سلسلة الهدى والنور (4)
هـل افتـدانا
المسيح على الصليـب ؟
د. منقذ بن محمود السقار
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسل الله أجمعين، عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وبعد:
انتهينا في الحلقات الماضية من سلسلتنا - سلسلة الهدى والنور - إلى حقيقة واضحة وساطعة كما الشمس في رابعة النهار، وهي أن الكتاب المقدس - وكما رأينا - عمل بشري لا يمثل كلمة الله بحال من الأحوال، وعليه فلا يصح الاستدلال به على أي من العقائد أو الأحداث الهامة، ومن ذلك الصلب والفداء.
وتنزلاً مع النصارى في الحوار، ورغبة في عدم غلق هذا الباب نعود لطرح سؤالين هامين، أحدهما تاريخي، والآخر عقدي، أولهما : هل صلب المسيح عليه السلام كما تذكر الأناجيل، وكما تجمع الفرق النصرانية المعاصرة؟
والسؤال الثاني، وهو متعلق بالسؤال الأول، ونطرحه جدلاً - إن قلنا بصلب المسيح - : فهل كان صلبه فداء لنا وللبشرية؟
وتثور تبعاً لهذا السؤال أسئلة كثيرة: مم الخلاص؟ من دينونة جهنم أم من نكد الدنيا وعثراتها؟ وهل الخلاص متعلق بذنب أبوينا (آدم وحواء) فقط أم يسري إلى كافة ذنوبنا وخطايانا؟ وهل الخلاص مشروط أم أنه منحة محبة من الله ومسيحه، وهي أعظم من أن يطلب لها مقابل؟
ثم هل الخلاص لليهود الذين اختص المسيح بهم في رسالته أم يمتد ليشمل الجنس البشري الذي ولد مسربلاً بالخطيئة؟
هذه الأسئلة وغيرها نجيب عنها في حلقتنا الرابعة من سلسلة الهدى والنور، ونجملها في سؤال يلُم شعثها: هل افتدانا المسيح على الصليب؟
نجيب عنه بموضوعية ومنهجية علمية، نقلب صفحات الأسفار المقدسة عند النصارى، ونحتكم وإياهم إلى العقل المجرد والفطرة السوية، مستشهدين بدلالة التاريخ وحكمة عقلائه من النصارى.
اللهم اهدنا لما اختلفنا فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
د. منقذ بن محمود السقار
مكة المكرمة – شعبان – 1424هـ
mongiz@maktoob.com
صلب المسيح عند النصارى:
يعتبر النصارى حادثة صلب المسيح أحد أهم أحداث المعمورة، حيث يعتقدون أن الله أنزل ابنه السيد المسيح، ليموت على الصليب ليطهر البشر من أغلال خطيئة أبيهم آدم، بل وخطاياهم جميعاً.
وتؤكد الأناجيل - في إصحاحات مطولة - صلب المسيح، ذاكرةً الكثير من تفاصيل القبض عليه، ومحاكمته، وصلبه، ثم دفنه، ثم قيامته، فصعوده إلى السماء.
ومما يؤكد أهمية مسألة الصلب في الفكر النصراني أن النصارى يرون أن تجسد الإله في المسيح، هذا الحدث العظيم، إنما كان من أجل أن يصلب الإله، ويصور هذا الإصلاحي البرتستنتي الشهير توماس الأكويني (الملقب بالدكتور الملائكي) فيقول: " توجد أراء مختلفة، فيزعم البعض أن ابن الله كان سيتجسد حتى لو لم يخطئ آدم، ويرى البعض خلاف ذلك، ويبدو من الأصوب الانتماء إلى الرأي الثاني... الكتاب يقول لنا دائماً: إن خطية الإنسان الأول هي الدافع لتجسد ابن الله، وعليه يظهر أن هذا السر إنما رتبه الله كدواء للخطيئة ؛ بحيث إنه لولا الخطيئة لما كان التجسد ". ([1])
ويصور الكاردينال الإنجليزي منينغ أهمية حادثة الصلب في كتابه " كهنوت الأبدية" فيقول: "لا تخفى أهمية هذا البحث الموجب للحيرة، فإنه إذا لم تكن وفاة المسيح صلباً حقيقية، فحينئذ يكون بناء عقيدة الكنيسة قد هدم من الأساس، لأنه إذا لم يمت المسيح على الصليب، لا توجد الذبيحة، ولا النجاة، ولا التثليث.. فبولس والحواريون وجميع الكنائس، كلهم يدعون هذا، أي أنه إذا لم يمت المسيح لا تكون قيامة أيضاً ".
ويقول جوردن مولتمان في كتابه " الإله المصلوب " : " إن وفاة عيسى على الصليب هي عصب كل العقيدة المسيحية، إن كل النظريات المسيحية عن الله، وعن الخليقة، وعن الخطيئة، وعن الموت، تستمد محورها من المسيح المصلوب ". ([2])
وهذا ما أكد عليه بولس حين ألغى دور الناموس معتمداً على أن المسيح صلب مكفراً بصلبه الخطيئة، فافتدانا بذلك من لعنة الناموس، فيقول: " وإن لم يكن المسيح قد قام، فباطل كرازتنا، وباطل أيضاً إيمانكم " ( كورنثوس (1) 15/14).
وعليه نرى جلياً أهمية هذا الحدث التاريخي في الفكر النصراني، إذ يعتبره النصارى المحور الذي تدور حوله الحياة الإنسانية على وجه هذه البسيطة.
صلب المسيح عند المسلمين
وأما الرأي الإسلامي فيتلخص في أن المسيح عليه السلام لم يصلب كما يدعي اليهود والنصارى.
وقد استند المسلمون - في هذا الرأي المخالف لما أجمعت عليه الأناجيل - إلى آيات القرآن الكريم وهي تقرر ذلك.
فقد أشارت الآيات إلى المؤامرة التي جرت للمسيح، وقررت أموراً يلحظها قارئ الآيات، فقد تحدثت الآيات عن نجاة المسيح من مؤامرة أعدائه، فقد قال تعالى - في معرض تعداده لنعم الله على المسيح -:] وإذ كففت بني إسرائيل عنك [ (المائدة: 110).
وذلك ولا ريب في ذلك اليوم العصيب الذي جرت فيه مؤامرة الرومان مع اليهود بغية قتل المسيح وصلبه عليه السلام، ولكن الله مكر بهم فلم تفلح المؤامرة ] ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين [ (آل عمران: 54 )، فقد أنجى الله نبيه - المسيح - من مؤامرتهم وكيدهم.
وتخبر الآيات عن بعض ملامح هذه المؤامرة التي حاكها اليهود ] وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً[ (النساء: 157-158).
وثمة آية أخرى تشير إلى رفعه ونجاته، وهي قوله تعالى: ] إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة [ (آل عمران: 55).
كما أشارت الآيات إلى نجاته في قوله: ] ويكلم الناس في المهد وكهلاً [ (آل عمران : 46) والمعلوم أن المسيح رفع وهو في الثلاثينيات من عمره، والكهولة في اللغة مقترنة بالمشيب، ولما يدركه المسيح حال وجوده الأول، فدل على أنه سيعيش ويبلغ الكهولة، ويكلم الناس حينذاك، ولو صرفت عن هذا المعنى لما بقي لذكر الكهولة - وكلامه فيها - وجه، إذ ذكرت بين معجزات المسيح، والكلام في الكهولة كل أحد يطيقه، ولا معجزة في ذلك.
وقد ذكر القرآن في آية أخرى إشارة إلى نزوله عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان وهي قوله تعالى: ] وإنه لَعِلْم للساعة فلا تمترن بها[ (الزخرف: 61).
ومثله قوله تعالى: ] وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً [ (النساء : 159).
ولا تذكر النصوص القرآنية ولا النبوية أي تفصيل عن كيفية نجاة المسيح، لذا فقد حاول المحققون المسلمون تلمس الحقيقة التي أخبر عنها القرآن في النقول التي نقلها إلينا مسلمة أهل الكتاب أو نقبوا بحثاً عن الحقيقة في طيات أسفار أهل الكتاب، بحثاً عن هذه الكيفية التي نجى بها السيد المسيح من مؤامرة اليهود.
ولقد أفاد القرآن الكريم وقوع الصلب، ولكن على غير المسيح، وبين القرآن جهل اليهود وغيرهم بحقيقة المصلوب واختلافهم في شخصه، لما وقع من شبه المسيح عليه، وذلك في قوله تعالى: ]وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن [ (النساء: 157).فالشك في الآية منصرف إلى شخصية المصلوب، ولم يحدد القرآن شخص هذا المصلوب، لكنه أكد على نجاة المسيح عليه الصلاة والسلام ورفعه للسماء ]وما قتلوه يقيناً * بل رّفعه ٱللّه إليه وكان ٱللّه عزيزاً حكيماً { (النساء: 157-158).
إذاً القرآن ناطق بنجاة المسيح من مكر الماكرين، ورفعه إلى السماء، وأن أعداءه الذين أرادوا صلبه وقعوا في الشك وأخذوا غيره فصلبوه، فرفع الله المسيح عليه السلام، ولسوف يعود قبيل الساعة، فيكون مجيئه علامة على قرب انقضاء الدنيا صلى الله عليه وسلم.
أهمية إبطال صلب المسيح عند المسلمين.
يعتقد المسلمون أن الأنبياء كسائر البشر يموتون، وقد يكون موتهم قِتلةَ، ويحكي القرآن عن بني إسرائيل بأنهم كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، وعليه فلا حرج عندنا في موت نبي بأي قتلة قتله بها سفهاء قومه ومجرموهم، فالقتل لا يضير النبي المقتول، بل هو من اصطفاء الله له، إذ هو شهادة في سبيل الله ودينه.
فلماذا ذكر القرآن نجاة المسيح، وأصر على تكذيب النصارى في هذه المسالة ؟
إن القرآن الكريم ذكر نجاة المسيح لمجرد إثبات الحقيقة، وإثبات ضعف وعجز اليهود عن بلوغ مرامهم، والمسلمون حين يتحدثون عن نجاة المسيح إنما يريدون إثبات هذه الحقيقة التي بشر بها كتابهم.
وأيضاً أدرك المسلمون الخطر التي تركته حادثة الصلب، والتي تحولت من حدث تاريخي إلى عقيدة عظيمة الشأن عند النصارى، فتقويضها يعني خواء النصرانية عن كل معنى، لذا يؤكد العلامة ديدات أن النصرانية لا تستطيع أن تقدم للناس أي فضيلة، سوى ما تزعمه من الخلاص بدم المسيح، فهي مثلاً لا تستطيع أن تقدم لنا نحن المسلمين الكرم أو النظافة أو.... فإذا ما بطل صلب المسيح، لم يبق للنصرانية مبرر للدعوة والوجود.
وفي الآثار العقدية السلبية لفكرة الصلب ما يجعلها هدفاً للمسلمين ينبغي التركيز عليه، ومن هذه الآثار الاضطراب في نظرة المسيحية للإله.
فقد ظهر في القرن الثاني الميلادي تلميذ شهير لبولس، اسمه مركيون، وكان يعتقد بأن إله اليهود الذي أعطى الناموس لموسى، وخالق العالم كان شريراً، وأما إله المحبة فقد ظهر في المسيح، وهو معارض تماماً لخالق العالم.
ويتصور مركيون محاكمة من المسيح لخالق العالم ورب السماوات والأرض، فيقول: " نزل يسوع إلى رب المخلوقات في هيئة لاهوته، ودخل معه في قصاص بسبب موته على الصليب قتلاً... قال له يسوع: إن الدينونة بيني وبينك، لا تدع أي شخص آخر يكون قاضياً، إنما شرائعك ذاتها تقضي لي ... ألم تكتب في ناموسك أن من قتل يقتل ؟
وعندئذٍ أجاب ( إله المخلوقات ): لقد كتبت هذا.. قال له يسوع: سلم نفسك إذن ليدي .. قال خالق العالم: لأني قد ذبحتك، فإني أعطيك عوضاً، كل أولئك الذين يؤمنون بك، تستطيع أن تفعل بهم ما يرضيك.
عندئذٍ تركه يسوع، وحمل بولس بعيداً، وأراه الثمن، وأرسله ليكرز بأننا اشتُرينا بهذا الثمن، وأن كل من يؤمن بيسوع قد بيعوا عن طريق هذا الإله العادل إلى الإله الطيب ".([3])
فهذا الشطط في المعتقد إفراز طبيعي متجدد. يسببه تناقض العدل والرحمة، وأما القول بنجاة المسيح من القتل فيضع الأمور في ميزانها الصحيح، فتعبد البشرية ربها، وهي موقنة بأنها تعبد الرب العفُوّ الرحيم الكريم.
وقصة النصارى في الخطيئة والفداء والشريعة يشبهها الأستاذ محمد حسن عبد الرحمن في كتابه "براهين تحتاج إلى تأمل في ألوهية المسيح" ، يشبهها بقصة ملك تمرد عليه شعبه، فأرسل إليهم رسلاً يدعونهم إلى الخير والرجوع لسلطانه والإذعان لقوانين العدل والسلام التي وضعها.
لكن هؤلاء قتلوا رسله واستهزءوا بهم، وزادوا عتواً، فزاد غضب الملك عليهم، ثم ما لبث الملك أن أصدر قراراً بأنه سيبعث ابنه الوحيد ليضربوه ويقتلوه ويهينوه كفارة عن معاصيهم، فمن صدق ذلك فهو عنده الكريم المغفور له.
كما أصدر أمراً آخر بإلغاء كل قوانين العدل والرخاء السابقة.
وأصدر أمراً باعتبار الرضا بالقرارات السابقة كافياً للحكم على الراضي بأنه مواطن صالح مهما ارتكب من آثام وموبقات وجرائم.
وقد كانت حيثيات هذا القرار: أن الملك عادل، ومن عدله يقتص من المجرمين المخربين المفسدين في مملكته، ولكنه حباً لهم، وحتى لا يهلك كل من في المملكة رضي بأن يقتص من ابنه الوحيد البريء، الذي يعدل القصاص منه كل جرائم شعبه، وأمر بأن يعذب ثم يصلب. فما رأي النصارى بهذا الملك؟
ومثل هذا الملك لا يقال في حقه عادل أو ظالم، وإنما الأليق به أن يقال عنه بأنه غبي سفيه معتوه.
هذه كما يرى الأستاذ محمد حسن هي صورة الإله الذي تريد النصرانية المحرفة أن نعبده. ([4])
وعقيدة الصلب والخطيئة والفداء وما تعلق بها سبب لنفور الناس من الدين وانتشار الإلحاد، إذ لم يرضَ الناس بعبادة رب ظالم، أو رب مصلوب كالذي تريد الكنيسة من الناس أن يعبدوه.
ولعل من صور هذا الشطط ما نراه من انتشار الإلحاد الذي سببته عقيدة موت الإله بسبب الفداء كما قال نيتشة: " إن كان من شأن فكرة الله أن تسقط ضلال الخطيئة على براءة الأرض، فإنه لابد للمؤمنين بالحس الأرضي أن يهووا بمعاولهم على تلك الفكرة ".
ويقول: " طوبى لأتقياء القلب، لأنهم لا يعاينون الله ... لقد صرنا بشراً، ولهذا فإننا لا نريد إلا ملكوت الأرض، إلى أين مضى الله ؟ سأقول لكم إلى أين مضى؟ لقد قتلناه، أنتم وأنا، أجل، نحن الذين قتلناه، نحن جميعاً قاتلوه، ألا تشمون رائحة العفن الإلهي؟ إن الآلهة أيضاً تتعفن، لقد مات الله وسيظل ميتاً ". ([5])
بل إن سذاجة فكرة الخطيئة والفداء وغرابتها جعلها محلاً للسخرية والهزء كما يقول ج. ر سنوت في كتابه " المسيحية الأصلية": " ومن المدهش أن هذه القضية الخاصة بيسوع ابن الله ليس محبوباً في العصر الحاضر، ويقال عن حمله خطايانا، ورفعه قصاصها عنا: إنه عمل غير عادل وغير أدبي وغير لائق، ويمكن تحويله إلى سخرية وهزء ". ([6])
نقد الروايات الإنجيلية لحادثة الصلب
تناقل النصارى روايات صلب المسيح جيلاً بعد جيل، حتى إذا جاء القرن الميلادي السابع، أعلن محمد صلى الله عليه وسلم بطلان وقوع الصلب على المسيح.
ويتساءل النصارى كيف له أن يقول ذلك، وأن يكذب الحواريين وشهود العيان الذين سجلوا لنا بشهاداتهم الخطية ما رأوه؟
فالأناجيل التي كتبها الإنجيليون الأربعة هي برهان القوم لو سئلوا، وقيل لهم: ] قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [ (البقرة: 111)، فالكتاب المقدس وفي أكثر من ألف لغة إنسانية يتحدث عن صلب المسيح. وهذا هو البرهان.
ويرى العلامة ديدات أنه يفرض علينا تفحص هذا البرهان، والنظر في حال الشهود الأربعة الذين يشهدون بوقوع صلب المسيح.
وهنا يسجل ديدات أول ملاحظات المسلمين على الشهود، وهي أن اثنين من الشهود الأربعة لم يروا المسيح، ولم يكونوا من تلاميذه، فكيف يعتبرون شهوداً؟ ويقصد مرقس ولوقا.
والملاحظة الثانية: أن شهود الإثبات جميعاً لم يحضروا الواقعة التي يشهدون فيها، كما قال مرقس: " فتركه الجميع وهربوا " ( مرقس 14/50 )، ومثل هذه القضية لو عرضت على أي محكمة متحضرة لسارعت إلى رد شهادة هؤلاء الشهود في أقل من دقيقتين.
ثم هذه الشهادة مسجلة على أكثر من خمسة آلاف مخطوط يتفاخر بكثرتها النصارى، ولا يوجد منها مخطوطتان متطابقتان، ثم لو تطابقت جميعها، فإن أياً منها لم يسجَّل بخط مؤلفه، وإن نُسب إليه.([7])
يقول اينوك باول في كتابه " تطور الأناجيل " : قصة صلب الرومان للمسيح لم تكن موجودة في النص الأصلي للأناجيل. وقد استند في ذلك على إعادته ترجمة نسخة متى اليونانية، فتبين له أن هناك أجزاء وردت مكررة في هذا الإنجيل، مما يوحي بأنه أعيدت كتابتها في مرحلة تالية. ([8])
ومن التغيرات التي لاحظها علماء الغرب في مخطوطات الكتاب وهي تتحدث عن الصلب أنه قد تمت إضافة أجزاء للقصة حسب رؤية النساخ وتقديرهم، فقد جاء في مرقس: " وفي اليوم الأول من الفطير، حين كانوا يذبحون الفصح، قال له تلاميذه: أين تريد أن نمضي ونعد لتأكل الفصح؟ فأرسل اثنين من تلاميذه، وقال لهما: اذهبا إلى المدينة، فيلاقيكما إنسان حامل جرة ماء اتبعاه.. " (مرقس 14/12 – 16 ).
ويرى دنيس نينهام مفسر مرقس في تفسيره (ص 376) أن أغلب المفسرين يعتقدون أن هذه الفقرات أضيفت فيما بعد لرواية مرقس. وأنهم قد استندوا لأمرين: أولهما: أنه وصف اليوم الذي قيلت فيه القصة بأسلوب لا يستخدمه يهودي معاصر للمسيح. والثاني: أن كاتب العدد 17 " ولما كان المساء جاء مع الإثني عشر .. " ( مرقس 14/17 ) فهو يتحدث عن جلوس المسيح مع تلاميذه الإثني عشر، وهو لا يعلم شيئاً عن رحلة اثنين منهم [بطرس ويوحنا حسب لوقا 22/8] لإعداد الفصح، فلو كان كاتب العدد 17 يعلم محتويات تلك الفقرة, لكان عليه أن يتحث عن العشرة، وليس عن الاثني عشر, أي أن العدد 17 كان يجب أن يقرأ هكذا: ( ولما كان المساء جاء مع العشرة ).
ومن التلاعب الذي تعرضت له نسخ الأناجيل أيضاً؛ ما ذكره جورج كيرد شارح إنجيل لوقا ، فقد جاء في لوقا أن المسيح قال على الصليب: " يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون " (لوقا 23/33 - 34)، ولم يذكرها غيره من الإنجيليين، كما أغفلتها بعض المخطوطات الهامة للوقا، يقول كيرد (ص 251): " لقد قيل إن هذه الصلاة ربما تكون قد محيت من إحدى النسخ الأولى للإنجيل بواسطة أحد كتبة القرن الثاني، الذي ظن أنه شيء لا يمكن تصديقه أن يغفر الله لليهود، وبملاحظة ما حدث من تدمير مزدوج لأورشليم في عامي 70م و 135م صار من المؤكد أن الله لم يغفر لهم".([9])
أولاً : تناقضات روايات الصلب في الأناجيل
وتتحدث الأناجيل الأربعة - وهي المصدر الأساس لقصة الصلب - عن تفاصيل كثيرة في رواية الصلب، والمفروض لو كانت هذه الروايات وحياً كما يدعي النصارى، أن تتكامل روايات الإنجيليين الأربعة وتتطابق.
ولكن عند تفحص هذه الروايات نجد كثيراً من التناقضات والاختلافات التي لا يمكن الجمع بينها، ولا جواب عنها إلا التسليم بكذب بعض هذه الروايات، أو تكذيب رواية متى في مسألة، وتكذيب مرقس في أخرى ...
من هذه التناقضات:
هل ذهب رؤساء الكهنة للقبض على المسيح؟
مَن الذي ذهب للقبض على يسوع ؟ يقول متى: " جمع كثير بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب " ( متى 26/52 )، وزاد مرقس بأن ذكر أن من الجمع الكتبةَ والشيوخ (انظر مرقس 14/43 )، فيما ذكر يوحنا أن الآتين هم جند الرومان وخدم من عند رؤساءَ الكهنة (انظر يوحنا 18/3 ) ولم يذكر أي من الثلاثة مجيء رؤساء الكهنة، ولو كانوا قد حضروا لما صح إغفال ذكرهم مع الحاضرين، فهم ليسوا أقل أهمية من الكتبة والشيوخ والدهماء.
ولكن لوقا ذكر أن رؤساء الكهنة جاءوا بأنفسهم للقبض على المسيح إذ يقول: " قال يسوع لرؤساء الكهنة وقواد جند الهيكل والشيوخ المقبلين عليه " ( لوقا 22/52 ). فالتناقض بين لوقا والباقين ظاهر.
متى حوكم المسيح في مجمع اليهود؟
وتذكر الأناجيل محاكمة المسيح في مجمع اليهود، وتتفق في وصف الكثير مما جرى في أثناء المحاكمة، كاستفسار كبير الكهنة عن شخص الماثل بين يديه ، وإجابته له أن ابن الإنسان عن يمين قوة الله، وأنه سوف يأتي في سحاب السماء. (انظر لوقا 22/67-69، ومرقس 14/61-63، ومتى 26/63-64).
ولكنهم اختلفوا في موعد هذه الجلسة من جلسات المحاكمة، إذ يجعلها لوقا صباح الليلة التي قبض عليه فيها فيقول: " ولما كان النهار اجتمعت مشيخة الشعب رؤساء الكهنة والكتبة، وأَصعدوه إلى مجمعهم قائلين: إن كنت أنت المسيح فقل لنا؟.... " ( لوقا 22/66 - 67 ).
وأما الإنجيليون الثلاثة فإنهم يجعلون هذه المحاكمة في ليلة القبض عليه، فيقول مرقس: " فمضوا بيسوع إلى رئيس الكهنة، فاجتمع معه جميع رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة ...." ( مرقس 14/53 ) (وانظر: متى 26/57، ويوحنا 18/3 ).
كم مرة سيصيح الديك؟
وتبع بطرس المسيح من بعيد ليرى محاكمته، وقد أخبره المسيح بأنه سينكره في تلك الليلة ثلاث مرات قبل أن يصيح الديك مرتين حسب مرقس " قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات" (مرقس 14/72 ) ومَرةً حسب الثلاثة، يقول لوقا: " قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات" (لوقا 22/60) ( انظر: متى 26/74، يوحنا 18/27 ) وقد ذكر الثلاثة خلال القصة صياحاً واحداً فقط، خلافاً لما زعمه مرقس، فقد ذكر صياحين للديك.
أين تعرفت الجارية على بطرس أول مرة؟
وأثناء متابعة بطرس للمحاكمة تعرف بعض الموجودين في المحاكمة عليه، وعرفوا أنه من أتباع المسيح، مما اضطر بطرس لإنكار ذلك ثلاث مرات.
وتتفق الأناجيل في أنه تعرفت عليه في المرة الأولى جارية، وتختلف في تحديد المكان الذي تعرفوا فيه على بطرس، فيذكر متى ويوحنا أنه كان حينذاك خارج الدار " وأما بطرس فكان جالساً خارجاً في الدار. فجاءت إليه جارية قائلة: وأنت كنت مع يسوع الجليلي" ( متى 26/69، 75).
وذكر مرقس ولوقا أنه كان داخل الدار يستدفئ من البرد، يقول مرقس: " بينما كان بطرس في الدار أسفل جاءت إحدى جواري رئيس الكهنة. فلما رأت بطرس يستدفئ نظرت إليه وقالت: وأنت كنت مع يسوع الناصري" (مرقس 14/66)، وفي لوقا: "ولما أضرموا ناراً في وسط الدار وجلسوا معاً جلس بطرس بينهم. فرأته جارية جالساً عند النار، فتفرست فيه وقالت: وهذا كان معه .." (لوقا 22/55-56 )، فهل كان بطرس داخل الدار أم خارجها؟
كما نلحظ اختلافاً ثانياً بين الأناجيل في الفعل الذي كان يصنعه بطرس حين تعرفت الجارية عليه، فقد ذكر الإنجيليون الثلاثة أنه كان جالساً عند النار يستدفئ ، فخالفوا يوحنا الذي أخبرنا أن الجارية تعرفت عليه عند البوابة، فهذه الجارية مسؤولة عن البوابة، وقد صرح به يوحنا حين أخبرنا أن تلميذاً من تلاميذ المسيح توسط لبطرس عند رئيس الكهنة ليدخله إلى الدار، "فأدخل بطرس، فقالت الجاريةُ البوابةُ لبطرس: ألست أنت أيضاً من تلاميذ هذا الإنسان؟" (يوحنا 18/17)، إذاً اكتشف أمر بطرس عند البوابة، خلافاً لما ذكره الإنجيليون الثلاثة الذين أخبرونا بأنه كان جالساً عند النار.
من الذي تعرف على بطرس في المرة الثانية والثالثة؟
وأما المرة الثانية، فقد تعرفت عليه حسب مرقس نفس الجارية التي تعرفت عليه في المرة الأولى، يقول: " فرأته الجارية أيضاً، وابتدأت تقول للحاضرين: إن هذا منهم" (مرقس 14/69).
ولكن حسب متى فإن الذي تعرف عليه جارية أخرى غير الأولى " ثم إذ خرج إلى الدهليز رأته أخرى فقالت للذين هناك: وهذا كان مع يسوع الناصري" ( متى 26/71 ).
ويخالفهما جميعاً لوقا الذي ذكر أن الذي تعرف عليه هذه المرة رجل من الحضور وليس جارية، فيقول: " وبعد قليل رآه آخر وقال: وأنت منهم، فقال بطرس: يا إنسان، لست أنا" (لوقا 22/58).
ويحاول يوحنا الخروج من الخلاف والجمع بين الأقوال المتناقضة للثلاثة الذين سبقوه، فيستعير قصة الإنكار الثالث لبطرس حين أشار جمع إليه، فيجعلها في الإنكار الثاني، فيقول: "سمعان بطرس كان واقفاً يصطلي، فقالوا له: ألست أنت أيضاً من تلاميذه؟ فأنكر ذاك، وقال: لست أنا" (يوحنا 18/25).
وهذه الصيغة في التعرف على بطرس بواسطة الجموع ذكرها مرقس ومتى في سياق الإنكار الثالث، حيث يقول مرقس: " وبعد قليل أيضاً قال الحاضرون لبطرس: حقاً أنت منهم، لأنك جليلي أيضاً، ولغتك تشبه لغتهم. فابتدأ يلعن ويحلف: إني لا أعرف هذا الرجل الذي تقولون عنه" (مرقس 14/70-71).
وكذا ذكرها متى في الإنكار الثالث، فقال: " بعد قليل جاء القيام وقالوا لبطرس: حقاً أنت أيضاً منهم، فإن لغتك تظهرك، فابتدأ حينئذ يلعن ويحلف: إني لا أعرف" (متى 26/73-74).
وأما لوقا ويوحنا فجعلا المتعرف على بطرس هذه المرة (الثالثة) رجل واحد، وليس مجموعة من الموجودين في المحكمة، يقول لوقا: " ولما مضى نحو ساعة واحدة أكّد آخر قائلاً: بالحق إن هذا أيضاً كان معه، لأنه جليلي أيضاً، فقال بطرس: يا إنسان لست أعرف ما تقول" (لوقا 22/59-60).
ويصادق على كلامه يوحنا، فيذكر أن هذا الرجل أحد عبيد رئيس الكهنة " قال واحد من عبيد رئيس الكهنة، وهو نسيب الذي قطع بطرس أذنه: أما رأيتك أنا معه في البستان؟ فأنكر بطرس أيضاً" (يوحنا 18/26).
فهل الذي تعرف على بطرس في المرة الثانية نفس الجارية؟ أم جارية أخرى؟ أم رجل؟ وهل أنكر بطرس المسيح في المرة الثالثة بسبب تعرف الجمع على لهجته؟ أم بسبب عبد رئيس الكهنة الذي رأى بطرس في البستان مع تلاميذ المسيح؟
ويعترف بهذا التضارب بين الروايات الأب متى المسكين، فيقول: "أقوال القديس لوقا اختلفت عن أقوال القديس مرقس في المضمون وأنواع الأفراد الذين تصدوا لبطرس وأسباب كل مرة".([10])
لماذا حبس بارباس؟
وتختلف الأناجيل في تحديد السبب الذي من أجله حبس باراباس في سجن بيلاطس، فيذكر يوحنا بأنه كان لصاً "وكان باراباس لصاً" (يوحنا 18/40 ).
واتفق مرقس ولوقا على أنه صاحب فتنة، وأنه حصل فيها قتل، فاستوجب حبسه، يقول لوقا: "أطلق لنا باراباس، وذاك كان قد طرح في السجن لأجل فتنة حدثت في المدينة وقتل" (لوقا 23/19، وانظر: مرقس 15/7).
وأما سفر أعمال الرسل فينصُّ على أن بارباس كان قاتلاً، وليس مجرد لص أو مشارك في الفتنة، إذ يقول: " أنتم أنكرتم القدوس البار، وطلبتم أن يوهب لكم رجل قاتل" (أعمال 3/14).
من الذي حمل الصليب المسيح أم سمعان؟
وصدر حكم بيلاطس بصلب المسيح، وخرج به اليهود لتنفيذ الحكم، وفيما هم خارجون لقيهم رجل يقال له سمعان، فجعلوه يحمل صليب المسيح يقول مرقس: " ثم خرجوا لصلبه، فسخروا رجلا مجتازاً كان آتياً من الحقل، وهو سمعان القيرواني أبو الكسندروس وروفس ليحمل صليبه " (مرقس 15/20 – 22 ) و (انظر: متى 27/32، لوقا 23/26).
لكن يوحنا يخالف الإنجيليين الثلاثة، فيجعل المسيح حاملاً لصليبه بدلاً من سمعان، يقول يوحنا:
" فأخذوا يسوع ومضوا به، فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع الذي يقال له: الجمجمة "
(يوحنا 19/17)، ولم يذكر يوحنا شيئاً عن سمعان القيرواني، فمن الذي حمل الصليب ، سمعان أم المسيح عليه السلام؟
قصة نهاية يهوذا
ويتحدث العهد الجديد عن نهايتين مختلفتين للتلميذ الخائن يهوذا الأسخريوطي الذي خان المسيح، وسعى في الدلالة عليه وتسليمه مقابل ثلاثين درهماً من الفضة، فيقول متى: " لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين ندم وردّ الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ، قائلاً: قد أخطأت، إذ سلمت دماً بريئاً. فقالوا: ماذا علينا؟ أنت أبصر. فطرح الفضة في الهيكل وانصرف، ثم مضى وخنق نفسه، فأخذ رؤساء الكهنة الفضة، وقالوا: لا يحل أن نلقيها في الخزانة، لأنها ثمن دم. فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء. لهذا سمي ذلك الحقل حقل الدم إلى هذا اليوم" (متى 27/2-5).
ولكن سفر أعمال الرسل يحكي نهاية أخرى ليهوذا وردت في سياق خطبة بطرس، حيث قال: "أيها الرجال الإخوة، كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب الذي سبق الروح القدس فقاله بفم داود عن يهوذا الذي صار دليلاً للذين قبضوا على يسوع، إذ كان معدوداً بيننا، وصار له نصيب في هذه الخدمة، فإن هذا اقتنى حقلاً من أجرة الظلم، وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط، فانسكبت أحشاؤه كلها، وصار ذلك معلوماً عند جميع سكان أورشليم، حتى دعي ذلك الحقل في لغتهم حقل دما، أي حقل دم" (أعمال 1/16-20).
فقد اختلف النصان في جملة من الأمور:
- كيفية موت يهوذا، فإما أن يكون قد خنق نفسه ومات "ثم مضى وخنق نفسه"، وإما أن يكون قد مات بسقوطه، حيث انشقت بطنه وانسكبت أحشاؤه فمات "وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها"، ولا يمكن أن يموت يهوذا مرتين، كما لا يمكن أن يكون قد مات بالطريقتين معاً، ويجدر هنا أن نذكر أن المؤرخ الأسقف بابياس (155م) ذكر أن يهوذا مات دهساً بعربة فانسكبت أحشاؤه!
- من الذي اشترى الحقل، هل هو يهوذا "فإن هذا اقتنى حقلاً من أجرة الظلم"، أم الكهنة الذين أخذوا منه المال "فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري"؟
- هل مات يهوذا نادماً " لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين ندم ... قد أخطأت، إذ سلمت دماً بريئاً" أم معاقباً بذنبه كما يظهر من كلام بطرس؟
- هل رد يهوذا المال للكهنة " وردّ الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ "، أم أخذه واشترى به حقلاً "فإن هذا اقتنى حقلاً من أجرة الظلم "؟
- هل كان موت يهوذا قبل صلب المسيح وبعد المحاكمة "ودفعوه إلى بيلاطس البنطي الوالي، حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين ندم ... فطرح الفضة في الهيكل وانصرف ثم مضى وخنق نفسه" أم أن ذلك كان فيما بعد، حيث مضى واشترى حقلاً ثم مات في وقت الله أعلم متى كان؟
- هل سمي الحقل حقل دم لأنه كان ثمناً لدم المسيح " فأخذ رؤساء الكهنة الفضة وقالوا: لا يحل أن نلقيها في الخزانة، لأنها ثمن دم، فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء، لهذا سمي ذلك الحقل حقل الدم إلى هذا اليوم"، أم سمي بذلك لأن دم يهوذا قد سال فيه لما انشق بطنه " فإن هذا اقتنى حقلا من أجرة الظلم، وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط، فانسكبت أحشاؤه كلها، وصار ذلك معلوماً عند جميع سكان أورشليم، حتى دعي ذلك الحقل في لغتهم حقل دما، أي حقل دم".
ما موقف المصلوبين من جارهما على الصليب؟
وتتحدث الأناجيل عن تعليق المسيح على الصليب، وأنه صلب بين لصين أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره، ويذكر متى ومرقس أن اللصين استهزءا بالمسيح، يقول متى: " بذلك أيضاً كان اللصّان اللذان صلبا معه يعيّرانه" (متى 27/44، ومثله في مرقس 15/32).
بينما ذكر لوقا بأن أحدهما استهزء به، بينما انتهره الآخر، ولم يوافقه في استهزائه وسخريته بالمسيح، يقول لوقا: " وكان واحد من المذنبين المعلقين يجدف عليه قائلاً: إن كنت أنت المسيح فخلّص نفسك وإيانا. فأجاب الآخر، وانتهره قائلاً: أولا تخاف الله .. فقال له يسوع: الحق أقول لك: إنك اليوم تكون معي في الفردوس" ( لوقا 23/39 - 43).
من الذي طلب ترك المسيح ليحقق المعجزات؟
ويحدثنا مرقس أن المسيح لما كان على الصليب صرخ يطلب الماء "فركض واحد، وملأ إسفنجة خلاً، وجعلها على قصبة، وسقاه قائلاً: اتركوا، لنر هل يأتي إيليا لينزله" (مرقس 15/36)، فقائل العبارة السابقة هو ذلك الذي سقى المسيح، ويوجه خطابه للآخرين قائلاً: " اتركوا، لنر هل يأتي إيليا لينزله".
وهذا وصف ناقضه فيه متى حيث كتب: " وللوقت ركض واحد منهم، وأخذ إسفنجة، وملأها خلاً، وجعلها على قصبة وسقاه. وأما الباقون فقالوا: اترك، لنرى هل يأتي إيليا يخلّصه" (متى 27/48-49)، فجعل القائل لتلك العبارة الآخرون ، فقد طلبوا من الذي يسقي المسيح أن يتركه "اترك"، فمن القائل؟ ومن المخاطَب؟.
ما آخر ما قاله المصلوب قبل موته؟
أما اللحظات الأخيرة في حياة المسيح فتذكرها الأناجيل، وتختلف في وصف المسيح حينذاك، فيصور متى ومرقس حاله حال اليائس القانط ينادي ويصرخ: " إلهي إلهي لماذا تركتني " ثم يُسلم الروح. ( متى 27/46 – 50، ومرقس 15/34 - 37 ).
وأما لوقا فيرى أن هذه النهاية لا تليق بالمسيح، فيصوره بحال القوي الراضي بقضاء الله حيث قال: " يا أبتاه في يديك أستودع روحي، ولما قال هذا أسلم الروح " ( لوقا 23/46 ).
ويتجنب يوحنا وصف مشاعر المسيح دفعاً للحرج، لكنه يسجل مقالة أخرى ينسبها إلى المسيح ويجعلها آخر كلماته على الصليب ، فيقول: "فلما أخذ يسوع الخل قال: قد أكمل. ونكس رأسه، وأسلم الروح" (يوحنا 19/30)، فأي الكلمات كانت آخر كلام المسيح، وأي الحالين كان حاله على الصليب؟
متى انشق حجاب الهيكل؟
ويرى الإنجيليون أنه لا يليق أن تكون نهاية المسيح عادية كسائر الأموات، بل لابد أن تصحبها بعض الأحداث الكبيرة، والتي يختلفون في نسجها وفقاً لخيالاتهم الخصبة، لكنهم على أي حال يتفقون على واحدة منها، وهي انشقاق حجاب الهيكل، من غير أن يتفقوا على لحظة حصوله، فمرقس يجعله بعد وفاة المسيح ، فيقول: "فصرخ يسوع بصوت عظيم، وأسلم الروح، وانشق حجاب الهيكل إلى اثنين، من فوق إلى أسفل" (مرقس 15/37-38).
أما لوقا المتتبع لكل شيء بتدقيق فإنه يخالف البشير مرقس أول الإنجيلين تأليفاً، ويرى أن تلك الأعجوبة كانت قبل موت المسيح، فيقول: "وكان نحو الساعة السادسة، فكانت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة، وأظلمت الشمس، وانشقّ حجاب الهيكل من وسطه، ونادى يسوع بصوت عظيم وقال: يا أبتاه، في يديك استودع روحي، ولما قال هذا، أسلم الروح" (لوقا 23/44-46)، فانشقاقه كان قبل موت المسيح خلافاً لما زعمه مرقس.
ثانياً : تناقضات قصة القيامة
وتتحدث الأناجيل الأربع عن قيامة المسيح بعد دفنه، وتمتلىء قصص القيامة في الأناجيل بالمتناقضات التي تجعل من هذه القصة أضعف قصص الأناجيل.
متى أتت الزائرات إلى القبر؟
تتحدث الأناجيل عن زائرات للقبر في يوم الأحد، ويجعله مرقس بعد طلوع الشمس، فيقول: "وباكراً جداً في أول الأسبوع أتين إلى القبر، إذ طلعت الشمس، وكنّ يقلن فيما بينهنّ من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر، فتطلعن، ورأين أن الحجر قد دحرج " (مرقس 16/2-3 ).
لكن لوقا ومتَّى يجعلون الزيارة عند الفجر، وينصُّ يوحنا على أن الظلام باقٍ، يقول يوحنا: "في أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية إلى القبر باكراً، والظلام باق، فنظرت الحجر مرفوعاً عن القبر" (يوحنا 20/1 )، ( انظر: متى 28/1، لوقا 24/1).
ولنقرأ محاولة الأب متى المسكين في الجمع بين الفجر وطلوع الشمس، فقد قال: "فالاختلاف ناتج أن النسوة قمن باكراً جداً والظلام باق، وأتين إلى الباب، باب غربي المدينة، وانتظرن هناك إلى أن فتحوا الباب الذي لا يفتح إلا في شروق الشمس، وهكذا بين أن قمن ووصلن في الفجر عند الباب وخرجن والشمس قد طلعت؛ كانت المفارقة".([11])
ولا ريب أن القارئ يدرك أن أحداً من الإنجيليين أو المؤرخين لا يدري شيئاً عما يكتبه الأب المسكين عن باب المدينة المغلق، كما يدرك أن تفسير الأب للقصة يكذب ما قاله يوحنا الذي يقول: " جاءت مريم المجدلية إلى القبر باكراً، والظلام باق"، لقد وصلت المجدلية إلى القبر والظلام باق، وليس إلى باب المدينة الغربي الذي لا يفتح إلا بعد شروق الشمس!
من زار القبر؟
أما الزائرات والزوار، فهم حسب يوحنا مريم المجدلية وحدها كما في النص السابق " جاءت مريم المجدلية إلى القبر باكراً " (يوحنا 20/1 - 3).
وأضاف متى مريمَ أخرى أبهمها " جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظرا القبر " (متى 28/1).
لكن مرقس يخبر قراءه أن الزائرات هن مريم المجدلية وأم يعقوب وسالومة، فيقول: "اشترت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة حنوطاً ليأتين ويدهنّه " (مرقس 16/1 ).
وأما لوقا فيخبر أن القادمات للزيارة كن نساء كثيرات ومعهن أناس، يقول لوقا: "وتبعته نساء كنّ قد أتين معه من الجليل ونظرن القبر وكيف وضع جسده. ثم في أول الأسبوع أول الفجر أتين إلى القبر حاملات الحنوط الذي أعددنه ومعهنّ أناس، فوجدن الحجر مدحرجاً عن القبر" (لوقا 23/ 55 - 24/1). وهذا كله إنما كان في زيارة واحدة.
متى دحرج الحجر؟
ثم هل وجد الزوار الحجر الذي يسد القبر مدحرجاً أم دُحرج وقت الزيارة؟
يقول متى: " وإذا زلزلة عظيمة حدثت، لأن ملاك الرب نزل من السماء، جاء ودحرج الحجر عن الباب، وجلس عليه " ( متى 28/2 )، فيفهم منه أن الدحرجة حصلت وقتذاك.
بينما يذكر الثلاثة أن الزائرات وجدن الحجر مدحرجاً، يقول لوقا: "أتين إلى القبر حاملات الحنوط الذي أعددنه ومعهنّ أناس. فوجدن الحجر مدحرجاً عن القبر" (لوقا 24/2) ( وانظر: مرقس 16/4، يوحنا 20/1 ).
ماذا رأت الزائرات؟
وقد شاهدت الزائرات في القبر شاباً جالساً عن اليمين، لابساً حُلة بيضاء حسب مرقس (انظر: مرقس 16/5)، ومتى جعل الشاب ملاكاً نزل من السماء. ( انظر: متى 28/2 )، ولوقا جعلهما رجلين بثياب براقة. (انظر: لوقا 24/4).
وأما يوحنا فقد جعلهما ملَكين بثياب بيضٍ، أحدهما عند الرأس، والآخر عند الرجلين. ( انظر يوحنا 20/12 ).
أين لقيت المجدلية المسيح؟ ومن الذي بشرها بقيامة المسيح؟
لقد كانت زائرات القبر أول من رأين المسيح، فأين حصل هذا اللقاء.
يجيب يوحنا بأنه كان داخل قبر المسيح، حين كانت المجدلية (وهي الزائرة الوحيدة حسب يوحنا) تتحدث إلى الملائكة، "فقالا لها: يا امرأة لماذا تبكين؟ قالت لهما: إنهم أخذوا سيدي، ولست أعلم أين وضعوه، ولما قالت هذا التفتت إلى الوراء ، فنظرت يسوع واقفاً، ولم تعلم أنه يسوع، قال لها يسوع: يا امرأة لماذا تبكين؟ من تطلبين؟ فظنت تلك أنه البستاني؛ فقالت له: يا سيد إن كنت أنت قد حملته؛ فقل لي: أين وضعته؟ وأنا آخذه، قال لها يسوع: يا مريم. فالتفتت تلك، وقالت له: ربوني الذي تفسيره يا معلّم" (يوحنا 20/14-16)، ونلحظ هنا أنها اكتشفت أن المسيح مازال حياً من غير إخبار الملائكة لها، فقد رأته وتعرفت عليه بعد برهة من حديثه معها.
وأما إجابة متى عن السؤال فهي مختلفة ، فإنه يرى أن المجدلية وصاحبتها قد لقيتاه خارج القبر، بل بعيداً عنه، فقد قال لهما الملاك مبشراً بنجاة المسيح: " لا تخافا أنتما. فإني أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب، ليس هو ههنا، لأنه قام كما قال. هلم انظرا الموضع الذي كان الرب مضطجعاً فيه، واذهبا سريعاً، قولا لتلاميذه أنه قد قام من الأموات ... فخرجتا سريعا من القبر بخوف وفرح عظيم راكضتين لتخبرا تلاميذه، وفيما هما منطلقتان لتخبرا تلاميذه؛ إذا يسوع لاقاهما، وقال: سلام لكما. فتقدمتا وأمسكتا بقدميه وسجدتا له. فقال لهما يسوع: لا تخافا. اذهبا، قولا لإخوتي أن يذهبوا إلى الجليل وهناك يرونني" (متى 28/8-10).
وهكذا فحسب متى كان اللقاء بعيداً عن القبر، وكانت البشارة بقيامته من قبل الملائكة، لا المسيح نفسه، ليتجدد السؤال : أي الإنجيلين أصاب كبد الحقيقة وأيهما أخطأها؟ وهل يمكن أن يكون مصدر ذا وذاك الله؟
هل أسرت الزائرات الخبر أم أشاعته؟
ويتناقض مرقس مع لوقا في مسألة: هل أخبرت النساء أحداً بما رأين أم لا ؟ فمرقس يقول: "ولم يقلن لأحد شيئاً، لأنهن كن خائفات " ( مرقس 16/8 )، ولوقا يقول: " ورجعن من القبر، وأخبرن الأحد عشر وجميع الباقين بهذا كله " ( لوقا 24/9 ).
لمن ظهر المسيح أول مرة؟
وتختلف الأناجيل مرة أخرى في عدد مرات ظهور المسيح لتلاميذه، وفيمن لقيه المسيح في أول ظهور؟ فمرقس ويوحنا يجعلان الظهور الأول لمريم المجدلية. ( انظر: مرقس 16/9، يوحنا 20/14). ويضيف متى: مريم الأخرى. ( انظر: متى 28/9 ).
بينما يعتبر لوقا أن أول من ظهر له المسيح هما التلميذان المنطلقان لعمواس ( انظر: لوقا 24/13 ).
كم مرة ظهر المسيح؟ وأين؟
ويجعل يوحنا ظهور المسيح للتلاميذ مجتمعين ثلاث مرات. ( انظر: يوحنا 20/19، 26 ) بينما يذكر الثلاثة للمسيح ظهوراً واحداً (انظر: متى 28/16، مرقس 16/14، لوقا 24/36).
ويجزم لوقا المتتبع لكل شيء بتدقيق أن المسيح ظهر للتلاميذ مرة واحدة، وقد رُفع في نهاية هذه المقابلة، فيقول: "وفيما هم يتكلمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم، وقال لهم: سلام لكم، فجزعوا وخافوا، وظنوا أنهم نظروا روحاً .. وأخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا، ورفع يديه وباركهم، وفيما هو يباركهم انفرد عنهم، وأُصعد إلى السماء" ( لوقا 24/36 - 51).
وهذا اللقاء الأول والأخير بين المعلم وتلاميذه يرى لوقا أنه قد تم في أورشليم، فيقول: "ورجعا إلى أورشليم، ووجدا الأحد عشر مجتمعين هم والذين معهم، وهم يقولون: إن الرب قام بالحقيقة وظهر لسمعان ... وفيما هم يتكلمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم، وقال لهم: سلام لكم" ( لوقا 24/33 - 36).
بينما يقول صاحباه (متى ومرقس) بأن ذلك كان في الجليل " أما الأحد عشر تلميذاً، فانطلقوا إلى الجليل إلى الجبل، حيث أمرهم يسوع، ولما رأوه سجدوا له" ( متى 28/16)، ( وانظر مرقس 16/7 )، فهل كان لقاؤهم الأول مع المسيح في الجليل أم في أورشليم؟
هل حضر توما اللقاء مع الأول مع المسيح؟
وعند غض الطرف عن عدد ظهورات المسيح للتلاميذ فإنا نتساءل عن الحضور الذين رأوا المسيح في اللقاء الأول حيث كان التلاميذ مجتمعين في أورشليم أو الجليل، هل كانوا جميعاً موجودين أم أن أحدهم وهو توما الشكاك كان غائباً عن هذا اللقاء؟
متّى يرى أن التلاميذ الاثني عشر كانوا موجودين خلا يهوذا الخائن، فيقول: "وأما الأحد عشر تلميذاً، فانطلقوا إلى الجليل، إلى الجبل، حيث أمرهم يسوع، ولما رأوه سجدوا له، ولكن بعضهم شكّوا" (متى 28/16-17)، يفهم منه أن توما كان أحد أولئك الساجدين حينذاك، ولعله هو من عناه متى حين قال: "ولكن بعضهم شكوا".
لكن يوحنا يجزم بغياب توما عن اللقاء الأول، ويقول: "أما توما أحد الاثني عشر الذي يقال له التوأم، فلم يكن معهم حين جاء يسوع، فقال له التلاميذ الآخرون: قد رأينا الرب " (يوحنا 20/19-25)، والحديث بالطبع عن اللقاء الأول، وقد لقيه بعد ذلك بثمانية أيام، وشكّ في شخص من يراه، وأراه المسيح يديه ورجليه كما قال يوحنا. (انظر يوحنا 20/26-27).
لكن العجب كل العجب فيما أضافه بولس في اللقاء الأول، لقد أضاف ضيفاً غريباً ثقيلاً، وهو يهوذا الأسخريوطي، التلميذ الخائن الهالك، فقد قال: "قام في اليوم الثالث حسب الكتب، وإنه ظهر لصفا، ثم للاثني عشر " (كورنثوس (1) 15/4)، إنه تناقض صارخ آخر من تناقضات هذه الرواية التي تعتبر بحق أضعف أجزاء العهد الجديد.
كم بقي المسيح في الأرض قبل رفعه؟
ونشير أخيراً إلى تناقض كبير وقعت فيه الأناجيل، وهي تتحدث عن ظهور المسيح، ألا وهو مقدار المدة التي قضاها المسيح قبل رفعه.
ويفهم من متى ومرقس أن صعوده كان في يوم القيامة ( انظر: متى 28/8 - 20، مرقس 16/9 - 19، ولوقا 24/1 - 53 ).
بيد أن مؤلف أعمال الرسل - والمفترض أنه لوقا - جعل صعود المسيح للسماء بعد أربعين يوماً من القيامة. ( انظر: أعمال 1/13 ).
وبهذه التناقضات وغيرها سقطت شهادة الشهود في هذه المسألة، وصح لأي محكمة أن تعتبرهم شهود زور، وهل يُعرف شهود الزور إلا بمثل هذه التناقضات، أو أقل منها؟
أما الأب متى المسكين فأعياه أن يواجه تناقضات قصة القيامة، فبدلاً عنه رأى أن يقدم "رجاء وتوعية لكل قارئ أن لا يعثر من الاختلافات الواضحة في قصة القيامة، لأن الذي يتحدث عن القيامة إنما يتحدث عن أمور ليست تحت ضبط العقل والفكر والحواس والتمييز البصري .. فكل ما يخص القيامة لا يدخل تحت النقد أو الفحص أو التحقيق والإيضاح".([12])
فهل القارئ الكريم ممن يلتمس العذر لكتاب الأناجيل فيما عثروا به في قصة القيامة؟ أم يعتبرها دليلاً آخر على كذب الشهود وسقوط شهاداتهم المتخالفة عن الشهادة في مثل هذه القضية العظيمة؟
ثالثاً : تفرد أحد الإنجيليين في الرواية
وينفرد أحد الإنجيليين بذكر حوادث قد تكون مهمة، ومع ذلك أَغفلها الآخرون، وقد يتبادر للذهن لأول وهلة أن ذلك يرجع لنظرية تكامل الروايات التي لا تعتبر زيادات البعض في روايتهم ضرباً من التناقض والتعارض.
وهذا ليس بصحيح، إذ معرفتنا البسيطة بتدوين الإنجيل وتاريخه تُنبئنا بأن الإنجيليين اعتمد اللاحق فيهم على السابق، فإغفال اللاحق لبعض ما ذكره سلفه، إنما يرجع لتشككه في جدوى الرواية، أو صحتها، أو تناسقها مع المعتقد، وهو ما يقال أيضاً في الإضافة التي قرر المتأخر زيادتها عن السابق.
ولعل مما يوضح الصورة ويجليها نقل مقدمة لوقا الذي يقول: " رأيت أنا أيضاً إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق .. لتعرف صحة الكلام الذي عُلِّمتَ به " ( لوقا 1/3- 4 )، فهو ينقل عن السابقين له بتدقيق وإمعان في رواياتهم، وما يدعه من مروياتهم إنما تركه لعدم وثوقه بهذه الروايات.
وقد انفرد بعض الإنجيليين بذكر أحداث مهمة تثير أسئلة استفهام كبيرة، تبحث عن إجابة، ومن هذه الأمور التي انفرد بها أحد الإنجيليين:
- انفرد لوقا فذكر في وصف ليلة القبض على المسيح أموراً لم يذكرها غيره، ومنها: أنه بالغ في إظهار جزع المسيح، حتى إن الله أيده بملاك يقويه، وكأنه أوشك على الانهيار. يقول لوقا: "وظهر له من السماء ملاك يقويه، وإذ كان في جهاد، كان يصلي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض " (لوقا 22/43 - 44).
وهاتان الفقرتان - رغم وجودهما في أكثر النسخ المتداولة - فإن المراجع القديمة تحذفهما، كما نقل أحمد عبد الوهاب عن جورج كيرد مفسر إنجيل لوقا حيث يقول: " فإن هذا الحذف يمكن إرجاع سببه إلى فهم أحد الكتبة بأن صورة يسوع هنا قد اكتنفها الضعف البشري، كان يتضارب مع اعتقاده في الابن الإلهي الذي شارك أباه في قدرته القاهرة ". ([13])
ولعل هذا ما دعا الإنجيليين إلى تجاهل هذا الوصف الدقيق، بل إن يوحنا لم يذكر شيئاً عن معاناة المسيح وآلامه تلك الليلة، وذلك للسبب نفسه بالطبع.
ولنا أن نتساءل كيف عرف لوقا بنزول الملاك؟ وكيف شاهد عرقه وهو يتصبب منه على هذه الكيفية؛ كيف ذلك وجميع التلاميذ نيام كما وصفهم لوقا بعدها مباشرة بقوله: " ثم قام من الصلاة، وجاء إلى تلاميذه، فوجدهم نياماً من الحزن " ( لوقا 22/45 ) ؛ كما أن المسيح لم يكن بجوارهم، فقد كان يصلي بعيداً عنهم "انفصل عنهم نحو رمية حجر، وجثا على ركبتيه وصلى " (لوقا 22/41).
- ذكر الإنجيليون ضرب أحد التلاميذ لعبد رئيس الكهنة بالسيف، وأنه قطع أذنه، وتتكامل الروايات، فيذكر يوحنا أن اسم العبد ملخس، وأن الأذن هي اليمنى، فيما لم يحدد متى ومرقس اسم الضارب، كما لم يحددا الأذن المضروبة.
لكن أحداً منهم - سوى لوقا الغائب حينذاك - لم يذكر أن المسيح أبرأ أذن العبد وردّها، وهي ولاشك معجزة كبيرة ستترك أثراً في تلك الجموع الكافرة.. "فأجاب يسوع: دعوا إليّ هذا، ولمس أذنه وأبرأها " (لوقا 22/51)، ولم يذكر لوقا أي ردة فعل للجند والجموع تجاه هذه المعجزة الباهرة. وكأن شيئاً لم يكن.
- كما انفرد مرقس بواحدة أخرى، وهي: قصة الشاب الذي هرب من الشبان، فأمسكوا بإزاره الذي يلبسه على عري، فترك الإزار، وهرب منهم عرياناً (انظر: مرقس 14/51 -52).
- وأيضاً انفرد يوحنا بأن المسيح طلب من الجند أن يدعوا تلاميذه يهربون. ( انظر: يوحنا 18/8) مع أن أحداً لم يتعرض لتلاميذه، لكن يوحنا يريد بذلك أن يحقق نبوءة توراتية، فقد قال بعدها "ليتم القول الذي قاله: إن الذين أعطيتني لم أهلك منهم أحداً " ( يوحنا 18/9 ).
- وانفرد يوحنا عن بقية الإنجيليين، فذكر أن الجند لما همّوا بالقبض على يسوع، وقعوا على الأرض، يقول يوحنا: "فلما قال لهم: إني أنا هو رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض " ( يوحنا 18/6 )، ولم يذكر هذا الخبر - على أهميته - غيره، فما الذي أخاف الجنود حتى سقطوا ؟
إنه خوفهم من الملائكة الذين حموا المسيح، فذاك الذي سبب لهم هذا السقوط، كما في النبوءة التوراتية: " لا يلاقيك شر، ولا تدنو ضربة من خيمتك، لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك، على الأيدي يحملونك، لئلا تصطدم بحجر رجلك " ( المزمور 109/14- 16).
- وانفرد يوحنا فذكر ذهاب الجند بالمسيح إلى حنان حما رئيس الكهنة قيافا، ثم أخذه بعدها إلى قيافا الكاهن. ( انظر يوحنا 18/12 - 13 ).
- وانفرد لوقا بذكر إرسال بيلاطس المسيح إلى هيرودس حاكم الجليل (انظر لوقا 23/8)، مع أن هيردوس مات قبل ذلك بكثير، وذلك إبان طفولة المسيح، يقول متى: " فلما مات هيردوس إذا ملاك الرب قد ظهر في حلم ليوسف في مصر قائلاً: قم وخذ الصبي وأمه، واذهب إلى أرض إسرائيل، ولكن لما سمع أن ارخيلاوس يملك على اليهودية عوضاً عن هيرودس أبيه... " ( متى 2/19 - 20 ).
فلو صدق متى في خبر وفاة هيرودس زمن طفولة المسيح فإن لوقا حينذاك من الكاذبين رغم تتبعه لكل شيء بتدقيق.
والذي دعاه لإحضار هيرودس من الموت -كما يرى مفسر إنجيل لوقا جورج كيرد -: أنه أراد أن يشرك ملكاً آخر مع بيلاطس، ليحقق نبوءة المزمور الثاني، وفيه " قام ملوك الأرض، وتآمر الرؤساء معاً على الرب، وعلى مسيحه " ( المزمور 2/2). ([14])
- وانفرد متى فذكر عجائب حصلت والمسيح على الصليب في اللحظة التي فارق فيها الحياة، فيقول: "وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة، وظهروا لكثيرين " ( متى 27/51 - 53 )، فهذه الأعاجيب ينفرد بها دون سائر الإنجيليين والمؤرخين ومنهم لوقا المتتبع بالتدقيق لكل شيء.
ولو صح مثل هذا لكان من أعظم أعاجيب المسيح، ولحرص الجميع على ذكره، لذا فهو إلى الكذب أقرب، يقول نورتن المسمى " حامي الإنجيل ": " هذه الحكاية كاذبة، والغالب أن أمثال هذه الحكاية كانت رائجة في اليهود، بعدما صارت أورشليم خراباً، فلعل أحداً كتب في حاشية النسخة العبرانية لإنجيل متى، وأدخلها الكُتاب في المتن، وهذا المتن وقع في يد المترجم، فترجمها على حسبه ".
وقد نقلت هذه الأخبار عن الأساطير القديمة، يقول المفسر كيرد في تفسيره (ص 253): "كان الشائع قديماً أن الأحداث الكبيرة المفجعة يصحبها نذر سوء، وكأن الطبيعة تواسي الإنسان بسبب تعاسته ".
ويقول المفسر نينهام في تفسيره (ص 427): " لقد قيل: إن مثل تلك النذر لُوحِظَتْ عند موت بعض الأحبار الكبار، وبعض الشخصيات العظيمة في العصور القديمة والوثنية، وخاصة عند موت يوليوس قيصر ".
ويقول المفسر جون فنتون في تفسيره (ص 444) مدافعاً عن تحريف متى، مبرراً إضافاته في القصة: "لقد كان قصد متى من هذه الأحداث الخرافية أن يبين أن موت يسوع كان عملاً من صنع الله".([15])
ومما يدل على كذب كاتب إنجيل متى في هذه الزيادة، أن نتأمل أثر ظهور هذه العجائب في الأحداث التالية، فلو وقع ما ذكره متى لما تجرأ اليهود على الرجوع إلى بيلاطس، وطلب حراسة القبر، ولو وقعت هذه الأحداث الخرافية لما تجاسر قيافا أن يصف المسيح وقتئذ بالمضل، ولانتقم منهم بيلاطس، بل وعامة اليهود، ولآمن كثيرون بالمسيح، كما آمن كثيرون في أعجوبة أقل من ذلك، حين نزل روح القدس على التلاميذ، فآمن ثلاثة آلاف شخص. (انظر أعمال 2/40 - 41)، وما ذكره متى من عجائب تزامنت مع موت المسيح أعظم من ذلك.
ثم ماذا عن هؤلاء الأموات ؟ هل عادوا بأكفانهم؛ أم حفاة عراة ؟ ومع مَن تكلموا ؟ هل كان خروجهم حزناً عليه أم نصرة له ؛ أم فرحاً به؟ ثم كم عاشوا؟ وكيف ماتوا؟ ومتى؟
- وانفرد يوحنا بذكر وجوده إلى جوار المسيح، وأم المسيح معه وقت الصلب ( يوحنا 19/25 - 26)، وأمر كهذا لا يتصور أن تغفله الأناجيل لو كان حقاً، كما لا يمكن تصور أن الجند يسمحون لذوي المسيح من الاقتراب منه وهو على الصليب، وهم الذين أنكر بطرس بين أيديهم معرفة المسيح ثلاث مرات، لخوفه من بطشهم.
رابعاً : النقد الضمني للرواية الإنجيلية
وعند التأمل في الروايات الإنجيلية في جزئيات كثيرة اجتمع عليها الإنجيليون - أو بعضهم - نجد أن في الروايات خللاً وحلقات مفقودة لا يمكن تجاوزها، علاوة على ما في الروايات من تهافت في المعنى.
وفي كثير من هذه الملاحظات لا يمكن للنصارى الخروج منها، إلا بالتسليم بأن المصلوب ليس المسيح، أو بالتسليم بأن الروايات بشرية الوضع، غير محبوكة الصنعة. ومنها:
- تتحدث الأناجيل عن دور يهوذا في خيانة المسيح بعد أن صحب المسيح وكان من خاصته، بل أحد تلاميذه الاثني عشر، فكيف حصل هذا التغير المفاجىء؟
إن وقوع الانحراف بين البشر غير مستبعد، ولكن الرواية الإنجيلية تجعل المسيح - وهو الذي أرسله الله لهداية البشر -، تجعله سبباً في غواية يهوذا. فقد سأل التلاميذ معلمهم المسيح عن الخائن، فأجابهم المسيح - كما يزعم يوحنا - : " الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه، فغمس اللقمة، وأعطاها ليهوذا سمعان الإسخريوطي، فبعد اللقمة دخله الشيطان، فقال له يسوع: ما أنت تعمله، فاعمله بسرعة أكثر " ( يوحنا 13/26 – 27 )، فقد جعل النص المسيح ولقمته التي دفعها ليهوذا سبباً في ضلالة يهوذا وخيانته.
ثم كيف لم يستطع يهوذا أن يخرج الشياطين من نفسه، وهو أحد الذين قال لهم المسيح: "اشفوا مرضى، طهروا برصاً، أقيموا موتى، أخرجوا شياطين " ( متى 10/8 ).
- وعلى الرغم من أهمية شخصية يهوذا فإن أحداً من أصحاب الأناجيل - سوى متى - لم يذكر شيئاً عن موته، وقد اختار له متَّى ميتة سريعة سبقت حتى موت المسيح، وكأنه بذلك أراد أن يتخلص من الشخصية الغريبة، والتي اختفت منذ تلك الفترة. (انظر متى 27/3-7)، وقارن مع (أعمال 1/18).
وتناقض الروايتين وسكوت بقية الأناجيل يرجع لاختفاء يهوذا عن مسرح الأحداث في تلك الليلة التي قبض عليه فيها بدل المسيح.
- وهنا سؤال آخر يطرح نفسه: كيف جهل رؤساء الكهنة شخص المسيح حتى احتاجوا إلى من يدلهم عليه مقابل ثلاثين من الفضة ؛ كيف ذلك وهو الذي كان في الهيكل يعلم كل يوم. (انظر: لوقا 22/ 52 ).
- وتذكر الأناجيل أن المسيح في ليلة الصلب تضرع إلى الله يدعوه أن يصرف عنه كأس الموت، فأين كان التلاميذ في تلك اللحظات العصيبة ؟ لقد كانوا مع المسيح في البستان، لكنهم كانوا نياماً كما وصفهم لوقا بقوله:" ثم قام من الصلاة، وجاء إلى تلاميذه فوجدهم نياماً من الحزن " ( لوقا 22/45 )، لكن المعهود في البشر أنهم إذا خافوا طار النوم وعزّ.
وهو ما يؤكده علماء النفس، ومرده فرز الغدة الكظرية لهرمون الأدرينالين في مجرى الدم، فيتعقب النوم ويطارده، إذاً كيف نام هؤلاء من الخوف!؟
- ومن التنافر في رواية الصلب أيضاً ما جاء في مرقس أن المسيح جاء إلى التلاميذ فوجدهم نياماً فقال: " ناموا الآن واستريحوا. يكفى. قد أتت الساعة. هو ذا ابن الإنسان يسلم إلى أيدي الخطاة، قوموا لنذهب، هوذا الذي يسلمني قد اقترب " ( مرقس 14/41 ) فكيف يتوافق قوله: "ناموا الآن واستريحوا " مع قوله في تمام الجملة: " قوموا لنذهب "؟ وكيف يطلب الهرب وهو يعرف أنه سيؤخذ ويصلب؟ كيف يهرب وهو – كما زعموا – تجسد ليصلب!؟
- ومن التنافر في الرواية الإنجيلية أن إنجيل يوحنا يُظهر الحكم على المسيح، وكأنه حكم إلهي نزل على رئيس الكهنة قيافا، وليس حكماً صادراً من مجمع للظّلَمة. يقول يوحنا: " فقال لهم واحد منهم. وهو قيافا كان رئيساً للكهنة في تلك السنة: أنتم لستم تعرفون شيئاً، ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب، ولا نُهلك الأمة كلها، ولم يقل هذا من نفسه، بل إذ كان رئيساً للكهنة في تلك السنة تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة، وليس عن الأمة فقط، بل ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد " ( يوحنا 11/49 - 52 ).
فالنص يصف قيافا بالنبوة، وبأنه عرف بالنبوة أن المسيح يموت عن الشعب، فكيف يصح هذا؟ وهو الذي حكم ظلماً على المسيح بالموت، كيف وهو أحد الظلمة الذين قال لهم المسيح: " ولكن هذه ساعتكم وسلطان الظلمة " ( لوقا 22/53 ).
كيف يأمر نبي بقتل نبي، فلو صحت نبوته لكان حكمه ردة، أو يكون قد حكم على غير المسيح.
وفي محاولة للتبرير قال يوحنا فم الذهب: " إن روح القدس حرك لسان قيافا، لا قلبه، على أن قيافا لم يخط ضد الإيمان، بل ضد العدل والتقوى ". ([16])
وما اللسان إلا ترجمان للقلب، وإذا كان روح القدس هو الذي حرك قيافا، فلم كان قيافا خاطئاً ضد العدل والتقوى.
وقد تعارض قيافا في فهمه لعموم الفداء وخصوصه، فهو يفهم أن موت المسيح فداء لبني إسرائيل، بينما يوحنا في رسالته الأولى يقول: " هو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً" ( يوحنا (1) 2/2 ).
- وتذكر الأناجيل أن الجميع وقف ضد المسيح، وليس رؤساء الكهنة فحسب، بل حتى الجماهير كانت تنادي على بيلاطس وتقول: " اصلبه، اصلبه " وترفض إطلاقه، وتود إطلاق المجرم باراباس " كان بيلاطس يطلب أن يطلقه، ولكن اليهود كانوا يصرخون قائلين: إن أطلقت هذا فلست محباً لقيصر، كل من يجعل نفسه ملكاً يقاوم قيصر " ( يوحنا 19/12 )، ويقول مرقس: "فهيج رؤساء الكهنة الجمع لكي يطلق لهم بالحري باراباس. فصرخوا أيضاً: اصلبه... فازدادوا جداً صراخاً: اصلبه، فبيلاطس إذ كان يريد أن يعمل للجمع ما يرضيهم .." ( مرقس 15/11 - 15).
فأين الجموع التي شفاها المسيح من البرص والعمى وغيره والتي تعد بالألوف؟ أين أولئك الذين استقبلوه وهو يدخل أورشليم راكباً على الجحش والأتان معاً؟ أين أولئك " الجمع الأكثر فرشوا ثيابهم في الطريق، وآخرون قطعوا أغصاناً من الشجر، وفرشوها في الطريق، والجموع الذين تقدموا، والذين تبعوا كانوا يصرخون قائلين: أوصنّا لابن داود.. ولما دخل أورشليم ارتجت المدينة كلها قائلة: مَن هذا ؟ " ( متى 21/8 - 10 ).
أين ذهب هؤلاء ؟ بل أين ذهب أصحاب المروءة والشهامة، وهم يرون المسيح يصفع ويضرب على غير ذنب أو جريرة ؟
- ذكر مرقس قصة الرجل الذي هرب عرياناً فقال: " تبعه شاب لابساً إزاراً على عريه " (مرقس 14/52 )، ويدل هذا على أن قصة الصلب حصلت في شهور الصيف، ومما يؤيد ذلك أن الفصح عند اليهود - حيث حصلت حادثة الصلب - يكون في شهر نيسان.
لكن يوحنا يذكر ما يفيد أن القصة حصلت في شهور الشتاء، فقد وقف بطرس يوم محاكمة المصلوب، يحتمي من البرد بالنار، يقول يوحنا: " وسمعان بطرس كان واقفاً يصطلي " ( يوحنا 18/25 )، فجمع الإنجيليون الصيف والشتاء في يوم واحد.
- ثم إن بطرس - الذي يحتل في المسيحية مكاناً بارزاً، وجعلت الأناجيل بيده مفاتيح السماوات والأرض - أنكر المسيح في تلك الليلة ثلاث مرات، وأضاف إلى الإنكار حَلفاً ولعناً، لم تجرؤ أقلام الإنجيليين على بيان ذاك الذي لعنه بطرس، لكن لا يحتاج القارئ إلى كثير فطنة ليدرك أنه كان يلعن المقبوض عليه، ويبرأ منه ومن معرفته، فهل كان يلعن سيده المسيح أم المصلوب الخائن؟
وهذا الحلف واللعن سقوط لا يتفق مع خصوصية بطرس الذي كان ينبغي أن يكون مثالاً للثبات والقوة، فقد قال له المسيح: " ولكني طلبت من أجلك، لكي لا يفنى إيمانك، وأنت متى رجعت، ثبت إخوانك " ( لوقا 22/32 ).
كما أن الحلف منهي عنه عند النصارى، فكيف حلف بطرس، والمسيح قد علمهم: " لا تحلفوا البتة..، بل ليكن كلامكم: نعم نعم، لا لا، وما زاد على ذلك فهو شر " ( متى 5/34 - 37 ).
وعليه فبطرس شرير، حلف كاذباً، والتوراة تقول: ".. لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً " (الخروج 20/7 )، و " لا تحلف باسمي للكذب، فتدنس اسم إلهك، أنا الرب " ( اللاويين 19/12) وخروج بطرس عن هذه الأحكام يجعله ملعوناً " ملعون من لا يقيم كلمات هذا الناموس ليعمل بها" ( التثنية 27/26 ).
ولا يمكن أن يصدر هذا الحلف واللعن من بطرس، فلا يمكن أن يهون عليه نبيه ومعلمه إلى هذا الحد، ولو فعل ذلك لما كان مستحقاً لاسم الإيمان، فضلاً عن المعجزات والخصائص المذكورة له في الأناجيل، وعليه فإن بطرس كان صادقاً محقاً في حلفه ولعنه، إذ الملعون هو المصلوب، وهو ليس المسيح، بل غيره، وهو مستحق للإنكار واللعن.
- وتُظهر الأناجيل المسيح على الصليب غاية في الضعف والهوان، يستجديهم الماء وهو يرى شماتتهم، ثم يُسمعهم صراخه....ولا يتطابق هذا مع ما عُرف عن شخصية المسيح القوية، والتي تحدى فيها اليهود بأنهم سيطلبونه ولا يجدونه. ( انظر يوحنا 7/23 )، أو المسيح الذي دخل الهيكل فطرد الصيارفة ( انظر مرقس 11/15 )، وصام أربعين يوماً قبلُ من غير أن يشكو جوعاً أو عطشاً. ( انظر متى 4/2 ).
فلم كل هذا الجزع، وممن ؟ من المسيح الذي يدعون ألوهيته !! كيف يصدر هذا الخور منه وهو القائل لتلاميذه: " لا تضطرب قلوبكم، ولا ترهب، سمعتم أني قلت لكم: أنا أذهب ثم آتي إليكم، لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون، لأني قلت: أمضي إلى الآب " ( يوحنا 12/27 - 28 ).
- ويذكر الإنجيليون قيامه المسيح بعد الموت، وهذه أحد أكثر موضوعات الأناجيل إثارة، لما في رواياتها من تناقض وتنافر.
فلم ظهر المسيح لتلاميذه ولم يظهر لأعدائه؛ فهذا أظهر لحجته، وأدعى للإيمان به، كما نتساءل عن موقف الكهنة وقد علموا من الحراس بخروج المسيح من القبر، كيف سكتوا عن ذلك، إن الأناجيل لا تذكر أنهم حركوا ساكناً، وكأن الأمر لا يعنيهم.
وأنبه هنا إلى أن إنكار قيامة المسيح قديم، فهاهم أهل باغوس يحدثهم بولس "ولما سمعوا بالقيامة من الأموات كان البعض يستهزئون، والبعض يقولون سنسمع منك عن هذا أيضاً " ( أعمال 17/32 ).
وقد قدم بولس للمحاكمة بسبب هذا القول الغريب الذي يشيعه بين الناس " فلما وقف المشتكون حوله لم يأتوا بعلّة واحدة مما كنت أظن، لكن كان لهم عليه مسائل من جهة ديانتهم وعن واحد اسمه يسوع قد مات، وكان بولس يقول: إنه حيّ " (أعمال 25/18-19).
فلو كان أمر قيامة المسيح معلوماً مشهوراً لما رفضها المؤمنون ولا استهزأ بخبرها المعاصرون.
ومما يدل على عدم صحة هذه القصة جهل تلاميذ المسيح بها " لأنهم لم يكونوا بعدُ يعرفون الكتاب، أنه ينبغي أن يقوم من الأموات " ( يوحنا 20/9 )، وعليه فإن فكرة سرقة الجسد من القبر كان إشاعة قديمة لتبرير القيامة.
ومن الأدلة على كذب القيامة: وجود المسيح وظهوره، فوجوده دليل على أنه لم يمت، لأن التوراة تقول: " السحاب يضمحل ويزول، هكذا الذي ينزل إلى الهاوية لا يصعد " ( أيوب 7/9 )، والهاوية هي الموت، ولو كان المسيح قد مات لا يرونه بعدُ لأنه قال: " لأني ذاهب إلى أبي، ولا ترونني أيضاً " ( يوحنا 16/1 ) ويؤكد هذا قوله: "الحق الحق أقول لكم: إنكم لا ترونني حتى يأتي وقت تقولون فيه: مبارك الآتي باسم الرب" ( لوقا 13/5).
وهكذا ومن خلال هذا كله يتبين لنا أن الروايات الإنجيلية أقل بكثير من أن تصلح للاعتبار في مسألة مهمة كهذه، إذ هي عمل بشري ممتلئ بسائر أنواع الضعف البشري من خطأ وغلط واختلاق.
إبطال وقوع صلب المسيح بالدليل التاريخي
يدعي النصارى أن المسلمين بقولهم بنجاة المسيح من الصلب ينكرون حقيقة تاريخية أجمع عليها اليهود والنصارى الذين عاصروا صلب المسيح ومن بعدهم.
فكيف لنبي الإسلام وأتباعه الذين جاءوا بعد ستة قرون من الحادثة أن ينكروا صلب المسيح؟!!
قد يبدو الاعتراض النصراني وجيهاً لأول وهلة، لكن عند التأمل في شهادة الشهود تبين لنا تناقضها وتفكك رواياتهم.
ولدى الرجوع إلى التاريخ والتنقيب في رواياته وأخباره عن حقيقة حادثة الصلب، ومَن المصلوب فيها ؟ يتبين أمور مهمة:
- أن قدماء النصارى كثر منهم منكرو صلب المسيح، وقد ذكر المؤرخون النصارى أسماء فرق مسيحية كثيرة أنكرت الصلب.
وهذه الفرق هي: الباسيليديون والكورنثيون والكاربوكرايتون والساطرينوسية والماركيونية والبارديسيانية والسيرنثييون والبارسكاليونية والبولسية والماينسية، والتايتانيسيون والدوسيتية والمارسيونية والفلنطانيائية والهرمسيون.
وبعض هذه الفرق قريبة العهد بالمسيح، إذ يرجع بعضها للقرن الميلادي الأول ففي كتابه "الهرطقات مع دحضها " ذكر القديس الفونسو ماريا دي ليكوري أن من بدع القرن الأول قول فلوري: إن المسيح قوة غير هيولية، وكان يتشح ما شاء من الهيئات، ولذا لما أراد اليهود صلبه؛ أخذ صورة سمعان القروي، وأعطاه صورته، فصلب سمعان، بينما كان يسوع يسخر باليهود، ثم عاد غير منظور، وصعد إلى السماء.
ويبدو أن هذا القول استمر في القرن الثاني، حيث يقول المفسر جون فنتون شارح متى (ص 440): " إن إحدى الطوائف الغنوسطية التي عاشت في القرن الثاني قالت بأن سمعان القيرواني قد صلب بدلاً من يسوع". ([17])
وقد نقل أوريجانوس تقليداً شائعاً في عهده بأن يسوع كانت يستطيع في حياته أن يغير شكله وقتما وكيفما يشاء ، ويقول إن هذا كان السبب في ضرورة قبلة يهوذا الخائن؛ وإلا فإن المسيح كان معروفاً لدى عموم أهل أورشليم. ([18])
وقد استمر إنكار صلب المسيح، فكان من المنكرين الراهب تيودورس (560م) والأسقف يوحنا ابن حاكم قبرص (610م) وغيرهم.
ولعل أهم هذه الفرق المنكرة لصلب المسيح الباسيليديون؛ الذين نقل عنهم سيوس في " عقيدة المسلمين في بعض مسائل النصرانية " والمفسر جورج سايل القول بنجاة المسيح، وأن المصلوب هو سمعان القيرواني، وسماه بعضهم سيمون السيرناي، ولعل الاسمين لواحد.
وهذه الفرقة كانت تقول أيضاً ببشرية المسيح، يقول باسيليوس الباسليدي: " إن نفس حادثة القيامة المدعى بها بعد الصلب الموهوم هي من ضمن البراهين الدالة على عدم حصول الصلب على ذات المسيح".
ولعل هؤلاء المنكرين لصلب المسيح قديماً هم الذين عناهم جرجي زيدان حين قال: " الخياليون يقولون: إن المسيح لم يصلب، وإنما صلب رجل آخر مكانه ".([19])
ومن هذه الفرق التي قالت بصلب غير المسيح بدلاً عنه: الكورنثيون والكربوكراتيون والسيرنثيون. يقول جورج سايل: إن السيرنثيين والكربوكراتيين، وهما من أقدم فرق النصارى، قالوا : إن المسيح نفسه لم يصلب ولم يقتل، وإنما صلب واحد من تلاميذه، يشبهه شبهاً تاماً، وهناك الباسيليديون يعتقدون أن شخصاً آخر صلب بدلاً من المسيح.
وثمة فِرق نصرانية قالت بأن المسيح نجا من الصلب، وأنه رفع إلى السماء، ومنهم الروسيتية والمرسيونية والفلنطنيائية. وهذه الفرق الثلاث تعتقد ألوهية المسيح، ويرون القول بصلب المسيح وإهانته لا يلائم البنوة والإلهية. ([20])
كما تناقل علماء النصارى ومحققوهم إنكار صلب المسيح في كتبهم، وأهم من قال بذلك الحواري برنابا في إنجيله.
ويقول ارنست دي بوش الألماني في كتابه " الإسلام: أي النصرانية الحقة " ما معناه: إن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء هو من مبتكرات ومخترعات بولس، ومن شابهه من الذين لم يروا المسيح، لا في أصول النصرانية الأصلية.
ويقول ملمن في كتابه " تاريخ الديانة النصرانية " : " إن تنفيذ الحكم كان وقت الغلس، وإسدال ثوب الظلام، فيستنتج من ذلك إمكان استبدال المسيح بأحد المجرمين الذين كانوا في سجون القدس منتظرين تنفيذ حكم القتل عليهم كما اعتقد بعض الطوائف، وصدقهم القرآن ".([21])
وأخيراً نذكر بما ذكرته دائرة المعارف البريطانية في موضوع روايات الصلب حيث جعلتها أوضح مثال للتزوير في الأناجيل.
ومن المنكرين أيضاً هيام ماكبي في كتاب " الدم المقدس، وكأس المسيح المقدس " وفيه أن السيد المسيح لم يصلب، وأنه غادر فلسطين، وتزوج مريم المجدلية، وأنهما أنجبا أولاداً، وأنه قد عثر على قبره في جنوب فرنسا، وأن أولاده سيرثون أوربا، ويصبحون ملوكاً عليها.
وذكر أيضاً أن المصلوب هو الخائن يهوذا الأسخريوطي، الذي صلب بدلاً من المسيح المرفوع.([22])
وأما الطائفة التي يسميها القس الخضري بالرومانسيين (القرن التاسع عشر) فقد ذكروا أن المسيح "أنزل من على الصليب فاقد الوعي، وعالجه أطباء أسينيون إلى أن استرد قوته وظهر لتلاميذه الذين اعتقدوا أنه مات".([23])
وإذا كان هؤلاء جميعاً من النصارى، يتبين أن لا إجماع عند النصارى على صلب المسيح، فتبطل دعواهم بذلك.
ويذكر معرِّب " الإنجيل والصليب " ما يقلل أهمية إجماع النصارى لو صح فيقول : إن العالم المسيحي العظيم الذي أطبق على ترك السبت خطأ 1900 سنة، هو الذي أطبق على الصلب.
وأما إجماع اليهود فهو أيضاً لا يصح القول به، إذ أن المؤرخ اليهودي يوسيفوس المعاصر للمسيح والذي كتب تاريخه سنة 71م أمام طيطوس لم يذكر شيئاً عن قتل المسيح وصلبه.
أما تلك السطور القليلة التي تحدثت عن قتل المسيح وصلبه في كتابه، فهي إلحاقات نصرانية كما جزم بذلك المحققون وقالوا: بأنها ترجع للقرن السادس عشر، وأنها لم تكن في النسخ القديمة. ([24])
ولو صح أنها أصلية فإن الخلاف بيننا وبين النصارى ومن وافقهم قائم في تحقيق شخصية المصلوب، وليس في وقوع حادثة الصلب. ] وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه [ (النساء: 157)، وهذا حال اليهود والنصارى فيه.
ولكن قد يقال: إن المؤرخ الوثني تاسيتوس كتب عام 117م كتاباً تحدث فيه عن المسيح المصلوب.
وعند دراسة ما كتبه تاسيتوس، يتبين ضعف الاحتجاج بكلامه، إذ هو ينقل إشاعات ترددت هنا وهناك، ويشبه كلامه أقوال النصارى في محمد e في القرون الوسطى.
ومما يدل على ضعف مصادره وتخبطه، ما ذكرته دائرة المعارف البريطانية، من أنه ذكراً أموراً مضحكة، فقد جعل حادثة الصلب حادثة أممية، مع أنها لا تعدو أن تكون شأناً محلياً خاصاً باليهود، ولا علاقة لروما بذلك.
ومن الجهل الفاضح عند هذا المؤرخ، أنه كان يتحدث عن اليهود - ومقصده: النصارى. فذكر أن كلوديوس طردهم من رومية، لأنهم كانوا يحدثون شغباً وقلاقل يحرضهم عليها " السامي " أو " الحسن " ويريد بذلك المسيح.
ومن الأمور المضحكة التي ذكرها تاسيتوس قوله عن اليهود والنصارى بأن لهم إلهاً، رأسه رأس حمار، وهذا هو مدى علمه بالقوم وخبرته.
كما قد شكك المؤرخون بصحة نسبة العبارة إلى تاسيتوس، ومنهم العلامة أندريسن وصاحبا كتابي " ملخص تاريخ الدين " و " شهود تاريخ يسوع ".
وقد تحدث أندريسن أن العبارة التي يحتج بها النصارى على صلب المسيح في كلامه مغايِرة لما في النسخ القديمة التي تحدثت عن CHRESTIANOS بمعنى الطيبين، فأبدلها النصارى، وحوروها إلى: CHRISTIANOS بمعنى المسيحيين.
وقد كانت الكلمة الأولى ( الطيبين ) تطلق على عُبّاد إله المصريين "أوزيريس"، وقد هاجر بعضهم من مصر، وعاشوا في روما، وقد مقتهم أهلها، وسموهم: اليهود، لأنهم لم يميزوا بينهم وبين اليهود المهاجرين من الإسكندرية، فلما حصل حريق روما؛ ألصقوه بهم بسبب الكراهية، واضطهدوهم في عهد نيرون.
وقد ظن بعض النصارى أن تاسيتوس يريد مسيحهم الذي صلبوه، فحرف العبارة، وهو يظن أنه يصححها. ويرى العلامة أندريسن أن هذا التفسير هو الصحيح.
وإلا كان هذا المؤرخ لا يعرف الفرق بين اليهود والنصارى، ويجهل أن ليس ثمة علاقة بين المسيح وروما. ([25])
وهكذا فإن التاريخ أيضاً ناطق بالحقيقة، مُثبت لما ذكره القرآن عن نجاة المسيح وصلب غيره.
إبطال صلب المسيح بنبوءات التوراة
تحتل النبوءات في الفكر المسيحي مكانة سامقة، جعلت بعض النصارى يشترطون لصحة النبوة أن يسبقها نبوءة.
وحادثة صلب المسيح - كما يعتبرها النصارى - أحد أهم أحداث المعمورة، فكان لابد وأن يتحدث عنها الأنبياء في أسفارهم، وأن يذكرها المسيح لتلاميذه.
فهل أخبرت الأنبياء بصلب المسيح وقيامته ؟ وهل أخبر المسيح تلاميذه بذلك؟
والإجابة النصرانية عن هذه التساؤلات : نعم، وأن ذلك في مواضع كثيرة من الأناجيل والرسائل والأسفار التوراتية.
ولعل من نافلة القول أن نذكر بأن النصارى يعتبرون أسفار التوراة جزءً مقدساً كتابهم المقدس، كيف لا والأناجيل ما فتئت تحيل إلى هذه الأسفار، تستمد منها تنبؤاتها المستقبلية، التي تحققت في شخص المسيح في حياته أو حين صلبه .
وللأسفار التوراتية دور عظيم في قصة صلب المسيح، فقد أكثر الإنجيليون في سردهم للقصة من الإحالة إلى أسفار التوراة؛ التي يرونها تتنبأ بالمسيح المصلوب، وكانت نصف هذه الإحالات إلى المزامير المنسوبة لداود وغيره.
وقد أكد عيسى عليه السلام لتلاميذه ضرورة أن تتحقق فيه النبوءات التوراتية بقوله: "لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير" ( لوقا 26/44 )، وقد قال لهم: " فتشوا الكتب ... وهي التي تشهد لي " ( يوحنا 5/39 ).
يقول جوش مكدويل: "هناك تسع وعشرون نبوءة في العهد القديم تتحدث عن خيانة المسيح (أي خيانة يهوذا للمسيح) ومحاكمته وموته ودفنه ... وتحققت كلها حرفياً في أربع وعشرين ساعة من الزمان".([26])
وبعض هذه النبوءات استشهد بها الإنجيليون في سياق روايتهم لقصة صلب المسيح، ومجموع هذه النبوءات أربع عشرة نبوءة، ذكر متى منها ستاً، ومرقس أربعاً، ولوقا اثنتين، بينما ذكر منها يوحنا سبع نبوءات.
ونخلص من هذا إلى أهمية النبوءات التوراتية المتعلقة بصلب المسيح.
ويبالغ النصارى في التركيز على أهمية وكثرة النبوءات التوراتية المتحدثة والمشيرة إلى المسيح ، فيقول القمّص سرجيوس في كتابه " هل تنبأت التوراة عن المسيح " : " فالمسيح ساطع في كل الكتاب المقدس في إشراق دائم، وليس كالشمس التي تغيب عن نصف الأرض ليلاً، إذ ليس في التوراة أو كتب الأنبياء جزء تغرب عنه شمس المسيح، بل يشع اسمه، وشخصه، وصفاته، وأعماله، وظروفه، وأحواله في التوراة، وكتب الأنبياء، وفي ثنايا سطورها نجد المسيح في كل جملة، وفي كل إصحاح، وفي كل سفر من أسفارها. وما حروفها وكلماتها إلا خطوط أو ظلال لصورة المسيح المجيدة ... فنحن المسيحيين لا نهتم أين نفتح التوراة وكتب الأنبياء لنجد الكلام عن المسيح..." ([27])، ورغم ما في الكلام من مبالغة، فإننا نستشف منه أهمية النصوص التوارتية في الدلالة على المسيح.
ولسفر المزامير وموضوع الصلب شأن خاص، يصفه سرجيوس فيقول: " أما سفر المزامير فكان الهالة، التي أحاطت بكوكب يسوع، فتكلم حتى عن إحساساته العميقة، وآلامه المبرحة، ناهيك عن صفاته وألقابه، أكثر من أي نبي آخر، ويمكننا القول، أن سفر المزامير هو سفر "مسِيّا" الخاص، بدليل أن الاقتباسات التي اقتبسها كتبة العهد القديم من سفر المزامير هذا بلغت نصف الاقتباسات المأخوذة من العهد القديم كله ".
ويؤكد عبد الفادي القاهراني أهمية المزامير في كتابه " رب المجد " بقوله: " لم يوجد كتاب مليء بالإشارات والرموز والنبوءات عن المسيح أكثر من كتاب المزامير هذا، وعليه فأهميته في نظر اللاهوتيين تفوق الوصف ".([28])
وقد ارتضى العلامة منصور حسين في كتابه الفريد "دعوة الحق بين المسيحية والإسلام" محاكمة النصارى في هذه المسألة إلى أسفار التوراة، ذلك بأنه ليس من المقبول أن يتصور أحد أن اليهود يغيرون كتبهم لتتمشى مع معتقدات النصارى، لذا فقد قبل هذه الكتب لتكون معياراً للكشف عن الحقيقة في هذه المسألة.
وقبل أن نشرع في تلخيص دراسة الأستاذ منصور، فإنه يحسن التنبيه إلى نقاط الاختلاف والاتفاق بين المسلمين والنصارى في مسألة الصلب.
النصارى يقولون بصلب المسيح، بينما يقول المسلمون بأنه لم يصلب، وأنه قد شُبه غيرُ المسيح به، ولا ينفون وقوع صلب لغيره.
كما لا يمانع المسلمون أن يكون الله تعالى قد أنبأ المسيح بتعرضه للبلاء والامتحان وأن أحد تلاميذه سيسلمه لأعدائه "ولما كان المساء اتكأ مع الاثني عشر، وفيما هم يأكلون قال: الحق أقول لكم: إن واحداً منكم يسلمني، فحزنوا جداً، وابتدأ كل واحد منهم يقول له: هل أنا هو يا رب؟ فأجاب وقال: الذي يغمس يده معي في الصحفة هو يسلمني، إن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه، ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان،كان خيراً لذلك الرجل لو لم يولد" (متى 26/20-24).
وقد تألم المسيح لذلك الخبر وارتاع، فقام يطلب من الله ويدعوه أن يصرف هذه المؤامرة عنه، دعا الله بلجاجة وحرارة أن ينجيه منها، زقضى الليل كله على هذه الحال، ويصور لنا متى حال المسيح وشدة ضراعته لله ، فيقول: "جاء معهم يسوع إلى ضيعة يقال لها جثسيماني، فقال للتلاميذ: اجلسوا ههنا حتى أمضي وأصلّي هناك، ثم أخذ معه بطرس وابني زبدي، وابتدأ يحزن ويكتئب، فقال لهم: نفسي حزينة جداً حتى الموت، امكثوا ههنا واسهروا معي، ثم تقدم قليلاً وخرّ على وجهه، وكان يصلّي قائلاً: يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت، ثم جاء إلى التلاميذ فوجدهم نياماً.. فمضى أيضاً ثانية، وصلّى قائلاً: يا أبتاه إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس، إلا إن أشربها، فلتكن مشيئتك، ثم جاء فوجدهم أيضاً نياماً، إذ كانت أعينهم ثقيلة، فتركهم، ومضى أيضاً، وصلّى ثالثة قائلاً ذلك الكلام بعينه" ( متى 26/36 -40).
ويصف لوقا المشهد، فيقول: "وإذ كان في جهاد؛ كان يصلي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض " ( لوقا 22/44 ).
فالمسلمون مصدقون بلجوء المسيح إلى الله ودعائه إياه في تلك الليلة العصيبة، إذ هو حال الصالحين جميعاً حين يتعرضون للأهوال والشدائد، فلا يجدون ناصراً يلجؤون إليه إلا الله العظيم.
وقد أجاب الله دعاء عبده المسيح فصرف عنه كأس الموت، كما قال بولس: "الذي في أيام جسده، إذ قدّم بصراخ شديد ودموع طلباتٍ وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت، وسُمع له من أجل تقواه" (عبرانيين 5/7)، فقد سمع الله لعبده المسيح وأجابه في سؤله "وأنا علمتُ أنك في كل حين تسمع لي" ( يوحنا 11/40 ).
وهكذا فالمسلمون لا ينفون جملة ما ترويه الأناجيل من وقوع تلك الأحداث التي صاحبت الصلب أو سبقته، كإخبار المسيح تلاميذه عن المؤامرة التي سيتعرض لها، ثم لجوؤه في البستان إلى الله القادر طالباً من الله أن ينجيه من الموت، وكذا فالمسلمون يصدقون بأن الجموع حضرت للقبض عليه، وأن ثمة من أُخذ من ساحة البستان، وأن المأخوذ حوكم، وصلب، ثم دفن.
فالخلاف إنما هو في حقيقة المأخوذ والمصلوب، فيرى المسلمون أنه يهوذا الخائن، وأن لحظة الخلاص هي تلك التي أراد الجند أن يلقوا القبض فيها على المسيح، فسقطوا على الأرض، سقطت الجموع الغفيرة، وتدافع الجند، ووقعت المشاعل من أيديهم، ثم نهضوا ليجدوا دليلهم يهوذا الأسخريوطي وحيداً في الساحة، فأخذوه، وقد ألقى الله عليه شبه المسيح، لينال جزاء خيانته لسيده.
وهذه اللحظة العظيمة الخالدة سجلها يوحنا حين قال: " فأخذ يهوذا الجند وخداماً من عند رؤساء الكهنة والفريسيين، وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح، فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه، وقال لهم: من تطلبون؟ أجابوه: يسوع الناصري، قال لهم يسوع: أنا هو، وكان يهوذا مسلمه أيضاً واقفاً معهم، فلما قال لهم: إني أنا هو، رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض" (يوحنا 18/4-6 )، فكانت لحظة سقوطهم هي لحظة الخلاص الخالدة التي تاهت عنها عيون الملايين من النصارى ممن ظن أن المأخوذ بعدها هو المسيح .
وأما المسيح فقد نزلت ملائكة الله وصعدت به إلى السماء، " وظهر له ملاك من السماء يقويه" ( لوقا 22/44 ) لينجو من المؤامرة بحماية الله العظيم، وأعطي بذلك حياة طويلة تمتد إلى قبيل قيام الساعة حيث ينزل إلى الأرض عليه السلام لعيش عليها ويموت في سلام.. ] وٱلسّلام عليّ يوم ولدتّ ويوم أموت ويوم أبعث حيّاً [ (مريم: 32).
فماذا تراه تقول المزامير والأسفار عن هذا الحدث العظيم الذي لا يصح أن تغفله الكتب؟ هل تراها تحدثت عنه؟ ولو أجبنا بالإثبات، فماذا تُراها تقول؟ هل تحدثت عن المسيح المصلوب كما يؤمن النصارى، أم تحدثت عن نجاة المسيح وصلب الخائن الأسخريوطي، كما يعتقد المسلمون؟
دعونا نتجرد ونبحث عن الجواب الصحيح في سفر المزامير الذي فاقت أهميته عند اللاهوتيين جميع الأسفار.
ولسوف نستعرض في هذه العجالة ثلاث عشر مزموراً فقط، من نبوءات المزامير، نختصرها مع بعض التصرف من الدراسة الرائعة للأستاذ منصور حسين في كتابه الماتع "دعوة الحق بين المسيحية والإسلام"، والتي شملت ستة وثلاثين مزموراً.
والمزامير التي اختارها للدراسة، يجمعها أنها مما يعتبره النصارى نبوءات تحدثت عن المسيح المصلوب.
أولاً: المزمور الثاني (نبوءة عن المؤامرة الفاشلة لصلب المسيح)
وفيه: " لماذا ارتجت الأمم، وتفكر الشعوب في الباطل، قام ملوك الأرض، وتآمر الرؤساء معاً على الرب، وعلى مسيحه، قائلين: لنقطع قيودها ولنطرح عنا رُبُطهما.
الساكن في السماوات يضحك، الرب يستهزئ بهم، حينئذ يتكلم عليهم بغضبه، ويرجفهم بغيظه " ( المزمور 2/1 - 5 ).
والمزمور الثاني يراه العلماء النصارى نبوءة بالمسيح الموعود. يقول د. هاني رزق في كتابه "يسوع المسيح ناسوته وألوهيته " عن هذا المزمور: " وقد تحققت هذه النبوءة في أحداث العهد الجديد، إن هذه النبوءة تشير إلى تآمر وقيام ملوك ورؤساء الشعب على يسوع المسيح لقتله وقطعه من الشعب، وهذا ما تحقق في أحداث العهد الجديد في فترتين، في زمان وجود يسوع المسيح له المجد في العالم " ويقصد تآمر هيرودس في طفولة المسيح، ثم تأمر رؤساء الكهنة لصلب المسيح.
ووافقه "فخري عطية" في كتابه "دراسات في سفر المزامير" و"حبيب سعيد" في "من وحي القيثارة " وويفل كوبر في كتابه "مسيا عمله الفدائي" وياسين منصور في كتابه "الصليب في جميع الأديان "، فيرى هؤلاء جميعاً أن المزمور نبوءة بالمسيح المصلوب. ([29])
وقولهم بأن النص نبوءة بالمسيح تصديق لما ورد في سفر أعمال الرسل: " فلما سمعوا رفعوا بنفس واحدة صوتاً إلى الله وقالوا: أيها السيد، أنت هو الإله صانع السماء والأرض والبحر وكل ما فيها. القائل بفم داود فتاك: لماذا ارتجّت الأمم وتفكر الشعوب بالباطل. قامت ملوك الأرض، واجتمع الرؤساء معا على الرب وعلى مسيحه. لأنه بالحقيقة اجتمع على فتاك القدوس الذي مسحته هيرودس وبيلاطس البنطي مع أمم وشعوب إسرائيل، ليفعلوا كل ما سبقت فعيّنت يدك ومشورتك أن يكون" (أعمال 4/24-31).
ولا نرى مانعاً في موافقتهم بأن المزمور نبوءة عن المسيح، فالمزمور يتحدث عن مؤامرات اليهود عليه، وهذا لا خلاف عليه بين المسلمين والنصارى، وإنما الخلاف: هل نجحوا أم لا؟ فبماذا يجيب النص؟
يجيب المزمور بأن الله ضحك منهم واستهزأ بهم، وأنه حينئذ، أي في تلك اللحظة أرجف المتآمرين بغيظه وغضبه. فهل يكون ذلك دليل نجاحهم في صلب المسيح، أم أن الرب يضحك لنجاة عبده المسيح من بين أيديهم، ووقوعهم في شر أعمالهم؟
ويفسر المزمور السابع والثلاثون سبب ضحك الرب واستهزائه، فيقول: "الشرير يتفكر ضد الصدّيق، ويحرق عليه أسنانه، الرب يضحك به، لأنه رأى أن يومه آت، الأشرار قد سلّوا السيف، ومدوا قوسهم لرمي المسكين والفقير، لقتل المستقيمِ طريقُهم، سيفهم يدخل في قلبهم، وقسيّهم تنكسر" (المزمور 37/12-15)، لقد ضحك الرب لفشل المؤامرة، وعودها على أصحابها، فقد وقعوا في الحفرة التي حفروها للمسيح الذي نجاه الله بقوته.
ثانياً: المزمور السابع (نبوءة عن عود المؤامرة على أصحابها)
وفيه نقرأ: " يا رب، إلهي عليك توكلت، خلصني من كل الذين يطردونني، ونجني لئلا يفترس كأسد نفسي، هاشماً إياها، ولا منقذ.
يا رب، إلهي، إن كنتُ قد فعلت هذا، إن وجد ظلم في يدي، إن كافأت مسالمي شراً، وسلبت مضايقي بلا سبب، فليطارد عدو نفسي، وليدركها، وليدس إلى الأرض حياتي، وليحط إلى التراب مجدي، سلاه.
قم يا رب بغضبك، ارتفع على سخط مضايقي، وانتبه لي. بالحق أوحيت، ومجمع القبائل يحيط بك، فعد فوقها إلى العلا، الرب يدين الشعوب، اقض لي يا رب كحقي، ومثل كمالي الذي فيّ، لينته شر الأشرار، وثبت الصديق، فإن فاحص القلوب والكلى: الله البار، ترسي عند الله مخلص مستقيمي القلوب.
الله قاض عادل، وإله يسخط كل يوم، إن لم يرجع يحدد سيفه: مد قوسه وهيأها، وسدد نحوه آلة الموت، يجعل سهامه ملتهبة.
هو ذا يمخض بالإثم، حمل تعباً، وولد كذباً، كرى جُبّاً حفره، فسقط في الهوة التي صنع، يرجع تعبه على رأسه، وعلى هامته يهبط ظلمه. أحمد الرب حسب بره، وأرنم لاسم الرب العلي" (المزمور 7/1-17 ).
ولكن هل المزمور نبوءة تتعلق بالمسيح، والجواب نعم، فعلى قول الترنم في هذا المزمور: " اقض لي يا رب كحقي، ومثل كمالي الذي فيّ" يعلق القديس جيروم فيقول: "لا يقدر داود أن يذكر هذه الكلمات عن نفسه، إنما هي بالحقيقة تخص المخلص الكامل الذي لم يخطئ قط".([30]) فهو يرى أن هذا المزمور نبوءة عن المسيح.
ويؤكد ذلك فخري عطية في كتاب " دراسات في المزامير " فيقول عن هذا المزمور: " واضح أنه من مزامير البقية، إذ يشير إلى زمن ضد المسيح، وفيه نسمع صوت البقية، ومرة أخرى نجد روح المسيح ينطق على فم داود بالأقوال التي تعبر عن مشاعر تلك البقية المتألمة، في أيام الضيق العظيمة".([31])
والربط واضح وبيّن بين دعاء المزمور المستقبلي " يا رب، إلهي، عليك توكلت، خلصني من كل الذين يطردونني ونجني .... " وبين دعاء المسيح ليلة أن جاءوا للقبض عليه "إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس".
ثم يطلب الداعي من الله عوناً؛ أن يرفعه إلى فوق، في لحظة ضيقه " فعد فوقها إلى العلا "، ويشير إلى حصول ذلك في لحظة الإحاطة به " ومجمع القبائل يحيط بك، فعد فوقها إلى العلا ".
ثم يذكر المزمور بأن الله " قاض عادل " فهل من العدل أن يصلب المسيح أم يهوذا ؟
ثم يدعو الداعي في المزمور الله أن يثبت الصديق، وأن ينتهي شر الأشرار، ويؤكد لجوءه إلى الله، مخلص القلوب المستقيمة.
ثم يتحدث المزمور عن خيانة يهوذا. وقد جاء " مد قوسه وهيأها، وسدد نحوه آلة الموت " (القُبلة الآثمة) " ويجعل سهامه ملتهبة ".
ولكن حصل أمر عظيم، لقد انقلب السحر على الساحر، " هو ذا يمخض بالإثم، حمل تعباً، وولد كذباً، كَرَى جُبّاً، حفره فسقط في الهوة التي صنع، يرجع تعبه على رأسه، وعلى هامته يهبط ظلمه " لقد ذاق يهوذا ما كان حفره لسيده المسيح، ونجا المسيح من مجمع القبائل إلى العلا.
لقد تحقق في يهوذا سنة الله وعادته في عقوبة الخائنين " من يحفر حفرة يسقط فيها، ومن يدحرج حجراً يرجع عليه" (الأمثال 26/27).
وفي موضع آخر: "الشرير تأخذه آثامه، وبحبال خطيته يمسك، إنه يموت من عدم الأدب، وبفرط حمقه يتهور" (الأمثال 5/22-23).
وفي سفر الجامعة: "من يحفر هوة يقع فيها، ومن ينقض جداراً تلدغه حية" (الجامعة 10/8).
وهذا ما أسفر عنه المزمور التاسع بوضوح حين قال: " لأنك أقمت حقي ودعواي، جلست على الكرسي قاضياً عادلاً، انتهرت الأمم، أهلكت الشرير.. تورطت الأمم في الحفرة التي عملوها، في الشبكة التي أخفوها انتشبت أرجلهم، معروف هو الرب قضاءً أمضى: الشرير يعلق بعمل يده " ( المزمور 9/4 - 16)، فهل تراه علق يهوذا بشرِّ يديه أم نجا من قانون الله وقضائه، وأفلت من الشبكة التي نصبها للمسيح؟
ثم ينتهي المزمور بحمد الله على هذه العاقبة " أحمد الرب حسب بره، وأرنم لاسم الرب العلي " وهكذا نرى في هذا المزمور صورة واضحة لما حصل في ذلك اليوم، حيث نجى الله عز وجل نبيه، وأهلك يهوذا.
ولا مخرج للنصارى إزاء هذا النص إلا إنكاره، أو التسليم له، والقول بأن المسيح له ظلم، وله إثم، وأنه ذاق ما كان يستحقه، وأن الله عادل؛ بقضائه قتل المسيح، وأن ذلك أعدل وأفضل من القول بنجاته؛ وصلبِ يهوذا الظالم الآثم، جزاءً لفعله وخيانته، وإلا فعليهم الرجوع إلى معتقد المسلمين؛ بأن النص نبوءة عن يهوذا الخائن.
ثالثاً: المزمور العشرون (نبوءة باستجابة الله وتخليصه للمسيح وسقوط أعدائه)
وفيه: " ليستجب لك الرب في يوم الضيق. ليرفعك اسم إله يعقوب، ليرسل لك عوناً من قدسه، ومن صهيون ليعضدك، ليذكر كل تقدماتك، وليستسمن محرقاتك، سلاه، ليعطك حسب قلبك، ويتمم كل رأيك، نترنم بخلاصك، وباسم إلهنا نرفع رايتنا، ليكمل الرب كل سؤلك.
الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه، يستجيبه من سماء قدسه، بجبروت خلاص يمينه، هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل، أما نحن: فاسم الرب إلهنا نذكره.
هم جثوا وسقطوا، أما نحن فقمنا وانتصبنا، يارب خلص، ليستجيب لنا الملك في يوم دعائنا" (المزمور 20/1 - 9).
يقول هاني رزق في كتابه " يسوع المسيح في ناسوته ولاهوته " : " تنبأ داود النبي (1056 ق.م)، و(حبقوق النبي 726 ق. م)، بأن الرب هو المسيح المخلص، نبوءة داود النبي، مزمور 20/6 " الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه.... " .
وفي كتاب " دراسات في سفر المزامير" يؤكد فخري عطية هذا، ويقول عن الفقرة السادسة من هذا المزمور: " في هذا العدد تعبير يشير في الكتب النبوية إلى ربنا يسوع المسيح نفسه، تعبير يستخدمه الشعب الأرضي عن المخلص العتيد ". ([32])
وتقول كنيسة السيدة العذراء بالفجالة في تفسيرها لسفر المزامير: "ويرى عدد من آباء اليهود أن هذا المزمور خاص بالمسيا، وهكذا رأى عدد من آباء الكنيسة (أثناسيوس وأغسطينيوس) أنه نبوءة عن آلام المسيح وانتصاره".([33])
وتخلص الكنيسة إلى القول: "خلاص المسيح كان بقيامته" أي من الموت، وهذا بالضبط ما قاله البابا أثناسيوس الذي يرى أن هذا المزمور نبوءة عن المسيح المصلوب. ([34])
وهكذا فالسفر حديث ونبوءة عن المسيح، فهل تراه يتحدث عن المسيح المصلوب أو المسيح الناجي؟
القراءة المتأنية لهذا المزمور ترينا أن داود صاحب المزمور يدعو الله طالباً أن يستجيب لوليه الضعيف، داود يدعو الله أن ينجي المسيح، وأن يرفعه للسماء لما صنع من بر وخير (تقدمات ومحرقات)، ويبتهل صاحب المزمور طالباً النجاة له "في يوم الضيق"، "في يوم دعائنا"، وليس من يوم مرّ على المسيح أضيق من ذلك اليوم الذي دعا فيه طويلاً، طالباً من الله أن يصرف عنه هذا الكأس " وإذ كان في جهاد؛ كان يصلي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض " ( لوقا 22/44 ).
ويطلب داود من الله إجابة دعاء المسكين وإعطاءه ملتمس شفتيه وسؤله وكل مراده " ليعطك حسب قلبك، ويتمم كل رأيك... ليكمل الرب كل سؤلك".
وهذا العون والنجاء يطلبه له داود لما سبق وتقدم به المسيح من أعمال صالحة " ليذكر كل تقدماتك، وليستسمن محرقاتك".
وينص المزمور على اسم المسيح، وأن الله خلصه من الموت في فقرة ظاهرة لا تخفى حتى على أعمى، فقد عرف داود نتيجة دعائه " الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه، يستجيبه من سماء قدسه بجبروت خلاص "، فالمزمور يذكر المسيح بالاسم، ويتحدث عن خلاصه، أن الله رفعه، وأنه أرسل له ملائكة يحفظونه " ليرفعك اسم إله يعقوب، ليرسل لك عوناً من قدسه".
ويبتهج المزمور لهذه النهاية السعيدة "نترنم بخلاصك، وباسم إلهنا نرفع رايتنا".
ويتحدث المزمور أيضاً عن تلك اللحظة العظيمة، لحظة الخلاص التي نجا فيها المسيح " هم جثوا وسقطوا، أما نحن فقمنا وانتصبنا "، فهو يتحدث عن لحظة وقوع الجند كما في يوحنا " فلما قال لهم: إني أنا هو ؛ رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض " ( يوحنا 18/6 ).
وهذه اللحظة العظيمة، لحظة الخلاص يسجلها أيضاً المزمور التاسع، فهي إحدى آيات الله وأعاجيبه في خلقه، "أحمد الرب بكل قلبي، أحدث بجميع عجائبك، افرح وابتهج بك، أرنم لاسمك أيها العلي، عند رجوع أعدائي إلى خلف يسقطون، ويهلكون من قدام وجهك، لأنك أقمت حقي ودعواي، جلست على الكرسي قاضياً عادلاً، انتهرت الأمم، أهلكت الشرير، محوت اسمهم إلى الدهر والأبد" (المزمور 9/1-5).
فالقاضي العادل أهلك الشرير، عندما رجع المبطلون إلى خلف وسقطوا، لتتحقق الأعجوبة وينجو العبد البار، فيحمد الله لأنه " رافعي من أبواب الموت" (المزمور 9/13)، لقد انتشله من فم الموت، ونجاه.
كما سجل المزمور السابع والعشرون هذه اللحظة العظيمة فقال: "عندما اقترب إليّ الأشرار ليأكلوا لحمي، مضايقي وأعدائي عثروا وسقطوا ... لأنه يخبئني في مظلته في يوم الشر، يسترني بستر خيمته" (المزمور 27/2-5).
فدلالة هذا المزمور على نجاة المسيح أوضح من الشمس في رابعة النهار.
رابعاً: المزمور الحادي والعشرون (نبوءة بفشل المؤامرة وإجابة طلب المسيح)
وفيه: " يا رب، بقوتك يفرح الملك، وبخلاصك، كيف لا يبتهج جداً؟
شهوة قلبه أعطيته، وملتمس شفتيه لم تمنعه، سلاه. لأنك تتقدمه ببركات خير، وضعت على رأسه تاجاً من إبريز حياة، سألكَ فأعطيته، طول الأيام إلى الدهر والأبد عظيم، مجده بخلاصك، جلالاً وبهاء تضع عليه، لأنك جعلته بركات إلى الأبد، تفرحه ابتهاجاً أمامك، لأن الملك يتوكل على الرب، وبنعمة العلي لا يتزعزع.
تصيب يدك جميع أعدائك، يمينك تصيب كل مبغضيك، تجعلهم مثل تنور نار في زمان حضورك، الرب بسخطه يبتلعهم، وتأكلهم النار، تبيد ثمرهم من الأرض، وذريتهم من بين بني آدم، لأنهم نصبوا عليك شراً، تفكروا بمكيدة لم يستطيعوها، لأنك تجعلهم يقولون: تفوق السهم على أوتارك تلقاء وجوههم، ارتفع يا رب بقوتك، نُرنم وتُنغّم بجبروتك " ( المزمور 21/1 - 3 ).
يقول فخري عطية في كتابه "دراسات في سفر المزامير": " إن المسيح هو المقصود بهذا المزمور" ووافقه كتاب " تأملات في المزامير " لآباء الكنيسة الصادر عن كنيسة مار جرجس باسبورتنج. ([35])
ويعتبر القمص ملطي هذا المزمور من المزامير التي تنبأت عن المسيح، وينقل عن العلماء قولهم: "هذا المزمور مسياني، يعلم الترجوم والتلمود بأن الملك المذكور في هذا المزمور هو المسيّا"، ويعلق القمص ملطي بالقول: "بعض أجزاء من هذا المزمور (مثل عدد 4) لا يمكن أن تنطبق حرفياً إلا على المسيا".([36])
وقولهم صحيح، فقد حكى المزمور العشرون عن دعاء المسيح وعن استجابة الله له، ويحكي هذا المزمور ( الواحد والعشرون ) عن فرحه بهذه الاستجابة " يا رب بقوتك يفرح الملِك، وبخلاصك كيف لا يبتهج جداً... نُرنم وننغّم بجبروتك ".
وينص المزمور أن الله أعطاه ما سأله وتمناه " شهوة قلبه أعطيته، وملتمس شفتيه لم تمنعه .. سألك فأعطيته "، وقد كان المسيح يطلب من الله بشفتيه النجاة من المؤامرة " إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس " ( متى 26/39 )، لقد كان يخاف الموت، ويطلب من الله أن يصرفه عنه، وقد استجاب الله له كما في رسالة العبرانيين "الذي في أيام جسده، إذ قدّم بصراخ شديد ودموع طلباتٍ وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت، وسُمع له من أجل تقواه" (عبرانيين 5/7) ([37])، لقد كان المسيح متيقناً من استجابة الله له، فالله لا يرده أبداً "وقال: أيها الآب أشكرك، لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي" ( يوحنا 11/40) فقد سمع الله له وأجاب دعاءه.
ويذكر المزمور أن الله أعطاه حياة جديدة طويلة إلى قبيل قيام الساعة " حياةً سألَكَ فأعطيتَه، طول الأيام، إلى الدهر، والأبد"، كما وضع عليه إكليل حياة، وهو غير إكليل الشوك الذي وضع على المصلوب، يقول المزمور: "وضعت على رأسه تاجاً من إبريز حياة".
ويحكي المزمور عن أعداء المسيح الذين تآمروا عليه وفكروا في " مكيدة لم يستطيعوها " فهم لم يلحقوا الأذى به، فقد فشلت المؤامرة، لأنه رُفع " ارتفع يا رب بقوتك ".
وأما هؤلاء الأعداء: فترجع مكيدتهم عليهم " تصيب يدك جميع أعدائك، يمينك تصيب كل مبغضيك .. الرب بسخطه يبتلعهم، وتأكلهم النار، تبيد ثمرهم من الأرض، وذريتهم من بين بني آدم .. تفوق السهام على أوتارك تلقاء وجوههم "، فهل يقول أحد بعد ذا كله بأن المصلوب هو المسيح.
خامساً: المزمور الثاني والعشرون (نبوءة بصلب الدودة العار، لا المسيح العظيم)
وفيه: " إلهي إلهي لماذا تركتني بعيداً عن خلاصي؟ عن كلام زفيري؟ إلهي في النهار أدعو فلا تستجيب، في الليل أدعو فلا هدوّ لي، وأنتَ القدوس الجالس بين تسبيحات إسرائيل، عليك اتكل آباؤنا، اتكلوا فنجيتهم، إليك صرخوا فنجوا، عليك اتكلوا فلم يَخزَوْا.
أما أنا فدودة لا إنسان، عارُُ عند البشر، ومحتقرُ الشعب، كل الذين يرونني يستهزئون بي، يفغرون الشفاه، ويُنغضون الرأس قائلين: اتكل على الرب فلينجه.
لينقذه، لأنه سُرّ به، لأنك أنت جذبتني من البطن، جعلتني مطمئناً على ثديي أمي، عليك ألقيت من الرحم، من بطن أمي، أنت إلهي، لا تتباعد عني لأن الضيق قريب، لأنه لا معين، أحاطت بي ثيران كثيرة، أقوياء باشان اكتنفتني، فغروا علىّ أفواههم، كأسد مفترس مزمجر، كالماء انسكبتُ، انفصلتْ كل عظامي، صار قلبي كالشمع، قد ذاب في وسط أمعائي، يبستْ مثل شَقفَة قوتي، ولصق لساني بحنكي، وإلى تراب الموت تضعني، لأنه قد أحاطت بي كلاب، جماعة من الأشرار اكتنفتني، ثقبوا يدي ورجلي، أُحصى كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرسون فّي، يقسمون ثيابي بينهم، وعلى لباسي يقترعون" (المزمور 22/1-18).
ويُجمع النصارى على أن هذا المزمور بنوءة عن المسيح، فقد اقتبس منه كُتّاب الأناجيل في سياق روايات الصلب، يقول متى: " ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها، لكي يتم ما قيل بالنبي: اقتسموا ثيابي بينهم، وعلى لباسي ألقوا قرعة " ( متى 27/35 ) ([38]) ، ومثله في ( يوحنا 19/24 ).
والاقتباس من هذا المزمور في قوله: " يقسمون ثيابي بينهم، وعلى لباسي يقترعون ".
كما أن الرواية التي في المزمور توافق رواية الصلب في صراخ المصلوب: " إلهي إلهي لماذا تركتني " ( متى 27/46 )، ( مرقس 15/34 ).
ويوافق نص المزمور ما جاء في الأناجيل في بيان حال المصلوب " كان المجتازون يجدفون عليه، وهم يهزون رؤوسهم قائلين: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، خلص نفسك، إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب، قد اتكل على الله فلينقذه الآن إن أراده " ( متى 27/39 - 43 ). فهذا يشبه ما جاء في هذا المزمور " محتقر الشعب، كل الذين يرونني يستهزئون بي .. وينغضون الرأس قائلين: اتكل على الرب، فلينجه".
كما يوافق النص الأناجيلَ كرّة أخرى في قوله: " جماعة من الأشرار اكتنفتني، ثقبوا يدي ورجلي، أحصي على عظامي "، فهي عبارة تدل على أخذ المصلوب يوم سُمرت يداه ورجلاه على الصليب.
لهذا كله كان إجماع النصارى على أن هذا المزمور نبوءة عن حادثة الصلب، خاصة أن داود لم يمت مصلوباً، فهو إذن يتحدث عن غيره.
والحق أن المزمور نبوءة عن المصلوب، لكنه ليس عيسى u، بل هو الخائن يهوذا الأسخريوطي، فنراه وهو جزع، يائس، يصرخ: " إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟"، بينما المسيح عليه السلام يخبرنا أن الله يستجيب له دوماً "وأنا علمتُ أنك في كل حين تسمع لي" (يوحنا 11/40 )، ويؤكده كاتب رسالة العبرانيين بقوله: "الذي في أيام جسده، إذ قدّم بصراخ شديد ودموع طلباتٍ وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت، وسُمع له من أجل تقواه" (عبرانيين 5/7).
المزمور نبوءة عن المصلوب اليائس الذي يدعو فلا يستجاب له "إلهي، في النهار أدعو فلا تستجيب، في الليل أدعو فلا هُدوّ لي .. عليَك اتكل آباؤنا فنجيتَهم، عليك صرخوا فنجوا، عليك اتكلوا فلم يخزوا. أما أنا فدودة لا إنسان ... ".
لقد وصف المزمور المصلوب بأنه " دودة لا إنسان، عارُُ عند البشر، محتقَرُ الشعب " فمَن هو هذا اليائس الموصوف بأنه دودة، وأنه عار عند البشر، وأنه محتقر، وأنه لا يستجاب له؟
إنه يهوذا، حيث جعلتْه خستهُ وخيانتهُ كالدودة الحقيرة ، وأصبح عاراً على البشر، كلَّ البشر، المسلمين واليهود والنصارى، بل وحتى البوذيين وغيرهم، لأنه خائن، والخيانة خسة وعار عند كل أحد، يحتقره الشعب، ولا يستجيب الله دعاءه.
والعجب لمن يصر على أن النبوءة عن المسيح، إذ كيف يوصف المسيح بالدودة والعار، وهو مجد وفخر للبشر؛ بل العار هو يهوذا.
ونلحظ أن النص يصف المصلوب بالدودة لمكانته عند الله، ويتضح هذا لمن تأمل المقابلة التي يجريها النص بين الآباء المقبولين عند الله، الذين يدعون الله فيستجيب لهم، وفي مقابل هؤلاء يقول المصلوب: "أما أنا فدودة لا إنسان ... "، فهو دودة محتقرة عند الله الذي لا يستجيب دعاءه، ولا يقبله كما قبِل آباءه من قبل.
كما لا يفوتنا التنبيه على أن النص وصف المصلوب بالعار، ليس فقط عند جلاديه وأعدائه، بل عند البشر جميعاً، في كل أجيالهم، وجميع مِللهم، ولا يمكن أن يكون المسيح كذلك، بل تفخر البشرية أن فيها مثل هذا الرجل العظيم الذي اصطفاه الله برسالته ووحيه.
كما نلحظ أن كلمة "عار" تلحق بالشخص نفسه، لا الصلب الواقع عليه، فهو العار، وهو الدودة، وحاشا للمسيح العظيم أن يكون دودة أو عاراً، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
لقد مجد الله المسيح فلم يكن عاراً، بل كان فخراً وعزاً، وإن تاهت عنه عيون البعض، فرأوا مجده عاراً، ونجاته خزياً، لقد غفلوا عن النبوءة القائلة: "استجب لي يا إله برّي، في الضيق رحبت لي، تراءف عليّ واسمع صلاتي، يا بني البشر، حتى متى يكون مجدي عاراً؟ حتى متى تحبون الباطل، وتبتغون الكذب؟ سلاه، فاعلموا أن الرب قد ميّز تقيّه، الرب يسمع عندما أدعوه" (المزمور 4/1-3)، فخلاصه عليه السلام هو المجد الذي لم يؤمن به النصارى، واعتبروه عليه السلام لعنة وعاراً، لكنه كذب وباطل، فقد سمع الله دعاء تقيه ومسيحه.
كما لا يقبل بحال أن يوصف المسيح بأنه دودة، والعجب من أولئك الذين يدعون ألوهيته كيف يستسيغون تسميته بدودة، بل الدودة هو الخائن الحقير، يهوذا.
نعم، فالعجب كل العجب من تفسير كنيسة العذراء بالفجالة لهذه الفقرة، حيث تقول: "نرى المرنم يقول في ثقة أن الآباء حين اتكلوا على الله خلصهم، أما هو فدودة حقيرة، وحالته ميئوس منها، وأن الله قد تركه، وهنا فالمرنم يتكلم بلسان المسيح الذي صار مهاناً ومحتقر الشعب".
وأما وصف المصلوب بأنه " محتقر الشعب" فهو وصف ينطبق على المصلوب، وكلمة "الشعب" تشير إلى اليهود وأولئك الذين حضروا الصلب، وكانوا يحتقرون المصلوب.
سادساً: المزمور التاسع والستون (نبوءة عن يهوذا المصلوب ، صاحب الحماقات والذنوب)
وهذا المزمور نبوءة أخرى تتناول حادثة الصلب، وهو نبوءة متحدثة عن حادثة الصلب، فقد اقتبس منه كُتّاب الأناجيل، ورأوا فيه نبوءة عن المصلوب، تحققت – حسب رأيهم – في المسيح حين صلب، يقول يوحنا: " بعد هذا رأى يسوع أن كل شيء قد كمل، فلكي يتم الكتاب قال: أنا عطشان، وكان إناء موضوعاً مملوءاً خلاً، فملأوا إسفنجة من الخل، ووضعوها على زوفا، وقدموها إلى فمه، فلما أخذ يسوع الخل قال: قد أكمل" (يوحنا 19/28-30)، أي كملت النبوءات والكتب، ومقصده ما جاء في الفقرة الحادية والعشرين من هذا المزمور، وفيها: "ويجعلون في طعامي علقماً، وفي عطشي يسقونني خَلاًّ ".
وأيضاً استشهد فيه بطرس في خطبته عن يهوذا، فقال: "لأنه مكتوب في سفر المزامير: لتصر داره خراباً، ولا يكن فيها ساكن، وليأخذ وظيفته آخر " (أعمال 1/20).
فقول بطرس عن يهوذا: "لتصر داره خراباً، ولا يكن فيها ساكن " اقتبسه بطرس من الفقرة الخامسة والعشرين في هذا المزمور: "لتصر دارهم خراباً، وفي خيامهم لا يكن ساكن" (المزمور 69/25).
يقول جامع تفسير أعمال الرسل من كتابات الآباء: "الروح القدس بفم داود قد تنبأ عن يهوذا في المزمورين 69 و 109".([39])
فالمزمور نبوءة عن المصلوب بشهادة يوحنا، وهو في نفس الوقت نبوءة عن يهوذا الخائن بشهادة بطرس والمفسرين، أليس في هذا ما يستحق وقفة عند المؤمنين بصدق شهادة العهد القديم؟ من هو صاحب الحماقات والذنوب الذي سقي الخل في عطشه؟ من تراه يكون: المسيح البار أم يهوذا الخائن؟
السفر التوراتي وحده كفيل بالإجابة عن السؤال، وفيه يهتف المصلوب ويصرخ بيأس يرجو رحمة الله الذي لم يستجب له، فيقول: "خلصني يا الله، لأن المياه قد دخلت إلى نفسي، غرقت في حمأة عميقة وليس مقر، دخلت إلى أعماق المياه، والسيل غمرني، تعبت من صراخي، يبس حلقي،كلّت عيناي من انتظار إلهي، أكثر من شعر رأسي الذين يبغضونني بلا سبب، اعتزّ مستهلكيّ أعدائي ظلماً، حينئذ رددت الذي لم أخطفه ....".
ويذكرنا المزمور بصراخ المصلوب اليائس "إلهي إلهي لماذا تركتني"، وقد يبس حلقه، وكلّت عيناه، وما من مجيب.
ويعجب المصلوب لحال أولئك الذين أبغضوه وعلقوه بلا سبب، فقد جاء ليدلهم على المسيح، فإذا به يؤخذ بدلاً عنه، من غير أن يصنع سبباً واحداً يستحق بغضهم له وصلبهم إياه.
لكنه يعلم أن سبب ما حاق به هو حماقته وذنوبه والعار، عار الخيانة الذي غطاه، فيقول: " يا الله، أنت عرفت حماقتي، وذنوبي عنك لم تخف، غطى الخجل وجهي، صرت أجنبياً عند إخوتي، وغريباً عند بني أمي ... أنت عرفت عاري وخزيي وخجلي .. قدامك جميع مضايقي، العار قد كسر قلبي فمرضت، انتظرت رقة فلم تكن، ومعزين فلم أجد، ويجعلون في طعامي علقماً، وفي عطشي يسقونني خَلاًّ" ( المزمور 69/5 - 21 )، فمن هو صاحب الحماقة والذنوب والعار والخزي والخجل، من هو ذاك الذي كسر العار قلبه، إنه ذاك الذي سقوه الخل وهو على الصليب، هل يعقل أن نقول : إنه المسيح؟ لا وألف لا، إنه يهوذا الخائن.
لكن المصلوب البائس لا ييأس، فيواصل الصراخ والاستجداء طالباً من الله الخلاص، مستعيناً فقط برحمة الله التي تسع كل شيء، ولكن بلا فائدة "لأن غيرة بيتك أكلتني، وتعييرات معيّريك وقعت عليّ، وأبكيت بصوم نفسي، فصار ذلك عاراً عليّ، جعلت لباسي مسحاً، وصرت لهم مثلاً، يتكلم فيّ، الجالسون في الباب وأغاني شرّابي المسكر.
أما أنا فلك صلاتي يا رب في وقت رضا، يا الله بكثرة رحمتك استجب لي بحق خلاصك، نجني من الطين، فلا أغرق نجني من مبغضيّ، ومن أعماق المياه، لا يغمرني سيل المياه، ولا يبتلعني العمق، ولا تطبق الهاوية عليّ فاها، استجب لي يا رب، لأن رحمتك صالحة، ككثرة مراحمك التفت إليّ، ولا تحجب وجهك عن عبدك، لأن لي ضيقاً، استجب لي سريعاً، اقترب إلى نفسي، فكها، بسبب أعدائي افدني" (المزمور 69/ 9-18).
وتأتيه نتيجة دعائه وخيانته، إذ يقول السفر: "لتصر مائدتهم قدامَهم فخاً، وللآمنين شركاً، لتظلم عيونهم عن البصر، وقلقل متونهم دائماً، صبّ عليهم سخطك، وليدركهم حمو غضبك، لتصر دارهم خراباً، وفي خيامهم لا يكن ساكن، لأن الذي ضربته أنت هم طردوه، وبوجع الذين جرحتهم يتحدثون، اجعل إثماً على إثمهم، ولا يدخلوا في برِّك، ليُمحَوا من سفر الأحياء، ومع الصديقين لا يكتبوا" (المزمور 69/22-28).
فمن تراه يكون هذا الهالك الذي صارت مائدته فخاً وشركاً للآمنين، لكن عميت عيونهم عن البصر، فلم تبصر الصديق، وهو ينجو، لقد باء الخائن بالإثم، وأصبحت داره خراباً، ومحي اسمه من سفر الأحياء، فمات ولم يستجب له، كما حذف من قائمة الصديقين، فكتب مع الأشرار الهالكين، فمن تراه يكون؟ إنه يستحيل أن يكون السيد المسيح.
ثم يعود المزمور ليحدثنا عن المسيح الذي نجاه الله، فيقول عن نفسه: " أما أنا فمسكين وكئيب، خلاصك يا الله فليرفعني، أُسبح اسم الله بتسبيح، وأعظمه بحمد، فيستطاب عند الرب أكثر من ثور بقر ذي قرون وأظلاف، يرى ذلك الودعاء، فيفرحون، وتحيا قلوبكم يا طالبي الله، لأن الرب سامع للمساكين، ولا يحتقر أسراه" (المزمور 69/ 29-33)، لقد سمع الله دعاءه، وخلاص الله رفعه وإنجاؤه، ففرح بنجاته المؤمنون، فالرب يسمع دعاء المساكين، لذا فهو يستحق المزيد من الحمد والتسبيح.
وقد يشكل على القارئ الكريم قوله: " أما أنا فلك صلاتي يا رب في وقت رضا، يا الله بكثرة رحمتك استجب لي بحق خلاصك .. استجب لي يا رب، لأن رحمتك صالحة، ككثرة مراحمك التفت إليّ"، فيرى - خطأً - أن هذا السائل المستغيث هو المسيح، وهذا فهم خاطئ، إذ السائل هنا يستغيث مستشفعاً بما سبق من صلوات له زمن صحبته للمسيح، ويشفعها بطلب الرحمات من الله الرحيم كثير الرحمات، وهو الحبل الوحيد الذي يتشبث به الغريق ، ولو كان خائناً فاجراً.
أما المسيح عليه الصلاة والسلام، فكان في دعائه المستجاب يستشفع بكماله وصلاحه وعبادته لله، ومنه قوله: "اقض لي يا رب كحقي، ومثِّل كمالي الذي فيّ" (المزمور 7/8).
ومثله في المزمور الواحد والأربعين " أما أنا فبكمالي دعمتني، وأقمتني قدامك إلى الأبد، مبارك الرب إله إسرائيل، من الأزل وإلى الأبد، آمين فآمين" (المزمور 41/ 12).
وقد أوضحته المزامير في مواضع، منها قوله: "أذللت بالصوم نفسي، وصلاتي إلى حضني ترجع" (المزمور 35/13)، وفي المزمور الواحد والتسعين "أرفعه لأنه عرف اسمي، يدعوني فأستجيب له، معه أنا في الضيق، أنقذه وأمجده " (المزمور 91/14).
وكذا في المزمور العشرين اعتمد المسيح واتكل على صالح عمله وبره لله " ليستجب لك الرب في يوم الضيق. ليرفعك اسم إله يعقوب، ليرسل لك عوناً من قدسه، ومن صهيون ليعضدك، ليذكر كل تقدماتك، وليستسمن محرقاتك" (المزمور 20/3).
سابعاً: المزمور الخامس والثلاثون (نبوءة بعَودِ المؤامرة على أصحابها)
وهذا المزمور شاهد آخر يتحدث عن المسيح، فقد اقتبس منه يوحنا في إنجيله، حين قال: "وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي، لكن لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم: إنهم أبغضوني بلا سبب" (يوحنا 15/24-25)، وهذا الاقتباس من الفقرة السابعة من المزمور ، وفيها: " لأنهم بلا سبب أخفوا لي هوة شبكتهم "، فهو متحدث عن المسيح باتفاق النصارى، وبشهادة يوحنا. ([40])
فهل كان المزمور نبوءة عن المسيح المصلوب، أم كان بشارة بنجاته عليه الصلاة والسلام؟
يقول المزمور متحدثاً عن دعاء مؤمن محتاج إلى رعاية ربه وحمايته له من أعدائه، فيقول: "خاصِمْ يا رب مخاصِمي، قاتِلْ مقاتلي، أمسك مجناً وترساً، وانهض إلى معونتي، وأشرِع رمحاً، وصُد تلقاء مطارديّ، قل لنفسي: خلاصكِ أنا" (المزمور 35/1-3).
ويطلب ذلكم الداعي المؤمن من ربه أن يقع عدوه في الشبكة التي نصبها، ويطلب من الله أن يؤيده بالملائكة، فيقول: " ليخز وليخجل الذين يطلبون نفسي، ليرتد إلى الوراء، ويخجل المتفكرون بإساءتي، ليكونوا مثل العصافة قدام الريح، وملاك الرب داحرُهم، ليكن طريقهم ظلاماً وزلقاً، وملاكُ الرب طاردهم، لأنهم بلا سبب أخفوا لي هوة شبكتهم، بلا سبب حفروا لنفسي، لتأته التهلكة وهو لا يعلم، ولتنشب به الشبكة التي أخفاها، وفي التهلكة نفسها ليقع " (المزمور 35/4 -8 )، لقد طلب الداعي المسكين من الله طُلبة في شأن عدوه، طلب منه أن يقتله بشبكته التي نصبها، أي في ذات المؤامرة التي سعى فيها، فهل استجاب الله لوليه أم خيبه؟
السفر يجيب بوضوح أن الله استجاب له ، ويبتهج بخلاص المسيح ونجاته " أما نفسي فتفرح بالرب، وتبتهج بخلاصه، جميع عظامي تقول: يا رب، من مثلك المنقذ المسكين ممن هو أقوى منه؟ والفقير والبائس من سالبه؟ شهود زور يقومون، وعما لم أعلم يسألونني، يجازونني عن الخير شراً، ثكلاً لنفسي، أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مسحاً، أذللت بالصوم نفسي، وصلاتي إلى حضني ترجع" (المزمور 35/9-13).
ويعود المزمور للحديث عن أعدائه الذين عادوا بالخيبة، فيقول: " لا يشمت بي الذين هم أعدائي باطلاً، ولا يتغامز بالعين الذين يبغضونني بلا سبب، لأنهم لا يتكلمون بالسلام، وعلى الهادئين في الأرض يفتكرون بكلام مكر، فغروا عليّ أفواههم، قالوا: هه هه، قد رأت أعيننا، قد رأيتَ يا ربُّ، لا تسكت يا سيد، لا تبتعد عني، استيقظ، وانتبه إلى حكمي يا إلهي وسيدي، إلى دعواي، اقض لي حسب عدلك يا رب.
إلهي فلا يشمتوا بي، لا يقولوا في قلوبهم: هه شهوتنا، لا يقولوا: قد ابتلعناه، ليخز وليخجل معاً الفرحون بمصيبتي، ليلبس الخزيَ والخجلَ المتعظمون عليّ، ليهتف ويفرح المبتغون حقي، وليقولوا دائماً: ليتعظم الرب المسرور بسلامة عبده، ولساني يلهج بعدلِك، اليوم كله بحمدك" (المزمور 35/19-28)، لقد كان دعاء حاراً من العبد المؤمن ، وهو يطلب من الله العادل أن يخزي أعداءه الذين أبغضوه بلا سبب.
وقد استجاب الله له " أما نفسي فتفرح بالرب، وتبتهج بخلاصه، جميع عظامي تقول: يا رب، من مثلك المنقذ المسكينَ ممن هو أقوى منه؟ والفقيرَ والبائس من سالبه؟ ... أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مسحاً، أذللت بالصوم نفسي، وصلاتي إلى حضني ترجع" (المزمور 35/9-13)، لقد شفع له عند ربه صلاته وصيامه ولباسه للمسوح عبادة لله وتذللاً.
ثامناً: المزمور الأربعون (نبوءة باستجابة الله دعاء المسيح وفشل للمؤامرة)
المزمور الأربعون شاهد آخر بنجاة المسيح وهلاك غيره من المتآمرين عليه، وقد اقتبس الكاتب المجهول للرسالة إلى العبرانيين من هذا المزمور، ليدلل لنا على أنه نبوءة عن المسيح فقال: " لذلك عند دخوله إلى العالم يقول: ذبيحة وقرباناً لم ترد، ولكن هيأت لي جسداً، بمحرقات وذبائح للخطية لم تسرّ، ثم قلت: ها أنذا أجيء في درج الكتاب مكتوب عني: لأفعل مشيئتك يا الله" (عبرانيين 10/5-7).
وهو اقتباس من الفقرتين السادسة والسابعة من هذا المزمور ، ففيهما يقول كاتب المزمور: "بذبيحة وتقدمة لم تُسر، أذنيّ فتحت، محرقة وذبيحة خطية لم تطلب، حينئذ قلت: ها أنذا جئت، بدرج الكتاب مكتوب عني، أن أفعل مشيئتك يا إلهي" (المزمور 40/6-7).
ويؤكده اختيار محرري قاموس الكتاب المقدس لهذا المزمور ضمن المزامير المسيحية ، وكذلك قول القس جيمس أنِس بأن هذا المزمور أحد المزامير "التي موضوعها آلام المسيح".([41])
فماذا يقول المزمور وقد ثبت أنه يتحدث عن المسيح؟
يبدأ المزمور بالبشارة باستجابة الله للمسيح وإنجائه له من المؤامرة، لأنه توكل على الله، فيقول: "انتظاراً انتظرتُ الرب، فمال إليّ، وسمع صراخي، وأصعدني من جُبِّ الهلاك، من طين الحمأة، وأقام على صخرة رجليّ، ثبّت خطواتي، وجعل في فمي ترنيمة جديدة تسبيحة لإلهنا، كثيرون يرون ويخافون ويتوكلون على الرب، طوبى للرجل الذي جعل الرب مُتكله، ولم يلتفت إلى الغطاريس والمنحرفين إلى الكذب" (المزمور 40/1-4).
ثم يثني المزمور على الله الذي زادت نعمه وآلاؤه ، وفي مقابلها بذل الداعي الأمانة والإخلاص لله والتوبة بين يديه " كثيراً ما جعلتَ أنت أيها الرب إلهي عجائبَك وأفكارك من جهتنا، لا تقوّم لديك، لأخبرن وأتكلمن بها، زادت عن أن تعد ... بشرت ببر في جماعة عظيمة، هوذا شفتاي لم أمنعهما، أنت يا رب علمت، لم اكتم عدلك في وسط قلبي، تكلمت بأمانتك وخلاصك، لم أُخفِ رحمتك وحقك عن الجماعة العظيمة" (المزمور 40/5-10).
ثم يعود المسيح للتضرع بين يدي الله طالباً أن ينجيه من المؤامرة التي تحيط به، كما يطلب أن تحيق المؤامرة بالمتآمرين عليه، وأن يعودوا بالخزي والخجل حين يرتدون إلى الوراء "أما أنت يا رب، فلا تمنع رأفتك عني، تنصرني رحمتك وحقك دائماً، لأن شروراً لا تحصى قد اكتنفتني، حاقت بي آثامي، ولا أستطيع أن أُبصر، كثُرت أكثر من شعر رأسي ([42])، وقلبي قد تركني، ارتض يا رب بأن تنجيني، يا رب إلى معونتي أسرع، ليخز وليخجل معاً الذين يطلبون نفسي لإهلاكها، ليرتد إلى الوراء، وليخز المسرورون بأذيتي، ليستوحش من أجل خزيهم، القائلون لي: هه هه، ليبتهج ويفرح بك جميع طالبيك، ليقل أبداً محبو خلاصك: يتعظم الرب، أما أنا فمسكين وبائس، الرب يهتم بي، عوني ومنقذي أنت، يا إلهي لا تبطئ" (المزمور 40/11-17).
وقد كان كما طلب المسيح، فعادوا بالخزي والخجل، حين ارتدوا إلى الوراء، تلك اللحظة العظيمة التي سجلها يوحنا في إنجيله حين قال: " فلما قال لهم: إني أنا هو، رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض " (يوحنا 18/6 ).
لقد طلب من الله أن ينقذه " أنا فمسكين وبائس، الرب يهتم بي، عوني ومنقذي أنت، يا إلهي لا تبطئ .. ارتض يا رب بأن تنجيني، يا رب إلى معونتي أسرع ".
فلم تبطئ عنه معية الله " فمال إليّ، وسمع صراخي، وأصعدني من جُبِّ الهلاك، من طين الحمأة، وأقام على صخرة رجليّ، ثبّت خطواتي".
كما سمع الله دعاءه بحق أعدائه، فعادوا بالخزي والخجل " ليخز وليخجل معاً الذين يطلبون نفسي لإهلاكها، ليرتد إلى الوراء، وليخز المسرورون بأذيتي".
تاسعاً : المزمور الواحد والأربعون (نبوءة بنجاة المسيح من مؤامرة تلميذه في يوم الضيق)
المزمور الواحد والأربعون هو أيضاً أحد الأسفار التي تحدثت عن نجاة المسيح وخيانة يهوذا له، وقد اقتبس منه يوحنا في ثنايا حديثه عن يهوذا فقال متنبئاً بخيانته: "إن علمتم هذا فطوباكم إن عملتموه، لست أقول عن جميعكم، أنا أعلم الذين اخترتهم، لكن ليتم الكتاب، الذي يأكل معي الخبز رفع عليّ عقبه" (يوحنا 13/17-18).
فقد اقتبس يوحنا من المزمور الواحد والأربعين الفقرة التاسعة وفيها: "رجل سلامتي الذي وثقت به آكل خبزي رفع عليّ عقبه"، فالمزمور نبوءة عن المسيح بدليل قول المسيح: "لكن ليتم الكتاب".([43])
ودعونا نتأمل المزمور من أوله، حيث يتنبأ المزمور بنجاة المسيح في يوم ضيقه، فإن الرب حفظه ولم يسلمه لمرام أعدائه، فيقول: "طوبى للذي ينظر إلى المسكين، في يوم الشر ينجيه الرب، الرب يحفظه ويحييه، يغتبط في الأرض، ولا يسلمه إلى مرام أعدائه، الرب يعضده وهو على فراش الضعف" (المزمور 41/1-3).
ثم يتحدث المزمور عن أعداء المسيح، وعن الخائن الذي وثق به، فيقول: "أعدائي يتقاولون عليّ بشر، متى يموت ويبيد اسمه، وإن دخل ليراني يتكلم بالكذب، قلبه يجمع لنفسه إثماً، يخرج في الخارج يتكلم، كل مبغضيّ يتناجون معاً عليّ، عليّ تفكروا بأذيتي، يقولون: أمر رديء قد انسكب عليه، حيث اضطجع لا يعود يقوم، أيضاً رجل سلامتي الذي وثقت به، آكل خبزي، رفع عليّ عقبه" (المزمور 41/5-9)، لقد كان تلميذه يهوذا، رجل سلامته أحد المتآمرين عليه.
لكن كمال المسيح وحسن طاعته لله نجياه من كيد عدوه، وأبطل مؤامرة يهوذا، فيقول المزمور: " أما أنت يا رب فارحمني، وأقمني فأجازيهم، بهذا علمت أنك سررت بي، إنه لم يهتف عليّ عدوّي، أما أنا فبكمالي دعمتني، وأقمتني قدامك إلى الأبد، مبارك الرب إله إسرائيل، من الأزل وإلى الأبد، آمين فآمين" (المزمور 41/ 10-13)، لقد سُر به ربه، ولم يهتف عليه عدوه، بل بكماله وصلاحه كتبت له النجاة.
عاشراً : المزمور الرابع والثلاثون (نبوءة بسلامة عظام المسيح ونجاته من المؤامرة التي تميت الشرير)
وهذا المزمور أيضاً متحدث عن المسيح عليه الصلاة والسلام، وقد أحال عليه كتاب الأناجيل، واعتبروه نبوءة عن المسيح، ففي الفقرة العشرين منه يقول: " يحفظ جميع عظامه، واحدٌ منها لا ينكسر"، وهي العبارة التي اقتبسها يوحنا، واعتبرها نبوءة عن المسيح، فقال: "لأن هذا كان ليتم الكتاب القائل: عظم منه لا يكسر" (يوحنا 19/36).
فبماذا تنبأ المزمور، هل كان يتحدث عن المسيح المصلوب الذي لم يستجب الله دعاءه، أم عن المسيح الناجي الذي لا يكسر منه عظم، فيما تحيق المؤامرة بأعدائه الأشرار، يقول المزمور متحدثاً عن دعاء المسيح الطويل في البستان، وعن استجابة الله له، وعن المدد الذي أمده من الملائكة: "طلبت إلى الرب فاستجاب لي، ومن كل مخاوفي أنقذني، نظروا إليه واستناروا، ووجوههم لم تخجل، هذا المسكين صرخ، والرب استمعه، ومن كل ضيقاته خلصه، ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم، ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب، طوبى للرجل المتوكل عليه، اتقوا الرب يا قديسيه، لأنه ليس عوز لمتقيه، الأشبال احتاجت وجاعت، وأما طالبو الرب فلا يعوزهم شيء من الخير" (المزمور 34/1-10).
ويمضي السفر مؤكداً استجابة الله للمسيح، وسلامة جسده، وينتقل للحديث عن أعدائه الذين يصب عليهم غضبه، فيقول: "عينا الرب نحو الصديقين، وأذناه إلى صراخهم، وجه الرب ضد عاملي الشر، ليقطع من الأرض ذكرهم، أولئك صرخوا، والرب سمع، ومن كل شدائدهم أنقذهم، قريب هو الرب من المنكسري القلوب ويخلص المنسحقي الروح، كثيرة هي بلايا الصدّيق، ومن جميعها ينجيه الرب، يحفظ جميع عظامه، واحد منها لا ينكسر، الشر يميت الشرير، ومبغضو الصدّيق يعاقبون، الرب فادي نفوس عبيده، وكل من اتكل عليه لا يعاقب" (المزمور 34/15-22)، فلقد مات الشرير بشره، فيما سلمت جميع عظام المسيح من أن تكسر، وهو ما لم يتحقق في المصلوب الذي كسرت المسامير - ولا ريب - بعض عظام يديه ورجليه " ثقبوا يدي ورجلي " (المزمور 22/16)، فالمسيح الناجي هو فقط من حقق هذه النبوءة ، وهو الذي لم يكسر منه عظم واحد.
لقد أنقذ الله المسيح من كل الشدائد، لأنه اتكل عليه "عينا الرب نحو الصديقين، وأذناه إلى صراخهم، أولئك صرخوا، والرب سمع، ومن كل شدائدهم أنقذهم، قريب هو الرب من المنكسري القلوب ويخلص المنسحقي الروح، كثيرة هي بلايا الصدّيق، ومن جميعها ينجيه الرب، يحفظ جميع عظامه، واحد منها لا ينكسر .. وكل من اتكل عليه لا يعاقب" (المزمور 34/15-22).
وعاقب الله مبغضي المسيح، وقطع من الأرض ذكرهم، وأماتهم بشرِّهم الذي صنعوه " وجه الرب ضد عاملي الشر، ليقطع من الأرض ذكرهم .. الشر يميت الشرير، ومبغضو الصدّيق يعاقبون" (المزمور 34/16-21).
حادي عشر : المزمور الواحد والتسعون (نبوءة عن إنجاء الملائكة للمسيح)
ويتقدم الشيطان إلى المسيح يختبره ويذكره بنبوءة المزامير عنه، "وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل، لأنه مكتوب: إنه يوصي ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك، لكي لا تصدم بحجر رجلك، قال له يسوع: مكتوب أيضاً: لا تجرب الرب إلهك" (متى 4/6-7)، فالمسيح هو الذي يوصي فيه اللهُ ملائكتَه، فيحملونه، ولا يمسه سوء، حتى الحجر لا يصيبه بسوء، لأن الملائكة حملته.
وهذه النبوءة التي أقرها المسيح ووافق على استحقاقه لها، اقتبسها الشيطان من المزمور الواحد والتسعين، من الفقرة الحادية عشرة، حيث جاء فيها: " لأنه يوصي ملائكته بك، ليحفظوك في كل طرقك، على الأيدي يحملونك، لئلا تصدم بحجر رجلك "، فهي نبوءة عن المسيح، فمتى تحققت هذه النبوءة؟
المزمور يتحدث عن المسيح المتكِل على الله والذي ينجيه من مؤامرة الصياد، ويستجيب له، ويرفعه للسماء، من غير أن يمسه شر أو أذى، وقبل أن يتمكن أعداؤه منه تحمله الملائكة، ويعطى حياة طويلة، بدلاً من الضيق، يقول المزمور: " إلهي فاتكل عليه، لأنه ينجيك من فخ الصياد، ومن الوباء الخطر، بخوافيه يظللُك، وتحت أجنحته تحتمي، ترس ومجن حقه، لا تخشى من خوف الليل، ولا من سهم يطير...
لأنك قلت: يا رب، أنت ملجأي، جعلتَ العليَّ مسكنك، لا يلاقيك شر، ولا تدنو ضربة من خيمتك، لأنه يوصي ملائكته بك ليحفظوك في كل طرقك، على الأيدي يحملونك، لئلا تصدم بحجر رجلك، على الأسد والصل تطأ، الشبل والثعبان تدوس، لأنه تعلق بي أنجيه، أرفعه لأنه عرف اسمي، يدعوني فأستجيب له، معه أنا في الضيق، أنقذه وأمجده، من طول الأيام أشبعه، وأريه خلاصي " (المزمور 91/2 - 16).
وفي المزمور السابع والخمسين " أصرخ إلى الله العلي، إلى الله المحامي عني، يرسل من السماء ويخلصني، عيّر الذي يتهممني ... هيأوا شبكة لخطواتي، انحنت نفسي، حفروا قدامي حفرة، سقطوا في وسطها " (المزمور 57/2-6).
وهكذا فالمزمور الواحد والتسعون نبوءة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، واضحة في استجابة الله للمسيح، ورفعه للسماء على يد الملائكة قبل أن تصيبه يد أعدائه بأدنى شر، فلم يضرب ولم يبصق في وجهه، ولم يصلب، ولم يمت، عليه صلوات الله وسلامه.
ثاني عشر : المزمور التاسع بعد المائة (نبوءة عن محاكمة يهوذا وصلبه)
وفيه: " يا إله تسبيحي، لا تسكت ؛ لأنه قد انفتح علّى فم الشرير، وفم الغش. تكلموا معي بلسان كذب. بكلام بغض، أحاطوا بي، وقاتلوني بلا سبب. بدل محبتي يخاصمونني. أما أنا فصلوة. وضعوا علّي شراً بدل خير، وبُغضاً بدل حبي.
فأقم أنت عليه شريراً، وليقف شيطان عن يمينه. إذا حوكم فليخرج مذنباً، وصلاته فلتكن خطية. لتكن أيامه قليلة، ووظيفته ليأخذها آخر. ليكن بنوه أيتاماً، وامرأته أرملة. لِيَتِهْ بنَوُه تَيَهَاناً ويستعطوا. ويلتمسوا خبزاً من خِربهم. ليصطد المرابي كل ما له، ولينهب الغرباء تعبه. لا يكن له باسط رحمة، ولا يكن مُتَرَأّفُ على يتاماه.
لتنقرض ذريته. في الجيل القادم ليمح اسمهم. ليذكر إثم آبائه لدى الرب، ولا تمح خطية أمه. لتكن أمام الرب دائماً. وليقرض من الأرض ذِكرهم. من أجل أنه لم يذكر أن يصنع رحمة، بل طرد إنساناً مسكيناً وفقيراً، والمنسحق القلب ليميته.
وأحب اللعنة، فأتته، ولم يسر بالبركة، فتباعدت عنه، ولبس اللعنة مثل ثوبه فدخلت، كمياه في حشاه، وكزيت في عظامه. لتكن له كثوب يتعطف به، وكمنطقة يتمنطق بها دائماً. هذه أجرة مبغضي من عند الرب، وأجرة المتكلمين شراً على نفسي.
أما أنت يا رب السيد فاصنع معي من أجل اسمك. لأن رحمتك طيبة نجني، فإني فقير، ومسكين أنا، وقلبي مجروح في داخلي. كظل عند ميله ذهبت. انتفضتُ كجرادة. ركبتاي ارتعشتا من الصوم، ولحمي هزل عن سمن. وأنا صرت عاراً عندهم. ينظرون إليّ وينغضون رؤوسهم.
أعني يا رب، إلهي. خلصني حسب رحمتك. وليعلموا أن هذه هي يدك، أنت يا رب فعلت هذا، أما هم فيَلعنون. وأما أنت فتُبارك. قاموا وخزوا. أما عبدك فيفرح، ليلبس خصمائي خجلاً وليتعطفوا بخزيهم كالرداء.
أحمد الرب جداً بفمي، وفي وسط كثيرين أسبحه، لأنه يقوم عن يمين المسكين، ليخلصه من القاضين على نفسه" ( المزمور 109/1 - 31 )
وهذا المزمور أيضاً يراه النصارى على علاقة بقصة الصلب، وأن المقصود في بعضه يهوذا، وهو قوله: " ووظيفته ليأخذها آخر، ليكن بنوه أيتاماً، وامرأته أرملة .. ويلتمسوا خبزاً من خربهم " وقد أحال عليه كاتب "أعمال الرسل" وهو يتحدث على لسان بطرس، حين قال متحدثاً عن يهوذا: "لأنه مكتوب في سفر المزامير: لتصر داره خراباً، ولا يكن فيها ساكن، وليأخذ وظيفته آخر " (أعمال 1/20 ). ([44])
فيهوذا هو الذي أخذ وظيفته آخر، حين انتخب الحواريون بدلاً منه - تنفيذاً لهذا الأمر - يوسف ومتياس، وأقرعوا بينهما، فوقعت القرعة على متياس، فحسبوه مكملاً للأحد عشر رسولاً. ( انظر أعمال 1/23 - 26 ).
إذاً فالنص في هذا المزمور متحدث عن يهوذا ولا ريب، وهذا صحيح، فهو يتحدث عن محاكمته " وإذا حوكم فليخرج مذنباً "، فمتى حوكم يهوذا إذا لم يكن هو المصلوب؟ والنص يتحدث عن محاكمته، وعن نتيجة محاكمته " لتكن أيامه قليلة، ووظيفته ليأخذها آخر ".
كما يتحدث المزمور عن وقوفه على الصليب، وعن يمينه شيطان (وحسب نسخة الرهبانية اليسوعية: "وليقف متهم عن يمينه")، إنه ذاك الذي كان يستهزأ به، (لوقا 23/39-43)، فمتى وقف شيطان (متهم) عن يمين يهوذا، ومتى حوكم إن لم يكن ذلك في تلك الواقعة التي تجلى فيها غضب الله عليه؟
ووقوفه هذا هو العار الذي باء به وهو معلق على الصليب يستهزئ به المارة ويبصقون عليه ويضربونه" وأنا صرت عاراً عندهم. ينظرون إليّ وينغضون رؤوسهم".
ويصف المزمور استغاثات المصلوب على الصليب، وهو يستمطر رحمات الله " فاصنع معي من أجل اسمك، لأن رحمتك طيبة نجني .. خلصني حسب رحمتك، وليعلموا أن هذه هي يدك"، إذ لا يملك وسيلة للنجاة إلا أن يستغيث برحمة الله التي يلوذ بها الفاجر والتقي، فجعل يصرخ على الصليب: "إلهي إلهي، لماذا تركتني" (متى 27/46).
ويتحدث المزمور عن ثوب اللعنة الذي لبسه يهوذا على الصليب " ولبس اللعنة مثل ثوبه فدخلت، كمياه في حشاه، وكزيت في عظامه. لتكن له كثوب يتعطف به، وكمنطقة يتمنطق بها دائماً، هذه أجرة مبغضيّ من عند الرب، وأجرة المتكلمين شراً على نفسي"، لقد كانت اللعنة أجرته على عمله، فقد علق على الصليب، وكل معلق ملعون، كما في سفر التثنية "وإذا كان على إنسان خطية حقها الموت، فقتل، وعلقته على خشبة، فلا تبت جثته على الخشبة، بل تدفنه في ذلك اليوم، لأن المعلّق ملعون من الله" (التثنية 21/22-23).
إن هذا المزمور نبوءة واضحة عن يهوذا الملعون المصلوب بجوار متهم أو شيطان، وهو الذي حوكم بدلاً عن المسيح، فحسب في المحاكمة مذنباً، وقد صدق جامع تفسير أعمال الرسل في قوله: "الروح القدس بفم داود قد تنبأ عن يهوذا في المزمورين 69 و 109".([45])
ثالث عشر: المزمور الثامن عشر بعد المائة (نبوءة بنجاة المسيح من الموت)
وكذا يؤمن النصارى أن المزمور الثامن عشر بعد المائة نبوءة عن المسيح عليه السلام، إذ يتحدث المزمور في آخره عن الحجر الذي رفضه البناؤون، فيقول: "الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية، من قبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا ... مبارك الآتي باسم الرب"، وقد اعتبره بطرس نبوءة عن المسيح المصلوب متناسياً ما جاء في مقدمة المزمور عن هذا الحجر العظيم، يقول بطرس: "فليكن معلوماً عند جميعكم وجميع شعب إسرائيل أنه باسم يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه أنتم الذي أقامه الله من الأموات، بذاك وقف هذا أمامكم صحيحاً، هذا هو الحجر الذي احتقرتموه أيها البناؤون الذي صار رأس الزاوية " (أعمال 4/10-11).
يقول الأب متى المسكين: "أما المزمور 118 فهو أغنى المزامير في وصف رسالة المسيح الخلاصية".([46])
يقول المزمور متحدثاً عن الحجر الذي رفضه البناؤون: "من الضيق دعوت الرب فأجابني، من الرحب، الرب لي فلا أخاف، ماذا يصنع بي الإنسان، الرب لي بين معينيّ، وأنا سأَرى بأعدائي، الاحتماء بالرب خير من التوكل على إنسان، الاحتماء بالرب خير من التوكل على الرؤساء" (المزمور 118/5-9)، لقد توكل المسيح على الرب، الذي أجابه من الضيق وأعانه.
ثم يتحدث المزمور عن أعداء المسيح ومؤامرتهم عليه، ويترنم بانطفاء نارهم وإبادتهم، وفشل مؤامرتهم، فيقول: " كل الأمم أحاطوا بي، باسم الرب أبيدهم، أحاطوا بي واكتنفوني، باسم الرب أبيدهم، أحاطوا بي مثل النحل، انطفأوا كنار الشوك، باسم الرب أبيدهم، دَحَرَتني دحوراً لأسقط، أما الرب فعضدني، قوتي وترنمي الرب، وقد صار لي خلاصاً" (المزمور 118/10-15).
لقد خلصه الله من الموت ولم يسلمه إليه، لذا فهو يبتهج ويفرح باستجابة الله له وبخلاصه من الموت " صوت ترنم وخلاص في خيام الصديقين، يمين الرب صانعة ببأس، يمين الرب مرتفعة، يمين الرب صانعة ببأس، لا أموت، بل أحيا، وأحدث بأعمال الرب، تأديباً أدبني الرب، وإلى الموت لم يسلمني، افتحوا لي أبواب البر، ادخل فيها، واحمد الرب، هذا الباب للرب، الصديقون يدخلون فيه، أحمدك لأنك استجبت لي، وصرت لي خلاصاً، الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية، من قبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا، هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، نبتهج ونفرح فيه، آه يا رب خلّص، آه يا رب أنقذ، مبارك الآتي باسم الرب" (المزمور 118/15-26)، فالمزمور كما رأيتَ شهادة أخرى بنجاة المسيح وخلاصه من يد أعدائه.
وذات الصورة تتكرر في سائر إصحاحات سفر المزامير الذي يعتبره القمّص سرجيوس سفر مسيّا الخاص، ونختم منه باقتباس من المزمور الأربعين بعد المائة، وفيه: "أنقذني يا رب من أهل الشر، من رجل الظلم احفظني. الذين يتفكرون بشرور في قلوبهم، اليوم كله يجتمعون للقتال، سنّوا ألسنتهم كحية، حمة الأفعوان تحت شفاههم. سلاه. احفظني يا رب من يدي الشرير، من رجل الظلم أنقذني، الذين تفكروا في تعثير خطواتي. أخفى لي المستكبرون فخاً وحبالاً، مدوا شبكة بجانب الطريق، وضعوا لي أشراكاً.سلاه، قلت للرب: أنت إلهي، أصغ يا رب إلى صوت تضرعاتي... لا تعط يا رب شهوات الشرير، لا تنجح مقاصده" (المزمور 140/1-8).
خلاصة نبوءات المزامير
ويخلص الأستاذ العلامة منصور حسين في دراسته الرائعة إلى نتيجة واضحة بينة، ويسطرها في قوله: " مِن جماع ما تقدم لا نخلص إلا بأن المزامير تنبأت بحق بأن الله مخلص مسيحه، يستجيبه من سماء قدسه، يرفعه من أبواب الموت، يرفعه فوق القائمين عليه، يرسل من العُلا فيأخذه.
أما يهوذا الإسخريوطي الذي حفر له هذه الحفرة، وأتى على رأس الجمع من جنود وخدام ليقبضوا عليه، على المسيح سيده، فإنه في الحفرة نفسها يقع، وبعمل يديه يعلق، رجع تعبه على رأسه، وعلى هامته هبط ظُلمه، صار عاراً عند البشر، فقبض عليه هو بدلاً من المسيح، وحوكم هو، وصلب بدلاً منه.
وهكذا تستقيم النبوءة في المزامير، وهكذا تتجلى النبوءة في المزامير، في أسطع وأروع وأسمى ما تكون النبوءة، ليست آية نحرفها، أو كلمة نُحوّر معناها، بل صورة كاملة، عشرات الآيات، عشرات المزامير، كلها تنطق بصورة واحدة متكاملة، تتكرر كثيراً، ولكن أبداً لا تتغير.
هذه الحقيقة هي تلك التي نطق بها القرآن، واعتقدها المسلمون ... ولمن يريد أن يزيد يقيناً، فها هي المزامير كلها في الكتاب المقدس، الذي يؤمن به المسيحيون، ويتداولونه، وإليها فليرجع، ولن يزيده هذا إلا يقيناً وتقديراً لهذه الحقيقة التي انتهينا إليها.. ".
وإذا أراد القارئ المزيد من اليقين فليقرأ ما جاء في سفر الأمثال: " الأشرار يكونون كفارة لخطايا الأبرار " ( الأمثال 21/18)، وليتأمل بمزيد عناية قوله: " بر الكامل يقوم طريقه، أما الشرير فيسقط بشره، بر المستقيمين ينجيهم، وأما الغادرون فيؤخذون بفسادهم، الصديق ينجو من الضيق، ويأتي الشرير مكانه " ( الأمثال 11/5 - 8 ).
ولا يفوتنا في خاتمة هذا المبحث أن نذكر أن الاحتجاج بنبوءات المزامير على نجاة المسيح قديم، بل يرجع للمسيح - إن صح ما في إنجيل برنابا -، فقد جاء فيه أن المسيح قال: " إن واحداً منكم سيسلمني، فأباع كالخروف، ولكن ويل له، لأنه سيتم ما قاله داود أبونا عنه، أنه سيسقط في الهوة التي أعدها للآخرين" ( برنابا 213/24 - 26 ).
وإذا قلنا: إن المزامير بشرت بنجاته، فللنصارى أن يقولوا: كيف لم يعرف المسيح ذلك من العهد القديم؛ لم قال عن نفسه بأنه سيصلب كما في الأناجيل؟
والإجابة عن هذا التساؤل لا تلزمنا نحن المسلمين الذين لا نعتد بما جاء في هذه الكتب، إلا ما قام على صدقه وتوثيقه دليل من ديننا.
ثم القصة هي امتحان للمسيح عليه السلام، كما كان الأمر بالذبح امتحاناً لإبراهيم وابنه الوحيد، ولو عرف المسيح نتيجة الامتحان مقدماً لما كان له أي معنى، كما لو عرفها إبراهيم، فلذلك خفيت عليه، وليس لقصور فهمه أو إدراكه، حاشاه، ولكن لتتحقق إرادة الله بامتحانه، ونجاحه في الامتحان.
ثم لا يمكن القطع بأن المسيح لم يعرف المعنى الصحيح الذي تدل عليه النبوءات، بل قد يكون المسيح عرف ذلك، فلجأ إلى الله يتضرع إليه ويسأله صرف هذه الكأس، لأنه عرف أن الله يستجيب دعاءه وتضرعه، بينما لو وافقنا الرواية الإنجيلية بأن المسيح علم أنه سيصلب ثم صلب، فما فائدة تضرعه ودعائه، ولم كان جزعه يأسه وصراخه على الصليب "لماذا تركتني"؟
كما ثمة أمر آخر يجدر التنبه له، وهو أن فهم النبوءات لا يعني يقيناً معرفة الساعة، وتحديد اليوم الذي سيسعى أعداؤه فيه للقبض عليه، فهذا قد يكون سبب خفاء وقت تحقق هذه النبوءات على المسيح عليه الصلاة والسلام .
هل ما جاء في سفر إشعيا نبوءة عن صلب المسيح؟
لكن النصارى يرون أن ثمة نبوءة في غير المزامير قد وردت عن صلب المسيح، ألا وهي ما جاء في إشعيا 52 و 53، وفيه: " هو ذا عبدي يعقل، ويتعالى، ويرتقي ويتسامى جداً، كما اندهش منه كثيرون، كان منظره كذا مفسدة أكثر من الرجل، وصورته أكثر من بني آدم، هكذا ينضح أمماً كثيرين، من أجله يسد ملوكُُ أفواههم، لأنهم قد أبصروا ما لم يخبروا به، وما لم يسمعوه فهموه.
من صدق خبرنا، ولمن استعلنت ذراع الرب، نبت قدامه كفرخ، وكعرق من أرض يابسة، لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه، محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع، ومختبر الحزن، وكمستَّر عنه وجوهنا، محتقر فلم نعتد به.
لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها، ونحن حسبناه مصلوباً، مضروباً من الله ومذلولاً، وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه، وبحبره شفينا، كلنا كغنم ضللنا، مِلْنا كل واحد إلى طريقه، والرب وضع عليه إثم جميعنا، ظلم أما هو فتذلل، ولم يفتح فاه، كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها، فلم يفتح فاه.
من الضغطة، ومن الدينونة أُخذ، وفي جيله من كان يظن أنه قطع من أرض الأحياء، أنه ضُرب من أجل ذنب شعبي، وجعل مع الأشرار قبره، ومع غني عند موته، على أنه لم يعمل ظلماً، ولم يكن في فمه غش.
أما الرب فسُر بأن يسحقه بالحزن، أن جعل نفسه ذبيحة إثم، يرى نسلاً تطول أيامه، ومسرة الرب بيده تنحج، من تعب نفسه يرى ويشبع، وعبدي البار بمعرفته يبرر كثيرين، وآثامهم هو يحملها، لذلك أقسم له بين الأعزاء ومع العظماء، يقسم غنيمة من أجل أنه سكب للموت نفسه، وأحصي مع أثمةٍ، وهو حمل خطية كثيرين، وشفع في المذنبين " ( إشعيا 52/13 - 53/12 ).
ويربط النصارى بين هذا السفر وبين ما جاء في مرقس " فتم الكتاب القائل: وأحصي مع أثمة " ( مرقس 15/28)، ومقصوده كما لا يخفى ما جاء في إشعيا " سكب للموت نفسه، وأحصي مع أثمة " ومثله في سفر أعمال الرسل. (انظر أعمال 8/22 - 23 ).
والنص ولا ريب قد تعرض للكثير من التلاعب والتحوير، وتجزم بهذا التلاعب عندما تلحظ غموض عباراته، وحين تقارن نص إشعيا مع ما جاء في أعمال الرسل، وهو ينقل عنه، وفيه " وأما فصل الكتاب الذي كان يقرأه، فكان هذا: مثل شاة سيق إلى الذبح، ومثل خروف صامت أمام الذي يجزه، هكذا لم يفتح فاه، في تواضعه انتزع قضاؤه، وجيله من يخبر به، لأن حياته تنتزع من الأرض " ( أعمال 8/32- 33 )، فثمة فروق بين ما جاء في إشعياء وما نقله عنه أعمال الرسل.
فالنعجة في سفر إشعيا تحولت في أعمال الرسل إلى خروف، و "من الضغطة، ومن الدينونة أُخذ" أضحت: "في تواضعه انتزع قضاؤه" .
لكن الفارق الأكبر بين السفرين نجده في قول إشعيا: "وفي جيله من كان يظن أنه قطع من أرض الأحياء"، فيما يقول سفر الأعمال: " وجيله من يخبر به، لأن حياته تنتزع من الأرض".
كما أن النص الكاثوليكي للسفر يزيد عبارة أسقطتها الطبعات البروتسنتية لما فيها من إبهام، ففي نسخة الشرق الأوسط الكاثوليكية "من الضيق والقضاء أُخذ، ومن يصف مولده، إنه قد انقطع من أرض الأحياء"، فقوله: "ومن يصف مولده" نص موجود في الترجمة السبعينية واللاتينية، وتسقطه النسخ التي اعتمدت النص العبراني فقط.
أما نسخة الرهبانية اليسوعية فقد حورت النص ليتلائم مع السياق الذي تريده، فجعلته "بالإكراه والقضاء أُخذ، فمن يفكر في مصيره، قد انقطع من أرض الأحياء"، فأضحى النص فيها متحدثاً عن صلب المسيح بدلاً من مولده! كما أضحى انتزاع حياته بالإكراه، لا مجرد ابتلاء وضيق!
وجاء في خاتمة القصة في سفر أعمال الرسل في نسخة الشرق الأوسط البرتستنتية، والأخرى الكاثوليكية أن فيلبُس مر مع العبد الحبشي على ماء " فقال الخصي: هوذا ماء، ماذا يمنع أن أعتمد؟ فقال فيلبس: إن كنت تؤمن من كل قلبك يجوز، فأجاب وقال: أنا أُومن أن يسوع المسيح هو ابن الله، فأمر أن تقف المركبة، فنزلا كلاهما إلى الماء ..." (أعمال 8/36-38)، وهذا الحوار الذي جرى بعد رؤيتهما للماء لم تذكره نسخة شهود يهوه المسماة ترجمة العالم الجديد ، كما حذفته نسخة الرهبانية اليسوعية الكاثوليكية، والنص فيها: "فقال الخصي: هذا ماء، فما يمنع أن أعتمد؟ ثم أمر بأن تقف المركبة، ونزلا كلاهما في الماء".
وهذه الفروق وذلك التلاعب يدلنا على مدى الحرية التي تعامل بها القديسون أو المترجمون للنصوص الكتابية.
لكن التحريف الأكبر الذي صنعه النصارى لنص إشعيا هو اجتثاثه من سياقه الذي كان يتحدث عن عودة بني إسرائيل من السبي وفداء الله لهم وخلاصهم من ذلهم ، فالقصة التوراتية لا تبدأ من حيث يبدأ النصارى "هوذا عبدي يعقل ويتسامى"، فإن الابتداء بها بتر للنص وإخراج له عن سياقه ومعناه الطبيعي، حيث يقول: "هكذا قال السيد الرب: إلى مصر نزل شعبي أولاً ليتغرب هناك، ثم ظلمه آشور بلا سبب، فالآن ماذا لي هنا، يقول الرب: حتى أُخذ شعبي مجاناً ... صوت مراقبيك يرفعون صوتهم، يترنمون معاً، لأنهم يبصرون عيناً لعين عند رجوع الرب إلى صهيون، شيدي ترنمي معاً يا خِرب أورشليم، لأن الرب قد عزى شعبه، فدى أورشليم، قد شمر الرب عن ذراع قدسه أمام عيون كل الأمم، فترى كل أطراف الأرض خلاص إلهنا، اعتزلوا اعتزلوا، اخرجوا من هناك لا تمسوا نجساً، اخرجوا من وسطها (في نسخة كتاب الحياة التفسيرية: اخرجوا من وسط بابل) ، تطهروا يا حاملي آنية الرب، لأنكم لا تخرجون بالعجلة، ولا تذهبون هاربين، لأن الرب سائر أمامكم، وإله اسرائيل يجمع ساقتكم، هوذا عبدي يعقل يتعالى ويرتقي ويتسامى جداً..." (إشعيا 52/3-13).
وبعد انتهاء النبوءة - المدعاة عن المسيح - عاد النص للحديث عن عزاء أمة بني إسرائيل بعد عذابها الطويل في بابل ، قيقول مخاطباً أورشليم: "ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد، أشيدي بالترنم أيتها التي لم تمخض، لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل. قال الرب: أوسعي مكان خيمتك، ولتبسط شقق مساكنك، لا تمسكي، أطيلي أطنابك، وشددي أوتادك، لأنك تمتدين إلى اليمين وإلى اليسار ويرث نسلك أمماً، ويعمر مدناً خربة، لا تخافي لأنك لا تخزين، ولا تخجلي لأنك لا تستحين، فإنك تنسين خزي صباك، وعار ترملك لا تذكرينه بعد، لأن بعلك هو صانعك، رب الجنود اسمه" (إشعيا 54/ 1-5).
لذا حق للمحققين أن يروا ما ورد في إشعيا نصاً حُور لفظاً ومعنىً لينطبق على المسيح، ودليل ذلك أن المسيح لم يخبر أن ما جاء في إشعيا نبوءة عنه المسيح، فالمسيح لم يشر إلى هذه النبوءة من قريب أو بعيد.
والمسلمون لا يرون في هذا النص أي نبوءة عن المسيح، ويستغربون ويستنكرون ربط النصارى بين نص إشعيا وقصة الصلب في الأناجيل، فنص إشعيا يتحدث وفي أكثر من موضع عن عبد، فيما يقول النصارى بألوهية المسيح، فكيف يجمعون بين عبوديته لله وألوهيته في وقت واحد.
وهذا العبد قبيح في منظره، مخذول محتقر لا يعتد به، فهو ليس المسيح على أي حال " هو ذا عبدي... كان منظره كذا مفسدة أكثر من الرجل، وصورته أكثر من بني آدم.. لا صورة له ولا جمال، فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه، محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع، ومختبر الحزن، وكمستّر عنه وجوهنا، محتقر فلم نعتد به"، أفهذه صورة المسيح عندهم؟.
والنص أيضاً يتحدث عن الذي " لم يفتح فاه، كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها، فلم يفتح فاه "، بينما المسيح تكلم مراراً وتكراراً، فقد تكلم طويلاً في البستان، وهو يناجي، طالباً من الله أن يعبر عنه هذه الكأس ... ثم نطق فقال لبيلاطس أثناء محاكمته: " أنت تقول: إني ملك، لهذا قد ولدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم، لأشهد للحق، كل من هو في الحق يسمع صوتي " (يوحنا 18/37 ).
وكان قد قال له قبل: " مملكتي ليست في هذا العالم، لو كانت مملكتي في هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من هذا " ( يوحنا 18/36 ).
كما تكلم في المحاكمة لما لطمه أحد الخدم فأجابه المسيح: " إن كنت قد تكلمت ردياً فاشهد على الردي، وإن حسناً فلماذا تضربني؟ " ( يوحنا 18/22 ).
فإن أصر النصارى بعد ذلك على أن النبوءة تنطبق على المسيح، فقد قالوا إذاً بأن المسيح تكلم وهو مغلق الفم !!!
كما يذكر نص إشعيا شجاعة وتماسكاً لا تتناسب وصراخ المصلوب، وجزعه، وقنوطه، فالمصلوب لم يظهر كشاة أمام جازيها صامتة، "وهكذا لم يفتح فاه "، بل كان يصرخ على الصليب: "إلهي إلهي، لماذا تركتني؟ " ( متى 27/46).
والنص متحدث عن صاحب نسل وولد، فيقول: " يرى نسلاً تطول أيامه "، وقد سُرّ الرب بعذابه وبالعاهات التي تصيبه " وأما الرب فسُرّ بأن يسحقه بالحزن " ، والنص في النسخة الكاثوليكية يفسر الحزن بالعاهات، فيقول: "والرب رضي أن يسحقه بالعاهات"، وفي نسخة الرهبانية اليسوعية: "والرب رضي أن يسحق ذاك الذي أمرضه" ، فهل يسَرُّ الله لأحزان عبده البار، المسيح عليه الصلاة والسلام، وهل كان المسيح مصاباً بعاهة من العاهات أو مرض من الأمراض؟
ويرى الأستاذ محمد الأفندي([47]) أن لا علاقة بين هذا الإصحاح في إشعيا، وبين حادثة الصلب، فالإصحاح يتحدث عن قصة بني إسرائيل، وذلهم في بابل بسبب معاصيهم ومعاصي سلفهم، فحاق بهم عقوبة الله التي عمّت صالحيهم وفجارهم، ثم أنعم الله عليهم بالعود من بابل مرة أخرى إلى فلسطين، وهذا المعنى هو ما كان يتحدث عنه السياق التوراتي في سفر إشعيا.
وقوله: " هو ذا عبدي .. كما اندهش منك كثيرون كان منظره كذا مفسدًا أكثر من الرجل، وصورته أكثر من بني آدم " فالمقصود بالعبد شعب إسرائيل.
وقد عُهد في التوراة إطلاق لفظ الفرد، والمراد الشعب كما في إشعيا: "يقول الرب، خالقك يا يعقوب، وجابلك يا إسرائيل ... وإذا اجتزت في المياه فأنا معك، وفي الأنهار فلا تغمرك، لأني أنا الرب إلهك، قدوس إسرائيل، مخلصك، جعلت مصر فديتك " (إشعيا 43/1 - 3 )، وفي سفر ميخا : " إني أجمع جميعك يا يعقوب" (ميخا 2/12)، ومثله في مواضع كثيرة، منها ( إشعيا 41/8) و (ميخا 1/5)، والمقصود من ذلك كله شعب إسرائيل.
وفي إشعيا 52 و 53 يتنبأ النبي عن غربة بني إسرائيل ويصف ذلتهم، ثم يتحدث عن عودة أبنائهم من أرض السبي "نبت قدامَه كفرخ، وكعرق في أرض يابسة " فقد عادوا للأرض المقدسة، ونبتوا فيها، من جديد، كما في سفر النبي إرمياء "وأجعل عيني عليهم للخير، وأرجعهم إلى هذه الأرض، وأبنيهم ولا أهدمهم، وأغرسهم، ولا أقلعهم" (إرمياء 24/6)، وقوله: "وأفرح بهم لأحسن إليهم، وأغرسهم في هذه الأرض بالأمانة بكل قلبي وبكل نفسي" (إرمياء 32/41). (وانظر إرمياء 31/27-28).
وقد تغيرت صورتهم بسبب الذل فكان الشعب " محتقر مخذول.. الرب وضع عليه إثم جميعنا " ويفسره قول إرميا وقد شاهد الأسر البابلي: " آباؤنا أخطؤوا، وليسوا بموجودين، ونحن نحمل آثامهم، عبيد حكموا علينا، ليس من يخلص من أيديهم، جلودنا اسودت من جري نيران الجوع " (المراثي 5/7-10).
وقوله: " ظلِم أما هو فتذلل " كقول سفر إشعيا عن اضطهاد بني إسرائيل على يد الآشوريين: "نزل شعبي أولاً ليتغرب هناك، ثم ظلمه آشور بلا سبب " ( إشعيا 52/4)، وكقوله: "إن بني إسرائيل وبني يهوذا معاً مظلومون " ( إرميا 50/33 ).
وأما قوله: " كشاة تساق إلى الذبح...." فهو حديث ذبح ملك بابل لبني إسرائيل، وقد ساقهم كما تساق الشياه إلى الذبح، كما في قوله: " أنزلهم كخراف للذبح، وككباش مع أعتدة " (إرميا 51/40 ) فمات أكثرهم جوعاً، ونحوه قوله عنهم: "وأنا كخروف داجن يساق إلى الذبح ولم أعلم أنهم فكروا عليّ أفكاراً قائلين: لنهلك الشجرة بثمرها، ونقطعه من أرض الأحياء، فلا يذكر بعد اسمه" (إرميا 11/19).
وقوله: " وجعل مع الأشرار قبره، ومع غني عند موته " إشارة إلى أن دفنهم في بابل كان مع الوثنيين، ولا يمكن للنصارى حمله على المسيح المدفون - حسب كتابهم - وحده في بستان، في قبر جديد، لم يدفن فيه معه لا شرير ولا غني.
وقوله: " أحصي مع أثمة " هو أيضاً يحكى عن وجود بني إسرائيل مع الوثنيين في بابل، ولا يصح أن يقال: الأثمة هما اللصان، إذ قد وعد أحدهما الفردوس، فكيف يوصف بعد ذلك بالآثم ؟!
وقوله: "فسَّر أن يسحقه بالحَزَن، أن جعل نفسه ذبيحة إثم، يرى نسلاً تطول أيامه"، وفي النسخة الكاثوليكية يتضح المعنى أكثر: "والرب رضي أن يسحقه بالعاهات، فإنه إذا جعل نفسه ذبيحة إثم يرى ذرية، وتطول أيامه" ، وفي الترجمة التفسيرية المسماة كتاب الحياة: "فقد سُر الله أن يسحقه بالحزن، وحين يقدم نفسه ذبيحة إثم فإنه يرى نسله وتطول أيامه" ، فالنص كما هو واضح ليس حديثاً عن المسيح الفادي، بل هو إشارة إلى تكفير الله خطايا بني إسرائيل بسبب توبتهم ، حيث يرفع الله عنهم الاضطهادات، ويعيدهم إلى إلى وطنهم، حيث تطول أيامهم ويعيشون ويتوالدون في فلسطين بعد السبي وآلامه وعاهاته وبلاياه.
وقوله : " على أنه لم يعمل ظلماً، ولم يكن في فمه غش" حديث عن طهر أولئك الذين يعودون من السبي الذين عنهم "يقول الرب: لأني أصفح عن إثمهم، ولا أذكر خطيتهم بعد" (إرمياء 31/34)، كما قال عنهم: "وأرد سبي يهوذا وسبي إسرائيل وأبنيهم كالأول، وأطهرهم من كل إثمهم الذي أخطؤوا به إليّ، وأغفر كل ذنوبهم التي أخطؤوا بها إليّ والتي عصوا بها عليّ" (إرمياء 33/7-8).
وأما قوله: " عبدي البار بمعرفته يبرر كثيرون، وآثامهم هو يحملها " يتحدث كيف شمل البؤس بررة بني إسرائيل وعصاتهم، كما قال الله: ]واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة [ (الأنفال : 125).
وإكراماً لهؤلاء البررة من بني إسرائيل، طهرهم الله من ذنبهم، ورفع عنهم هذه العقوبة، كما في إرميا: " في تلك الأيام يطلب إثم إسرائيل فلا يكون، وخطية يهوذا فلا توجد، لأني أغفر لمن أبقيه" (إرميا 50/20)، فقد حملوا خطيئة آبائهم، ثم غفرت ذنوبهم.
سوف يبدأ عهد جديد لا تضرس فيه أسنان الأبناء بحصرم آبائهم، ولا يعاقبون ثانية بجريرتهم، فقد تحملوا من آثامهم ما يكفي "في تلك الأيام لا يقولون بعد: الآباء أكلوا حصرماً، وأسنان الأبناء ضرست، بل كل واحد يموت بذنبه، كل إنسان يأكل الحصرم تضرس أسنانه، ها أيام تأتي يقول الرب، وأقطع مع بيت اسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً" (إرميا 31/29-31). ([48])
وهكذا فالإصحاح يتحدث عن شعب إسرائيل، وسبيه، وذلته، ثم نجاته. وهذا هو مفهوم النص عند اليهود وهم أصحاب الكتاب الأصليين، بل هو رأي كثير من المفسرين المسيحيين، كما نقل القس الخضري حين قال: "إن عدداً لا بأس به من المفسرين يتردد كثيراً في نسب هذه النصوص إلى المسيح ظناً منهم بأن النبي يتكلم عن إسرائيل كله كشخص محتقر مخذول ومطرود".([49])
إبطال صلب المسيح بنبوءات وأخبار الأناجيل والرسائل
هل تنبأ المسيح بصلبه؟
تتحدث الأناجيل الأربعة عن صلب المسيح، كخاتمة لوجوده على الأرض، ولكن: هل تنبأ المسيح بأنه سيصلب ؟ وهل عرف بذلك تلاميذه ؟
لا تخطئ عين الناظر في الأناجيل أن ترى أن الإنجيليين نقلوا عن المسيح تنبؤه بتعرضه لمؤامرة تودي به إلى الموت والصلب، فهل تصح هذه الأقوال في نسبتها إلى السيد المسيح؟
الحقيقة أن خبر تنبؤ المسيح بقتله أو صلبه (انظر متى 17/22 و20/16، 26/2، 26/23)، قول دخيل على الأناجيل، ملحق بها، والأدلة على ذلك تتضح باستقراء عدد من الملاحظات التي يقوي بعضها بعضاً:
أن العبارة في إنجيل متى والتي يخبر فيها المسيح عن مؤامرة يتعرض لها ابن الإنسان وتودي به إلى الموت وردت بلا مقدمة، ولا مناسبة، ولا تعليق عليها من قبل الحواريين، حتى وكأنها تتحدث عن حدث عادي، فلئن صحت، دل ذلك على أن ابن الإنسان المصلوب المسلّم لأيدي الخطاة، هو غير المسيح.
تتحدث المواضع الأربعة – التي ذكرت تنبؤه بالموت - عن تسليم ابن الإنسان، وقتله أو صلبه، ولا تنص على عيسى، لكن اللفظ – وإن تبادر في الذهن إلى المسيح – فإنه يصح أن يطلق على غيره، بدليل أنهم سألوه عن ابن الإنسان مَن هو بقولهم: "كيف تقول أنت: إنه ينبغي أن يرتفع ابن الإنسان؟ من هو هذا ابن الإنسان؟" ( يوحنا 12/34 ) ولو كان هذا اللقب بالمسيح خاصاً لما كان في سؤالهم وجه.
يقترن وصف الأناجيل الثلاثة لردة فعل التلاميذ حيال هذا الخبر بكثير من الغرابة، ففي متى
( 26/1 - 2 ) لم يذكر لهم حساً ولا خبراً، بيد أنه في ( متى 26/23 ) ذكر بأنهم " حزنوا جداً"، ويفهم منه أنهم فهموا مراده فحزنوا، لكن مرقس يقول: " وأما هم فلم يفهموا القول، وخافوا أن يسألوه " ( مرقس 9/32 )، ويؤكد لوقا هذا بقوله: " وأما هم فلم يفهموا من ذلك شيئاً، وكان هذا الأمر مخفياً عنهم، ولم يعلموا ما قيل ".
وإضافة إلى تناقض النصوص، فإن في خوف التلاميذ من المسيح وترددهم في سؤاله ما يدعو للعجب، فقد عرف عليه الصلاة والسلام بدماثة خلقه، وبتحببه لهم، حتى إنه غسل أرجلهم، وكثيراً ما كانوا يسألوه، فِلمْ لم يسألونه في هذا الأمر الخطير؟
ذكر الإنجيليون الثلاثة الذين ذكروا الخبر بأن المسيح سيقوم في اليوم الثالث ( انظر متى 17/23، مرقس 9/32، لوقا 18/33 )، وهذا لم يحصل، بل مكث ما لا يزيد بحال عن ليلتين ويوم.
ومما يدل على عدم صحة التنبؤ بالصلب والقتل: فرار التلاميذ، وفيهم بطرس الذي قال له المسيح: "طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك، وأنت متى رجعت ثبت إخوتك، فقال له: يا رب، إني مستعد أن أمضي معك، حتى إلى السجن، وإلى الموت " ( لوقا 22/32 - 34 )، فدل هذا على معرفتهم بأن المأخوذ غيره، كما قد عرفوا ذلك فهربوا، وقد قال عنهم المسيح: "الذين أعطيتني حفظتهم، ولم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك " (يوحنا 17/12 ).
ثم بعد ذلك ولأن أمر المصلوب لا يهمهم وقد عرفوا بنجاة سيدهم لم يهتموا بمتابعة المصلوب وهو على الصليب، أو في أثناء المحاكمة، إلا ما جاء عن بطرس ويوحنا وبعض النسوة.
كما تذكر الأناجيل دليلاً آخر يشهد على عدم صحة هذه النبوءات المتنبئة بصلب المسيح، بل تدلل على أن المسيح تنبأ بنجاته، وأن التلاميذ فهموا منه ذلك قول مرقس أن المسيح قال لتلاميذه: " كلكم تشكون فيَّ في هذه الليلة " ( مرقس 14/27 ).
هذا ولا تذكر الأناجيل شيئاً عن شك التلاميذ، سوى ما ذكرته عن بطرس الذي أنكر المأخوذ ثلاث مرات ليلة المحاكمة، وأما الآخرون فصمت مطبق، فكيف شك التلاميذ ؟
لقد شك التلاميذ في المسيح وهم يرون المأخوذ من البستان (يهوذا) وقد قبض عليه، وظنوه المسيح، فوقعوا فيما حذرهم منه المسيح، وهو الشك فيه، لقد كان أخبرهم بنجاته من المؤامرة ثم يرون أنه قد أخذ ولم ينجو.
ويوضح العلامة أحمد عبد الوهاب هذه المسألة ، فيقول بأن الشك هو تراجع داخل النفس، ويستشهد لتفسيره بما جاء في غير الترجمة العربية، فالنص في التراجم الأخرى تعريبه هكذا: " كلكم ترتدون عن عقيدتكم وتزلون ".
ويفرق بين الإنكار والشك، فالشك عمل قلبي، والإنكار: قد ينكر الإنسان بلسانه ما يعتقده في قلبه، والذي وقع من التلاميذ شك لا إنكار. فلقد آمن التلاميذ بالمسيح، وصدقوه فيما تنبأ به، فإذا رأوا ما اعتبروه مخالفاً لنبوءاته، فسوف يحصل منهم الشك، والردة عن العقيدة.
ويورد الأستاذ أحمد عبد الوهاب احتمالين:
الأول: أن يكون المسيح قد تنبأ لتلاميذه بأن مؤامرة ستدبر ضده، وستُحدث له ألماً ومعاناة، إلا أنها ستفشل، وسينقذه الله من القتل، كما في قوله: " ستطلبونني ولا تجدونني ". وهذا الذي حصل ولم يشاهده التلاميذ، بل هم قد رأوا ما حسبوه وظنوه نقيضَه، فقد رأوا المسيح مأخوذاً مصلوباً، فوقعوا في الشك فيه، لأن كلامه لم يتحقق، وهذا هو الصحيح.
والآخر: أن المسيح تنبأ بأن المؤامرة ستنتهي بقتله، وليس هناك ما يدعو للشك والارتياب حسب هذه الصورة، سواء تحقق قوله أم لم يتحقق، إذ تحققه تصديق لقوله، وتخلُفه إكرام من الله له وحفظ ورعاية.
وهذا الفرض خاطئ، ويدحضه العود إلى لحظة القبض على المسيح، حيث نجد أن التلاميذ جميعاً قد هربوا، وتركوا المسيح وحده. ويبدو هنا شكهم واضحاً، لقد حصل أمام التلاميذ ما لم يتوقعوه – فيما يظهر لهم -، أي ما لم يتنبأ به المسيح.
فلئن كان أخبرهم بأن سيُقبض عليه وسيقتل، فليس ثمة ما يثير الشك، وإن كان الاحتمال الأول بأنه سينجو، وأن المؤامرة ستفشل، ولكنهم يجدونه - فيما يظهر لهم - قد قبض عليه، ولم تتحقق نبوءته، فحينئذ وقعوا في الشك. ([50])
إذاً فلقد تحقق الشك، حين حسبوا المسيح هو المأخوذ والمصلوب، وقد كان أخبرهم بنجاته، كما قد سمعوا منه مراراً، كما سيأتي تفصيله.
وأما سيء الذكر في الأناجيل - بطرس-، فإنه الوحيد من بين التلاميذ الذي ذكر أصحاب الأناجيل شكه، ويتمثل شكه عند النصارى في تنكره للمسيح، قبل أن يصيح الديك صباح تلك الليلة مرة أو مرتين على خلاف بين متى ومرقس.
لكن أحمد عبد الوهاب يفرق مرة أخرى بين الشك والإنكار، فما حصل من بطرس في القصة الإنجيلية هو إنكار، وليس بشك، فقد ينكر الإنسان بلسانه ما يعتقده بقلبه، لكن ما وقع فيه بطرس كان شكاً كذاك الذي وقع فيه التلاميذ، لقد سمع من المسيح تنبأه بنجاته، فإذا به يصحو من نومه في البستان، ويراه مأخوذاً، كما خيل له، فوقع منه الشك في المسيح، ثم الإنكار له في مجمع الظلمة.
ولو فرضنا جدلاً أن المسيح تنبأ بصلبه وقتله، فإن ذلك لا يمنع بالضرورة أن يصرف الله قضاءه عن المسيح ، فينجيه، ولذا فإن المسيح كان يناجي الله طالباً منه صرف كأس الموت عنه، فدعاؤه الطويل في البستان دليل على يقينه بإمكانية النجاة ، وإلا كان دعاؤه نوعاً من العبث وإضاعة الوقت فيما لا طائل من ورائه.
ولو تأملنا في قصة الملك حزقيا لرأينا شاهداً مطابقاً لما بين يدينا، يقول سفر إشعيا: "في تلك الأيام مرض حزقيا للموت، فجاء إليه إشعياء بن آموص النبي، وقال له: هكذا يقول الرب: أوص بيتك، لأنك تموت ولا تعيش".
لكن الملك حزقيا لم ييأس " فوجه حزقيا وجهه إلى الحائط، وصلى إلى الرب، وقال: آه يا رب، اذكر كيف سرتُ أمامك بالأمانة وبقلب سليم، وفعلتُ الحسن في عينيك، وبكى حزقيا بكاء عظيماً".
ولم يخيبه ربه ، بل استجاب لتضرعه ودعائه " فصار قول الرب إلى إشعياء قائلاً: اذهب وقل لحزقيا: هكذا يقول الرب إله داود أبيك: قد سمعت صلاتك، قد رأيت دموعك، ها أنذا أضيف إلى أيامك خمس عشرة سنة، ومن يد ملك أشور أنقذك وهذه المدينة، وأحامي عن هذه المدينة" (إشعيا 38/ 1-6)، فقد رفع الله حكمه المقدر في حق حزقيا بحكم آخر ، فقد قبِل تضرعه واستغاثته، وقبوله تعالى دعاء عبده البار المسيح من باب أولى.
ومثله في الوعيد الذي توعده الله للملك اخآب ثم عفوه عنه لتضرعه واتضاعه بين يدي ربه. (انظر الملوك (1) 21/19-29).
ومثله أيضاً رفع الله العقوبة التي قررها على بني إسرائيل بعد اتضاع الملك داود له وبنائه لمذبح للرب (انظر صموئيل (2) 24/11-25).
لقد تضرع المسيح ودعا طويلاً في البستان، وطلب من الله أن يصرف كأس الموت والصلب عنه، فهل كان المسيح يجهل أنه سيصلب؟ وإذا كان يعلم أنه سيصلب فما فائدة هذا الدعاء والتضرع؟ أقول: إن قيام المسيح بالدعاء والتضرع لله في البستان دليل على ثقته بأن الله سيستجيب له.
وهل يليق أن يقال بأن الله رد المسيح خائباً بعد هذا التضرع والدعاء، فمثل هذا لا يحصل إلا مع عصاة العباد الذين لا يستحقون رحمة الله ومحبته.
فاستجابة الله للأنبياء والصالحين حال دعائهم أمر مشهود، فقد وعد رسله بالنجاة ؛ كما في رسالة يعقوب " صلاة الإيمان تشفي المريض، والرب يقيمه … طلبة البار تقتدر كثيراً في فعلها، كان إيليا إنساناً تحت الآلام، ومثلنا صلى صلاة أن لا تمطر، فلم تمطر على الأرض ثلاث سنين وستة أشهر، ثم صلى أيضاً، فأعطت السماء مطراً، وأخرجت الأرض ثمرها " ( يعقوب 5/15 – 18).
وقد استجاب الله عز وجل لإبراهيم لما أمره بذبح ابنه، فامتثل لأمر الله، فأنجى الله ابنه واستجاب له طلبه.
ويؤكد العلامة ديدات على قرينة وحدة أفعال الله، لإبطال صلب المسيح والحكم بنجاته، فقد نجى الله النبي دانيال، وإبراهيم، والفتية الثلاثة الذين ألقوا في النار.
أما نجاة إبراهيم، فقد ذكرت في قوله تعالى: ] قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم * فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين [ (الأنبياء: 68 - 70).
وأما دانيال، فقد ألقاه الملك في جُبَّ مع الأُسود، وختم الجب بخاتمه، ثم لما فتحه ناداه: "يا دانيال عبد الله الحي، هل إلهك الذي تعبده دائماً قدِر على أن ينجيك من الأسود؟ فتكلم دانيال مع الملك: يا أيها الملك، عش إلى الأبد، إلهي أرسل ملاكه، وسد أفواه الأسود، فلم تضرني، لأني وجدت بريئاً قدامه وقدامك أيضاً.. فأمر الملك، فأحضروا أولئك الرجال الذين اشتكوا على دانيال، وطرحوهم في جب الأسود، هم وأولادهم، ولم يصلوا إلى أسفل الجب حتى بطشت بهم الأُسود، وسحقت كل عظامهم " ( دانيال 6/15 - 24 ).
وأما الفتية الثلاثة فقد أُلقوا في النار، ولكن " لم تكن للنار قوة على أجسامهم، وشعرة من رؤوسهم لم تحترق، وسراويلهم لم تتغير، ورائحة النار لم تأت عليهم " ( دانيال 3/27 ).
ومما يؤكد استجابة الله للمسيح: ظهور ملاك له ليقويه ( انظر لوقا 22/43 ) فهل كان ذلك الملاك يضحك عليه ويهزأ به، أم يعينه فينجيه؟
وهذا الأخير هو ما يليق بعدل الله ورحمته، فقد استجاب الله للمسيح فأنجاه، وصلب يهوذا الخائن، فهذا أليق بعدل الله وكرمه من القول بعدم استجابته للمسيح، وصلبه وتسليمه إلى مرام أعدائه ومبغضيه.
لقد حفظ الله مسيحه، وأمكنه من النجاة ويسّر له سُبلها، كما يسرها لكثيرين دونه في الفضل والمكانة، منهم بطرس الذي دخل ملاك الرب إلى سجنه، وحطم سلاسله وهو نائم، وأمره بالخروج. (انظر أعمال 12/7 ).
وكذلك زعم لوقا أن بولس نجا من السجن بأعجوبة، فقد تزلزلت الأرض، وتصدع السجن، وتحطمت القيود. وانفتحت الأبواب، فهرب وصاحبه سِيلا من سجنهما. ( انظر أعمال 16/26 ).
كما أن توراة القوم تتحدث عن معونة الله لعدد من القديسين رفعوا إلى السماء، منهم: أخنوخ " وسار أخنوخ مع الله، ولم يوجد لأن الله أخذه " ( التكوين 5/24 ).
ومثله النبي إيليا "وفيما هما يسيران ويتكلمان إذا مركبة من نار، وخيل من نار، ففصلت بينهما، فصعد إيليا من العاصفة إلى السماء " ( الملوك (2) 2/11).
فِلمَ أمكن هذا لبطرس وبولس وغيرهما، ولم يمكن للمسيح، وهو أولى منهم برعاية الله وحفظه؟!
وهكذا، ومن خلال هذه الأمثلة، نرى أن رعاية الله التي أحاطت بالمؤمنين من قبل قد أحاطت بالمسيح، وأنجته من يدي أعدائه، فتحقق ما كان قد تنبأ به بقوله: " والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الأب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه " ( يوحنا 8/9 ).
تنبوءات العهد الجديد بنجاة المسيح
إن خبر تنبؤ المسيح بقتله وصلبه – كما يذكر الإنجيليون - معارَض بنصوص كثيرة، أخبر المسيح تلاميذه فيها بنجاته، بل أعلنها على ملأ اليهود، وتحداهم، وأخبر بأنه غلبهم، وغلب العالم.
وقد تجاهل النصارى هذه الروايات، ولم يلتفتوا إلى الأناجيل وهي تنقل - على استحياء - عن المسيح شهادته بنجاته في نصوص عديدة:
- ومنها قوله حسب ما جاء في يوحنا: " فأرسل الفريسيون ورؤساء الكهنة خداماً ليمسكوه، فقال لهم يسوع: أنا معكم زماناً يسيراً بعد، ثم أمضي إلى الذي أرسلني، ستطلبونني ولا تجدونني، وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا " فمتى حقق المسيح هذه النبوءة؟ متى بحث عنه اليهود فلم يجدوه؟ إنه ولا ريب يوم جاءوا للقبض عليه، فنجاه الله وأخذه إلى المكان الذي لا يقدرون عليه، إلى السماوات العلا.
وقد فهم منه اليهود أنه أراد نجاته منهم " فقال اليهود فيما بينهم: إلى أين هذا مزمع أن يذهب حتى لا نجده نحن؟ ألعله مزمع أن يذهب إلى شتات اليونانيين، ويعلم اليونانيين؟ ما هذا القول الذي قال: ستطلبونني ولا تجدونني، وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا؟" ( يوحنا 7/32 – 36 ).
- ومرة أخرى، جاهر المسيح بنجاته منهم قائلاً: " أعلم من أين أتيت، وإلى أين أذهب، وأما أنتم، فلا تعلمون من أين آتي، ولا إلى أين أذهب ... قال لهم يسوع أيضاً: أنا أمضي، وستطلبونني وتموتون في خطيتكم، حيث أمضى أنا، لا تقدرون أنتم أن تأتوا. فقال اليهود: ألعله يقتل نفسه حتى يقول: حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا. فقال لهم: أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق، أنتم من هذا العالم ...
فقال لهم يسوع: متى رفعتم ابن الإنسان، فحينئذ تفهمون إني أنا هو، ولست أفعل شيئاً من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علمني أبي، والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الأب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه " ( يوحنا 8/21 - 29 ).
- ثم مرة أخرى، لما أعطى يهوذا اللقمة قال لتلاميذه: " يا أولادي أنا معكم زماناً قليلاً بعد، ستطلبونني، وكما قلت لليهود: حيث أذهب أنا، لا تقدرون أنتم أن تأتوا، أقول لكم أنتم الآن ... قال له سمعان بطرس: يا سيد، إلى أين تذهب، أجابه يسوع: حيث أذهب لا تقدر الآن أن تتبعني، ولكنك ستتبعني أخيراً " ( يوحنا 13/32 - 36 )، ولا يمكن أن يكون مقصوده الموت، فإنه مقدور لكل أحد.
- ومنها أيضاً قول المصلوب ( يهوذا ) وهو في المحاكمة: " من الآن يكون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوة الله " ( لوقا 22/69 ) فقد رأى يهوذا نجاة المسيح بما رآه أو سمعه من المسيح عن نجاته، وما شاهده من نجاة المسيح لحظة ألقي الشبه عليه، وهو يخبر أنه في تلك اللحظة، المسيح في السماء، وقد رفع بقوة الله.
- ومن النصوص التي تحدثت أيضاً عن نجاة المسيح قوله: "هو ذا تأتي ساعة وقد أتت الآن، تتفرقون فيها، كل واحد إلى خاصته، وتتركونني وحدي، وأنا لست وحدي، لأن الآب معي، قد كلمتكم بهذا ليكون لكم فيّ سلام، في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم" (يوحنا 16/32 - 33)، وهكذا كان، فقد هربوا جميعاً وتركوه، لكن الله معه، لذا يطلب منهم أن يثقوا أنه غلب العالم، وأن يثقوا أنه في سلام، فأين هذا من القول بصفع المسيح وصلبه وضربه؟
- ومن النصوص الدالة أيضاً على نجاة المسيح قول يوحنا: " من عند الله خرج، وإلى الله يمضي" ( يوحنا 13/3 ) ولو كان المقصود الموت، فكل الناس إلى الله تمضي، والقول بأن مضيه إنما يكون بعد الدفن ثلاثاً، يحتاج لدليل يثبت ذلك.
- ومن النصوص الدالة أيضاً على نجاة المسيح ما جاء في متى " فقال لهم يسوع: هل يستطيع بنو العرس أن ينوحوا مادام العريس معهم ؛ ولكن ستأتي أيام، حين يرفع العريس عنهم، فحينئذ يصومون " ( متى 9/15 )، ومقصده رفعه للسماء.
- ومن ذلك أيضاً: أن في أقوال بولس ما يجعل حادثة الصلب قضية غير مسلم أنها حصلت للمسيح، ويُرى ذلك بالإمعان في هذه الأقوال، يقول بولس: "أما نحن فنكرز بالمسيح مصلوباً، شكاً لليهود، وجهالة للأمم " ( كورنثوس (1) 1/ 23).
- ويشهد الكاتب المجهول لرسالة العبرانيين بنجاة المسيح من الصلب، حين قال في وصف ملكي صادق: " لأن ملكي صادق هذا ملك ساليم، كاهن الله العلي .. بلا أب، وبلا أم، بلا نسب، لا بداءة أيام له، ولا نهاية حياة، بل هو مشبه بابن الله، هذا يبقى إلى الأبد " ( عبرانيين 7/1 -3 ) فيفهم من قوله هذا، أن ليس للمسيح نهاية أرضية سابقة، كما هو الحال في ملكي صادق!
- لكن يبقى أظهر أدلة نجاة المسيح ما قاله كاتب رسالة العبرانيين عن المسيح: " الذي في أيام جسده، إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت، وسمع له من أجل تقواه" ( عبرانيين 5/7 ).
فهذا النص، شهادة ناطقة، بأن الله استجاب للمسيح تضرعه في تلك الليلة التي قضاها في بستان جثماني، وصرف عنه ما كان يحذره ويخافه من الصلب والبلاء، وهذا ما تيقنه المسيح من ربه " أيها الآب أشكرك، لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي" ( يوحنا 11/40-41 ).
وقد رأى المحققون في هذه النصوص نبوءات تتكامل لتؤكد حقيقة واضحة تفيد بنجاة المسيح عليه السلام من يد أعدائه، وأنه سيرفع للسماء، فهو المكان الذي لا يقدرون عليه، ولا يمكن أن يكون مقصده من هذه الأقوال الموت، فإن ذلك أمر يطيقه كل أحد، كما أن أحداً لا يتحدى أعداءه بأنه سيموت وهم لن يستطيعوه.
لقد كان المسيح يتحدى أعداءه وهو يقول: " هو ذا بيتكم، يترك لكم خراباً، لأني أقول لكم: إنكم لا ترونني من الآن، حتى تقولوا: مبارك الآتي باسم الرب " ( متى 23/28 - 29 ).
تنبوءات الأناجيل المرفوضة عند الكنيسة بنجاة المسيح
ومما يؤكد ما ذهب إليه علماؤنا من نجاة المسيح وصلب غيره: ما جاء في إنجيل برنابا، وما وجد في مخطوطات نجع حمادي في مصر؛ حيث كشف بعد الحرب العالمية الثانية عن ثلاثة وخمسين نصاً، تقع في ألف ومائة وثلاثة وخمسين صفحة، ومن هذه النصوص ما تحدث عن نجاة المسيح، وأنه لم يصلب. ([51])
ولم يرد في هذه المخطوطات أيُّ ذِكْرٍ لمحاكمة المسيح وصلبه، بل جاء في إنجيل بطرس على لسان بطرس: "رأيته يبدو كأنهم يمسكون به، وقلت: ما هذا الذي أراه يا سيد ؟ هل هو أنت حقاً من يأخذون؟.. أم أنهم يدقون قدميّ ويديّ شخص آخر؟.. قال لي المخلص: .. من يُدخلون المسامير في يديه وقدميه هو البديل، فهم يضعون الذي بقي في شبهة في العار ! انظر إليّ، وانظر إليه ".
وفي مخطوطة أخرى من هذه المخطوطات وهي كتاب " سيت الأكبر " جاء على لسان المسيح "كان شخص آخر، هو الذي شرب المرارة والخل، لم أكن أنا ... كان آخر الذي حمل الصليب فوق كتفيه، كان آخر هو الذي وضعوا تاج الشوك على رأسه. وكنت أنا مبتهجاً في العُلا .. أضحك لجهلهم ".
وفي مخطوطة " مقالة القيامة " ما يدل على أن المسيح مات موتاً طبيعياً، وأن روحه المقدسة لا يمكن أن تموت. ([52])
وفي أعمال يوحنا وهو أيضاً من أسفار الأبوكريفا أن المسيح قال: "لست أنا يسوع المعلق على الصليب".([53])
أما إنجيل برنابا، فيذكر قصة مقاربة لتلك القصة الموجودة في الأناجيل، فيذكر أن المسيح دعا وتضرع في البستان، وأنه كان معه تلاميذه الأحد عشر، وأن يهوذا جاء مع الجند ليدلهم على مكان المسيح، مقابل ثلاثين من الفضة، وأن التلاميذ كانوا نياماً، وأنهم هربوا لما استيقظوا ورأوا الجند.
وكذا يذكر برنابا أن المأخوذ ( يهوذا ) قد أخذ إلى رئيس الكهنة الذي سأله إن كان هو المسيح، وعرضه على الوالي الذي كان يريد إطلاق سراحه، لقناعته ببراءة المقبوض عليه، لكن الجموع رفضت ذلك.
وثمة نقاط صغيرة كثيرة أخرى تتشابه فيها رواية برنابا والروايات الإنجيلية، لكن رواية برنابا تفترق في نقاط، أهمها:
أن المقبوض عليه هو يهوذا، الذي ألقي عليه شبه المسيح.
أن المسيح أخرجته الملائكة سالماً، وصعدت به إلى السماء، وأنه عاد بعد ذلك واجتمع بتلاميذه، وأخبرهم بحقيقة ما حصل، وبأنه نجا، وأن الذي دفنوه وصلبوه وسرقوه هو يهوذا الأسخريوطي.
أن الجسد المصلوب قد سرقه بعض التلاميذ من القبر، وأشاعوا قيامة المسيح من القبر، ثم يختم بذكر صعوده إلى السماء، بعد وداعه لأمه وتلاميذه.
ومما ذكره برنابا في قصته: " فاعلم يا برنابا أنه لأجل هذا يجب عليّ التحفظ، وسيبيعني أحد تلاميذي بثلاثين قطعة نقود، وعليه فأنا على يقين من أن من يبيعني يقتل باسمي، لأن الله يصعدني في الأرض، وسيغير منظر الخائن، حتى يظنه كل أحد إياي، ومع ذلك لما يموت شر ميتة؛ أمكث في ذلك العار زمناً طويلاً في العالم، ولكن متى جاء محمد رسول الله المقدس، تزال عني هذه الوصمة، وسيفعل الله هذا، لأني اعترفت بحقيقة مسيّا، الذي سيعطيني هذا الجزاء، أي أن أعرف أني حي، وأني بريء من وصمة تلك الميتة.
فأجاب من يكتب (أي برنابا): يا معلم. قل لي من هو ذلك التعيس؟ لأني وددت لو أُميته خنقاً. أجابه يسوع: صه، فإن الله هكذا يريد، فهو لا يقدر أن يفعل غير ذلك، ولكني متى حلت هذه النازلة بأمي، فقل لها الحق، لكي تتعزى ...
وخرج يسوع من البيت، ومال إلى البستان ليصلي، فجثا على ركبتيه مائة مرة معفراً وجهه كعادته في الصلاة ... ولما دنت الجنود مع يهوذا في المحل الذي كان فيه يسوع سُمع دنو جم غفير، فلذلك انسحب إلى البيت خائفاً، وكان الأحد عشر نياماً، فلما رأى الله الخطر على عبده، أمر جبريل وميخائيل ورفائيل وأوريل سفراءه أن يأخذوا يسوع من العالم، فجاء الملائكة الأطهار، وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب، فحملوه، ووضعوه في السماء الثالثة في صحبة الملائكة التي تسبح الله إلى الأبد".
ثم يمضي برنابا هو يصور ما حصل ليهوذا الخائن، فيقول: "ودخل يهوذا إلى الغرفة، دخل يهوذا مندفعاً أمام جميع من كانوا معه إلى الحجرة التي كان فيها عيسى، ثم رفع منها إلى السماء، بينما كان التلاميذ نياماً، على أن الله العظيم القادر على كل شيء، تصرف تصرفاً عجيباً، فحول يهوذا إلى صورة عيسى وهيئته وصوته وأسلوب حديثه تماماً، حتى اعتقدنا أنه عيسى، ولما استيقظنا من النوم كان يدور ليعرف مكان المعلم، أما نحن فعجبنا للأمر، فقلنا له: إنك أنت معلمنا ومولانا، هل نسيتنا؟
فضحك يهوذا، وقال: إنكم لحمقى، ألا تعرفونني؟ أنا يهوذا الأسخريوطي، وفي هذه اللحظة دخل الجنود، ووضعوا أيديهم على يهوذا، فقد كان صورة طبق الأصل لعيسى.
ولما سمعنا نحن قول يهوذا، ورأينا كتائب الجنود هربنا واختفينا، كان يوحنا يلتف بقماش من التيل، فاستيقظ وهرب، ولما أمسك أحد الجنود بقطعة القماش، تركها له، وفر هارباً عاري الجسد، إذ كان الله قد سمع دعوة عيسى، وبالفعل نجا التلاميذ الأحد عشر من كل شر" ( برنابا 214/1 - 216/13).
ثم لما رجع يسوع عليه السلام من السماء لوداع أمه " وبخ كثيرين من الذين اعتقدوا أنه مات، وقام قائلاً: أتحسبونني أنا والله كاذبين، لأن الله وهبني أن أعيش حتى قبيل انقضاء العالم، كما قد قلت لكم، الحق أقول لكم: إني لم أمت، بل يهوذا الخائن. احذروا، لأن الشيطان سيحاول جهده أن يخدعكم ... وبعد أن انطلق يسوع تفرق التلاميذ في أنحاء إسرائيل والعالم المختلفة.
أما الحق المكروه في الشيطان فقد اضطهده الباطل كما هي الحال دائماً، فإن فريقاً من الأشرار المدعين أنهم تلاميذ بشّروا بأن يسوع مات ولن يقوم، وآخرون بشروا بأنه مات بالحقيقة ثم قام، وآخرون بشروا ولا يزالون يبشرون بأن يسوع هو ابن الله، وقد خدع في عدادهم بولس.
أما نحن فإنما نبشر - بما كتبت - الذين يخافون الله، ليخلصوا في اليوم الأخير لدينونة الله" (برنابا 221/15 - 222/6 ).
وهكذا نرى الحقيقة بادية وضوح الشمس في رابعة النهار، نطقت بها النبوات نبياً بعد نبي في جلاء ووضوح عجيب.
ويتساءل المرء: لِمَ لَمْ يتوصل النصارى إلى هذه الحقيقة الجلية ؟
وفي الإجابة عن هذا السؤال يرى منصور حسين أن الطريقة الخاطئة والمغلوطة التي يفكر بها النصارى، هي التي حجبت شمس الحقيقة عنهم. وكمثال لطريقتهم في التفكير، ينقل عن الدكتور ر.أ. ترى في كتابه " كيف تدرس الكتاب المقدس ".
فقد وضع الدكتور النصراني شروطاً ينبغي أن يتحلى بها قارئ الكتاب المقدس، ليحصل على أكبر قدر من الفائدة فمن هذه الشروط: أن يكون القارئ مولوداً ولادة ثانية ( مسيحياً )، وأن يكون محباً للكتاب المقدس، وعنده استعداد للكد والجد في دراسته....
ويتوقف منصور حسين مع شرطين مهمين:
أولهما: أن يكون عند الدارس " إرادة مسلَّمة تسليماً كاملاً.... ".
وثانيهما: " أن ندرسه باعتباره كلمة الله ".
فيرى الأستاذ منصور حسين أن هذين الشرطين يفرضان على قارئ الكتاب المقدس التسليم والإيمان بأن ما يقرأه هو وحي الله، الذي لاشك فيه ولا لبس، مهما ظهر فيه من التناقض، والخطأ، والتعارض مع المعتقدات النصرانية.
فمثلاً: عندما يقرأ النصراني في المزمور قوله: " أما أنا فدودة لا إنسان، عار عند البشر" (المزمور 22/6) يجد أنه من غير المنطقي أن يكون هذا عن المسيح، لكنه يسلم لمشيئة مؤلفي العهد الجديد، فيقول بأنه نبوءة عن المسيح رغم استحالتها بحقه.
ويفعل الشيء نفسه، وهو يقرأ " الرب مخلص مسيحه " ( المزمور 20/6 ) وهكذا فهم يضعون النتائج أولاً، ثم يقرؤون الكتاب المقدس.
وهكذا، فإن المتأمل لهذين الشرطين " ليكاد يقطع بأن واضعهما يعرف – بيقين - أن لو أطلقت للباحث حرية البحث عن الحقيقة وحدها، فإنه سينتهي من العهد القديم إلى ما يخالف ما جاء به العهد الجديد ( من حديث عن صلب المسيح )، فيصل إلى أن الله مخلص مسيحه، ورافعه إليه، وأن الذي سيقبض عليه ويحاكم ويصلب هو يهوذا ".([54])
كيفية نجاة المسيح من المؤامرة
وإذا كانت الأدلة قد شهدت للمسيح بالنجاة، وأن مؤامرة الأشرار لن تلحق به الأذى، فنجا المسيح من الموت على الصليب الذي أراده له أعداؤه.
فإن ثمة سؤالاً يطرح نفسه: كيف نجا المسيح ؟
وكما أسلفنا فإن القرآن والسنة النبوية لا يذكران كيفية نجاة المسيح، وكل ما ذكره القرآن أن الله شبه عليهم غير المسيح، فأخذوه وليس لهم به علم يقيني.
لذا نعود إلى قصة الأناجيل وهي تتحدث عن الصلب المزعوم، لنرى كيف نجا المسيح ؛ ولابد لنا هنا من قراءة ما بين سطور القصة الإنجيلية، لتلمس الحقيقة التي يصرح الإنجيليون بخلافها.
وبداية نذكر أن المسلمين لا يرون كثير ضير بالقول بالكثير من التفصيلات التي أوردتها الأناجيل، وإن كنا نشك في حصول بعضها، لكن نقبلها تنزلاً مع محاورينا من النصارى، ومنها:
1) أن المسيح خرج إلى البستان برفقة تلاميذه، وأنه أخبرهم بأنه سيتعرض لمؤامرة من أحد التلاميذ مع اليهود الذين يريدون صلبه.
2) أن المسيح دعا في تلك الليلة طويلاً، وبإلحاح كبير طالباً من الله أن يصرف عنه كأس الموت.
3) أن المسيح استسلم لقضاء الله وقدره، فقال: " ليس كما أريد أنه بل كما تريد أنت " (متى 26/39 ) وقال: " فلتكن مشيئتك" ( متى 26/41 ).
4) المسيح يصلي، والتلاميذ نيام، ويحاول إيقاظهم مرة بعد مرة.
5) وصل يهوذا الأسخريوطي الخائن، ومعه الجند، يحملون مشاعل وسيوفاً وعصياً، للقبض على المسيح، وقد جعل يهوذا علامة للجند أن يقبل المسيح.
6) وصلت الجموع؛ فخرج إليهم المسيح، وقال: من تطلبون ؟ فأجابوه: يسوع الناصري. فقال المسيح: " أنا هو ... فلما قال لهم: إني أنا هو، رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض " (يوحنا 18/5-6 ).
7) حاول بطرس الدفاع، لكنه كان أعجز من ذلك، فهرب وجميع التلاميذ.
8) اقتيد المأخوذ ( وهو غير المسيح) للمحاكمة عند رئيس الكهنة، ثم بيلاطس، وبطرس يتابعه في بعض ذلك، وقد أنكره تلك الليلة ثلاث مرات.
9) في المحاكمة سأل رئيس الكهنة، واستحلف المأخوذ إن كان هو المسيح، فأجابه: "أنت قلت، وأيضاً أقول لكم: من الآن، تبصرون ابن الإنسان جالساً يمين القوة، وآتياً على سحاب السماء " ( متى 26/64 ).
10) حكمت المحكمة على المأخوذ بالقتل، واقتيد إلى بلاط بيلاطس الذي سأله: إن كان هو ملك اليهود، فأجابه: " أنت تقول "، ثم لم يجبه بكلمة واحدة، حتى تعجب بيلاطس منه.
11) لم يجد الوالي للمأخوذ علة في المقبوض عليه يستحق عليها القتل، فأراد أن يطلقه، لكن الجموع أصرت على صلبه، وإطلاق باراباس، فأعلن براءته من دم هذا البار، وأسلمه لهم.
12) اقتيد المأخوذ إلى موضع الصلب، وصلب بجوار لصين.
13) صرخ المصلوب على الصليب، فسقوه خلاً، ثم أسلم الروح.
ويفترق المسلمون عن الأناجيل في مسألة مهمة، وهي من هو المأخوذ من ساحة القبض على المسيح؟ فيراه المسلمون يهوذا الأسخريوطي، التلميذ الخائن، ويلزمنا إقامة الدليل على ذلك، إذ هي موضع النزاع، وقد كنا قد أقمنا الأدلة على ذلك من سفر المزامير.
ولتصور القول بأن يهوذا هو المأخوذ، وأنه حصل التباس عند آخذيه، فإنا نتصور الجموع الكثيرة والتي تقارب الألف وهي تسير، تحمل المشاعل والسيوف والعصي، وتتكون من جنود وغوغاء يتقدمهم يهوذا.
ولما وصل الجمع إلى المسيح كان التلاميذ نياماً، وقد حاول المسيح إيقاظهم مراراً فلم يستطع، برغم أن الموقف كان صعباً، فقد كانت عيونهم ثقيلة، واقتربت الجموع من المسيح يتقدمهم يهوذا، والتلاميذ نيام " فلما قال لهم: إني أنا هو، رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض " (يوحنا 18/6).
وهنا نتوقف ملياً، لنقرأ ما غفلت عن ذكره السطور.
فما فائدة سقوطهم على الأرض؟ وما الذي أسقطهم؟ وماذا أفاد المسيحَ سقوطهم، إذا كانوا سيقبضون عليه بعدها ؛ وَلم لَمْ يتكرر السقوط عندما أرادوا أخذه بعدها؟
ولنحاول أكثر أن نتصور ما حدث في تلك اللحظة، فقد اقترب يهوذا لتقبيل المسيح كعلامة للجند على أنه المطلوب، وفي تلك اللحظة اقترب الجند، حملة المشاعل والسيوف للقبض على المسيح، فتدخلت قدرة الله العظيم - كما ذكر يوحنا-، فسقطوا على الأرض، بعد أن رجعوا للوراء.
ولك أن تتخيل ما حصل، من هرج، وتدافع، من جراء سقوط مقدمة هذه الجموع التي تحمل المشاعل، والتي هي فقط تنير لها ظلمة الليل البهيم.
بعد ذلك الاضطراب والفوضى قام الساقطون من الأرض، وأفاقوا من ذهولهم لما حصل لهم، ورأوا يهوذا وحده مبهوتاً أصابه الذهول، وقد رأى المسيح يرفع للسماء، وقد ألقى الله عليه الكثير من شبه المسيح، ولكن من سيتوقع أن هذا المذهول هو يهوذا، ومن الذي يعرفه وقتذاك؟
فكانت لحظةُ وقوع الجند: لحظة الخلاص كما وصفتها المزامير " الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه ... هم جثوا وسقطوا، أما نحن فقمنا وانتصبنا " ( المزمور 20/8 ).
وفي مزمور آخر: " أما أنت فتبارك، قاموا وخزوا" ( المزمور 109/28 ).
وفي مزمور آخر يسجل تلك اللحظة الخالدة: "حينئذ ترتد أعدائي إلى الوراء " ( المزمور 56/9 )، و "ليرتد إلى خلف، ويخجل المشتهون لي شراً " ( المزمور 70/2 )، و" عندما اقترب إلي الأشرار ليأكلوا لحمي، ومضايقي وأعدائي عثروا وسقطواً" ( المزمور 27/2 )، "ليخز وليخجل معا الذين يطلبون نفسي لإهلاكها، ليرتد إلى الوراء، وليخز المسرورون بأذيتي" (المزمور 40/14-15) وغيرها.
بعدها حُمل يهوذا إلى المحاكمة وإلى ديوان بيلاطس، والشك في حقيقة شخصه يلاحقه في كل هذه الخطوات، فقد شك فيه رئيس الكهنة، وكانت إجاباته لبيلاطس وهيرودس تنبئ عن الذهول الذي أصابه، وعن عجزه عن بيان الحقيقة، التي لن يقنع أحداً إن ذكرها، فكان يجيبهم: " أنت تقول" ( متى 27/11 ).
ولما اجتمع في النهار مشيخة الشعب، ورؤساء الكهنة، " وأصعدوه إلى مجمعهم قائلين: إن كنت أنت المسيح، فقل لنا. فقال لهم: إن قلت لكم لا تصدقون، وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني. منذ الآن يكون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوة الله. فقال الجميع: أفأنت ابن الله؟ فقال لهم: أنتم تقولون: إني أنا هو " ( لوقا 22/66 - 70 ).
ولا يفسر هذه الإجابات الغريبة، بل وتلك الأسئلة الغريبة من أناس كانوا يرون المسيح في كل يوم، لا يفسره إلا أن نقول بأن المأخوذ هو غير المسيح، وإن أشبهه، وهذا الشبه حير رؤساء الكهنة في حقيقة المأخوذ، فحاولوا استجلاء الحقيقة بسؤال المأخوذ، فلم ينكر ولم يثبت.
وأما يهوذا فقد عرف أن لا فائدة من إنكاره، إذ لن يصدقه أحد، ولربما ولفرط ندمه قد استسلم لرداه، ورضي بعقوبة الله له، أن يصلب عن المسيح، لعله بذلك أن يفديه، لذلك تكرر سكوته.
وهذا الموقف ليس بعيداً عمن ذكرت الأناجيل أنه لفرط ندمه خنق نفسه، وانتحر.
لقد تحققت فيه نبوءات المزامير "وإذا حوكم فليخرج مذنباً ... ووظيفته ليأخذها آخر" (المزمور 109/6 - 8 )، لقد أتى ليخطف المسيح، فلم يستطع .. "حينئذ رددت الذي لم أخطفه" ( المزمور 69/4 ).
وقد يشكل هنا أن متى ذكر في إنجيله أن يهوذا مات مخنوقاً ( انظر متى 27/2 - 5 )، ويكفي في دفعه أن نتذكر ما ذكره سفر أعمال الرسل عن موته حين سقوطه وخروج أحشائه. (انظر أعمال 1/16 - 20 )، وسبب وقوع الإنجيليين في هذا التناقض اختفاء يهوذا، فاخترع كل من متى ولوقا نهاية ليهوذا تليق بجريمته، فهذا التناقض بين الروايتين الإنجيليتين، مشعر بوجود نهاية حقيقية، خفيت على الكاتبين، ودفعتهما لاختلاق روايتيهما.
وقد يعترض معترض بذكر بعض الأحداث التي حصلت بعد وقوع الجموع، فقد ذكر الإنجيليون أن بطرس حمل السيف، وضرب أذن العبد فأمره المسيح برد السيف، لأن من ضرب بالسيف يؤخذ به، فهرب بطرس والتلاميذ. (انظر يوحنا 18/10 - 19 )، وهذه القصة يجعلها يوحنا بعد حادثة تراجع الجند، ووقوعهم على الأرض.
ومثله ذكر يوحنا أيضاً بعد سقطتهم، أن المسيح سألهم: " من تريدون ؟ فقالوا: يسوع الناصري. أجاب يسوع: قد قلت لكم إني أنا هو ... ثم إن الجند والقائد وخدام اليهود قبضوا على يسوع، وأوثقوه " ( يوحنا 18/7 - 12 ).
كما قد يعترض معترض بذكر ما انفرد به يوحنا، وهو حضور أم المسيح إلى ساحة الصلب، فيقول: لا يصح أن يخفى عليها حقيقة المصلوب، وأن ليس ابنها.
لكن أمثال هذه النصوص التي لن يستطيع أحد أن يثبت وقوعها أو عصمة كُتابها لكثرة ما رأينا من أخطائهم وتناقضاتهم، ولا تنهض مثل هذه الروايات في الرد على نبوءات المزامير والأناجيل، وإلحاقُها بتناقضات الأناجيل وأخطائها أَوْلَى.
وقد يعترض معترض على رفع المسيح ونجاته مستشهداً بروايات القيامة التي تشير إلى وجود أرضي للمسيح بعد حادثة الصلب، وهو اعتراض لا يعول عليه في مثل هذه المسألة لأنه بعض تلك الروايات المفككة، وهو على كل حال لا يتعارض مع نجاة المسيح من الصلب، بل نراه مؤكداً وشاهداً بها، فوجود المسيح يدل على أنه مازال حياً، وتخفيه من اليهود والرومان بصورة البستاني (انظر يوحنا 20/14 - 15 )، وبهيئات أخرى منعت التلاميذ مجتمعين من معرفة شخصه، (انظر لوقا 24/13 - 19، ويوحنا 21/1 - 7). وكل هذا دليل على نجاة المسيح من الموت، لا قيامته منه.
فلو كان المسيح قد قهر الموت لما خافه ثانية، ولما تخفى من اليهود، إذ الموت لا يتسلط عليه ثانية كما قال مؤلف الرسالة إلى العبرانيين: " وكما وضع للناس أن يموتوا مرة ، ثم بعد ذلك الدينونة " ( عبرانيين 9/27 ) ، وفي رسالته إلى أهل رومية يقول بولس: " نؤمن أننا سنحيا أيضاً معه، عالمِين أن المسيح بعد ما أقيم من الأموات لا يموت أيضاً ، لا يسود عليه الموت بعد " ( رومية 6/8 - 9 )، وهكذا فلا مبرر لتخفيه إلا إذا كان قد نجى من الموت، ويخشى أن يفطن أعداؤه لنجاته، فيستدركوا ما فاتهم.
وقد ذكر برنابا في إنجيله أن المسيح بعد نجاته وصعوده للسماء عاد ثانية لوداع أمه قبل أن يرفع من جديد (انظر برنابا 219)
ويقول برنابا، وقد كشف له المسيح عن الحقيقة بعد هلاك يهوذا: " يا معلم: إذا كان الله رحيماً، فلماذا عذبنا بهذا المقدار، بما جعلنا نعتقد أنك كنت ميتاً؟ ولقد بكتك أمك حتى أشرفت على الموت .. أجاب يسوع: ... فلمّا كان الناس قد دعوني الله وابن الله على أني كنت بريئاً في العالم، أراد الله أن يهزأ الناس بي في هذا العالم بموت يهوذا، معتقدين أنني أنا الذي مت على الصليب، لكيلا تهزأ الشياطين بي في يوم الدينونة، وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله، الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله " ( برنابا 220/ 14-20 ).
وقد كان، فأخبر محمد صلى الله عليه وسلم بالحقيقة التي غابت عن النصارى طويلاً، وصدق الله وهو يقول: } وقولهم إنّا قتلنا ٱلمسيح عيسى ٱبن مريم رسول ٱللّه وما قتلوه وما صلبوه ولـٰكن شبّه لهم وإنّ ٱلّذين ٱختلفوا فيه لفي شكّ مّنه ما لهم به من علمٍ إلاّ ٱتّباع ٱلظّنّ وما قتلوه يقيناً * بل رّفعه ٱللّه إليه وكان ٱللّه عزيزاً حكيماً { (النساء: 157-158).
الشك في شخص المصلوب
ذكرنا أن القرآن الكريم لم يكذب حصول حادثة الصلب، والذي ذكره القرآن يفهم منه حصول حادثة الصلب، لكن لغير المسيح عليه السلام، ولم يحدد القرآن شخص المصلوب، لكنه أفاد بوقوع شبه المسيح عليه، فصلب بدلاً عن المسيح عليه السلام.
وقد أخبر القرآن الكريم أن الذين يدعون صلب المسيح ليس لهم به علم يقيني، بل هم يشكون في شخص المصلوب على رغم شبهه بالمسيح، لكنه يقيناً ليس بالمسيح عليه السلام. قال الله تعالى: ] وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً [ (النساء: 157).
وهذا الذي ذكره القرآن تصدقه النصوص الإنجيلية التي ذكرت شك الجنود واليهود في شخص المصلوب، وقد وقعت يومذاك عدة صور للشك:
أولها: أن من جاءوا للقبض عليه أنكروا وجهه وصوته، ولم يعرفوه حيث خرج إليهم وقال: من تطلبون؟ فأجابوه: يسوع الناصري، فأخبرهم بأنه هو، بيد أنهم لم يسارعوا للقبض عليه، فأعاد عليهم السؤال، فأعادوا الجواب. ( انظر يوحنا 18/3 - 8 ).
فهذا يدل على شكهم في شخصه، والسؤال المثير للاستغراب: كيف وقعوا بهذا الشك، والمسيح قد عاش بين أظهرهم، وهو أشهر من علم؟
ثانيها: شك رئيس الكهنة في شخصية المأخوذ، وهو أمر جِد مستغرب، إذ المسيح كان يجلس في الهيكل، ويتحدث مع الكهنة ورؤسائهم، ورأوه وهو يقلب موائد الصيارفة في الهيكل ( انظر متى 21/12 - 15، 23 - 46 ).
وقد قال لهم حين جاءوا لأخذه: " كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصيٍ لتأخذوني، كل يوم كنت أجلس معكم أعلم في الهيكل، ولم تمسكوني " ( متى 26/55 ).
ويظهر الشك جلياً في قول رئيس الكهنة له أثناء المحاكمة: " أستحلفك بالله الحي، أن تقول لنا: هل أنت المسيح ابن الله؟ " ( متى 26/62 – 64 ).
ويجلي لوقا ذلك فيقول: " ولما كان النهار، اجتمعت مشيخة الشعب، ورؤساء الكهنة والكتبة، وأصعدوه إلى مجمعهم قائلين: إن كنت المسيح فقل لنا، فقال لهم: إن قلت لا تصدقون، وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني، منذ الآن يكون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوة الله، فقال الجميع: أفأنت ابن الله؟ فقال لهم: أنتم تقولون: إني أنا هو " ( لوقا 22/66 - 70 ).
فنلاحظ أن الجميع كان منشغلاً بتحقيق شخص المأخوذ، حتى في محاكمته.
ونلحظ أيضاً أن إجابة المأخوذ كانت: " أنت قلت "، وقال لبيلاطس: " أنت تقول "، بمعنى أنه لم يصدق كلامهم ولم يكذبه، لكنه قال لهم: هذا ما تقولونه أنتم.
ولكن الآباء اليسوعيون يعلقون في نسخة الرهبانية اليسوعية على هذا النص بقولهم: "المعنى أن يسوع يرفض هذا اللقب".
ثم ما هي الإجابة التي لن يصدقها رؤساء الكهنة؟ ولو صدقوها لأطلقوه؟ هي بلا شك: أنه ليس المسيح، بل يهوذا.
وأما عيسى فقد أخبرهم يهوذا عن مكانه فقال: " منذ الآن يكون ابن الانسان جالساً عن يمين قوة الله " (لوقا 22/69)، أو كما قال متى: " من الآن تبصرون ابن الانسان جالساً عن يمين القوة، وآتياً على سحاب السماء " ( متى 26/64 ).
وقد يسأل سائل: كيف عرف يهوذا مكان المسيح ؟ والجواب بسيط، لقد رأى يهوذا المسيح وهو ينجو ويصعد به إلى السماء، يوم أن أُلقي القبض عليه، بعد وقوع الجند.
وهنا قد يتساءل البعض، لماذا شك الجند ورئيس الكهنة والكهنة في شخصية المأخوذ؟
وفي الإجابة نقول: لقد كانوا يعهدون في المسيح معالم معنوية، في كلامه، وذكائه، وشجاعته، وعلمه، بل وصوته، وهم اليوم لا يرون شيئاً من ذلك في الشخص الماثل أمامهم.
ولهذه المعالم المفقودة في المأخوذ احتقر هيردوس المقبوض عليه، بينما يتوقع أن يرى المسيح العظيم الذي طالما سمع عنه: " وأما هيردوس فلما رأى يسوع فرح جداً، لأنه كان يريد من زمان طويل أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة، وترجى أن يرى آية تصنع منه، وسأله بكلام كثير، فلم يجبه بشيء ... فاحتقره هيرودس مع عسكره، واستهزأ به " ( لوقا 23/8 - 11 )، لقد رآه هيرودس دون الرجل العظيم الذي كان يسمع عنه، بل لم يجد لديه أياً من معالم العظمة التي كان يسمع عنها.
وفي ذلك كله تصديق لما أخبر عنه القرآن الكريم، قبل قرون طويلة من الشك في شخصية المصلوب، فقد قال الله تعالى موضحاً حالهم مع المصلوب وحيرتهم في شخصه: ] وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً [ (النساء: 157).
إمكانية نجاة المسيح
كما تتحدث النصوص الإنجيلية عن بعض ما أوتيه المسيح عليه السلام من تأييد الله له، وهذه الأعاجيب التي أوتيها تجعل نجاته - في تلك الليلة في بستان جثسماني - ممكنة، وذلك لما منحه الله من قدرات مكنته مراراً من الإفلات من كيد اليهود، وهي ما تجعل نجاته يوم جاءوا للقبض عليه أمراً متوقعاً غير مستنكر ولا مستغرب.
بل الزعم بتمكن اليهود وجند الرومان منه يثير سؤالاً كبيراً: أين اختفت هذه القدرات وتلك المعونة الإلهية له؟ هل أسلمه الله بعد طول حمايته وتأييده له، فتخلى عنه في أصعب الأيام وأضيقها.
فالمسيح - حسب ما ذكرت الأناجيل - قد أعطاه الله عز وجل قدرة على النجاة، والهروب من بين يدي أعدائه، فقد اختفى منهم أكثر من مرة لماّ أرادوا به شراً، فمن الطبيعي والمنطقي أن يهرب منهم يوم جاءوا للقبض عليه.
وأمثلة هذه القدرة الباهرة كثيرة منها:
- قول لوقا: "فامتلأ غضباً جميع الذين في المجمع حين سمعوا هذا، فقاموا وأخرجوه خارج المدينة، وجاءوا به إلى حافة الجبل الذي كان مدينتهم مبنية عليه، حتى يطرحوه إلى أسفل، أما هو فجاز في وسطهم، وانحدر إلى كفر ناحوم" ( لوقا 4/28 - 31 )، لقد أفلت من أيديهم بطريقة خارقة.
- ولما كان في الهيكل، وكثر الجدال بينه وبين اليهود، هموا بقتله " فرفعوا حجارة ليرجموه. أما يسوع فاختفى، وخرج من الهيكل مجتازاً في وسطهم ومضى " ( يوحنا 8/59 ).
- وفي مرة أخرى جادلهم " فطلبوا أن يمسكوه، ولم يلق أحدٌ يداً عليه، لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد، فآمن به كثيرون في الجمع، وقالوا: ألعل المسيح متى جاء يعمل أكثر من هذه التي عملها هذا " ( يوحنا 7/30 - 31 )، وقولُ إنجيل يوحنا: "لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد" قولٌ لا يلزمنا فإنه يؤمن بصلب المسيح، ويحاول أن يبرر اختفاء هذه الخاصية عند القبض على المسيح.
- وفي يوم العيد حصل مثله " فحدث انشقاق في الجمع لسببه، وكان قوم منهم يريدون أن يمسكوه، ولكن لم يُلق أحد عليه الأيادي " ( يوحنا 7/43 - 44 ).
- ولما تمشّى في رواق سليمان، وأسمعهم دعوته " فطلبوا أن يمسكوه فخرج من أيديهم، ومضى أيضاً إلى عبر الأردن " ( يوحنا 10/39 - 40 )، لقد كان يهرب منهم في كل مرة بطريقة تحيرهم، إنها حماية الله وتأييده.
- ولما كان في الخزانة في الهيكل، حاولوا إمساكه " ولم يمسكه أحد، لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد " ( يوحنا 8/20 ).
ويبقى السؤال أين اختفت هذه الخاصية للمسيح يوم المؤامرة العظمى؟ فلئن استعملها في الهرب من عامة اليهود، فاستعمالها في الهرب من الجند أَوُلَى.
في هذه النصوص تصديق لما أخبر الله عز وجل عنه في شأن المسيح، حيث قال وهو يعدد نعمه على المسيح: ] وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين [ (المائدة: 110)، لقد رموه بالسحر بسبب ما أمده الله من المعجزات الباهرة التي أعيتهم.
ومما تذكره الأناجيل من قدرات المسيح التي أمده الله بها قدرته على اختراق الحجب، يقول يوحنا: "ولما كان عشية ذلك اليوم وهو أول الأسبوع، وكانت الأبواب مغلقة حيث كان التلاميذ مجتمعين لسبب الخوف من اليهود، جاء يسوع، ووقف في الوسط، وقال لهم: سلام لكم" ( يوحنا 20/19 ).
وفي رواية لوقا للقصة ذاتها لم يذكر إغلاق الأبواب، وإن ذكر ما يشعر بوجود أعجوبة "وفيما هم يتكلمون بهذا، وقف يسوع نفسه في وسطهم، وقال لهم: سلام لكم، فجزعوا وخافوا، وظنوا أنهم نظروا روحاً" ( لوقا 24/36 - 37 ).
كما ثمة أعجوبة أخرى، تجعل نجاة المسيح وخلاصه من أيدي كائديه ممكناً، ألا وهي ما تذكره الأناجيل من قدرة المسيح على تغيير هيئته وشكله، حتى يعجز المقربون منه عن معرفته، وقد صنع ذلك مراراً.
فقد خفي شخصه بعد القيامة على تلاميذه مرات عديدة، فخفي على مريم المجدلية التي هي من أقرب الناس إليه، وظنته البستاني، ولم تعرفه إلا بعد برهة. ( انظر يوحنا 20/14 - 15 ).
وكذلك خفي شخصه على التلميذين المنطلقين لعمواس، ولم يعرفاه إلا بعد أن بارك لهما طعامهما. (انظر لوقا 24/13 - 19 ).
وخفي أمره أيضاً على التلاميذ مجتمعين، وهم يصيدون في بحيرة طبريا، وكان أول من عرفه بعد وقت طويل يوحنا. ( انظر يوحنا 21/1 - 7 ).
كما تقرر الأناجيل تغير شكله في أحداث قبل الصلب، ومن ذلك: ما ذكره لوقا "وفيما هو يصلي صارت هيئة وجهه متغيرة، ولباسه مبيضاً لامعاً، وإذا رجلان يتكلمان معه، وهما موسى وإيلياء" ( لوقا 9/29 ).
ويذكر متى أنه أخذ بطرس ويعقوب ويوحنا "وصعد بهم إلى جبل عالٍ منفردين، وتغيرت هيئته قدامهم" ( متى 17/1 - 2 ).
فلئن صح أن المسيح يقدر على تغيير شكله حتى يخفى أمره على الخُلَّص من تلاميذه، فهو دليل على قدرته على الخلاص والنجاة من أيدي أعدائه، وهذا لا ريب يلجأ إليه في الشدائد، والمؤامرة الأخيرة عليه من أشدها.
وقد رأينا مما سبق اتفاق القرآن مع النصوص التوراتية والإنجيلية، التي تقول وتتنبأ بنجاة المسيح، ورفعه إلى السماء، ورأينا كيف أن هذا الأمر ممكن، وليس غريباً على قدرة الله العظيم.
بولس واختلاق قصة صلب المسيح
ويبقى السؤال موجهاً للمسلمين المنكرين لصلب المسيح: من أين وردت على النصارى مقالة صلب المسيح؛ وهل خفي عليهم حقيقة المصلوب؟ أم خفي عليهم ذلك وقت الصلب، ثم كُشف لهم بعد ذلك لكنهم استمرؤوا الباطل ؟
وفي الإجابة عن هذا التساؤل نقول: إن الأناجيل الأربعة مخطوطات قديمة، كتبها أشخاص في أوقات مختلفة، حسب ما تناهى إلى مسامعهم من الروايات الشفهية المتناقلة، وهم لم يدَّعوا لأنفسهم الإلهام ولا ادعوا لكتبهم العصمة والقدسية، فكتب كلُُّ حسب ما سمع، مناقضاً الآخرين، أو موافقاً لهم.
ونجاة المسيح ورفعه أمر خفِيَ على الكثيرين من معاصري المسيح، فظنوا أن المصلوب هو المسيح، إذ لم يشاهد معجزة رفع المسيح إلا يهوذا الخائن، عندما أخذوه في لحظة التسليم، وقد شبه عليهم، وهم في شك منه كما تبين لنا قبلُ.
ويرى المحققون أن فكرة صلب المسيح هي بعض مبتدعات بولس، الذي وجد في قصة الصلب القلب النابض للمسيحية الجديدة التي أنشأها، والتي يؤكد عليها بولس في رسائله، ومنها قوله: "لأني لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً" ( كورنثوس (1) 2/2 ).
وقد امتلأت رسائله بالتأكيد على صلب المسيح، مما حدا بأرنست دي بوش الألماني للقول في كتابه: " الإسلام: أي المسيحية الحقة ": "إن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء هو من مبتكرات ومخترعات بولس ومَن شابهه، من الذين لم يروا المسيح، وليست من أصول النصرانية الحقة". ([55])
وقد استغل بولس الاضطراب الذي حصل في حقيقة ما جرى للمسيح، بين قائل بأنه صلب، وقائا: إن المصلوب غيره، أو سوى ذلك مما أشيع في تلك الأيام .. ووظفه، وجعله قاعدة لضلالته المسماة "الفداء".
ونعود لبولس لنتساءل عن موقف النصارى الأوائل من دعواه صلب المسيح، التي كتبها الإنجيليون بعد وفاته.
ونحاول معرفة موقف تلاميذ المسيح والمسيحيون الأوائل بالتأمل في رسائل بولس التي أكدت صلب المسيح وأهمية هذا الحدث كمعتقد، لكنها حملت في طياتها أيضاً موقف الحواريين والأتباع الأوائل الرافض لبدع بولس ومن ضمنها ولا ريب عقيدة الصلب.
ونرى هذا الموقف جلياً في قول بولس وشكواه في رسالته لتيموثاوس: "أنت تعلم هذا، أن جميع الذين في آسيا ارتدوا عني" ( تيموثاوس (2) 1/15 )، لقد هجره جميعهم وارتدوا عنه، لماذا؟ لا ريب أنهم كانوا يرفضون تبشيره.
وفي رسالته لأهل غلاطية يشكو من أولئك الذين كذبوه "إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعاً عن الذي دعاكم بنعمة المسيح، إلى إنجيل آخر، ليس هو آخر، غير أنه يوجد قوم يزعجونكم، ويريدون أن يحولوا إنجيل المسيح، ولكن إنْ بشَّرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشّرناكم فليكن أناثيما" ( غلاطية 1/6 - 8)، إنه يعاني مشكلات في تبشيره الذي يزعم أنه الحق، بينما هناك مزعجون يرفضون هذا التبشير.
ويرى المحققون أن الحواريين ما كانوا يعرفون شيئاً عن صلب المسيح، بدليل خلو رسائلهم الموجودة في العهد الجديد من الحديث عن المسيح المصلوب.
يقول المؤرخ فوتيوس: إنه قرأ كتاباً يسمى "رحلة الرسل" في أخبار بطرس ويوحنا واندراوس وتوما وبولس، ومما قرأ فيه: "إن المسيح لم يصلب، ولكن صلب غيره، وقد ضحك بذلك من صالبيه". ([56])
وتظهر المعارضة الصريحة لدعوى بولس صلب المسيح من الحواري "برنابا" في إنجيله الذي تتنكر له الكنيسة، وقد ذكر في مقدمته سبب تأليفه لهذا الإنجيل فيقول: "الذين ضل في عدادهم أيضاً بولس، الذي لا أتكلم عنه إلا مع الأسى، وهو السبب الذي لأجله أسطر ذلك الحق، الذي رأيتهُ وسمعتهُ أثناء معاشرتي ليسوع لكي تخلصوا، ولا يضلكم الشيطان فتهلكوا في دينونة الله، وعليه، فاحذروا كل أحد يبشركم بتعليم جديد مضاد لما أكتبه، لتخلُصوا خلاصاً أبدياً" ( برنابا مقدمة /7 - 9 ).
وكانت الفرق المسيحية المنكرة للصلب صدى لإنكار الحواريين على بولس كما قد سبق تفصيله.
كما تكشف لنا الكشوف الأثرية عن إنجيل اكتُشف حديثاً في نجع حمادي منسوباً للحواري المقرب بطرس، ينكر فيه صلب المسيح، ويقول برفعه قبل إجراء الصلب.
ويعترف النصارى من مفسري الأناجيل بحدة الخلاف لبولس وتلاميذه، في مسألة صلب المسيح، وأن هذا الخلاف دعا الإنجيليين إلى التأكيد على أن المسيح قد صلب كما قال بولس الذي سبقت رسائله الأناجيل الأربعة في تاريخ كتابته.
فنقل أصحاب الأناجيل فيما بين سطور الأناجيل الإنكار على بولس وتكذيب صلب المسيح، نقلوا ذلك حين كانوا يؤكدون على بعض التفصيلات والجزئيات التي قد يلج منها منكرو صلب المسيح، يقول مرقس: "ثم خرجوا به ليصلبوه، فسخروا رجلاً مجتازاً كان آتياً من الحقل، هو سمعان القيرواني أبو الكسندروس وروفس ليحمل صليبه" ( مرقس 15/20 - 23 ).
يقول المفسر دنيس نينهام في تفسيره لمرقس (ص 422): " يبدو أن الغرض من هذه الفقرة هو ضمان صحة القصة؛ التي تقول بأن سمعان قد حمل الصليب، وما من شك في أن أحد الأسباب في الحفاظ على هذه التفاصيل الشخصية في الإنجيل؛ كان الغرض منه تذكير القراء بأن لديهم مصدراً للمعلومات عن الصلب، جديرًا بالثقة .. ولعل السبب في حذف هذه الرواية والخاصة بحمل سمعان القيرواني للصليب من إنجيل يوحنا، هو الادعاء: بأن سمعان قد حل محل يسوع، وصُلب بدلاً منه، ولا يزال سارياً في الدوائر الغنوسطية، التي كانت لها الشهرة فيما بعد ".
وهكذا نفهم سبب مخالفة يوحنا للأناجيل الثلاثة في مسألة "من حمل الصليب" فيقرر أنه المسيح حمل صليبه بنفسه فيقول: " فأخذوا يسوع، ومضوا به فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع الذي يقال له موضع الجمجمة .. حيث صلبوه " ( يوحنا 19/16 - 18 ).
وينبه جون فنتون شارح إنجيل متى (ص 440) إلى وقوع مثل هذا الفعل من متى، عندما عدَّل ألفاظ مرقس وهو ينقل عنه في أحداث اللحظة التي بعد اقتسام الثياب والاقتراع عليها، حيث يقول مرقس: " وكانت الساعة الثالثة فصلبوه " ( مرقس 15/25 ) لكن متى يغير، فيقول بعدها: " ثم جلسوا يحرسونه هناك" ( متى 27/36 )، فتكلم متى عن حراسة يسوع أثناء الصلب وبعده.
ويكمل فنتون بالقول أن ذلك "إنما يرجع إلى وجود أناس قالوا بأن يسوع قد أنزل من على الصليب، قبل أن يموت. كذلك فإن إحدى الطوائف الغنوسطية التي عاشت في القرن الثاني قالت بأن سمعان القيرواني قد صُلب بدلاً من يسوع. فلعل متّى كان يرد على هذه الأقوال ".([57])
قصة الصلب عند الأمم الوثنية
وبولس عندما ادعى صلب المسيح فداء للخطيئة لم يكن يتحدث من تأليفه وإبداعه، فإنه إنما يستنسخ عقيدة قديمة، تناقلتها الوثنيات قبل المسيح بزمن طويل.
وقد نسج الإنجيليون أحداث صلب المسيح، على نحو ما قرره بولس، وعلى صورة ما ورد عن الأمم الوثنية، حتى أضحت قصتهم للصلب قصة منحولة من قصص وأساطير الأمم الوثنية.
ولعل أوضحها شبهاً بقصة المسيح أسطورة إله بابل " بعل " فقد اكتشف مؤخراً لوحتان أثريتان تعودان للقرن التاسع قبل الميلاد ، وفيهما قصة تشابه تماماً ما قاله النصارى في صلب المسيح ومحاكمته، وعقد "آرثر فندلاي" في كتابه "الكون المنشور"([58]) المقارنة بين ما قيل عن بعل قبل المسيحية وما قيل عن المسيح في المسيحية. ويوضح ذلك الجدول التالي:
محاكمة بعل
محاكمة عيسى عليه السلام
1 – أخذ بعل أسيراً.
2 – حوكم بعل علناً.
3 – جرح بعل بعد المحاكمة.
4 – اقتيد بعل لتنفيذ الحكم على الجبل.
5 – كان مع بعل مذنب حكم عليه بالإعدام وجرت العادة أن يعفى كل عام عن شخص حكم عليه بالموت. وقد طلب الشعب إعدام بعل، والعفو عن المذنب الآخر.
6 – بعد تنفيذ الحكم على بعل عم الظلام وانطلق الرعد، واضطرب الناس.
7 – حُرس بعل في قبره حتى لا يسرق أتباعه جثمانه
8 – الأمهات جلست حول مقبرة بعل يبكينه.
9 – قام بعل من الموت وعاد للحياة مع مطلع الربيع وصعد إلى السماء.
1 - أخذ عيسى أسيراً.
2 - وكذلك حوكم عيسى.
3 - اعتُدي على عيسى بعد المحاكمة.
4 - اقتيد عيسى لصلبه على الجبل.
5 - وكان مع عيسى قاتل اسمه: "باراباس" محكوم عليه بالإعدام، ورَشح بيلاطس عيسى ليعفو عنه كالعادة كل عام. ولكن اليهود طلبوا العفو عن "باراباس" وإعدام عيسى.
6 - عقب تنفيذ الحكم على عيسى زلزلت الأرض وغامت السماء.
7 - وحرس الجنود مقبرة عيسى حتى لا يسرق حواريوه جثمانه.
8 - مريم المجدلية، ومريم أخرى جلستا عند مقبرة عيسى تنتحبان عليه.
9 - قام عيسى من مقبرته في يوم أحد، وفي مطلع الربيع أيضاً، وصعد إلى السماء.
ويبدو أن هذه الأسطورة البابلية قد انتقلت عن طريق الأسرى اليهود الذين عادوا من بابل.
وتتشابه كثير من تفاصيل قصة الصلب مع تفاصيل واردة في قصص وثنية مشابهة، فقد ذكر متى أحداثاً غريبة عدة، صاحبت موت المسيح حيث يقول: " وفي الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الأرض، إلى الساعة التاسعة ... وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتحت... " ( متى 27/45 - 53 ).
وهذا نقله النصارى من الوثنيات القديمة، فقد نقل العلامة التنير عن عدد من المؤرخين إجماعهم على انتشار هذه الغرائب حال موت المخلصين لهذه الأمم.
من ذلك: أن الهنود يقولون: " لما مات "كرشنا" مخلصهم على الصليب، حدثت في الكون مصائب جمّة، وعلامات متنوعة، وأحاطت بالقمر دائرة سوداء، وأظلمت الشمس عند منتصف النهار، وأمطرت السماء ناراً ورماداً..... ".
ويقول عباد بروسيوس " إنه لما صلب على جبل قوقاس، اهتزت الكائنات، وزلزلت الأرض ".
والاعتقاد بحدوث أحداث سماوية عظيمة عند موت أحد العظماء أو ولادته، معروف عند الرومان واليونان.
كما ينقل المؤرخ "كنون فرار" في كتابه "حياة المسيح"، وينقل جيبون في تاريخه أن عدداً من الشعراء والمؤرخين الوثنيين كان يقول :" لما قتل المخلص اسكولا بيوس، أظلمت الشمس، واختبأت الطيور في أوكارها ... لأن شافي أمراضهم وأوجاعهم فارق هذه الدنيا ".
والقول بظلمة الشمس عند موت أحد المخلصين قيل أيضاً عند مقتل هيركلوس وبيوس وكوتز لكوتل وكيبير ينوس إله الرومان، وعليه فحصول الغرائب والعجائب عند موت العظماء أسطورة قديمة تداولتها الأمم، ونقلها أصحاب الأناجيل من تلك الوثنيات. ([59])
وقد كان عباد الشمس يقدمون الضحايا لها، خاصة عند حلول الكسوف، فإذا زال الكسوف اعتقدوا أنه بسبب فداء أحد زعمائهم، حيث خلصهم وحمل عنهم العذاب، لذا حرص متى على القول: "ومن الساعة السادسة، كانت ظلمة على الأرض إلى الساعة التاسعة " ( متى 27/45 ).([60])
ومن أوجه الشبه بين الوثنيات القديمة والنصرانية القول بقيامة الآلهة من الأموات، فقد أجمعت الأناجيل على قيامة عيسى من الموت، ولكن هذا قد سبقهم إليه الهنود، حيث قالوا في كرشنا: "هوذا كرشنا صاعد إلى وطنه في السماوات".
وكذا يقول عُبّاد بوذا بأنه حزن عليه بعد موته أهل السماوات والأرض "حتى إن مهاويو (الإله العظيم ) حزن ونادى: قم أيها المحب المقدس، فقام كام ( أي بوذا ) حياً، وبُدِّلت الأحزان والأتراح بالأفراح، وهاجت السماء، ونادت فرِحة: عاد الإله الذي ظُن أنه مات وفُقد ... "، ومثله يعتقده الصينيون في إلههم (لأوكيون)، والمجوس في (زورستر).
ويقول عابدو (سكولا بيوس) في القصيدة التي حكت عن حياته: " أيها الطفل القادر على شفاء الأمم في السنين القادمة حينما يهب مَن في القبور .... وأنت من المسكن المظلم ستقوم ظافراً وتصير إلهاً ".
وعن تموز يقول البابليون: " ثقوا أيها القديسون برجوع إلهكم، واتكلوا على ربكم الذي قام من الأموات ".
ومثل هذا الاعتقاد، سرى في كثير من الوثنيات قبل المسيحية، فقد قيل بقيام أوزوريس، وحورس، "ومتراس" وباخوس، وهرقل، وكوتز لكوتل، ويلدور، وغيرهم، فكل هؤلاء قال عُبّادهم بقيامتهم من الموت.
ولعل أهم هؤلاء أوزوريس معبود المصريين القريب من مهد المسيحية، وقد انتشرت أسطورته في القرن الثالث قبل الميلاد. يقول المؤرخ مهامي: " إن محور التعليم الديني عند الوثنيين في مصر في القرون الخالية هو الإيمان بقيام الإله ". ([61])
لقد وقع النصارى فيما حذرهم الله منه } قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحقّ ولا تتّبعوا أهواء قوم قد ضلّوا من قبل وأضلّوا كثيراً وضلّوا عن سواء السّبيل{ (المائدة: 77) لكنهم أعرضوا واتبعوا أهواء الأمم الكافرة وضلالاتها ، فكان معتقدهم في المسيح مشابهاً لمعتقدات الوثنيين في آلهتهم المزعومة، كما قال الله عز وجل: } ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون { (التوبة: 30).
وثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح
انعقد مجمع الفاتيكان عام 1963م لبحث موضوعات عديدة، تدور حول تقوية الوحدة المسيحية.
وفي الدورة الثانية منه وبناء على طلب البابا قدّم الألماني الكاردينال بيّا وثيقة تعتبر الصورة التمهيدية للوثيقة التي صدرت فيما بعد، وتبرئ اليهود من دم المسيح.
وتنادي الوثيقة التمهيدية باعتبار الشعب اليهودي جزءًا من الأمل المسيحي، وأنه لا يجوز أن ننسب إلى يهودِ عصرِنا ما ارتُكب من أعمال أيام المسيح، واحتج الكاردينال لكلامه بأن كثيرين من الشعب لم يكونوا يعرفون شيئاً عما حدث، ولم يوافق بعض قادة الشعب على فعل سائر الكهنة.
وقد عورضت الوثيقة داخل المجمع، لما فيها من اعتبارات سياسية، وطلب المطران الهندي (كوتنهو) حذفَها، وإضافة فصول عن الديانة الهندية والإسلامية، وكذلك عارض الوثيقةَ بعضُ كرادلة الشرق، كما عارضها الشبابُ الكاثوليك بالقدس، وأوضحوا أن ذلك ليس حقاً للمجمع ولا غيره، وطالبوا بتطبيق ما جاء في سِفر الخروج: " أنا الرب إلهك، إله غيور، أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء " ( الخروج 20/15 ).
واستشهد القس إبراهيم سعيد - رئيس طائفة الأقباط الإنجيليين - بنصوص الإنجيل، التي تقرر أن اليهود طلبوا صلبه، ورفضوا إطلاق المسيح، وطلبوا إطلاق باراباس، وتولى رئيس الكهنة قيافا بعض الوِزر في ذلك. ثم إنهم قالوا: " دمه علينا وعلى أولادنا " ( متى 27/25 ).
وقد قال بطرس لثلاثة آلاف من اليهود: " يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم " (أعمال 2/36).
وتم تشكيل لجنة لتعديل الوثيقة، وعدّلت، وفي أكتوبر 1965م صدرت وثيقة تبرئة اليهود.
ويقول الكاردينال بيّا عن هذه الوثيقة: " ليست هذه الوثيقة ثمرة يوم أو ليلة، إنها خلاصة دراسة "، وقد وقع البابا يوحنا الثالث والعشرون عليها قبل وفاته بخمسة أشهر، لتصبح وثيقة دينية معتبرة، ومعتمدة من أهم المراجع النصرانية. ([62])
وقد أراد بيا من وثيقته التمهيدية تبرئة العنصر اليهودي من صلب المسيح.
ولكن الوثيقة النهائية الرسمية أقرت بدور اليهود وبراءة الرومان، وبرأت الأجيال اليهودية اللاحقة من تولي وزر هذه الجريمة، كما أنها حاولت حصر الجريمة في أقل عدد ممكن من الكهنة ورؤساء الشعب اليهودي، " فإن ما ارتكب أثناء آلامه، لا يمكن أن يعزى إلى جميع اليهود الذين كانوا عائشين إذ ذاك، ولا إلى يهود أيامنا ".
وتعود الوثيقة للحديث عن آلام المسيح المصلوب، فتقول: "ما حصل للمسيح من عذابه لا يمكن أن يعزى لجميع الشعب اليهودي .. فإن الكنيسة كانت ولا تزال تعتقد بأن المسيح قد مر بعذابه وقتله بحربة بسبب ذنوب جميع البشر، ونتيجة حُبٍ لا حدَّ له ".
ونلحظ في هذه الوثيقة تعارضاً صريحاً مع النصوص الإنجيلية، المصرحة بدور اليهود بقتل المسيح على الصليب، ومنها قول بولس: " اليهود الذين قتلوا الرب يسوع، وأنبياءهم، واضطهدونا نحن" ( تسالونيكي (1) 2/15 ).
وقد ذكرت الأناجيل دورهم الخسيس في هذه الجريمة، فهم الذين تآمر رؤساء كهنتهم، وهم الذين قدموا الرشوة ليهوذا، وأصروا وأصرت جموعهم على صلب المسيح رغم براءته التي ظهرت لبيلاطس ؛ الذي قبل نصيحة زوجته، فتبرأ من دم هذا البار.
كيف يبرأ اليهود من دمه؛ ويوحنا يقول على لسان قيافا رئيس الكهنة: " أنتم لستم تعرفون شيئاً، ولا تنكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب، ولا تهلك الأمة كلها .. فمن ذلك اليوم تشاوروا ليقتلوه " ( يوحنا 11/47 - 53 ).
واليهود هم الذين أتوا بشهود الزور. ولما وجد بيلاطس أن لا جرم عليه، قال: " إني بريء من دم هذا البار. أبصروا أنتم، فأجاب جميع الشعب وقالوا: دمه علينا وعلى أولادنا " ( متى 27/24 - 25 ).
ثم كيف للكنيسة أن تبرئ اليهود وذراريهم من دم المسيح، وهم قد قالوا لبيلاطس: " دمه علينا وعلى أولادنا" ( متى 27/25 )، والمفروض أن النصارى يؤمنون بوراثة الذنب ولو تبرأ منه الورثة، فما بالنا بالذنب الذي أعلن أصحابه مسئوليتهم وأبناءهم عنه، ومن الممكن تصور وراثة ذنب اليهود دون ذنب آدم، أما العكس فلا، وألف لا.
وعندما نسجل هذا الاعتراض على النصرانية، فإنا نعلم براءة يهود زماننا من جرائم أسلافهم، بل وبراءة يهود القرن الأول من دم المسيح، فقد أنجاه الله منهم، ولكن ذلك لا يبرئهم من أصل الجريمة، ألا وهي سعيهم لقتل المسيح، فقد خططوا لصلبه، وتآمروا عليه، ومضوا في التنفيذ، فأخذوا مَن ظنوه المسيح، وصلبوه، وقتلوه، وهي في كل القوانين جريمة، والخطأ في شخص المجني عليه لا يغير من بشاعة جريمتهم كثيراً، من حيث نيتهم وما أرادوا فعله.
عقيدة المسلمين في الخطيئة والخلاص
أثبتنا فيما سبق نجاة المسيح من الصلب، وهو أمر مبطل لكل ما يقوله النصارى عن عقيدة الفداء والخلاص.
والحديث النصراني عن المسيح المصلوب لا يلزم منه أن صلبه كان فداء للخطيئة، لكن نجاة المسيح بلا شك هدم لأساس هذا المعتقد.
وما انتهينا إليه قبلُ لن يمنعنا من الاسترسال في نقد عقائد النصرانية الملحقة والمبنية على هذا الباطل، وأهمها الفداء ووراثة الذنب الأول.
وقبل أن نشرع في بيان بطلان عقيدة الفداء والخلاص نتوقف لتبيان معتقد المسلمين بشأن ذنب آدم وذنوب سائر البشر.
تحدثت النصوص القرآنية عن آدم وتكريم الله له، فهو خليفة عن الله في أرضه } وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة { (البقرة: 30).
وذكرت الآيات تكريم الله له ولذريته من بعده } ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً { (الإسراء: 70).
ولعل أبرز مظاهر تكريم لآدم أن الله أسجد له ملائكته الكرام ] ولقد خلقناكم ثم صورنكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا [ (الأعراف: 11).
لكن هذا التكريم والاصطفاء لا يعني خروج آدم عن طبيعته البشرية إلى حالة ملائكية، فقد أخطأ عليه السلام، ووقع في إغواء الشيطان له، لكنه سرعان ما تخلص من ذنبه بتوبته التي قبلها الله غافر الذنب وقابل التوب ] وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى { (طه: 121- 122).
وتوبة آدم قبلها الله كما يقبل توبة سائر من عصاه، ولو عظم ذنبه، فعفو الله أعظم من آثامنا وذنوبنا ] قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم [ (الزمر: 53).
إن ذنباً واحداً لا يغفره الله، ما لم يتب منه العبد، وهو الشرك بالله الواحد الأحد ] إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ (النساء: 116).
وأنزل الله آدم من جنته، وجعله في الأرض التي خلقه منها ولها، وطلب منه وذريته عمارتها، وأعطاهم قدرة تامة وإرادة كاملة على فعل الخير والشر طالما امتدت به الحياة، ثم يرد كل واحد منا إلى ربه فيجازى عما قدم وأسلف ] قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ (البقرة: 38 - 39).
وأكدت النصوص القرآنية مسئولية الإنسان عن عمله وكسبه ] إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري * إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى [ (طه: 14 - 15)، وقال: ] وكل إنسان ألزمنه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً [ (الإسراء: 13-14).
وهكذا فإن كل ما يصنعه الإنسان في حياته الدنيا مسجل محفوظ ، ولسوف يراه المرء في يوم لا تخفى على الله منه خافية ] فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره [ (الزلزلة: 6-7).
وهذه المسئولية للإنسان عن عمله لا تمنع رحمة الله ] إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى [ (طه: 73).
وأما مسألة وراثة الذنب فهي مرفوضة عند المسلمين نقلاً وعقلاً، والقرآن بصراحة ووضوح يبين بطلان هذا المبدأ الظالم الذي تتابعت الرسالات السابقة على إنكاره والتأكيد على ضده ] أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى{ (النجم: 35 - 40).
وقد أعلم الله موسى عليه السلام في توراته التي أنزلها عليه بهذا المبدأ العادل، فقال: ] قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى * بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى * إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى [ (الأعلى: 14-19).
وأخيراً: ] ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً [ (النساء: 123).
وهذه النصوص القرآنية قبس من آيات عظيمة في كتاب الله تكاثرت على ذكر هذه المعاني بجلاء ووضوح، ذكرناها كمدخل لنقض عقيدة الفداء، والتي لن نحتج في إبطالها بهذه النصوص الكريمة من كلام الله، وذلك مضياً على النهج الذي انتهجناه في هذه السلسلة، وهو نقض مسائل النصرانية من خلال العقل والنظر الصحيح إضافة إلى النصوص المقدسة عند النصارى.
عقيدة الخلاص عند الفرق النصرانية
تعتبر عقيدة الفداء والخلاص مفتاح جميع العقائد النصرانية، فهي أهم ما يبشر به النصارى، ولتحقيقها وضع النصارى المسيح - الذي أنجاه الله - على الصليب.
وليتحقق الفداء على صورة ترضي الإله العظيم جعلوا المصلوب إلهاً، حتى يساوي الفادي المثمن العظيم، وهو نجاة البشرية وخلاصها من الخطيئة والدينونة، وهو ما عبر عنه العهد الجديد على لسان بطرس بقوله: " عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى: بفضة أو ذهب، من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدم كريم كما من حَمَلٍ بِلاَ عيْب، ولا دنس، دم المسيح " ( بطرس (1) 1/18 - 19).
وقبل أن نلج لنقض هذا المعتقد نتعرف على النصوص المقدسة عند النصارى التي قررت معتقدات الفرق النصرانية المختلفة في هذه القضية الهامة، لنعرف مقصدهم في الخلاص، ولمن يبذلونه، وعمن يمنعونه، إلى غير ذلك من المسائل المتعلقة بهذه القضية، والتي يتوقف على إثباتها مصير آلاف الملايين من البشر في عصرنا وسائر العصور.
وأول ما نلحظه اختلاف النصوص الكتابية في تحديد ما يُغفر بدم المسيح، فبعضها يتحدث عن ذنب آدم فقط ، وبعضها يشمل جميع الذنوب التي سبقت صلب المسيح ؟ بل يمتد بعضها ليعمم الخلاص على جميع الذنوب التي يرتكبها العبد حاضراً ومستقبلاً.
لتوضيح هذا التخبط نعرض نماذج لهذه النصوص، يقول الكاتب المجهول لرسالة العبرانيين عن المسيح: " هو وسيط عهد جديد لكي يكون المدعوون - إذ صار موت لفداء التعديات التي في العهد الأول - ينالون وعد الميراث الأبدي " ( عبرانيين 9/15 )، فجعل الكاتب الخلاص بالمسيح متعلقاً بذنب آدم فقط.
ولكن بولس يجعل الخلاص أوسع من ذلك، فيقول: " المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه، لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله، لإظهار بره في الزمن الحاضر ليكون باراً، ويبرر من هو من الإيمان بيسوع " ( رومية 3/24-25)، فقد جعل الخلاص خاصاً بالخطايا التي سبقت المسيح، وشرطه بالإيمان بالمسيح.
ومثله ما جاء في مرقس: " من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدن " ( مرقس 16/16 ).
لكنه - وفي موضع آخر - يخبر بهلاك بعض النصارى الذين تمكنوا من صنع المعجزات باسم المسيح، الذي يتبرأ منهم ويقول: " ليس كل من يقول لي: يا رب يا رب، يدخل ملكوت السموات. بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات، كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب، أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة، فحينئذ أصرّح لهم: إني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم" (متى 7/20-21).
وفي موضع آخر يجعل بولس الخلاص للجميع، لجميع البشر، فيقول عن المسيح: " بذله لأجلنا أجمعين " ( رومية 8/32 )، ويوضحه قول يوحنا: " يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً " ( يوحنا (1) 2/2 )، ويؤكده قوله: " نشهد أن الآب قد أرسل الابن مخلصاً للعالم " ( يوحنا 4/14 )، فجعل الخلاص عاماً لكل الخطايا، ولكل البشر، مخالفاً قول بطرس: " كل من يؤمن به ينال باسمه غفران الخطايا " ( أعمال 10/43 )، إذ بطرس قيد الخلاص بالمؤمنين بالمسيح.
وفي موضع آخر جعل بولس الخلاص على درجات يتفاوت فيها حتى المؤمنون به، يقول: "قوة الله للخلاص لكل من يؤمن، لليهودي أولاً، ثم لليوناني " ( رومية 1/16 ).
ويشترط بولس للخلاص الإيمان بأبوة الله للمسيح، ويضيف شرطاً آخر هو الاعتراف القلبي بقيامة المسيح من الأموات فيقول: " إن اعترفت بفمك بالرب يسوع، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت " ( رومية 10/9 ).
وهذا الاختلاف الذي رأيناه في النصوص الكتابية انعكس على الفرق النصرانية ، فاختلفت في حدود الخلاص الذي حصل بدم المسيح، فمنهم من جعله عاماً لكل البشر ، ومنهم من خصه بالمؤمنين بقيامة المسيح ، أو بالمؤمنين بأن المسيح ابن الله ؟
الخلاص عند الكاثوليك والأرثوذكس
يعتقد الكاثوليك والأرثوذكس أن الخلاص لا يشمل جميع الذنوب، إنما يشمل الخطيئة الأصلية، وكما يقول القديس أوغسطينوس في كتابه "The Enchiridion": بعد الفداء عادت للبشرية حريتها وإرادتها التي سلبتها بذنب آدم، فإذا ما أتى المتعمِّد ذنباً بعد معموديته، فسيعود مستحقاً للعذاب الدائم إن كان الذنب كبيراً.
أما إن كان الذنب صغيراً فإن الكاثوليك يحكمون بعذاب صاحبه في " المطهر " الذي يعذب به المؤمنون ردحاً من الزمن حتى يخلصوا من القصاصات التي عليهم. ([63])
يشرح كتاب التعليم المسيحي لطلبة المدارس الصادر عن المرسلين اليسوعيين عذاب المطهر، فيقول: "المطهر هو محلُّ عذاب تتمم فيه نفوس الأبرار فرض الإيفاء عن خطاياها قبل الدخول إلى السماء ... الذين يذهبون إلى المطهر هم الذين يموتون بحال النعمة، إلا أنهم لا يخلون من الخطيئة العرضية، أو هم الذين لم يوفوا بالتمام للعدل الإلهي ... إن عذاب المطهر لأشد من كل عذاب في هذه الدنيا .. إن النفوس تبقى في المطهر إلى أن تُوفي بالتمام للعدل الإلهي". ([64])
ودليل الكاثوليك في تقرير هذه العقيدة ما جاء في مرقس: " كل واحد يملح بالنار، وكل ذبيحة تملح بالملح " ( مرقس 9/49 ) فهو عذاب يشمل كل مؤمن عليه قصاصات.
وأيضاً استدلوا بقول بولس: " فعمل كل واحد سيصير ظاهراً، لأن اليوم سيبيّنه، لأنه بنار يستعلن، وستمتحن النار عمل كل واحد ما هو، إن بقي عمل أحد قد بناه عليه فسيأخذ أجرة، إن احترق عمل أحد فسيخسر، وأما هو فسيخلص، ولكن كما بنار" (كورنثوس (1) 3/13-15).
إذاً فالفداء عند الكاثوليك والأرثوذكس يتلخص بقول هنري أبو خاطر: " هو تجسد الإله لتخليص البشرية من شوائب الخطيئة الأولى ".
ولولا فداء المسيح للجنس الإنساني لهلك الجميع كما هلك السابقون للمسيح الذين سبقوا مجيء الفادي، وفي مقدمة الهالكين - وفق الفكر النصراني – الأنبياء، الذين يقول عنهم بولس سلامة في كتابه " مع المسيح ": " كانوا في أليمبس - أي جهنم - مقر لأرواح الصالحين الأبرار الذين أوصدت في وجههم أبواب السماء، بسبب خطيئة آدم الأولى، فلبثوا حتى مجيء آدم الثاني، أي المسيح ".
ويقول مفسرو الكتاب المقدس عن موسى عليه السلام: " ومهما كانت عظمة موسى، فإنه لولا نعمة المسيح له، لكان قد هلك واستحق عقاباً أبدياً على خطيئته ". ([65])
فهؤلاء الأنبياء الأطهار - بحسب معتقد القديس بولس - مستحقون للعذاب، لا بسبب تعديات شخصية لهم، بل بسبب وراثتهم لذنب أبيهم آدم "قد ملك الموت من آدم إلى موسى، وذلك على الذين لم يخطئوا على شبه تعدي آدم .. كما بخطية واحدة صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة .. بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرون خطاة " (رومية 5/14-18).
صكوك الغفران للخلاص من القصاصات
وكوسيلة للخلاص من عذاب المطهر ظهر عند الكاثوليك مبدأ الاعتراف الكنسي بين يدي الكاهن والتبرير بصكوك الغفران التي أقرت في المجمع الثاني عشر المنعقد في روما سنة 1215م ، وقرر فيه المجتمعون أن " الكنيسة البابوية تملك الغفران وتمنحه لمن تشاء ".
وقد استندت الكنيسة في هذا المعتقد إلى عدد من النصوص التي رأوها تمنحهم هذا السلطان، منها أن المسيح خاطب بطرس قائلاً: " أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماوات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماوات" (متى 16/18 - 19)، ولما كانت الكنيسة تعتبر نفسها وارثة لبطرس ورثت أيضاً هذا السلطان عنه.
وأيضاً يقول يوحنا بأن المسيح قال لتلاميذه: " من غفرتم للناس خطاياه تغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت " ( يوحنا 20/23).
فقد ورثت الكنيسة ورجالها دور المسيح الوسيط الذي وصفه بولس: " يوجد إله واحد، ووسيط واحد بين الله والناس: الإنسان يسوع المسيح " ( تيموثاوس (1) 2/5 ).
وقد ووجه قرار المجمع باحتجاجات طويلة من الذين رفضوا أن يكون قرار الغفران بيد رجال الكهنة الخاطئين. كيف لهؤلاء أن يمنحوا الخلاص والغفران؟
وفي عام 1869م صدر قرار يفيد عصمة البابا خروجاً من هذه الاحتجاجات وغيرها، وقد ظهر بعد انتشار صكوك الغفران ما أسمته الكنيسة بالتعويض السري، ويشرحه " معجم اللاهوت الكاثوليكي " فيقول: " الإنسان يخضع لهذه المراحل التطهيرية، إذ يموت مبرراً بالنعمة، بمقدار ما تكون حالة العقاب ( المستحق ) لا تزال موجودة فيه، ولم تزل بزوال الخطايا بالغفران يوم التبرير، وبمقدار ما بالإمكان أن تزيل هذه الحالة عقوبات تعويضية ... فإذا لم نتم التعويض السري بعد أن نكون قد أكدنا إرادتنا كلياً للتعويض يظل السر صحيحاً، إنما يجب أن نقوم بذلك التعويض محتملين نتائج الحقيقة الأليمة ".
ويجدر أن ننبه إلى أن بدعة الاعتراف الكنسي ومهزلة صكوك الغفران التي بقيت الكنائس تصدرها ردحاً طويلاً من الزمن كوسيلة لتحصيل الخلاص كانتا أهم أسباب وجود فرقة البروتستانت وانشقاقهم عن الكنيسة الكاثوليكية.
وهما في الحقيقة نوع وصورة من صور وثنية النصارى، فالغفران الذي يمنحه القسيس للمعترف أو لدافع رسوم صكوك الغفران فتح لأبواب الجنة وتحديد لمصير البشر، وعليه فإن هؤلاء الذين يملكونها غدوا في الحقيقة آلهة أخرى تضاف إلى التثليث الذي يقولون به.
وحين يتأمل العقل المجرد في صورتي الحصول على الغفران التي اعتمدتها الكنيسة فإنه يستقبحها ويمجها، حيث يجلس التائب أو التائبة في خلوة بين يدي رجال الكهنوت المتبتلين والممنوعين من الزواج، فتقص الفاجرة قصة فجورها بين يديه، طالبة منه الغفران والصفح، ولا يخفى ما يسببه هذا الاعتراف من الفتنة والفساد والبغاء.
وأما الصيغة الأخرى للحصول على الغفران والمتمثلة بدفع المال لرجال الكهنوت فهي نوع من الامبريالية في الدين، إذ الذي لا يجد من المال ما يشتري به صك غفران، فليس عليه إلا أن يهيئ نفسه لدخول النار، وبئس القرار، لأن الجنة - بمقتضى هذا المنطق المعكوس، والفهم المنكوس- ستكون مخصصة للأغنياء فقط.
الخلاص عند البروتستانت
أما البروتستانت فإنهم يترددون بين شرط الإيمان للخلاص، وبين إسقاط هذا الشرط ، إذ يراه بعضهم خلاصاً يشمل كل الخطايا، كما ينفع كل الناس، مؤمنهم وكافرهم.
يقول جورد فورد في كتابه "نور العالم": "العاقل يعلم أن شروط الخلاص والهلاك أجلُّ وأعدل من أن تكون مذهبية، أو تتنوع باختلاف الشعوب والنحل".
ويقول أنيس شروش في مناظرته لديدات: " يسوع الناصري، هو الذي حقق هذه النبوءة، وذلك بالموت نيابة عن الخطاة، كل الخطاة، وليس فقط آدم وحواء ".
ويقول أيضاً: " الخلاص ليس للمسلمين، ولا لليهود، ولا للآخرين، إنه لنا جميعاً، إن الله يحبنا، لقد أصبح الله ابناً، وأصبح الابن إنساناً، وهكذا أصبحنا نحن كبشر أبناء الله ".
ويقول العالم البروتستانتي ترثون: " نحن نجتاز نحو مبدأ الكفارة، تلك هي أن المسيح قد أصبح إلى حد ما بمعنى الفداء عن الخطيئة، ومن ثم فقد صالح الله الأب الإنسان الخاطئ، " لأنه إن كنا ونحن أعداء، فقد صولحنا مع الله بموت ابنه " ( رومية 5/10 ). ([66])
خطيئة آدم والذنب الموروث
تبدأ قصة الخطيئة ثم الخلاص والفداء عندما خلق الله آدم في جنته، ونهاه عن الأكل من أحد أشجارها، فأغواه إبليس، فوقع الأبوان في شراك كيده، وأكلا من الشجرة المحرمة، فعاقبهما الله بما يستحقا، وأنزلهما إلى الأرض.
فمدخل عقيدة الخلاص والفداء هي تلكم القصة التي حصلت في فجر البشرية، فلنرَ ماذا يقول الكتاب المقدس عن تلك القصة، ولنبدأ باستعراض قصة ذنب آدم كما جاءت في سفر التكوين.
قصة خطيئة آدم في سفر التكوين
يقول سفر التكوين: " وأخذ الرب الإله آدم، ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها، وأوصى الرب الإله آدم قائلاً: من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً. وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل أكلاً. وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت ...
وكانت الحية أحيَل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله؟، فقالت للمرأة: أحقاً قال الله: لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله: لا تأكلا منه، ولا تمساه لئلا تموتا.
فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر، فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر، فأخذت من ثمرها، وأكلت، وأعطت رجلها أيضاً معها، فأكل فانفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان. فخاطا أوراق تين، وصنعا لأنفسهما مآزر.
وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة.
فنادى الرب الإله آدم، وقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة، فخشيت لأني عريان، فاختبأت.
فقال: من أعلمك أنك عريان ؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت.
فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة: الحية غرّتني فأكلتُ.
فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم. ومن جميع وحوش البرية على بطنك تسعين، وتراباً تأكلين كل أيام حياتك، وأضع عداوة بينكِ وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك، وأنت تسحقين عقبه.
وقال للمرأة: تكثيراً أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولاداً، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك.
وقال لآدم: لأنك سمعت لقول امرأتك، وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلاً: لا تأكل منها. ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكاً وحسكاً تنبت لك، وتأكل عشب الحقل، بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب، وإلى تراب تعود ...
وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر، والآن لعله يمد يده، ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً، ويأكل ويحيا إلى الأبد، فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها، فطرد الإنسان، وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم، ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة " (التكوين 2/15-3/24).
نقد القصة التوراتية للخطيئة الأولى
إن التأمل في القصة التوراتية يثير عدداً كبيراً من الأسئلة، ويشكك في مصداقية الرواية التي بنى عليها النصارى أحد أكبر أوهامهم.
وأول ما نلاحظه أن الرواية التوراتية تتحدث عن الذات الإلهية بما لا يليق وشمولية علم الله وتنزهه عن النقائص، ومنه نسبة الجهل إليه جل وعلا، إذ يقول السفر: " وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب النهار، فاختبأ آدم وامرأته في وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم، وقال له: أين أنت ؟ "، فسؤاله ليس سؤالاً تقريرياً، وليس تأنيبياً، بل هو استفهامي، صدر عن عاجز عن الوصول إلى من توارى عنه حين سمع وقع أقدامه.
كما نسبت الرواية التوراتية الإغواء إلى الحية، فلئن كانت الحية حقيقية كما يذهب إليه مفسرو أهل الكتاب، فالسؤال: هل الحيوان يكلف ويعاقب، وهل أرسل له رسل من جنسه، وأين أشار العهد القديم إلى مثل هذا التكليف الغريب؟
ورغم تفسير الكتاب للحية بأنها رمز للشيطان (انظر الرؤيا 20/2)، فإن سفر التكوين كان يتحدث عن حية حقيقية، وليس عن معنى رمزي، فقد وصف الحية بأنها من البهائم "الحية أحيل جميع حيوانات البرية"، وقال عنها: " ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، على بطنك تسعين"، فالحديث عن حية حقيقية نراها إلى يومنا هذا وهي تسعى على بطنها، عقوبة للعصيان، كما جاء في السفر التوراتي.
كما يجعل السفر التوراتي سبب إخراج آدم من الجنة الخوف من تسلط آدم على شجرة الحياة " والآن لعله يمد يده، ويأخذ من شجرة الحياة، ويأكل ويحيا إلى الأبد، فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ".
ويبقى السؤال الأهم: ما هي معصية آدم؟ وتأتي الإجابة التوراتية واضحة، لقد أكل من الشجرة المحرمة، شجرة معرفة الخير والشر، لقد عرف الخير والشر. فماذا ترتب على هذه المعرفة من ثمرة مشينة؟ لا يذكر النص التوراتي لهذه الفعلة أثراً سوى أن آدم وحواء عرفا بأنهما عريانان، إذ انكشفت لهما الأمور بمعرفتهما للخير والشر.
لكن المعرفة سلم للوصول إلى الحقيقة، ولم تحرم إلا في زمن الطغاة والمستبدين، فهل كان بحث آدم عنها وتشوقه إليها جريمة! أليس ذلك تحقيقاً للمشيئة الإلهية في إقامة الجنس البشري.
ثم من الظلم أن يعاقب آدم - حسب النص - على ذنب ما كان له أن يدرك قبحه، إذ لم يعرف بعدُ الخير من الشر، بل ونتساءل: كيف وقع آدم في الإثم وهو غير ميال للشر والخطيئة التي دخلت للإنسان بعده كما يزعم النصارى.
أما الإسلام فيعترف بالجبلة البشرية التي خلق الله الإنسان عليها فهو مستعد للخير والشر، مدرك لهما، ولذا فهو مكلف بفعل الخير وبالامتناع عن الشر، ومحاسب على ذلك.
وثمة مسألة أخرى هامة من الذي يتحمل وزر الذنب آدم أم حواء؟
يذكر النص التوارتي ما يفهم منه براءة آدم من غواية الحية وإدانة حواء بها، ففيه أن حواء التي أغوتها الحية فأكلت " وأعطت رجلها أيضاً معها، فأكل ".
ولما سئل عن فعلته قال آدم: " المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة، فأكلت"، وبراءة آدم من غواية إبليس صرح به بولس، فقال: " وآدم لم يغو، لكن المرأة أغويت، فحصلت في التعدي " (تيموثاوس (1) 2/14 )، لأنه "كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم " (رومية 5/12).
ولا ريب أن لهذا كبير علاقة مع النظرة اليهودية للمرأة حيث تزري بها شرائع اليهودية، وهي في هذا النص تعتبرها سبباً للخطيئة، وقد قال ابن سيراخ في سفره: "من المرأة نشأت الخطيئة، وبسببها نموت أجمعون" (ابن سيراخ 25/24).
والقرآن الكريم عندما تحدث عن خطيئة آدم حمّل آدم - وهو الرجل، رب الأسرة وصاحب القرار الأول فيها - المسئولية الأولى } وعصى آدم ربه فغوى{ (طه:121).
كما تحدث النص التوراتي عن عقوبات ثلاث طالت آدم وحواء والحية.
أما الحية فكانت عقوبتها أنها " ملعونة أنت من جميع البهائم، ومن جميع وحوش البرية على بطنك تسعين، وتراباً تأكلين كل أيام حياتك، وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك، وأنت تسحقين عقبه ".
وأما عقوبة حواء " تكثيراً أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولاداً، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك ".
وأما عقوبة آدم " ملعونة الأرض بسببك، وبالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكاً وحسكاً تنبت لك، وتأكل عشب الحقل، بعرق وجهك تأكل خبزاً ".
ولنا أن نتساءل: هل كانت الحية قبلُ مستوية القامة حسناء لا تأكل التراب، بل تبلع الحيوان، وهل تأكل الحيات اليوم التراب أم أن هذه العقوبة رفعت عنها بعد صلب المسيح؟!
وأما المرأة فعوقبت بأمرين: أحدهما: جسماني، وهو أتعاب الحمل والولادة، وثانيهما: معنوي نفسي، وهو دوام اشتياقها للرجل، وأنه يسود عليها.
وهذه العقوبات كافية في تحقيق الخلاص لها ولجنس النساء بعدها " المرأة أغويت، فحصلت في التعدي، ولكنها ستخلص بولادة الأولاد، إن ثبتن في الإيمان والمحبة والقداسة مع التعقل" (تيموثاوس (1) 2/14).
ونلحظ أن هذه العقوبة وعقوبة آدم تختلفان عن العقوبة التي هدد فيها من يأكل من الشجرة "وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت "، ولم يمت آدم وحواء يومذاك ، بل عاشا قروناً متطاولة.
ولا يمكن أن يقال بأن الموت المقصود موت معنوي لأنه لا يفهم من السياق، ولقول بولس: "كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس، إذ أخطأ الجميع " ( رومية 5/23 ).
و مما يصرف الموت عن المجاز إلى الحقيقة أن النص يقول: " لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت " فكما الأكل حقيقي، الموت حقيقي، وأيضاً التأكيد في قوله: "موتاً تموت" يمنع المجاز.
والحق أن آدم حين أكل من الشجرة - وفقاً للنص التوراتي - قد اكتسب حياة روحية سامية، فقد حاز معرفة فريدة كمعرفة الله العليم الخبير "وتكونان كالله عارفين الخير والشر ... قال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر" (التكوين 3/5 ، 22)، وإن عاقلاً في الدنيا لا ينكر أهمية هذه المعرفة للإنسانية التي ترتع بالشرور وقد عرفتها، فكيف يكون حالها لو لم تعرفها، ولم تميز بينها وبين الخير؟
ومما يؤسف له أن النص التوراتي يجعل الحية أصدق مقالاً من الله، لقد قال لآدم: " فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت "، ولم يمت حين آكل منها، فيما صدقت الحية حين قالت مكذبة الله: "لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر" وكان كما أخبرت، فهل يليق ورود مثل هذا في كتاب ينسب إلى الله العليم القدير؟!
فلسفة النصارى لمسألة الخطيئة والكفارة