليهم بِالْفُحْشِ فَنَقَلَهَا رسول اللَّهِ إلَى بَيْتِ
ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ ولم يَجْعَلْ لها نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى لِأَنَّهَا
صَارَتْ كَالنَّاشِزَةِ إذا كان سَبَبُ الْخُرُوجِ منها وَهَكَذَا نَقُولُ فِيمَنْ
خَرَجَتْ من بَيْتِ زَوْجِهَا في عِدَّتِهَا أو كان منها سَبَبٌ أَوْجَبَ
الْخُرُوجَ أنها لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ ما دَامَتْ في بَيْتِ غَيْرِ
الزَّوْجِ وَقِيلَ إنَّ زَوْجَهَا كان غَائِبًا فلم يُقْضَ لها بِالنَّفَقَةِ
وَالسُّكْنَى على الزَّوْجِ لِغَيْبَتِهِ إذْ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ على
الْغَائِبِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عنه خَصْمٌ حَاضِرٌ
فَإِنْ قِيلَ روى أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ إلَى الشَّامِ وقد كان وَكَّلَ أَخَاهُ
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا وَكَّلَهُ بِطَلَاقِهَا ولم يُوَكِّلْهُ بالخصومة (
( ( بالخصوصية ) ) )
وَقَوْلُهُمَا أن النَّفَقَةَ تَجِبُ لها بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ مَمْنُوعٌ فإن
لِلْمِلْكِ ضَمَانًا آخَرَ وهو الْمَهْرُ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى وَإِنَّمَا تَجِبُ بِالِاحْتِبَاسِ وقد بَقِيَ بَعْدَ الطَّلَاقِ
الثَّلَاثِ وَالْبَائِنِ فَتَبْقَى النَّفَقَةُ وَسَوَاءٌ كانت الْمُعْتَدَّةُ عن
طَلَاقٍ كَبِيرَةً أو صَغِيرَةً مُسْلِمَةً أو كِتَابِيَّةً لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا
من الدَّلَائِلِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ وَلَا نَفَقَةَ وَلَا سُكْنَى لِلْأَمَةِ
الْمُعْتَدَّةِ عن طَلَاقٍ إذَا لم يُبَوِّئْهَا الْمَوْلَى بَيْتًا لِأَنَّهُ
إذَا لم يُبَوِّئْهَا الْمَوْلَى بَيْتًا فَحَقُّ الْحَبْسِ لم يَثْبُتْ
لِلزَّوْجِ
أَلَا تَرَى أَنَّ لها أَنْ تَخْرُجَ فَإِنْ كان الْمَوْلَى قد بَوَّأَهَا بَيْتًا
فَلَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ لِثُبُوتِ حَقِّ الْحَبْسِ لِلزَّوْجِ
وَكَذَلِكَ
____________________
(3/210)
الْمُدَبَّرَةُ
وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا طَلَّقَهُمَا وَبَوَّأَهُمَا الْمَوْلَى بَيْتًا أو لم
يُبَوِّئْهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَمَةٌ وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ
وَالْمُسْتَسْعَاةُ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ أُعْتِقَتْ أَمُّ الْوَلَدِ
أو مَاتَ عنها مَوْلَاهَا فَلَا نَفَقَةَ لها وَلَا سُكْنَى لِأَنَّهَا غَيْرُ
مَحْبُوسَةٍ
أَلَا تَرَى أَنَّ لها أَنْ تَخْرُجَ فَلَا تَجِبُ لها النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى
كَالْمُعْتَدَّةِ من نِكَاحٍ فَاسِدٍ لِأَنَّ عِدَّتَهَا كَعِدَّةِ الْمَنْكُوحَةِ
نِكَاحًا فَاسِدًا هذا إذَا كانت مُعْتَدَّةً عن طَلَاقٍ من نِكَاحٍ صَحِيحٍ
فَإِنْ كانت مُعْتَدَّةً من نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَلَا سُكْنَى لها وَلَا نَفَقَةَ
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَالَ الْعِدَّةِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ النِّكَاحِ وَلَا
سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَكَذَا في الْعِدَّةِ منه هذا
إذَا كانت مُعْتَدَّةً عن طَلَاقٍ فَإِنْ كانت مُعْتَدَّةً عن فُرْقَةٍ بِغَيْرِ
طَلَاقٍ من نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَإِنْ كانت الْفُرْقَةُ من قِبَلِهِ فَلَهَا
النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى كَيْفَمَا كانت الْفُرْقَةُ وَإِنْ كانت من قِبَلِهَا
فَإِنْ كانت بِسَبَبٍ ليس بِمَعْصِيَةٍ كَالْأَمَةِ إذَا أُعْتِقَتْ فَاخْتَارَتْ
نَفْسَهَا وَامْرَأَةِ الْعِنِّينِ إذَا اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ فَلَهَا
السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ وَإِنْ كانت بِسَبَبٍ هو مَعْصِيَةٌ كَالْمُسْلِمَةِ
قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا بِشَهْوَةٍ قالوا لَا نَفَقَةَ لها وَلَهَا السُّكْنَى
لِأَنَّ السُّكْنَى فيها حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ مُسْلِمَةٌ مُخَاطَبَةٌ
بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى
وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَتَجِبُ حَقًّا لها على الْخُلُوصِ
فإذا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ من قِبَلِهَا بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَدْ أَبْطَلَتْ حَقَّ
نَفْسِهَا بِخِلَافِ الْمُعْتَقَةِ وَامْرَأَةِ الْعِنِّينِ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ
وَقَعَتْ من قِبَلِهِمَا بِحَقٍّ فَلَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ
هذا إذَا كانت مُعْتَدَّةً عن طَلَاقٍ أو عن فُرْقَةٍ بِغَيْرِ طَلَاقٍ فَإِنْ
كانت مُعْتَدَّةً عن وَفَاةٍ فَلَا سُكْنَى لها وَلَا نَفَقَةَ في مَالِ الزَّوْجِ
سَوَاءٌ كانت حَائِلًا أو حَامِلًا فإن النَّفَقَةَ في بَابِ النِّكَاحِ لَا
تَجِبُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ دَفْعَةً وَاحِدَةً كَالْمَهْرِ وَإِنَّمَا تَجِبُ
شيئا فَشَيْئًا على حَسَبِ مُرُورِ الزَّمَانِ فإذا مَاتَ الزَّوْجُ انْتَقَلَ
مِلْكُ أَمْوَالِهِ إلَى الْوَرَثَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَجِبَ النَّفَقَةُ
وَالسُّكْنَى في مَالِ الْوَرَثَةِ وَسَوَاءٌ كانت حُرَّةً أو أَمَةً وكبيرة ( ( (
كبيرة ) ) ) أو صَغِيرَةً مُسْلِمَةً أو كِتَابِيَّةً لِأَنَّ الْحُرَّةَ
الْمُسْلِمَةَ الْكَبِيرَةَ لَمَّا لم تَسْتَحِقَّ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى في
عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَهَؤُلَاءِ أَوْلَى وَكَذَا الْمُعْتَدَّةُ من نِكَاحٍ
فَاسِدٍ في الْوَفَاةِ لَا سُكْنَى لها وَلَا نَفَقَةَ لِأَنَّهُمَا لَا
يُسْتَحَقَّانِ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ في هذه الْعِدَّةِ فَبِالنِّكَاحِ
الْفَاسِدِ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا ثُبُوتُ النَّسَبِ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ وَالْكَلَامُ في هذا
الْمَوْضِعِ في مَوْضِعَيْنِ في الْأَصْلِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما يَثْبُتُ فيه
نَسَبُ وَلَدِ الْمُعْتَدَّةِ من الْمُدَّةِ وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَثْبُتُ
بِهِ نَسَبُهُ من الْحُجَّةِ أَيْ يَظْهَرُ بِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَصْلُ فيه أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ
أَشْهُرٍ لِقَوْلِهِ عز وجل { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } جَعَلَ
اللَّهُ تَعَالَى ثَلَاثِينَ شَهْرًا مُدَّةَ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ جميعا ثُمَّ
جَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْفِصَالَ وهو الْفِطَامُ في عَامَيْنِ بِقَوْلِهِ
وَفِصَالُهُ في عَامَيْنِ فَيَبْقَى لِلْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَهَذَا
الِاسْتِدْلَال مَنْقُولٌ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما فإنه روي أَنَّ
رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهَمَّ
عُثْمَانُ رضي اللَّهُ عنه بِرَجْمِهَا فقال ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَمَا
أنه لو خَاصَمْتُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ لَخَصَمْتُكُمْ قال اللَّهُ تَعَالَى {
وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } وقال الله تعالى { وَفِصَالُهُ في
عَامَيْنِ } أَشَارَ إلَى ما ذَكَرْنَا فَدَلَّ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ
سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَأَكْثَرَهَا سَنَتَانِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
أَرْبَعُ سِنِينَ وهو مَحْجُوجٌ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت
لَا يَبْقَى الْوَلَدُ في رَحِمِ أُمِّهِ أَكْثَرَ من سَنَتَيْنِ وَلَوْ
بِفَلْكَةِ مِغْزَلٍ وَالظَّاهِرُ أنها قالت ذلك سَمَاعًا من رسول اللَّهِ لِأَنَّ
هذا بَابٌ لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَلَا يُظَنُّ بها أنها قالت
ذلك جُزَافًا وَتَخْمِينًا فَتَعَيَّنَ السَّمَاعُ
وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّ كُلَّ مُطَلَّقَةٍ لم تَلْزَمْهَا الْعِدَّةُ بِأَنْ لم
تَكُنْ مَدْخُولًا بها فَنَسَبُ وَلَدِهَا لَا يَثْبُتُ من الزَّوْجِ إلَّا إذَا
عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُ منه وهو أَنْ تَجِيءَ بِهِ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ
وَكُلُّ مُطَلَّقَةٍ عليها الْعِدَّةُ فَنَسَبُ وَلَدِهَا يَثْبُتُ من الزَّوْجِ
إلَّا إذَا عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُ ليس منه وهو أَنْ تَجِيءَ بِهِ لِأَكْثَرَ من
سَنَتَيْنِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قبل الدُّخُولِ يُوجِبُ
انْقِطَاعَ النِّكَاحِ بِجَمِيعِ عَلَائِقِهِ فَكَانَ النِّكَاحُ من كل وَجْهٍ
زَائِلًا بِيَقِينٍ وما زَالَ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ
فإذا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ من يَوْمِ الطَّلَاقِ فَقَدْ
تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ وُ