سلسلة الهدى والنور (3)
الله جل جلاله-واحــد أم ثلاثــة ؟/د.
منقذ بن محمود السقار
مقدمة
]قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد[ (سورة الإخلاص)
]ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون [( المائدة: 75). ]إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل[ (الزخرف: 59) ]وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إداً * تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً * أن دعوا للرحمن ولداً * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً * إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً * لقد أحصاهم وعدهم عداً * وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً[ (مريم: 88-95).
لخصت الآيات الكريمة معتقد المسلمين في الله الواحد، ونبيه المسيح عليه الصلاة والسلام، فهو نبي كريم ورسول عظيم أرسله الله بالتوحيد والبينات والهدى.
وتوحيد الله الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم هو معتقد سائر الأنبياء قبله ] وما أرسلنا من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون[ (الأنبياء: 25).
لكن النصارى يقولون بنقيض ذلك، حين يقولون ببنوة المسيح لله، أو يقول بعضهم بأنه الله، وأنه تجسد وتأنس وصفع وصلب من أجل أن يكفر خطايا البشرية التي ورثتها منذ أخطأ أبوها آدم، فمن أين استلوا هذا المعتقد، وهل في كتبهم ما يؤيد ذلك ]قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين[ (الأنبياء:24).
وإدراكاً منا لخطورة هذه المسألة نطرح سؤالنا الهام: المسيح عليه السلام رسول أم إله؟ وهل الله واحد أم ثالوث؟ وذلك في حلقتنا الثالثة من سلسلة الهدى والنور.
ونستنطق في الإجابة عنه الكتاب المقدس بعهديه، القديم والجديد، ونستأنس بأقوال رجالات الكنيسة وأحرار الفكر من الغربيين. فماذا هم قائلون؟
اللهم اهدنا لما اختلفنا فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
د. منقذ بن محمود السقار
مكة المكرمة – ربيع الأول – 1424هـ
mongiz@maktoob.com
المسيح في معتقد المسلمين
يتلخص معتقد المسلمين في المسيح عليه السلام أنه المسيح ابن مريم الصديقة، ولد بمعجزة إلهية من غير تدخل بشري، وقد ابتعثه الله نبياً ورسولاً إلى بني إسرائيل، يدعو إلى توحيد الله، ويبشر بمقدم خاتم النبيين، وأيده بالمعجزات العظيمة، فاستمر في دعوته، مراغماً لليهود الذين أرادوا قتله، جرياً على عادتهم في قتل الأنبياء، لكن الله أنجاه من مكر اليهود ومؤامرتهم لقتله، ورفعه إلى سماواته، وسيعود عليه السلام قبيل قيام الساعة، داعية إلى الله من جديد، ومطبقاً لشرعه، منكساً للصليب، ورافعاً لأعلام التوحيد.
ولمزيد من البيان نستعرض الآيات التي أنزلها الله بشأنه عليه السلام في القرآن الكريم.
فقد تحدثت الآيات عن عيسى عليه السلام، فذكرت أن الله شرفه ببنوته لمريم الطاهرة البتول المصطفاة من نساء العالمين } إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين { (آل عمران: 42) وقد أكرمها الله بالكرامات، ومنها ] كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله { (آل عمران : 37).
وحكى القرآن عن كفالة زكريا لها بعد نذر أمها بأن يكون حملها محرراً لله، وقد أمرها الله عز وجل بعبادته ] يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين[ (آل عمران : 43)
وقد حملت مريم بمولودها بعد أن بشرها الله به عن طريق الملائكة، وسماه لها ] إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم { ( آل عمران : 45).
وذكرت الآيات أنه المولود القادم قد خُلق بكلمة من الله، من غير تدخل بشري، فقد خلقه من غير أب، وبينت الآيات أن ليس في ذلك ما يقتضي ألوهيته، فقد خلق الله آدم أيضاً على غير الصورة المألوفة في البشر ] إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون[ (آل عمران : 59)، لقد خلقا جميعاً بكلمة التكوين الإلهية (كن).
وتحدثت الآيات القرآنية عن ولادة هذا المولود المبارك، فقد كان ميلاده من غير أب، لتكون أول معجزاته عليه السلام ] وجعلنا ابن مريم وأمه آية { (المؤمنون : 50)، ثم أنطقه الله في المهد حال طفولته، أنطقه ليرد فرية اليهود على أمه العذراء البتول ] قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيّاً * قال إنّي عبد اللّه آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً * وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصّلاة والزّكاة ما دمت حيّاً * وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيّاً * والسّلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيّاً[ (مريم: 28-33)، ]ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين{ (آل عمران: 46).
ولما بلغ مبلغ الرجال أرسله الله كما أرسل رسلاً قبله ]وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم{ (المائدة : 41)، ورسالة عيسى تصديق وتتمة لرسالة موسى الكليم ]ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم { (آل عمران : 50)، لذا آتاه الله العلم بالتوراة ]إذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل { (المائدة : 110)، وأنزل الله عليه الإنجيل } وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور { (المائدة : 46).
وقد أيده الله بالمعجزات، وآتاه من الآيات ما ينبغي أن يؤمن له قومه الذين أرسل إليهم ]وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني[ (المائدة : 110 )، ومن آياته أيضاً علمه ببعض الغيوب التي أطلعه الله تعالى عليها ]وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين { ( آل عمران : 49).
وكما أيده الله بالبينات أيده بروح القدس، جبريل عليه السلام ] وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس { (البقرة : 87)
وبين القرآن أن رسالته عليه السلام كانت إلى بني إسرائيل خاصة ]ورسولاً إلى بني إسرائيل { (آل عمران :49)، فدعاهم ]يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد{ (الصف : 6 ).
وقد انقسم بنو إسرائيل حيال دعوته إلى مؤمن به وكافر ]فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة { (الصف : 14)، والمؤمنون به هم حواريوه البررة الكرام.
وأما غيرهم من اليهود فكادوا عيسى ابن مريم ولم يؤمنوا به، فاستحقوا اللعنة والغضب من الله ]لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون { (المائدة : 78-79).
وتحدثت الآيات القرآنية أيضاً بوضوح عن نجاة عيسى من الصلب الذي لم تنف الآيات وقوعه، لكنها أكدت على أن المصلوب الذي تمكن منه اليهود غيره عليه الصلاة والسلام ]وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم { (النساء : 157)، وأكد القرآن قلة علم أهل الكتاب في هذا الموضوع وعدم تيقنهم منه ]ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً { (النساء : 157).
وأكدت الآيات نجاته من الصلب مرة أخرى في قوله: ]ومطهرك من الذين كفروا[ (آل عمران : 55)، وقوله: ] ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين { ( آل عمران : 54).
ويذكر القرآن مصير عيسى عليه السلام بعد نجاته من المؤامرة ] إني متوفيك ورافعك إلي { (آل عمران: 55)، وقوله: ]بل رفعه الله إليه {(النساء : 158)، والوفاة المذكورة في الآية تحتمل معان في لغة العرب، منها الموت، ومنها النوم، ولا يمكننا الجزم بأي المعنيين، وإن مال الكثيرون من أهل العلم إلى الثاني.
ويشهد لصحة هذا الرأي في فهم الآية ما يذكره القرآن من نزوله آخر الزمان وإيمان أهل الكتاب به ] وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته { (النساء : 159).
وأشارت الآيات أيضاً إلى أن نزوله سيكون آخر الزمان، فذكرت في سياق معجزاته صلى الله عليه وسلم أنه ] يكلم الناس في المهد وكهلاً {( آل عمران : 46)، وليس في كلام الكهل إعجاز إلا إذا كان صاحبه قد رفع إلى السماء ولما يبلغ بعد سن الكهولة، أي أنه سيعود مرة أخرى، ويكلم الناس حال كهولته.
وحذرت الآيات من الغلو في عيسى عليه السلام ]يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه { (النساء: 171)، فهذه هي حقيقة المسيح التي أوضحها القرآن ]ذلك عيسى ابن مريم قول الحقّ الّذي فيه يمترون * ما كان للّه أن يتّخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون{ (مريم: 33-34)، فقد خلقه الله بكلمته، وحاشا لله أن يتخذه أو غيرَه ولداً.
وهو عليه السلام لم يدع ألوهية نفسه قط، بل يبرأ يوم القيامة من كل المشركين الزاعمين ألوهيته، وذلك حين يسأله الله: ] أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم [ (المائدة: 116-117 )، فعيسى بشر رسول.
لذا فإن مذاهب النصارى فيه زور وافتراء ]ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون{ (مريم : 34)، ومن افترائهم قولهم الذي كفرهم الله به ببنوة المسيح لله: } وقالت النّصارى المسيح ابن اللّه ذلك قولهم بأفواههم { (التوبة : 30)، كما ذمّت الآيات قول آخرين بأنه هو الله :] لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً{ ( المائدة : 17).
وهكذا فإن إيمان المسلم بهذا النبي العظيم ركن من أركان الإيمان، لا يقبل الله عبداً إلا به ]آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله[ (البقرة: 285)، عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين.
عقائد الفرق النصرانية المعاصرة
تجمع الفرق النصرانية المثلثة اليوم على القول بأن الإله إنما هو إله واحد من ثلاثة أقانيم، وتجمع أيضاً على أن أول هذه الأقانيم هو الآب، وثانيها هو الابن، وثالثها هو روح القدس. والثلاثة إله واحد.
لكن هذه الفرق تختلف اختلافاً بيناً في تحديد طبيعة المسيح، فلقد صدر عن مجمع نيقية تأليهه، ثم حار النصارى في تحديد ماهية هذه الألوهية.
ونتوقف بعض الشيء مع الفرق النصرانية الكبرى، ونذكر أوجه الاختلاف بينها وظروف نشأة كل منها، ثم نذكر شيئاً من ردود المحققين في إبطال هذه المذاهب خصوصاً.
أولاً : الأرثوذكس
وهم أتباع الكنائس الشرقية (اليونانية)، وكلمة "أرثوذكس" كلمة لاتينية معناها: "صحيح أو مستقيم العقيدة" أو "مذهب الحق".
وينتشر أتباع الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا وعموم آسيا وصربيا ومصر والحبشة، ويتبعون أربع كنائس رئيسة لكل منها بطريك (القسطنطينية ثم الإسكندرية وأنطاكيا وأورشليم).
وقد انقسمت الكنيسة الأرثوذكسية في أعقاب مجمع القسطنطينية الخامس 879م إلى قسمين كبيرين (الكنيسة المصرية أو القبطية أو المرقسية، وكنيسة القسطنطينية، المسماة بالرومية أو اليونانية).
وتشكل العقيدة الأرثوذكسية امتداداً صادقاً لما جرى في مجمع نيقية، إذ تتفق معتقداتهم مع ما جاء في رسائل أثناسيوس الذي ولي البابوية في الإسكندرية بعد مجمع نيقية.
الأقانيم عند الأرثوذكس
يرى الأرثوذكس الأقانيم مراحل لإله واحد في الجوهر، فالأب هو الابن، وهو روح القدس، يقول القس القبطي الأنبا غريغورس ملخصاً معتقدهم بالثالوث : "المسيحيون يؤمنون بإله واحد، أحدي الذات، مثلث الأقانيم والخاصيات، فالتوحيد للذات الإلهية، وأما التثليث فللأقانيم، وللأقانيم خاصيات وصفات ذاتية، أي بها تقوم الذات الإلهية، فالله الواحد هو أصل الوجود، لذلك فهو الآب - والآب كلمة ساميّة بمعنى الأصل -..والله الواحد هو العقل الأعظم.. تجلى في المسيح..لذلك كان المسيح هو الكلمة..والكلمة تجسيد العقل، فإن العقل غير منظور، ولكنه ظهر في الكلمة، وهو أيضاً الابن- لا بمعنى الولادة في عالم الإنسان -، بل لأنه صورة الله غير المنظور، والله هو الروح الأعظم، وهو آب جميع الأرواح، ولهذا فهو الروح القدس، لأن الله قدوس".
ويقول الأسقف سابليوس عن الله: "ظهر في العهد القديم بصفته آب، وفي العهد الجديد بصفته ابن، وفي تأسيس الكنيسة بصفته روح القدس".
وإذا تساءلنا عن سبب اختلاف الأسماء في هذه المراحل للجوهر الواحد فإن القس توفيق جيد يجيب: "إن تسمية الثالوث باسم الآب والابن والروح القدس تعتبر أعماقاً إلهية وأسراراً سماوية لا يجوز لنا أن نفلسف في تفكيكها وتحليلها، أو نلحق بها أفكاراً من عندياتنا..".
وما دامت هذا الأقانيم مراحل للجوهر الواحد، فإن ياسين منصور يقول عنها بأنها "ثلاث شخصيات متميزة غير منفصلة، متساوية فائقة عن التصور"، ويقول أثناسيوس بالتساوي بين الأقانيم "فلا أكبر ولا أصغر، و لا أول ولا آخر، فهم متساوون في الذات الإلهية والقوة والعظمة".
وأبرز معتقدات الكنيسة الأرثوذكسية وفروقها عن الكنائس الأخرى:
- أن الله هو المسيح (الابن)، وهو روح القدس.
- تقول كنيسة القسطنطينية الأرثوذكسية أن الابن (الإله المتجسد) أقل رتبة من الإله من غير تجسد، يقول الأسقف أبولينراس: "الأقانيم الثلاثة الموجودة في الله متفاوتة القدر، فالروح عظيم، والابن أعظم منه، والأب هو الأعظم...ذلك أن الأب ليس محدود القدرة والجوهر، وأما الابن فهو محدود القدرة لا الجوهر، والروح القدس محدود القوة والجوهر".
- يرى أرثوذكس الكنيسة المرقسية المصرية أن المسيح طبيعة واحدة إلهية، ويرى أرثوذكس روسيا وأوربا (كنيسة القسطنطينية) أن له طبيعتان مجتمعتان في طبيعة واحدة كما قرر عام 451م في مجمع خلقدونية، وقد رفضت الكنيسة المصرية قرار المجمع، وقبلته الكنائس الأرثوذكسية الرومية القائلة بالطبيعتين.
- أن روح القدس نشأ من الأب فقط.
- يؤمن النصارى الأرثوذكس بأسرار الكنيسة السبعة (المعمودية - الميرون المقدس- القربان المقدس – الاعتراف – مسحة المرضى - الزواج - الكهنوت).
ثانياً : الكاثوليك
وهم أتباع الكنائس الغربية التي يرأسها بابا الفاتيكان في روما.
وكلمة: " الكاثوليك" كلمة لاتينية، تعريبها: "العام أو العالمي".
وينتشر أتباع هذه الكنيسة في بقاع كثيرة من العالم، ويشكلون عدداً كبيراً من سكان أوربا.
وقد وجدت هذه الكنيسة بعد أن انشقت عن الكنيسة الأم بعد صراع سياسي ديني طويل يمتد إلى القرن الخامس الميلادي، فحين قسم الامبرطور تيودواسيوس امبراطوريته عام 395م بين ابنيه، فتولى أكاديوسيوس الشطر الشرقي وعاصمته القسطنطينية، فيما تولى نوريوس الشطر الغربي وعاصمته روما.
وبدأ الصراع والتنافس بين المركزين، وفي عام 451م وعقب مجمع خلقدونية انفصلت الكنيسة المصرية (أول الكنائس الأرثوذكسية) عندما قالت بطبيعة واحدة للمسيح منكرة ما ذهب إليه المجمع من أن للمسيح طبيعتين ومشيئتين، ثم انفصلت بقية الكنائس الشرقية عقب مجمع القسطنطينية الرابع 869م، والخامس 879م، بسبب إصرار الغربيين على اعتبار الروح القدس منبثق من الأب والابن معاً.
الأقانيم عند الكاثوليك
ويلخص محررو قاموس الكتاب المقدس عقيدة النصارى الكاثوليك والبرتستانت في التثليث، فيقولون: "الكتاب المقدس يقدم لنا ثلاث شخصيات يعتبرهم شخص الله…شخصيات متميزة الواحدة عن الأخرى..التثليث في طبيعة الله ليس مؤقتاً أو ظاهرياً، بل أبدي وحقيقي.. التثليث لا يعني ثلاثة آلهة، بل إن هذه الشخصيات الثلاث جوهر واحد…الشخصيات الثلاث متساوون" (قاموس الكتاب المقدس، ص232).
والكاثوليك يعتبرون أركان الثالوث ثلاث شخصيات أو ثلاث ذوات، لكل منها مهام منفصلة، وترجع إلى ذات واحدة موجودة في الأزل، ويرون لكل أقنوم وظيفة واختصاصاً، فهم يسندون للأب خلق العالم والمحافظة عليه، وللابن كفارة الذنوب وتخليص البشر، و أما الروح القدس فيتولى تثبيت قلب الإنسان على الحق وتحقيق الولادة الروحية الجديدة.
وأما أبرز ما تختلف فيه الكنيسة الكاثوليكية عن الأرثوذكسية المصرية فهو :
- قولهم بأن المسيح له طبيعتان ومشيئتان: إلهية وإنسانية، فهو عند الكاثوليك إله تام وإنسان تام، وفيه اتحد الابن بناسوت المسيح.
- الأب والابن وروح القدس هي الأقانيم الأزلية للإله، والمتحد منها بجسد المسيح الإنساني هو الابن فقط.
- روح القدس انبثق من الأب والابن معاً، وهو مساوٍ للأب والابن.
- الأرواح الخاطئة لن تدخل الجنة حتى تتطهر في جحيم صغير في مكانٍ ما من الأرض يسمى: "المطهر" تتطهر به أرواح العصاة، ثم تكون أهلاً لدخول الفردوس.
- صلوات الكهنة ترفع العذاب عن النفوس الخاطئة، ومنه نشأت فكرة صكوك الغفران التي أقرها المجمع الثاني عشر المنعقد عام 1215م.
- القول بعصمة بابا روما، وبأنه وريث سلطان بطرس الذي دفعه له المسيح (انظر متى 16/19)، وبذلك تسمى أيضاً كنائس الكاثوليك بالكنائس البطرسية.
- تقدس الكنسية الكاثوليكية مريم، وتسميها (والدة الإله) و(خطيبة الله)، وتخصها ببعض الصلوات والابتهالات.
وتعترف الكنيسة الكاثوليكية بسائر العبادات والطقوس الأرثوذكسية كالتعميد والاعتراف والعشاء الرباني….و يجيز الكاثوليك عبادة الصور والأيقونات.
ثالثاً : البروتستانت
وهم في الأصل من أتباع الكنيسة الكاثوليكية، وكلمة "بروتستانت" كلمة إنجليزية معناها: المحتجون.
وقد انشق البروتستانت عن الكنسية الكاثوليكية في منتصف القرن السادس عشر وبعد عدة احتجاجات على ممارسات بابوات الكنيسة التي زكمت منها الأنوف.
وهنا يجدر بنا الحديث عن بعض هذه الدعوات الإصلاحية التي ظهرت في أوربا والتي مهدت لقيام البرتستانت.
بدأت هذه الدعوات للإصلاح على يد جيرارد في كنيسة لورين في عام 914م وعاصرتها دعوة أخرى تسمى حركة كلوين، ثم ظهرت في جنوب فرنسا حركتا الكاتاريين والوالدنيين، وتمكنت البابوية من القضاء عليهما.
وفي القرن الثالث عشر ظهرت حركة الرهبان (الإخوان)، ودعت للبساطة وحماية الكنيسة من الهراقطة، وتدعيم البابوية عن طريق الأتباع المخلصين، لكن مع نهاية هذا القرن وقع رواد الحركة فيما حذروا منه، فأصبحوا من الأثرياء، وجر الثراء إلى ما يسوء ذكره.
وفي عام 1383م توفي داعي الإصلاح حنا بعد أن طرد وأتباعه، ثم بعده نادى حنّا هس بإيقاف صكوك الغفران التي استعان بها البابا حنا الثالث والعشرون في حربه ضد مملكة نابلي، وقد أحرق حنّا هس حياً عام 1415م.
وفي بداية القرن السادس عشر ظهر مارتن لوثر، وهو قس ألماني ذهب إلى الحج في روما طالباً بركات البابا فيها، وفي ذهنه صورة من النقاء والطهر والخشوع.
لكنه فوجىء في روما بواقع آخر، فجعل يصيح بأن ليس هذا دين عيسى، وعاد لألمانيا يدعو للإصلاح، وهاجم صكوك الغفران واعتبرها دجلاً، وانضم إليه أتباع سموا بالمحتجين (البروتستانت).
ثم تأثر بلوثر الفرنسي كالفن المولود عام 1509م، ثم السويسري زونجلي، وأسس كلفن التنظيم الكنسي البروتستانتي.
وقد انتشرت أراء هذه المدرسة الإصلاحية في ألمانيا وأمريكا واسكتلندا والنرويج وهولندا.
والبرتستانت في الجملة كاثوليك، ويتميزون عنهم بأمور أهمها:
- الإيمان بأن الكتاب المقدس فقط (وليس البابوات) هو مصدر النصرانية، لكنهم لم يطبقوه فيما سوى مسألة صكوك الغفران وعصمة البابا.
- إجازة قراءة الكتاب المقدس لكل أحد، كما له الحق بفهمه دون الاعتماد في ذلك على فهم بابوات الكنيسة.
- عدم الإيمان بأسفار الأبوكريفا السبعة، واعتماد التوراة العبرانية بدلاً من اليونانية.
- عدم الاعتراف بسلطة البابا وحق الغفران وبعض عبادات وطقوس الكنيسة الكاثوليكية كالعشاء الرباني وعبادة الصور وتقديس مريم، وعذاب المطهر، وعموم الأسرار الكنيسة.
- يعتبرون الأعمال الصالحة غير ضرورية للخلاص.
- لكل كنيسة بروتستانتية استقلالها التام.
- يمنع البروتستانت الصلاة بلغة غير مفهومة كالسريانية والقبطية، ويرونها واجبة باللغة التي يفهمها المصلون.
- يمنع البروتستانت التبتل، ويوجبون زواج القسس، إذ يرونه طريقاً لازماً لإصلاح الكنيسة.
- ويوافق البروتستانت الكاثوليك في انبثاق الروح القدس من الأب والابن كما يوافقونهم في أن للمسيح طبيعتين ومشيئتين.
أدلة النصارى على ألوهية المسيح
تؤمن الفرق النصرانية - رغم اختلافها في طبيعة المسيح - بأن المسيح إله متجسد، وتؤيد دعواها بعشرات النصوص التي وردت في العهد الجديد أو القديم، وتتحدث عن إلهيته، فقد سمته النصوص المقدسة عندهم رباً وإلهاً أو وسمتْه بابن لله، وأفادت نصوص أخرى في الكتاب أن الله حل فيه، وأضافت نصوص أخرى إليه خلق المخلوقات، ثم كان من أعظم أدلة ألوهيته ما ظهر على يديه من معجزات إلهية كإخباره ببعض الغيب وإحيائه الموتى…
ملاحظات عامة
وتفحص المحققون أدلة النصارى، وسجلوا ملاحظات هامة في هذا الباب، منها:
- أنه لا يوجد نص واحد في الكتاب المقدس يصرح فيه المسيح بألوهيته أو يطلب من الناس عبادته، كما لم يعبده أحد من معاصريه ، ولم ينظر إليه هؤلاء إلا كمدع للنبوة، آمن به بعضهم، وكفر بنبوته الأكثرون من اليهود، لكن دعوى ألوهيته لا أساس لها في الكتاب المقدس، وفي هذا الصدد يتحدى ديدات كبير قساوسة السويد قائلاً: "أضع رأسي تحت مقصلة لو أطلعتموني على نص واحد قال فيه عيسى عن نفسه: أنا إله. أو قال: اعبدوني"، وهيهات أن يجدوه.
والقس فندر يقول في كتابه "مفتاح الأسرار" مبرراً عدم تصريح المسيح بألوهيته في العهد الجديد: "ما كان أحد يقدر على فهم هذه العلاقة والوحدانية قبل قيامه وعروجه…فلو قال صراحة لفهموا أنه إله بحسب الجسم الإنساني…إن كبار ملة اليهود أرادوا أن يأخذوه ويرجموه، والحال أنه ما كان بيّن ألوهيته بين أيديهم إلا عن طريق الألغاز".
والخوف من اليهود لا يقبل نسبته للإله أو حتى للمسيح الذي رأيناه يواجه اليهود مرراً فيقول: "الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون…أيها العميان…لأنكم تشبهون القبور المكلسة، أيها الحيات والأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم" (متى 23/13-34)، فكيف له بعد ذلك أن يغمض على البشرية في إظهار حقيقته، ففي ذلك إضلال وتلبيس.
- أن أحداً من تلاميذ المسيح لم يكن يعتقد ألوهية المسيح، إذ لم يعبده واحد منهم، بل كلهم وجميع معاصري المسيح ما كانوا يعتقدون أكثر من نبوته، وسيمر معنا تفصيله.
- ثم إن أقوى ما يتعلق به النصارى من الدليل لا يوجد إلا في إنجيل يوحنا ورسائل بولس، بينما تخلو الأناجيل الثلاثة من دليل واضح ينهض في إثبات ألوهية المسيح.
بل إن خلو هذه الأناجيل عن الدليل المفقود هو الذي دفع يوحنا – أو كاتب يوحنا - لكتابة إنجيل عن لاهوت المسيح، فكتب ما لم يكتبه الآخرون، وجاءت كتابته مشبعة بالغموض والفلسفة الغريبة عن بيئة المسيح البسيطة التي صحبه بها العوام من أتباعه.
- عدم الدليل الصحيح الصريح على ألوهية المسيح جعل النصارى يحرفون في طبعات الأناجيل الجديدة، ومن ذلك إضافتهم نص التثليث الصريح الوحيد في (يوحنا (1) 5/7).
ومثله وقع التحريف في قول بولس: " عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد" (تيموثاوس (1) 3/16) فالفقرة كما قال المحقق كريسباخ: محرفة، إذ ليس في الأصل كلمة "الله"، بل ضمير الغائب "هو"، والمقصود منه ظهور التقوى في جسد حي، فأحالته الترجمات الحديثة إلى دليل على التجسد الإلهي بالمسيح، فقالوا: "الله ظهر في الجسد" (تيموثاوس (1) 3 /16)، وفي النسخة الكاثوليكية (الرهبانية اليسوعية) تم تصحيح النص وإزالة التحريف "عظيم سر التقوى الذي تجلى في الجسد"، واختفى منها اسم الله تبارك وتعالى، وتغير المعنى واختفت الدلالة على ألوهية المسيح من النص.
ودعونا نقرأ بتمعن وحيادية وموضوعية أدلة النصارى الكتابية على ألوهية السيد المسيح.
نصوص نسبت إلى المسيح الألوهية والربوبية
يستمسك النصارى بالألفاظ التي أطلقت على المسيح لفظ الألوهية والربوبية، ويرونها دالة على ألوهية المسيح، وفي أولها أنه سمي يسوع، وهي كلمة عبرانية أصلها: يهوه خلاص، ومعناها: الله خلص .
ومن ذلك احتجتجهم وتمسكهم بما اعتبروه نبوءة عن المسيح في سفر إشعيا "لأنه يولد لنا ولد، ونعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام، لنمو رياسته وللسلام، لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد" (إشعيا 9/6).
كذا يستمسكون بقول داود في وصفه للقادم المبشَر به بالنبوات أنه ربه أو سيده: "قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك، يرسل الرب قضيب عزك من صهيون، تسلط في وسط أعدائك، شعبك منتدب في يوم قوتك، في زينة مقدسة، من رحم الفجر لك طل حداثتك، أقسم الرب ولن يندم: أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق" (المزمور 110/ 1-4)، فسماه داود رباً.
كما يرى النصارى نبوءة أخرى دالة على ألوهية المسيح في قول إشعيا: "لكن يعطيكم السيد نفسه آية، ها العذراء تحبل وتلد ابناً، وتدعو اسمه عمانوئيل" (إشعيا 7/14)، فكلمة عمانويل تعني: الله معنا.
ويرون تحقق النبوءة بالمسيح كما بشر الملاك يوسف النجار خطيب مريم "فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم. وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً، ويدعون اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا" (متى 1/18-23)، فتسميته الله معنا دليل - عند النصارى - على ألوهيته.
ومثله جاء في العهد الجديد قول بولس : "المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد" (رومية 9/5)، ومثله قول توما للمسيح: "ربي وإلهي " (يوحنا 20/28)، كما قال بطرس له: "حاشاك يا رب" (متى 16/22)، وقال أيضاً: "هذا هو رب الكل" (أعمال 10/36)، وجاء في سفر الرؤيا عن المسيح: " وله على ثوبه وعلى فخذه اسم مكتوب : ملك الملوك ورب الأرباب" (الرؤيا 17/14) وغير ذلك من النصوص مما أطلق على المسيح كلمة رب أو إله، فدل ذلك عندهم على ألوهيته وربوبيته.
الأسماء لا تفيد ألوهية أصحابها
لكن هذه الإطلاقات ما كان لها أن تجعل من المسيح رباً وإلهاً، إذ كثير منها ورد في باب التسمية، وتسمية المخلوق إلهاً لا تجعله كذلك. فقد سمي بولس وبرنابا آلهة لما أتيا ببعض المعجزات "فالجموع لما رأوا ما فعله بولس رفعوا أصواتهم قائلين: إن الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا إلينا" (أعمال 14/11)، فقد كان من عادة الرومان تسمية من يفعل شيئاً فيه نفع للشعب :إلهاً، ولا تغير التسمية في الحقيقة شيئاً، ولا تجعل من المخلوق إلهاً، ولا من العبد الفاني رباً وإلهاً.
وقد سمي إسماعيل بهذا الاسم العبراني، ومعناه: "الله يسمع"، ومثله يهوياقيم أي: "الله يرفع"، ويهوشع "الرب خلص"، وغيرهم … ولم تقتض أسماؤهم ألوهيتَهم.
وجاء في سفر الرؤيا: "من يغلب فسأجعله في هيكل إلهي، ولا يعود يخرج إلى خارج، وأكتب عليه اسم إلهي واسم مدينة إلهي- أورشليم الجديدة -النازلة من السماء من عند إلهي واسمي الجديد" (الرؤيا 3/12).
وجاء في التوراة: "فيجعلون اسمي على بني إسرائيل" (العدد 6/27)، ومع ذلك فليسوا آلهة.
هل سمي المسيح الرب والإله؟
لا يسلم المسلمون بصحة صدور كثير من تلك العبارات الصريحة في تسمية المسيح بالرب أو الإله، والتي يزعم العهد الجديد أنها صدرت من التلاميذ، فلقد كانت محلاً للتحريف المقصود كما وقع في (يوحنا (1) 5/7-8)، كما قد يقع التحريف بسبب سوء الترجمة وعدم دقتها، فكلمة "الرب" التي ترد كثيراً في التراجم العربية كلقب للمسيح هي في التراجم الأجنبية بمعنى: "السيد" أو "المعلم"، فالمقابل لها في الترجمة الإنجليزية هو كلمة: "lord"، ومعناها: السيد، وفي الترجمة الفرنسية: "le mait"، ومعناها: المعلم، وهكذا في سائر التراجم كالألمانية والإيطالية والأسبانية.
وما أتت به الترجمة العربية ليس بجديد، بل هو متفق مع طبيعة اللغة التي نطق بها المسيح ومعاصروه، فكلمة: "رب" عندهم تطلق على المعلم، وتفيد نوعاً من الاحترام والتقدير كما قالت المرأة السامرية للمسيح: "يا رب أرى أنك نبي" (يوحنا 4/19)، فليس المقصود من كلامها وصف المسيح بالربوبية.
وفي إنجيل يوحنا أن المسيح كان يخاطبه تلاميذه: يا رب، ومقصودهم: يا معلم، فها هي مريم المجدلية تلتفت إليه وتقول: "ربوني الذي تفسيره: يا معلم…وأخبرت التلاميذ أنها رأت الرب" (يوحنا 20/16-17).
وخاطبه اثنان من تلاميذه: "رب الذي تفسيره: يا معلم" (يوحنا 1/38).
ولم يخطر ببال أحد من التلاميذ المعنى الاصطلاحي لكلمة الرب حين أطلقوها على المسيح، فقد كانوا يريدون: المعلم والسيد، ولذلك شبهوه بيوحنا المعمدان حين قالوا له: " يا رب علمنا أن نصلي كما علم يوحنا تلاميذه" (لوقا 11/1).
واستعمال لفظة الرب بمعنى : السيد، شائع في اللغة اليونانية، يقول ستيفن نيل: "إن الكلمة اليونانية الأصلية التي معناها: "رب" يمكن استعمالها كصيغة للتأدب في المخاطبة، فسجان فلبي يخاطب بولس وسيلة بكلمة: "سيدي" أو "رب"، يقول سفر الأعمال: " أخرجهما وقال: يا سيدي ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص. فقالا: آمن بالرب يسوع المسيح، فتخلص أنت وأهل بيتك" (أعمال 16/30)… وكانت اللفظة لقباً من ألقاب الكرامة… ".
وأما قول توما للمسيح "ربي وإلهي" فهو لم يقع منه في مقام الخطاب للمسيح، بل لما رأى المسيح حياً، وقد كان يظنه ميتاً استغرب ذلك، فقال متعجباً: "ربي وإلهي" (يوحنا 20/28)، ومما يؤكد صحة هذا الفهم أن المسيح أخبر في نفس السياق بأنه سيصعد إلى إلهه. (انظر يوحنا 20/17)، وعليه فالألوهية هنا لو أريد بها المسيح فهي مجازية غير حقيقية.
وقد يشكل على البعض في قوله: "أجاب توما وقال له: ربي وإلهي" (يوحنا 20/28)، فيرى أن هذه الصيغة لم ترد في باب الاستغراب، بل في باب الخطاب المباشر للمسيح بلقب الألوهية، والحق أن (له) في النص إنما هي بمعنى لأجله أو لأجل ما رأى منه، ولها مثيل في الكتاب ، في سفر صموئيل، حيث دعا النبي يوناثان الله من أجل داود، فيما يفهم من ظاهر السياق أن الحديث موجه إليه، وهو في الحقيقة دعاء لله من أجل داود، يقول سفر صموئيل: "وقال يوناثان لداود: يا ربُ إله إسرائيل متى اختبرت أبي مثل الآن غداً أو بعد غد فإن كان خير لداود ولم أرسل حينئذ فأخبره" (صموئيل (1) 20/12)، فهو نداء لله، والسياق يقول: "وقال يوناثان لداود "، أي لأجله.
ثم لو فهم المسيح من كلام توما أنه أراد ألوهيته لما سكت عليه الصلاة والسلام، فقد رفض عليه السلام حتى أن يدعى صالحاً، إذ لما ناداه بعض تلاميذه: " أيها المعلم الصالح... فقال له: لماذا تدعوني صالحاً؟ ليس أحد صالحاً إلا واحد، وهو الله " (متى 19/17) فكيف يقبل أن يدعى رباً وإلهاً على الحقيقة؟
وبخصوص الاستدلال بالمزمور "قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك" (المزمور 110/ 1)، فهو لا يراد به المسيح بحال من الأحوال، بل المراد منه المسيح المنتظر، الذي وعد به بنو إسرائيل، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد أخطأ بطرس حين فهم أن النص يراد به المسيح، فقال: "لأن داود لم يصعد إلى السموات. وهو نفسه يقول: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. فليعلم يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً، فلما سمعوا نخسوا في قلوبهم" (أعمال 2/34-37).
ودليل الخطأ في فهم بطرس، وكذا فهم النصارى، أن المسيح أنكر أن يكون هو المسيح الموعود على لسان داود، "فيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم يسوع قائلاً: ماذا تظنون في المسيح (أي الذي تنتظره اليهود)، ابن من هو؟ قالوا له: ابن داود. قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح رباً قائلاً: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك؟ فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة، ومن ذلك اليوم لم يجسر أحد أن يسأله بتة" (متى 22/41-46).
فالمسيح سأل اليهود عن المسيح المنتظر الذي بشر به داود وغيره من الأنبياء، "ماذا تظنون في المسيح، ابن من هو؟" فأجابوه: "ابن داود"، فخطأهم وقال: " فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه! ".
وفي مرقس: " كيف يقول الكتبة أن المسيح ابن داود؟ لأن داود نفسه قال بالروح القدس: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. فداود نفسه يدعوه رباً، فمن أين هو ابنه؟! " (مرقس 12/37).
وهو ما ذكره لوقا أيضاً " وقال لهم: كيف يقولون أن المسيح ابن داود، وداود نفسه يقول في كتاب المزامير: قال الرب لربي: اجلس عن يميني، حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك؟ فإذا داود يدعوه رباً، فكيف يكون ابنه" (لوقا 20/40-44)، فالمبشر به ليس من ذرية داود الذي سماه رباً له أو سيداً، فيما لا يختلف النصارى في أن المسيح كان من ذرية داود كما جاء في نسبيه في متى ولوقا.
وبخصوص ما جاء في إشعيا من التنبؤ بقدوم عمانوئيل، فهي ليست عن المسيح، الذي لم يتسم بهذا الاسم أبداً، ولم ينادَ به إطلاقاً.
والقصة في سفر إشعيا تتحدث عن قصة قد حصلت قبل المسيح بقرون، حين تآمر راصين ملك أدوم مع ملك مملكة إسرائيل الشمالية فقح بن رمليا على مملكة يهوذا الجنوبية وملكها آحاز، وقد جعل الله من ميلاد الطفل عمانوئيل علامة على زوال الشر عن مملكة يهوذا، وإيذاناً بخراب مملكة راصين وفقح على يد الآشوريين، وموت الملكين المتآمرين، يقول إشعيا: " ثم عاد الرب فكلم آحاز قائلاً:.. ولكن يعطيكم السيد نفسه آية. ها العذراء تحبل وتلد ابناً، وتدعو اسمه عمانوئيل. زبداً وعسلاً يأكل.
متى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير، لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير، تخلى الأرض التي أنت خاش من ملِكَيها (راصين وفقح)، يجلب الرب عليك وعلى شعبك وعلى بيت أبيك أياماً لم تأتِ منذ يوم اعتزال أفرايم عن يهوذا أي ملك أشور.
ويكون في ذلك اليوم أن الرب يصفر للذباب الذي في أقصى ترع مصر وللنحل الذي في أرض أشور... لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يدعو: يا أبي ويا أمي تحمل ثروة دمشق وغنيمة السامرة قدام ملك أشور" (إشعياء 7/10- 8/4)، فالنص يتعلق بأحداث حصلت قبل المسيح بقرون، وذلك إبان الغزو الآشوري لفلسطين.
وهذا النص الذي ذكره لوقا، وكذا النص الذي في إشعيا، قد تم تحريفهما عن الأصل ليصبحا نبوءة عن المسيح وأمه العذراء، وكانت الترجمات القديمة للتوراة مثل ترجمة أيكوئلا، وترجمة تهيودوشن، وترجمة سميكس والتي تعود للقرن الثاني الميلادي، قد وضعت بدلاً من العذراء : المرأة الشابة، وهو يشمل المرأة العذراء وغيرها، وذلك أن اللفظ المستخدم بالعبرانية هو (عِلما)، بمعنى : الصبية أو الشابة، وليس (بتولّا)، التي تعني: العذراء.
ويذكر العلامة أحمد ديدات أن النسخة المنقحة (R.S.V) والصادرة عام 1952م قد استبدلت كلمة العذراء في إشعيا بـ " الصبية "، ولكن هذا التنقيح لا يسري سوى على الترجمة الإنجليزية.
وبخصوص نبوءة النبي إشعيا " لأنه يولد لنا ولد، ونعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام، لنمو رياسته وللسلام، لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد" (إشعيا 9/6)، فإن أياً من هذه الأسماء لم يتسم به المسيح، فأين سمي عجيباً أو مشيراً أو قديراً أو أباً أو رئيس السلام، فليس في الكتاب المقدس نص يذكر أنه سمي بأي من هذه الأسماء.
فإن قالوا: المراد أن هذه صفات هذا الابن الموعود، فهي أيضاً لا تنطبق على المسيح بحال، فهي تتحدث عن نبي غالب منتصر يملك على قومه، ويكون وارثاً لملك داود، وكل هذا ممتنع في حق المسيح، ممتنع بدليل الواقع والنصوص.
فالمسيح لم يملك على قومه يوماً واحداً، بل كان فاراً من بني إسرائيل، خائفاً من بطشهم، كما هرب من قومه حين أرادوه أن يملك عليهم. "وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً، انصرف أيضاً إلى الجبل وحده" (يوحنا 6/15)، لقد هرب منهم، وذلك لأن مملكته ليست دنيوية زمانية، ليست على كرسي داود، بل هي مملكة روحية في الآخرة "أجاب يسوع: مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلّم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من هنا" (يوحنا 18/36).
كما أن إشعيا يتحدث عن رئيس السلام، وهو لا ينطبق على الذي نسبت إليه الأناجيل أنه قال: " لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً، بل سيفاً، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنّة ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته " (متى 10/34 - 36)، ويؤكد لوقا هذه الطبيعة لرسالته، فيقول: " أما أعدائي الذين لم يريدوا أن أملك عليهم، فأتوا بهم إلى هنا، واذبحوهم قدامي " ( لوقا 19/27 )، فهل يسمى المسيح بعد ذلك رئيس السلام؟
ثم إن إشعيا يتحدث عن شخص قدير، وليس عن بشر محدود لا يقدر أن يصنع من نفسه شيئاً كما قال عن نفسه: " أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً، كما أسمع أدين" (يوحنا 5/30)، وفي نص آخر يقول لليهود: "الحق الحق أقول لكم: لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل، لأن مهما عمل ذاك، فهذا يعمله الابن كذلك" (يوحنا 5/19).
ثم إن الكتاب المقدس يمنع أن يكون المسيح ملكاً على بني إسرائيل، فقد حرم الله الملك على ذرية الملك الفاسق يهوياقيم بن يوشيا أحد أجداد المسيح، فقد ملك على مملكة يهوذا، فأفسد، فقال الله فيه: "هكذا قال الرب عن يهوياقيم ملك يهوذا: لا يكون له جالس على كرسي داود، وتكون جثته مطروحة للحر نهاراً وللبرد ليلاً، وأعاقبه ونسله وعبيده على إثمهم " ( إرميا 36/30 - 31 ).
والمسيح - حسب الأناجيل - من ذرية هذا الملك الفاسق، يقول متى في سياق نسب المسيح: " وآمون ولد يوشيا. ويوشيا ولد يكنيا وإخوته عند سبي بابل " (متى 1/10-11)، وقد أسقط متعمداً اسم يهوياقيم، فذكر أباه يوشيا، وابنه يكينيا،.
وبيان ذلك في سفر الأيام الأول "بنو يوشيا: البكر: يوحانان، الثاني: يهوياقيم، الثالث: صدقيا، الرابع: شلّوم. وابنا يهوياقيم: يكنيا ابنه، وصدقيا ابنه" (الأيام (1) 3/14-15)، فيهوياقيم أحد أجداد المسيح، وهذا يمنع تحقق نبوءة إشعيا في المسيح، فالملِك القادم لن يكون من ذرية المحروم يهوياقيم.
إطلاقات لفظ الألوهية والربوبية في الكتاب المقدس
وليس في وصف المسيح بالرب أو الإله أي دلالة على ألوهية المسيح، فإطلاقهما على المخلوقات معهود في الكتاب المقدس.
فمما ورد في كتب أهل الكتاب إطلاق لفظة "الرب" و "الإله" على الملائكة، فقد جاء في سفر القضاة، وهو يحكي عن ظهور ملاك الرب لمنوح وزوجه: " ولم يعد ملاك الرب يتراءى لمنوح وامرأته، حينئذ عرف منوح أنه ملاك الرب، فقال منوح لامرأته: نموت موتاً، لأننا قد رأينا الله" (القضاة 13/21-22)، ومراده ملاك الله.
وظهر ملاك الله لسارة وبشرها بإسحاق "وقال لها ملاك الرب…فدعت اسم الرب الذي تكلم معها: أنت إيل رئي" (التكوين 16/11-13) فأطلقت على الملاك اسم الرب.
ومثله تسمية الملاك الذي صحب بني إسرائيل في رحلة الخروج بالرب "وكان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب ليهديهم في الطريق، وليلاً في عمود نار ليضيء لهم.... فانتقل ملاك الله السائر أمام عسكر إسرائيل وسار وراءهم " (الخروج 13/21- 14/19)، فسمى الملاك رباً.
ومما جاء في التوراة إطلاق هذه الألفاظ على الأنبياء، من غير إرادة معناها الحقيقي، فقد قال الله لموسى عن هارون: " وهو يكون لك فماً، وأنت تكون له إلهاً " (الخروج 4 /16).
ومثله في قول الله لموسى: " فقال الرب لموسى: انظر. أنا جعلتك إلهاً لفرعون، وهارون أخوك يكون نبيّك" ( الخروج 7/1 ) أي: مسلطاً عليه.
وقد عهد تسمية الأنبياء (الله) مجازاً أي رسل الله، فقد "كان يقول الرجل عند ذهابه ليسأل الله: هلم نذهب إلى الرائي، لأن النبي اليوم كان يدعى سابقاً الرائي" (صموئيل(1) 9/9).
وأطلقت لفظة "الله" وأريد منها القضاة، لأنهم يحكمون بشرع الله، ففي سفر الخروج "إن قال العبد…يقدمه سيده إلى الله، ويقربه إلى الباب..." (الخروج20/5-6).
وفي السفر الذي يليه فيه "وإن لم يوجد السارق يقدم صاحب البيت إلى الله ليحكم هل لم يمد يده إلى ملك صاحبه…فالذي يحكم الله بذنبه يعوض صاحبه" (الخروج 22/8-9).
وفي سفر التثنية "يقف الرجلان اللذان بينهما الخصومة أمام الرب أمام الكهنة" (التثنية 19/17).
ومثله "الله قائم في مجمع الله، في وسط الآلهة يقضي، حتى متى تقضون جوراً وترفعون وجوه الأشرار" (المزمور 82/1)، ومقصده أشراف بني إسرائيل وقضاتهم.
بل يمتد هذا الإطلاق ليشمل كل بني إسرائيل كما في قول داود في مزاميره: " أنا قلت: إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم، لكن مثل الناس تموتون" (المزمور 82/6)، وهذا الذي استشهد به عيسى عليه السلام عندما قال: " أليس مكتوباً في ناموسكم: أنا قلت: إنكم آلهة. إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله. ولا يمكن أن ينقض المكتوب. فالذي قدسه الآب، وأرسله إلى العالم أتقولون له: إنك تجدف، لأني قلت: إني ابن الله " (يوحنا 10/34).
وتستمر الكتب في إطلاق هذه الألفاظ حتى على الشياطين، والآلهة الباطلة للأمم، فقد سمى بولس الشيطان إلهاً، كما سمى البطن إلهاً، وأراد المعنى المجازي، فقال عن الشيطان: "إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين، لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح" (كورنثوس (2) 4/5)، وقال عن الذين يتبعون شهواتهم ونزواتهم: "الذين إلههم بطنهم، ومجدهم في خزيهم…" (فيلبي 3/19). ومثله ما جاء في المزامير " لأني أنا قد عرفت أن الرب عظيم، وربنا فوق جميع الآلهة" (المزمور 135/5)، وألوهية البطن وسواها ألوهية مجازية غير حقيقية.
فهذه لغة الكتاب المقدس في التعبير، والتي يخطئ من يصر على فهم ألفاظها حرفياً كما يخطئ أولئك الذين يفرقون بين المتشابهات، فألوهية هؤلاء جميعاً مجازية، وكذا ألوهية المسيح، سواء بسواء.
وفي كتاب "مرشد الطالبين" : وأما اصطلاح الكتاب المقدس فإنه ذو استعارات وافرة غامضة خاصة العهد العتيق … واصطلاح العهد الجديد أيضاً هو استعاري جداً، وخاصة مسامرات مخلصنا، وقد اشتهرت آراء كثيرة فاسدة لكون بعض معلمي النصارى شرحوها شرحاً حرفياً…".
كما أن المسيح وهو يسمع بمثل هذه الاستعارات والآلهة المجازية أوضح بأن ثمة إلهاً حقيقياً واحداَ، هو الله، فقال: "الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت، أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يوحنا 17/3)، وهي ما تعني بوضوح: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله. وهو ما يعتقده المسلمون فيه عليه الصلاة والسلام.
بنوة المسيح لله
وتتحدث نصوص إنجيلية عن المسيح وتذكر أنه ابن الله، ويراها النصارى أدلة صريحة على ألوهية المسيح، فهل يصح هذا الاستدلال منهم؟ وما هو معنى البنوة لله؟
هل سمى المسيح نفسه ابن الله؟
أول ما يلفت المحققون النظر إليه أنه لم يرد عن المسيح - في الأناجيل- تسميته لنفسه بابن الله سوى مرة واحدة في يوحنا 10/37، وفيما سوى ذلك فإن الأناجيل تذكر أن معاصريه وتلاميذه كانوا يقولون بأنه ابن الله.
لذا فإن المحققين يشككون في صدور هذه الكلمات من المسيح أو تلاميذه، يقول سنجر في كتابه "قاموس الإنجيل": ليس من المتيقن أن عيسى نفسه قد استخدم ذلك التعبير".
ويقول شارل جنيبر: "المسيح لم يدع قط أنه المسيح المنتظر، ولم يقل عن نفسه بأنه ابن الله، فهذه لغة استخدمها المسيحيون فيما بعد في التعبير عن عيسى".
وقد قال العالم كولمن بخصوص هذا اللقب: "إن الحواريين الذين تحدث عنهم أعمال الرسل تأسَوا بمعلمهم الذي تحفظ على استخدام هذا اللقب ولم يرغب به، فاستنوا بسنته".
ويرى جنيبر أن المفهوم الخاطئ وصل إلى الإنجيل عبر الفهم غير الدقيق من المتنصرين الوثنيين فيقول: "مفهوم "ابن الله" نبع من عالم الفكر اليوناني".
ويرى البعض من المحققين أن بولس هو أول من استعمل الكلمة، وكانت حسب لغة المسيح (عبد الله) وترجمتها اليونانية servant، فأبدلها بالكلمة اليونانية pais بمعنى طفل أو خادم تقرباً إلى المتنصرين الجدد من الوثنيين.
المسيح هو أيضاً ابن الإنسان
ثم هذه النصوص التي تصف المسيح أنه ابن الله معارضة بثلاثة وثمانين نصاً من النصوص التي أطلقت على المسيح لقب " ابن الإنسان "، فلئن كانت تلك التي أسمته ابن الله دالة على ألوهيته فإن هذه مؤكدة لبشريته، صارفة تلك الأخرى إلى المعنى المجازي.
ومنها قول متى: " قال له يسوع: للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له، أين يسند رأسه" (متى 8/20)، وأيضاً قوله: " ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه" (مرقس 14/21)، وقد جاء في التوراة: "ليس الله إنساناً فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم" (العدد 23/9). فالمسيح ليس الله.
أبناء كثر لله، فهل هم آلهة؟
ولفظ البنوة الذي أطلق على المسيح أطلق على كثيرين غيره، ولم يقتضِ ذلك ألوهيتهم، بل حملت بنوتهم على المعنى المجازي، أي المؤمنين والصالحين.
منهم آدم الذي قيل فيه: "آدم ابن الله" (لوقا 3/38).
وسليمان أيضاً قيل أنه ابن الله، فقد جاء في سفر الأيام عنه "هو يبني لي بيتاً …أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً" (الأيام (1) 17/12-13).
ومثله قوله لداود " أنت ابني، أنا اليوم ولدتك " (المزمور 2/7).
كما سمى لوقا الملائكة أبناء الله لشيوع مثل هذه الاستخدام في الصدر الاول للمسيحية "مثلَ الملائكةِ وهم أبناء الله " (لوقا 20/36).
وسمت النصوص أيضاً آخرين أبناء الله، أو ذكرت أن الله أبوهم، ومع ذلك لا يقول النصارى بألوهيتهم. فالحواريون أبناء الله، كما قال المسيح عنهم: " قولي لهم: إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم " (يوحنا 20/17).
وقال للتلاميذ أيضاً: " فكونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل" (متى 5/48).
وعلمهم المسيح أن يقولوا: "فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك.." (متى 6/9)، وقوله: " أبوكم الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسألونه" (متى 6/11)، فكان يوحنا يقول: " انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله" (يوحنا (1) 3/1).
بل واليهود أيضاً كلهم أبناء الله كما يوضحه قول المسيح لليهود: "أنتم تعملون أعمال أبيكم. فقالوا له: إننا لم نولد من زنا. لنا أب واحد، وهو الله" (يوحنا 8/41).
وفي سفر هوشع "يكون عدد بني إسرائيل كرمل البحر الذي لا يكال ولا يعدّ، ويكون عوضاً عن أن يقال لهم: لستم شعبي، يقال لهم: أبناء الله الحي" ( هوشع 1/10).
ونحوه قال عنهم: "لما كان إسرائيل غلاماً أحببته، ومن مصر دعوت ابني" (هوشع 11/1).
ومن ذلك أيضاً ما جاء في سفر الخروج عن جميع شعب " فتقول لفرعون: هكذا يقول الرب: إسرائيل ابني البكر. فقلت لك: أطلق ابني ليعبدني، فأبيت" (الخروج 4/22).
وخاطبهم داود قائلاً: "قدموا للرب يا أبناء الله، قدموا للرب مجداً وعزّاً" (المزمور 29/1).
ومثله قوله: "لأنه من في السماء يعادل الرب. من يشبه الرب بين أبناء الله" ( المزمور 89/6).
وفي سفر أيوب: "كان ذات يوم أنه جاء بنو الله، ليمثلوا أمام الرب " (أيوب 1/6).
وقال الإنجيل عنهم: "طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون" (متى 5/9).
وعن المؤمنين يقول بولس : "فإذ نحن ذرية الله، لا ينبغي أن نظن أن اللاهوت شبيه بذهب أو فضة أو حجر نقش صناعة واختراع إنسان" (أعمال 17/29)، فوسم المؤمنين بأنهم ذرية الله، أي المحبون والمطيعون لله.
كما نرى في التوراة هذا الإطلاق على الشرفاء والأقوياء من غير أن يفهم منه النصارى أو غيرهم الألوهية الحقيقية، فقد جاء فيها: "أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات. فاتّخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا.... إذ دخل بنو الله على بنات الناس، وولدن لهم أولاداً، هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم" (التكوين 6/2).
وعليه فلا يمكن النصارى أن يجعلوا من النصوص المتحدثة عن بنوة المسيح لله أدلة على ألوهيته ثم يمنعوا إطلاق حقيقة ذات اللفظ على آدم وسليمان و… وتخصيصهم المسيح بالمعنى الحقيقي يحتاج إلى مرجح لا يملكونه ولا يقدرون عليه.
معنى البنوة الصحيح
والمعنى المقصود للبنوة في كل ما قيل عن المسيح وغيره إنما هو معنى مجازي بمعنى حبيب الله أو مطيع الله، أو المؤمن بالله.
لذلك قال مرقس وهو يحكي عبارة قائد المائة الذي شاهد المصلوب وهو يموت فقال: "حقاً كان هذا الإنسان ابن الله " (مرقس 15/39).
ولما حكى لوقا القصة نفسها أبدل العبارة بمرادفها فقال: "بالحقيقة كان هذا الإنسان باراً" (لوقا 23/47).
ومثل هذا الاستخدام وقع من يوحنا حين تحدث عن أولاد الله المؤمنين، فقال: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله. أي المؤمنين باسمه" (يوحنا 1/12).
ومثله يقول : "الذي يسمع كلام الله من الله" (يوحنا 8/47).
ومثل هذه الإطلاق المجازي للبنوة معهود في الكتب المقدسة التي تحدثت عن أبناء الشيطان، وأبناء الدهر (الدنيا)…(انظر يوحنا 8/44، لوقا 16/8).
وأما المعنى الحقيقي للبنوة فقد نطقت به الشياطين، فانتهرها المسيح، ففي إنجيل لوقا " كانت شياطين أيضاً تخرج من كثيرين، وهي تصرخ وتقول: أنت المسيح ابن الله. فانتهرهم ولم يدعهم يتكلمون لأنهم عرفوه أنه المسيح" (لوقا 4/41)، فهو المسيح فحسب، وليس ابن الله على الحقيقة.
بكورية المسيح بين الأبناء
لكن النصارى يرون تميزاً مستحقاً للمسيح في بنوته عن سائر الأبناء، فهم لا ينازعون في صحة الإطلاق المجازي عندما ترد لفظ البنوة بحق سائر المخلوقات.
لكن النـزاع إنما يكمن في تلك الأوصاف التي أطلقت على المسيح ويثبتها النصارى على الحقيقة محتجين بأمور، منها: أنه قد جاء وصف المسيح بأنه الابن البكر أو الوحيد لله. (انظر عبرانيين 1/6، يوحنا 3/18) أو أنه سمي ابن الله العلي ( انظر لوقا 1/32، 76)، أو أنه ابن ليس مولوداً من هذا العالم كسائر الأبناء، بل هو مولود من السماء، أو من فوق. (انظر يوحنا 1/18).
ولكن ذلك كله تثبت النصوص أمثاله لأبناء آخرين.
فالبكورية وصف بها إسرائيل: " إسرائيل ابني البكر" (الخروج 4/22-23).
وكذا إفرايم "لأني صرت لإسرائيل أباً، وإفرايم هو بكري" (إرميا 21/9).
وكذا داود "هو يدعوني: أنت أبي وإلهي وصخرة خلاصي، وأنا أيضاً أجعله بكراً، فوق ملوك الأرض علياً" (المزمور 89/26-27).
ولئن قيل في المسيح أنه ابن الله العلي، فكذلك سائر بني إسرائيل "وبنو العلي كلكم" (المزمور 82/6).
وكذا تلاميذ المسيح فهم أيضاً بنو العلي " أحبوا أعداءكم…فيكون أجركم عظيماً، وتكونوا بني العلي" (لوقا 6/35).
النزول من السماء
وتعلق مؤلهو المسيح بما ذكرته الأناجيل عن المسيح الذي أتى من فوق أو من السماء، و"الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع" (يوحنا 3/31)، وهم يرون صورة ألوهيته مشرقة في قوله: " أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم" (يوحنا 8/23)، فدل ذلك - وفق رأي النصارى - على أنه كائن إلهي فريد.
لكن المقصود من المجيء السماوي هو إتيان المواهب والشريعة، وهو أمر يستوي به مع سائر الأنبياء، ومنهم يوحنا المعمدان فقد سأل المسيح اليهود: "معمودية يوحنا من أين كانت من السماء؟ أم من الناس؟ ففكروا في أنفسهم قائلين: إن قلنا من السماء، فيقولوا لنا: فلماذا لم تؤمنوا به؟ وإن قلنا: من الناس، نخاف من الشعب…" (متى 21/25-26).
وأما النازلون على الحقيقة من السماء فهم كثر، ولا تعتبر النصارى أيا منهم آلهة، منهم الملائكة، "لأن ملاك الرب نزل من السماء" (متى 28/2).
وكذا صعد أخنوخ إلى السماء "وسار أخنوخ مع الله، ولم يوجد، لأن الله أخذه" (التكوين 5/24)، ومن المعلوم أن "ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يوحنا 3/13)، فأخنوخ مثله، ولا يقولون بألوهيته.
وكذا إيليا صعد إلى السماء "ففصلت بينهما فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء" (الملوك (2) 2/11).
كما تذكر الأناجيل أن التلاميذ، هم أيضاً مولودون من فوق أو من الله، أي هم مؤمنون به، ففي يوحنا: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنين باسمه" (يوحنا 1/12). فالمقصود بالولاد، الولاد الروحي، بحيث يتغير قلب الإنسان الخاطئ تغيراً عظيماً كاملاً مستمراً، كأنه ولد ثانية، ويحدث ذلك عند توبته وإيمانه.
والمؤمنون بالمسيح مولودون من فوق بما أعطاهم الله من الإيمان، فهم كسائر المؤمنين كما قال المسيح: "الحق الحق أقول لكم: إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله" (يوحنا 3/3).
وكذا قال: "كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح، فقد ولد من الله" (يوحنا (1) 5/1).
وقال: " كل من يصنع البر مولود منه" (يوحنا (1) 2/29).
وقول المسيح: " أما أنا فلست من هذا العالم " ليس دليلاً على الألوهية بحال، فمراده اختلافه عن سائر البشر باستعلائه على العالم المادي، بل هو من فوق ذلك الحطام الذي يلهث وراءه سائر الناس.
وقد قال مثل هذا القول في حق تلاميذه أيضاً بعد أن لمس فيهم حب الآخرة والإعراض عن الدنيا، فقال: " لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته، لكن لأنكم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم، لذلك يبغضكم العالم" (يوحنا 15/19).
وفي موضع آخر قال عنهم: " أنا قد أعطيتهم كلامك، والعالم أبغضهم، لأنهم ليسوا من العالم، كما أني لست من العالم" ( 17/14-15)، فقال في حق تلاميذه ما قاله في حق نفسه من كونهم جميعاً ليسوا من هذا العالم، فلو كان هذا على ظاهره، وكان مستلزماً الألوهية، للزم أن يكون التلاميذ كلهم آلهة، لكن تعبيره في ذلك كله نوع من المجاز، كما يقال: فلان ليس من هذا العالم، يعني: هو لا يعيش للدنيا و لا يهتم بها، بل همُّـهُ دوماً رضا الله والدار الآخرة.
الحلول الإلهي في المسيح
ويرى النصارى أن بعض النصوص المقدسة تفيد حلولاً إلهياً في عيسى، منها قوله: "لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيّ، وأنا فيه" (يوحنا 10/38)، وفي موضع آخر " الذي رآني فقد رأى الآب...الآب الحال فيّ " (يوحنا 14/9-10)، ويبقى أقوى أدلة النصارى على ألوهية المسيح قوله: "أنا والآب واحد" (يوحنا 10/30).
فهذه النصوص أفادت - حسب قول النصارى - أن المسيح هو الله، أو أن حلولاً إلهياً حقيقياً لله فيه.
حلول الله المجازي على مخلوقاته
وقد تتبع المحققون هذه النصوص، فأبطلوا استدلال النصارى بها، وبينوا سوء فهمهم لها.
فأما ما جاء من ألفاظ دلت على أن المسيح قد حلّ فيه الله - على ما فهمه النصارى- فإن فهمهم لها مغلوط. ذلك أن المراد بالحلول حلول مجازي كما جاء في حق غيره بلا خلاف، ونقول مثله في مسألة الحلول في المسيح.
فالله - حسب الكتاب المقدس- يحل في كثيرين ، أي حلول المواهب الإلهية، لا حلول ذاته العلية التي تتنزه عن الحلول في المخلوقات المحدودة، فقد جاء في رسالة يوحنا "من اعترف بأن يسوع هو ابن الله، فالله يثبت فيه، وهو في الله، ونحن قد عرفنا وصدقنا المحبة التي لله فينا، ومن يثبت في المحبة يثبت في الله، والله فيه" (يوحنا (1) 4/15-16)، فحلول الله في الذين اعترفوا بالمسيح ليس بحلول ذوات، وإلا كانوا جميعاً آلهة.
ومثله فإن الله يحل مجازاً في كل من يحفظ الوصايا ولا يعني ذلك ألوهيتهم، ففي رسالة يوحنا: "ومن يحفظ وصاياه يثبت فيه، وهو فيه، وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا" (يوحنا (1) 3/24)، فليس المقصود تقمص الذات الإلهية لهؤلاء الصالحين، بل حلول هداية الله وتأييده عليهم.
وكذا الذين يحبون بعضهم لله فإن الله يحل فيهم برحمته، لا بذاته "إن أحب بعضنا بعضاً فالله يثبت فينا، ومحبته قد تكملت فينا، بهذا نعرف أننا نثبت فيه، وهو فينا" (يوحنا (1) 4/12-13).
وكما في قوله عن التلاميذ: " أنا فيهم، وأنت في" (يوحنا 14 /19).
ومثله يقول بولس عن المؤمنين: "فإنكم أنتم هيكل الله الحي، كما قال الله: إني سأسكن فيهم، وأسير بينهم، وأكون لهم إلهاً، وهم يكونون لي شعباً" (كورنثوس (2) 6/16-17)، فالحلول في كل ذلك مجازي.
فقد أفادت هذه النصوص حلولاً إلهياً في كل المؤمنين، وهذا الحلول هو حلول مجازي بلا خلاف، أي حلول هدايته ومواهبه وتوفيقه، ومثله الحلول في المسيح، ومن زعم الفرق وجب عليه إحضار الدليل.
كما تذكر التوراة حلول الله - وحاشاه - في بعض مخلوقاته على الحقيقة، ولا تقول النصارى بألوهية هذه الأشياء، ومن ذلك ما جاء في سفر الخروج "المكان الذي صنعته يا رب لسكنك" (الخروج 15/17)، فقد حل وسكن في جبل الهيكل، ولا يعبد أحد ذلك الجبل.
وفي المزامير: "لماذا أيتها الجبال المسمنة ترصدون الجبل الذي اشتهاه الله لسكنه، بل الرب يسكن فيه إلى الأبد" (المزمور 68/16).
"أنا والآب واحد"
قول المسيح: "أنا والآب واحد" أهم ما يتعلق فيه أولئك الذين يقولون بألوهية المسيح، وقد فهموا منه وحدة حقيقية جهر بها المسيح أمام اليهود، وفهموا منه أنه يعني الألوهية لذاته.
ولفهم النص نعود فنقرأ السياق من أوله، فنرى بأن المسيح كان يتمشى في رواق سليمان في عيد التجديد، فأحاط به اليهود وقالوا: "إلى متى تعلق أنفسنا؟ إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهراً.
أجابهم يسوع: إني قلت لكم ولستم تؤمنون. الأعمال التي أنا أعملها باسم أبي هي تشهد لي، ولكنكم لستم تؤمنون، لأنكم لستم من خرافي كما قلت لكم: خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي، أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل، ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي، أنا والآب واحد" (يوحنا10/24-30).
فالنص من أوله يتحدث عن قضية معنوية مجازية، فخراف المسيح أي تلاميذه يتبعونه، فيعطيهم الحياة الأبدية، أي الجنة، ولن يستطيع أحد أن يخطفها منه (أي يبعدها عن طريقه وهدايته) لأنها هبة الله التي أعطاه إياها، ولا يستطيع أحد أن يسلبها من الله الذي هو أعظم من الكل، فالله والمسيح يريدان لها الخير، فالوحدة وحدة الهدف لا الجوهر.
لكن اليهود في رواق سليمان كان فهمهم لكلام المسيح سقيماً - أشبه ما يكون بفهم النصارى له -، لذا " تناول اليهود أيضاً حجارة ليرجموه، …لسنا نرجمك لأجل عمل حسن، بل لأجل تجديف، فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً".
فعرف المسيح خطأ فهمهم لكلامه، واستغرب منهم كيف فهموا هذا الفهم وهم يهود يعرفون لغة الكتب المقدسة في التعبير المجازي فأجابهم: " أليس مكتوباً في ناموسكم: أنا قلت إنكم آلهة؟" ومقصده ما جاء في مزامير داود: "أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم" (المزمور 82/6).
أي فكيف تستغربون بعد ذلك مثل هذه الاستعارات، وهي معهودة في كتابكم الذي جعل بني إسرائيل آلهة بالمعنى المجازي للكلمة؟! فالمسيح أولى بهذه الألوهية المجازية من سائر بني إسرائيل" إن قال: آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله.. فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم، أتقولون له إنك تجدف لأني قلت: إني ابن الله، إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي.." (يوحنا10/37).
وهكذا صحح المسيح لليهود ثم للنصارى الفهم السيئ والحرفي لوحدته مع الآب.
وهذا الأسلوب في التعبير عن وحدة الهدف والمشيئة معهود في النصوص خاصة في إنجيل يوحنا، فهو يقول عن التلاميذ على لسان المسيح: "ليكون الجميع واحداً كما أنت أيها الآب فيّ، وأنا فيك، ليكونوا (أي التلاميذ) هم أيضاً واحداً فينا.. ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد... أنا فيهم وأنت فيّ" (يوحنا 17/20-23)، فالحلول في المسيح والتلاميذ حلول معنوي فحسب، وإلا لزم تأليه التلاميذ، فكما المسيح والآب واحد، فإن التلاميذ والمسيح والآب أيضاً واحد، أي وحدة الهدف والطريق، لا وحدة الذوات، فإن أحداً لا يقول باتحاد التلاميذ ببعضهم أو باتحاد المسيح فيهم بذاته.
وفي موضع آخر ذكر نفس المعنى فقال عن التلاميذ: " أيها الأب القدوس، احفظهم في اسمك الذي أعطيتني، ليكونوا واحداً كما نحن" (يوحنا 17/11).
ومثله قوله: "تعلمون أني أنا في أبي، وأنتم فيّ، وأنا فيكم" (يوحنا 14/20).
ومثله يقول بولس: "فإنكم أنتم هيكل الله الحي، كما قال الله: إني سأسكن فيهم، وأسير بينهم، وأكون لهم إلهاً، وهم يكونون لي شعباً" (كورنثوس (2) 6/16-17).
ومثله قوله: "إله وآب واحد للكل، الذي على الكل وبالكل، وفي كلكم" (أفسس 4/6).
ومثله قول المسيح لتلاميذه: " أنا الكرمة، وأنتم الأغصان، الذي يثبت في، وأنا فيه، هذا يأتي بثمر كثير" (يوحنا 15/5)، أي من يحبني ويطيعني ويؤمن بي فهذا يأتي بثمر كثير.
والمعنى الصحيح لقوله: "لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيّ، وأنا فيه" (يوحنا 10/38) أي أن الله يكون في المسيح، أي بمحبته وقداسته وإرشاده وتسديده، لا بذاته المقدسة التي لا تحل في الهياكل "العلي لا يسكن في هياكل مصنوعات الأيادي" (أعمال 7/48).
وقد تكرر هذا الأسلوب في التعبير عن وحدة الهدف والمشيئة في نصوص كثيرة، منها قول بولس: " أنا غرست، وأبلوس سقى، …الغارس والساقي هما واحد، فإننا نحن عاملان مع الله" (كورنثوس(1) 3/6-9)، فوحدة بولس مع أبلوس وحدة الهدف المشترك، لا الجوهر والذات.
ومثله جاء في التوراة في وصف الزوجين "يترك الرجل أباه وأمه، ويلتصق بامرأته، ويكونان جسداً واحداً" (التكوين 2/24).
ومثله قول لابان ليعقوب ابن أخته " فقال له لابان: إنما أنت عظمي ولحمي" (التكوين 29/14).
ومثله الرمز لوحدة الهدف والغاية بين التلاميذ باستعارة لفظ يدل ظاهره على وحدة الجسد، وليس مقصوداً ، وذلك في قوله: " هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضاً لبعض" (رومية 12/5)، (وانظر صموئيل 19/12)، وغير ذلك من أمثلة وحدة المشيئة والهدف والمحبة ، لا الذات.
ومثل هذا الاستخدام للوحدة المجازية، وحدة الهدف والمشيئة ورد في القرآن من غير أن يفهم منه أحد من المسلمين الوحدة الحقيقية، وحدة الذات، وذلك في قوله تعالى، وهو يخاطب نبيه: ]إنّ الّذين يبايعونك إنّما يبايعون اللّه {( الفتح: 10)، فلم يقل أحد من المسلمين أن الله ونبيه ذات واحدة كما صنع النصارى في قول المسيح: "أنا والآب واحد".
"الذي رآني فقد رأى الآب"
ومن أهم ما يستدل به النصارى على ألوهية المسيح قول السيد المسيح: "الذي رآني فقد رأى الآب" (يوحنا 14/9)، إذ فهموا منه أن الله الآب هو المسيح، وأن رؤية المسيح هي بالحقيقة رؤية لله عز وجل.
ولفهم النص الفهم الصحيح نعود إلى سياقه، فالسياق من أوله يخبر أن المسيح قال لتلاميذه: "أنا أمضي لأعد لكم مكاناً، وإن مضيت وأعددتُ لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم " وقصده بالمكان الملكوت.
فلم يفهم عليه توما فقال: " يا سيد لسنا نعلم أين تذهب، فكيف نقدر أن نعرف الطريق "، لقد فهم أنه يتحدث عن طريق حقيقي وعن رحلة حقيقية، فقال له المسيح مصححاً ومبيناً أن الرحلة معنوية وليست حقيقية مكانية: "أنا هو الطريق والحق والحياة " (يوحنا14/1-6)، أي أن اتباع شرعه ودينه هو وحده الموصل إلى رضوان الله وجنته.
ثم طلب منه فيلبُّس أن يريهم الله، فنهره المسيح وقال له: " ألست تعلم أني أنا في الأب، والأب فيّ، الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي، لكن الأب الحال فيّ هو يعمل الأعمال…" (يوحنا 14/10) أي كيف تسأل ذلك يا فيلبس، وأنت يهودي تعلم أن الله لا يرى، فالذي رآني رأى الآب، حين رأى أعمال الله (المعجزات) التي أجراها على يد المسيح.
يشبه هذا النص تماماً ما جاء في مرقس "فأخذ ولداً وأقامه في وسطهم، ثم احتضنه، وقال لهم: من قبِل واحداً من أولاد مثل هذا باسمي يقبَلني، ومن قبلني فليس يقبلني أنا، بل الذي أرسلني" (مرقس 9/37)، فالنص لا يعني أن الطفل الذي رفعه المسيح هو ذات المسيح، ولا أن المسيح هو ذات الله، ولكنه يخبر عليه الصلاة والسلام أن الذي يصنع براً بحق هذا الطفل، فإنما يصنعه طاعة ومحبة للمسيح، لا بل طاعة لله وامتثالاً لأمره.
وكما أن من يرى المسيح فكأنه يرى الله، فإنه من قبِل المسيح وتلاميذه فكأنما قبِل الله عز وجل، ومن كفر بهم ورفض دعوتهم فإنما رفض في الحقيقة دعوة الله ، لذا يقول المسيح: "الذي يسمع منكم يسمع مني، والذي يرذلكم يرذلني، والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني" (لوقا 10/16).
ويؤكده مرة أخرى فيقول: "من يقبلكم يقبلني، ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني" (متى 10/40)، وكذا من رأى المسيح فكأنه رأى الآب الذي أرسله، لأن "الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي، لكن الأب الحال في هو يعمل الأعمال…" (يوحنا 14/10).
والرؤية في قوله: "الذي رآني فقد رأى الآب" معنوية مجازية، أي رؤية البصيرة، لا البصر، وهذه الرؤية متحققة لكل المؤمنين الذين هم من الله كما قال المسيح "ليس أن أحداً رأى الآب إلا الذي من الله، هذا قد رأى الآب" (يوحنا 6/46)، ومن المعلوم أن كل المؤمنين هم من الله " كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح، فقد ولد من الله" (يوحنا (1) 5/1)، فكلهم رأى الله رؤية المعرفة والإيمان.
ولا يفوتنا أن ننبه هنا إلا أن عيسى لم يدع قط أنه الآب، ولا يقول بمثل هذا من النصارى أحد سوى الأرثوذكس، الذين هم أيضاً لا يقولون بأن المسيح هو الآب، لكنهم يقولون: الآب هو الابن، فالمعنى الحقيقي القريب للرؤية مرفوض.
ومما يؤكد أن الرؤيا معنوية أنه قال بعد قليل: " بعد قليل لا يراني العالم أيضاً، أما أنتم فترونني" (يوحنا 14 /19)، فهو لا يتحدث عن رؤية حقيقية، إذ يتحدث عن رفعه للسماء، فحينذاك لن يراه العالم ولا التلاميذ، لكنه يتحدث عن رؤية معرفية إيمانية يراها التلاميذ، وتعشى عنها وجوه العالم الكافر.
ويشهد له ما جاء في متى: يشهد له ما جاء في متى: " ليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن " (متى 11/27)، فهو المقصود من الرؤية المذكورة في النصوص السابقة.
ونحوه قوله: "فنادى يسوع وقال: الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي، بل بالذي أرسلني، والذي يراني يرى الذي أرسلني... لأني لم أتكلم من نفسي، لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية، ماذا أقول وبماذا أتكلم. وأنا أعلم أن وصيته هي حياة أبدية. فما أتكلم أنا به فكما قال لي الآب هكذا أتكلم" (يوحنا 12/ 44-51)، فالمقصود بكل ذلك رؤية المعرفة.
وقوله: " والذي يراني يرى الذي أرسلني" ولا يمكن أن يراد منه أن الذي رأى الآب المرسِل قد رأى الابن المرسَل، إلا إذا كان المرسِل هو المرسَل، وهو محال للمغايرة التي بينهما كما قال المسيح: "أبي أعظم مني" (يوحنا 14/28)، وقال: "أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل" (يوحنا 10/29).
ومثل هذا السياق الوارد في يوحنا (14/9) والذي يفيد الاشتراك في الحكم بين المسيح والله، والذي عبر عنه هنا بالرؤية، مثل هذا معهود في العهد القديم والجديد، ففي العهد القديم لما رفض بنو إسرائيل صموئيل " وقالوا له: هوذا أنت قد شخت، وابناك لم يسيرا في طريقك. فالآن اجعل لنا ملكاً يقضي لنا كسائر الشعوب، فساء الأمر في عيني صموئيل... فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك، لأنهم لم يرفضوك أنت، بل إياي رفضوا " (صموئيل (1) 8/4-7)، إذ رفضهم طاعة صموئيل هو عصيان لله في الحقيقة.
وكذا في العهد الجديد، فقد قال بطرس لحنانيا الكاهن مبكتاً إياه على أكل ثمن الحقل: "أليس وهو باق كان يبقى لك، ولما بيع ألم يكن في سلطانك، فما بالك وضعت في قلبك هذا الأمر، أنت لم تكذب على الناس، بل على الله" (أعمال 5/4-5)، فالكذب على الناس هنا كذب على الله في الحقيقة، ولا يعني أن الناس والله ذات واحدة.
وقوله: "أنا هو الطريق والحق والحياة" يقصد فيه المسيح الالتزام بتعليمه ودينه الذي أنزله الله عليه، فذلك فقط يُدخل الجنة دار الخلود، كما قال في موطن آخر: "ليس كل من يقول لي: يا رب يا ربي يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يفعل إرادة أبي" (متى 7 /21)، فالخلاص بالعمل الصالح والبر " أقول لكم: إنكم إن لم يزد بِرّكم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات.. ومن قال: يا أحمق، يكون مستوجب نار جهنم" (متى 5/20-23).
ويتأكد ضعف الاستدلال بهذا الدليل للنصارى "الذي رآني فقد رأى الآب" إذا آمنا أن رؤية الله ممتنعة في الدنيا، كما قال يوحنا: " الله لم يره أحد قط" (يوحنا 1/18)، وكما قال بولس: "لم يره أحد من الناس، ولا يقدر أن يراه، الذي له الكرامة والقدرة الأبدية " (تيموثاوس (1) 6/16)، فيصير النص لزاماً إلى رؤية المعرفة والبصيرة.
المسيح صورة الله
ومن أدلة النصارى على ألوهية المسيح ما قاله بولس عنه: "مجد المسيح الذي هو صورة الله" (كورنثوس (2) 4/4)، وفي فيلبي يقول: "المسيح يسوع أيضاً الذي إذا كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائر في صورة الناس" (فيلبي 2/6-7)، ويقول عنه أيضاً: "الذي هو صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة" (كولوسي 1/15).
لكن هذه الأقوال صدرت عن بولس الذي لم يشرف برؤية المسيح ولا التلمذة على يديه، ولا نرى مثل هذه العبارات عند أحد من تلاميذ المسيح وحوارييه، وهذا كاف لإضفاء ظلال الشك والارتياب عليها.
ثم إن الصورة تغاير الذات، وصورة الله هنا تعني نائبه في إبلاغ شريعته، كما قال بولس في موضع آخر عن الرجل: " فإن الرجل لا ينبغي أن يغطي رأسه، لكونه صورة الله ومجده، وأما المرأة فهي مجد الرجل" (كورنثوس (1)11/7)، ومعناه أن الله أناب الرجل في سلطانه على المرأة.
كما أن كون المسيح على صورة الله لا يمكن أن يستدل به على ألوهيته، فإن آدم - وفق الكتاب المقدس - يشارك الله في هذه الصورة، فقد جاء في سفر التكوين عن خلقه: "قال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا… فخلق الإله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه" (التكوين 1/26-27).
فإن أصر النصارى على الجمع بين الصورة وألوهية المسيح فإن في الأسفار ما يخطئهم، فقد جاء في إشعيا "اجتمعوا يا كل الأمم … لكي تعرفوا وتؤمنوا بي … قبلي لم يصور إله، وبعدي لا يكون، أنا أنا الرب، وليس غيري مخلص" (إشعيا 43/9-11).
أزلية المسيح
ويتحدث النصارى عن المسيح الإله الذي كان موجوداً في الأزل قبل الخليقة، ويستدلون لذلك بأمور، منها ما أورده يوحنا على لسان المسيح أنه قال: " إن إبراهيم تشوق إلى أن يرى يومي هذا، فقد رآني وابتهج بي، من قبل أن يكون إبراهيم كنت أنا " (يوحنا 8/56-58)، ففهموا منه - باطلاً - أن للمسيح عليه السلام وجوداً قبل إبراهيم، مما يعني - وفق فهمهم - أنه كائن أزلي.
وأيدوا استشهادهم بما ذكره يوحنا عن المسيح: "هوذا يأتي مع السحاب، وستنظره كل عين، والذين طعنوه…أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية" (الرؤيا 1/7-8). أي الأول والآخر.
كما جاء في مقدمة يوحنا ما يفيد وجوداً أزلياً للمسيح قبل خلق العالم " في البدء كانت الكلمة، الكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله" (يوحنا 1/1-2). فهذه النصوص مصرحة - حسب رأي النصارى - بأزلية المسيح وأبديته، وعليه فهي دليل ألوهيته.
ويخالف المحققون في النتيجة التي توصل إليها النصارى، إذ ليس المقصود من الوجود قبل إبراهيم الوجود الحقيقي للمسيح كشخص، بل المقصود الوجود القدري والاصطفائي، أي أن اختيار الله واصطفاؤه له قديم، كما قال بولس عن نفسه وأتباعه: " كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين" (أفسس 1/4) أي اختارنا بقَدَره القديم، ولا يفيد أنهم وجدوا حينذاك.
وهذا الوجود القديم للمسيح أي الاصطفاء الإلهي والمحبة الإلهية له هو المجد الذي منحه الله المسيح، كما في قوله: "والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم" (يوحنا 17/5)، وهو المجد الذي أعطاه لتلاميذه حين اصطفاهم واختارهم للتلمذة كما الله اختاره للرسالة " أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني، لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم " (يوحنا 17/24)، ومحبة الشيء لا تستلزم وجوده، فقد يحب المرء المعدوم أو المستحيل، الذي لم ولن يوجد.
ومعرفة إبراهيم المسيح قبل خلقه ووجوده الأرضي، ليست معرفة لشخصه طبعاً، لأنه لم يره قطعاً، لذا فقوله: " فقد رآني وابتهج بي"، هو رؤية مجازية، وهي رؤية المعرفة، وإلا لزم النصارى أن يذكروا دليلاً على رؤية إبراهيم للابن الذي هو الأقنوم الثاني، أو أن يثبتوا لجسد المسيح وجوداً زمن إبراهيم عليه السلام.
وقول المسيح: "من قبل أن يكون إبراهيم كنت أنا " (يوحنا 8/56-58)، لا يدل على وجوده في الأزل، وغاية ما يفيده النص - إذا أخذ على ظاهره - أن للمسيح وجوداً أرضياً يعود إلى زمن إبراهيم، وزمن إبراهيم لا يعني الأزل.
ثم لو كان المسيح أقدم من إبراهيم وسائر المخلوقات، فإن له من يشاركه في هذه الأقدمية، وهو النبي إرمياء، والذي عرفه الله منذ القدم وقدسه قبل أن يخرج من رحم أمه، إذ يقول عن نفسه: "فكانت كلمة الرب إليّ قائلاً: قبلما صورتكَ في البطن عرفتُك، وقبلما خرجتَ من الرحم قدستُك جعلتك نبياً للشعوب" (إرمياء 1/4-5)، وهذه المعرفة الإلهية لإرمياء بلا ريب أشرف من معرفة إبراهيم للمسيح وأقدم، ولا تستلزم وجوداً حقيقياً له على الأرض.
وممن شارك المسيح في هذه الأزلية المدعاة، ملكي صادق كاهن ساليم في عهد إبراهيم، فإن بولس يزعم أن لا أب له ولا أم، ويزعم أن لا بداية له ولا نهاية، أي هو أزلي أبدي، يقول بولس: "ملكي صادق هذا ملك ساليم كاهن الله العلي … بلا أب، بلا أم، بلا نسب، لا بداءة أيام له، ولا نهاية حياة، بل هو مشبه بابن الله، هذا يبقى كاهناً إلى الأبد" (عبرانيين 7/1-3)، فلم لا يقول النصارى بألوهية ملكي صادق الذي يشبه بابن الله، لكثرة صور التشابه بينهما، بل هو متفوق على المسيح الذي يذكر النصارى أنه صلب ومات، وله أم بل وأب - حسب ما أورده متى ولوقا -، في حين أن ملكي صادق قد تنـزه عن ذلك كله!
ومن هؤلاء الذين يستحقون الأزلية - لو فهمت النصوص على ظاهرها - النبي سليمان الحكيم حين قال عن نفسه وعن حكمة الله التي حلت فيه: "أنا الحكمة أسكن الذكاء، وأجد معرفة التدابير…الرب قناني أول طريقه، من قبل أعماله منذ القديم، منذ الأزل مسحتُ، منذ البدء، منذ أوائل الأرض، إذ لم يكن ينابيع كثيرة المياه، ومن قبل أن تقرر الجبال أُبدئتُ، قبل التلال أُبدئتُ " (الأمثال 8/12-25)، فقد أضحى سليمان - وفقاً للفهم الظاهري الحرفي - مسيحاً للرب منذ الأزل.
وقول بعض النصارى أنه كان يتحدث عن المسيح لا دليل عليه، فسفر الأمثال قد كتبه سليمان كما في مقدمته "أمثال سليمان بن داود" (الأمثال 1/1)، وقد تكرر في مواضع متفرقة منه استمرار سليمان الحكيم في الحديث، وهو يقول: "يا ابني أصغ إلى حكمتي" (الأمثال 5/1)، وانظر (الأمثال 1/8، 3/1، 3/21، 5/1، 7/1 وغيرها)، فالمتحدث في السفر هو سليمان عليه السلام.
وسليمان هو الموصوف بالحكمة في الكتاب المقدس، وأي حكمة؟ حكمة الله، فقد رأى معاصروه فيه حكمة الله "ولما سمع جميع إسرائيل بالحكم الذي حكم به الملك، خافوا الملك، لأنهم رأوا حكمة الله فيه " (الملوك (1) 3/38).
ويمضي السفر ليبين لنا عظم حكمة الله التي حلت فيه، فيقول: " وأعطى الله سليمان حكمة وفهماً كثيراً جداً ... وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بني المشرق وكل حكمة مصر، وكان أحكم من جميع الناس... وكان صيته في جميع الأمم حواليه ... وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان، من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته" (الملوك (1) 4/29-34).
وفي سفر الأيام "مبارك الرب إله إسرائيل الذي صنع السماء والأرض، الذي أعطى داود الملك ابناً حكيماً صاحب معرفة وفهم، الذي يبني بيتاً للرب وبيتاً لملكه" (الأيام (2) 2/12)، فالحكيم هو سليمان الذي شرفه الله ببناء بيته.
وكلمة "منذ الأزل مسحتُ" لا تدل على المسيح عيسى ابن مريم، إذ "المسيح" لقب أطلق على كثيرين غير المسيح عيسى ممن مسحهم الله ببركته من الأنبياء كداود وإشعيا. (انظر المزمور 45/7، وإشعيا 61/1)، فلا وجه لتخصيص المسيح بالمسح دون غيره ممن الممسوحين.
ثم إن الحكمة لم تطلق أصلاً على المسيح، ولم يختص بها، فلا وجه في الدلالة على ألوهية المسيح بهذا النص قطعاً.
وأمام الحرج الذي يسببه نص سفر الأمثال فإن البعض من النصارى يقولون: إن المتحدث في سفر الأمثال هو حكمة الله التي هي صفته الذاتية القائمة به في الأزل، وليس صفته التي منحها لنبي الله سليمان، وهذا المعنى مرفوض بدلالة النص الذي يتحدث عن نبي ممسوح بزيت البركة "منذ الأزل مسحت"، وصفة الله القائمة به لا يمكن أن تمسح، ولماذا تمسح؟
كما أن النص يتحدث عن حكمة مخلوقة، وإن كانت قديمة، فقد قالت الحكمة: "الرب قناني أول طريقه.. ومن قبل أن تقرر الجبال أُبدئت، قبل التلال أبدئت "، وفي الترجمة الإنجليزية المسماة(THE GOOD NEWS BIBLE) :، والصادرة عام 1978 – 1997، تستخدم كلمة (خلقني)، فتقول: The lord created me" " بدلاً من قوله: (الرب قناني)، فهذه الحكمة مخلوقة قديماً، وهي مبدأة من قبل الجبال والتلال، فهي ليست حكمة الله الأزلية، بل حكمته التي أعطاها سليمان الحكيم، والذي "رأوا حكمة الله فيه " (الملوك (1) 3/38).
والمتأمل بتجرد للنص لن يجد صعوبة لفهم نوع الحكمة التي تتحدث في النص السالف، فهي ثمينة " لأن الحكمة خير من اللآلئ، وكل الجواهر لا تساويها" (الأمثال 8/11)، وهي بشرية "فم الصديق ينبت الحكمة" (الأمثال 10/31)، وأول درجات هذه الحكمة البشرية مخافة الله "بدء الحكمة مخافة الله" (الأمثال 9/10)، فالمتأمل لهذا وغيره لا ريب يجزم بأن هذه الحكمة ليست صفة الله الأزلية القائمة به، إذ تلك لا تثمن بالجواهر واللآلئ، كما لا تنبت من فم البشر، ولا تشمل بالطبع مخافة الله لأنها صفة الله.
أما نصوص سفر الرؤيا والتي ذكرت أن المسيح الألف والياء، وأنه الأول والآخر، فلا تصلح للدلالة في مثل هذه المسائل، فهي كما أشار العلامة ديدات وجميع ما في هذا السفر مجرد رؤيا منامية غريبة رآها يوحنا، ولا يمكن أن يعول عليها، فهي منام مخلط كسائر المنامات التي يراها الناس، فقد رأى يوحنا حيوانات لها أجنحة وعيون من أمام، وعيون من وراء، وحيوانات لها قرون بداخل قرون…(انظر الرؤيا 4/8)، فهي تشبه إلى حد بعيد ما يراه في نومه من أتخم في الطعام والشراب، وعليه فلا يصح به الاستدلال.
ثم في آخر هذا السفر مثل هذه العبارات المتحدثة عن المسيح، صدرت عن أحد الملائكة كما يظهر من سياقها، وهو قوله: " أنا يوحنا الذي كان ينظر ويسمع هذا، وحين سمعت ونظرت خررت لأسجد أمام رجلي الملاك الذي كان يريني هذا. فقال لي: انظر لا تفعل، لأني عبد معك ومع إخوتك الأنبياء والذين يحفظون أقوال هذا الكتاب. اسجد للّه.
وقال لي (أي الملاك): لا تختم على أقوال نبوة هذا الكتاب لأن الوقت قريب.. وها أنا آتي سريعاً، وأجرتي معي. أنا الألف والياء. البداية والنهاية. الأول والآخر" (الرؤيا 22/8-13) وليس في ظاهر النص ما يدل على انتقال الكلام من الملاك إلى المسيح أو غيره، فقد قال الملاك عن نفسه ما قاله يوحنا عن المسيح، فهل يقول النصارى بألوهيته أم يرون للنصوص تأويلاً كما نراه في تلك التي تتحدث عن المسيح عليه الصلاة والسلام.
مقدمة إنجيل يوحنا
وأما الاستدلال على ألوهية المسيح بمقدمة يوحنا "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يوحنا 1/1-3) فقد كان للمحققين معه وقفات عديدة ومهمة، منها :
- تنبيه العلامة ديدات إلى أن هذا النص قد انتحله كاتب الإنجيل من فيلون الإسكندراني (ت40م)، وأنه بتركيباته الفلسفية غريب عن بيئة المسيح وبساطة أقواله وعامية تلاميذه، وخاصة يوحنا الذي يصفه سفر أعمال الرسل بأنه عامي عديم العلم، فيقول: " فلما رأوا مجاهرة بطرس ويوحنا، ووجدوا أنهما إنسانان عديما العلم وعاميان تعجبوا " ( أعمال 4/13 ).
- كما ينبه ديدات إلى أن ثمة تلاعباً في الترجمة الإنجليزية، وهي الأصل الذي عنه ترجم الكتاب المقدس إلى لغات العالم.
ولفهم النص على حقيقته نرجع إلى الأصل اليوناني.
فالنص في الترجمة اليونانية تعريبه هكذا "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله"، وهنا يستخدم النص اليوناني بدلاً من كلمة (الله) كلمة ثيوس (hotheos)، وفي الترجمة الإنجليزية تترجم (God) للدلالة على أن الألوهية حقيقة.
ثم يمضي النص فيقول "وكان الكلمة الله" [وهنا يستخدم النص اليوناني كلمة فانتيوس بمعنى إله (tontheos)]، وكان ينبغي أن يستخدم في الترجمة الإنجليزية كلمة (god) بحرف صغير للدلالة على أن الألوهية مجازية، كما وقع في نص سفر الخروج "جعلتك إلهاً لفرعون" (الخروج 7/1)، ومثله في حديثه عن الشيطان إله الدهر الذي أعمى أذهان غير المؤمنين (انظر كورنثوس (2) 4/4) فاستخدم النص اليوناني كلمة (tontheos)، وترجمت في النص الإنجليزي (god) مع وضع أداة التنكير (a).
لكن الترجمة الإنجليزية حرفت النص اليوناني لمقدمة يوحنا، فاستخدمت لفظة (God) التي تفيد ألوهية حقيقة بدلاً من (god) التي تفيد ألوهية معنوية أو مجازية، فوقع اللبس في النص، وهذا ولا ريب نوع من التحريف.
- ولو غض المحققون الطرف عن ذلك كله فإن في النص أموراً ملبسة تمنع استدلال النصارى به على ألوهية المسيح.
أولها: ما معنى كلمة "البدء"؟ ويجيب النصارى أي الأزل.
لكن ذلك لا يسلم لهم، فإن الكلمة وردت في الدلالة على معانٍ منها:
وقت بداية الخلق والتكوين كما جاء في " في البدء خلق الله السموات والأرض" (التكوين 1/1)، ومثله قول المسيح عن إبليس أنه كان منذ البدء: " أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا، ذاك كان قتالاً للناس من البدء، ولم يثبت في الحق، لأنه ليس فيه حق" (يوحنا 8/44)، ومثله قاله متى على لسان المسيح ، وهو يحاجج اليهود "قالوا له: فلماذا أوصى موسى أن يعطى كتاب طلاق فتطلّق، قال لهم: إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلّقوا نساءكم، ولكن من البدء لم يكن هكذا" (متى 19/7-8)، ومعناه أن ذلك لم يكن مأذوناً به عند بداية الخليقة، وبداية الخلق لحظة مخلوقة، وليست الأزل الذي يسبق كل زمان.
- وترد كلمة البدء أيضاً بمعنى أول نزول الوحي، كما في قول متى: "ولكن من البدء لم يكن هذا" (متى 19/8).
وقد تطلق على فترة معهودة من الزمن كما في قول لوقا: "كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء" (لوقا 1/2)، أي في أول رسالة المسيح.
ومثله قول يوحنا: "أيها الإخوة لست أكتب إليكم وصية جديدة، بل وصية قديمة كانت عندكم من البدء. الوصية القديمة هي الكلمة التي سمعتموها من البدء" ( يوحنا (1) 2/7).
ومثله أيضاً قول يوحنا "ولكن منكم قوم لا يؤمنون، لأن يسوع من البدء علم من هم الذين لا يؤمنون ومن هو الذي يسلمه" (يوحنا 6/64).
ومثله قوله في جواب اليهود لما سألوه: "فقالوا له: من أنت؟ فقال لهم يسوع : أنا من البدء ما أكلمكم أيضاً به" (يوحنا 8/25)، فكل هذه الاستعمالات لكلمة البدء لا يراد منها الأزل، بل أوقات معينة حادثة.
وعليه فلا يجوز قول النصارى بأن المراد بالبدء هنا الأزل إلا بدليل مرجح.
ويرجح الشيخ العلمي في كتابه الفريد "سلاسل المناظرات" بأن المعنى هنا هو بدء تنزل الوحي على الأنبياء، أي أنه كان بشارة صالحة عرفها الأنبياء كما في (إرميا 33/14).
ثانيها: ما المقصود بالكلمة؟ هل هو المسيح؟ أم أن اللفظ يحتمل أموراً أخرى، وهو الصحيح. فلفظة "الكلمة" لها إطلاقات في الكتاب المقدس، منها الأمر الإلهي الذي به صنعت المخلوقات، كما جاء في المزامير "بكلمة الله صنعت السماوات" (المزمور 13/6).
ومثله "وقال الله: ليكن نور فكان نور" (التكوين 1/3). ومنه سمي المسيح كلمة، لأنه خلق بأمر الله من غير سبب بشري قريب (من غير أب)، أو لأنه أظهر كلمة الله، أو أنه الكلمة الموعودة المبشر بها على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وأما المعنى الذي يريده النصارى بالكلمة، وهو الأقنوم الثاني من الثالوث، فلم يرد في كتب الأنبياء البتة.
ثالثها: "وكان الكلمة الله" غاية ما يستدل بها أن المسيح أطلق عليه: (الله)، كما أطلق على القضاة في التوراة "الله قائم في مجمع الله، في وسط الآلهة يقضي، حتى متى تقضون جوراً وترفعون وجوه الأشرار" (المزمور 82/1)، وكما سمي به أشراف اليهود في قول داود: " أحمدك من كل قلبي، قدام الآلهة أرنم لك" (المزمور 138/1)، وقد قال الله لموسى عن هارون: " وهو يكون لك فماً، وأنت تكون له إلهاً " (الخروج 4 /16). وغيرهم كما سبق بيانه
رابعها: قوله: "والكلمة كان عند الله"، والعندية لا تعني المثلية ولا المساواة. إنما تعني أن الكلمة خلقت من الله كما في قول حواء: "اقتنيت رجلاً من عند الرب" (التكوين 4/1)، فقايين ليس مساوياً للرب، ولا مثله، وإن جاءها من عنده، وجاء في موضع آخر" وأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتاً وناراً من عند الرب" (التكوين 19/24).
إسناد الخالقية لله بالمسيح
كما أسندت بعض النصوص الخالقية لله بالمسيح، فتعلق النصارى بها، ورأوها دالة على ألوهيته ومنها قول بولس عن المسيح: "فإن فيه خلق الكل: ما في السماوات وما على الأرض، ما يرى وما لا يرى، سواء أن كان عروشاً أم رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خلق" (كولوسي 1/16-17)، وفي موضع آخر يقول: "الله خالق الجميع بيسوع المسيح" (أفسس 3/9)، ومثله ما جاء في مقدمة يوحنا "كان في العالم، وكون العالم به، ولم يعرفه العالم" (يوحنا 1/10)، ومثله في (عبرانيين 1/2).
ونلحظ ابتداءً أن الخلق في كافة النصوص الكتابية مسند لله تعالى فقط، فقد قال سفر التكوين "في البدء خلق الله السماوات والأرض" (التكوين 1/1)، ولم يذكر خالقاً شارك الله بالخلق أو كان واسطة تم الخلق من خلاله، وفي سفر إشعياء "هكذا يقول الله الرب خالق السموات" (إشعيا 42/5)، كما وقد قال بولس وبرنابا لأهل مدينة لسترة: "نبشركم أن ترجعوا من هذه الأباطيل إلى الإله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها" (أعمال 14/15)، فلم يذكروا خالقاً سوى الله العظيم.
وما بين أيدينا من أقوال بولس ويوحنا فإنها إنما تتحدث عن الله الذي خلق بيسوع، ولا تذكر أنه هو الخالق أبداً، فغاية ما تحتمله هذه النصوص - لو سلم بصحتها - أن يقال بأن الله خلق بالمسيح ما خلق من الكائنات والمخلوقات.
وهذا المعنى جد غريب لم تنطق به أنبياء العهد القديم، ولا ذكره المسيح عليه السلام، إنما ورد من كلام بولس ومقدمة يوحنا الفلسفية المستمدة من الفكر الأفلوطيني.
ولا يمكن أن يكون المسيح خالقاً للسماوات والأرض وما بينهما، إذ هو ذاته مخلوق، وإن زعمت النصارى أنه أول المخلوقين، لكنه على كل حال مخلوق، والمخلوق غير الخالق " الذي هو صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة" (كولوسي 1/15).
ثم إن الذي عجز عن رد الحياة لنفسه عندما مات لهو أعجز من أن يكون خالقاً للسماوات والأرض، أو أن تخلق به "فيسوع هذا أقامه الله" (أعمال 2/32)، ولو لم يقمه الله لما عاد من الموتى، وفي موضع آخر: "ورئيس الحياة قتلتموه الذي أقامه الله من الأموات " (أعمال 3/15).
ويرى المحققون أن المقصود من هذه النصوص أن المسيح خلقت به الخلائق خلقة الهداية والإرشاد، لا الإيجاد والتكوين، فتلك خلقة الله فحسب، والخلقة التي خلقها الله بالمسيح عليه السلام هي الخلقة الجديدة، خلقة الهداية، التي تحدث عنها داود، وهو يدعو الله بقوله: "قلباً نقياً اخلق فيّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدد في داخلي" (المزمور 51/10).
ومثله قال بولس عن المؤمنين بالمسيح: "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة" (كورنثوس (2) 5/17).
وقال: "لأنه في المسيح ليس الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة، بل الخليقة الجديدة" (غلاطية 6/15).
وفي موضع آخر يقول: "تلبسوا الإنسان المخلوق الجديد بحسب الله في البر" (أفسس 4/24).
وعلى هذا الأساس اعتبر يعقوب التلاميذ باكورة المخلوقات فقال: "شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه" (يعقوب 1/18) أي أوائل المهتدين الذين تلبسوا بالخليقة الجديدة.
وعليه فإن المقصود من خلق المسيح للبشر هو الخلق الروحي، إذ جعله الله محيياً لموات القلوب وقاسيها.
لكن قائلاً قد يرد استدلالنا وتأولنا للنصوص بما يقرأه فيها من حديث عن خلق السماوات والأرض وما فيهما بالمسيح، فيرى أن النصوص التي يتعلق بها النصارى لا تتعلق بالبشر فقط، إذ فيها أن الله خلق به ما في السماوات والأرض، وهذا قد يراه البعض - ممن لم يعتد طريقة الأسفار في التعبير - مانعاً من صرف النص إلى الخليقة الجديدة.
أما الذين اعتادوا على طريقة الأسفار في التعبير، فإنهم يرون في هذه النصوص مبالغة معهودة، حملتها مراراً الأسفار التوراتية والإنجيلية، ومن ذلك وصف العهد الجديد المسيحَ والتلاميذ أنهم نور العالم، يقول يوحنا: "ثم كلمهم يسوع أيضاً قائلاً: أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة" (يوحنا 8/12)، وقال لتلاميذه: "أنتم نور العالم" (يوحنا 5/14).
ومن المعلوم أنهم جميعاً كانوا نوراً استنار به المؤمنون، وأعرض عنه غيرهم، فأظلمت قلوبهم، ولا يمكن أن يدعى ظهور النور في الجماد والحيوان الموجودين في العالم، فكما وصف النص يوحنا الإنجيلي المسيح وتلاميذه بنور العالم من غير أن يكون لهم أثر في إنارة غير قلوب المؤمنين من الكافرين أو الجمادات، فإنه وصف المسيح بأنه كان واسطة الخليقة الجديدة للعالم، والمقصود المؤمنون في العالم فحسب.
ومثل هذه المبالغات في التعبير - كما أسلفنا - معهودة ومألوفة في الكتاب، إذ يقول موسى لبني إسرائيل: "هوذا أنتم اليوم كنجوم السماء في الكثرة، الرب إلهكم يزيد عليكم مثلكم ألف مرة" (التثنية 1/10-11).
ومثله في قوله: " وكان المديانيون والعمالقة وكل بني المشرق حالّين في الوادي كالجراد في الكثرة، وجمالهم لا عدد لها، كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة" (القضاة 7/12).
وتصل المبالغة عند يوحنا أقصاها حين قال: "وأشياء أُخر كثيرة صنعها يسوع، إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة" (يوحنا 21/25)، فهذه المبالغة في الحديث عن خلقة الكون بالمسيح إنما هي بعض ما تعودناه من كُتّاب الكتاب المقدس.
إسناد الدينونة والغفران للمسيح
وتتحدث الأسفار عن المسيح وأنه ديان الخلائق يوم القيامة، يقول بولس: "أنا أناشدك إذاً أمام الله والرب يسوع المسيح العتيد أن يدين الأحياء والأموات عند ظهوره وملكوته" (تيموثاوس (2) 4/1)، فيرون في ذلك دليلاً على ألوهيته، لأن التوراة تقول: "الله هو الديان" (المزامير 50/6).
لكن ثمة نصوص تمنع أن يكون المسيح هو الديان " لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلّص به العالم، الذي يؤمن به لا يدان، والذي لا يؤمن قد دين، لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد" (يوحنا 3/17)، فالمسيح لن يدين أحداً.
وهو ما أكده يوحنا بقوله: " وإن سمع أحد كلامي ولم يؤمن فأنا لا أدينه، لأني لم آت لأدين العالم بل لأخلص العالم، من رذلني ولم يقبل كلامي فله من يدينه (أي الله وشرعه). الكلام الذي تكلمت به هو يدينه في اليوم الأخير" (يوحنا 12/47-48).
والمسيح لم يستطع أن يضمن الجنة لأبناء خالته وتلميذيه، ابني زبدي، لأن الله لم يأذن له بذلك، ومن كان هذا حاله فإنه عن الدينونة المطلقة أعجز، فقد جاءته أم ابني زبدي وكانا من تلاميذه " فسألها ما تريدين؟ قالت: أن يجلس ابناي هذان، واحد عن يمينك، والآخر عن اليسار في ملكوتك. فأجاب يسوع... وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أعدّ لهم من أبي " (متى 20/20-22).
وإن أصر النصارى على أن الدينونة من أعمال المسيح، فإن آخرين يشاركونه فيها، وهم تلاميذه الاثنا عشر، بما فيهم الخائن يهوذا الأسخريوطي " فقال لهم يسوع: الحق أقول لكم: إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر كرسياً، تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر" (متى 19/28).
وفي لوقا أنه قال لهم: " لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي وتجلسوا على كراسيّ، تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر" (لوقا 22/30).
وبولس أيضاً وغيره من القديسين سيمارسون الدينونة حتى للملائكة، حيث يقول: "ألستم تعلمون أن القديسين سيدينون العالم؟…ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة" (كورنثوس(1) 6/2-3). فهو وغيره من القديسين سيدينون الملائكة والعالم، وليسوا آلهة.
غفران المسيح الذنوب
ومما يستدل به النصارى على ألوهية المسيح ما نقلته الأناجيل من غفران ذنب المفلوج والخاطئة على يديه، والمغفرة - كما يرون - من خصائص الألوهية، وعليه فالمسيح إله يغفر الذنوب، فقد قال للخاطئة مريم المجدلية: "مغفورة لك خطاياك " (لوقا 7/48)، كما قال للمفلوج: " ثق يا بني، مغفورة لك خطاياك "، وقد اتهمه اليهود لما سمعوا ذلك منه بالتجديف فقالوا: " قالوا في أنفسهم: هذا يجدّف " (متى 9/3)، أي أنه يدعي الإلهية حين يغفر للناس.
لكنا إذا رجعنا إلى قصتي الخاطئة والمفلوج فإنا سنرى وبوضوح أن المسيح ليس هو الذي غفر ذنبيهما، ففي قصة المرأة لما شكّ الناس بالمسيح وكيف قال لها: "مغفورة خطاياك"، وهو مجرد بشر، أزال المسيح اللبس، وأخبر المرأة أن إيمانها هو الذي خلصها، ويجدر أن ننبه إلى أن المسيح لم يدع أنه هو الذي غفر ذنبها، بل أخبر أن ذنبها قد غُفر، والذي غفره بالطبع هو الله تعالى.
والقصة بتمامها كما أوردها لوقا: "وأما هي فقد دهنت بالطيب رجليّ، من أجل ذلك أقول لك: قد غُفرت خطاياها الكثيرة، لأنها أحبت كثيراً، والذي يغفر له قليل يحب قليلاً، ثم قال لها: مغفورة لك خطاياك، فابتدأ المتكئون معه يقولون في أنفسهم: من هذا الذي يغفر خطايا أيضاً؟! فقال للمرأة: إيمانك قد خلّصك، اذهبي بسلام" (لوقا 7/46-50)، فقد غفر الله لها بإيمانها، والمسيح أخبرها برحمة الله التي وسعتها، وأفهم الحاضرين بوضوح أنه لم يجدف ولم يدع لنفسه مغفرة الخطايا.
وكذا في قصة المفلوج لم يدع المسيح أنه الذي يغفر الذنوب، فقد قال للمفلوج: "ثق يا بني، مغفورة لك خطاياك" فأخبر بتحقق الغفران، ولم يقل : إنه هو الغافر له.
ولما أخطأ اليهود، ودار في خلدهم أنه يجدف، وبخهم المسيح على الشر الذي في أفكارهم، وصحح لهم الأمر، وشرح لهم أن هذا الغفران ليس من فعل نفسه، بل هو من سلطان الله، لكن الله أذن له بذلك، كما سائر المعجزات والعجائب التي كان يصنعها، وقد فهموا منه المراد، وزال اللبس من صدورهم، "فلما رأى الجموع تعجبوا، ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطاناً مثل هذا ".
والقصة بتمامها كما أوردها متى تقول: " قال للمفلوج: ثق يا بني، مغفورة لك خطاياك، وإذا قوم من الكتبة قد قالوا في أنفسهم: هذا يجدّف، فعلم يسوع أفكارهم فقال: لماذا تفكرون بالشر في قلوبكم؟ أيما أيسر أن يقال مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال قم وامش؟ ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا، حينئذ قال للمفلوج: قم احمل فراشك، واذهب إلى بيتك، فقام ومضى إلى بيته، فلما رأى الجموع تعجبوا، ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطاناً مثل هذا" (متى 9/3-8).
وهذا السلطان دفع إليه كما دفع كثير غيره من الله تبارك وتعالى: "التفت إلى تلاميذه وقال: كل شيء قد دفع إليّ من أبي" (لوقا 10/22)، وإلا فهو لا حول له ولا قوة، قد قال في موضع آخر: " دفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض" (متى 28/18)، لكنه ليس سلطانه الشخصي، بل هو قد دفع إليه من الله، ولو كان إلهاً لكان هذا من خصائصه وقدراته الذاتية، لكنه يعجز عنه عليه الصلاة والسلام، لأنه عبد الله ، وكما يقول عن نفسه: " أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً" (يوحنا 5/30)، فلولا دفع الله له بهذا السلطان لما قدر على غفران ذنب أو خطيئة.
وسلطان غفران الخطايا دفع أيضاً إلى غير المسيح، فقد دفع إلى التلاميذ، وأصبح بمقدورهم غفران الذنوب التي تتعلق بحقوقهم الشخصية، بل وكل الذنوب والخطايا، ومغفرتهم للذنوب الشخصية بحقهم يقول عنه المسيح: "إن غفرتم للناس زلاتهم، يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي، وان لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم" (متى 6/14-15)، فيما يعطيهم يوحنا صكاً مفتوحاً في غفران أي ذنب وخطيئة، فيقول: "من غفرتم خطاياه تغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت " (يوحنا 20/28)، فهم كالمسيح عليه السلام، ومع ذلك فإن أحداً من النصارى لا يقول بألوهيتهم!
وقد ورثت الكنيسة عن بطرس والتلاميذ هذا المجد وهذا السلطان، فأصبح القسس يغفرون للخاطئين عن طريق الاعتراف أو صكوك الغفران، واعتمدوا في إقرار ذلك على وراثتهم للسلطان الذي دفع لبطرس "أنت بطرس... وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماوات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماوات.." (متى 16/19 )، فلو غفر بطرس أو البابا وارثه لإنسان غفرت خطيئته من غير أن يقتضي ذلك ألوهية بطرس أو البابا أو القسيس.
وهذا السلطان ليس خاصاً ببطرس وورثته، بل دفع لكل التلاميذ " الحق أقول لكم: كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، وكل ما تحلّونه على الأرض يكون محلولاً في السماء، وأقول لكم أيضاً: إن اتفق اثنان منكم على الأرض في أي شيء يطلبانه فإنه يكون لهما من قبل أبي الذي في السموات" (متى 18/18-20)، لكنه كما لا يخفى لا يعني ألوهيتهم، لأنه ليس حقاً شخصياً لهم، بل هبة إلهية وهبت لهم ولمعلمهم المسيح. هذا ما يذكره الكتاب المقدس.
ولما كان المسيح لا يملكه من تلقاء نفسه فقد طلب من الله أن يغفر لليهود، ولو كان يملكه لغفر لهم ولم يطلبه من الله كما في لوقا " فقال يسوع: يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لوقا 23/34).
السجود للمسيح
وتتحدث الأناجيل عن سجود بعض معاصري المسيح له، ويرون في سجودهم له دليل ألوهيته واستحقاقه للعبادة، فقد سجد له أب الفتاة النازفة "فيما هو يكلمهم بهذا إذا رئيس قد جاء، فسجد له " (متى 9/18)، كما سجد له الأبرص "إذا أبرص قد جاء وسجد له " (متى 8/2)، وسجد له المجوس في طفولته " فخروا وسجدوا له، ثم فتحوا كنوزهم " ( متى 2/11 ).
فيما رفض بطرس سجود كرنيليوس له، وقال له : "قم أنا أيضاً إنسان" (أعمال 10/25)، فقد اعتبر السجود نوعاً من العبادة لا ينبغي إلا لله، وعليه يرى النصارى في رضا المسيح بالسجود له دليلاً على أنه كان إلهاً.
ولا ريب أن السجود مظهر من مظاهر العبادة، لكنه لا يعني بالضرورة أن كل سجود عبادة، فمن السجود ما هو للتبجيل والتعظيم فحسب، فقد سجد إبراهيم إكراماً لبني حث "فقام إبراهيم وسجد لشعب الأرض لبني حثّ" (التكوين 23/7).
كما سجد يعقوب وأزواجه وبنيه لعيسو بن إسحاق حين لقائه " وأما هو فاجتاز قدامهم، وسجد إلى الأرض سبع مرات، حتى اقترب إلى أخيه.. فاقتربت الجاريتان هما وأولادهما وسجدتا، ثم اقتربت ليئة أيضاً وأولادها وسجدوا. وبعد ذلك اقترب يوسف وراحيل، وسجدا " (التكوين 33/3-7).
كما سجد موسى عليه السلام لحماه حين جاء من مديان لزيارته "فخرج موسى لاستقبال حميه، وسجد، وقبّله" (الخروج 18/7)، وسجد إخوة يوسف تبجيلاً لا عبادة لأخيهم يوسف " أتى إخوة يوسف، وسجدوا له بوجوههم إلى الأرض" (التكوين 42/6)، واستمرت هذه العادة عند بني إسرائيل " وبعد موت يهوياداع جاء رؤساء يهوذا، وسجدوا للملك " (الأيام (2) 24/7).
وكل هذه الصور وغيرها كثير لا تفيد أكثر من الاحترام، وعليه يحمل سجود من سجد للمسيح.
وأما رفض بولس وبطرس لسجود الوثنيين لهما، فكان بسبب أن مثل هؤلاء قد يكون سجودهم من باب العبادة، لا التعظيم، خاصة أنهم يرون معجزات التلاميذ، فقد يظنونهم آلهة لما يرونه من أعاجيبهم.
النصوص المناقضة لألوهية المسيح
رأى المحققون أن الأحوال البشرية المختلفة التي رافقت المسيح طوال حياته تمنع قول النصارى أن المسيح هو الله أو ابنه، إذ لا يليق بالإله أن يولد ويأكل ويشرب ويختن ويضرب و….ثم يموت.
ولا يشفع للنصارى قولهم بأن هذه الأفعال صدرت من الناسوت لا اللاهوت، لأنهم لا يقولون بأن تجسد الإله في المسيح كان كالجبة أو العمامة يلبسها المسيح أحياناً، وينزعها أخرى، فما صدر منه إنما صدر من الإله المتجسد كما زعموا، وإلا لزمهم الاعتراف ببشريته، وهو الصحيح.
وأورد المحققون عشرات النصوص التي تتحدث عن ضعف المسيح البشري وتحكي قعوده عن مرتبة الألوهية، وهي على ضروب أربعة:
الضرب الأول: هو تلك النصوص التي تبين عجز المسيح، وقعوده عن مقام الألوهية والربوبية، وعليه فهو ليس بإنسان تام وإله تام كما يقول النصارى، إنما كان فقط إنساناً تاماً. وفي ذلك نصوص كثيرة:
منها جهل المسيح بأشياء كثيرة أهمها جهله بيوم القيامة، فقد قال: " أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب" (مرقس 13/32)، فكيف تدعي النصارى بعد ذلك ألوهيته، فالجهل بالغيب مبطل لها.
وليس ما يجهله المسيح هو موعد القيامة فحسب، بل كل ما غاب عنه فهو غيب يجهله إلا ما أطلعه الله عليه، ولذلك نجده عندما أراد إحياء لعازر يسأله " فانزعج بالروح واضطرب وقال: أين وضعتموه؟ " (يوحنا 11/33-34).
ولما جاءه رجل يريد منه شفاء ابنه من الجنون " فسأل أباه: كم من الزمان منذ أصابه هذا؟ فقال: منذ صباه" (مرقس 9/11).
والمسيح أيضاً وهو يظهر معجزاته الباهرة يشير إلى افتقاره لله وعجزه عن هذه المعجزات لولا معية الله ونصرته فيقول: " أنا لا اقدر أن أفعل من نفسي شيئاً.كما أسمع أدين، ودينونتي عادلة، لأني لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الآب الذي أرسلني" (يوحنا 5/30).
ويؤكد هذا المعنى فيقول: " قال لهم يسوع: متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أني أنا هو، ولست أفعل شيئاً من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علّمني أبي، والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الآب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه " (يوحنا 8/28).
وفي نص آخر يقول لليهود: " الحق الحق أقول لكم: لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل، لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك" (يوحنا 5/19).
والمسيح أيضاً لا يملك لنفسه - فضلاً عن غيره - نفعاً ولا ضراً إلا أن يتغمده الله برحمته، وقد كان، إذ لما جاءته أم ابني زبدي وكانا من تلاميذه " فسألها ما تريدين؟ قالت: أن يجلس ابناي هذان، واحد عن يمينك، والآخر عن اليسار في ملكوتك. فأجاب يسوع... وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أعدّ لهم من أبي " (متى 20/20-22).
كما وقد وصف الكتاب المسيح بصفة العبودية في مواضع عدة، ومن ذلك ما جاء في متى في وصف المسيح "هو ذا عبدي" (متى 12/18)، وفي سفر أعمال الرسل "قد مجد عبده يسوع" (أعمال 3/13)، "فإليكم أولاً أرسل الله عبده" (أعمال 3/26)، وفي موضع آخر: "عبدك القديس يسوع " (أعمال 4/30).
وقد استبدلت لفظة (عبد) في التراجم العربية الحديثة بكلمة "فتى" الموهمة للعبودية أو البنوة، وذلك في التراجم العربية المختلفة، فيما تستخدم التراجم الإنجليزية كلمة (servant)، والتي تعني خادم أو عبد.
وكتوضيح لهذا الصنيع الموهم ننقل قول متى: "لكي يتم ما قيل بإشعياء النبي القائل: هوذا فتاي الذي اخترته، حبيبي الذي سرّت به نفسي، أضع روحي عليه فيخبر الأمم بالحق" (متى 12/17-18)، فاستخدم كلمة (فتى)، فيما استخدم سفر إشعيا الذي نقل منه متى كلمة (عبد)، فيقول: "هوذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سرّت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم" (إشعيا 42/1).
الضرب الثاني: هو النصوص التي تحدثت عن أحوال المسيح البشرية التي يشترك فيها مع سائر الناس من طعام وشراب وعبادة لله وتذلل و…..
درس المحققون سيرة المسيح - كما عرضتها الأناجيل - منذ بشارة أمه إلى حمله، وولادته في المزود، ثم لفّه بالخرق، ثم ختانه، ومن ثم نشأته وتعليمه مع الصبيان، ثم تعميده على يد المعمدان إلى أن ذكروا نهايته المزعومة على الصليب بعد أن جزع وتذلل لله ليصرف عنه هذا الأمر… فوجدوا أن المسيح لا يفرق في شيء عن سائر الناس، فقد ولد وكبر، وأكل وشرب، ومات. فما الذي يميزه بالألوهية عن غيره ؟
فقد ولد من فرج امرأة متلبطاً بدمها "وبينما هما هناك تمّت أيامها لتلد" (لوقا 6/2).
ورضع من ثدييها "وفيما هو يتكلم بهذا رفعت امرأة صوتها من الجمع وقالت له: طوبى للبطن الذي حملك، والثديين اللذين رضعتهما" (لوقا 27/11)، فهل علمت مريم أن طفلها الخارج من رحمها والذي كانت تتولى كافة شئونه من نظافة وتربية ورضاع، هل كانت تعلم ألوهيته، أم جهلت ما علمه النصارى بعد ذلك؟
وقد ختن المسيح في ثامن أيام ولادته "ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع " ( لوقا 2/21) فهل كان الذي يختنه يدور في خلده أنه يختن إلهاً؟.
وقد عمده يوحنا المعمدان في نهر الأردن " جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه" (متى 13/3)، أفجهل المعمدان أنه يعمد الإله؟ ومن المعلوم أن معمودية المعمدان غفران الذنوب، كما في متى: " واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم.. أنا أعمدكم بماء للتوبة... حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه" (متى 3/6-14)،
فهل كان الإله مذنباً يبحث عمن يغفر له ذنوبه؟!
وأصاب المسيح ما يصيب كل البشر من أحوال وعوارض بشرية فقد نام " وكان هو نائماً" (متى 24/8)، وتعب كسائر البشر " كان يسوع قد تعب من السفر" (يوحنا 4/6)، واكتئب لما أصابه " وابتدأ يدهش ويكتئب" (مرقس 14/33).
وأحياناً كان يبكي كسائر البشر إذا ما اعتراهم الضعف والأسى "بكى يسوع" (يوحنا 11/35)، أحياناً يجتمع عليه الحزن والاكتئاب "وابتدأ يحزن ويكتئب " (متى 26/37).
كما تعرض لمكايد أعدائه فقد حاول الشيطان أن يغويه فلم يقدر "قال له: أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي، حينئذ قال له يسوع :اذهب يا شيطان" (متى 4/9-10).
وتعرض للطم والشتم " ولما قال هذا، لطم يسوعَ واحد من الخدام كان واقفاً" (يوحنا 22/18)، فلم يستطع أن يدفع عن نفسه إلا بالكلام، لأنه كان موثقاً "قبضوا على يسوع وأوثقوه" (يوحنا 8/12).
والمسيح قد جاع أيضاً، وبحث عن طعام يأكله "وفي الصبح إذ كان راجعاً إلى المدينة جاع" (متى 18/21)، كما عطش " قال: أنا عطشان" (يوحنا 28/19).
وقد أكل وشرب، فسد جوعته وروى ظمأه " فناولوه جزءاً من سمك مشوي وشيئاً من شهد عسل، فأخذ وأكل قدامهم" (لوقا 24/42-43).
والطعام والشراب الذي كان يتقوى به، وينمو به جسمه طولاً وعرضاً " وكان الصبي ينمو " (لوقا 2/40)، ونموه كان بالجسد والعقل " وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس" (لوقا 2/52)، فالطعام ينميه جسدياً، والتعلم في الهيكل من الشيوخ والمعلمين ينميه عقلياً " وجداه في الهيكل جالساً في وسط المعلمين يسمعهم ويسأله" (لوقا 2/46).
كما ويقتضي الطعام خسيسة أخرى لا يليق أن تنسب لمقام الألوهية، ألا وهي التبول والتغوط، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وهو مفهوم قوله تعالى: ] ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام[ فكل من طعم وشرب احتاج لإخراج ما طعم، ولا يليق نسبة هذه المنقصة ولا غيرها لله عز وجل الذي لا يشارك الناس هذه الدنايا.
وتذكر الأناجيل حزن المسيح ليلة الصلب وغيرها " إن نفسي حزينة حتى الموت " (مرقس 14/32-36).
ثم لما جزع ظهر له ملك من السماء ليقويه. (انظر لوقا 22/43).
ثم لما وضع - حسب الأناجيل - على الصليب جزع وقال: " إلهي إلهي، لم تركتني " (مرقس 15/34).
بل وتزعم الأناجيل أنه مات، فهل رب يموت؟ "فصرخ يسوع بصوت عظيم، وأسلم الروح" (مرقس 15/37).
ولا يجد الأسقف ترتليان ( ق3 ) ما يدفع به هذه القاصمة إلا أن يقول: " لقد مات ابن الله! ذلك شيء غير معقول، لا لشيء، إلا لأنه مما لا يقبله العقل، وقد دفن من بين الموتى، وذلك أمر محقق، لأنه مستحيل "، ومع ذلك يؤمن به ترتليان والنصارى من بعده.
وذكرت الأناجيل أيضاً تذلـله وخضوعه لله عز وجل وتضرعه بين يديه " وكان يصلي قائلاً: يا أبتاه، إن أمكن أن تعبر عني هذا الكأس، ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت" (متى 26/39). " وكان يصلّي هناك" (مرقس 1/35).
ويصور لوقا صلاته، فيقول: " جثا على ركبتيه وصلى" (لوقا 22/41). وذات يوم وقبل اختياره للتلاميذ " خرج إلى الجبل ليصلّي، وقضى الليل كله في الصلاة لله، ولما كان النهار دعا تلاميذه" (لوقا 6/12) فلمن كان الإله يصلي طوال الليل منفرداً؟
وكان يصلي متوارياً وصار عرقه كعبيط الدم، يقول لوقا: "وإذ كان في جهاد كان يصلّي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض، ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه" (لوقا 22/44).
ومن تضرعه واستغاثته بربه ما ذكره يوحنا عن حال المسيح عندما أحيا لعازر " ورفع يسوع عينيه إلى فوق وقال: أيها الآب أشكرك، لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي، ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت، ليؤمنوا أنك أرسلتني" ( يوحنا 11/40-41 ).
والتضرع والعبادة نوع من دلائل العبودية لا يجوز نسبته لله أو للمتحد معه، إذ الأناجيل شهدت بعبوديته والتزامه بناموس موسى عليه السلام في سائر أحواله.
ويتحدث بولس عن انتصار المسيح على الكل بما فيهم الموت، ثم يذكر خضوعه بعد ذلك لله، فيقول: "متى أخضع له الكل، فحينئذ الابن نفسه أيضاً سيخضع للذي أخضع له الكل (لله)، كي يكون الله الكل في الكل" (كورنثوس (1) 15/28).
وأخيراً، فإن مما يؤكد بشرية المسيح ما أخبر من أنه عليه السلام سيدخل الجنة التي وعدها الله عباده المؤمنين، ومنهم المسيح وتلاميذه، وأنه سيشرب في اليوم الآخر ويأكل معهم، حيث قال: "في بيت أبي منازل كثيرة… أنا أمضي لأعد لكم مكاناً….حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً " (يوحنا 14/2 – 3)، وقال: " إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم، حينما أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي" (متى 26/29).
ومن المعلوم أن ملكوت الله يراد به هنا الجنة، حيث يلقى التلاميذ من جديد، فيشرب معهم في جنة الله، فهل سيتجسد الابن ثانية يوم القيامة؟ وما الحكمة من التجسد حينذاك؟ أم أن المسيح سيعود ككائن بشري عادي يأكل في جنة الله كسائر المؤمنين.
وجماع هذا كله قوله عن نفسه: "وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله " (يوحنا 8/40)، أفلا نقبل شهادته عليه الصلاة والسلام عن نفسه؟! فلو كان إلهاً لما صح منه أن يعمي علينا هذه الحقيقة بمثل هذا القول الصريح الدال على إنسانيته.
وحين يصر النصارى على القول بألوهيته فإنهم يضربون بعرض الحائط قول المسيح وتلاميذه، ويتنكرون بذلك لكل هذه النصوص التي لم تتحدث أبداًَ عن إله متجسد، ولا عن ناسوت حل به الله.
وبذا يكون النصارى قد وقعوا فيما حذر منه مقدسهم بولس الذي ألبسهم هذه العقيدة ثم تبرأ منهم ومن صنيعهم، حيث قال: " إنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله، بل حمقوا في أفكارهم، وأظلم قلبهم الغبي. وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء، أبدلوا مجد الله الذي لا يفنى، بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات. لذلك أسلمهم الله أيضاً في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم. الذين استبدلوا حق الله بالكذب، واتقوا، وعبدوا المخلوق دون الخالق، الذي هو مبارك إلى الأبد " (رومية 1/21-25).
الضرب الثالث: هو النصوص التي بينت ذهول معاصريه من حوارييه وأعدائه عن فكرة ألوهيته وربوبيته، مما يدل على أن الفكرة لا علاقة لها بالمسيح ولا أتباعه. بل هي من مخترعات لاحقة لذلك العهد، وذلك يكفي للإعلان عن بطلانها.
وفي ذلك نصوص كثيرة منها:
- جهل أمه بألوهيته، إذ لما كان المسيح راجعاً مع والدته ويوسف النجار حصل ما يدل على جهل والدته بمقامه، فإن جهلت والدته ألوهيته، فمن ذا الذي يعلمها، فقد جاء في لوقا: "وبعدما أكملوا الأيام بقي عند رجوعهما الصبي يسوع في أورشليم، ويوسف وأمه لم يعلما، إذ ظناه بين الرفقة، ذهبا مسيرة يوم، وكانا يطلبانه بين الأقرباء والمعارف، ولما لم يجداه رجعا إلى أورشليم يطلبانه، وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل بين المعلمين يسمعهم ويسألهم … يا بني لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين " (لوقا 2/41-48)، فلو كانت مريم تعلم أن ابنها هو الله أو ابنه لما كان لهذا الخوف على المسيح أي مبرر.
وفي مرة أخرى سمعت مريم حديث الناس عنه وانبهارهم بشخصه، فكانت تعجب لما يقال عن ابنها الصغير "وكان يوسف وأمه يتعجبان مما قيل فيه" (لوقا 2/33)، ولو كانت تعرف ألوهية ابنها لما كان لهذا العجب أي مبرر.
ويذكر يوحنا أن المسيح لما صلب ذهبت والدته لتذرف عليه الدمع. (انظر يوحنا 19/25)، أفلم تكن تعلم حين ذاك أن ولدها هو الله أو ابنه، وأن الموت لا يضيره؟
- ويقول شمعون الصفا (بطرس) وهو أقرب التلاميذ إلى المسيح: " أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال: يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم أيضاً تعلمون، هذا أخذتموه مسلّماً بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق وبأيدي آثمة صلبتموه وقتلتموه" (أعمال الرسل 2/22)، فلم يشر في خطبته المهمة إلى شيء من الألوهية للمسيح، ولم يتحدث عن الناسوت المتأله ولا الإله المتجسد.
وهو ما نجده أيضاً عند غير شمعون، فقد عرض المسيح متنكراً بعد الصلب المزعوم لرجلين من أصحابه قد حزنا بسبب ما تردد عن صلبه، فسألهما عن سبب حزنهما فقالا: " يسوع الناصري الذي كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب، كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت، وصلبوه. ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل" (لوقا 24/19-21)، فليس في قولهما حديث عن ناسوت مقتول، ولا عن لاهوت متجسد نجا من الموت، إن غاية ما كانوا يرقبونه فيه، أن يكون مخلص إسرائيل، أي المسيح المنتظر الذي بشرت به الأنبياء.
وأيضاً عجب منه تلاميذه لما رأوا بعض معجزاته، ولو كانوا يرونه إلهاً لما كان في معجزاته أي عجب، فقد مرّ يسوع عليه السلام بالشجرة وقد جاع، فقصدها، فلم يجد فيها سوى الورق. فقال: لا يخرج منك ثمرة إلى الأبد، فيبست الشجرة لوقتها، فتعجب التلاميذ "قال لها: لا يكون منك ثمر بعد إلى الأبد، فيبست التينة في الحال. فلما رأى التلاميذ ذلك تعجبوا قائلين: كيف يبست التينة في الحال..." (متى 21/18-22). فدل عجبهم على أنهم كانوا لا يدركون شيئاً مما تعتقده النصارى اليوم من ألوهية المسيح، وإلا فإن إيباس الإله للشجرة ليس فيه ما يدعو لأي عجب.
وقال يوحنا مبيناً اعتقاده نبوة المسيح: " طوبى للذي يقرأ، وللذين يسمعون أقوال النبوة" (الرؤيا 1/3).
وهذا يوحنا المعمدان ( يحيى ) الذي لم تقم النساء عن مثله. (انظر متى 11/11)، يرسل إلى المسيح رسلاً بعد أن عمده ليسألوه " أما يوحنا فلما سمع في السجن بأعمال المسيح أرسل اثنين من تلاميذه. وقال له: أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ فأجاب يسوع وقال لهما: اذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران، العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشّرون. وطوبى لمن لا يعثر في" (متى 11/3-6).
فيحيى المعمداني مع جلالة أمره لم يظن في المسيح أنه أكثر من النبي المنتظر الذي كانت تنتظره بنو إسرائيل. وإجابة المسيح لا تدل بحال على ألوهيته، فقد أخبر بمعجزات نبوته، ثم عقب بالتحذير من الغلو فيه - كفعل النصارى -، أو التفريط كفعل اليهود الذين كذبوه وآذوه وهموا بقتله.
ثم لما جاءته المرأة السامرية ورأت قدراته وأعاجيبه: " قالت له المرأة: يا سيد أرى أنك نبي" (يوحنا 4/19)، وما زادت على ذلك، فما وبخها ولا صحح لها معتقدها، فكان هذا معتقداً يعتقده عامة الناس كما اعتقده تلاميذ المسيح وحواريوه.
وهو ما قاله عنه الأعمى الذي شفاه المسيح ورأى برهان الله على نبوة هذا المبارك "فقالوا له: كيف انفتحت عيناك؟ أجاب ذاك وقال: إنسان يقال له: يسوع" (يوحنا 9/10-11)، لكن النصارى اعتقدوا في هذه الحادثة ما لم يعتقده ذاك الذي شفاه المسيح، والذي شهد له بالإنسانية فحسب.
وكذا الجموع التي رأته كثيراً في أورشليم، وخرجت لاستقباله لما دخل أورشليم دخول الأبطال، هذه الجموع كانت تعتقد بشريته ونبوته " فقالت الجموع: هذا يسوع النبي" (متى 21/11).
وهاهم أعداؤه من اليهود يلاحقونه، ويطلبون منه آية، فأخبرهم بأنه لن تأتيهم سوى آية يونان النبي ( يونس ) "أجاب قوم من الكتبة والفريسيين قائلين: يا معلّم نريد أن نرى منك آية. فأجاب وقال لهم: جيل شرير وفاسق يطلب آية، ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي" (متى 12/38-39).
واليهود ولا ريب يبحثون عن آية تدل على نبوته التي يدعوهم إلى الإيمان بها، ولو كان ما يدعو إليه الألوهية لما رضوا منه بمثل آية يونان، بل ولطالبوه بآيات أعظم من آية يونان، وغيره من الأنبياء.
وفيما أحد الفريسيين يرقب المسيح متشككاً بنبوته تقدمت إليه امرأة خاطئة باكية تمسح رجليه بشعرها، تقبلهما وتدهنهما بالطيب، "فلما رأى الفريسي الذي دعاه ذلك، تكلم في نفسه قائلاً: لو كان هذا نبياً لعلم من هذه المرأة التي تلمسه؟ وما هي؟ إنها خاطئة" (لوقا 7/39). لقد استنكر في نفسه نبوة - لا ألوهية – هذا الذي يجهل حال الخاطئة، مما يؤكد أن دعواه عليه الصلاة والسلام بينهم إنما كانت النبوة فحسب.
ولما أراد اليهود قتله، كانت جريمته عندهم دعواه النبوة، لا الربوبية، فقد قالوا لنيقوديموس: "ألعلك أنت أيضاً من الجليل؟ فتّش وانظر. إنه لم يقم نبي من الجليل" (يوحنا 7/52).
والشيطان أيضاً لم ير في المسيح أكثر من كونه بشراً اجترأ عليه محاولاً غوايته، لذلك فقد حصره في الجبل أربعين يوماً من غير طعام ولا شراب، وهو في ذلك يمتحنه ويمنيه بإعطائه الدنيا في مقابل سجدة واحدة له "أخذه أيضاً إبليس إلى جبل عال جداً، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها. وقال له: أعطيك هذه جميعها، إن خررت وسجدت لي، حينئذ قال له يسوع: اذهب يا شيطان، لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد" (متى 4/9-10)، فهل كان الشيطان يعد الرب العظيم - مالك كل شيء وواهبه - بالدنيا؟!!.
ثم إن كان المسيح إلهاً متجسداً فكيف نفهم تبريراً لخيانة يهوذا؟ وهل يخان الإله؟ وكيف نفهم بطرس إنكار بطرس له ثلاث مرات ولعنه في الليلة التي أراد اليهود القبض فيها على المسيح؟
بل إن كل ما قيل في سيرة المسيح يصعب فهمه مع القول بألوهيته، ويترك علامات استفهام لا إجابة عنها.
ثم إن بشرية المسيح موجودة ليس في أقوال معاصريه بل حتى في النبوءات السابقة التي يؤمن النصارى بها، ويقولون أنها تحققت فيه عليه السلام، فهذه النبوءات لم تتنبأ بقيام رب أو إله، وإنما تنبأت بنبي ورسول صالح.
من ذلك ما جاء في كلام عاموس النبي "قال الرب: من أجل ذنوب إسرائيل الثلاثة والأربعة لا أرجع عنه، لأنهم باعوا البار بالفضة..." (عاموس 2/6)، فهو لم يقل: في بيعهم إياي، ولا بيع إله متساو معي، بل سماه باراً، وهو وصف يقتضي كمال العبودية لله.
الضرب الرابع: النصوص التي شهدت للمسيح بالنبوة، وإثبات النبوة والرسالة له مبطل للألوهية.
فقد شهد له معاصروه بالنبوة والرسالة، والتي هي صفة البشر، لا الإله، ومن هذه النصوص قوله: " أنتم تدعونني معلّماً وسيّداً، وحسناً تقولون، لأني أنا كذلك" (يوحنا 13/13)، فقد أكد المسيح صحة اعتقاد التلاميذ به، إنهم يرونه معلماً وسيداً لهم، وقد شاع تسميته عندهم بالمعلم، "وقال له: يا معلم " (مرقس 10/20)، أفكان من حسن الأدب أن يترك التلاميذ نداءه بالألوهية وأن ينادوه بهذا النداء المتواضع: معلم.
وقد بدأت نبوته، وهو في سن الثلاثين "ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة " (لوقا 3/23)، وقد كان ثمة وقت لم ينزل عليه الروح القدس "لأن الروح القدس لم يكن قد أعطي بعد، لأن يسوع لم يكن قد مجّد بعد" (يوحنا 7/39).
وشهد المسيح لربه بالوحدانية، ولنفسه بالرسالة، فقال: " أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته " (يوحنا 17/3).
ونحوه قوله عن نفسه: " فكانوا يعثرون به، وأما يسوع فقال لهم: ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته" (متى 13/57)، فاعتبر نفسه كسائر الأنبياء، لا يعرف أقوامهم لهم قدرهم ومنزلتهم.
ولما خوفه الفريسيون من هيرودس قال لهم: " ينبغي أن أسير اليوم وغداً وما يليه، لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجاً عن أورشليم. يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين" (لوقا 13/33-34)، فشهد لنفسه بالنبوة، وخاف من مصرعه كما صرع غيره من الأنبياء، فغادر أورشليم قاتلة الأنبياء.
ولما أظهر المعجزات لقومه قرنها بدعوى نبوته قائلاً وهو يناجي الله: " ولكن أسألك من أجل هذه الجماعة، ليؤمنوا بأنك أنت أرسلتني " (يوحنا 11/26).
ولما أرادوا قتله قال: "تطلبون أن تقتلوني، وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله " (يوحنا 8/40)، فهو إنسان رسول، وهذا نص صريح بإنسانيته، لا نجد مثله ولا قريباً منه في الدلالة على ألوهيته المزعومة.
ولما بعث تلاميذه للدعوة قال لهم: " فقال لهم يسوع أيضاً: سلام لكم، كما أرسلني الآب أرسلكم أنا" (يوحنا 20/21).
وأكد رسالته بقوله: " الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول، وبماذا أتكلم " (يوحنا 14/2 – 3).
وهو في كل ما يقوله عن الله معصوم لأنه ينطق بالوحي، فقد قال: "الكلام الذي تسمعونه ليس لي، بل للآب الذي أرسلني" (يوحنا 14/28)، وفي موضع آخر: "تعليمي ليس لي، بل للذي أرسلني" (يوحنا 7/16). وقال: " ولا رسول أعظم من مرسله " (يوحنا 13/16).
ومما يبطل قول النصارى بألوهية المسيح النصوص التي جعلته رسولاً خاصاً إلى بني إسرائيل، والإله لا يكون خاصاً بأمة دون أمة.
ومن ذلك قوله: "لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة " (متى10/6).
ومثله قصة المرأة الكنعانية التي رفض شفاء ابنتها لأنها ليست من شعبه. (انظر متى 15/21-28).
ومثله الوعد الذي وعِِده كما جاء في لوقا "وسيعطيه الرب الإله عرش داود أبيه، ويملك على آل يعقوب إلى الأبد" (لوقا 1/32-33)، فهل هو إله خاص ببني إسرائيل أم رسول خاص بهم؟ فلو كان إلهاً لما صح اختصاصه بشعب دون شعب، فهذا شأن الأنبياء.
ولما خاطب أورشليم التي تدعي النصارى قتله وصلبه فيها قال لها: " يا قاتلة الأنبياء، كم من مرة أريد أن أجمع بنيك حولك " (متى 33/37) فلم يقل لها: يا قاتلة الإله. فذلك أبلغ لو صح. بل أراد أنكم تريدون قتلي كما قتلتم غيري من الأنبياء.
ونبوته عليه الصلاة والسلام هي معتقد الناس عامة فيه، وقد صرحوا بذلك أمامه فلم يخطئهم، فعندما أحيا المسيح ابن الأرملة في نايين " أخذ الجميع خوف ومجدوا الله قائلين: قد قام فينا نبي عظيم، وافتقد الله شعبه" (لوقا 7/16).
ولما أطعم الخمسة آلاف إنسان من خمسة أرغفة قالوا: " فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم" (يوحنا 6/14).
وقد قال بولس معترفاً برسالته وبشريته: "لأنه يوجد إله واحد، ووسيط واحد بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح" (تيموثاوس (1) 2/5).
وهكذا رأينا من الضروب الأربعة ما قام فيه دليل وبرهان واضح على عبودية المسيح لله، وأنه رسول عظيم من لدن ربه جل وعلا، وهذا بالضبط ما يؤمن به المسلمون ] إن هو إلا عبدٌ أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل [(الزخرف: 59).
القول بتدرج إعلان ألوهيته
ولما عدم النصارى الدليل على ألوهية المسيح، ورأوا أن أحداً من معاصريه لم يدرك تلك الألوهية التي يتحدثون عنها صدروا بقول جديد، مفاده أن المسيح لم يعلن ألوهيته لتلاميذه في بدء دعوته، بل تدرج بهم حتى كشف لهم عنها بعد قيامته، أي لم يدركوا هذا السر إلا بعد موته.
ومن القائلين بهذا الرأي بتر سمث في كتابه الشهير "سيرة المسيح الشعبية"، فيقول عن مريم وموقفها من ابنها: "هل حسبته إلهاً ابن الآب الأزلي… إن رواية الإنجيل تجعل هذه الفكرة محالة، كما أن العقل لا يسلم بها، وإلا كيف استطاعت أن تؤنبه على توانيه في الهيكل مع أحبار وعلماء اليهود؟ وكيف عالجت شؤونه كلها كطفلها الخاضع لها…
كلا إن العذراء لم تفكر في ولدها كإله … لم تدرك سر ألوهيته الهائل الذي لم تفطن إليه ولم تعرفه إلا مؤخراً، وحتى التلاميذ أنفسهم لم يدركوا هذا السر الهائل إلا قبيل نهاية حياته … لكنهم لم يفطنوا إليه ويدركوه تماماً إلا بعد موته وقيامته وصعوده بمجد وإرساله الروح القدس.
عندئذ أخذوا يرجعون بذكرياتهم إلى الوراء خلال ثلاث سنوات تقضت في صحبته، ويتعجبون كيف أمسكت عيونهم عن معرفة ما عرفوه الآن".
إذاً كانت ألوهية المسيح استنتاجاً عقلياً توصل إليه التلاميذ بعد رفع المسيح.
وهذه الدعوى من النصارى تثور في وجهها تساؤلات عدة منها: لمَ أخفى المسيح هذه الحقيقة؟ ولم َلم ْيعلنها منذ اليوم الأول؟ إن إخفاءه المزعوم جعل الكثيرين – من معاصريه ومن بعدهم من الذين تسميهم الكنيسة بالهراقطة - يقولون ببشريته، وحُقّ لهم ذلك.
ونتساءل هل كان إخفاؤه لحقيقته خوفاً من اليهود؟ كيف وهو الرب الذي نزل ليصلب كما زعموا؟
والحق أن المتتبع لآخر أحاديث المسيح لا يجد أي مفارقة بين أقوال المسيح أول بعثته وبين أقواله قبل وبعد حادثة الصلب المزعوم، كما لا يجد في أحوال التلاميذ ما يدل على أنهم اكتشفوا ما لم يدروه من قبل، فلوقا يذكر أن المسيح على الصليب قال: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون" (لوقا 23/34)، وكان ينبغي أن يجهر بألوهيته فيقول: سأغفر لكم. لكنه بشر يعجز عن ذلك.
وأيضاً قال للص المصلوب: "تكون معي في الفردوس" (لوقا 23/43)، ولو كان إلهاً لقال: أنعمت عليك بالفردوس.
وها هو المسيح بعد القيامة يقول: "إني ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم" (يوحنا 20/17).
وها هم تلاميذه بعد القيامة يعتبروه إنساناً فقط، فيقول اثنان منهم : "الناصري الذي كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول أمام الله وأمام الناس" (لوقا 24/19).
وكذلك قال عنه بطرس بعد رفعه: "يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من الله بقوات وعجائب" (أعمال 2/22).
وقال في مرة أخرى: "يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة…" (أعمال 10/38).
إن مجرد الحديث عن تدرج إعلان ألوهية المسيح يطعن في كل ما تورده النصارى من أدلة على ألوهية المسيح من التوراة والأناجيل، إذ هذه الأدلة كلها وغيرها لم تجعل تلاميذه يقولون بألوهيته، فهم عندما أسموه ابن الله أو الرب أو الله ما كانوا يقصدون الحقيقة، إنما كانوا يريدون المجاز، وهكذا في جميع ما يتعلق به النصارى في موضوع ألوهية المسيح من أدلة.
دلالة معجزات المسيح
وتذكر الأناجيل الكثير من معجزات المسيح وتستدل بها على ألوهيته كولادته من غير أب وإحيائه للموتى وشفائه للمرضى وإخباره بالغيوب….
المعجزات هبة إلهية
ذكر القرآن وأكد صدور المعجزات العظيمة عن المسيح عليه السلام، وأخبر أنه يصنعها بتأييد من الله، فقال: ] أنّي قد جئتكم بآيةٍ من ربّكم أنّي أخلق لكم من الطّين كهيئة الطّير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن اللّه وأُبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن اللّه وأنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم [ (آل عمران: 49).
وهو ما أكدته النصوص الإنجيلية، ونقلته عن المسيح، فعندما أتى المسيح بما أتى به من المعجزات كان يؤكد أنها من الله عز وجل، ولم ينسبها إلى نفسه فقال: "أنا بروح الله أخرج الشياطين" (متى 12/28).
وقال: "كنت بإصبع الله أخرج الشياطين " (لوقا 11/20).
وعندما جاء لإحياء لعازر " رفع يسوع عينيه إلى فوق وقال: أيها الآب أشكرك، لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي، ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت، ليؤمنوا أنك أرسلتني" ( يوحنا 11/40-41 )، لقد شكر الله أن قبِل منه تضرعه ودعاءه حين رفع عينيه إليه متوسلاً ضارعاً، فاستجاب الله له، وأحيا على يديه لعازر.
وأيضاً استلهم من الله العون لما أراد إطعام الجمع من الأرغفة الخمس "رفع نظره نحو السماء، وبارك وكسر" (متى 14/19).
ولما جيء له بالأصم "رفع نظره نحو السماء وأنَّ، وقال: افثأ، أي انفتح، وفي الوقت انفتحت أذناه، وانحل رباط لسانه، وتكلم مستقيماً" (مرقس 7/34-35)، فأنينه تضرع واستغاثة بالله لم يخيبه الله فيهما.
وقال متحدثاً عن سائر معجزاته وأعاجيبه: "دفع إلي (أي من الله) كل سلطان في السماء وعلى الأرض" (متى 28/18)، فكل ما يؤتاه هبة الله، ولو كان إلهاً لكانت معجزاته ذاتية تنبع من طبيعته الإلهية، ولا يحتاج إلى من يهبها له أو يمنعه إياها.
وأكد المسيح عليه السلام أيضاً أنه لا حول له ولا قوة بغير تأييد الله له، فقال: "أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً" (يوحنا 5/30).
ويقول: "الأعمال التي أعملها باسم أبي هي تشهد لي" (يوحنا 10/25).
وأما الذين رأوا معجزات المسيح فقد عرفوا أنما يصنعه إنما هو من المعجزات التي يعطيها الله لأنبيائه، ولم يفهم أحد منهم ألوهية صاحب هذه المعجزات، فعندما شفي الصبي من الروح النجس "بهت الجميع من عظمة الله" (لوقا 9/34).
ولما شفى المرأة المقوسة الظهر " استقامت (أي المرأة بظهرها) ومجدت الله" (لوقا 13/13).
ولما أقام المفلوج ورأت الجموع ذلك "تعجبوا ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطاناً مثل هذا" (متى 9/8).
وهو ما قاله عنه الأعمى الذي شفاه "فقالوا له: كيف انفتحت عيناك؟ أجاب ذاك وقال: إنسان يقال له يسوع" (يوحنا 9/ 10-11).
وحين انتهر البحر والرياح وأطاعته لم يفهم الراؤون لهذا ألوهيته رغم عظم هذه المعجزة، بل عجبوا لقدرة المسيح الإنسان، يقول متى: " فتعجب الناس قائلين: أي إنسان هذا؟ فإن الرياح والبحر جميعاً تطيعه" (متى 8/27).
ولما أرادت مرثا أخت لعازر أن يحيي أخيها أكدت معرفتها بأن هذه المعجزات هي من الله، وأنه يؤيد بها المسيح ، فقالت له : " أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك الله إياه" (يوحنا 11/22).
وهذا تلميذه بطرس كبير الحواريين يقول مخاطباً الجموع مؤكداً هذا المفهوم: "يسوع الناصري رجل قد تبرهن من قبل الله بقوات وعجائب صنعها الله بيده" (أعمال 2/22).
وتحكي الأناجيل ما يؤكد أن هذه المعجزات لم تكن إلا هبة من الله، وكان المسيح يحذر أن لا يؤتاها في بعض المواطن، لذلك لما تقدم إلى لعازر الميت خاف أن لا يتمكن من صنع معجزة "قال بعض منهم: ألم يقدر هذا الذي فتح عيني الأعمى أن يجعل هذا أيضاً لا يموت؟ فانزعج يسوع أيضاً في نفسه" (يوحنا 11/37-38).
وفي مرات أخر طلب منه الفريسيون آيات، فلم يقدر على صنعها، أو لم يصنعها "فتنهد بروحه، وقال: لماذا يطلب هذا الجيل آية؟ الحق أقول لكم: لن يعطى هذا الجيل آية، ثم تركهم ودخل السفينة ومضى" (مرقس 8/11-13).
ولما تكاثرت جموع اليهود عليه تطلب آية لم يجبهم إلى طلبهم، بل قال: "جيل شرير وفاسق يطلب آية، ولا تعطى له آية" (متى 12/38-39).
ثم لو كان ما يصدر من المسيح من آيات تدل على ألوهيته فلِمَ يأمر بإخفائها، وهي السبيل الذي يدل الناس على حقيقته؟ فقد قال المسيح للأبرص لما شفاه "انظر، لا تقل لأحد شيئاً" (مرقس1/44). ولما شفى الأعميان قال: "انظرا، لا يعلم أحد" (متى 9/31).
وقال للأعمى الثالث لما شفاه: "لا تدخل القرية، ولا تقل لأحد في القرية" (مرقس 8/26).
وتكرر منه ذلك "فعلم يسوع وانصرف من هناك، وتبعته جموع كثيرة فشفاهم جميعاً، وأوصاهم أن لا يظهروه" (متى 12/15-16)، فالمسيح بإخفائه للمعجزات يريد أن لا ينشغل الناس بالمعجزات عن دعوته وجوهرها، ولو كانت دليل ألوهيته لوجب أن ينبههم إلى ذلك.
المعجزات لا تدل –حسب الكتاب المقدس- على النبوة فضلاً عن الألوهية
والعجب - كل العجب - أن يعتبر النصارى معجزات المسيح دالة على ألوهيته، والكتاب مصرح بقدرة غيره من البشر على صنع مثل هذه المعجزات العظيمة، من غير أن يكون ذلك دالاً على ألوهية هؤلاء، فقد أثبت الكتاب هذه المعجزات وما هو أعظم منها لكل المؤمنين بالمسيح، فقال: "الحق أقول لكم: من يؤمن بي، فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضاً، ويعمل أعظم منها" (يوحنا 14/12)، أي يستطيع المؤمنون شفاء المرضى بل وإحياء الموتى، بل ويستطيعون صنع أعظم من ذلك، وعليه لا تصلح في الدلالة على الألوهية.
وفعل العجائب - حسب الكتاب المقدس - لا يصح للدلالة على صدق أو صحة إيمان أصحابها، فضلاً عن النبوة أو الألوهية، فإن المسيح ذكر بأن كذبة سيفعلون المعجزات، ويزعمون أنهم يصنعونها باسم المسيح، فقد ذكر متى أن المسيح قال: "ليس كل من يقول لي : يا رب يا رب، يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات، كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة، فحينئذ أصرّح لهم: إني لم أعرفكم قط، اذهبوا عني يا فاعلي الإثم" (متى 7/21-23)، فهؤلاء المنافقون الكذبة قدروا على فعل المعجزات، ولم تدل على صلاحهم وإيمانهم، فضلاً عن نبوتهم وألوهيتهم.
اشتراك غير المسيح مع المسيح في معجزاته
ولاحظ المحققون أن الكثير مما صنعه المسيح من عجائب ومعجزات قد شاركه فيه غيره من الأنبياء، وسواهم، ولم يقل أحد من النصارى بألوهيتهم، فدل ذلك على أن غاية ما تدل عليه المعجزات نبوة أصحابها، وإلا لزم القول ألوهية كل من شارك المسيح في الأعاجيب التي صنعها الله على يديه.
الميلاد العذراوي
لقد كانت ولادة المسيح من غير أب بشري إحدى أعظم معجزاته عليه السلام، وقد تعلق بها القائلون بألوهيته، يقول ياسين منصور: "لو لم يولد المسيح من عذراء لكان مجرد إنسان ".
وهو بحق كذلك، بدليل أن بعض المخلوقات شارك المسيح في صورة هذه المعجزة الباهرة، أي ولادته من عذراء، من غير أب، فأصول سائر المخلوقات ومنهم البشر لا أب لهم ولا أم، ووجود آدم خلقاً سوياً أكبر وأكمل من خلقة المسيح الذي خلق جنيناً في بطن أمه، ثم كبر بعد ذلك ونما.
والميلاد من غير أب أعجوبة ولا ريب، لكنها لا تقتضي الألوهية بحال، ولو اقتضاها لاقتضى ألوهية آدم وحواء، فقد ولد آدم من غير أب ولا أم، وولدت حواء من آدم، ولا أم لها، وذلك هو ما نبه إليه القرآن الكريم ] إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون[ (آل عمران : 59)
ورغم المثلية القائمة بين آدم وعيسى من جهة ميلادهما من غير أب، إلا أن آدم يتميز عن عيسى بـأمور، منها أن آدم عليه السلام لم يخرج من بين نجو وطمث، وأيضاً فإن الله أسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء من علمه، كما كانت الجنة منـزله، وقد تولى الله مناجاته بنفسه دون أن يرسل إليه رسولاً، إلى غير ذلك مما لم يكن لعيسى ولا غيره. فما دام آدم مميزاً بكل هذه المميزات، فلم لا تقول النصارى بألوهيته؟!
وممن فاق المسيح في هذه المعجزة - حسب الكتاب المقدس - ملكي صادق كاهن ساليم في عهد إبراهيم، فإن بولس يزعم أن لا أب له ولا أم ولا بداية ولا نهاية، يقول: "ملكي صادق هذا ملك ساليم كاهن الله العلي … بلا أب، بلا أم، بلا نسب، لا بداءة أيام له، ولا نهاية حياة، بل هو مشبه بابن الله، هذا يبقى كاهناً إلى الأبد" (عبرانيين 7/1-3)، فلم لا يقول النصارى بألوهية ملكي صادق، وهو الذي لا أب له ولا أم ؟
ومثل هذا أيضاً يلزم النصارى بحق الملائكة، فهم أيضاً خلقوا من غير أب ولا أم، بل ولا طين، لكن النصارى لا تعتبرهم آلهة.
وهكذا فالميلاد العذراوي لا يصلح دليلاً على الألوهية، وإن كان حدثاً فريداً - نسبياً - في تاريخ البشرية.
معجزة إحياء الموتى
ومعجزة إحياء الموتى معجزة عظيمة من معجزات المسيح التي أثبتها القرآن، وأخبر بأنها من عند الله ] وأحيي الموتى بإذن الله { (آل عمران: 49)، وهو ما يتفق أيضاً مع الإنجيل، فقد قال عيسى للذين شاهدوه وعاصروه: "أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً" (يوحنا 5/30).
لكن النصارى يصرون على أن إحياء الموتى يدل على ربوبية المسيح وألوهيته، ويتجاهلون نصوصاً كتابية أسندت ذات الفعل لغير المسيح. فلِم لا تقول النصارى بألوهيتهم ؟!
إن إعراض النصارى عن القول بألوهية هؤلاء إنما هو دليل على بطلان الاستدلال لألوهية المسيح بمعجزة الخلق، فلئن كان المسيح أحيا لعازر (انظر يوحنا 11/41-44)، فإن النبي إلياس أحيا ابن الأرملة "وقال: أيها الرب إلهي، أيضاً إلى الأرملة التي أنا نازل عندها قد أسأتَ بإماتتك ابنها - وحاشا لله أن يسيء -، فتمدد على الولد ثلاث مرات، وصرخ إلى الرب وقال: يا رب إلهي لترجع نفس هذا الولد إلى جوفه. فسمع الرب لصوت إيليا، فرجعت نفس الولد إلى جوفه فعاش" (الملوك (1) 17/19-24).
واليسع أيضاً أحيا ـ بإذن الله ـ ميتين أحدهما أحياه حال حياته، والآخر بعد وفاته، فقد أحيا ابن الإسرائيلية التي جاءته "دخل اليشع البيت، وإذا بالصبي ميت ومضطجع على سريره، فدخل وأغلق الباب على نفسيهما كليهما، وصلّى إلى الرب. ثم صعد واضطجع فوق الصبي، ووضع فمه على فمه، وعينيه على عينيه، ويديه على يديه، وتمدّد عليه، فسخن جسد الولد، ثم عاد وتمشى في البيت تارة إلى هنا وتارة إلى هناك، وصعد وتمدّد عليه، فعطس الصبي سبع مرّات، ثم فتح الصبي عينيه" (الملوك (2) 4/32-36).
كما أحيا اليسع بقدرة الله بعد موته ميتاً وضعه أهله على قبر اليسع، فعاد حياً " فيما كانوا يدفنون رجلاً إذا بهم قد رأوا الغزاة، فطرحوا الرجل في قبر اليشع، فلما نزل الرجل ومس عظام اليشع عاش وقام على رجليه" (الملوك (2) 13/21).
والعجب من استدلال النصارى بإحياء الموتى لإثبات ألوهية المسيح مع أنهم أثبتوا هذه القدرة للحواريين، والمقصود ما جاء قصة إحياء بطرس لطابيثا. فقد جاء في أعمال الرسل أن بطرس أحيا طابيثا بعد أن ماتت وغسلها أهلها "وكان في يافا تلميذة اسمها طابيثا الذي ترجمته غزالة.... وحدث في تلك الأيام أنها مرضت وماتت، فغسلوها ووضعوها في عليّة.... فأخرج بطرس الجميع خارجاً وجثا على ركبتيه وصلّى، ثم التفت إلى الجسد وقال: يا طابيثا قومي، ففتحت عينيها، ولما أبصرت بطرس جلست" ( أعمال 9/36-41).
وكل التلاميذ يقدرون على إحياء الموتى فقد قال لهم المسيح : "فيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين: إنه قد اقترب ملكوت السماوات، اشفوا مرضى، طهروا برصاً، أقيموا موتى، أخرجوا شياطين" (متى 10/7-8)، فهل كل هؤلاء آلهة؟
كما يغفل النصارى المتحدثون عن ألوهية المسيح الذي أحيا الموتى، يغفلون عن تلك النصوص التي تتحدث عن موت المسيح وعجزه عن دفع الموت عن نفسه، كما عجز عن ردها إلى الحياة من جديد، حتى أعاده الله وأقامه من الأموات، وقد تكاثرت النصوص على إيراد هذه الحقيقة حتى بلغت خمسة عشر نصاً، منها "فيسوع هذا أقامه الله" (أعمال 2/32)، ومنها "ورئيس الحياة قتلتموه الذي أقامه الله من الأموات " (أعمال 3/15)، وكذا "المسيح الناصري الذي صلبتموه أنتم، الذي أقامه الله" (أعمال 4/10).
وهكذا بطل الاستدلال بهذه العجيبة على ألوهية المسيح، ولكنها بحق أعجوبة عظيمة دفعها الله للمسيح ليقيم بها الحجة على نبوة هذا النبي العظيم، عليه صلوات الله وسلامه.
معجزة شفاء المرضى
ويستدل النصارى على ألوهية المسيح بقدرته على شفاء المرضى، ولئن كان عيسى عليه السلام قد شفى الأبرص (انظر متى 8/3) فإن اليسع شفى أبرصاً، وأمرض آخر وذريته من بعده بالبرص "فأرسل إليه اليشع رسولاً يقول: اذهب واغتسل سبع مرّات في الأردن، فيرجع لحمك إليك وتطهر.....فبرص نعمان يلصق بك وبنسلك إلى الأبد، وخرج من أمامه أبرص كالثلج" (الملوك (2) 5/10-27).
التنبؤ بالغيوب
وقد تنبأ المسيح بكثير من الغيوب، فكانت كما قال، فقد أخبر التلميذان اللذان أرسلهما لذبح فصح العيد بما سيكون لهما (انظر مرقس 14/12-16)، وقد قال له بطرس: "يا رب أنت تعلم كل شيء" (يوحنا 21/71).
لكن ليس المسيح وحده من قد تنبأ بالمغيبات، فقد تنبأ قبله يعقوب فقال لأبنائه: "اجتمعوا لأنبئكم بما يصيبكم في آخر الأيام…" (التكوين 49/1-27).
ومثله تنبأ صموئيل وإيليا (انظر صموئيل (1)10/2-9، الملوك (1)21/21-24)، وقد تحققت نبوءتهما في (الملوك (2)10/1-17، 9/30-37).
ومثل هذا كثير في الأسفار المقدسة. (انظر صموئيل (1) 19/23-24، الملوك (2) 4/8-18، 8/12-13، يوحنا 11/49-52).
وقد جاء في وصف بلعام بن بعور المتنبئ الكافر الذي قتله موسى عليه السلام بأنه "يعرف معرفة العلي، الذي يرى رؤيا القدير" (العدد 24/15-19) وذكرت الأسفار التوراتية عدداً من تنبؤاته التي تحققت.
ثم إن المسيح كما تنبأ بالغيوب فإنه عجز عن أُخر، وجهلها، إذ لم يعرف بالخبز وعدده (انظر متى 15/34)، كما جهل موعد الساعة (انظر مرقس 13/32-33).
وينبه العلامة ديدات أنه لا يجوز للنصارى أن يذكروا شيئاً عن مغيبات أخبر عنها المسيح وهم ينسبون إليه الكذب - وحاشاه - عندما تنبأ بعودته السريعة قبل انقضاء جيله. (انظر مرقس 13/26، 30، متى 10/23) وهو ما لم يحدث حتى يومنا هذا.
التسلط على الشياطين
وكذلك أوتي المسيح سلطاناً على الشياطين (انظر متى 12/27-28)، ولكنها معجزة قام بها غيره، فعندما اتهمه اليهود بأنه يخرج الشياطين بمعونة رئيسهم قال: "إن كنت أنا أخرج الشياطين ببعزبول، فأبناؤكم بمن يخرجونهم؟" (متى 12/27)، فأثبت لأبناء اليهود مثل قدرته.
كما وقد حذر عليه السلام من الكذبة الذين سينجحون في إخراج الشياطين فقال: " كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب، يا رب، أليس باسمك تنبأنا؟ وباسمك أخرجنا شياطين؟ وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ " (متى 7/5-23)، فالأنبياء الكذبة يخرجون الشياطين، من غير أن يدل ذلك على نبوتهم أو صلاحهم، فضلاً عن القول بألوهيتهم.
عجائب مختلفة
وتذكر الأناجيل عجائب متفرقة للمسيح، كتحويله الماء إلى خمر (انظر يوحنا 2/7-9)، وإطعامه الجمع كبير من خمسة أرغفة (انظر متى 14/19-21)، ويباس شجرة التين بقوله. ( انظر متى 21/18-19)، كما لا يفوتهم التنبيه إلى الظلمة العظيمة التي أعتمت الأرض عند موته المزعوم على الصليب (انظر متى 27/45)، فدلت هذه العجائب المختلفة على ألوهيته وأنه ابن الله.
وأيضاً يستدل القائلون بألوهيته عليه السلام بإطاعة الرياح والبحر له، فقد أوتي سلطاناً على العناصر الطبيعية، فالرياح والبحر يطيعه "وإذ اضطراب عظيم قد حدث في البحر حتى غطت الأمواج السفينة، وكان هو نائماً. فتقدم تلاميذه وأيقظوه قائلين: يا سيد نجنا فإننا نهلك. فقال لهم: ما بالكم خائفين يا قليلي الإيمان؟ ثم قام وانتهر الرياح والبحر، فصار هدوء عظيم. فتعجب الناس قائلين: أي إنسان هذا؟ فإن الرياح والبحر جميعا تطيعه" (متى 8/23-28)، فمن ذا الذي تطيعه الرياح والبحار، ولا يجدون - حسب فهمهم البسيط - من إجابة إلا أن يقولوا : إنه الله المسيح.
وكذا فإن المسيح صام أربعين يوماً لم يجع خلالها، وهو ما لا يطيقه بشر، فدل ذلك على أنه الله. (انظر متى 4/1-2).
كما صعد المسيح إلى السماء، وجلس عن يمين الله. (انظر مرقس 16/19)، وهو كما يرى النصارى منزل لم يصل إليه أحد من العالمين إلا المسيح بما له من خواص الألوهية.
صدور مثل هذه المعجزات عن غير المسيح
ولكن أمثال هذه المعجزات بل وأعظم منها جرت على يدي غيره، ولم تقتض ألوهيتهم.
فلئن كان المسيح قد حول الماء إلى خمر (انظر يوحنا 2/7-9)، فإن موسى حول الماء إلى دم كما في سفر الخروج "تأخذ من ماء النهر، وتسكب على اليابسة، فيصير الماء الذي تأخذه من النهر دماً على اليابسة" (الخروج 4/9).
وأما اليشع فقد صنع أعظم من ذلك، إذ ملأ قدور العجوز الفارغة زيتاً، من غير أن يكون فيها شيء "قال: اذهبي استعيري لنفسك أوعية من خارج من عند جميع جيرانك أوعية فارغة، لا تقللي، ثم ادخلي وأغلقي الباب على نفسك وعلى بنيك، وصبّي في جميع هذه الأوعية، وما امتلأ انقليه، فذهبت من عنده وأغلقت الباب على نفسها وعلى بنيها، فكانوا هم يقدمون لها الأوعية وهي تصب. ولما امتلأت الأوعية قالت لابنها: قدم لي أيضاً وعاء. فقال لها: لا يوجد بعد وعاء، فوقف الزيت، فأتت وأخبرت رجل الله فقال: اذهبي بيعي الزيت، وأوف دينك، وعيشي أنت وبنوك بما بقي" (الملوك (2) 4/3-7).
وإن طعم ببركة المسيح خمسمائة شخص من خمسة أرغفة (انظر متى 14/19-21)، فقد أطعم الله عز وجل بني إسرائيل - وهم زهاء ستمائة ألف - المن والسلوى أربعين سنة، وكل ذلك ببركة موسى عليه السلام. (انظر الخروج 16/35-36).
ولئن كان المسيح قد حول شجرة التين إلى يابس. ( انظر متى 21/18-19)، فإن موسى حول العصا اليابسة إلى حية. (انظر الخروج 7/9)، وهو أعظم، إذ قد يدخل يبس الشجرة في قانون الطبيعة، لكن تحويل العصا إلى حية معجز بكل حال.
وأما الظلمة التي يدعي النصارى حصولها عند صلب المسيح، فهي ليست - بأي حال - بأكبر من الظلمة التي استمرت على أرض مصر ثلاثة أيام بسبب كفرهم بموسى، "فمدّ موسى يده نحو السماء، فكان ظلام دامس في كل أرض مصر ثلاثة أيام، لم يبصر أحد أخاه، ولا قام أحد من مكانه ثلاثة أيام" (الخروج 10/22-23).
وأيضاً فإن يشوع لما حارب الأموريين وكادت ليلة السبت أن تدخل ناجى ربه فقال: "أمام عيون إسرائيل : يا شمس دومي على جبعون، ويا قمر دوم على وادي أيلون، فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب….فوقفت الشمس في كبد السماء، ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل" (يشوع 10/12-13)، وهذا الذي حصل ليشوع لا يقتضي ألوهيته، وهو أعظم من غياب الشمس ثلاث ساعات، فإنها قد تغيب بالغيوم، وهو داخل في السنن المعهودة، أما توقف دوران الكرة الأرضية فهو أعظم من ذلك بكثير.
ثم لئن كانت الطبيعة تطيع المسيح فإن ذلك قد حصل مع الأنبياء أيضاً، فإيليا أطاعته النار حتى قال: " إن كنت أنا رجل الله فلتنزل نار من السماء تأكلك أنت والخمسين الذين لك، فنزلت نار الله من السماء وأكلته هو والخمسين الذين له" (الملوك (2)1/9-11).
وكذا أطاع البحر إيليا "و أخذ إيليا رداءه، ولفّه، وضرب الماء فانفلق إلى هنا وهناك فعبر كلاهما (اليشع وإيليا) في اليبس" (الملوك (2) 2/7-8)، وقد رأينا كيف أطاعت الشمس والقمر يشوع.
وأما صيام المسيح أربعين يوماً فلا يدل على ألوهيته إذ أنه "جاع أخيراً" (متى 4/2)، فلئن كان صومه وصبره يدل على ألوهيته، فإن جوعه يكذب هذه الدعوى، ويدل على بشريته.
وقد كان مثله لموسى عليه السلام، حيث يقول: "أقمت في الجبل أربعين نهاراً وأربعين ليلة لا آكل خبزاً ولا أشرب ماء" (التثنية 9/9).
ومثله حصل مع النبي إيليا حين أكل أكلة ثم "سار بقوة تلك الأكلة أربعين نهاراً وأربعين ليلة إلى جبل الله" (الملوك (1) 19/7-8).
ولئن قال النصارى برفع المسيح للسماء وجلوسه عن يمين الله، فإن مثل ذلك حصل مع إيليا الذي رفع من غير أن يصلب أو أن يصفع أو أن يصاب بسوء. (انظر الملوك (2) 2/11-12)، ومثله حصل مع أخنوخ. (انظر التكوين 5/24).
وأما الجلوس عن يمين الله فقد ألحقته الكنيسة بإنجيل مرقس (انظر مرقس 16/19)، ولا يمكن حمله على الحقيقة، بل غايته أن يقال بأنه جلوس معنوي أي برفع مكانته، كما جاء في كلام ميخا "لقد رأيت الرب جالساً على كرسيه، وكل جند السماء وقوف عن يمينه ويساره" (الأيام (2) 18/18).
مبررات تجسد الابن
كما تساءل المحققون عن سبب تجسد الابن دون الأب وروح القدس؟ وتساءلوا لم كان التجسد الإلهي على صورة بشر؟ ما ضرورته؟ لماذا نزل الابن من عليائه ليدخل جوف امرأة ثم يخرج من فرجها؟ لم كان هذا كله؟
اجتهد رجال الكهنوت في الإجابة عن هذه الأسئلة، ولما لم يجدوا لها إجابة في ثنايا كتابهم أعملوا عقولهم، فصدرت عنهم أقوال مختلفة، كلٌ بحسب ما أداه إليه عقله، إذ كما لم يجدوا في العهد الجديد ما يؤكد قول بولس بأن الإله قد تجسد أيضاً لم يجدوا في هذه الأسفار تبريراً له.
وقد انحصرت إجاباتهم في ثلاثة أقوال:
أولها: أن هذا السر لا نفهمه، وينبغي أن نؤمن به.
ثانيها: أن التجسد كان لردم الهوة بين الله والبشرية وإيناسها برؤية الإله.
ثالثها: أن التجسد كان ضرورة للتوفيق بين عدل الله ورحمته، حيث اقتضى عدل الله موت البشرية وتسلط الموت عليها واقتضت رحمته حياتها، فكان المسيح كبش الفداء.
وفي ذلك يقول أثناسيوس وهو أحد أهم رجال مجمع نيقية : "لهذا كان أمام كلمة الله أن يأتي بالإنسان الفاسد إلى عدم فساد، وفي نفس الوقت أن يؤمن مطالب الأب العادل المطالب به الجميع، وحيث إنه هو كلمة الأب ويفوق الكل، فكان هو وحده الذي يليق بطبيعته أن يجدد خلقه كل شيء وأن يتحمل الآلام عن الجميع لدى الآب…لأجل ذلك نزل إلى عالمنا كلمة الله الخالي من الجسد، العديم الفساد وغير المادي … وإذ لم يتحمل أن يرى الموت تصير له السيادة لئلا تفنى به الخليقة، وتذهب صنعه أبيه في البشر هباء، فقد أخذ لنفسه جسداً لا يختلف عن جسدنا … لأنه لو لم يكن الرب مخلص الجميع ابن الله قد جاء إلينا وحل بيننا ليوفي غاية الموت لكان الجنس البشري قد هلك".
ويرفض المسلمون هذا التبرير لأنه يظهر الإله العظيم عاجزاً عن العفو والغفران حائراً بين عدله ورحمته، ومثل هذا لا يقع به الحكماء من الناس فضلاً عن رب العالمين.
ثم ماذا بعد موت المسيح هل تغير حال البشر فلم يعد الموت متسلطاً عليهم؟
فيجيب أثناسيوس: "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم … وعندما تم ذلك بدأ البشر يموتون، وصار عليهم من الفساد في ذلك الوقت فصاعداً، وصار له سلطان على الجنس البشري أكثر من سلطانه الطبيعي، لأنه أتى نتيجة تهديد الله في حال العصيان".
لكنا لم نعرف ما هو السلطان الطبيعي للموت؟ ولا ندري ما الفرق بين موت الناس قبل المسيح وبعده … كما يحق لنا أن نتساءل هنا عن سر تسلط الموت على غيرنا كأنواع الحيوانات المختلفة.
كما يذكر أثناسيوس سبباً آخر للتجسد فيقول: "عندما خلق الله الضابط للكل الجنس البشري بكلمته، ورأى ضعف طبيعتهم، وأنها لا تستطيع من نفسها أن تعرف خالقها، أو أن تكون فكرة عن الله على الإطلاق … لهذا تحنن الله على الجنس البشري على قدر صلاحه ولم يتركهم خالين من معرفته، لئلا يروا أن لا منفعة على الإطلاق من وجودهم في الحياة".
لقد كان الهدف من التجسد إذاً أن تأنس البشرية برؤية ومعرفة ربها وأن تنهدم الهوة الواسعة بين الخالق والمخلوق، وهو ما عبر عنه سنوت في كتابه "المسيحية الأصلية" حيث يقول: "توجد فقط هوة واسعة لا حد لها … ولو لم يكن الله بادر وتدراك الأمر لبقيت الحالة على ما هي عليه، ولظل الإنسان بلا رجاء يتخبط في دياجير اللا إرداية، ولكن الله تكلم، ولقد بادر وأعلن عن نفسه".
وهنا نتساءل كيف كانت صلة الأنبياء بربهم مع هذه الهوة؟ هل عرفوا ربهم المعرفة التي تدفعهم لعبادته وطاعته؟ أم كان إيمانهم باهتاً؟ وماذا تغير في حياة البشرية بعد تجسد الإله؟ هل آمن الناس وعرفوا ربهم؟ وهل زال الإلحاد من البشرية؟
ثم أين الإيناس للبشرية في رؤيتها للرب وهو يصفع ويضرب ويجلد. إن هذا من شأنه أن يقلل من مقام الألوهية عندهم، فالنفس البشرية طلعة تتوقد أشواقها إلى المجهول، وتتحرك نزعاتها إلى عالم الغيب، فإذا انكشف لهم المجهول أو ظهر لهم ما وراء الغيب سكنت نزعاتها وبردت أشواقها نحو هذا الشيء الذي كانت تسعى إليه وتجدُّ في البحث عنه.
ثم ماذا عن باقي أجيال البشرية التي لم تأنس بمعرفة هذا المتجسد.هل من العدل أن تحرم منه؟ وكيف لها أن تعرف ربها ولم تراه ؟!
ثم لم كان أنسنا بالإله حال طفولته وشبابه فقط، ولم نأنس به أيضاً حال كهولته وهرمه. فلماذا؟!
ويرى شارل جنيبر ضعف هذه التبريرات، ويقرر أن بولس هو الذي قرر تجسد الإله، ويوضح الأسباب التي دعته لذلك، لقد ابتكر عقيدة التجسد بعد أن أدرك " أن الأتباع الجدد من المشركين لم يكونوا ليتقبلوا كل القبول فضيحة الصلب، وأنه يجب تفسير ميتة عيسى المشينة - و التي لم يكف الأعداء بطبيعة الحال عن الرجوع إليها - تفسيراً مرضياً، يجعل منها واقعة ذات مغزى ديني عميق.
وأعمل الحواري (بولس) فكره في هذه المشكلة … ووضع حلاً كان له صدى بالغ المدى قد تجاهل فكرة عيسى الناصري التي أغرم بها الاثنا عشر، ولم يتجه إلا إلى عيسى المصلوب، فتصوره شخصية إلهية تسبق العالم نفسه في الوجود، وتمثل نوعاً من التشخيص … وقد عثر الحواري على العناصر الجوهرية في الأسرار، عثر عليها في غالب الظن دون أن يبحث عنها…".
لكن حرجاً آخر واجهه بولس وهو يضع لمساته النهائية على الإله المتجسد المصلوب، وهو كيف يقول بنهاية حياة المسيح على الصليب، والتوراة تنص على لعن كل مصلوب. (انظر التثنية 21/23)، فهذا يزري بالمسيح ويجعله ملعوناً حسب شرائع اليهود.
لحل هذه القاصمة، رأى بولس أن يجعل من الملعون مثلاً أعلى في التضحية، وأن يجعل منه إلهاً نزل وتجسد ليفدي البشرية من خطاياها، فصار لعنة ليفتديهم من لعنة الناموس، وكما قال بولس: "ولكن الله من محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا، فبالأولى كثيراً ونحن متبررون الآن بدمه، نخلص به من الغضب، إنه وإن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه.." (رومية 5/8-10)، لقد صار لعنة لأنه حررنا من لعنة الناموس!.
وأخيراً، فإن هذا الذي تقوله النصارى في الرب جل وعلا من تعدد وتجسد نوع من العبث الإنساني وجرأة صارخة على مقام الرب جل وعلا وتطاول مستغرب، فإن المثّال كما يقول الأستاذ المهتدي محمد مجدي مرجان "حين يصنع تمثالاً فإنه يستطيع أن يهدمه، ولا يتصور أحد أن يدعي التمثال أنه من جبلة صانعه، أو أنه جزء أو عنصر من هذا الصانع.
ولكن الإنسان الضعيف أحد مخلوقات الله تطاول على صانعه، ثم أخذه الغي، ولعبت برأسه نشوة الضلال، فقلب الوضع وعكس الآية، فقام بإعادة تكوين وتشكيل صانعه، ثم راح يعيد تقسيم خالقه إلى أقسام ثلاثة ابتدعها خياله، جاعلاً كل قسم منها إلهاً قائماً بذاته، محولاً الإله الواحد إلى ثلاثة…ثم قام بتقسيم الأعمال والأعباء والوظائف بين آلهته الثلاثة التي صنعها عطفاً وإشفاقاً من أن يتحمل كل تلك الأعمال والأعباء والوظائف إله واحد. حقاً ما أشقى الإنسان".
والحق أن فكرة التجسد النصرانية كانت أحد أهم أسباب انتشار الإلحاد بين المسيحيين، فإن الإنسان يميل بفطرته وعقله إلى تعظيم الخالق وتنـزيهه عن الشبيه والمثيل، فيما تجعله النصرانية إنساناً خرج من فرج امرأة من بني إسرائيل…
يقول كيرانس ايرسولد: "أما من وجهة نظر العلم فإنني لا أستطيع أن أتصور الله تصوراً مادياً، بحيث تستطيع أن تدركه الأبصار أو أن يحل في مكان..".
وعندئذ يخيَر الناس بين المعتقد الخاطئ والفطرة الصحيحة المؤيدة بسلطان العقل، فلا يجد كثير منهم مفراً من الكفر بإله الكنيسة المصفوع والمصلوب، فيكثر الإلحاد. تعالى الله عما يقول هؤلاء علواً كبيراً.
ومن الآثار السيئة التي تتركها عقيدة التجسد إضعاف المثُل والقيم التي جاء بها المسيح ودعا إليها، ثم كان بسبقهم إليها قدوة صالحة لأتباعه، لكن أثر هذا الخلق يضيع مع القول بالألوهية، إذ لن يتصور البشر إمكانية تطبيق هذه المُثُل التي سبقهم إليها إله.
هذا ما يراه كُتاب دائرة المعارف الأمريكية في قولهم: "لو كان إلهاً فإن المثُل التي ضربها لنا بعيشته الفاضلة يفقد كل ذرة من القيمة، حيث إنه يمتلك قوى لا نملكها. إن الإنسان لا يستطيع تقليد الإله".
ويقول توماس أكمبسفي كتابه "على خطى المسيح": "إذا كان المسيح إلهاً فإن المرء لا يستطيع اقتفاء أثره والسير على منهجه".
هل المسيح هو الله؟
وقد اهتم المحققون بمناقشة الطبيعة الواحدة للمسيح والتي تقول بها الكنيسة الأرثوذكسية المصرية (المرقسية).
وفي بيان معتقد الكنيسة المصرية يقول حبيب جرجس عميد الكلية الإكليريكية بمصر موضحاً عقيدة الأرثوذكس الشرقيين في مسألة الطبيعة الواحدة : "إن فادينا العظيم قد تنزل عن سماء مجده، وقبِل أن يتحد بالإنسان باتخاذه جسداً حقيقياً بنفس عاقلة ناطقة، فحبل به بقوة الروح القدس…واتحادهما بدون اختلاط ولا امتزاج، يصيران شخصاً واحداً، ذا طبيعة واحدة… صار المسيح ذاتاً واحدة جوهراً واحداً طبيعة واحدة، مشيئة واحدة".
ولعل هذا المذهب أشد مذاهب النصارى كفراً، إذ أنه جعل الله هو المسيح عليه السلام كما قال الله عنهم: ] لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم[ (المائدة: 17).
ويعجب المسلمون كيف جعل أتباع هذا المذهب الله بشراً؟ فالقديم الأزلي لا يصير محدثاً، ولا يجري عليه ما يجري على البشر من عوارض كالنوم والنسيان والأكل والشرب وكونه يرى…
لكن النصوص المقدسة تثبت أن المسيح ليس الله، فثمة مفارقات واضحة بينهما، فالمسيح بشر، أصابته العوارض التي تصيب سائر البشر، وهي عوارض تنزه النصوص التوراتية، بل والإنجيلية الله عز وجل عنها.
فالمسيح مولود امرأة، وهيهات لمولود المرأة، ابن آدم الدود، أن يكون إلهاً، فقد جاء في التوراة "فكيف يتبرر الإنسان عند الله؟ وكيف يزكو مولود المرأة. هوذا نفس القمر لا يضيء، والكواكب غير نقية في عينيه. فكم بالحري الإنسان الرمّة وابن آدم الدود!" (أيوب 25/4-5).
والمسيح نام في السفينة. (انظر مرقس 4/35-38)، أما الله فهو " لا ينعس ولا ينام حافظ إسرائيل" (المزمور 121/4).
والمسيح كان جسداً مرئياً، والله لا يرى "الذي لم يره أحد من الناس، ولا يقدر أن يراه الذي له الكرامة والقدرة الأبدية" (تيموثاوس (1) 6/16). وهو ما يقوله يوحنا: " الله لم يره أحد قط " (يوحنا 1/18).
يمضي يوحنا فيقول: " الله روح" (يوحنا 4/24)، أي ليس جسماً، في حين كان المسيح جسماً محسوساً باللمس، والمسيح عن نفسه يقول: " انظروا يديّ ورجليّ، إني أنا هو، جسوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي. وحين قال هذا، أراهم يديه ورجليه" (لوقا 24/37-41).
بل لا تقدر الأجسام أن ترى الله، ومن رآه يموت. (انظر الخروج 10/28) فكيف يزعم الزاعمون بأن البشر رأوه؟
والمسيح كان صوته مسموعاً، أما الآب فالأسفار تخبر أن أحداً لم يسمع صوته، ولم يره "والآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي. لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته" (يوحنا 5/37).
وكيف يقول النصارى: إن جسداً بشرياً قد اكتنفه في بطنه إلى حين ولادته، والله يستحيل عليه ذلك،كما تخبرنا التوراة الكاثوليكية حين تقول: " فقال الرب: لا تحل روحي على إنسان أبداً، لأنه جسد" (التكوين 6/3)، فروح الله التي هي صفته لا تحل في الأجساد، فضلاً عن حلول ذاته العلية، لأن "العلي لا يسكن في هياكل مصنوعات الأيادي" (أعمال 7/48).
ومن المحال أن يكتنفه جسد أرضي مهما عظم، فالسماوات والأرض لا تسعه " هل يسكن الله حقاً على الأرض؟ هوذا السماوات وسماء السماوات لا تسعك، فكم بالأقل هذا البيت الذي بنيت" (الملوك (1) 8/27).
والمسيح صلب - كما ذكرت الأناجيل - ومات، والله عن نفسه يقول: "حي أنا إلى الأبد" (التثنية 32/40)، ويقول: "أقسم بالحي إلى أبد الآبدين" (الرؤيا 10/6)، وهو "الذي وحده له عدم الموت ساكناً في نور، لا يدنى" (تيموثاوس (1) 6/16).
كما أفادت نصوص أخرى عجزاً للمسيح وقعوداً عن مرتبة الألوهية، فدل ذلك على أنه ليس الله، فقد جهل موعد الساعة " وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا ملائكة السماوات، إلا أبي وحده " (متى 24/36).
وقال عن نفسه: "أنا لا اقدر أن أفعل من نفسي شيئاً " (يوحنا 5/30).
لذا عجز أن يعد ابني زبدي بالملكوت (انظر متى 20/23)، ولما سماه أحدهم صالحاً قال: "لم تدعوني صالحاً؟ ليس أحد صالحاً إلا واحد، وهو الله" (لوقا 18/18-20).
وذكر بولس أن للمسيح شركاء "من أجل ذلك مسحك الله بزيت الابتهاج أكثر من شركائك" (عبرانيين 1/8-10). فهل هؤلاء شركاء له حتى في الألوهية؟
كما ثمة نصوص أفادت بأن المسيح عبد إلهاً غيره، وهو الله، يقول لوقا: "وفي تلك الأيام خرج إلى الجبل ليصلّي، وقضى الليل كله في الصلاة لله" (لوقا 6/12)، وقد ذكر الإنجيليون أنه صرخ إلى ربه مستغيثاً وناداه وهو على الصليب: " إلهي إلهي لماذا تركتني" (متى 27/46).
وقال للتلاميذ عن الله: " أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم" (يوحنا 20/17).
كما كان المسيح يعبد ربه ويصلي له، ومن ذلك صلاته ليلة أن جاء الجند للقبض عليه. (انظر متى 26/39)، فإذا كان هو الله فلمن كان يصلي؟ هل الله يصلي لله؟ وهل الله يدعو الله؟ ثم هل يستجيب الله لدعاء الله؟!
وقال للشيطان لما طلبه أن يسجد له: "مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد" (متى 4/10)، فهل كان يتحدث عن نفسه؟
كما تثبت النصوص تغايراً بين المسيح والله، وتذكر عشرات النصوص أن المسيح مرسل من الله والمرسَل غير المرسِل، منها "الكلام الذي تسمعونه ليس لي، بل للآب الذي أرسلني" (يوحنا 14/24)، ويقول المسيح أخرى: "أرسلتني إلى العالم…ليؤمن العالم أنك أرسلتني…" (يوحنا 17/21-24).
وأكد يوحنا المغايرة بين الآب والابن، وأنهما ليسا واحداً في قوله على لسان المسيح : "لم أتكلم من نفسي، لكن الأب الذي أرسلني، هو أعطاني وصية ماذا أقول، وبماذا أتكلم" (يوحنا 12/49)، فإذا كان الابن مساوياً للآب في كل شيء أو هو الآب نفسه، فلم كان الابن لا يتكلم من تلقاء نفسه، بل لابد له من موافقة الآب الذي أرسله وأعطاه وأوصاه بالكلام الذي ينبغي أن يقوله.
ومن النصوص التي أفادت المغايرة قول بولس عن المسيح: "الذي أقامه من الأموات" (كولوسي 2/12)، فالقائم من الموت غير الذي أقامه.
ويقول بولس: "نشكر الله أبا ربنا يسوع المسيح" (كولوسي 1/3)، فالأب ليس الابن، بل أبوه.
ويقول المسيح: "كما أحبني الأب" (يوحنا 15/9)، ويقول: " ليفهم العالم أني أحب الآب وكما أوصاني الآب " (يوحنا 14/31)، فالمحب غير المحبوب، والموصي غير الموصى.
ويقول: "ما سمعته من أبي" (يوحنا 1/15)، فالسامع ليس القائل.
ويؤكد الفرق بينه وبين الله، فيقول: "أبغضوني أنا وأبي" (يوحنا 15/24).
ومما يفيد أيضاً المغايرة بين الأقانيم الثلاثة قول بطرس: "يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة الذي جال يصنع خيراً" (أعمال 10/38)، فالله مسح عيسى بالروح القدس، فهم ثلاث شخصيات متمايزة منفصلة.
وجاءت نصوص تقول بأن المسيح بعد القيامة "ارتفع وجلس عن يمين الله" (مرقس 16/19). ويقول بولس: "المسيح جالس عن يمين الله" (كولوسي 3/1)، فالذي عن اليمين غير للذي عن شماله.
وقد قال لمريم: " وقولي لهم: إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم" (يوحنا 20/17)، فالصاعد غير الذي يصعد إليه.
كما أن هذه الغيرية تنطوي على عدم تساوٍ بين الله والمسيح، فقد قال المسيح: "أبي أعظم مني" (يوحنا 14/28)، وقال: "أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل" (يوحنا 10/29)، وقال: "الحق الحق أقول لكم: إنه ليس عبد أعظم من سيده، ولا رسول أعظم من مرسله" (يوحنا 13/26)، وقال: "الحق أقول لكم، لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل" (يوحنا 5/19).
وأكد بولس خضوع المسيح في النهاية لله فقال: " ومتى أخضع له الكل، فحينئذ الابن نفسه أيضاً سيخضع للذي أخضع له الكل، (أي لله) كي يكون الله الكل في الكل " (كورنثوس (1) 15/28)، فهو ولاشك دون الآب خاضع له، وليس هو الآب، فهل هذان أقنومان متساويان أم شخصان متغايران؟
كما يتغاير الابن عن روح القدس، ولا يتساويان، لذا يقول المسيح: "ومن قال كلمة عن ابن الإنسان يغفر له، وأما من قال عن روح القدس فلن يغفر له، لا في هذا العالم، ولا في العالم الآتي" (متى 12/32).
فدل النص على أن روح القدس أفضل من المسيح، وهو أيضاً مخالف لترتيب صيغة التثليث التي تقدم المسيح على الروح القدس.
ومما يؤكد المغايرة بين هذه الأقانيم وعدم تساويها تحريم الكنيسة تغيير ترتيب الثالوث كالقول باسم الروح القدس والابن والآب، إذ يعتبر هذا القول هرطقة، وقد كان قولاً شائعاً في أوربا في العصور الوسطى، وقد حاربته الكنيسة حتى اندثر؟ فمنع هذه الصيغة دال على عدم التساوي، والأمر بالمحافظة على الترتيب المشهور مشعر بأهمية بعض الأقانيم على بعض.
وأخيراً: الله ليس له شبيه ولا نظير، لا في السماء ولا في الأرض، لا المسيح ولا غيره "قال: أيها الرب إله إسرائيل، لا إله مثلك في السماء والأرض" (الأيام (2) 6/14)، وقال: " لأنه مَن في السماء يعادل الرب؟ من يشبه الرب بين أبناء الله؟" (المزامير 89/6).
استدلال النصارى بآيات من القرآن على ألوهية المسيح
يورد النصارى ويثيرون في وجه المسلمين شبهات زعموا فيها أن القرآن يصدق عقيدتهم وقولهم في المسيح، وأنه ابن الله. واستندوا في ذلك إلى متشابه الآيات التي فهموها وفق مرادهم، وإلى ما في الآيات الكريمة من ثناء على المسيح وأمه والحواريين والمؤمنين من النصارى.
وفي مواجهة شبهات النصارى واستدلالهم نذكر أنه ثمة آيات كثيرة تكفر النصارى، وتبين فساد عقيدتهم، منها قوله: ] لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم [ (المائدة: 17)، وقوله: ] لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصارٍ * لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثةٍ وما من إلهٍ إلا إلهٌ واحدٌ وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذابٌ أليمٌ [ (المائدة :72-73)، ومثله قوله: ]قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [( التوبة: 29).
وقد أنكر القرآن أشد النكير وأغلظه على أهل الكتاب من النصارى ادعاءهم أن المسيح بن مريم ولد الله ] وقالوا اتخذ الرحمن ولداً * لقد جئتم شيئاً إداً * تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً * أن دعوا للرحمن ولداً * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً * إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً [(مريم: 88-93) وقال: ] ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولدٍ سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون [ (مريم: 35-36).
وذكر القرآن عبودية المسيح في آيات كثيرة، ومنه قوله تعالى: ] إن هو إلا عبدٌ أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل [(الزخرف: 59)، ولما نطق في مهده عليه السلام صرح بهذه الحقيقة، فقال: ] قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً[ (مريم: 20)، ] ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون * إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراطٌ مستقيمٌ [ (الزخرف: 63-64).
وقال القرآن مصرحاً برسالته: ]ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون [( المائدة: 75).
وكان أهم ما تمسك النصارى وتعلقوا به في شبهتهم قول الله تعالى: ]فنفخنا فيه من روحنا[ (التحريم : 12). وقوله: ] إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه[ (النساء : 171).
فلقد فهموا من هذين النصين أن عيسى هو روح الله القائمة به، وهو كلمته أي كلامه جل وعلا، وهو تعلق غريق أعياه أن يجد في كتابه دليلاً يصرح بألوهية المسيح، فعمد إلى كتب غيره يحرف المعاني ويتنكب الحقائق.
والآية بتمامها تظهر بطلان استدلالهم ] يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً * لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً { (النساء: 171-172)، فتلحظ أن أول الآية وآخرها يكذب النصارى في استدلالهم، ويصرح بعبودية المسيح لله تبارك وتعالى.
والمسيح كلمة الله لأنه خلق بكلمة الله، فهو كلمة الله المخلوقة، وليس كلمة الله الخالقة، التي هي أمر التكوين كن، وهذا ما ذكره وبينه القرآن الكريم، حين شبه خلق المسيح ووجوده بخلق آدم ] إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثم قال له كن فيكون { (آل عمران: 59)، وفي آية أخرى: ] قالت رب أنى يكون لي ولدٌ ولم يمسسني بشرٌ قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون { (آل عمران:47 ) فصرحت الآية أنه مخلوق بكلمة الله.
وسبب اختصاص المسيح بهذا الاسم الكريم أنه ليس للمسيح سبب بشري قريب من جهة أبيه ينسب إليه كما الناس، لذا نسب إلى سببه القريب، وهو تخليقه بكلمة الله، التي تخلّق وفق أمرها.
وقد يكون المقصود أنه يحمل كلمة الله ، كما في العهد الجديد: " وكانت كلمة الله تنمو، وعدد التلاميذ يتكاثر جداً " (أعمال 6/7).
وأما قوله ]فنفخنا فيه من روحنا[ فالمراد بالروح منه جبريل عليه السلام، كما سماه الله عز وجل في آية أخرى: ] وأيدناه بروح القدس[ (البقرة: 87).
والمسيح إنما خلق بنفحة منه } فنفحنا فيها من روحنا[ (الأنبياء: 91).
وهذا المعنى هو ما ورد في حق آدم أيضاً ] ونفخت فيه من روحي [(الحجر: 29) فهي إضافة تشريف وتكريم، ولو أوجبت هذه الإضافة معنىً خارجاً عن الإنسانية لكان آدم أولى بذلك.
وهذا معهود في لغة العرب كقول القائل: (خذ طرفك) يريد الكرسي الذي تجلس عليه أو الحذاء الذي يحملك، فجعله طرفاً للحامل، وكذلك فينسب كل روح لله، لأنه جل وعلا سببها وخالقها.
ويدل أيضاً على هذا الاستعمال للفظ الروح بمعنى الملائكة قوله تعالى: ]وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا [ (الشورى: 52)، ومثله قول موسى: " قال له موسى: هل تغار أنت لي، يا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء، إذا جعل الرب روحه عليهم" (العدد 11/29)، ويقول : " يقول الله: ويكون في الأيام الأخيرة إني أسكب من روحي على كل بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويرى شبابكم رؤى ويحلم شيوخكم أحلاماًً" (أعمال 2/17).
وهكذا فإن القرآن كما العهد الجديد متفقان على أن المسيح عبد الله ورسوله المجتبى إلى بني إسرائيل، وهو عليه الصلاة والسلام النبي المؤيد بالمعجزات الباهرات الدالة على نبوته عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم..
ألوهية الروح القدس
الروح القدس هو ثالث أطراف الثالوث الأقدس عند النصارى، فمن هو الروح القدس؟ وما أدلة النصارى على تأليهه؟
في عام 381م وبأمر الامبرطور تاؤديوس انعقد مجمع القسطنطينية للنظر في قول الأسقف مكدونيوس أسقف القسطنطينية الأريوسي، والذي كان ينكر ألوهية الروح القدس ويقول بما تقوله الأسفار عن الروح القدس: "إن الروح القدس عمل إلهي منتشر في الكون، وليس أقنوماً متميزاً عن الأب و الابن"، وكان يقول عنه: إنه كسائر المخلوقات، ويراه خـادماً للابن كأحد الملائكة.
وقد حضر المجمع مائة وخمسون أسقفاً، وقرروا حرمان مكدونيوس وتجريده من وظائفه الكنسية، واتخذوا أحد أهم قرارات المجامع الكنسية، وهو تأليه الروح القدس ، واعتبروه مكملاً للثالوث الأقدس، وقالوا: "ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله، و ليس الله شيئاً غير حياته، فإذا قلنا أن روح القدس مخلوق فقد قلنا: إن الله مخلوق".
يتعلق النصارى في تأليه الروح القدس بما جاء في إنجيل يوحنا: "إن الله روح" (يوحنا 4/24)، كما يرونه الروح الموجودة منذ بدء الخليقة "في البدء خلق الله السماوات والأرض…وروح الله يرف على وجه الماء" (التكوين 1/1-2)، وكذا كثير من النصوص يتحدث عن الروح أو روح الله أو الروح القدس.
يقول القس ياسين منصور: " إن الروح القدس هو الله الأزلي ، فهو الكائن منذ البدء قبل الخليقة، وهو الخالق لكل شيء، والقادر على كل شـيء، والحاضر في كل مكان، وهو السرمدي غير المحدود ".
ويقـول في موضع آخـر: "إن الروح القدس هو الأقنوم الثالث في اللاهوت، وهو ليس مجرد تأثير أو صفة أو قوة، بل هو ذات حقيقي، وشخص حي، وأقنوم متميز، ولكنه غير منفصل، وهو وحدة أقنومية غير أقنوم الآب، وغـير أقنوم الابن ، ومسـاوٍ لهما في السـلطان والمقـام، ومشترك وإياهما في جوهر واحد ولاهوت واحد".
نقض أدلة ألوهية الروح القدس
ومن المهم أن نقرر أن روح القدس في الكتاب المقدس من أغمض المصطلحات الكتابية، وهو على أية حال لا يتفق مع المعنى الذي قدمه مجمع القسطنطينية، فقد ورد هذا الإطلاق في الكتاب المقدس على معان متعددة:
1- الروح الإنسانية التي يخلقها الله في الأحياء، فهي روح الله المخلوقة فيهم "وإلى أرواح أبرار مكملين " (عبرانيين 12/ 23) ، ونحوه قول يعقوب: " الجسد بدون روح ميت " ( يعقوب 2/26)، وهي النفخة التي أحيت هيكل آدم "ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفساً حياً" (التكوين 2/7).
2- الوحي الذي تأتي به الملائكة إلى الأنبياء ومنه: "داود قال بالروح القدس" (مرقس 12/36)، ومثله "وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس" (لوقا 1/67)، بطرس: " أيها الرجال الإخوة، كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب الذي سبق الروح القدس فقاله بفم داود " (أعمال 1/16)، وقد سمى الله الأنبياء وما يأتون به من الوحي روح القدس فقال موبخاً لبني إسرائيل: " يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان، أنتم دائماً تقاومون الروح القدس،كما كان آباؤكم كذلك أنتم، أيُّ الأنبياء لم يضطهده آباؤكم؟!" (أعمال 7/51).
3- كما يطلق على ما يعطيه الله من تأييد وفهم وحكمة لغير الأنبياء، وقد يكون بواسطة الملائكة وسواهم، ومنه قول فرعون لعبيده، وهو يبحث عن رجل حكيم: "هل نجد مثل هذا رجلاً فيه روح الله" (التكوين 41/38). وكذا "كان الرجل في أورشليم اسمه سمعان، وهذا الرجل كان باراً تقياً ينتظر تعزية إسرائيل، والروح القدس كان عليه" (لوقا 2/25)، وكذلك أيد روح القدس التلاميذ في اليوم الخمسين "فامتلأ الجميع من الروح القدس، وابتدؤوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا" (أعمال 2/4)، ومثله قول حجي: "روحي قائم في وسطكم. لا تخافوا" (حجي 2/5).
4- الرياح الشديدة، ومنه قول التوراة وهي تصف الريح المدمرة: "يبس العشب، ذبل الزهر، لأن روح الرب هب عليه" (إشعيا 40/7).، وهو ينطبق على ما جاء في مقدمة سفر التكوين "وروح الله يرف على وجه الماء" (التكوين 1/1-2)، فإن في ترجمته لبساً أوهم هذا الخلط، فالنص كما ينقل الناقد الكبير اسبينوزا عن مفسري اليهود، يقصد منه رياح عظيمة أتت من عند الله، فبددت ظلمات الغمر.
ونسبة الروح لله في هذين النصين نسبة تعظيم، لا تأليه، كقوله: "جبال الله" (المزمور 36/6)، وهي ليست أقانيم بالاتفاق.
لكن جميع المعاني التي ذكرناها قبلُ للروح القدس غير مرادة عند مؤلهي روح القدس، الذين لا يوافقون على كونه مجرد قوة أو تأثير أو ملاك من الله، فيقول ياسين منصور: "هو الأقنوم الثالوث في اللاهوت، وليس مجرد تأثير أو صفة أو قوة، بل هو ذات حقيقي، وشخص حي، وأقنوم متميز، ولكنه غير منفصل، وهو وحدة أقنومية غير أقنوم الأب وغير أقنوم الابن، وهو مساو لهما في السلطان والمقام، ومشترك وإياهما في جوهر واحد ولاهوت واحد"، وبالطبع هذه الذات التي يتحدثون عنها ليست ملاكاً من الملائكة، بل هي أحد أقانيم الإله.
وتتحدث الأسفار عن تجسدات الروح القدس، منها نزوله على شكل حمامة على المسيح وهو يصلي " نزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة" (لوقا 3/22)، فهل كانت تلك الحمامة إلهاً؟
وفي مرة أخرى أتى على شكل ألسنة نارية، وذلك حين حل على التلاميذ يوم الخمسين "وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت في كل واحد منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس" (أعمال 2/1-4).
ويغمض النصارى الطرف عن النصوص التي صرحت بأن الروح القدس هو جبريل عليه السلام أو سواه من الملائكة، فقد جاء الروح إلى كرنيليوس وبطرس، وهو ملاك " قال له الروح: هوذا ثلاثة رجال يطلبونك. لكن قم وانزل واذهب معهم غير مرتاب في شيء، لأني أنا قد أرسلتهم. فنزل بطرس إلى الرجال الذين أرسلوا إليه من قبل كرنيليوس .. فقالوا: إن كرنيليوس.. أوحي إليه بملاك مقدس أن يستدعيك إلى بيته، ويسمع منك كلاماً" (أعمال10/20-22)، فالملاك المقدس هو الروح الذي كلم بطرس، وهو الذي طلب من كرنيليوس أن يرسل رجاله إلى بطرس.
وعدو بني إسرائيل من الملائكة جبريل عليه السلام، فهو الروح القدس الذي خلص بني إسرائيل مراراً، ثم لما أصروا على كفرهم عذبهم وغضب عليهم، وتحول إلى عدو لهم، يقول إشعيا: "وملاك حضرته خلصهم، بمحبته ورأفته هو فكّهم، ورفعهم وحملهم كل الأيام القديمة، ولكنهم تمردوا وأحزنوا روح قدسه، فتحول لهم عدواً، وهو حاربهم" (إشعيا 63/8-10) فقد أحزنوا ملاك حضرته، الروح القدس فتحولت محبته لهم إلى عداوة.
وروح الله ليس اسماً خاصاً بجبريل، بل يطلق على غيره من الملائكة "ورأيت فإذا في وسط العرش والحيوانات الأربعة، وفي وسط الشيوخ خروف قائم كأنه مذبوح، له سبعة قرون وسبع أعين هي سبعة أرواح الله، المرسلة إلى كل الأرض" (الرؤيا 5/6)، فالأرواح التي رآها يوحنا ليست آلهة، وإلا تحول الثالوث النصراني إلى عاشور!!
وقد تكرر الحديث عن أرواح الله السبعة في سفر الرؤيا في موضعين آخرين، حيث قال: "ومن العرش يخرج بروق ورعود وأصوات، وأمام العرش سبعة مصابيح نار متّقدة، هي سبعة أرواح الله " (الرؤيا 4/5)، ويقول: "واكتب إلى ملاك الكنيسة التي في ساردس. هذا يقوله الذي له سبعة أرواح الله، والسبعة الكواكب.. " (الرؤيا 3/1).
الروح القدس ليس بإله، ولو كان إلهاً لاستقل بالفعل بنفسه، لكنه لم يكن كذلك، يقول بطرس: "الروح القدس دفع بعض الناس أن يتكلموا بكلام من عند الله" (بطرس (2) 1/21)، فلو كان الروح القدس إلهاً أزلياً مساوياً للآب في كل شيء، لدفع الناس أن يتكلموا بكلام من عنده هو.
ومما يدفع ألوهيته أن النصوص تجعله هبة من الله يعطيها لأوليائه، كما قال المسيح: "فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري الآب الذي من السماء، يعطي الروح القدس للذين يسألونه " (لوقا 11/13)، إذ لا يعقل أن يكون الله العظيم ممثلاً بأقنومه الثالث هدية تهدى ويمتلكها بعض البشر.
ولو كان الروح القدس إلهاً لوجب القول بألوهية أولئك الذين يحل عليهم، فقد حل على كثيرين، منهم داود حيث "استوت روح الرب على داود" (الملوك (1) 6/13)، وأيضاً "سمعان عليه روح القدس" (لوقا 2/25)، وحل الروح القدس على مريم " وقال لها: الروح القدس: يحل عليكِ، وقوة العلي تظللك" (لوقا 1/35)، وأحبلها عيسى، فقد " وجدت حبلى من الروح القدس" (متى 1/18).
وكذا حل على التلاميذ " لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم، وتكونون لي شهوداً" (أعمال 1/8)، فصاروا يتكلمون بالروح القدس "فمتى ساقوكم ليسلموكم فلا تعتنوا من قبل بما تتكلمون ولا تهتموا، بل مهما أعطيتم في تلك الساعة فبذلك تكلموا، لأن لستم أنتم المتكلمين، بل الروح القدس " (مرقس 13/11). فهؤلاء جميعاً يستحقون العبادة لو كان الإله قد حل فيهم، وامتلأوا منه.
وأما ما يتعلق به النصارى على ألوهية روح القدس في قوله: "إن الله روح" (يوحنا 4/24)، إذ مقصود يوحنا أن الله روح، أي لا يرى، إذ ليس هو جسداً مادياً مكوناً من لحم وعظم، وقد ورد عن لوقا ما يؤكد صحة هذا الفهم: "والروح ليس له لحم أو عظام" (لوقا 24/39).
وهكذا يرى المحققون أن الروح القدس هو الآخر ليس بإله، وأن التثليث صياغة بشرية قامت بها المجامع بأهواء البابوات والأباطرة، من غير أن تستند إلى دليل يؤكد أصالة هذا المعتقد، الذي لم يسمع به الأنبياء ولم يذكره المسيح ولم يعرفه الحواريون.
وقد صدقت الموسوعة الكاثوليكية الحديثة حين قالت: "إن صياغة الإله الواحد في ثلاثة أشخاص لم تنشأ موطدة وممكنة في حياة المسيحيين وعقيدة إيمانهم قبل نهاية القرن الرابع".
أدلة النصارى على عقيدة التثليث
من الطبيعي والمتوقع ونحن نتحدث عن أهم عقائد النصرانية، أي التثليث أن نجد ما يؤصله في عشرات النصوص الواردة على لسان الأنبياء ثم المسيح ثم تلاميذه من بعده.
لكن التصفح الدقيق لما بين دفتي الكتاب المقدس يكشف لنا غياب الدليل الصريح الذي نبحث عنه، في العهد القديم، وأيضاً في الجديد، ولم العجلة في إصدار الأحكام، هلم نتأمل ما جاء في الكتاب المقدس من تأصيل لهذا المعتقد الهام.
النصوص التوراتية وعقيدة التثليث
تعلق النصارى ببعض النصوص التوراتية، وزعموا أنها إشارات ورموز إلهية إلى التثليث، منها استخدام بعض النصوص التوراتية صيغة الجمع العبري (ألوهيم) عند الحديث عن الله كما في مقدمة سفر التكوين "في البدء خلق الله السماء والأرض" (التكوين 1/1)، وفي النص العبري "ألوهيم" أي: (الآلهة)، ومثله في استخدام ما يدل على الجمع في أفعال منسوبة لله، كقول التوراة أن الله قال: "هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم" (التكوين 11/7).
ومن الإشارات التوراتية أيضاً لتثليث الأقانيم قول الملائكة: "قدوس، قدوس، قدوس، رب الجنود" (إشعيا6/3)، فقد كرر ذكر كلمة قدوس ثلاث مرات، ومثله قالت الحيوانات التي رآها يوحنا في رؤياه: "قدوس، قدوس، قدوس، الرب الإله القادر على كل شيء" (الرؤيا 4/8).
نقد النصوص التوراتية
بداية يعترف النصارى بأن ليس في هذه النصوص ما نستطيع أن نعتبره دليلاً صريحاً على التثليث الذي تنقضه النصوص التوحيدية الصريحة، كما لم يفهم سائر قراء العهد القديم - من لدن الأنبياء الأوائل لبني إسرائيل - شيئاً عن تلك التي يعتبرها النصارى إشارات على التثليث.
ويعترف بذلك القس بوطر، فيقول: "بعدما خلق الله العالم، وتوج خليقته بالإنسان لبث حيناً من الدهر لا يعلن له سوى ما يختص بالوحدانية، كما تبين ذلك من التوراة، على أنه لا يزال المدقق يرى بين سطورها إشارات وراء الوحدانية، لأنك إذ قرأت فيها بإمعان تجد هذه العبارات "كلمة الله" أو "حكمة الله" أو "روح الله" ولم يعلم من نزلت إليهم التوراة إلا في ضوء الإنجيل المعنى المراد ... فما لمحت إليه التوراة صرح به الإنجيل"، وهنا يتساءل المرء لم ألغز الله تثليث أقانيمه عن موسى وبني إسرائيل، ولم كان سبب ضلالهم بما أورده لهم من نصوص موحدة، جعلتهم يحاربون عقيدة التثليث ويرفضونها، وهل سيغفر لهم ولغيرهم أنهم لم يهتدوا إلى حقيقة المراد من هذه الألغاز.
ونظر المحققون فيما أسمته النصارى إشارات التوراة، فوجدوها محض تمحل لا تقبله الأذواق السليمة، ولا ترتضيه دلالات الكلام وتناسق السياق.
إن غاية ما يمكن أن تدل عليه هذه النصوص تعدد الآلهة، من غير تحديد لها بالتثليث أو التربيع أو غيره.
والجمع الوارد في مثل قوله: (ألوهيم، هلم، ننزل، ونبلبل) هو جمع تعظيم لا يفيد الكثرة، وقد اعتادت الأمم التعبير عن عظمائها باستخدام جمع التعظيم، فيقول الواحد: نحن، ورأينا، وأمرنا، ومقصده نفسه، ولا يفهم منه مستمع أنه يتحدث عن ذاته وأقانيمه الأخرى.
واستخدام صيغة الجمع للتعظيم لا العدد معروف حتى في الكتاب المقدس، وله صور منها قصة المرأة العرافة التي رأت روح صموئيل بعد وفاته، فعبرت عنه باستخدام صيغة الجمع، تقول التوراة: "فلما رأت المرأة صموئيل صرخت بصوت عظيم..فقالت المرأة لشاول: رأيت آلهة يصعدون من الأرض، فقال لها: ما هي صورته؟ فقالت: رجل شيخ صاعد، وهو مغطي بجبّة. فعلم شاول أنه صموئيل" (صموئيل (1) 28/12-14)، فقد كانت تتحدث عن صموئيل، لقد رأته على هيئة رجل شيخ، وتستخدم مع ذلك صيغة الجمع (آلهة)، فالجمع لا يفيد العدد بالضرورة، بل هو جمع التعظيم.
وعندما عبد بنو إسرائيل العجل، وهو واحد سمته التوراة آلهة مستخدمة صيغة الجمع في ثلاثة مواضع، تقول: "فأخذ ذلك من أيديهم وصوّره بالإزميل، وصنعه عجلاً مسبوكاً، فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر ... صنعوا لهم عجلاً مسبوكاً، وسجدوا له، وذبحوا له، وقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر" (الخروج 32/4-8).
ويمضي السفر ليؤكد ثالثة أصالة استعمال الجمع الذي يراد منه الواحد، فيقول: "رجع موسى إلى الرب، وقال: آه قد أخطأ هذا الشعب خطية عظيمة، وصنعوا لأنفسهم آلهة من ذهب" (الخروج 32/31).
ومثله تجد هذا الاستخدام شائعاً في لغة العرب، كما في قول الله: ]إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون[ (الحِجر: 9)، فالمقصود هو الله الواحد العظيم.
وأما التكرار ثلاث مرات في قول الملائكة أو حيوانات رؤيا يوحنا وأمثال ذلك، فلا يصلح في الدلالة في شيء. فلو اطرد الاستدلال على هذه الكيفية فلسوف نرى تربيعاً وتخميساً وغير ذلك من التعداد للآلهة، فلئن وردت كلمة "قدوس" مثلثة مرتين في الكتاب المقدس، فإنها وردت مفردة نحو أربعين مرة، وإنما يراد من التكرار التأكيد فحسب، كما في نصوص إنجيلية وتوراتية كثيرة، منها قول اليهود: " فصرخوا قائلين: اصلبه، اصلبه" (لوقا 23/21)، ونحوه في سؤال المسيح لبطرس، فقد كرره ثلاث مرات " فبعدما تغدوا قال يسوع لسمعان بطرس: يا سمعان بن يونا أتحبني أكثر من هؤلاء؟ قال له: نعم يا رب، أنت تعلم أني أحبك ... قال له أيضاً ثانية: يا سمعان بن يونا أتحبني؟...قال له ثالثة: يا سمعان بن يونا أتحبني؟ فحزن بطرس لأنه قال له ثالثة: أتحبني" (يوحنا 21/15-17).
النصوص الإنجيلية وعقيدة التثليث
ويعتقد النصارى أن ثمة أدلة على التثليث في أسفار العهد الجديد أصرح وأوضح من تلك التي وردت في التوراة، منها أنه " لما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة، وآتياً عليه، وصوت من السماء قائلاً: هذا هو ابني الحبيب والروح الذي سررت به" (متى 3/16-17).
فقد جمع النص الآب والابن الحبيب والروح النازل مثل الحمامة. ومثله يقول بولس: "بنعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس مع جميعكم. آمين" (كورنثوس (2) 13/14).
لكن المتأمل في نص متى يرى ثلاث ذوات تمايزت بالأسماء والأعمال، فكيف بعد ذلك يقال عنها بأنها وحدة واحدة.
ثم إن النصارى يقولون بحلول الابن في عيسى، وهنا يتحدث النص عن حلول الروح عليه، وفي مواضع أخرى أكد ذلك. (انظر لوقا 3/22، متى 12/18)، فيما جاءت مواضع أخرى تتحدث عن حلول الله الأب فيه. (انظر يوحنا 17/21، 14/9-10)، فأي الأقانيم إذاً الحال في المسيح.
ولم يرد في الكتاب المقدس ذكر عناصر التثليث الثلاث جنباً إلى جنب إلا في نصين فقط، وهما نص الشهود الثلاثة في رسالة يوحنا الأولى، وخاتمة إنجيل متى.
الاستدلال بنص الشهود الثلاثة على التثليث
وهو أهم النصين وأصرحهما، وهو ما جاء في رسالة يوحنا الأولى في قول يوحنا: "فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الآب والكلمة والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم الواحد" (يوحنا (1) 5/7).
فهذا النص صريح في جعل الثلاثة إلهاً واحداً، غير أنه غير موجود في سائر المخطوطات القديمة للكتاب المقدس، بل وغير موجود حتى في أول نص مطبوع، فقد أضيف لاحقاً، وقد اعترف بإضافته علماء النصرانية ومحققوها ومنهم هورن، وجامعو تفسير هنري واسكات، وآدم كلارك، وفندر، وخلت ردود القديس أكستاين (ق4) من هذا النص على الرغم من مناظرته لفرقة ايرين المنكرة للتثليث، كما قد كتب عشر رسائل في شرح رسالة يوحنا لم يذكر في أيها هذا النص.
وقد حذفته النسخة القياسية المنقحة ( R S V ) من نسختها الإنجليزية، كما حذفته بعض التراجم العالمية، وما يزال موجوداً في غالب التراجم، ومنها العربية، يقول بنيامين ولسن مترجم المخطوطات اليونانية: "إن هذه الآية التي تشمل على الشهادة بالألوهية غير موجودة في أي مخطوط إغريقي مكتوب قبل القرن الخامس عشر، إنها لم تذكر بواسطة أي كاتب إكليركي (إغريقي) أو أي من الآباء اللاتينيين الأولين حينما يكون الموضوع الذي يتناولونه يتطلب بطبيعته الرجوع إليها، لذلك فهي بصراحة مختلقة".
نقد الاستدلال بخاتمة متى على التثليث
وأما النص الثاني فهو ما جاء في خاتمة متى من أن المسيح قبيل صعوده إلى السماء "كلمهم قائلاً: دفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن وروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر. آمين" (متى 28/ 18-20).
وأول نقد يتوجه لهذه الفقرة أنها رغم أهميتها لم ترد في الأناجيل الثلاثة الأخرى التي اتفقت على إيراد قصة دخول المسيح أورشليم راكباً على جحش. فهل كان ركوبه على جحش أهم من ذكر التثليث، فلم يذكره سوى متى؟
بل إن خاتمة إنجيل مرقس حين نقلت ذات الوصية التي أوصاها للتلاميذ لم تذكر صيغة التثليث التي انفرد بذكرها متى، حيث يقول مرقس: "وقال لهم: اذهبوا إلى العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدن" (مرقس 16/15)، وهذا دال على إلحاقية نص التثليث وعدم أصالتها.
وهذه الفقرة دخيلة بدليل قول علماء الغرب أيضاً، يقول ويلز: "ليس دليلاً على أن حواريي المسيح اعتنقوا التثليث".
ويقول أدولف هرنك: "صيغة التثليث هذه التي تتكلم عن الآب والابن والروح القدس، غريب ذكرها على لسان المسيح، ولم يكن لها وجود في عصر الرسل …كذلك لم يرد إلا في الأطوار المتأخرة في من التعاليم النصرانية ما يتكلم به المسيح وهو يلقي مواعظ ويعطي تعليمات بعد أن أقيم من الأموات، إن بولس لا يعلم شيئاً عن هذا "، إذ هو لم يستشهد بقول ينسبه للمسيح يحض على نشر النصرانية بين الأمم.
ويؤكد تاريخ التلاميذ عدم معرفتهم بهذا النص، إذ لم يخرجوا لدعوة الناس كما أمر المسيح، ثم لم يخرجوا من فلسطين إلا حين أجبرتهم الظروف على الخروج "وأما الذين تشتتوا من جراء الضيق الذي حصل بسبب استفانوس، فاجتازوا إلى فينيقية وقبرص وأنطاكيا، وهم لا يكلمون أحداً بالكلمة إلا اليهود فقط" (أعمال 11/19)، ولو كانوا سمعوا المسيح يأمرهم بدعوة الأمم باسم الآب والابن والروح القدس، لخرجوا امتثالاً لقوله، من غير إكراه، ولبشروا الأمم بدعوته.
ولما حدث أن بطرس استدعي من قبل كرنيليوس الوثني ليعرف منه دين النصرانية، ثم تنصر على يديه. لما حصل ذلك لامه التلاميذ فقال لهم: "أنتم تعلمون كيف هو محرم على رجل يهودي أن يلتصق بأحد أجنبي أو يأتي إليه، وأما أنا فقد أراني الله أن لا أقول عن إنسان ما أنه دنس أو نجس" (أعمال 10/28)، لكنه لم يذكر أن المسيح أمرهم بذلك، بل قال: "نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات، وأوصانا أن نكرز للشعب" (أعمال10/42)، أي لليهود فقط.
وعليه فبطرس لا يعلم شيئاً عن نص متى الذي يأمر بتعميد الأمم باسم الأب والابن والروح القدس. ولذلك اتفق التلاميذ مع بولس على أن يدعو الأمميين، وهم يدعون الختان أي اليهود، يقول بولس: "رأوا أني أؤتمنت على إنجيل الغرلة (الأمم)كما بطرس على إنجيل الختان … أعطوني وبرنابا يمين الشركة لنكون نحن للأمم، وأما هم فللختان" (غلاطية 2/7-9)، فكيف لهم أن يخالفوا أمر المسيح - لو كان صحيحاً نص متى - ويقعدوا عن دعوة الأمم، ثم يتركوا ذلك لبولس وبرنابا فقط؟
وجاءت شهادة تاريخية تعود للقرن الثاني مناقضة لهذا النص، إذ يقول المؤرخ أبولونيوس : "إني تسلمت من الأقدمين أن المسيح قبل صعوده إلى السماء كان قد أوصى رسله أن لا يبتعدوا كثيراً عن أورشليم لمدة اثنتي عشرة سنة".
فكل هذه الشواهد تكذب نص متى، وتؤكد أنه نص مختلق لا تصح نسبته للمسيح.
ثم عند غض الطرف عن ذلك كله، فإنه ليس في النص ما يسلم بأنه حديث عن ثالوث أقدس اجتمع في ذات واحدة، فهو يتحدث عن ثلاث ذوات متغايرة، قرن بينها بواو عاطفة دلت على المغايرة، والمعنى الصحيح لخاتمة متى : "اذهبوا باسم الله ورسوله عيسى والوحي المنزل عليه بتعاليم الله عز وجل".
ولهذه الصيغة الواردة في متى مثل لا يصرفه النصارى للتثليث، فقد جاء في بعض رسالة بولس إلى تيموثاوس: "أناشدك أمام الله والرب يسوع المسيح والملائكة المختارين…" (تيموثاوس (1) 5/21) فإن أحداً لم يفهم من النص ألوهية الملائكة أو أنهم الأقنوم الثالث، ويقال في نص متى ما يقال في نص بولس.
ويشبهه ما جاء سفر الخروج من دعوة بني إسرائيل للإيمان بالله وبموسى من غير أن يفهم تساوي المعطوفين في قوله: "فخاف الشعب الرب، وآمنوا بالرب وبعبده موسى" (الخروج 14/31).
وهذا الأسلوب في التعبير معهود في اللغات والكتب، وقد نزل في القرآن مثله ] يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل[ (النساء: 136) وغير ذلك من الآيات القرآنية.
نقد عقيدة التثليث
وإذا لم نجد للتثليث دليلاً صريحاً واحداً ينهض للاستدلال، فهل ترانا نجد لنقيضه، وهو التوحيد دليلاً في ثنايا الكتاب المقدس؟
إن المتأمل في الأسفار المقدسة يرى بوضوح غرابة دعوة التثليث وتسطع أمامه أصالة التوحيد في النصرانية وبهاؤه، فقد دلت عليه عشرات النصوص الصريحة الناصعة في وضوحها، والتي تؤكد بأن معتقد المسيح وتلاميذه، ومن قبلهم أنبياء الله هو توحيد الله عز وجل.
النصوص الموحدة في العهد القديم
تتلألأ دعوة التوحيد في العهد القديم، وتنطق بها النبوات، وتكثر حولها وصاياهم، وتتسابق النصوص، وهي تؤكد أصالة هذا المعتقد، منها:
- ما جاء في سفر التثنية من وصايا موسى التي كتبها الله لموسى على لوحي الحجر، وأمر بني إسرائيل بحفظها، وجاء المسيح بعده فأكد عليها "اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا واحد، فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك، ولتكن هذا الكلمات التي أوصيك بها اليوم على قلبك، وقُصّها على أولادك، وتكلم بها حين تجلس في بيتك، وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم، واربطها علامة على يديك، ولتكن عصائب بين عينيك، واكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك" (التثنية 6/4-9).
- " أنا هو الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي" (التثنية 5/6).
- ومنها وصية الله لموسى وبني إسرائيل: " أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر، من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً، ولا صورة ما، مّما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض" (الخروج 20/2-4).
- وفي سفر الملوك: "ليعلم كل شعوب الأرض أن الرب هو الله، وليس آخر" (الملوك (1) 8/60).
- وجاء في مزامير داود: "كل الأمم الذين صنعتهم يأتون ويسجدون أمامك يا رب ويمجدون اسمك، لأنك عظيم أنت، وصانع العجائب. أنت الله وحدك" (المزمور 86/9-10) هو وحده الله، وليس يشاركه في اسمه أو ألوهيته أحد، بما في ذلك المسيح عليه السلام.
- وجاء في إشعيا: "يقول الرب:…قبلي لم يصور إله، وبعدي لا يكون. أنا أنا الرب، وليس غيري مخلص، أنا أخبرت وخلصت …" (إشعيا 43/10-12).
- و"أيها الرب إلهنا خلصنا من يده، فتعلم ممالك الأرض كلها أنك أنت الرب وحدك" (إشعيا 37/20).
- "أنا الرب صانع كل شيء، ناشر السماوات وحدي باسط الأرض، من معي؟!" (إشعيا 44/ 24)، فأين هذا ممن جعل الواحد ثلاثة، وأوكل الخلق إلى غيره؟
- "أنا الرب وليس آخر، لا إله سواي" (إشعيا 45/5).
- وجاء في نبوة إشعيا أيضاً " يقول الرب ملك إسرائيل وفاديه رب الجنود: أنا الأول وأنا الآخر، ولا إله غيري. ومن مثلي ينادي، فليخبر به ويعرضه لي.. هل يوجد إله غيري، ولا صخرة لا أعلم به" (إشعيا 44/6-9).
- ومثله كثير في أسفار العهد القديم. (انظر ملاخي 2/10، الملوك (1) 8/27، …).
النصوص الموحدة في العهد الجديد
وكذا جاءت أسفار العهد الحديد تؤكد تفرد الخالق بالألوهية والربوبية، وتذكر ذلك على لسان المسيح وحواريه.
- يقول المسيح: " ولا تدعوا لكم أباً على الأرض لأن أباكم واحد، الذي في السماوات. ولا تدعوا معلمين، لأن معلمكم واحد، المسيح" (متى 22/9-10).
- ومن ذلك أيضاً ما جاء في متى: " وإذا واحد تقدم وقال له: أيها المعلم الصالح، أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية؟ فقال له: لماذا تدعوني صالحاً، ليس أحد صالحاً إلا واحد، وهو الله" (متى 19/17).
- وكذا قول يوحنا " كلم يسوع بهذا، ورفع عينيه نحو السماء وقال: أيها الآب قد أتت الساعة، مجد ابنك ليمجدك ابنك أيضاً، إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد، ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته، وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يوحنا 17/2-3)، فليس من إله على الحقيقة إلاواحد، وهو الله تعالى، سبحانه.
- ولما جرب الشيطان يسوع وقال له: " أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي، حينئذ قال له يسوع: اذهب يا شيطان. لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد" (متى 4/10، ومثله في لوقا 4/8).
- وقال المسيح لليهود: "أنتم تعملون أعمال أبيكم.فقالوا له: إننا لم نولد من زنا. لنا أب واحد، وهو الله. فقال لهم يسوع: لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني، لأني خرجت من قبل الله وأتيت، لأني لم آت من نفسي، بل ذاك أرسلني" (يوحنا 8/41-42).
- والتوحيد معتقد تلاميذ المسيح وتلاميذهم، كما نقل عنهم ذلك العهد الجديد مراراً
- ومنه ما جاء على لسان التلميذ يعقوب: "أنت تؤمن أن الله واحد. حسناً تفعل" (يعقوب 2/19)، وأما القول بألوهية غير الله فليس من الحسن في شيء.
- ويقول: "واحد هو واضع الناموس القادر أن يخلص ويهلك" (يعقوب 4/12).
- ويقول يهوذا: "الإله الحكيم الوحيد مخلصنا" (يهوذا 25).
- بل وحتى بولس نجد له بعض النصوص التي تعترف لله بالوحدانية، ومن ذلك قوله: "يوجد إله واحد ووسيط بين الله والناس: الإنسان يسوع المسيح" (تيموثاوس (1) 2/5) إله واحد، له رسول واحد يبلغ الله من خلاله وحيه وهديه، هذا الرسول هو الإنسان يسوع.
- ويقول واصفاً الله بالوحدانية وغيرها من صفات الجلال والكمال: " المبارك العزيز الوحيد ملك الملوك ورب الأرباب، الذي وحده له عدم الموت، ساكناً في نور، لا يدنى منه، الذي لم يره أحد من الناس، ولا يُقدر أن يراه، الذي له الكرامة والقدرة الأبدية" (تيموثاوس (1) 6/15-16).
- ويقول: "لكن الله واحد" (غلاطية 3/20).
فهذه النصوص وكثير مثلها تتحدث عن الإله الواحد، وليس في واحد منها أو غيرها حديث عن الإله المتعدد الأقانيم المتوحد في الجوهر الذي يدعيه النصارى.
التثليث سر لا يطيقه العقل
وإزاء هذا التناقض بين قرارات المجامع المثلثة والنصوص الموحدة كان لابد أن يعمل النصارى عقولهم على جمع هذه المتناقضات التي يستحيل تصورها معاً، وعلى تفهيم البشر قضية الثلاثة الذين هم واحد، والواحد الذي هو ثلاثة.
وأمام ضعف هذه العقيدة وعجز العقل البشري عن تصورها، بل رفضه لها لا يجد النصارى من سبيل إلا القول بأن تثليثهم سر من الأسرار التي لا يمكن للعقل أن يقف على كنهها، بل يعترف البعض منهم بتعارض المسيحية والعقل فيقول القديس سان أوغسطين : "أنا مؤمن، لأن ذلك لا يتفق والعقل".
ويقول كير كجارد: "إن كل محاولة يراد بها جعل المسيحية ديانة معقولة لابد أن تؤدي إلى القضاء عليها".
و قد جاء في "التعليم المسيحي" : لا يجوز التدخل في أسرار الله، لأننا لا نستطيع إدراك أسرار الإيمان.
ويقول زكي شنودة: "و هذا سر من أسرار اللاهوت الغامضة التي لا يمكن إدراك كنهها بالعقل البشري".
ويقول الأب جيمس تد: "العقيدة المسيحية تعلو على فهم العقل".
ويقول القس أنيس شروش: " واحد في ثلاثة، وثلاثة في واحد، سر ليس عليكم أن تفهموه، بل عليكم أن تتقبلوه".
نشأة التثليث في النصرانية
والحق أن كل ما يقوله النصارى من أدلة على التثليث لا يسوغ الاستدلال بها، لأن من تنسب إليهم هذه الأسفار لم يعلموا عن التثليث شيئاً.
فأول من أدخل تعبير الثالوث إلى النصرانية ترتليان (200م تقريباً)، كما ذكر ذلك قاموس الكتاب المقدس، وقد خالفه كثيرون من آباء الكنيسة حينذاك، منهم سبيليوس وغيره، وقد انتصر التثليث على التوحيد بعد تنصر قسطنطين في القرن الرابع. وأما ما قبل ترتليان فليس للتثليث أي ذكر.
وقد أصبح التثليث عقيدة رسمية للنصرانية في أعقاب مجمعين قرر في الأول منهما تأليه المسيح، وفي الثاني تم تأليه روح القدس.
أولاً: مجمع نيقية:
انعقد مجمع نيقية عام 325م بأمر من الامبرطور الوثني قسطنطين الذي كان قد أعلن قبل بضع سنوات قانون التسامح الديني في الامبرطورية.
ورأى قسطنطين النزاعات بين الكنائس النصرانية تفتت شعب الامبرطورية وتزعج كيان الدولة، فقرر الدعوة إلى مجمع عام تحضره الطوائف النصرانية المختلفة، وقد عقد المجمع بإشرافه الشخصي، وقام بافتتاحه، وحضره 2048 أسقفاً من مختلف الكنائس المسيحية، واستمرت المداولات ثلاثة أشهر من غير أن يصل المجتمعون إلى رأي موحد.
وقد كان المجتمعون على ثلاثة محاور رئيسة:
أ- موحدون منكرون لألوهية المسيح يتزعمهم آريوس الاسكندراني وأوسابيوس ومعهم زهاء ألف من الأساقفة.
ب- القائلون بأن للمسيح وجوداً أزلياً مع الأب وأنه من ذات جوهره وإن مثّل أقنوماً مستقلاً عنه، وذكر هؤلاء بأن المسيح لو لم يكن كذلك لما صح أن يكون مخلصاً، ومن القائلين بهذا الرأي بابا روما الاسكندروس، والشاب الوثني المتنصر أثناسيوس الذي يقول عنه كتاب التربية الدينية المسيحية: "كلنا يعلم ما للقديس أثناسيوس الرسول من مكانة ممتازة في الكنيسة المقدسة على مر العصور… لقد حضر هذا القديس مع البابا الاسكندروس مجمع نيقية … فكان القديس أثناسيوس هو الجندي الصالح ليسوع المسيح، وكان للقديس أثناسيوس أيضاً الفضل في صياغة قانون الإيمان… وفي أواخر سنة 329م بطريركاً خليفة للبابا الكسندروس".
ج- وأراد بعضهم التوفيق بين الرأيين ومنهم أوسايبوس أسقف قيسارية، حيث قال بأن المسيح لم يخلق من العدم، بل هو مولود من الآب منذ الأزل، وعليه ففيه عناصر مشابهة لطبيعة الآب.
ولا يخفى أن هذا الرأي - الذي زعم التوفيق - لا يكاد يختلف عن رأي أثناسيوس، وقد مال الملك إلى هذا الرأي الذي مثله ثلاثمائة وثمانية عشر قساً، وخالف بقية المجتمعين الذين كانوا يشايعون آريوس أو مجموعات تتبنى آراء أضعف في المجمع، كالقائلين بألوهية مريم أو أن الآلهة ثلاثة صالح وطالح وعدل أو غير ذلك.
وقد أصدر القسس الثلاثمائة والثمانية عشر قرارات مجمع نيقية والتي كان من أهمها إعلان الأمانة التي تقرر ألوهية المسيح، كما أمر المجمع بحرق وإتلاف كل الكتب والأناجيل التي تعارض قراره.
وأصدر قراراً بحرمان آريوس والقائلون برأيه، وقراراً آخر بكسر الأصنام وقتل من يعبدها، وأن لا يثبت في الديوان إلا أبناء النصارى.
وحصل لآريوس وأتباعه ما كان المسيح قد تنبأ به: "سيخرجونكم من المجامع، بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله، وسيفعلون هذا لكم، لأنهم لم يعرفوا الآب ولم يعرفوني" (يوحنا 16/2-3)، فلو عرفوا الله حق معرفته وقدروه حق قدره لما جرؤوا على نسبة الولد إليه، ولما قالوا بألوهية المصفوع المولود من امرأة.
وقد أغفل مجمع نيقية الحديث عن الروح القدس ولم يبحث ألوهيته، فاستمر الجدل حولها بين منكر ومثبت حتى حسمت في مجمع القسطنطينية.
ثانياً: مجمع القسطنطينية:
انعقد المجمع عام 381م للنظر في قول مكدونيوس أسقف القسطنطينية الأريوسي والذي كان ينكر ألوهية الروح القدس ويقول: "إن الروح القدس عمل إلهي منتشر في الكون، وليس أُقنوماً متميزاً عن الأب والابن".
وقد أمر بعقد المجمع الامبرطور تاؤديوس (ت395م)، وحضره مائة وخمسون أسقفاً قرروا فيه:
1- عدم شرعية المذهب الأريوسي، وفرضوا عقوبات مشددة على أتباعه.
2- أن روح القدس هو روح الله وحياته، وزادوا في قانون الإيمان فقرة تؤكد ذلك، وبذلك أصبح التثليث ديناً رسمياً في النصرانية، و قد ذكر القائلون بألوهية روح القدس في المجمع بأنه "ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله، وليس الله شيئاً غير حياته، فإذا قلنا أن روح القدس مخلوق، فقد قلنا أن الله مخلوق".
3- لعن مكدونيوس وأشياعه.
4- وضعت بعض القوانين المتعلقة بنظام الكنيسة وسياساتها.
التوحيد في التاريخ النصراني
رأينا فيما سبق شهادة أسفار العهد القديم والجديد على أن التوحيد هو دين الله الذي نادت به الرسل، وأن عيسى هو عبد الله ورسوله.
وإذا كان الأصل في ديانة عيسى كذلك، فأين أتباع المسيح؟ ومتى انضوى التوحيد عن الوجود في حياة الملة المسيحية؟ وهل من الممكن أن لا يكون لكل تلك الدلائل الموحدة أثر في النصرانية على مر العصور؟
للإجابة عن هذه الأسئلة قلَّب المحققون صفحات التاريخ القديم والجديد وهم يبحثون عن عقيدة التوحيد وتاريخها خلال عشرين قرناً من الصراع مع وثنية بولس، فماذا هم واجدون؟.
التوحيد في ما قبل مجمع نيقية
نشأ الجيل الأول بعد المسيح مؤمناً بتوحيد الله وعبودية المسيح، وأنه كان نبياً رسولاً، ورأينا ذلك في ما سطره الإنجيليون والقديسون بما فيهم بولس من نصوص موحدة.
كما نستطيع القول بأن الجيل الأول من تاريخ النصرانية كان موحداً بشهادة التاريخ حيث يقول بطرس قرماج في كتابه " مروج الأخبار في تراجم الأبرار " عن بطرس ومرقس: "كانا ينكران ألوهية المسيح"، فهذا معتقد تلاميذ المسيح المقربين.
وتقول دائرة المعارف الأمريكية: "لقد بدأت عقيدة التوحيد كحركة لاهوتية بداية مبكرة جداً في التاريخ أو في حقيقة الأمر فإنها تسبق عقيدة التثليث بالكثير من عشرات السنين"، وذلك لأنها بدأت مع بدء النبوات، واستنارت وتلألأت ببعثة عيسى عليه السلام وتعاليمه الموحدة لله.
وتقول دائرة معارف لاوس الفرنسية : "عقيدة التثليث وإن لم تكن موجودة في كتب العهد الجديد ولا في عمل الآباء الرسوليين ولا عند تلاميذهم المقربين إلا أن الكنيسة الكاثوليكية والمذهب البروتستنتي يدعيان أن عقيدة التثليث كانت مقبولة عند المسيحيين في كل زمان…
إن عقيدة إنسانية عيسى كانت غالبة طيلة مدة تكون الكنيسة الأولى من اليهود المتنصرين، فإن الناصريين سكان مدينة الناصرة وجميع الفرق النصرانية التي تكونت عن اليهودية اعتقدت بأن عيسى إنسان بحت مؤيد بالروح القدس، وما كان أحد يتهمهم إذ ذاك بأنهم مبتدعون وملحدون، فكان في القرن الثاني مبتدعون وملحدون، فكان في القرن الثاني مؤمنون يعتقدون أن عيسى هو المسيح، ويعتبرونه إنساناً بحتاً..
وحدث بعد ذلك أنه كلما نما عدد من تنصر من الوثنيين ظهرت عقائد لم تكن موجودة من قبل".
ويقول عوض سمعان مؤكداً براءة أصحاب المسيح من الشرك والوثنية: " إن المتفحصين لعلاقة الرسل والحواريين بالمسيح يجد أنهم لم ينظروا إليه إلا على أنه إنسان …لأنهم كيهود كانوا يستبعدون أن يظهر الله في هيئة إنسان. نعم كانوا ينتظرون المسيّا، لكن المسيا بالنسبة إلى أفكارهم التي توارثوها عن أجدادهم لم يكن سوى رسول ممتاز يأتي من عند الله، وليس هو بذات الله".
وتؤكد دائرة المعارف الأمريكية بأن الطريق بين مجمع أروشليم الأول الذي عقده تلاميذ المسيح ومجمع نيقية لم يكن مستقيماً، ويتحدث الكاردينال دانيلو عن انتشار التوحيد حتى في المواطن التي بشر بولس بها كأنطاكية وغلاطية حيث واجهته مقاومة عاتية.
وكشف مؤخراً عن وثيقة مسيحية قديمة نشرت في جريدة "التايمز" في 15 يوليو 1966م وتقول: إن مؤرخي الكنيسة يسلمون أن أكثر أتباع المسيح في السنوات التالية لوفاته اعتبروه مجرد نبي آخر لبني إسرائيل.
ويقول برتراند رسل الفيلسوف الإنجليزي: "تسألني لماذا برتراند رسل لست مسيحياً ؟ وأقول رداً على سؤالك: لأنني أعتقد أن أول وآخر مسيحي قد مات منذ تسعة عشر قرناً، وقد ماتت بموته المسيحية الحقة التي بشر بها هذا النبي العظيم".
لكن أصالة التوحيد في الجيل الأول وقوته لم تمنع من انتشار دعوة بولس الوثنية في أوساط المتنصرين من الوثنين الذين وجدوا في دعوته مبادئ الوثنية التي اعتادوها، إضافة إلى بعض المُثل والآداب التي تفتقرها الوثنيات الرومانية واليونانية.
وقد عورضت دعوة بولس من لدن أتباع المسيح، واستمر الموحدون يواجهون أتباع بولس، وظهر ما تسميه الكنسية في تاريخها بفرق الهراقطة، وهم الخارجون عن أراء الكنيسة الدينية، ومنهم الفرق التي كانت تنكر ألوهية المسيح.
ومن أهم هذه الفرق: الأبيونية وتنسب لقس اسمه أبيون، وقيل: الأبيونية هم: الفقراء إلى الله، فسموا بذلك لفقرهم وزهدهم.
وقد ظهرت هذه الفرقة في القرن الأول الميلادي من أصل يهودي، وقد نشطت هذه الفرقة بعد عام 70م.
وقد ذكر معتقدات هذه الفرقة المؤرخون الأوائل خلال نقدهم لعقائد فرقة الأريوسية المتأخرة، فيقول بطريرك الإسكندرية (عام 326م) عن عقيدة آريوس: "فهذا التعليم الثائر على تقوى الكنيسة هو تعليم أبيون وأرطيماس، وهو نظير تعليم بولس السمياطي".
ويقول كيرلس الأورشليمي (388م) عن الهراقطة: "فكرنثوس صنع خراباً في الكنسية، وأيضاً ميناندر وكربو قراط وأبيون".
ويقول ايريناوس في كتابه "ضد الهرطقات" (188م): "والذين يدعون باسم الأبيونية يوافقون على أن الله هو الذي خلق العالم، ولكن مبادئهم عن الرب مثل كرنثوس ومثل كربو قراط…و هم يستخدمون إنجيل متى فقط، ويرفضون بولس الرسول، ويقولون عنه: إنه مرتد عن الناموس، يحفظون الختان، وكل العوائد المذكورة في الشريعة".
ويقول أوسابيوس القيصري (ت240م) في تاريخه: "قد كان الأقدمون محقين إذ دعوا هؤلاء القوم (أبيونيين)، لأنهم اعتقدوا في المسيح اعتقادات فقيرة ووضيعة، فهم اعتبروه إنساناً بسيطاً عادياً قد تبرر فقط بسبب فضيلته السامية". كما كان الأبيونيون يقولون بردة بولس وكانوا يتهمونه بالتحريف.
وتذكر المصادر أن هؤلاء استخدموا إنجيل متى أو إنجيل العبرانيين - ولعل الاسمين لمسمى واحد، فلعلهم استخدموا الأصل العبراني لمتى - ولم يبالوا بغيره، ويرى بعض المؤرخين أنه بسبب هذه الفرقة دعي يوحنا لكتابة إنجيله الذي يقرر فيه لاهوتية المسيح.
وقد كان لهذه الفرقة شأن، إذ كثروا حتى شمل نفوذها- باعتراف أعدائهم - فلسطين وسوريا وآسيا الصغرى ووصل إلى روما، واستمر وجودهم إلى القرن الرابع الميلادي حيث يفهم من كلام القديس جيروم في القرن الرابع أنهم كانوا في حالة من الضعف والاضطهاد، وذلك بعد مخالفتهم لأوامر قسطنطين ومجمع نيقية.
ويرى بعض المحققين المسلمين أن هذه الفرقة هي التي عناها الله بقوله ] فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين [ (الصف: 14)، ويرون أنهم من عناهم المسيح بقوله: "طوبى للمساكين بالروح، فإن لهم ملكوت السماوات، طوبى للودعاء، فإنهم يرثون الأرض، طوبى للحزانى فإنهم يتعزون، طوبى للجياع والعطاش فإنهم يشبعون…" (متى 5/3-9).
وفي فترة نشأة هذه الفرقة (73م) ظهر الداعية - الذي سبق ذكره - كرنثوس، ويسميه المؤرخ أوسابيوس: زعيم الهراقطة، وقد كان يعتقد أن المسيح كان مجرد إنسان بارز، كما رفض الأناجيل عدا متى (أي النص العبراني المفقود).
وفي أواخر القرن الثاني ظهر أمونيوس السقاص بدعوته بأن المسيح إنسان خارق للعادة حبيب لله، عارف بعمل الله بنوع مدهش، وأن تلاميذه أفسدوا دعوته، وبمثل هذا نادى كربو قراط، ويعرف أتباعه بالمعلمين أو المستنيرين، لكنهم بالغوا في إثبات بشرية المسيح حتى قالوا كان كسائر الحكماء، ويقدر جميع الناس أن يفعلوا مثله، ويسلكوا سلوكه، فكانت ردة فعلهم على قول القائلين بألوهيته غير صحيحة، ففي زحمة إنكارهم لألوهيته هضموه وأنقصوه عن حقه عليه الصلاة والسلام.
وفي أواسط القرن الميلادي الثالث ظهرت فرقة البولينية وهم أتباع بولس الشنشاطي، والذي تولى أسقفية إنطاكية عام 260م كما كان يشغل منصباً كبيراً في مملكة تدمر.
ويلخص القس كيرد (ت 1324م) عقيدة الشنشاطي، فيقول في كتابه "مصباح الظلمة في إيضاح الخدمة": "ملة تدعى البولية أو البوليانيون، وهي ملة بولس السميساطي بطريك إنطاكية، وهم الذين يؤمنون بأن الله إله واحد، جوهر واحد، أقنوم واحد، ولا يسمونه بثلاثة أسماء، ولا يؤمون بالكلمة أنها مخلصة، ولا أنها من جوهر الأب، ولا يؤمنون بروح القدس المحيي، ويقولون: إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت مثل خلق آدم، وكمثل واحد منا في جوهره، وأن الابن ابتداؤه من مريم … ونظروا إلى كل موضع من الكتب فيه ذكر أزلية الابن ولاهوته وأقانيم ثالوثه، فغيروا وكتبوا مكانه غيره كما يحبون، وعلى ما يوافق ديانتهم، ولم يغيروا أسماء الكتب ولا أسماء الرسل ولا حديثهم".
وقد عقدت الكنسية ثلاث مجامع خلال خمس سنوات لإقناعه بالعدول عن مذهبه، آخرها مجمع في إنطاكية عام 268م، وحضره بولس، ودافع فيه عن مذهبه، فطرد وعزل من جميع مناصبه، لكن أتباعه استمر وجودهم إلى القرن الميلادي السابع.
كما ظهر في بداية القرن الميلادي الرابع عالم مترهب يدعى لوسيان، وكان يرى أن المسيح كائن سماوي أخرجه الله من العدم إلى الوجود، وتجلى فيه العقل الإلهي في كيفيته الشخصية، فكانت روحه غير بشرية، لكنه لم يكن الإله على الإطلاق.
ويظهر في هذه الفرقة أثر العقائد المنحرفة الطاغية حينذاك، إذ لا يخلو قولهم في المسيح من شيء من الغلو في المسيح عليه السلام.
التوحيد فيما بعد مجمع نيقية
الأريوسية
في عام 325م صدر أول قرار رسمي يؤله المسيح بعد تبني الامبرطور الوثني قسطنطين لهذا الرأي، ورفض ما سواه، واعتبر آريوس- الذي عقد المجمع من أجله - هرطوقياً.
وآريوس من رهبان الكنيسة، وكان يقول كما نقل عنه منسي يوحنا في كتابه "تاريخ الكنيسة القبطية": "إن الابن ليس مساوياً للأب في الأزلية، وليس من جوهره، وقد كان الأب في الصل - (كلمة عبرية مشتق معناها من الظل، والمراد من النص أنه كان معه قبل بداية الخلق حيث لم يكن نور ولا حياة. انظر قاموس الكتاب المقدس، ص 546) - وحيداً، فأخرج الابن من العدم بإرادته، والآب لا يمكن أن يراه أو يكيفه أحد، ولا حتى الابن، لأن الذي له بداية لا يعرف الأزلي، والابن إله بحصوله على لاهوت مكتسب".
وقد توفي آريوس 336م، لكن دعوته انتشرت بعد وفاته، وأصبحت كما يقول الأستاذ حسني الأطير في كتابه الماتع "عقائد الفرق الموحدة في النصرانية": "أوشك العالم أن يكون كله أريوسياً - حسب قول الخصوم - لولا تدخل الأباطرة في العمل على ضرب تلك العقيدة واستئصال تبعيتها".
ويقول أسد رستم في كتابه "كنيسة مدينة الله العظمى": "كان آريوس فيما يظهر عالماً زاهداً متقشفاً يجيد الوعظ والإرشاد، فالتف حوله عدد من المؤمنين، وانضم إليه عدد كبير من رجال الاكليروس" ويؤكد كثرة الأريوسيين المؤرخ ابن البطريق، وينقل أن أكثر أهل مصر كانوا أريوسيين.
ومما يؤكد قوة مذهب آريوس إبان حياته وبعد موته، أن الكنيسة عقدت مجامع عدة لبحث عقيدته، كما كان لآريوس وأتباعه مجامع منها، مجمع قيسارية 334م، وصور 335م، وقد قرر المجتمعون في مجمع صور عزل أثناسيوس البابا – الداعي لألوهية المسيح والذي كتبت أمانة النصارى بإشرافه في مجمع نيقية-كما نفوه إلى فرنسا، ثم عقدوا مجمعاً آخر في إنطاكية عام 341م حضره سبع وتسعون أسقفاً أريوسياً، قرروا فيه مجموعة من القوانين التي تتفق مع مبادئهم ومعتقداتهم.
ثم أعاد الامبرطور الروماني الأسقف أثناسيوس إلى كرسي البابوية، فاحتج الأريوسيون لذلك، وأثاروا اضطرابات عدة، ثم عقدوا مجمعاً في آرلس بفرنسا عام 353م، وقرروا فيه بالإجماع – عدا واحداً - عزل أثناسيوس.
ثم أكدوا ذلك في مجمع ميلانو 355م فعزل، وتولى الأسقف الآريوسي جاورسيوس كرسي الإسكندرية، وفي عام 359م عقد الامبرطور مجمعين أحدهما للغربيين في "ريمني"، والآخر للشرقيين في "سلوفيا"، وقرر المجمعان صحة عقائد الأريوسية، وباتت الكنائس الغربية آريوسية.
ويذكر المؤرخ ناسيليف أن الامبرطور قسطنطين نفسه قد تحول إلى المذهب الأريوسي ممالأة لأفراد شعبه، وذلك بعد نقل عاصمته إلى القسطنطينية، وقد تعلق بذلك الأنبا شنودة وهو يبرر كثرة أتباع المذهب الأريوسي، فذكر بأنه بسبب معاضدة الامبرطور له.
وفي مجمع إنطاكية 361م وضع الأريوسيون صيغة جديدة للأمانة، ومما جاء فيها: "الابن غريب عن أبيه، ومختلف عنه في الجوهر والمشيئة"، وفي نفس العام عقدوا مجمعاً في القسطنطينية وضعوا فيه سبعة عشر قانوناً مخالفاً لما صدر عن مجمع نيقية.
وفي هذا العام أيضاً تولى الامبرطورية يوليانوس الوثني، فأعاد أثناسيوس وأساقفته إلى أعمالهم، وجاهر بعبادة الأصنام، وسلم الكنائس للنصارى الوثنيين، ثم خلفه الامبرطور يوبيانوس 363م، فأكمل ما بدأه سلفه، وعادى الأريوسيين، وفرض عقيدة النصرانية الوثنية، ومما قاله مخاطباً شعبه وأركان دولته: " إذا أردتم أن أكون امبراطوركم كونوا مسيحيين مثلي"، ثم حرم مذهب الأريوسيين، وتبنى قرارات نيقية، وطلب من الأسقف أثناسيوس أن يكتب له عن حقيقة الدين المسيحي الذي كان قد أجبر الناس عليه قبل أن يقف على حقيقته.
النسطورية
وامتداداً لآريوس وفرقته، وفي القرن الخامس ظهرت فرقة النسطورية على يد أسقف القسطنطينية نسطور الذي شايعه بعض الأساقفة والفلاسفة، وكان نسطور يقول: إن في المسيح جزء لاهوتياً، لكنه ليس من طبيعة المسيح البشرية، فلم يولد هذا الجزء من العذراء التي لا يصح أن تسمى أم الله.
ويعتقد نسطور أن اتحاد اللاهوت بعيسى الإنسان ليس اتحاداً حقيقياً، بل ساعده فقط، وفسر الحلول الإلهي بعيسى على المجاز أي حلول الأخلاق والتأييد والنصرة.
وقال في إحدى خطبه: "كيف أسجد لطفل ابن ثلاثة أشهر؟" وقال: "كيف يكون لله أم؟ إنما يولد من الجسد ليس إلا جسداً، وما يولد من الروح فهو روح. إن الخليقة لم تلد الخالق، بل ولدت إنساناً هو إله اللاهوت".
وقد عقد في أفسس 431م مجمع قرر عزله ونفيه، فمات في صحراء ليبيا، يقول المؤرخ سايرس ابن المقفع في كتابه "تاريخ البطاركة": " إن نسطور كان شديد الإصرار على تجريد المسيح من الألوهية إذ قال: إن المسيح إنسان فقط. إنه نبي لا غير".
وذكر ابن المقفع أنه عند نفيه أرسل له البطارقة أن إذا اعترف بأن المصلوب إله متجسد فسوف يعفون عنه، فيقول ابن المقفع: "فقسا قلبه مثل فرعون، ولم يجبهم بشيء".
وقد تغير مذهب النسطورية بعد نسطور فأشبه مذاهب التثليث، إذ يقول النسطورية: إن المسيح شخصية لها حقيقتان: بشرية وإلهية، فهو إنسان حقاً، إله حقاً، ولكنه ليس شخصية قد جمعت الحقيقتين، بل ذات المسيح كانت تجمع شخصيتين!!.
الطوائف النصرانية الموحدة بعد ثورة الإصلاح الديني
وطوال قرون تعاقبت على النصرانية في ظل سيطرة الكنيسة لم ينقطع تواجد الموحدين، وإن ضعف نشاطهم وتواجدهم بسبب محاكم التفتيش وقوة الكنيسة وسلطانها.
وعندما ضعف سلطان الكنسية واضمحل، عادت الفرق الموحدة للظهور، وبدأت عقيدة التثليث بالاهتزاز، وهو ما عبر عنه لوثر بقوله: "إنه تعبير يفتقد إلى القوة، وإنه لم يوجد في الأسفار".
فيما قال عنه فالبر في كتابه "تاريخ الموحدين": "إن كالفن قد أعلن قانون الإيمان الذي صدر عن مجمع نيقية كان يناسبه أن يغنى كأغنية بدلاً من أن يحفظ كبيان عن العقيدة".
وعندما ألف كالفن كتابه "خلاصة العقيدة" (1541م) لم يذكر فيه التثليث إلا نادراً.
وشيئاً فشيئاً عادت الفرق الموحدة للظهور وازدهر نشاط الموحدين في أوربا، حتى إن ملك المجر هوجون سيجسموند (ت1571م) كان موحداً.
وفي ترانسلفانيا ازدهر التوحيد كما تذكر دائرة المعارف الأمريكية، وكان من الموحدين المشهورين فرانسس داود الذي أدخل السجن بعد وفاة الملك جون وتولي الملك ستيفن باثوري الكاثوليكي، وتوفي سنة 1579م، وكان الملك الجديد قد منع الموحدين من نشر كتبهم دون إذن منه.
كما ظهر في هذا القرن سوسنس الموحد في بولوينة، وكان له أتباع يعرفون بالسوسنيون أنكروا التثليث، ونادوا بالتوحيد، وفر بعضهم من الكنسية إلى سويسرا، ونادى سرفيتوس بالتوحيد في أسبانيا فأحرق حياً عام 1553م، وكان يقول في كتابه "أخطاء التثليث": "إن أفكاراً مثل الثالوث والجوهر وما إلى ذلك إنما هي اختراعات فلسفي، لا تعرف عنها الأسفار شيئاً".
كما ظهر في ألمانيا مذهب الأناباست الموحد، واستطاعت الكنيسة سحقه.
ثم ظهرت جمعيات تحارب التثليث منها "الحركة المضادة للتثليث"، وأنشأت في شمال إيطاليا في أواسط القرن السادس عشر، تلتها" الحركة المعادية للتثليث" والتي ترأسها الطبيب المشهور جورجيو بندراثا عام 1558م، وفي عام 1562م عقد مجمع بيزو، وكان القسس يتكلمون عن التثليث فيما كان غالبية الحضور من المنكرين له.
وفي القرن السابع عشر قويت بعض الكنائس الموحدة على قلة في أتباعها، و أصدر الموحدون عام 1605م مطبوعاً مهماً جاء فيه "الله واحد في ذاته، والمسيح إنسان حقيقي، ولكنه ليس مجرد إنسان، والروح القدس ليس أقنوماً، لكنه قدرة الله".
وفي عام 1658م صدر مرسوم طردت بمقتضاه جماعة موحدة في إيطاليا. وكان من رواد التوحيد يومذاك جون بيدل (ت 1662م)، وسمي: "أبو التوحيد الإنجليزي". وكان قد توصل من خلال دراسته إلى الشك في عقيدة التثليث، فجهر بذلك وسجن مرتين، ثم نفي إلى صقلية.
وفي عام 1689م استثنى مرسوم ملكي الموحدين من قانون التسامح الديني. وذلك لا ريب يعود لكثرة هؤلاء وتعاظم أثرهم، و هو ما يعبر عنه بردنوفسكي في كتابه "ارتقاء الإنسان"، فيقول: "كان العلماء في القرن السابع عشر يشعرون بالحرج من مبدأ التثليث".
وفي القرن الثامن عشر سمي هؤلاء الموحدون بالأريوسيين، ومنهم الدكتور تشارلز شاونسي (ت 1787م) راعي كنيسة بوسطن، وكان يراسل الأريوسيين الإنجليز.
وكذا ناضل الدكتور يوناثان ميهيو بشجاعة ضد التثليث، ونشر الدكتور صموئيل كتابه "عقيدة التثليث من الأسفار" ووصل فيه إلى نتيجة: "أن الآب وحده هو الإله الأسمى، وأن المسيح أقل منه رتبة"، ورغم إنكاره بأنه آريوسي، فإنه يصعب التميز بين أقواله وتعليم آريوس، ومثله العالم الطبيعي جون بربستلي (ت 1768م)، وقد طبع رسالته "التماس إلى أساتذة المسيحية المخلصين الموقرين" ووزع منها ثلاثين ألف نسخة في إنجلترا، فأرغم على مغادرتها، فقضى في بنسلفانيا.
واعتزل ثيوفليس ليندساي (ت 1818م) الخدمة الكنيسة، ثم ما لبث أن تحول إلى كنيسة موحدة، كما عين زميله الموحد توماس بلشام في منصب كبير في كلية هاكني اللاهوتية، ثم أسسا معاً "الجمعية التوحيدية لترقي المعرفة المسيحية وممارسة الفضيلة عن طريق توزيع الكتب".
ثم بعد إقرار الحقوق المدينة كون الموحدون اتحاداً أسموه "الاتحاد البريطاني الأجنبي للتوحيد".
وفي القرن التاسع عشر الميلادي أسس في مناطق متعددة عدد من الكنائس الموحدة التي اجتذبت شخصيات مهمة مثل وليم شاننج (ت 1842) راعي كنيسة بوسطن، و كان يقول :بأن الثلاثة أقانيم تتطلب ثلاثة جواهر، وبالتالي ثلاثة آلهة. وكان يقول: "إن نظام الكون يتطلب مصدراً واحداً للشرح والتعليل، لا ثلاثة، لذلك فإن عقيدة التثليث تفتقد أي قيمة دينية أو علمية".
ومثله قال القس جارد سباركس راعي كنيسة الموحدين في ليتمور والذي صار فيما بعد رئيساً لجامعة هارفرد.
وتكونت عام 1825م جمعية التوحيد الأمريكي، وفي منتصف هذا القرن أضحت مدينة ليدن الهولندية وجامعتها مركزاً للتوحيد، وكثر عدد الموحدين الذين عرفوا باللوثريين أو الإصلاحيين.
ومع مطلع القرن العشرين تزايد الموحدون، وزادوا نشاطهم، وأثمر بوجود ما يقرب من أربع مائة كنيسة في بريطانيا ومستعمراتها، ومثلها في الولايات المتحدة إضافة إلى كليتين لاهوتيتين تعلمان التوحيد هما مانشستر وأكسفورد في بريطانيا، وكليتين في أمريكا، إحداهما في شيكاغو، والأخرى في بركلي في كاليفورنيا، وما يقرب من مائة وستين كنيسة أو كلية في المجر، وغير ذلك في كافة دول أوربا النصرانية.
وفي عام 1921م عقد مؤتمر حضره عدد كبير من رجال الدين في أكسفورد برئاسة أسقف كارليل الدكتور راشدل الذي ذكر في خطاب ألقاه فيه: أن قراءته للكتاب المقدس لا تجعله يعتقد أن عيسى إله، وأما ما جاء في يوحنا مما لم تذكره الأناجيل الثلاثة فلا يمكن النظر إليه على أنه تاريخي، ورأى أن كل ما قيل في ميلاد المسيح من عذراء أو شفائه الأمراض أو القول أن روحه سابقة للأجساد، كل ذلك لا يدعو للقول بألوهيته. وقد شاركه في آرائه عدد من المؤتمرين.
ويقول إيميل لورد فيج: "لم يفكر يسوع أنه أكثر من نبي، وليس بقليل أن يرى نفسه في بعض الأحيان دون النبي، ولم يحدث أبداً من يسوع ما يخيل به إلى السامع أن له خواطر وآمال فوق خواطر البشر وآمالهم … يجد يسوع كلمة جديدة صالحة للتعبير عن تواضعه بقوله: إنه ابن الإنسان، وقديماً أراد الأنبياء أن يلفتوا الأنظار إلى الهوة الواسعة التي تفصلهم عن الله، فكانوا يسمون أنفسهم بأبناء الإنسان …".
وفي عام 1977م اشترك سبعة من علماء اللاهوت في كتاب مشهور عنونوا له "أسطورة الإله المتجسد" ومما فيه عن هذه المجموعة "أنها قبلت التسليم بأن أسفار الكتاب المقدس كتبها مجموعة من البشر في ظروف متنوعة، ولا يمكن الموافقة على اعتبار ألفاظها تنزيلاً إلهياً … إن المشتركين في هذا الكتاب مقتنعون أن تطوراً لاهوتياً آخر لا بد منه في آخر هذا الجزء الأخير من القرن العشرين".
ثم أصدر ثمانية من علماء اللاهوت في بريطانيا كتابا أسموه "المسيح ليس ابن الله"، أكدوا فيه ما جاء في الكتاب الأول، وقالوا : "إن إمكانية تحول الإنسان إلى إله لم تعد بالشيء المعقول والمصدق به هذه الأيام".
وفي مقابلة تلفزيونية جرت في إبريل 1984م في بريطانيا ذكر الأسقف دافيد جنكنز والذي يحتل المرتبة الرابعة بين تسعة وثلاثين أسقفاً يمثلون رأس هرم الكنيسة الأنجليكانية، فكان مما قاله بأن ألوهية المسيح ليست حقيقة مسلماً بها.
وكان لكلماته صدى كبير بين أتباع الكنيسة البرتستانتية، فقامت صحيفة "ديلي نيوز" باستطلاع رأي واحد وثلاثين أسقفاً - من الأساقفة التسعة والثلاثين- حول ما قاله الأسقف دافيد، ثم نشرت نتيجة الاستطلاع في عددها الصادر في 25/6/1984م، وكانت نتيجته "أصر 11 فقط من الأساقفة على القول بأنه يجب على المسيحيين أن يعتبروا المسيح إلهاً وإنساناً معاً، بينما قال 19 منهم بأنه كان كافياً أن ينظر إلى المسيح باعتباره الوكيل الأعلى لله"، فيما أكد 15 أسقفاً منهم "أن المعجزات المذكورة في العهد الجديد كانت إضافات ألحقت بقصة يسوع فيما بعد". أي أنها لا تصلح في الدلالة على الألوهية.
وهكذا تشكك الكنيسة ممثلة بأساقفتها في مسألة ألوهية المسيح، وترفضها، وتقر أنها عقيدة دخيلة على النصرانية، لم يعرفها المسيح ولا تلاميذه، إذ هي من مبتدعات بولس والذين تأثروا به ممن كتبوا الأناجيل والرسائل ثم المجامع الكنسية.
ومن كل ما ذكرنا يتبين لنا أن التوحيد حركة أصيلة في المجتمع النصراني، تتجدد كلما نظر المخلصون منهم في أسفارهم المقدسة، فتنجلي عن الفطرة غشاوتها، و تعلن الحقيقة الناصعة أن لا إله إلا الله.
مصادر القول بألوهية المسيح
] إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد[ (المائدة: 116-117).
وإذا لم يكن المسيح قد قال بألوهية نفسه، ولم يقل بها معاصروه، فمن أين وفدت هذه العقائد على النصرانية؟
وفي الجواب نقول: إنه بولس عدو النصرانية، اليهودي الذي ادعى رؤية المسيح في السماء بعد رفعه، وقد نحل ذلك من الوثنيات المختلفة التي كانت تقدس بعض البشر وتعتبرهم أبناء الله. ]وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون[ (التوبة: 30).
أهمية بولس في الفكر النصراني
بولس أشهر كتبة العهد الجديد، وأهم الإنجيليين على الإطلاق، فقد كتب أربع عشرة رسالة، تشكل ما يقارب النصف من العهد الجديد، وفيها فقط تجد العديد من العقائد النصرانية، إنه مؤسس النصرانية وواضع عقائدها، وهو الوحيد الذي ادعى النبوة، دون سائر الإنجيليين.
فالنصرانية المحرفة عمادها الرئيس رسائل بولس، التي كانت رسائله أول ما خط من سطور العهد الجديد الذي جاء متناسقاً إلى حد ما مع رسائل بولس، لا سيما إنجيل يوحنا، فيما رفضت الكنيسة النصرانية تلك الرسائل التي تتعارض مع نصرانية بولس التي طغت على النصرانية الأصلية التي نادى بها المسيح وتلاميذه من بعده.
وهذا الأثر الذي تركه بولس في النصرانية لا يغفل ولا ينكر، مما حد بالكاتب مايكل هارت في كتابه "الخالدون المائة" أن يجعل بولس أحد أهم رجال التاريخ أثراً، إذ وضعه في المرتبة السادسة بينما كان المسيح في المرتبة الثالثة.
وقد برر هارت وجود النبي صلى الله عليه وسلم في المرتبة الأولى من قائمته، وتقدمه على المسيح الذي يعد المنتسبون لدينه الأكثر على وجه الأرض، فقال: "فالمسيحية لم يؤسسها شخص واحد، وإنما أقامها اثنان: المسيح عليه السلام والقديس بولس، ولذلك يجب أن يتقاسم شرف إنشائها هذان الرجلان.
فالمسيح عليه السلام قد أرسى المبادئ الأخلاقية للمسيحية، وكذلك نظراتها الروحية وكل ما يتعلق بالسلوك الإنساني.وأما مبادئ اللاهوت فهي من صنع القديس بولس".
ويقول هارت: "المسيح لم يبشر بشيء من هذا الذي قاله بولس، الذي يعتبر المسئول الأول عن تأليه المسيح". وينبه هارت إلى أن بولس لم يستخدم لقب "ابن الإنسان" الذي كان كثيراً ما يطلقه المسيح على نفسه.
وقد خلت قائمة مايكل هارت من تلاميذ المسيح الذين غلبتهم دعوة بولس مؤسس المسيحية الحقيقي، فيما كان الامبرطور قسطنطين صاحب مجمع نيقية (325م) في المرتبة الثامنة والعشرين.
وقد تعرض المحققون بالذكر للعديد من البدع التي أحدثها بولس في عقائد النصرانية وشرائعها، وبينوا اعتماداً على كتب العهد الجديد براءة المسيح من هذه البدع.
بولس وألوهية المسيح
وإذا خلت الأناجيل- سوى ما قد يقال عن إنجيل يوحنا - من تقرير عقيدة ألوهية المسيح فإن رسائل بولس تمتلئ بالغلو في المسيح، والنصوص التي تعتبر المسيح كائناً فريداً عن البشر.
فماذا في أقوال بولس عن المسيح؟ وهل يعتبره رسولاً أم إلهاً متجسداً أم …
عند التأمل في رسائل بولس نجد إجابة متناقضة بين رسالة وأخرى، إذ ثمة نصوص تصرح ببشرية المسيح، وثمة أخرى تقول بألوهيته، فهل هذا التناقض يرجع إلى تلون بولس حسب حالة مدعويه أم أنه متوافق مع تطوير بولس لمعتقده في المسيح؟ أم أن التناقض يرجع إلى ما تعرضت له الرسائل من تغير وتبديل … هذا كله يبقى محتملاً من غير ترجيح.
فمن النصوص التي تحدثت عن المسيح كعبد من البشر يتميز عنهم بمحبة الله له واصطفائه قول بولس: "يوجد إله واحد، ووسيط واحد بين الله والناس: الإنسان يسوع المسيح" (تيموثاوس (1) 2/5).
ومثله يقول معترفاً بوحدانية رب الأرباب "أن تحفظ الوصية بلا دنس ولا لوم إلى ظهور ربنا يسوع المسيح، الذي سيبينه في أوقاته المبارك العزيز الوحيد، ملك الملوك، ورب الأرباب، الذي وحده له عدم الموت…" (تيموثاوس (1) 6/14-16)، فالمسيح رب، لكن الله وحده رب الأرباب.
والمسيح بشر متميز بتقديم الله له يقول عنه بولس: "مدعو من الله رئيس كهنة على رتبة ملكي صادق" (عبرانيين 5/10)، وهو أي المسيح "الذي في أيام جسده إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات، وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت، وسمع له من أجل تقواه" (عبرانيين 5/7).
ويقارن بولس بين منـزلته ومنـزلة مخلوقات مثله يفضلها عليه تارة، ويفضله عليها أخرى فيقول: "لكن الذي وضع قليلاً عن الملائكة: يسوع، نراه مكللاً بالمجد والكرامة من أجل ألم الموت" (عبرانيين 2/9).
وفي مواضع آخر يقارن بينه وبين موسى فيقول: "لاحظوا رسول اعترافنا ورئيس كهنته المسيح يسوع حال كونه أميناً للذي أقامه كما كان موسى … موسى كان في كل بيته كخادم …، وأما المسيح فكابن على بيته، وبيته نحن إن تمسكنا بثقة الرجاء…" (عبرانيين 3/1-6).
فهذه النصوص وغيرها تحدث بها بولس عن المسيح كبشر متميز بمحبة الله له واختياره ليكون وسيلة في إبلاغ وحيه.
لكن لبولس نصوص أخرى تبالغ في وصف المسيح حتى تكاد تجعله ابناً حقيقياً لله لكثرة ما فيها من الغلو والتأكيد على خصوصية المسيح، مما قد يفهم منه أن البنوة هنا تختلف عن سائر ما ورد في الكتاب المقدس، ويتضح ذلك من مواضع أخرى يعتبره فيها صورة لله، أو الجسد الذي تجسد فيه الإله.
يقول بولس: "فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطيئة" (رومية 8/3).
ويقول: "الذي لم يشفق على ابنه، بل بذله …" (رومية 8/32).
ويقول: "أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة" (غلاطية 4/4)، ويفهم من النص بنوة حقيقية يراها بولس للمسيح، وإلا فجميع المؤمنين أبناء الله (على المجاز) مولودون من جنس النساء.
ويقول: "الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرقٍ كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه" (عبرانيين 1/1-4). فهو كما يرى بولس نوع مختلف عما سبق من الأنبياء السابقين، والذين هم جميعاً أبناء الله بالمعنى الكتابي المجازي للكلمة.
ويقول بولس عن المسيح: " هو صورة الله الغير المنظور، بكر كل خليقة" (كولوسي 1/15).
ويقول: "إذ كان في صورة الله لن يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبده، صائراً في شبه الناس" (فيلبي2/6-7).
ويقول جاعلاً المسيح هو الله – كما في الترجمة المتداولة -: "عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد" (تيموثاوس (1) 3/16).
ويقول: "أظهر كلمته في أوقاتها الخاصة بالكرازة التي أؤتمنت أنا عليها بحسب أمر مخلصنا: الله" (تيطس 1/3).
وتحدث المحققون أيضاً عن البيئة التي جعلت بولس يندفع للقول بألوهية المسيح، وتحدثوا عن المصادر التي استقى منها بولس هذه العقيدة.
أما البيئة التي بشر بها بولس فقد كانت بيئةً مليئة بالخرافات التي تنتشر بين البسطاء والسذج الذين هم غالب أفراد مجتمع ذلك الزمان، يضاف إليه أن تلك المجتمعات وثنية تؤمن بتعدد الآلهة وتجسدها وموتها، ففي رحلة بولس وبرنابا إلى لستر، صنعا بعض الأعاجيب "فالجموع لما رأوا ما فعل بولس رفعوا أصواتهم بلغة ليكاونية قائلين: إن الآلهة تشبهوا بالناس، ونزلوا إلينا، فكانوا يدعون برنابا: زفس، وبولس: هرمس" (أعمال 14/11-12)، وزفس وهرمس كما أوضح محررو قاموس الكتاب المقدس :اسمان لإلهين من آلهة الرومان: أولهما: كبير الآلهة. والثاني: إله الفصاحة.
وهكذا اعتقد هؤلاء البس