شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم
أبو محمد مور كِبِي[[خريج كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية (المدينة النبوية)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن كل من تأمل شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجرد وإنصاف يدرك حقيقة, هي أنه صلى الله عليه وسلم أكبر شخصية عرفه التاريخ.
ولعلك أول ما تقرأ هذا الكلام أو تسمعه ستقول: هذا مجرد دعوى, وليس عليها أي دليل مقنع؛ بل فاعل ذلك هو فلان أو فلان؛ ممن تعرفهم أو تأثرت بهم, لكن اسمح لي أن أطرح عليك سؤالا واحدا, وحسن ظني بك أنك عاقل ومنطقي, وأنك مؤهل لخوض أية مناقشة علمية جادة, إذن فلا تغمض عينيك لتكتفي بما عندك ولا تسمع ما عند الآخر, بل من دلائل رجاحة عقلك أن تستمع إلى الآخر وإن خالفك في الرأي, فإن كان الحق فيما يقوله استفدته منه وهو ربح, وإن كان فيما كنت تعتقد ازددت عليه يقينا وهو ربح, ولكن كن متجردا تريد الحق حقا.
والسؤال الذي أطرحه عليك وآمل منك الجواب عنه بإنصاف هو: بما أنك منطقي ومنصف مع الناس, هل نفيك لما قلته مبني على علم صحيح عن محمد وتاريخه, أو هو مبني على قيل وقالوا ؟
أو على تصوير مشوه له ولتاريخه ؟
أو هو مبني على ما تراه وتسمعه يوميا من أحداث وتهم تلصق بالإسلام والمسلمين؛ حتى أوجد ذلك منك ردة فعل, ولذلك لا يمكنك قبول ما قلت ؟
أو أنك – بكل صراحة – من العصبيين الذين ينظرون إلى العرب نظر دون, ويرون أنهم أحقر من أن يكون منهم ذاك الرجل ؟
وأنا – إن شاء الله - سأبين لك رجاحة ما قلته في حديثي معك, إن منحتني فرصة لبيان ذلك, بأن تنظر معي في شخصيته صلى الله عليه وسلم من خلال خمسة جوانب مهمة جدا في التحقق من صدق ما قلته:
الجانب الأول: ما الوقت الذي بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم ؟
الجانب الثاني: أي قوم عايشهم, وعلى أي مستوى كانوا من الحضارة.
الجانب الثالث: ما حال بقية العالم آنذاك, وهل كان ثم ما يغني عن نظام جديد أو لا ؟
الجانب الرابع: مقارنة الوضع قبل, بالوضع بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ للتحقق من هل حدث بالفعل تغير وانقلاب - سلبا أو إيجابا- في سير العالم أم لا ؟
الجانب الخامس: مقارنة الوسائل التي استعملها النبي صلى الله عليه وسلم لتغيير ذاك النظام السائد في ذلك الوقت؛ لمعرفة هل الحكمة كانت تقتضي استعمالها – بعجالتها – لإحداث التغيير الذي كان لا بد منه ؟
أم تقتضي إبقاء المجتمع على الوضع المتفكك الذي كان عليه ؟
هذه التساؤلات الخمسة, يمهد لنا الجواب عنها الطريق إلى تصور مدى التجديد والإصلاح اللذين حدثا في سيران العالم بمجيء هذا الرجل العظيم, وهل كان العالم في حاجة إليهما أم لا ؟
وأنه أكبر شخصية عرفه التاريخ البشري.
الجانب الأول: هل الوقت الذي بعث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم كان مناسبا للانقلاب والإصلاح اللذين أوجدهما في العالم ؟
إن الوقت الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فترة من الوحي السماوي, وكان الناس قد سلطوا عقولهم وأيديهم على البقية الموروثة من تعاليم الرسل بالتغيير والتبديل؛ حتى اندثرت تلك التعاليم بالكلية من بعض المجتمعات, وبالأغلبية من البعض الآخر.
ودعوات الرسل التي ظهرت قبل, لم تشمل الشعوب جمعاء, فلم تتصف أي واحدة منها بالعالمية والشمولية التي لا تخص شعبا دون شعب, بل كانت كلها منحصرة في ساحة قوم دون غيرهم.
الأمر الذي أوجد فراغا روحيا في العالم لم يكن من تغطيته بد, وواقع الحال في ذلك الوقت شاهد بأن الأديان والأنظمة السائدة آنذاك لم يكن لها أن تصد ذاك الفراغ الموجود, وأن صده يتطلب دينا قويا مع نظام جديد؛ ليوجه سير العالم نوح الأكمل والأفضل.
فاليهودية التي كانت موجودة في الوقت, لم تصلح لصد هذا الفراغ؛ لأنها دين لا تعبه بضلال غير اليهود أو رشادهم, بل إن اليهود جعلوا منها رمزا للعنصرية والفوقية على سواهم, ويستغلون الجهل المطبق على العالم؛ لفرض تسلطهم على الناس واستعبادهم, وهذا ما زال ولا يزال هو دأبهم.
ودين الأمة الغضبية الذين انسلخوا من رضوان الله كانسلاخ الحية من قشرها، وباؤا بالغضب والخزي والهوان، وفارقوا أحكام التوراة ونبذوها وراء ظهورهم واشتروا بها القليل من الأثمان، فترحل عنهم التوفيق وقارنهم الخذلان واستبدلوا بولاية الله وملائكته ورسله وأوليائه ولاية الشيطان. (1)
فكيف يصد فراغا, أو يهدي ضلالا ؟
واليهود لم يكن لهم قوى منبثقة من دينهم تكنهم من سياسة الأرض بنظام عادل, وكل ما عندهم إنما هو امتصاص واستغلال قوة غيرهم, بالتملق والتطفل على الإمبراطورات المسيطرة على الناس, واستمالتها حتى تكون في صالح اليهود.
وأما النصرانية, فعلى الرغم من كونها دينا لبعض العرب في ذلك الوقت؛ إلا أنها لم تتصف بالشمولية والعالمية اتصافا ذاتيا, بل شموليتها – إن كانت – شيء أحدث فيها بعد موت عيسى عليه السلام, فإنه كان يخاطب برسالته قومه بني إسرائيل لا غيرهم.
وكذلك الحواريون بعده, لم يخرجوا بدعوته إلى الشعوب الأخرى؛ بل ظلت بينهم حينا من الدهر؛ إلى أن انضم إليهم رجل يدعى "بولس" فهو الذي أخرج النصرانية خارج بني إسرائيل, ولام الحواريين على إخفاءها فيما بينهم؛ جاهلا أو متجاهلا أنها دين جاء لشعب لا العالم.
ودين أسس بنيانه على عبادة الصلبان والصور المدهونة في السقوف والحيطان، وأن رب العالمين نزل عن كرسي عظمته فالتحم ببطن أنثى وأقام هناك مدة من الزمان، بين دم الطمث في ظلمات الأحشاء تحت ملتقى الأعكان، ثم خرج صبياً رضيعًا يشب شيئاً فشيئاً ويبكي ويأكل ويشرب ويبول وينام ويتقلب مع الصبيان، ثم أودع في المكتب بين صبيان اليهود يتعلم ما ينبغي للإنسان هذا وقد قطعت منه القلفة حين الختان، ثم جعل اليهود يطردونه ويشردونه من مكان إلى مكان، ثم قبضوا عليه وأحلوه أصناف الذل والهوان، فعقدوا على رأسه من الشوك تاجاً من أقبح التيجان، وأركبوه قصبة ليس لها لجام ولا عنان، ثم ساقوه إلى خشبة الصلب مصفوعاً مبصوقاً على وجهه وهم خلفه وأمامه وعن شمائله وعن الأيمان.
ثم أركبوه ذلك المركب الذي تقشعر منه القلوب مع الأبدان، ثم شدت بالحبال يداه ومع الرجلين، ثم خالطهما تلك المسامي التي تكسر العظام وتمزق اللحمان, وهو يستغيث: يا قوم ارحموني! فلا يرحمه منه إنسان, هذا وهو مدير العالم العلوي والسفلي الذي يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن ثم مات ودفن في التراب تحت صم الجنادل والصوان ، ثم قام من القبر وصعد إلى عرشه وملكه بعد أن كان. ما كان.(1)
ودين وصل إلى هذه الحقارة في أمر ربه وإلهه, فكيف يقدر على المنع من ضلال الناس ؟
وأما بقية العالم فكانت قفرا؛ يملأه المجوس و الصابئة و المشركون بضروب من الضلالات والحماقات. بلغ بهم الانحطاط إلى عبادة كل مخلوق؛ بحثا عن الإله الخالق, والذي يتشوفون إلى عبادته؛ إلا أن الطريق مجهولة عندهم, فكانون بحاجة إلى من يهديهم إليها.
لأن الإنسان بفطرته مجبول على أن يكون عبدا؛ لكن لخالقه, وإلا استعبده أرذل مخلوق؛ كالشيطان, أو الهوى, أو غيرهما من المخلوقات.
وفي هذا الوقت حدث صراع بين أناس من النصارى وآخرين وثنيين؛ حتى وصل الأمر ببعض النصارى إلى محاولة الاعتداء على الكعبة المشرفة, فأدبهم الله وصان بيته؛ لا نصرا للوثنية على النصرانية, ولكن نصرا لدين آخر لم يظهر بعد؛ إلا أن هذا البيت رمز له, وعلامة تدل عليه.
فكان في هذه الحادثة إيذان بحدوث انقلاب قريب في سيران الأمور.
فكان مولد النبي الذي سيتم الانقلاب المأذون على يديه في السنة التي عقبت هذه الواقعة, وفي قرية البيت نفسها, فكانت كالتوطأة لظهوره.
ومن سنن الله أنه إذا أراد شيئا هيأ أسبابه, وكل الأسباب المقتضية لظهور من يشمل الناس بدعوة إلى إصلاح الخلل, وتوحيد الشمل, كانت مجتمعة في ذلك الوقت.
هذا فيما تعلق بضرورية بعثته, وهناك شيء آخر يحسن الإيماء إليه, وهو كونه صلى الله عليه وسلم عاش في ذلك الوقت المظلم, وأولئك القوم البُهْم, بالإضافة إلى أنه أمي؛ لا يقرأ ولا يكتب, ولا سبق له اتصال لا باليهودية ولا بالنصرانية, ثم جاء بتعاليم وتشريعات يعجز العقل البشري أن يأتي بمثلها على مر الأيام. لهو برهان باهر على أنه النبي الذي آن خروجه في ذلك الحين.
وقول القائل: إن هذه التعاليم والشرائع من منتجات عقليات ذلك الوقت؛ مع أنه كلما تطورت العقول, كلما تأكدت من قصورها عن الإتيان بمثلها, فهذا القول أقبح شتم للعقلية البشرية.
وهو قول لا يقبله عاقل من قائله إلا بدليل, وليس ثمة دليل أبين وألزم من أن يثبت قائله قدرته على الإتيان بمثلها, أو بما هو خير منها؛ لأنهم يقولون إن العقل تطور منذ ذلك الحين إلى أيامنا:﴿ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ﴾
والدعاوى إذا لم يقيموا عليها بيناتٍ أصحابها أدعياء
وسيتبين لك هذه الحقيقة أكثر فيما يأتي – إن شاء الله –.
الجانب الثاني: القوم الذين بعث فيهم النبي الكريم عليه الصلاة والسلام
إن القوم الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعيشون في جاهلية عمياء, وذلك في جميع أمورهم؛ سواء منها ما تعلق بأمر الإله المعبود, أو بحياتهم العادية.
وكانوا قبل ذلك يدينون بدين إبراهيم عليه السلام؛ منذ أن نشأت ذريته في مكة وانتشرت في جزيرة العرب، فكانوا يعبدون الله ويوحدونه ويلتزمون بشعائر دينه الحنيف، حتى طال عليهم الأمد ونسوا حظًا مما ذكروا به، إلا أنهم بقي فيهم التوحيد وعدة شعائر من هذا الدين، حتى جاء عمرو بن لُحَيٍّ رئيس خزاعة، وكان قد نشأ على أمر عظيم من المعروف والصدقة والحرص على أمور الدين، فأحبه الناس ودانوا له، ظنًا منهم أنه من أكابر العلماء وأفاضل الأوليـاء.
ثم إنه سافر إلى الشام، فرآهم يعبدون الأوثان، فاستحسن ذلك وظنه حقًا؛ لأن الشام محل الرسل والكتب، فقدم معه بهُبَل وجعله في جوف الكعبة، ودعا أهل مكة إلى الشرك بالله فأجابوه، ثم لم يلبث أهل الحجاز أن تبعوا أهل مكة؛ لأنهم ولاة البيت وأهل الحرم.
وكان هبل من العقيق الأحمر على صورة إنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يدًا من ذهب، وكان أول صنم للمشركين وأعظمه وأقدسه عندهم.(1)
وصبغوا بهذه الوثنية البقية الباقية لديهم من آثار الحنفية؛ كشعائر الحج وغيرها.
ولا شك أن عقيدة القوم هي الموجه الأول لزمام أمرهم, فالانحراف في العقيدة يستدعي الانحراف في العبادة والسلوك والشعائر, وفي سائر قطاع الحياة.
والإنسان الذي وصل به الدناءة والسخافة إلى عبادة إله صنعه من تمر وعجين, فإن جاع أكله, كيف يرقى ؟
وأية حضارة يبنيها هذا الإنسان ؟
وكانوا قوما من البدو, جل أو كل ما عندهم من أنشطة إنما هي محصورة في التجارة ورعي الغنم, لا ينظم حياتهم قانون ولا دولة؛ إلا القهر والغلبة, ونمط حياتهم يقلد فيه الأبناء الآباء, مصونا من أدنى نقد أو تمحيص. هذا وتأثرهم بالعالم الخارجي لا يكاد يكون شيئا مذكورا.
وكانت روح العصبية الجاهلية تسودهم, يتعصب الرجل لبني قومه, ويغضب لهم ولا يسأل"فيم" ؟ ولذا كانت نار الحرب متأججة بينهم, يشعلها أتفه حادثة تقع بين القبيلتين. يقوم الرجل فيقوم له القبيلة, وتقوم لها الأحلاف, فيتسع بذلك دائرة الحرب بينهم.
وهذه القبائل كانت تختار لأنفسها رؤساء يسودونها، وأن القبيلة كانت حكومة مصغرة، أساس كيانها السياسي الوحدة العصبية، والمنافع المتبادلة في حماية الأرض ودفع العدوان عنها.
وكانت درجة رؤساء القبائل في قومهم كدرجة الملوك، فكانت القبيلة تبعًا لرأي سيدها في السلم والحرب، لا تتأخر عنه بحال، وكان له من الحكم والاستبداد بالرأي ما يكون لدكتاتور قوي؛ حتى كان بعضهم إذا غضب غضب له ألوف من السيوف لا تسأله: فيم غضب، إلا أن المنافسة في السيادة بين أبناء العم كانت تدعوهم إلى المصانعة بالناس من بذل الندى وإكرام الضيف والكرم والحلم، وإظهار الشجاعة والدفاع عن الغيرة، حتى يكسبوا المحامد في أعين الناس، ولاسيما الشعراء الذين كانوا لسان القبيلة في ذلك الزمان، وحتى تسمو درجتهم عن مستوى المنافسين.(1)
وكان للسادة والرؤساء حقوق خاصة، لا يشاركهم فيها العامة.
وفي هذا القوم بعث هذا الرجل ليصنع منهم قادة البشرية طرى, ومهندس الحضارة غدا.
فأي مهمة هذه ؟!
وأي تحدٍ هذا ؟!
الجانب الثالث: حال بقية العالم في الوقت ذاك
هكذا كان حال القوم الذين بعث منهم هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام, أما بقية العالم فما حالها في هذا الحين ؟
فما كان يقال عنها حضارات في ذلك الوقت, لا تعدو عن امبراطريات مسيطرة على بعض مناطق العالم, ولم يكن لها من أطماع سوى بث نفوذها العسكري على الأرض؛ وليس تحريرها بدين صحيح, وسياستها بنظام عادل.
وفرق بين دولة تهدف إلى مصالحها المادية فحسب, وأخرى ترمي إلى حفظ مصالح رعيتها المادية والمعنوية.
فالناس تحت تلك القيادات بين سادة وعبيد، أو حكام ومحكومين، فالسادة كان لهم كل الغُنْم، والعبيد عليهم كل الغُرْم، وبعبارة أوضح: إن الرعايا كانت بمثابة مزرعة تورد المحصولات إلى الحكومات، والحكومات كانت تستخدمها في ملذاتها وشهواتها، وجورها، وعدوانها .
والناس كانوا يذوقون من الذل والهوان ألوانا, وفي ظلمة الجهل يتخبطون عميانا، والظلم ينصب عليهم من كل جانب، وما في استطاعتهم التذمر والشكوى، بل كانوا يسامون الخسف والجور والعذاب ضروبا ساكتين، فقد كان الحكم استبداديا، والحقوق ضائعة مهدورة, وليس هناك رحمة للرعية, ولا حكم بالسوية, أو عدل في القضية.
وأما الأديان فقد أخبرناك سالفا عن حقيقة أمرها, وأنها بجميعها كانت تقصر عن تأدية هذا الدور, لأنها ليست له, ولما داخلها من تزييف و تحريف كثيرَين.
فكان لا بد للعالم من نظام جديد؛ يخرجه من هذا التدهور, ويقذفه نحو التطور, وذلك في جميع المجالات.
وكان طبيعة العلاج تقتضي أن يكون نظاما مزدوجا, يرسو على أساسين أصيلين, هما قوام أمور الناس في الدنيا والآخرة: الدين الصحيح, والنظام العادل.
وأن يكون كل واحد منهما أصيلا؛ لا أن يكون أحدهما أصيلا والآخر أجنبيا مستعارا لظروف طارئة, أو أغراض جانفة.
وكان ذلك هو شأن بعض الدول الموجودة في الوقت, حيث جعلت من الدين آلة تتغفل بها الناس؛ حتى يدينوا لها بالانقياد والانسياق. فأوجدت لذلك تحالفا بين رجال الدولة ورجال الدين, وهو تحالف خطير, ينتهي بإكراه الدين إلى الرعية, وينزع عن قلوبهم الثقة برجاله؛ كما حدث ذلك في الأزمنة الأخيرة في أوروبا, حيث كان المجتمع منقطعا إلى أثرياء رؤساء, وفقراء أجراء, وانتصبت الكنيسة وسيطا بين الطبقتين؛ ليكون دورها تَغفيل وتنويم الفقراء المستعبَدين, وتهدئة ثورتهم ضد الأثرياء المستعبِدين.
الأمر الذي جر المجتمع الأوروبي إلى فقد ثقته برجال الدين كليا, وإقصائهم عن كل ما هو من أمور الدولة بعيدا. هنالك حرموا على أنفسهم, وعلى غيرهم, ربط الدولة بدين القوم, وحبسوا مفهوم الدين في بعض الشعائر التعبدية فقط, وأخطئوا بلا شك؛ لأن تجربتهم هذه إنما تخصهم ودينهم؛ لا غيرهم ودينهم, لكنهم "دكتاتوريون" في الفكر, وهي أخطر أنواعها.
ومن نتائج فشل الكنيسة الفاضح في القيام بدورها في المجتمع الأوروبي, نفورهم من الدين, والنظر إليه كموضع استغلال لخيرات الشعب لا حفظها وتنميتها؛ حتى قال أحدهم: "الدين أفيوم الشعب" والعجب أنهم مع ادعاءهم الفكر والتحقيق غفلوا عن حقيقة هي: أن خلو مجتمعاتهم عن دين صحيح يصلح أزمتهم المعنوية, ويصد الفراغ الروحي في الناس, هو الذي تركهم وكأنهم حمرٌ مستنفرة, فرت من قسورة, تتجهمهم العقائد الفتاكة من كل جانب.
ومن أخطر هذه العقائد: الشيطانية(1) التي عمت الدول الأوروبية, ويقوى شوكها يوما بعد يوم؛ خاصة في أوساط الشباب, وهي نحلة شريرة خطرة؛ بما تطمح إليه من أهداف عنصرية نازية, وغيرها كثير.
في الوقت الذي يجندون الجنود, ويخططون الخطوط؛ لمنع الإسلام من الانتشار في مجتمعاتهم, وهم لا يعرفون أو يعترفون أن الخطر الذي يتخوفون منه ليس من الإسلام الذي قد أساءوا قراءته وتفسيره؛ بل من هذه النحل التي تلعب بعقولهم.
وهذه المواصفات التي قلت قريبا إن طبيعة العلاج المناسب كانت تقتضيها, فإنها- إذا تأملتها - كلها مجتمعة في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث جاء بإصلاح الدين, وإصلاح الدنيا, والجمع بين مصلحة الروح والجسد.
وحث على القيام بالأمرين, وأن كل واحد منهما ممد للآخر, ومعين عليه.
وجعل العلم, والدين, والولاية, والحكم متآزرات متعاضدات. فالعلم والدين يُقَوّمان الولايات, وتنبني عليهما السلطة والأحكام. وقيّد صلى الله عليه وسلم الولايات كلها بالعلم والدين الذي هو الحكمة, وهو الصراط المستقيم, وهو الصلاح والفلاح والنجاح.
فحيث كان الدين والسلطة مقترنين متساعدين فإن الأمور تصلح, كما أن الأحوال تستقيم.
وحيث فصل أحدهما عن الآخر اختل النظام, وفقد الصلاح والإصلاح, ووقعت الفرقة, وتباعدت القلوب, وأخذ أمر الناس في الانحطاط.(1)
فكان صلى الله عليه وسلم يقول في دعاءه : ( اللهم أصلح لي ديني الذي فيه عصمة أمري, وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي, وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي ...) هذه الشمولية كانت من أبرز خصائص دعوته عليه الصلاة والسلام.
وسأبين لك في درج الحديث طائفة أخرى من خصائص شخصية هذا الرجل عليه الصلاة والسلام.
الجانب الرابع: مقارنة الوضع قبل بالذي بعد بعثة هذا الرجل الكريم صلى الله عليه وسلم
إذا قارنا الوضع السائد في الناس قبل ظهور النبي الكريم, بالوضع الذي تركهم عليه, اتضح أن هذا الرجل صلى الله عليه وسلم هو الذي رقي بالبشر نحو الأكمل والأفضل, لأن كمال البشر بكمال أخلاقه, لا بكمال بنيته الجسمية وهيئته.
وهذا الكمال في الخلق هو الذي يضمن لهم سلامة واستقرار مجتمعهم بنطاقه الواسع, ويكفي أبسط تأمل في أحوال المجتمعات السابقة والحاضرة؛ لإدراك ما للخلق من علاقة عميقة, وصلة وثيقة, بصلاح المجتمع وبقاءه.
فالخلق من الركائز الأولية لبناء المجتمع, وأي مجتمع عدمها –أي الركيزة-, فعاقبته الاندثار والدمار بلا شك؛ لأن المجتمع ليس إلا عبارة عن أفراد جمعتهم الحياة في مكان واحد, والذي يحدد, ويوجه علاقة كل فرد بالآخرين؛ إنما هو خلقه الذي منه ينطلق سلوكه, وتوجهاته, وجميع تصرفاته في حياته, فيصح القول إذاً بأن الخلق هو الموجه, والمؤثر المباشر في سير المجتمع سلبا و إيجابا.
وهذا كاف في الكشف عن خطورة الخلق ومنزلته في المجتمع, وأن الرقي بالبشر لا يتم إلا بالنهوض بخلقه نحو الأكمل, فأكمل البشر أكملهم خلقا, وليس أقواهم جسما.
وأنه مهما تفوق الإنسان, وعلا في الماديات مع سُفالة أخلاقه ورذالتها, فإنه ينحط ولا يرقى, ويهلك المجتمع ولا يبقى.
وهو - صلى الله عليه وسلم- الذي علمنا أن كمال الإنسان ليس في كمال أو جمال جسمه دون خلقه, حيث كان إذا نظر إلى نفسه في المرآة - وكان من أحسن الناس خَلقا- حمد الله وشكره على ما أنعم به عليه من جمال وكمال الخلقة, وسأله كذلك أن يحسِّن له خُلقه؛ إذ بذلك يكون الكمال المتوازن. فكان صلى الله عليه وسلم يقول: (الحمد لله الذي خلقني فسواني, اللهم كما أحسنت خَلقي, حسِّن خُلقي)
وأيّما مجتمع انخلع عن الخلق الفاضل, انقلب عيش أبناءه كحياة الأنعام في الغابة؛ حجرة عن أي ضابط أو نظام يقيدها.
ومن هنا قال أحدهم:
إنما الأمم إلا أخلاقها ما بقيت -- فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ولما كان سر رسالة النبي الكريم يكمن في الحفاظ على بقاء المجتمع البشري, وليس فحسب, بل وإصلاحه, وتطويره نحو الأفضل؛ كي يتحقق له النجاح والفلاح في الدارين, جعل إصلاح أخلاقهم في المقدمة من الغايات التي يسعى ليحققها:
« إنما بعثت لأتمم محاسن الأخلاق(1)»
فحصر الغاية من بعثته في هذه المهمة, وكأنه لم يُبعث إلا لها. وهذا غاية في التنبيه على أهمية الخلق, ومكانته في رسالته التي يحملها إلى الناس.
وما قال هذا أحد قبله ولا بعده !
لماذا هو وحده ؟
لأنه هو المتمم المصلح: (إن مثلي ومثل الأَنْبِيَاء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل النَّاس يطوفون به، ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة قَالَ: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)
فإنه آخر لبنة يكمل بها البنية. فالبنية بنية الرسالة, والرسالة رسالة صنع البشر.
وهذا له مؤهلاته ومتطلباته, إلا أن الله قد اختاره, وأعده, وأمده, فكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا, وأرجحهم عقلاً، وأصدقهم قولاً وفعلاً، أدبه ربه – عز وجل -فأحسن تأديبه، ورباه فأحسن تربيته، وعلمه فعصم تعليمه: ﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ﴾ {القلم: 4} أجل ! والتاريخ خير شاهد. ﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ﴾ {الأحزاب: 21 }﴿ فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر﴾ { آل عمران:159 }
﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ﴾
{ التوبة: 128 }
إن مما يقوله الحكماء: أن رب البيت أدرى بما فيه. وأنه لا يُحسن تربية العباد أحد مثل رب العباد.
فإنه بالفعل كان يربي الناس؛ ليس بما يهواه أو يشتهيه, بل بالوحي المعصوم. الأمر الذي يفسر لك كونه من قوم, نشأ فيهم وترعرع, ثم يخالفهم تماما على العادات الجاهلية التي كانوا عليها, وأخذ يبدلها بتعاليم وآداب ما عرفها الأجداد ولا الأقران, وهي أزكى وأسمى ما تحلى به إنسان.
وسأورد لك جملا من تعاليمه العالية؛ مع شيء من التعليل, لاستخراج بعض الحكم منها, لأن معرفة هذه العلل والحكم يجعل النفس يركن أكثر إلى هذه التعاليم, وإلا فكلها حكم؛ سواء اطلعنا على وجهها أم لا.
لأن طريقته عليه الصلاة والسلام أنه كان يأمر الناس بما فيه صلاحهم, ولا يشغلهم بالكلام في أسباب الكائنات كما تفعل المتفلسفة, فإن ذلك كثير التعب قليل الفائدة أو موجب للضرر.
ومثاله عليه الصلاة والسلام مثال طبيب دخل على مريض فرأى مرضه فعلمه, فقال له: اشرب كذا, واجتنب كذا, ففعل ذلك فحصل غرضه من الشفاء.
والمتفلسف قد يطول مع هذا المريض الكلام في سبب ذلك المرض وصفته وذمه وذم ما أوجبه, ولو قال له المريض: فما الذي يشفيني منه ؟ لم يكن له بذلك علم.
ولهذا ترى ضعفة العقول يغترون بكلام الفلاسفة؛ لما فيه من الثرثرة والفضفضة التي لا تسمن ولا تغني من جوع, بل يزيدهم حيرة إلى حيرتهم. وأنت - أيها اللبيب - إن أردت لغلتك روياً, فانهل من معين هذا الرجل, ففيه نيل الطلب وبلوغ الأرب.
- كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه لا يسلم عليه, وإنما يقول: حييت صباحاً وحييت مساء. وكان ذلك تحية القوم بينهم, فلما جاء النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أبدلهم بهذه التحية خيرا منها: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"
"السلام" ؟!! نعم السلام! فعلمهم أن أحدهم إذا التقى أخاه دعا له من الله بالسلام, والرحمة, والبركة.
فأي شيء بعد هذا ؟
ومن أين له هذا ؟
وهل يدعو للناس بالسلام من لا يريد بهم السلام ؟
وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأذن حتى يقتحم ويقول: قد دخلت !! ونحو ذلك.
فيشق ذلك على الرجل ولعله يكون مع أهله, فلما جاء عليه الصلاة والسلام غير ذلك كله في ستر وعفة, وجعله نقياً نزهاً من الدنس والقذر والدرن: ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ﴾ { النور: 27}
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه, ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر, ويقول «السلام عليكم, السلام عليكم» وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور.
وجاء رجل فوقف على بابه صلى الله عليه وسلم يستأذن, فقام على الباب مستقبل الباب,
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم « هكذا عنك ـ أو هكذا ـ فإنما الاستئذان من النظر»
هذا حتى لا يقع عينه على بعض ما بداخل البيت, وفرارا من ذلك فد شَرع لهم الاستئذان.
وعلمهم كذلك أن أحدهم إذا استأذن على أخيه فلم يأذن فلا يلح ويلح عليه؛ ليحرجه, وإنما عليه أن ينصرف بعد الثالث. نعم ثلاث مرات تكفي ! لأنك لا تدري ما المانع له من أن يأذن لك بالدخول ؟ وكونك تنصرف لما لم يمكنه استقبالك يخفف عنه كثيرا, والالتزام بهذه الآداب يقوي عواصر المحبة والود بين أفراد المجتمع.(1)
وكذلك في النكاح, فإنه غير كثيرا من العادات الجاهلية التي توارثها قومه خلفا عن سلف, فغيرها كلها بنظام محكم ومضبوط بقيود وشروط معلومة, مفيدة للجميع.
كان أنكحتهم في الجاهلية على أنحاء عديدة, أذكر لك منها أربعاً:
النكاح الأول: يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها, وهو الذي أبقى عليه الإسلام, وإنما زاده نظافة ونضارة.
النكاح الثاني: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدًا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نَجَابة الـولد، فكان هـذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع.
النكاح الثالث: يجتمع الرهط دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت، ووضعت ومرت ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان،
فتسمى من أحبت منهم باسمه، فيلحق به ولدها. لا يستطيع أن يمتنع منه الرجل.
النكاح رابع: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها،وهن البغايا،كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها، ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به، ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك، فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح أهل الجاهلية كله إلا نكاح الإسلام اليوم, وهو النوع الأول.(1)
ونكاح خامس كان بالإرث: كانوا إذا مات الرجل وترك امرأته, ورثها ابنه الأكبر بعد موته بلا صداق, فإذا كان الولد الأكبر لا يريد الزواج به, أي لا يرغب فيها زوجها بعض إخوانه, وإذا لم يريدوا زواجها غيرهم زوجوها وأخذوا صداقها أو عضلوها حتى تفتدي بما ورثته أو تموت فيرثوها. فجاء الإسلام ونهى عن هذا الفعل الإجرامي:
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾ ﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ﴾(1) تأمل في هذا التنظيف, أيها اللبيب ! تدرك أن الإسلام هو الذي حرر المرأة وشرفها, ولا حرمها ولا حقرها.
فالحرمان حيث كانت تحرم من جميع حقوقها, كما كان أهل الجاهلية يفعلون.
والتحقير والإهانة –كما هو الشأن في الغرب- حيث صارت المرأة ألعوبة تتناقلها الأيدي, وبضاعة تختار بالذوق والتشهي, وآلة لقضاء اللذات والتسلي؛ عارية عن حرمتها, وحشمتها, وعفتها,وكرامتها, وحصانتها التي كانت لها, والأطم أن أقصيت بعيدا عن مهنتها الشريفة, وهي مهنة صنع الأجيال. كل ذلك, وأوهموها أنهم حرروها, بل ضيعوها.
فالمرأة نفيسة وضعيفة. والنفيس يحفظ, والضعيف يمنع. (خيركم خيركم للنساء) (استوصوا بالنساء خيرا)
وقومه في الجاهلية كانت روح الفوقية والطبقية قوية في نفوسهم, وهو؛ مع أنه كان من أنسبهم, كان يجالس الموالي والعبيد بلا ترفع أو حرج.
وكان يربي جميع أتباعه على المساواة والأخوة في الدين.
مرّ به الملأ من قريش يوما من الأيام, وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب وغيرهم, من ضعفاء المسلمين, فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك ؟
أهؤلاء الذين مَنّ الله عليهم من بيننا ؟
أنحن نصير تبعاً لهؤلاء ؟
اطردهم فلعلك إن طردتهم أن نتبعك, فنهاه ربه عن طردهم : {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين }(2) رغم أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصا على أن يستجيب قومه لدعوته, لكن على الحق.
وكذلك هو الذي محا العصبية الجاهلية من نفوس هؤلاء الذين كانوا كما ترى؛ حتى انمحت بالكلية.
ويوما حدث شيء –وهو طبيعي- بين بلال الحبشي الأسود, وأبي ذر الغفاري, فقال له أبو ذر: يا ابن السوداء !
فشكاه بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فغضب النبي غضبا شديدا, ولما جاء أبو ذر عاتبه, وقال له: "أعيرته بأمه ؟, إنك امرؤ فيك جاهلية(1)" ، فتأثر أبو ذر بموقف النبي صلى الله عليه وسلم تؤثرا شديدا, وتحسَّر وندم كثيرا، وقال: وددت –والله- لو ضرب عنقي بالسيف، وما سمعت ذلك من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-
ووضع خده على التراب ثم قال: يا بلال؛ ضع قدمك على خدي، لا أرفعه حتى تضعه، فذرفت عينا بلال الدموع، وقال: يغفر الله لك يا أبا ذر، والله ما كنت لأضع قدمي على جبهة سجدت لله رب العالمين، ويتعانقان ويبكيان, وقد ذهب ما في القلوب.
وكان أبو ذر الغفاري رضي الله عنه يُلبس خادمه ويُطعمه ويُسكنه من نفس ما يلبس ويطعم ويسكن.
﴿ يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ﴾ {الحجرات: } (يا أيها الناس إن ربكم واحد, ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى(2)) ( إن الله أوحى إلي: أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد و لا يبغي أحد على أحد(3) )
أين كان مدعي "الحرية" و "المساواة" في هذا الوقت ؟
رأيناهم بعد ذلك بقرون, متوغلين في أقصى غابات أفريقيا؛ بحثا عن "عبيد" يأخذونهم قهرا من أوطانهم ليبيعوهم في الأسواق. وهؤلاء الذين كانوا –بالأمس القريب- يبيعون ويشترون, لما امتصوا الدماء حتى ارتووا, أفاقوا يعلموننا اليوم "الحرية" و "المساواة"
فالنبي صلى الله عليه وسلم رقي بهؤلاء إلى الكمال, فكانوا خير أمة أخرجت للناس, بعد أن كانوا في أسفل السافلين.
وما فارق الحياة الدنيا إلا وقد علمهم جميع محاسن الدنيا والآخرة, وما ترك أمرا من أمور حياتهم إلا وأدبهم أدبه على أكمله وأحسنه.
فمن الآداب التي علمهم عند قضاء الحاجة: التعوذ بالله من الشر الموجود في هذه الأماكن؛ لأنها أماكن يسكنها الشياطين, والإنسان يخلو فيها, فكان بحاجة إلى عصمة الله له من كل شر في هذه الأماكن.
الأدب الثاني: أن يقدم رجله اليسرى عندما يدخل في هذه الأماكن, لأنها أماكن النجاسات والأقذار, فناسب أن يدخل بالرجل اليسرى لأنها دون اليمنى في الفضل.
الثالث: عندما يقضي حاجته أن لا يستقبل أو يستدبر القبلة التي يستقبلها في صلاته, لأنها جهة الكعبة المشرفة التي يخصصها لصلواته, ولذا عندما يكون في مثل هذا الحال لا يحسن منه أن يستقبلها كما يفعل في الصلاة, وهذا من مظاهر الاحترام.
الرابع: الاستنجاء بالماء أو الحجر أو ما هو في معنى مما ينقي كالمنديل مثلا. ولعلك تقول: كيف يتنظف إنسان من الحجار ؟
وسأقول لك: هذا من يسر الشريعة الإسلامية ومرونته, فإنها لو حصر التنقية في الماء دون غيره لكان فيه حرج على من يعز عندهم الماء مثل سكان البادية, أو من لا يجده بالكلية. وتعلم أن بين الماء والحجر أشياء كثيرة يمكن التنظيف بها, فكل ما استعمل منها فحسن؛ إلا العظم والروث.
وكذا نهاه أن لا يستعمل يده اليمنى لإزالة النجاسة, لأن اليد اليمنى خصصت للأمور المحترمة؛ كالمصافحة والأكل وغير ذلك.
الخامس: أن من كان في الغابة مثلا, أو الصحراء يختلف عمن هو في العمران, فأمر كلا منهما بما يناسبه ليستر عورته, لأن الإسلام يحافظ على كرامة الإنسان مهما كان, ولذا أمر من كان في مكان فيه أشجار أن يستتر بشجرة عن الأنظار؛ لكن وجَّهه بتوجيه آخر, هو أن لا يقضي حاجته تحت شجر مثمرة؛ لأن الناس كثيرا ما يقصدون هذه الشجر للانتفاع بها, ولا تحت شجرة مظلة؛ يقصدها الناس للاستظلال بظلها.
وكذلك أمر من كان في الصحراء أن يستر عورته؛ بالإبعاد عن الأنظار, وأن لا يرفع ثوبه حتى بدنو من الأرض.
السادس: أن لا يقضي حاجته في طريق الناس. واعلم أن ذلك إذا كان عندك من أبعد الأمور, فغيرك ممن يعيش في أمكنة تختلف كل الاختلاف عن مكان عيشك, قد يقع منهم هذا الأمر, فهم بحاجة إلى مثل هذه التعاليم. لأن الإسلام دين جميع الناس, وجميع الأمكنة.
وهذا النهي ليس خاصا بالطريق فحسب, وكذلك كل مكان يعتاده الناس, وليس خاصا لقضاء الحاجة؛ كما تقدم في الشجرة المثمرة والمظلة.
السابع: أمره إذا فرغ من قضاء حاجته وخرج أن يقول: "غفرانك" وهذا سؤال من الله المغفرة, لأن النجاسة نوعان: حسية, ومعنوية. فإنه لما تطهر وتخلى عن النجاسة الحسية فكر في نجاسته المعنوية التي هي ذنوبه وسيئاته, فسأل الله أن يطهره منها كما يسر له التطهر من الحسية, فكان هذا تناسبا حسنا.
وهكذا في جميع أمورهم. ففي السفر مثلا: علمهم أن الأفضل أن لا يسافر أحدهم وحده؛ بل الأفضل أن يكون ثلاثة فأكثر, ووجههم إذا كانوا ثلاثة أن يؤمروا أحدهم عليهم أثناء سفرهم؛ لما في ذلك من التيسير عليهم, وجمع كلمتهم؛ حتى لا يحدث بينهم الخلاف والتنازع في أمورهم.
وهذا يعلمه كل من جربه.
وفي الجماع: أرشدهم إلى آداب سامية: أولا "وفي بضع أحدكم صدقة" قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال: (أريتم لو وضعها في الحرام أكان عليه فيها وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) هذا إرشاد إلى مقصد من أعظم مقاصد النكاح, وهو العفاف عن الحرام.
فيقضي الإنسان شهوته في هذا المحل الطاهر المباح ليكفه ذلك عن الحرام الخبيث,والزنا سرطان خبيث يأكل المجتمع الذي انتشر فيه من داخله, وأقبح أنواعه هو الذي يكون في بيت الزوجية.
خلافا لمن ينظر إليه كأي حاجة من الحوائج تقضى:
ومن يهن يسهل الهوان عليه ---- وما لجرح بميت إيلام
وأرشدهم إلى ما ينبغي من المداعبة بين الزوج والزوجة؛ لما فيه من إثارة كل منهما, ويقرب وصول كل من الطرفين إلى المطلوب من قضاء شهوته. وبما أن الرجل هو الأسرع وصولا إلى ذلك, نبهه على إلقاء مطلوب الطرف الآخر في البال؛ كيلا يحرمها من نصيبها؛ بل لا يقوم وإنما يتريث معها حتى تقضي حاجتها, وإذا كانا قد أخذا حظا وافيا من المداعبة كفيا ذلك.
وكذلك أرشد الرجل إلى الوضوء بين كل جماع, أي بين الفواصل التي تكون بين جماع وآخر؛ لأن ذلك أنشط للعود, ولما فيه من مس الماء الذي يطلق الجسم من فتوره الذي يعقب الإنزال, وهو كذلك تطهر يجدد النشاط كالأول أو يكاد.
كذلك آداب: الأكل, والشرب, ومجالسة الإخوان ومصاحبتهم, وإكرام الضيف, وطرق الأهل, ولبس الملابس, وانتعال الحذاء, والنوم, والاستيقاظ, و....., و....., إلى أشياء يطول عدها مما هو من أمور الناس في معايشهم. ففي كلها يرشدهم ويعلمهم آدابا لم تكن معروفة في حضارة من الحضارات, ولا دين من الأديان.
وهكذا جعل من بهؤلاء سُرُجا يستضاء بها, ونُجُما يهتدى بها.
الجانب الخامس: النظر في الوسائل التي استعملها النبي صلى الله عليه وسلم لفعل هذا الإصلاح والتغيير.
يتمحض من دراسة تاريخ البشرية, أن توحيد الأرض تحت نظام واحد, من التشتت والفوضى ليس بمهمة سهلة؛ خاصة وأن ينطلق من ذلك القطاع الجاف؛ الخالي عن كل نظام وحضارة(1), فإنها مهمة تضطر إلى عوامل, ووسائل قوية؛ لتنال نجاحا. أربع منها ضروري اكتمالها لدى من ستتم هذه المهمة على يديه:
لا بد أن يكون ذا شخصية بارزة جذابة, تتسم بالتكامل والاتزان في جميع الجوانب؛ ليكون قدوة يقتدى بها, وأسوة يتأسى بها, لا أن يبرز في جانب ويغمض في آخر, أو يُفْرط هنا ويفرِّط هناك.
كما هو الشأن في بعض الرجال الذي ينوه بأمره الغربيون, وتجده مكبا طول حياته على مادة ليبرز فيها, وقد تكون مما يعلمه العاديون من الناس اليوم, أو لا يكون لذلك الأمر أية علاقة بمكونات شخصيات الرجال؛ بل بما يحطمها, إلا أنهم قوم انقلبت عندهم المعايير, وتلطخ منظارهم بالهوى والتشهي؛ لا الحق والتهدي. أما ذاك فهو قائد للأبد, وهاد للبشر, والقائد له مؤهلاته, والهادي له مواصفاته.
وقد اجتمعت في شخصيته صلى الله عليه وسلم مؤهلات من أقواها: الاختيار, والإعداد, والإرسال, والإمداد من الله تعالى.
فإنه المختار الذي اختاره الله من خير نسب بني آدم؛ من صميم سلالة إبراهيم, الذي جعل الله في ذريته والنبوة والكتاب, فلم يأت نبي بعد إبراهيم إلا من ذريته, وجعل له ابنين إسماعيل, وإسحاق, وذكر في التوراة هذا وهذا.
وبشر في التوراة بما يكون من ولد إسماعيل, ولم يكن في ولد إسماعيل من ظهرت فيما بشرت به النبوات غيره, ودعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث فيهم رسولا منهم, ثم من قريش, صفوة بني إبراهيم, ثم من بني هاشم صفوة قريش, ومن مكة أم القرى, وبلد البيت الذي بناه إبراهيم, ودعا الناس إلى حجه, ولم يزل محجوجا من عهد إبراهيم, مذكورا في كتب الأنبياء بأحسن وصف.
وكان صلى الله عليه أكمل الناس تربية ونشأة, أدبه ربه فأحسن تأديبه, فلم يزل معروفا بالصدق والبر والعدل, ومكارم الأخلاق, وترك الفواحش والظلم, وكل وصف مذموم, مشهودا له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة, وممن آمن به وممن كفر بعد النبوة, لا يعرف له شيء يعاب به, لا في أقواله, ولا في أفعاله, ولا في أخلاقه, ولا جرب عليه كذبة قط, ولا ظلم, ولا فاحشة, وكان خلقه وصورته من أكمل الصور وأتمها وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله.
والنظر في سيرته وصفاته, لا يبقي أدنى شك عند كل عاقل, في كونه هو المؤهل لأن يكون قائد البشرية نحو فلاحها وصلاحها للأبد.
وهاك قطوف من حياته الطاهرة, وسيرته العطرة, عليه الصلاة والسلام(1):
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: « كان رسول الله أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا ليس بالطويل الذاهب ولا بالقصير (2)»
وعنه رضي الله عنه قال: «كان بعيد ما بين المنكبين عظيم الجمة إلى شحمة أذنيه عليه حلة حمراء ما رأيت شيئا قط أحسن منه (3)»
وعن كعب بن مالك قال: « كان النبي إذا سر استنار وجهه حتى كأنه فلقة قمر (4)»
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: « كان رسول الله ضخم الرأس والقدمين لم أر قبله ولا بعده مثله وكان بسط الكفين ضخم اليدين »
وعن أنس رضي الله عنه قال: « كان رسول الله ليس بالطويل البائن ولا بالقصير ولا بالأبيض الأمهق ولا بالآدم ولا بالجعد القطط ولا بالسبط(5) »
وعنه رضي الله عنه قال: « كان رسول الله أزهر اللون كأن عرقه اللؤلؤ إذا مشى تكفأ وما مسست ديباجة ولا حريرا ألين من كف رسول الله ولا شممت مسكا ولا عنبرة أطيب من رائحة(6)»
وعن جابر رضي الله عنه قال: « كان رسول الله لا يسلك طريقا فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرقه(7) »
وفي حديث أم معبد المشهور لما مر بها النبي في الهجرة هو وأبو بكر ومولاه ودليلهم وجاء زوجها فقال: « صفيه لي يا أم معبد » فقالت: « رأيت رجلا ظاهر الوضاءة حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن(1) »
وعن أنس رضي الله عنه قال: « كان رسول الله أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله راجعا وقد سبقهم إلى الصوت وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبي طلحة عري في عنقه السيف وهو يقول لن تراعوا » وقال: « وجدناه بحرا أو إنه لبحر(2) »
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: « كان رسول الله أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة(3) »
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا إذا احمر البأس نتقي به وإن الشجاع منا الذي يحاذي به يعني رسول الله(4) »
قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من أحسن الناس خلقا. فأرسلني يوما لحاجة فقلت: والله لا أذهب. وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله –صلى الله عليه وسلم-. قال: فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق فإذا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قابض بقفاي من روائي. فنظرت إليه وهو يضحك. فقال: ( يا أنيس ! اذهب حيث أمرتك ) . فقلت نعم أنا أذهب يا رسول الله. قال أنس: والله لقد خدمنه سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء تركت هلا فعلت كذا وكذا (5) »
و عن جابر قال: « ما سئل رسول الله شيئا فقال لا(6) »
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: « كان رسول الله أشد حياء من العذراء في خدرها وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه(7) »
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وذكر رسول الله قال: « لم يكن فاحشا ولا متفحشا, وكان يقول: (إن من خياركم أحسنكم أخلاقا )(8)»
وعن أنس رضي الله عنه قال: « لم يكن رسول الله سبابا ولا فحاشا ولا لعانا كان يقول لأحدنا عند المعتبة: (ماله تربت جبينه)(1) »
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: « ما خير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة الله(2) »
وعنها قالت: « ما ضرب رسول الله بيده شيئا قط لا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله(3) »
وعنها وقد سئلت عن خلق رسول الله فقالت: « كان خلقه القرآن(4) »
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: « بعثت لأتمم صالح الأخلاق(5) »
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: « قام رسول الله حتى تورمت قدماه فقيل: يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ » قال: ( أفلا أكون عبدا شكورا )(6) »
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: « ما عاب رسول الله طعاما قط إن اشتهاه أكله وإلا تركه (7)»
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن أنس بن مالك قال: « ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهته لذلك(8) »
وعن أنس رضي الله عنه قال: « كان غلام يهودي يخدم النبي فمرض فأتاه النبي فقال: (أتشهد أن لا إله إلا الله ؟ )
فنظر الغلام إلى أبيه فقال له أبوه: « أطع أبا القاسم » فأسلم فقال النبي: (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)(9) »
وعن أنس رضي الله عنه « أن امرأة كان في عقلها شيء. فقالت: يا رسول الله إن لي حاجة. فقال: ( يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك ) فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها (10) »
وعن أنس رضي الله عنه قال: « كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله فتدور به في حوائجها حتى تفرغ ثم يرجع(1) »
عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال «كان رسول لله – صلى الله عليه وسلم – يكثر الذكر ويقل اللغو ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له حاجته(2) »
فأين هذه التعاليم مما تعوّده الأمم سابقا من ضرب الفيافي بين الزعماء والأذلاء, والسجود لهم والانحناء, والتقرب إليهم بمعسول الكلام وعظيم الثناء, ومنحهم بعضا من صفات الرب الإله, وصرف المبالغ الطائلة على بناء مقابرهم وزخرفة أضرحتهم لزيارتها في الأعياد والمناسبات. وهؤلاء كانوا يطرون من يطرونه, ويعظمون من يعظمونه؛ تدينا, والغريب أن نرى هذه المظاهر في دول تدعي نبذ الدين وترك تقديس رجاله !! فإذا بها تتعبدهم لزعمائها من في حياتهم وبعد مماتهم !!
و عن أنس رضي الله عنه قال: « ما رأيت أرحم بالعيال من رسول الله(3) »
و عنه رضي الله عنه قال: « مر رسول الله على صبيان فسلم عليهم(4) »
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: « كان رسول الله لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام وكانوا يتحدثون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم(6) »
وعنه كان: « طويل الصمت قليل الضحك وكان أصحابه ربما تناشدوا عنده الشعر والشيء من أمورهم فيضحكون ويتبسم(7) »
وعن عائشة رضي الله عنها وسألها الأسود ما كان رسول الله يصنع في أهله ؟
فقالت: « كان يكون في مهنة أهله-تعني خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج(8) »
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: « ما شبع رسول الله ثلاثة أيام تباعا من خبز برحتى مضى لسبيله(9) »
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: « قال رسول الله : (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا)(1) »
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: « اضطجع النبي على حصير فأثر الحصير بجلده فجعلت أمسحه عنه وأقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ألا آذنتنا فنبسط لك شيئا يقيك منه تنام عليه»
فقال: ( ما لي وللدنيا ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها ) (2) »
ومتى رفع وخفض المنصف في هذه الصفات, وكيف أنها متكاملة ومتوازنة, قطع بأنها شيء مُكسب وليس بمكتسب, وأن المتصف بها إنما كان نموذجا يحتذيه البشر ليرتفع في كل جانب.
فالخصائص التي اجتمعت في شخصيته كثيرة, الواحدة منها كافية في صنع الرجال الذين يملئون التاريخ.
فلو أنه – على قولهم إن القرآن من وضعه وليس وحيا من الله – جلس طول حياته ليضع هذا الكتاب الذي عجز جميع الإنس والجن عن الإتيان بأقصر سورة فيه, مع أنه لا يقرأ ولا يكتب.
هذا وحده لو فعله لكان عديم النظير.
وهو – على قولهم إنه مقاتل قائد جيش – لو قضى حياته كلها في حشد الجموع, وإرسال الجيوش؛ لتطهير جزيرة العرب من الوثنية الجاهلية, وتحريرها من نظام التمزق والقهر والغلبة, مع أنه ليس بيده ولا بيد آباءه ملك قومه؛ لتتحد تحت لا إله إلا الله محمد رسول لكان شيئا معجزا.
ولو أنه اكتفى طول حياته بتربية هؤلاء الرجال الذين كانوا قد تضلعوا من الجاهلية, واجتثاث الرواسب الجاهلية من نفوسهم؛ ليحل محلها هذه التعاليم العالية التي فعلت بهم أئمة وقادة للناس؛ لكفاه ذلك.
ولو أنه أنفق حياته كلها في الدعوة إلى دينه, وإقناع الناس ليتركوا الأديان الأخرى ويدخلوا في دينه, وكل ما يتطلبه ذلك من قوة الحجج, والسلامة من التناقض, ومواجهة من يعاديه من أهل الكتاب والمنافقين والمجوس والصائبة والوثنيين وغيرهم, بالأدلة والحجج التي تقف في وجوههم. حتى انتصر عليهم دينه, ونال من الانتشار ما لم يسبق له مثيل, وتبعه من الناس من كل جنس وصنف من لا يحصيهم إلا الله, وقبلوا دعوته بقناعة ورضا, وأحبوه أكثر من النفس والمال والأولاد, لو أنه أنفق حياته كلها ليتحقق له هذا لكان معجزا. كيف وإنما حققه في 23 سنة فحسب ؟
ولو أنه سعى طول حياته ليقيم دولة أو ملكا يحاذي دولة وملك الروم والفارس لكفاه ذكرا أن يتحقق له ذلك, كيف وقد قام له دولة ذاب فيها تلك الدول بما فيها, ولم يكن في يده في يوم من الأيام من القوة والأعداد ما يقارب قوة تلك الدول وأعدادها, ومع ذلك قد حصل ذلك كما كان قد وعد به أتباعه.
ولو أنه مكث طول حياته في إلقاء التعليمات والتوجيهات التربوية العالية إلى البشر؛ لينتفعوا بها في استقامة حياتهم لكفى ذلك في كونه مربيا وحكيما لا يعرف له نظير.
ولو أنه بقي مدة حياته مع أهله في عيشه السعيد معهم, المليء بالتعليمات التي تطيب بها الحياة.
وما كان عليه معهم من لطف ورحمة وحب وحنان وعدل وبر وخير وصلاح و...... و......, لكان كافيا ليكون الوالد والزوج الذي يقتضى به.
ولو أنه بقي طول حياته في عبادته لربه, والزهد والصلاح وقراءة القرآن والبكاء من خشية ربه؛ لكفى ليكون إمام العباد والصالحين.
كيف وقد اجتمع ذلك وأكثر في شخصيته صلى الله عليه وسلم ؟
أن يكون صاحب دعوة شاملة مبرهنة بالحجج القاطعة, والأدلة الساطعة, مقرونة بالتحدي والإعجاز؛ لقصم ظهور الملحدين, وقطع طمع المبطلين, ولأنها دعوة من شأنها معايشة الظروف, ومناسبة العصور, ومخاطبة الصنوف.
ودعوة كهذه لا تقوم إلا على أساس النبوة, والأمر كذلك فإن الرجل خاتم النبيين, قد أرسله الله إلى الناس كافة, وهذه النبوة ليست مجرد ادعاء عار عن الحق وتبعه عليه الناس,
لا وكلا !!!
الأمر ليس بهذا الهون, لأن الرجل كان أميا من قوم أميين, لا يعرف, لا هو, ولا هم, ما يعرفه أهل الكتاب, التوراة والإنجيل, ولم يقرأ شيئا عن علوم الناس, ولا جالس أهلها, ولم يدع نبوة إلى أن أكمل الله له أربعين سنة, فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها, وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره, وأخبرنا بأمر, لم يكن في بلده وقومه, من يعرف مثله, ولم بعرف قبله ولا بعده, ولا في مصر من الأمصار, ولا في عصر من الأعصار, من أتى بمثل ما أتى به, ولا من ظهر كظهوره, ولا من أتى من آيات بمثل ما أتى به, ولا من دعا إلى شريعة أكمل من شريعته.
والذين اتبعوه, لم يتبعوه لرغبة ولا لرهبة, فإنه لم يكن عنده مال يعطيهم, ولا جهات يوليهم إياها, ولا كان له سيف, بل كان السيف والمال والجاه مع أعدائه.
وقد آذوا أتباعه بأنواع الأذى, وهم صابرون محتبسون, لا يرتدون عن دينهم لما خالط قلوبهم من حلاوة الإيمان والمعرفة.
وهو صلى الله عليه وسلم - مع ظهور أمره وطاعة الخلق له وتقديمهم له على الأنفس والأموال - مات ولم يخلف درهما ولا دينارا ولا شاة ولا بعيرا له إلا بغلته وسلاحه, ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعا من شعير, ابتاعها لأهله.
وكان بيده عقار ينفق منه على أهله, والباقي يصرفه في مصالح المسلمين, فحكم بأنه لا يورث, ولا يأخذ ورثته شيئا من ذلك.
وهو في كل وقت, يظهر على يديه من عجائب الآيات وفنون الكرامات ما يطول وصفه ويخبرهم بخبر ما كان وما يكون, ويأمرهم بالمعروف, وينهاهم عن المنكر, ويحل لهم الطيبات, ويحرم عليهم الخبائث, ويشرع الشريعة شيئا بعد شيء, حتى أكمل الله دينه الذي بعث به, وجاءت شريعته أكمل شريعة, لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به, ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه, لم يأمر بشيء فقيل: ليته لم يأمر به, ولا نهى عن شيء فقيل: ليته لم ينه عنه, وأحل الطيبات, لم يحرم شيئا منها كما حرم في شرع غيره, وحرم الخبائث, لم يحل منها شيئا كما استحله غيره, وجمع محاسن ما عليه الأمم فلا يذكر في التوراة, والإنجيل, والزبور, نوع من الخبر عن الله وعن ملائكته وعن اليوم الآخر, إلا وقد جاء به على أكمل وجه؛ وأخبر بأشياء ليست في الكتب.
فليس في الكتب إيجاب لعدل, وقضاء بفضل, وندب إلى الفضائل, وترغيب في الحسنات, إلا وقد جاء به, وبما هو أحسن منه.
وإذا نظر اللبيب في العبادات التي شرعها, وعبادات غيره من الأمم, ظهر فضلها ورجحانها, وكذلك في الحدود والأحكام وسائر الشرائع.(1)
وآيته الكبرى صارخة بصدقه, وقد تحدى بها الإنس والجان؛ مع كونه أميا لا يقرأ ولا يكتب, فما أجاب لتحديه ألد أعداءه إلى الآن, وهم لو استطاعوا بيان كذبه لما ترددوا فيه ثانية, لكنهم لم يفعلوا, وإنما بقوا يصيحون ويقولون: "دعاية" !!! أ هم رجال ؟
﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ﴾ {الإسراء:88}
أخبر بهذا في أول أمره إذ كانت هذه الآية في سورة « سبحان » وهي مكية, صدرها بذكر الإسراء الذي كان بمكة باتفاق الناس.
وقد أخبر خبرا وأكده بالقسم عن جميع الثقلين, إنسهم وجنهم, أنهم إذا اجتمعوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن, لا يأتون بمثله, بل يعجزون عن ذلك, وهذا فيه آيات لنبوته.
و إقدامه على هذا الخبر العظيم عن جميع الإنس والجن إلى يوم القيامة, بأنهم لا يفعلون هذا بل يعجزون عنه, لا يفعله من يطلب الناس أن يصدقوه إلا وهو واثق بأن الأمر كذلك, إذ لو كان عنده شك في ذلك لجاز أن يظهر كذبه في هذا الخبر, فيفسد عليه ما قصده, وهذا لا يقدم عليه عاقل, مع اتفاق الأمم, المؤمن بمحمد والكافر به, على كمال عقله ومعرفته وخبرته إذ ساس العالم سياسة لم يسسهم أحد بمثلها.
ثم لم يكن تحديه في أمر يفوت بفوات أوانه, بل جعله في هذا القرآن المتلو المحفوظ إلى يوم القيامة, الذي يقرأ به في الصلوات, ويسمعه العام والخاص, والولي والعدو دليل على كمال ثقته بصدق هذا الخبر, وإلا لو كان شاكا في ذلك, لخاف أن يظهر كذبه عند خلق كثير, بل عند أكثر من اتبعه ومن عاداه, وهذا, لا يفعله من يقصد أن يصدقه الناس, فمن يقصد أن يصدقه الناس, لا يقول مثل هذا ويظهره هذا الإظهار, ويشيعه هذه الإشاعة, ويخلده هذا التخليد, إلا وهو جازم عند نفسه بصدقه.
ولا يتصور أن بشرا يجزم بهذا الخبر إلا أن يعلم أن هذا مما يعجز عنه الخلق إذ علم العالم بعجز جميع الإنس والجن إلى يوم القيامة, هو من أعظم دلائل كونه معجزا وكونه آية, على نبوته فهذا من دلائل نبوته في أول الأمر عند من سمع هذا الكلام وعلم أنه من القرآن الذي أمر ببلاغه إلى جميع الخلق وهو - وحده - كاف في العلم بأن القرآن معجز.
دع ما سوى ذلك من الدلائل الكثيرة على أنه معجز, مثل عجز جميع الأمم عن معارضته مع كمال الرغبة والحرص على معارضته.
وعدم الفعل مع كمال الداعي يستلزم عدم القدرة.
فلما كان دواعي العرب وغيرهم على المعارضة تامة. علم عجز جميع الأمم عند معارضته, وهذا برهان ثان يعلم به صدق هذا الخبر وصدق هذا الخبر آية لنبوته, غير العلم بأن القرآن معجز, فإن ذلك آية مستقلة لنبوته وهي آية ظاهرة باقية إلى آخر الدهر, معلومة لكل أحد وهي من أعظم الآيات فإن كونه معجزا يعلم بأدلة متعددة, والإعجاز فيه وجوه متعددة, فتنوعت دلائل إعجازه وتنوعت وجوه إعجازه وكل وجه من الوجوه, هو دال على إعجازه وهذه جمل, لبسطها تفصيل طويل, ولهذا قال تعالى: ﴿ وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ﴾ {العنكبوت: 51}
فهو كاف في الدعوة والبيان, وهو كاف في الحجة والبرهان.
هذا, لو كان الرجل طامعا في الملك وأعراض الدنيا, لأمكن القول بأنه أتى بدعايات فارغة لنيل مأربه, ولم يكن يغتم لانكشاف أباطيله بعد ذلك, إلا أن الرجل أزهد الناس عن الدنيا: ( ما لي وللدنيا ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها )
و لو كان هذا الكتاب من وضعه بالفعل؛ كما يقولون, وقد تحدى به الإنس الجن فلم يقدروا على الإتيان بمثله, لكان فخره بأنه من وضعه الخاص, ولم يشاركه فيه أحد, أعظم وأولى من أن ينسبه إلى غيره ويصرح بأنه ليس له فيه إلا مجرد التبليغ.
وفي هذا المعنى أيضا, أنه لما فصل الحق في أمر عيسى عليه السلام, قال: ﴿ فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ﴾ {آل عمران:61}
ولو كان يعلم أنه غير صادق لما أقدم على فضح نفسه, لأنهم لو أجابوه لكان فيه بيان كذبه على كل حال, وهو عكس قصده, وإذا لم يجيبوه في حياته فقد يجيبون أتباعه من بعده, فكان فيه إيقاع لهم في الحرج والضيق !
ولما نزلت عليه هذه الآية, بادر إلى الخروج بأهله دون توقف أو تردد, وطالبهم بذلك فامتنعوا, وهم لو تيقنوا كذبه وصدقهم لما كان لامتناعهم عن إظهار صدقهم وكذبه الذي تحداهم به أي معنى.
وهذا لو كان في جزئية من عقيدتهم لَعِيب عليهم إعراضهم عنها؛ مع القدرة على كشف الحق فيها, كيف وهو في أس عقيدتهم ؟!!
وعجزهم – على مر الأيام - عن إسقاط هذه التحديات التي تصرخ في الآفاق بصدق ما جاء به هذا الرجل, وكذب ما هم عليه, من أكبر الآيات على أن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكل الذين أصروا على التكذيب بدعوة هذا الرجل؛ رغم وضوحها وقوتها, لا يصح منهم تصديق رسول آخر من رسل الله.
ذلك لأن الطريق الذي يعلم به نبوة موسى وعيسى يعلم به نبوته بطريق الأولى.
فإذا قالوا: عُلمت نبوة موسى والمسيح بالمعجزات وعُرفت المعجزات بالنقل المتواتر إلينا.
قيل لهم: معجزات محمد أعظم, وتواترها أبلغ, والكتاب الذي جاء به محمد أكمل, فإن معجزة كل من موسى وعيسى عليهما السلام كانت في إطار محدود لم تجاوزه لتخاطب العالم بأكمله, وإنما سمع بها من لم يشهدها في حينها ومكانها عن طريق النقل, ومحمد صلى الله عليه وسلم قد ثبت له من هذا الجنس الشيء الكثير, ونقل نقلا أفيض وأصح. ثم خص بالمعجزة الخالدة التي أعجز الإنس والجان.
فإن ساغ لقائل أن يقول هو مع هذا كاذب مفتر, كان على هذا التقدير الباطل غيره أولى أن يقال فيه ذلك, فيبطل بتكذيبهم محمدا جميع ما معهم من النبوات إذ حكم أحد الشيئين حكم مثله فكيف بما هو أولى منه ؟(1)
وهناك شيء آخر, وهو أنهم لما قالوا إن هذا الرجل كاذب, وظالم, وباغ, و...., و.....,
إلى ما هنالك من التهم التي يلصقونها به, مع إيمانهم بأن لهذا الكون خالقا وربا ومالكا, وأنه ما وُجد صدفة هكذا - كما يقوله الفلاسفة الدهريون -, فإنهم بهذا التكذيب قد شتموا رب العالم ومالكه أقبح شتم.
ستقول لي: كيف ذلك ؟
وأجيبك: بأنهم إن قالوا : إن محمداً ملك ظالم قهر الناس بسيفه وليس برسول من عند الله، وقد أقام ثلاثاً وعشرين سنة يدعي أنه رسوله الله أرسله إلى الخلق كافة، ويقول : أمرني الله بكذا ونهاني عن كذا وأوحى إلى كذا ، ولم يكن من ذلك شيء.
وهو يدأب في تغيير دين الأنبياء ومعاداة أممهم ونسخ شرائعهم ، فلا يخلو إما أن يقولوا: إن الله سبحانه كان يطلع على ذلك ويشاهده ويعلمه أو تقولوا إنه خفي عنه ولم يعلم به ،
فإن قالوا: لم يعلم به نسبوه إلى أقبح الجهل وكان من علم ذلك أعلم منه ، وإن قالوا: بل كان ذلك كله بعلمه ومشاهدته واطلاعه عليه فلا يخلو إما أن يكون قادراً على تغييره والأخذ على يديه ومنعه من ذلك أو لا، فإن لم يكن قادراً فقد نسبوه إلى أقبح العجز المنافي للربوبية، وإن كان قادراً وهو مع ذلك يعزه وينصره ويؤيده ويعليه ويعلي كلمته، ويجيب دعاءه ويمكنه من أعدائه ويظهر على يديه من أنواع المعجزات والكرامات ما يزيد على الألف ولا يقصده أحد بسوء إلا أظفره به ولا بدعوة إلا استجابها له فهذا من أعظم الظلم والسفه الذي لا يليق نسبته إلى آحاد العقلاء فضلاً عن رب الأرض والسماء فكيف وهو يشهد له بإقراره على دعوته وبتأييده وبكلامه وهذه عندهم شهادة زور وكذب.
وإن فروا من ذلك وقالوا: معاذ الله أن يفعل الله هذا بكاذب مفتر بل هو نبي صادق من اتبعه أفلح وسعد, لكنه بعث إلى الأميين الذين لا كتاب لهم ؟
قيل لهم : غلبتم كل الغلب، فإنه قد علم الخاص والعام أنه أخبر أنه رسول الله إلى جميع الخلق ، وإن من لم يتبعه فهو كافر من أهل الجحيم ، وقاتل اليهود والنصارى وهم أهل كتاب ، وإذا صحت رسالته وجب تصديقه في كل ما أخبر به.(1)
وأختم هذا الحديث بالنقاش الذي دار بين هرقل ملك الروم, وأبي سفيان, وكان وقتئذ على الكفر:
قال أبو سفيان(2): جئ بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل, فأرسل إليه في ركب من قريش؛ وكانوا تِجَاراً بـالشام في المدة التي كان رسول الله عليه الصلاة والسلام مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش, فأتوه وهم بـإيلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟
قال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً. فقال: أدنوه مني، وقرِّبوا أصحابَه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائلٌ هذا عن هذا الرجل، فإن كَذَبني فكذِّبوه.
فقال أبو سفيان : وأيم الله لولا مخافة أن يؤثر على الكذب لكذبت.
ثم قال لترجمانه : سله كيف حسبه فيكم ؟ قال قلت : هو فينا ذو حسب قال : فهل كان من آبائه من ملك قلت : لا .
قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت : لا ، قال : ومن اتبعه ، أشراف الناس أم ضعفاؤهم ؟ قلت : بل ضعفاؤهم ، قال : أيزيدون أم ينقصون ؟ قلت : لا بل يزيدون ، قال : فهل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟ قال قلت : لا
قال : فهل قاتلتموه ؟ قلت نعم، قال فكيف كان قتالكم إياه ؟ قال قلت : يكون الحرب بيننا وبينه سجالا يصيب منا ونصيب منه، قال : فهل يغدر ؟ قلت لا ونحن منه في مدة ما ندري ما هو صانع فيها، قال : فواله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه ، قال: فهل قال هذا القول أحد قبله ؟ قلت لا.
قال لترجمانه: قل له إني سألتك عن حسبه فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها، وسألتك هل كان في آبائه ملك ؟ فزعمت أن لا، فقلت لو كان في آبائه ملك لقلت يطلب ملك آبائه، وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم ؟ فقلت بل ضعفاؤهم ، وهم أتباع الرسل.
وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فزعمت أن لا ، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله عز وجل(1)، وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سخطة له ؟ فزعمت أن لا وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب ، وسألتك هل يزيدون أم ينقصون ؟ فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم .
وسألتك هل قاتلتموه ؟ فزعمت أنكم قاتلتموه فيكون الحرب بينكم وبينه سجالاً ينال منكم وتنالون منه ، وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة .
وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أنه لا يغدر ، وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله ؟ فزعمت أن لا ، فقلت لو قال هذا القول أحد من قبله قلت رجل ائتم بقول قيل قبله .
ثم قال : فبم يأمركم ؟ قلت : يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف.
قال: إن يكن ما تقول حقاً إنه لنبي، وقد كنت أعلم أنه خارج ولكن لم أكن أظنه منكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه وليبلغن ملكه ما تحت قدمي.
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه: فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.
وهذا في غنى عن تعليق.
3) أن يكون الرجل معززا بالقوة المعنوية والمادية معا؛ لتقف بهما في وجوه كل مكابر معاند, يترصد لدعوته, ويروم قطع طريق الناس عنها, وتوفر إحدى هاتين القوتين مع تخلف الأخرى خلل وضعف.
وهذه النقطة يسيل لها لعاب البعض؛ لذا يحسن إماطة الغبش وإزاحة الغبار عنها.
فأقول: إن لله في كونه سننا لا تتبدل ولا تتخلف, ومنها أنه تعالى لحكمة بالغة قد جعل لكل شيء سببا وطريقا يؤتى إليه, فهو القادر على أن ينصر رسوله على كل من وقف لصد دعوته؛ دون أن يلجئه إلى الأسباب المادية أو المعنوية: ﴿ ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض ﴾
{ محمد:4} ولو كان الأمر كذلك لأخرجه عن العادة الجارية في الكون, وعن طبيعة البشرية, إلى الملكية, فيعتذر الناس بذلك عن الاقتداء به ونهج منهجه؛ لأنهم دون ذلك بمراحل.
لكنه القائل: ﴿إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي﴾ {الكهف: 110}
وهو الذي قيل له ﴿ ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ﴾ {الفرقان: 7}
فيجيب: ﴿ لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسول ﴾ {الإسراء: 95} فإنه بشر وليس بملك, وأرسل إلى البشر لا إلى الملائكة.
ومن تلك السنن أن جعل لكل نبي عدوا من المجرمين: ﴿وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين﴾ {الفرقان: 31} وهو عدو مجرم ينصب الصدود والعراقيل للحيلولة دون استجابة الناس لدعوته, فكان لزاما أن يأخذ بالأسباب المادية والمعنوية لتنحية هذا العدو وتأمين خطره, وإن أدى الأمر في بعض الأحيان – لا كلها - إلى إراقة الدماء, لأنها وإن كانت مفسدة من وجه, إلا أنها مفسدة اقتضى ارتكابها تحصيل مصلحة أكبر منها بكثير, وهي هداية الناس التي تحقق لهم الفلاح والسعادة وفي هذه وتلك.
ولا شك أن تحصيل مصلحة بارتكاب مفسدة دونها عقل وعدل, وكذلك درء مفسدة بتفويت مصلحة دونها عقل وعدل.
ولا يتوقف عاقل في قطع عضوه المتآكل إذا توقف عليه حياة وسلامة بقية الجسد, والقطع - وإن أراده القاطع - إلا أنه ليس مرادا لذاته, وإنما هو مراد لغيره, فلم يكن هناك أي تعارض بين هذا وهذا. القطع من حيث هو قطع ضرر, ولا بد منه لأنه الوسيلة, والقطع من حيث هو وقاية وسبب برء منفعة, وهي الغاية.
فإن من أقبح الجهل أن يقصر أحد نظره على لفظ: "قطع عضو" وكراهته إلى النفوس دون التعمق في نوعيته ونتائجه المترتبة عليه.
وكذلك الشدة في محل اللين حمق وخرق, واللين في محل الشدة ضعف وخور:
إذا قيل حلم قل فللحلم موضع
وحلم الفتى في غير موضع جهل
وأصور لك ذلك بالتمثيل(1): فالأمم المتحدة مثلا, يقولون إنها هيئة سلمية تسعى لاستقرار السلام بين الأمم, ولذا يحق له التدخل في بعض القضايا الجارية بين الشعوب للحيلولة دون تفاقم الأمر, والسعي لإعادة الأمن, فرسالتها سلمية بحتة, ولا يجرأ أي منا مثلا على وصفها بالشدة أو الإرهاب أو نحو ذلك من الأوصاف التي تتناقض وأهدافها السلمية, ولكن هل معنى ذلك أنها لا تستعمل القوة بحال من الأحوال, وإن توقف عليه تحقيق أهدافها السلمية ؟
وهل لا يلومها العقلاء إذا توقف عن استعمال القوة لوقف عدوان المعتدي على شعب من الشعوب؛ إذا استلزم وقفه ذلك ؟
وهل الضرر الناتج من ردع هذا الجاني شيء يذكر في جانب الأضرار التي ستلحق الشعوب إذا لم يكن ثمة قوة عادلة وحيادية تمنع من الاعتداء عليها: ﴿ ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العلمين ﴾ {البقرة: 251}
فمن الحكمة إذاً أن يتصف من له مثل هذه الرسالة بالشمولية والاعتدال والتوازن, وليس أن ينحصر في ميدان ليغيب عن ميادين, أو يركز اهتمامه في قضية ويهمل قضايا أخرى.
فطبيعة رسالة محمد عليه الصلاة والسلام, والعقبات التي كانت تحول دون إبلاغها, كانت تقتضي منه هذه الشمولية مع التوازن والاعتدال في القوة والسلم أكثر.
يتبن لك ذلك أكثر إذا عرفت أصناف المناوئين لدعوته, فإنهم لا يخرجون عن رجلين:
إما جاهل لا يتصور فحوى دعوته تصورا صحيحا, وهو حال أكثر الناس، فإن من جهل شيئاً عاداه وعادى أهله؛ كما هو حال كثير من الغربيين الذين قد أحكمت القبضة عليهم القوى الإعلامية في الغرب, والتي لا تعرض دعوة النبي الكريم إلا مشوهة, ولا تعرِّف المسلمين إلا "إرهابيين",
وفي الوقت نفسه, تقطع عنهم كل مصدر خارج عن لعبتهم.
وهذه القوى وراءها أيدٍ خفية, وهي المتحكم في الرأي العام الغربي بالقلب والتصريف, ومن المؤسف أن لا يكاد ينفلت عنها مصدر معتبر عندهم.
وهذا الاحتكار لمصدرية المعلومات, مع الحصار الثقافي المعرفي, أكبر خطر يهدد الغرب بكليته؛ إذ تصورهم للعالم الخارجي ينبني على جهاز خاضع لأغراض وأهواء رجال.
وهذا الجاهل الذي نتحدث عنه جهله مركب, وهو بحاجة إلى دواءين ضروريين إن رام لمرضه برءا:
الدواء الأول: أن يعترف بجهله وسوء تصوره لهذه الدعوة, وليس أن يركب رأسه ليبقى على خطأه إذا كان منصفا مع نفسه, ومع الناس الذين يتفرع موقفه منهم عن هذا التصور الخاطئ. هذا الاعتراف هو الذي يفتح له الطريق إلى:
الدواء الثاني: أن يُصحَّح له خطأ تصوره هذا, ثم إن أراد الله به خيرا فتح صدره لاستجابة هذه الدعوة العظيمة. وأما إن صحب جهلُه بغضَ من دعا بهذه الدعوة, ومعاداته له وحسده, كان المانع من القبول أقوى, يتطلب دواء أقوى.
فإن انضاف إلى ذلك توهمه أن الحق الذي دعي إليه يحول بينه وبين جاهه وعزه وشهواته وأغراضه قوي المانع من القبول جداً, وقد يحمله بعض ذلك أو كله على معاداة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ومحاربته.
وأحسن من يضرب مثلا لذلك هم النصارى, فإنهم لجهلهم أطبقوا على أن الإله الحق – سبحانه وتعالى عما يقولون – صلب وصفح وسمر ووضع الشوك على رأسه ودفن في التراب ، ثم قام في اليوم الثالث وصعد وجلس على عرشه يدبر أمر السموات والأرض ، فلا يكثر عليهم إذاً أن يطبقوا على جحد دعوة من جاء لبيان غلط عقيدتهم هذه, وأنها كفر وضلال ؟
وكيف ينكر لأمة أطبقت على صلب معبودها وإلهها ثم عمدت إلى الصليب فعبدته وعظمته، وكان ينبغي لها أن تحرق كل صليب تقدر على إحراقه، وان تهينه غاية الإهانة إذ صلب عليه إلهها, أن تجحد حق عبده ورسوله وتكفر به ؟
وكيف يكثر على أمة قالت في رب الأرض والسموات: إنه هبط بذاته من السماء ، والتحم في بطن مريم ، فاخذ منها حجاباً ، وهو مخلوق من طريق الجسم ، وخالق من طريق النفس، وهو الذي خلق جسمه وخلق أمه، وأمه كانت قبله بالناسوت، وهو كان من قبلها باللاهوت ، وهو الإله التام ، والإنسان التام، ومن تمام رحمته تبارك وتعالى على عباده أنه رضي بإراقة دمه عنهم على خشبة الصليب، فمكن أعداءه اليهود من نفسه ليتم سخطه عليهم، فأخذوه وصلبوه وصفعوه وبصقوا في وجهه, كيف يكثر على أمة كهذه أن تقول في عبده ورسوله إنه ساحر وكاذب وملك مسلط ونحو هذا ؟(1)
الرجل الثاني: هو المكابر المعاند الذي قد اتضح عنده وجاهة هذه الدعوة وصدقها, وهو عابد لهواه والشيطان اللذين حالا دون قبوله الحق حيث ظهر. فهذا الرجل هو الذي يحارب ويعادي هذه الدعوة, وإن جر معه الرجل الأول؛ إلا أن ذاك جاهل مخدوع, وهو عالم مصدود, وما صده إلا عبادته لهواه والشيطان. الأمر الذي يفسر لك تفاني هذا الصنف في محاولة إطفاء نور دعوة
النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.
وأحسن مثال لهذا, عداوة اليهود لهذه الدعوة منذ بدايتها, فإنهم كانوا على علم بأنها حق؛ لأنهم قد أخبروا بأمرها وأمر صاحبها حتى كانوا منهما على بصيرة, إلا أنهم كانوا يتمنون أن يخرج منهم لا العرب؛ كما قد تعودوه, إلا أن القدر الإلهي جانب أمنيتهم, فكان أن خرج ذلك الداعي من غيرهم, فأخذهم الكبر والحسد عن تصديقه وطاعته, و منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا, ما زالت عداوته تحرق قلوبهم, وهم يستعملون كل ما يمكنهم من وسيلة لدفع الناس إلى أن يقفوا منه موقفهم.
واعلم أن الحسد من أكبر أسباب رد الحق والصد عنه، فانه داء كامن في النفس، ويرى الحاسد المحسود قد فضل عليه وأوتي ما لم يؤت نظيره فلا يدعه الحسد أن ينقاد له ويكون من أتباعه.
وهل منع إبليس من السجود لآدم إلا الحسد ؟!
فإنه لما رآه قد فضل عليه ورفع, غص بريقه واختار الكفر على الإيمان بعد أن كان بين الملائكة.
وهذا الداء بالذات, هو الذي منع اليهود أيضا من الإيمان بعيسى ابن مريم, وقد علموا علماً لا شك فيه أنه رسول الله جاء بالبينات والهدى, فحملهم الحسد على أن يختاروا الكفر على الإيمان وأطبقوا عليه.
هذا وقد جاء المسيح بحكم التوراة ولم يأت بشريعة يخالفهم ولم يقاتلهم، وإنما أتى بتحليل بعض ما حرم عليهم تخفيفاً ورحمة وإحسانا ، وجاء مكملاً لشريعة التوراة، ومع هذا اختاروا كلهم الكفر على الإيمان ، فكيف يكون حالهم مع نبي جاء بشريعة مستقلة ناسخة لجميع الشرائع ، مبكتاً لهم بقبائحهم، ومنادياً على فضائحهم، وقد قاتلوه وحاربوه وهو في ذلك كله ينصر عليهم ويظفر بهم ويعلو هو وأصحابه, وهم معه دائماً في سفال، فكيف لا يملك الحسد والبغي قلوبهم؟
وأين يقع حالهم معه من حالهم مع المسيح وقد أطبقوا على الكفر به من بعد ما تبين لهم الهدى ؟ (1)
وكل من تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم عرف أن استعماله للقوة ليس لإكراه الناس على دينه قط: ﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ﴾ {البقرة:256}
وأنه إنما قاتل من قاتله وأما من هادنه فلم يقاتله مادام مقيما على هدنته لم ينقض عهده، بل أمره الله تعالى أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له : ﴿ فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ﴾ {التوبة: 7}
ولما قدم المدينة صالح اليهود وأقرهم على دينهم ، فلما حاربوه ونقضوا عهده – كعادتهم - وبدؤوه بالقتال قاتلهم لتأمين خطرهم.
وكذلك لما هادن قريشا عشر سنين لم يبدأهم بقتال حتى بدأوا هم بقتاله ونقضوا عهده، فعند ذلك غزاهم في ديارهم، وكانوا هم يغزونه قبل ذلك كما قصدوه يوم أحد ويوم الخندق، ويوم بدر أيضاً هم جاءوا لقتاله ولو انصرفوا عنه لم يقاتلهم.
وإذا دققنا النظر في التوجيهات التي كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يمليها على جنوده, والغايات التي كانت نصب عينيه, أيقنا بأن المثل العليا والرغبة في هداية الناس كانت تمثل الروح المهيمنة على دعوته وجهاده.
وإن تخفيض الضرائب على سكان المناطق المفتوحة, وإبقاء الأملاك الشخصية والمحافظة على البنية الاقتصادية لها يدل على أنه كان تتحكم في مواقف هذا النبي روح الهداية والإعمار, لا الغواية والدمار.
ودراسة الواقع التاريخي لانتشار الإسلام تكشف عن حقيقة اعتناق الناس للإسلام منذ عصر السيرة, وأنه كان يتم في ظروف السلم بنطاق أوسع بكثير من ظروف القتال, فعدد من أسلم بعد الحديبية أضعاف عدد من أسلم قبل الصلح.
وقد استمر انتشار الإسلام بعد انحسار سلطانه العسكري والسياسي, وما زال يمتد في العصر الحديث ويدخل فيه الآلاف والآلاف من جميع قارات العالم, فلا شك إذاً في تهافت مقولة إن الإسلام انتشر بالسيف.(2)
والذين يتشبثون بهذا الهُراء إنما ألجأهم إليه الهروب من القول بأن الاتساع الواسع, والفتوحات العظيمة التي حققها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بسرعتها فائقة, من آياته الدالة على صدق دعوته.
وأنت يكفيك أن تنظر إلى منبع هذا الدين الذي جاء به, وكيف ألف جزيرة العرب على افتراق قلوبها, وكثرة ضغائنها وتعاديها, وكيف ألفهم وجمع قاصيهم لدانيهم, وأزال تلك العداوات, وأحل الأخوة الإيمانية محلها.
ثم اندفعوا في أقطار الأرض يفتحونها قطرا قطرا, وفي مقدمة هذه الأقطار أُمَّةُ فارس والروم أقوى الأمم وأعظمها ملكا, وأوسعها نفوذا, وأشدها قوة, وأكثرها عددا وعدة, ففتحوهما وما وراءها بفضل دينهم, وقوة إيمانهم, ونصر الله ومعونته لهم, حتى وصل الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها.
فصار هذا يعد من آيات الله, وبراهين دينه, ومعجزات نبيه, وبهذا دخل الخلق فيه أفواجا ببصيرة وطمأنينة, لا بقهر وفتنة.
فإذا نظرت نظرة إجمالية إلى هذا الأمر عرفت أن هذا هو الحق الذي لا يقوم له الباطل مهما عظمت قوته وتعاظمت سطوته.
هذا يعرف ببداهة العقول, ولا يرتاب فيه منصف, وهو من الضروريات.
بخلاف ما يقوله طائفة من كتاب العصر الذين دفعهم جحدهم للحقائق إلى التفوه بمثل هذا.
فزعموا أن انتشار الإسلام وفتوحاته الخارقة للعادة مبني على أمور مادية محضة, وحللوها بمزاعمهم الخاطئة, لأنهم قد أهدروا تأثير الأمر الإلهي في الأمور, فراحوا يحللون كل ما يحدث بتحليلاتهم المادية البحتة, وهو غلط بلا شك, لأن المحلل لا يهتدي إلى الحق فيما يحلله إلا إذا شمل تحليله جميع جوانبه, أما أن يقصر نظره في جانب فقط, وإن رأى ما يخرج عنه لواه ليكون منه, فهذا ليس بتحليل منصف.
وهم بصفتهم محللين, وإن لم يؤمنوا – أو يحبوا- بالتأثير الإلهي في الأمور, كان عليهم أن يضعوا هذا الجانب تحت الأشعة, بما أن من يحللون أمرهم هم يؤمنون به, ويعللون به جميع انجازاتهم, و ليس لهم أن يلغوا هذا الجانب نهائيا ليحصروا نظرهم في جانب آخر, ويحللوا الأمور بتحليلات مادية يكذب الواقع إمكانها, فهذا تضليل وليس بتحليل.
وهم يعللون انتشار وانتصار الإسلام بضعف دولة الكاسرة ودولة الرومان, وقوة المادة في العرب.
وهذا مجرد تصوره كاف في إبطاله. فأي قوة في العرب تؤهلهم لمقاومة أدنى حكومة من الحكومات في ذلك الوقت ؟ فضلا عن الحكومات الكبيرة الضخمة, فضلا عن مقاومة أضخم الأمم في وقتها على الإطلاق وأقواها وأعظمها عددا وعدة في وقت واحد, حتى مزقوا الجميع كل ممزق, وحلت محل أحكام هؤلاء الملوك الجبابرة أحكام القرآن والدين العادلة, التي قبلها وتلقاها بالقبول كل منصف مريد للحق.
فهل يمكن تفسير هذا الفتح المنتشر المتسع الأرجاء بتفوق العرب في الأمور المادية المحضة ؟
وإنما يتكلم بهذا من يريد القدح في الدين الإسلامي, أو راج عليه كلام الأعداء من معرفة للحقائق.
ثم بقاء هذا الدين على توالي النكبات, وتكالب الأعداء على محقه وإبطاله بالكلية, من آيات الإسلام, وأنه دين الله الحق, فلو ساعدته قوة كافية ترد عنه عداء العادين وطغيان الطاغين لم يبق على وجه الأرض دين سواه, ولقبله الخلق من غير إكراه ولا إلزام, لأنه دين الحق, ودين الفطرة, ودين الصلاح والإصلاح, ولكن تقصير أهله وضعفهم, وتفرقهم, وضغط أعدائهم عليهم هو الذي أوقف سيره, وصبر الأمر كما ترى.
وأغلق القوس لأرجع إلى الكلام عن رحمة هذا الرجل صلى الله عليه وسلم, فإنها كانت من أسرار تقبل الناس لدعوته, والتفافهم حوله, وحبهم العميق له: ﴿فبما رحمة من الله لنت لهم, ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ﴾ {آل عمران: 159}
وهو الذي تمكن من أعداءه الذين صبوا عليه وأصحابه جميع أنواع العذاب, وسلبوا أموالهم، وديارهم، وأجلوهم عن بلادهم ، لكنه- صلى الله عليه وسلم- قابل كل تلك الإساءات بالعفو والصفح والحلم قائلاً: (يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم ؟)
قالوا : خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم،
فقال-صلى الله عليه وسلم : ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) .
وقد أنزل الله عليه: ﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ﴾ {النحل: 126} فاختار أن يعفو عنهم ويصبر على ما كان منهم, وأن لا يعاقب فقال: (نصبر ولا نعاقب)(2)
وهو الذي أرسل إليه أحد أصحابه عند موت ابنه ليحضر عليه الصلاة والسلام, فلما جاء رفع إليه الصبي ونفسه تتقعقع ففاضت عيناه, فقيل له: يا رسول الله ما هذا ؟
فقال: (هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده. وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)(3)
وهو الذي كان يقبل الأطفال, فرآه يوما رجل يقبل الحسن بن علي فقال له: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً. فنظر إليه صلى الله عليه وسلم فقال: (من لا يرحم لا يُرحم)(4)
وهو الذي مر بقرية نمل قد أحرقت, فغضب وقال: (إنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله عز وجل)(5)
وهو القائل في الحيوان فضلا عن البشر: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) (6)
وهو الذي سأله رجل فقال: يا رسول الله. إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها. أو قال: إني لأرحم الشاة أن أذبحها.
فقال صلي الله عليه وآله وسلم: (والشاة إن رحمتها رحمك الله)(7) رواه أحمد وصححه الحاكم.
وهو الذي كان يسير ذات يوم مع خادمه " أنس بن مالك"، لابسا بردا نجرانيا (رداء كان يلتحف به)، وكان حاشية هذا البرد غليظة، فأدركه أعرابي فجذبه من ردائه جذبًا شديدًا، حتى تأثر عاتقه صلى الله عليه وسلم من شدة الجذبة، ثم قال له في غلظة وسوء أدب : يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه النبي الكريم متبسما صلى الله عليه وسلم في حلم وعفو ورحمة، ثم أمر له بعطاء .
وهو الذي كان يغرس الرحمة في قلوب أصحابه, ويحببها إليهم فقال: "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش. فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثري من العطش. فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي. فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه فسقي الكلب فشكر الله له فغفر له قالوا: يا رسول الله. وإن لنا في البهائم أجرا؟!
فقال: ( في كل ذات كبد رطبة أجر )(1)
وكان عليه الصلاة والسلام يقول: ( الراحمون يرحمهم الرحمن. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )(3)
وكان ذات يوم في سير مع أصحابه بأرض الحجاز، فمروا بوادِ به شجر كثير الشوك، في وقت الظهيرة، قد اشتد الحر,فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- السير بالتوقف في هذا المكان لينالوا قسطًا من الراحة، فتفرق القوم تحت الأشجار ليستظلوا بها، وكان هو- صلى الله عليه وسلم- ينام تحت ظل شجرة كثيرة الأوراق قد علق بها سيفه، فجاء أعرابي فأخذ سيفه ثم أيقظه
وقال له: من يمنعك منى ؟!،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (في ثبات وثقة بالله) : الله !
فارتعد الأعرابي بشدة، حتى وقع السيف من يده ، فأخذه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ، وقال له : من يمنعك مني ؟
فقال الرجل لا أحد.
ولم يقابل النبي الكريم إساءة هذا الأعرابي له بمثلها، بل- صلى الله عليه وسلم- عفا عنه فعاد الرجل إلى قومه فقال: " جئتكم من عند خير الناس "(1).
وهذا غيض من فيض, وكله يشهد لهذا النبي الكريم بأنه: (رحمة مهداة) وأنه غرس معاني الرحمة في قلوب أصحابه, وأوصاهم بها وملأ تعاليمه بذكرها, وشمل بها كل ذي روح من إنسان وحيوان, وسبق بها كل لوائح حقوق الإنسان الحديثة, وكل جمعيات البر والرفق بالحيوان مما يحسبه الناس من خصائص الحضارة الغربية وعطائها.
فلا عجب أن كانت بعثته رحمة ﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾ { الأنبياء: 107}
وأن يعبر هو عن جوهر رسالته لقوله: ﴿ يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة(4) ﴾(5)
وقبل إقفال الباب على هذه النقطة يجدر لفت الانتباه إلى حقيقة مهمة جدا, وهي: أن في جانب الحملة العدوانية التشويهية الممنهجة لدعوة النبي الكريم- كما هو مشاهد اليوم في الغرب-
إن في جانب هذه الحملة عاملا آخر سبب كثيرا في سوء تصور دعوة الإسلام لدى الكثير من غير المسلمين, وهو واقع حياة غالبية المسلمين السيئ, والذي لا يساعد في تحبيب الإسلام إلى غيرهم.
هذا شيء, وشيء آخر هو تصرفات جنونية ترد من بعض من ينتسب إلى دعوة الإسلام, وهي مضرة جدا للإسلام والمسلمين. فكانت موضع اهتمام واستغلال فائقين لدى أعداء الإسلام, ليجعلوا منها مصداقا لتهمهم الكاذبة المصلقة بعرض النبي الكريم صلى الله عليه وسلم,
وهو بريء من ذلك كله.
ولهذا يفرح أعداء الدعوة الإسلامية أن يروا مثل هذه التصرفات تقع من بعض من قل فهمه للإسلام؛ ليصيحوا بها في الآفاق : إرهاب !!! إرهاب !!! وهم الذين صنعوا الظروف التي دفعت إلى مثل تلك الحماقات, وإن تطلب الأمر إعمال من يفعله لهم, ليكون لهم مبررا لما يفعلون بالمسلمين أولا, ودليلا على أنهم "إرهابيون" "عنفيون" ثانيا.
والحقيقة المرة: أن كثيرا من المسلمين اليوم قد انقطعوا عن الإسلام وتعاليمه - تعلما وتطبيقا - كل الانقطاع, ولذا لا يحسن ممن يروم التعرف على الإسلام, وتعاليمه ومبادئه السامية, وعلى نبيه الكريم؛ ليعلم أي رجل كان, أن يقلب نظره في حال المسلمين الراهن هنيهة, ثم يلتف ويقول: هذا هو الإسلام !! لا.
بل الأوجه لهذا الذي يقصد فهم الإسلام صحيحا,وتصوره بعيدا عن أي مؤثر أجنبي, أن يعمد بكل إنصاف وتجرد إلى كتب المسلمين الموثقة لدى علمائهم -لا جهالهم- ليقرأ منها الإسلام, ويسأل عما أشكل عليه رجلا منهم يحسن فهم الإسلام وليس من يُسيئه.
والعجيب من هؤلاء الذي يحاولون تشويه صورة النبي صلى الله عليه, فيتهمونه بأنه كان يستعمل القوة ضد أعداءه, أنهم مع ادعاءهم التحضر والتمدن هم الذين لا يترددون؛ لتحقيق أغراضهم الخاصة, في إشعال الحروب الطاحنة التي يروح ضحيتها آلاف الأنفس دون أدنى مبرر, والأمثلة على ذلك يصعب حصرها.
أ ليسوا هم الذين يبالغون في التسلح بهذه الأسلحة التي قد يكفي الواحد منها لإبادة شعوب بأكملها, في الوقت الذي يشاهدون الملايين من بني البشر يموتون بسبب الفقر وسوأ حالتهم المعيشية, وهم ينفقون مليارات في التفنن في هذه الأسلحة ؟
بل الأمَرّ أنهم الذين يشعلون أغلب هذه الحروب الأهلية التي لا يكاد ينجو منها دولة, وذلك لإقصاء من لا يهوونه عن الحكم, وفرض من يشتهون, أو لزعزعة بعض مناطق العالم؛ حتى يجدوا مبررا للتدخل من أجل حل المشاكل وإعادة الاستقرار, فيفتحون بذلك الباب للتمركز العسكري وفرض سيطرتهم على تلك المناطق.
وحالة الفقر المدقع التي يعيشها القارة الإفريقية أقرب دليل للتيقن من أن هؤلاء الغربيين لا إنسانية عندهم, ولا رحمة في قلوبهم.
لأنهم هم الذين احتلوا هذه القارة, واستعبدوا أهلها, ثم غصبوا, واستنفدوا جل أو كل خيراتها, ثم قطعوها إلى دويلات متناحرة على حدودها, ثم لما منحوهم الاستقلال المزعوم, سلموا السلطات في كثير من دولها لأناس لا يتأهلون لذلك, ونحَّوا المؤهلين حتى لا ينقطع كبلهم عن الأعناق, وحتى لا يستفيد القارة من خيراتها لتتقدم وتتطور.
جرهم ذلك إلى اغتيال العديد من ذوي الشخصيات البارزة في أفريقيا, أو تحريض الناس ضدهم بالتهم وتشويه السمعة. ومنذ ذلك الوقت أحكموا القبض على هذه القارة الفقيرة؛ حتى تظل أبد الدهر تحت أقدامهم.
وما من شر يوجد في هذه القارة إلا وهم السبب المباشر أو غير المباشر فيه, وكل ما يقولون ويولولون على فقر وسوء أحوال هذه القارة, فإنما هو سب وشتم قبيحان لهم ولتاريخهم.
والنفاق كل النفاق أن تراهم اليوم يتظاهرون بالرحمة والإنسانية تجاه الأفارقة, وكأنهم نسوا ما حدث بالليل.
والإنسان الذي هو إنسان إذا اطلع على حقيق الكارثة التي حدثت في رواندا (Rouanda)
وبروندي (Burundi), وهو يعرف مدى مسئولية هؤلاء الغربيين فيها؛
ليتسائل ويقول: أ لهم قلوب ؟!!
أتدري أنهم لما احمرت الحرب العالمية الثانية(1), وأحاط بهم الألمان من كل جانب, لجئوا إلى أفريقيا, وطلبوا منها الغوث, والإمداد البشري. فأخذوا 80.000 من أبنائها؛ لتضحيتهم وجعلهم في المقدمة, والأماكن الخطرة, وقتل منهم الآلاف؛ حتى يعود لهم حريتهم واستقلالهم.
ثم ما تتوقع أن قابل الغربيون بتضحية هؤلاء الذين أهرقوا دماءهم في ساحة القتال وقدموا نحورهم دونهم ؟
إياك أسأل! ما عساك أن يكون جزاء هؤلاء الذين عرفوا ب ( Tirailleurs Sénégalais ) ؟
دع التاريخ يجيب عن سؤالك المحرج: قتل منهم من لا يحصون كثرة, ودفنوا هنالك في
( NORMANDIE ) ( VERDUN ), ( MARNE ) , ( SALONE ), ( TOULON ), BIRHAKEIM ) وغيرها؛ لا الذين سقطوا فيها ولا أهاليهم طعموا ثمرة التضحية التي قدموها للغرب !!!
ثم رجعوا بمن بقي منهم, والجرحى فيهم كثير –نفسيا أو حسيا-, وقد ملأهم الغضب والأسف؛ جاهلين أن نهاية مطافهم أمر وأمر!
وهو أنهم بعد كل ما حصل منهم, كانوا يتوقعون أن يكون جزاء الإحسان هو الإحسان, لكن لما مدوا أيديهم ليسألوا حقهم وجزاء تضحيتهم, رجع عليهم السلاح الذي كان بالأمس يصوب معهم نفس الهدف؛ ليقتل منهم الكثير, ولما رأوا أهاليهم بعد!!!
وهم يحاولون تبرير هذا الغدر المنتن بأنهم تمردوا!
لكن للسائل أن يسأل: ما الذي أغضب هؤلاء الذين لا يستحقون أن يغضبوا حتى تمردوا عليهم, وقد أراقوا دماءهم من أجلهم ؟
وهل من الممكن أن يصدر منهم تمرد يستحق أن يقابل بشتم؛ فضلا عن قتلهم ؟
ثم لم يسووا في المعاملة والمكافئة بين الغربيين الذين شاركوا فيها, والأفارقة الذين كانوا معهم جنبا إلى جنب. أين مبدأ المساواة الذي ينادون به في الآفاق ؟
هؤلاء الذين سودوا تاريخ العالم ببغيهم وعدوانهم, هم الذين وصل بهم الجرأة والحماقة إلى اتهام نبي الرحمة بالعنف واستعمال القوة في دعوته !!! ألا يستحيون ؟!!
أ ليسوا هم الذين يبيدون القرى بأكملها في حروبهم العدوانية هذه, ويموت فيها المئات من الأطفال والنساء وكبار السن؛ ثم لا يكون منهم إلا إطلاق بضع كلمات غابرة: "نحن متأسفون لهذه الحادثة التي تخرج عن إرادتنا" ونفوس الأبرياء تذهب هدرا ؟!!!
أ ليسوا هم الذي يطلقون الرصاص المعد للدبابات, والغازات الملوثة على الأطفال في فلسطين ؟
طفل لا يجاوز السابعة من عمره, خرج يعبر عن يأسه وآلامه المتراكمة؛ بإلقاء حصى صغيرة على هؤلاء الجنود المحتلين لأرضه, والذين حرموه حق العيش في سلام, والجنود الذين قد تسلحوا إلى الأسنان, فما كان من هؤلاء إلا أن صوبوا أسلحتهم بكل شراستها ودقتها إلى الطفل وهو يستغيث, ويتقي منهم بكل ما يصيب؛ لكن كان نصيبه الموت, فقتلوه بهذا الرصاص الذي يقطع العروق, ويمزق القلوب, ويكسر العظام, أ يفعل هذا إنسان ؟
وما هي إروشيما (Hiroshima) ونغازكي (Nagasaki) ؟
وماذا فعلوا في فيتنام (Vietnam) ؟
وماذا حدث ويحدث بالفعل في شيشان ؟
وغير ذلك من الأمور التي يتقطع القلب بتذكرها فضلا عن ذكرها. إلا أن المؤسف في الأمر أنهم بالوسائل الإعلامية والترويجية التي يملكونها, قد استطاعوا اللعب بعقول الناس, وقلب الحقائق في أنظارهم, أو تغطيتها عنها.
5) فمن الضروري أن يكون ذاك الرجل صاحب سياسة ونظام عادل يصلح به أمور الناس.
ولما كانت سياسات الناس إنما تستمد من نتائج أفكارهم, وهي قاصرة؛ قد تستحسن الشيء اليوم, وتستنكرها غدا, أو ترى النفع فيما فيه الضر, والعكس كذلك, كان من لوازم تلك السياسة أن تستمد وتستقى من الوحي الإلهي المعصوم؛ لتكون صالحة لكل زمان ومكان.
ولأن الناس لا يفصل بين نزاعهم إلا كتاب منزل من السماء, وإذا ردوا إلى عقولهم فلكل واحد منهم عقل(1).
الأمر الذي يفسر لك سبب الصراع الساخن في عالمنا اليوم, والذي يعبر عنه بعضهم باصطدام الحضارات, ولا اصطدام, وإنما كل ما هناك أن الغربيين ومن نحى منحاهم, زعموا أنهم أعقل البشر, ولذا يستفرغون أقصى وسعهم للانفراد بالتحكم في سير العالم, وأن لا يشاركهم فيه غيرهم.
فإنهم لا يسمحون لأية نظرية مؤثرة في توجهات الناس وهي مخالفة لأهوائهم, أن تقوى على وجه الأرض, فقد حاولوا حتى استطاعوا تمييع جميع نظريات العالم إما بالقوة أو المكر حتى سايرت أهوائهم, فلم يبق أمامهم إلا الإسلام صامدا, ومع أنه دين, إلا أنه منهج حياة للعالمين, ولهذا تراهم اليوم أعلنوا الحرب ضد الإسلام والمسلمين بالفكر والمكر تارة, والقهر والنحر أخرى.
بيان كمال السياسة الإسلامية, وأنها الأصلح للبشر في كل زمان ومكان
لما كان المصالح البشرية التي بها نظام الدنيا راجعة إلى ثلاثة أمور:
الأول: درء المفاسد, وحاصله: دفع الضرر عن ستة أمور:
الدين: وقد جاء الإسلام بالمحافظة على الدين, وجعله في المقدمة من مقاصده؛ لأن الناس بلا دين صحيح لن يقوموا بالغاية التي من أجلها جيء بهم إلى هذا الكون.
وبما أن الإنسان مكون من بدن وروح, وهو حيوان كغيره ببدنه, وإنسان مفضل على غيره بروحه, فإنه لا بد إذاٌ إن أراد الحفاظ على إنسانيته أن يهتم بحياة روحه كما يهتم بحياة بدنه وأكثر, والروح له غذاء يغذيه؛ كما أن للبدن غذاء يغذيه, فمتى انقطع الغذاء عن أحدهما هلك بلا شك.
والإسلام يحافظ على هذه الحياة أكثر مما يحافظ على حياة البدن؛ لأنها أهم, وهذا من مميزات هذا الدين العظيم: ﴿ يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ﴾ {الأنفال: 24}
أقبل على الروح واستكمل فضائلها --- لأنك بالروح لا بالجسم إنسان
وحفظ الدين نفسه يضمن لنا حفظ الأمور الخمسة الآتية: النفس, والعقل, والعرض, والمال, والنسل, وما تفرع عنها, فإن حفظها من أعظم أهداف الدين.
ومن حفظ الدين صد جميع الأبواب التي يدخل منها الانحرافات العقدية والفكرية على المجتمع. أما ترك الأفكار والعقائد المنحرفة الهدامة تختطف أبناء المجتمع واحدا بعد واحد, وترمي بهم إلى ما يستقذره البهائم؛ من أنواع الضلالات والانحرافات؛ باسم حرية الأفكار!! فهذا لا يفعله قيادة مسئولة.
نعم ﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ﴾ {البقرة: 256} وكذلك ﴿ قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر﴾ {الكهف: 29} وهذا لا يعنى إطلاق الصراح للأفكار والنظريات الهدامة أن تغزو المجتمع, لا !, ولكن على القيادة – إن كانت مسئولة- أن تغرس في نفوس أبناءها العقيدة الصحيحة, وأن تقف حيلولة دون انحرافهم في العقيدة والفكر؛ لأن الدين هو أنفس ما يملكونه, فإذا لم تحفظها لهم, فماذا تحفظ ؟!
الأنفس: وشرع في الإسلام القصاص؛ محافظة على الأنفس, وإلا ذهبت الأنفس هدرا: ﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ﴾ [البقرة:179]﴿كتب عليكم القصاص في القتلى ﴾ [البقرة: 178], ﴿ ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ﴾ [الإسراء: 33] ﴿ ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ﴾ {النساء: 29}
ولا يتوقف حفظ النفس عند المنع من قتلها فحسب؛ بل ومن أي اعتداء عليها بدون حق؛ سواء كان على مستوى الأفراد أو المجتمعات؛ خلافا لسياسة الدول الغربية.
ففي الوقت الذي ينادون فيه بحقوق الإنسان وحريته, نجدهم يبيدون الشعوب ويعتدون عليها دون أي حق.
ونجدهم يبررون جرائمهم بدعوى "الحرية" و "حقوق الإنسان " إلا أن الإنسان الذي له هذا "الحق" وهذه "الحرية" إنسان خاص عندهم, وليس كل إنسان, وتفسيرهم للحرية والحقوق إنما هو بما يتمشى وأهوائهم, لا العدل والمساواة.
والحرية التي يزعمونها في بلدانهم, إنما هي لامبالاتية وهمجية تنبئ بفشل أنظمتهم في سياسة أمور الناس, وتربية المجتمع على مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب.
لأن من أكبر مقاصد وضع الأنظمة, وسن السياسات, وتشكيل الحكومات, أن تحفظ للمجتمعات حياتها, وأمنها, وتطورها نحو الأفضل والأكمل في الماديات والمعنويات, وليس أن يصل بها في الماديات إلى القمر, ويخر بها في المعنويات إلى ما تحت الأرض. ومتى كان عجز النظام عن تأدية هذا الدور, وترك الناس شذر مذر كالأنعام, حرية ؟
وهم أبعد الناس من مبدأ المساواة والعدالة بين الشعوب, بل العنصرية هي المهيمنة على نظرهم نحو حقوق الآخرين, وإنما ينادون بهذه "الحقوق" والحرية" حيث كانت "الحقوق" أو "الحرية" لهم, أما إذا كانت لغيرهم فلا "حق" ولا "حرية" , وإلا فالشعوب التي يستعبدونها قوة أو فكرا, هم أيضا يستحقون "الحقوق" والحرية"
وإلا؛ لماذا نرى أمريكا التي تترأس تشكيل هذه المحاكم الدولية وإقامتها لمعاقبة من يسمونهم: "مجرمون" لماذا تستثني من صلاحيتها محاكمةَ الأمريكي ؟
ولماذا لا تقبل من أية سلطة خارج أمريكا أن تطالب بمحاكمة الأمريكي؛ مهما اشتد جرائمه ؟
وكأن الفرد الأمريكي فرد خاص !
أ هذا العدل والمساواة ؟
ومع ذلك تبعهم على جورهم بقية دول الغرب؛ إذ لو رفضوا هذا الظلم لما قامت هذه المحاكم في يوم من الأيام. نعم العالم بحاجة إلى قوة دولية تحافظ على أمن الدول ومصالحها؛ لكن على أساس العدالة والمساواة؛ لا الظلم والمحاباة.
ودعاياتهم "الحرية" و "الحقوق" أصبحت آلة قوية يستخدمونها لتضليل الشعوب, وتغطية الأعين عن جورهم وعدوانهم على الناس, أو للضغط على ما لا يشتهون من حكومات, وتحريض العامة عليها.
وليس من الضروري أن يوافقهم الناس الذين يطالبونهم بهذه "الحقوق" و "الحرية" على مفهومهم لها, ففرضها إذاً على الناس كافة بمفهومهم الخاص تحكم واستبداد, بل قد سبب هذا الفرض في تفكك وزعزعة الكثير من الدول؛ كما هو الشأن في غير واحد من مناطق العالم.
العقول: وقد جاء الإسلام بالمحافظة عليها أحسن المحافظة: ﴿ يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ﴾ {المائدة: 90}
وفي الحديث : ( كل مسكر حرام, وما أسكر كثيره فقليله حرام(1) ), ولأجل المحافظة على العقول وجب الحد على شارب الخمر.
وهذا الحديث قاعدة كلية تطرد في جميع المواد التي يتضرر عقل الإنسان بتعاطيها.
ومما يحزن أن نرى اليوم هؤلاء الذين يدعون أنهم أكمل الناس عقلا, قد أهانوا هذا العقل كل هوان, وعطلوا دوره في حياة الناس.
النسل : وللمحافظة عليه شرع الإسلام حد الزنا : ﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ﴾ {النور:2}
وليس حفظ النسل مقتصرا على المنع من خلطه وتدنيسه فقط, بل ومن الضياع والانقراض.
ولهذا شرع الإسلام النكاح, وقننه, ونظمه؛ صيانة له من الانحلال. لأنه ببقاءه طاهرا نظيفا سيبقى المجتمع طاهرا نظيفا, وإلا فلا.
فيا عجبا من قوم يحافظون كل الحفاظ على أنساب الحيوان الخسيس وبقاءه, ويقضون على أنساب البشر الشريف وسر بقاءه؛ بالعديد من الأساليب والوسائل المدهشة !!!
فأباحوا اللواط, والدعارة, وجميع أنواع الشذوذ الجنسية التي يترفع عن يعضها الحيوانات, بل الجنس لا يعدو عندهم آلة لقضاء الشهوة الحيوانية فحسب, وعلى أي طريق كان.
ومفهوم حفظ النسل البشري أوسع مما يتصور البعض, وحتى أنماط الحياة التي يسلكها المجتمعات تدخل فيه.
فكان لزاما على الأنظمة التي تسعى للحفاظ على النسل البشري أن توجه المجتمع بكامله نحو النمط الذي يساعد على حفظ هذا النسل؛ لا على ضياعِه وانقراضِه.
وليس منه في شيء, ما هو عند بعض دول الغرب, حيث أباحوا للرجل المتزوج الكونَ مع أية امرأة يشتهيها, دون أدنى رابط من روابط النكاح, بل هو زنى وسفاح, ولو أراد أن يتزوجه لتكون زوجته الثانية, فإن كان بينهم أولاد من ذلك النكاح الطيب, كان لهم أب رسمي وأم رسمية, وظفروا بتربيتهما وعنايتهما الضروريتين, ويقوى به مجتمعهم, منعوه من النكاح !!!
أي اصنعوا كل شيء إلا النكاح !!! أيساعد مثل هذا النظام على حفظ صلاح المجتمع ؟
نظام يرضى للمرأة أن يصل بها الذل والهوان إلى أن تتاجر بنفسها, ولا يرضى لها أن يجمعها زوجها بامرأة أخرى في نكاح حلال طاهر طيب, وإن اتفق عليه جميع الأطراف(1) !
وكذلك للحفاظ على النسل؛ منع الإسلام من الاعتداء على الأولاد بالقتل أو غيره, وذلك منذ أن كونه إنسانا, بأن ينفق فيه الروح وهو في بطن أمه, فإنه إنسان له ما لغير من حقوق, خلافا لمن قصر نظره إلى "الحقوق" على حالة ما بعد الولادة:
﴿ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ﴾ {الأنعام: 151}. ﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئاً كبيراً ﴾ {الإسراء: 31}
الأعراض: للمحافظة عليها شرع الإسلام جلد القاذف ثمانين: ﴿ والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمنين جلدة ﴾ {النور: 4}.
ومتى لم يكن هذا التأديب اُنتهكت الأعراض, وتُجرأ عليها بدون حق.
وكذلك حرم الغَيبة والبَهت, والاستطالة على أعراض الناس بجميع أنواعها.
الأموال: بحفظها من الضياع والتبذير والاحتكار وسوء الاستعمال. والمال بمفهومه الواسع يراد به جميع الخيرات المادية بمختلف أنواعها. ﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله ﴾ {المائدة: 38} ﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ﴾ {النساء: 5} ﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ﴾ {النساء: 29}
والنظام المالي الإسلامي هو الكفيل الوحيد للناس الحفاظ على أموالهم لا الذهاب بها. وأقرب مصداق لذلك أنه أمر بالحجر على الإنسان من التصرف في ماله إذا كان تصرفه مضرا به أو بغيره.
وهو من محاسن الشريعة, حيث منعت الإنسان من التصرف في ماله الذي كان في الأصل مطلق التصرف فيه, ولكن لما كان تصرفه ضرره أكثر من نفعه وشره أكبر من خيره حََجَر عليه الشارع حجراً للتصرف في ميدان المصالح, وإرشادا للعباد أن يسعوا في كل تصرف نافع غير ضار.(1)
وتضيع هذه المصالح الضرورية إذا لم يكن للناس نظام يتكفل لهم الحفاظ عليها.
الأمر الثاني: جلب المصالح, وهذه المصالح على مراتب ينضوي تحتها جميع المصالح المتبادلة بين العباد؛ كالمآكل, والمشارب, والملابس, والمناكح, والبيوع, والإجارات وغيرها.
وهذه المصالح أيضا قد حافظ عليها النظام السياسي الإسلامي حق المحافظة, لأنه لا بد للناس منها في تعايشهم. ومتى درست الفقه الإسلامي قطعت بذلك, لأنه ما ترك جزئية من هذه المصالح إلا وفصلها تفصيلا.
وقد أباح الشريعة الإسلامية البيوع, والإجارات, والشركات, وأنواع المعاملات التي تتبادل فيها المعوضات بين الناس في الأعيان والديون والمنافع وغيرها.
فقد جاءت الشريعة الكاملة بحل هذا النوع, وإطلاقه للعباد, لاشتماله على المصالح في الضروريات والحاجبات والكماليات, وفَسَحَت للعباد فسحا صلحت به أمورهم وأحوالهم, واستقام معايشهم.
وشرطت الشريعة في حل هذه الأشياء الرضا من الطرفين, واشتمال العقود على العلم, ومعرفة المعقود عليه, وموضوع العقد, ومعرفة ما يترتب عليه من الشروط.
ومنعت من كل ما فيه ضرر وظلم من أقسام الميسر والربا والجهالة.
فمن تأمل المعاملات الشرعية, ورأى ارتباطها بصلاح الدين والدنيا, شهد لله بسعة الرحمة وتمام الحكمة, حيث أباح لعباده سبحانه جميع الطيبات, من مكاسب ومطاعم ومشارب, وطرق المنافع المنظمة المحكمة.(2)
وحديث واحد يكفي في جعل معاملات الناس على الخير والصلاح, وهو ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا . أو قال : حتى يتفرقا ؛ فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما(1) )
أي صدق البائع في إخبار المشترى مثلا وبين العيب إن كان في السلعة , وصدق المشتري في قدر الثمن مثلا وبين العيب إن كان في الثمن , ويحتمل أن يكون الصدق والبيان بمعنى واحد وذكر أحدهما تأكيد للآخر (2).
هذا الحديث قاعدة كلية مطردة في جميع معاملات الناس, وليس قاصرا على البيع فحسب, بل يجب أن تنبني المعاملات كلها على هذين الأصلين العظيمين.(3) ولو أن الناس التزموا بهذه القاعدة العظيمة لصلحت جميع معاملاتهم.
الثالث: التحلي بمكارم الأخلاق, والجري على محاسن العادات: ومن فروعه تحريم المستقذرات, وما شرعه بين الخلف من الحقوق التي هي صلاح وخير وإحسان وعدل وقسط وترك للظلم.
وذلك كالحقوق التي أوجبها وشرعها للوالدين, والأولاد, والأقارب, والجيران, والأصحاب, والمعاملين, ولكل واحد من الزوجين على الآخر.
وكلها حقوق وضروريات وكماليات, تستحسنها الفطر والعقول الزاكية, وتتم بها المخالطة, وتتبادل فيها المصالح والمنافع, وبحسب حال صاحب الحق ومرتبته.
وكلما فكرت فيها رأيت فيها الخير وزوال الشر, ووجدت فيها من المنافع العامة والخاصة, والإلفة وتمام العشرة: ما يشهدك أن هذه الشريعة كفيلة بسعادة الدارين.
وترى فيها هذه الحقوق تجري مع الزمان والمكان والأحوال والعرف, وتراها محصلة للمصالح, حاصلا فيها التعاون التام على أمور الدين والدنيا, جالبة للخواطر, مزيلة للبغضاء والشحناء.
وكل هذه المصالح فلا يكون شيء أشد محافظة عليها بالطرق الحكمية السليمة من دين الإسلام
فتبين بهذا أن اتباع سياسة الإسلام كفيل للمجتمع بجميع مصالحه.(4)
وكذلك الحدود التي شرعها الإسلام, وينظر إليها البعض نظرة قاصرة, حيث لم يجاوز نظره موضع الألم من جسم الجاني, بغض النظر عن المصالح المترتبة عليها, من إقامة العدل, ومجازاة الظالم وردعه, وكبح الطامعين في الإتيان بمثل جريمته عنه, وغير ذلك كثير.
ذلك لأن الجرائم والتعدي على الحقوق من أعظم الظلم الذي يخل بالنظام, ويختل به الدين والدنيا, فوضع الشارع للجرائم والتجرئات حدودا تردع عن مواقعتها, وتخفف من وطئتها, من القتل, والقطع, والجلد, وأنواع التعزيرات التي ليست غايات, وإنما هي وسائل يحافظ بها على حياة الناس ومصالحهم.
وكلها فيها من المنافع والمصالح الخاصة والعامة ما يعرف به العاقل حسن الشريعة الإسلامية وكمالها, وأن الشرور لا يمكن أن تقاوم وتدفع دفعا كاملا إلا بالحدود الشرعية التي رتبها الشارع بحسب الجرائم قلة وكثرة, وشدة وضعفا.(1)
مبدأ العدل والمساواة في النظام الإسلامي
إننا إذا فحصنا الأنظمة السائدة اليوم في العالم, نجد أنها دائرة بين أمرين: ظلم الضعفة الفقراء, وتوغيلهم فيما هم فيه, أو ظلم الأقوياء الأغنياء وإعلان الحرب ضدهم, أو الأمرين معاً.
والنظام الوحيد الذي يطبق مبدأ المساواة بين الراعي والرعية, والضعيف والكبير, والناس فيه سواسية كأسنان المشط, ولم يعط لأحد امتيازات ويحرم منها غيره بدون حق، ويطبق الأحكام على الناس جميعًا, هو الإسلام.
واقرأ إن شئت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم, وتاريخ خلفاءه الذين تخرجوا في مدرسته, كيف كان تطبيقهم لهذا المبدأ, ولا يحابون فيه أحدا كائنا من كان.
ففي فتح مكة حدث أن سرقت امرأة من كبرى قبائل قريش, فضاق قومه بذلك ذرعا ليقينهم أن الخبر إذا بلغ الحاكم صلى الله عليه وسلم سيقيم عليها الحد, فتناجون الأمر بينهم ثم أمروا أسامة بن زيد ليشفع لها من الرسول صلى الله عليه وسلم, وهو حب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وابن حبه, فجاء يشفع فيها إلي رسول الله صلى الله عليه وعلى وسلم فغضب عليه
النبي صلى الله عليه وعلى وسلم غضبا شديدا, وأنكر شفاعته قائلاً : (أتشفع في حد من حدود الله ) وهذا استفهام إنكار واستفهام استغراب أن تقع الشفاعة في حد من حدود الله من هذا الصحابي الجليل, ثم قام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فخطب وقال: ( إنما ضل الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه, وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد, وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها (2))
وفي هذا الحديث إقرار لمبدأ المساواة أمام أحكام الشريعة وتحذير للحكام من أن يقيموا الحدود على الضعفاء دون الأقوياء الذين يحاولون بالوساطات والضغوط تخطي الأحكام.. ولا شك أن بقاء الدول واستقرار المجتمعات منوط بالدرجة الأولى بإقرار العدالة وإنما يجد خصوم الدول السبيل إلى القضاء عليها من خلال الظلم الذي يقع منها فهو مبرر قوي لاجتماع المظلومين وحافز للتضحية من أجل إسقاطها.(3)
وقد كان هلاك الأمم السابقة أنهم كانوا ينفذون العقوبة على الضعفاء والفقراء، ولا ينفذونها على الأقوياء والأغنياء ، فجاء الإسلام وسوى بين الناس في الحقوق والواجبات .وقد طبق رسول الله- صلى الله عليه وسلم حدود الله على الجميع بلا استثناء، حتى إنه- صلى الله عليه وسلم- أقسم لو أن فاطمة بنته سرقت لقطع - صلى الله عليه وسلم- .
و يوم بدر كان المسلمون يتعاقب كل ثلاثة على بعير، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو لبابة وعلي بن أبي طالب يتعاقبون على بعير واحد ، فقالا : نحن نمشي عنك يا رسول الله، فقال :
( ما أنتما بأقوى مني ، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما)(2).
وقبل موته صلى الله عليه وسلم وقف أمام الناس وقال: ( أيها الناس، من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد مني اليوم ـ أي فليقتص مني اليوم ـ، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد مني اليوم، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليستقد مني اليوم قبل أن لا يكون هناك دينار ولا درهم ) من تتصور من هؤلاء القادة "الديمقراطيين" أن يجرأ على هذا ؟
فالإسلام هو النظام الوحيد الذي يضمن للعالم الحكم بالسوية, ونسخ الطبقية في الحقوق والواجبات، والفوارق بين الأفراد في المعاملات، بالأخوة والمساواة في جميع ذلك.
وقد بان فشل هذه الأنظمة التي تدعي الحفاظ على حقوق جميع الرعية بالسوية, وأن هذه الدعوى يناقضها واقعها، وسياستها، وقوانينها.
فحقوق الإنسان التي تتنازع الأمم شرف وضعها، قد وضعها وطبقها النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بقرون، وسار على نهجه الخلفاء الراشدون من بعده، وكثير من فضلاء الأمة الإسلامية الذين أناروا تاريخ العالم؛ مثل عمر بن عبد العزيز وغيره.
وفيما يأتي نماذج من عدالة هؤلاء, وتطبيقهم مبدأ المساواة بلا استثناء :
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول للناس : « أما والله ما أرسل عمّالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم ؛ ولكن أرسلتهم ليعلّموكم دينكم وسنة نبيكم ، فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إليّ ، فوالذي نفسي بيده إذن لأقصنّه منه، وقد رأيت رسول الله صلوات الله وسلامه عليه يقصّ من نفسه ».
وتخاصم عمر رضي الله عنه – وكان أمير المؤمنين - ورجل أمام شريح، فاختار خصمه شريحا للفصل بينهما ، فحكم شريح على عمر، فعيّنه عمر قاضيًا على الكوفة.
وأسلم ملك نصارى العرب جبلة بن الأيهم بن جبلة في زمان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه, فلما بلغ عمر إسلامه فرح بإسلامه، ثم بعث يستدعيه ليراه بالمدينة. ، فركب في خلق كثير من قومه. قيل: مائة وخمسين راكباً.
فلما سلم على عمر رحب به عمر وأدنى مجلسه، وشهد الحج مع عمر في هذه السنة، فبينما هو يطوف بالكعبة إذ وطء إزاره رجل من بني فزارة فانحل، فرفع جبلة يده فهشم أنف ذلك الرجل.
ومن الناس من يقول: إنه قلع عينه، فاستعدى عليه الفزاري إلى عمر ومعه خلق كثير من بني فزارة، فاستحضره عمر فاعترف جبلة.
فقال له عمر: أقدته منك ؟
فقال: كيف، وأنا ملك وهو سوقة ؟.
فقال: إن الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله إلا بالتقوى.
فقال جبلة: قد كنت أظن أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية.
فقال عمر: دع ذا عنك، فإنك إن لم ترضِ الرجل أقدته منك.
وأصر عمر على حتمية الاقتصاص منه؛ حتى أدى الأمر إلى فرار الرجل إلى الشام, والخروج عن الإسلام, كل ذلك وأمير المؤمنين يرى أن عليه الأخذ بحق هذا المظلوم الضعيف.
ولقد لقن عمر رضي الله عنه الناس بموقفه هذا درسا في غاية الأهمية, وهو أن عز الإسلام إنما هو في التزام العدالة والمساواة, وإن أدى ذلك إلى نفور بعض من في نفسه الكبر والتعالي على الناس عنه.
ضاع درع عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه, وهو أمير على المؤمنين في ذلك الوقت, فبحث عنه حتى وجده عند يهودي، فادعى كل واحد منهما أن الدرع له, فاحتكما إلى شريح ، فسأل عليّ بن أبي طالب البيّنة فعجز عن إقامتها ، فوجّه اليمين إلى خصمه اليهودي فحلف، فقال شرح : البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر ، وحكم بالدرع لليهودي ، فاستغرب اليهودي ذلك الأمر، وقال : قاضي أمير المؤمنين يحكم لي عليه! ، وأسلم .
إن شئت المزيد من هذه النماذج المتفردة ارجع إلى تاريخهم, فإنه مملوء بها. وكون هؤلاء الأفذاذ هكذا واحد من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم الكثيرة.
وفي الختام أقول: يتمحض من استظهار هذه الجوانب الخمسة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم شخصية لم يعرف التاريخ له مثيلا, وأن العالم - بما فيه من المؤمنين والكافرين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم - مدين له بالاحترام والتوقير؛ للتغيير والإصلاح اللذين أوجدهما في العالم بأكمله. وأن عدم الاعتراف بهذه الحقيق عناد ومكابرة.
والله أعلم, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أخوكم في الله: أبو محمد مور كِبِي, خريج كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية (المدينة النبوية)
البريد الإلكتروني: morkebe@hikmah.org
الموقع الخاص: www.guiss.net
داكار - السنغال.
(1) انظر هداية الحيارى في الرد على اليهود والنصارى لابن القيم الجوزي رحمه الله.
(1) انظر هداية الحيارى
(1) انظر الرحيق المختوم للشيخ صفي الرحمن المباكفوري.
(1) انظر الرحيق المختوم
(1) ومنها : ( scientology La) التي ظهرت في أمركا ثم وجدت طريقها إلى بقية دول الغرب, و ما هو مغروف عندهم ب: (Mouvement Raélien) وغيرهما من النحل الشريرة التي تحمل أفكارا سرية هدامة.
(1) انظر الدرة المختصرة في محاسن الإسلام للشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله.
(1) أحمد في مسنده: (9187) وغيره وهو صحيح
(1) انظر تفسير ابن كثير (سورة النور, الآية:27 ) وكذلك أضواء البيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمهما الله (الموضع نفسه)
(1) جاء ذكر هذه الأنواع في حديث عائشة الذي رواه البخاري: النكاح (5127).
(1) انظر تفسير ابن كثبر (النساء, الآية:19 و 22 )
(2) انظر تفسير ابن كثبر (الأنعام, الآية:52 )
(1) البخاري في الصحيح: الأدب (6050), ومسلم في صحيحه: الأيمان (4403)
(2) أحمد في المسند (24204)
(3) مسلم في صحيحه: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (7389), وأبو داود في السنن: الأدب (4897)
(1) يلاحظ شيء من ترداد كلمة "الحضارة" إثباتا ونفيا" إلا أن المعتبرة من الحضارات هي ما أسس على دين صحيح ونظام عادل؛ كما مر الإشارة ضمنا.
(1) انظر أخلاق النبي لأبي الشيخ الأصبهاني.
(2) البخاري في صحيحه: المناقب (3549), ومسلم في صحيحه: الفضائل: (6212)
(3) البخاري المصدر نفسه: المناقب (3551), ومسلم المصدر نفسه: (6210)
(4) البخاري في المناقب (3556), ومسلم في التوبة (7192)
(5) البخاري في المناقب (3548), ومسلم في الفضائل (6235)
(6) مسلم في الفضائل (6200)
(7) الدارمي في سننه: المقدمة (67)
(1) راجعه وأسانيده في السيرة النبوية الصحيحة للدكتور أكرم ضياء العمري (1/212)
(2) البخاري في صحيحه: الأدب (6033), مسلم في صحيحه كذلك: الفضائل (6146)
(3) البخاري: بدأ الوحي (6), ومسلم: الفضائل (6149)
(4) مسلم في الجهاد والسير (4716) وأحمد في المسند (1363) من حديث علي رضي الله عنه.
(5) أبو داود في سننه: الأدب (4775)
(6) البخاري في الأدب (6034), ومسلم في الفضائل (6158)
(7) البخاري في المناقب (3562), ومسلم في الفضائل (6176)
(8) البخاري في المناقب (3559), ومسلم في الفضائل (6177)
(1) البخاري في صحيحه: الأدب (6031), وأحمد في مسنده (12798)
(2) البخاري في الحدود (6786), ومسلم في الفضائل (6193) مختصرا.
(3) مسلم في الفضائل (6195), وأحمد (27160)
(4) أحمد (25338)
(5) أحمد (9187), والبيهقي في سننه: الشهادات (21301)
(6) البخاري في التهجد (1130), ومسلم:صفة القيامة والجنة والنار (7302)
(7) البخاري: الأطعمة (5409), ومسلم: الأشربة (5504)
(8) أحمد (12679), والترمذي في سننه: الأدب (2978)
(9) البخاري: الجنائز (1356), وأحمد (13129)
(10) مسلم: الفضائل (6189), أبو داود في سننه: الأدب (4820)
(1) البخاري في صحيحه: الأدب (6072), وابن ماجة في سننه: الزهد (4317)
(2) النسائي في سننه: الجمعة (1425), والدارمي في سننه: المقدمة (75)
(3) مسلم في صحيحه: الفضائل (6168), وأحمد في مسنده (12430)
(4) مسلم: السلام (5193), وأحمد (12671)
(6) مسلم: المساجد (1557), وأحمد (21411)
(7) أحمد (21357), والبيهقي في سننه: الشهادات (21647)
(8) البخاري: الأذان (676), والترمذي في سننه: صفة القيامة (2677)
(9) مسلم: الزهد والرقائق (7634), وأحمد (24880)
(1) البخاري في صحيحه: الرقاق (6460), ومسلم في صحيحه: الرقاق (7630)
(2) النسائي في سننه: الزهد (4243), وأحمد في المسند (3781)
(1) انظر الجواب الصحيح.
(1) انظر الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لشيخ الإسلام رحمه الله (1/174-175)
(1) انظر هداية الحيارى لابن القيم الجوزي رحمه الله (ص 104)
(2) انظر الحديث في صحيح البخاري: بدأ الوحي رقم (7), ومسلم: الجهاد والسير رقم (4707).
(1) كيف وعليه نزل: ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ) {الأنعام: 93}
(1) هذا مجرد تمثيل وليس قياسا ل UN برسالة رسول الله, كلا وكلا, فرسالة محمد وحي ونور من الله, معصومة من الخطأ والجور, وأما UN فإنها هيئة أسست على آراء رجال, وهي تحت قبض ست دول متزاحمة على مصالحها, قد تجتمع على ما هو في صالحها, وليس من الضروري أن يكون في صالح بقية الدول المتفرجة؛ بل قد يكون على حسابها, وهو بالفعل كثير.
(1) انظر هداية الحيارى لابن القيم: (ص )
(1) انظر هداية الحيارى لابن القيم الجوزي.
(2) انظر السيرة النبوية الصحيحة: (1/337-343) بتصرف.
(2) أحمد في المسند: (21830)
(3) البخاري في الصحيح: الجنائز (1284) ومسلم في الصحيح: الجنائز (2174)
(4) البخاري : الأدب (5997), ومسلم: الفضائل (6170)
(5) أحمد في المسند: (4099) وأبو دود في السنن: الأدب (5270)
(6) البخاري في صحيحه: المظالم (2466), ومسلم في صحيحه: السلام (5989)
(7) أحمد في المسند: (15997 )
(1) البخاري في صحيحه: الأدب (6009) ومسلم في صحيحه: السلام (5996)
(3) أبو داود في السنن: الأدب (4943), الترمذي في السنن: البر والصلة (2049)
(1) انظر صحيح البخاري: الجهاد (2910), ومسلم في صحيحه: الفضائل (6090)
(4) الحاكم في المستدرك: (1/35) وصححه ووافقه الذهبي.
(5) انظر السيرة النبوية الصحيحة: (1/635-638)
(1) لم تتوقف مشاركتهم في الحرب العالمية الثانية فحسب, بل وفي الأولى ولي إندوشين (Indochine )
(1) هذه القاعدة العظيمة من كلام شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: (20/163)
(1) ابن ماجة في السنن: (2/1124) رقم: (3392) وأخرجه البخاري: (5/108) ومسلم: (3/1585) رقم: (2001) بلفظ قريب منه.
(1) على هؤلاء الغربيين أن يعترفوا بفشلهم في هذا الجانب, والحياة الزوجية عندهم أصبحت حملا ثقيلا, يحذر كل من الزوجين الآخر حذرا شديدا, لأن البيت الزوجي عندهم بيت بلا رب, بل هو بيت بأرباب, يستوي فيه حق الزوج والزوجة, وليس للأب حق في تربية أولاده, بل للأولاد حق على أن يختاروا لأنفسهم التربية التي يريدون ! وعلى الوالد أن يكون على حذر معهم, وإلا اتصلوا بالرقم المجاني الذي يحفظه حتى الرضع؛ ليكون مصيره التردد يوميا إلى مركز الشرطة؛ لأخذ نصيبه من المسائلات والتحقيقات.
ولهذا فالروابط الأسرية عند مفككة, والبيوت في دمار وانهيار, وإن لم يتوقفوا ليصبحُنَّ عبرة للمعتبرين. ومما يصدق ذلك أنه قدم وفد فرنسي رفيع المستوى قدم إلى بلدنا " السنغال" مبعوثا من قبل الحكومة الفرنسية, قالوا ليتباحثوا مع الطرف السنغالي في قضايا متعلقة بالقضاء والأحوال الاجتماعية, ومنها الاستفادة مما لدى الأفارقة من الحكمة في التنظيم الأسري !!! حيث يتدخل أقارب كل من الزوجين عند حدوث خلاف؛ للصلح بينهما, ولدرء وقوع الفرقة وتشتت الأسرة, ويعترف رئيس وفدهم بأن هذه المثل تنقص مجتمعهم الأوروبي !!!ونحن نعرف السبب الذي حول حياتهم الزوجية عذابا لا يطاق, هو كون الحياة عندهم مادية جافة, والعلاقات أنانية بلا رحمة. ليس لأحد - ولو كان رئيس الدولة - أن يتدخل في أمور غيره - ولو كان ابنه - . هذا هو الذي ألجأهم إلى الفرار إلى أفريقيا للاستفادة مما عندهم من أنماط الحياة الزوجية.
(1) انظر الدرة المختصرة في محاسن الدين الإسلامي: (ص 30)
(2) المصدر نفسه: (22-24)
(1) رواه البخاري (2079)، ومسلم (1532)
(2) (الفتح) (4/386)
(3) انظر فتاوى أركان الإسلام للشيخ ابن العثيمين رحمه الله
(4) انظر رسالة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ( الإسلام دين كامل).
(1) الدرة المختصرة: (29)
(2) انظر الحديث في صحيح البخاري: الحدود(6788), وصحيح مسلم: الحدود: (4506)
(3) انظر السير النبوية الصحيحة (2/488) بتصرف يسير.
(2) أحمد في المسند: (3978)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق