ج19. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587
وَالْمَحِلُّ
مُحْتَمِلٌ لِلْقِسْمَةِ فَيَقْتَسِمَانِ نِصْفَيْنِ
وَلَوْ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا النِّصْفَ إلَى صَاحِبِهِ فَضَاعَتْ ضمن ( ( ( فمن ) )
) الْمُسَلَّمِ نِصْفُ الْوَدِيعَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ لَا يَضْمَنُ الْقَابِضُ شيئا بِالْإِجْمَاعِ
وَلَوْ كانت الْوَدِيعَةُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا أَنْ يُسَلِّمَ الْكُلَّ إلَى صَاحِبِهِ وإذا فَعَلَ فَضَاعَتْ لَا
ضَمَانَ عليه بالأجماع
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَالِكَ لَمَّا استحفظهما ( ( ( استحفظها ) ) )
فَقَدْ رضي بِيَدِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على كل الْوَدِيعَةِ كما إذَا لم تَكُنْ
الْوَدِيعَةُ مُحْتَمِلَةً لِلْقِسْمَةِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَالِكَ اسْتَحْفَظَ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا في بَعْضِ الْوَدِيعَةِ لَا في كُلِّهَا فَكَانَ رَاضِيًا بِثُبُوتِ
يَدِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الْبَعْضِ دُونَ الْكُلِّ وَهَذَا لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّهُ لَمَّا استحفظهما ( ( ( استحفظها ) ) ) جميعا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ
الْمَالُ في حِفْظِهِمَا جميعا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ في يَدِ كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلِاسْتِحَالَةِ فَيُقْسَمُ لِيَكُونَ النِّصْفُ في يَدِ
أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفُ في يَدِ الْآخَرِ فإذا كان الْمَحَلُّ مُحْتَمِلًا
لِلْقِسْمَةِ لم ( ( ( ولم ) ) ) يَكُنْ رَاضِيًا بكون ( ( ( يكون ) ) ) الكل في
يَدِ أَحَدِهِمَا فإذا فَعَلَ فَقَدْ خَالَفَهُ فَدَخَلَ في ضَمَانِهِ فإذا ضَاعَ
ضَمِنَ بِخِلَافِ ما إذَا لم يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ إذَا لم
يَحْتَمِلْ تَعَذَّرَ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ في حِفْظِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على
التَّوْزِيعِ في زَمَانٍ وَاحِدٍ فَكَانَ رَاضِيًا بِكَوْنِهِ في يَدِ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا في زَمَانَيْنِ على التَّهَايُؤِ فلم يَصِرْ مُخَالِفًا بِالدَّفْعِ
فَهُوَ الْفَرْقُ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الذي ذَكَرْنَا الْمُرْتَهِنَانِ وَالْوَكِيلَانِ
بِالشِّرَاءِ إذَا كان الْمَرْهُونُ وَالْمُشْتَرَى مِمَّا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ
فَسَلَّمَهُ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ
وَأَمَّا الثَّانِي وهو الْكَلَامُ فِيمَا فيه تُحْفَظُ الْوَدِيعَةُ فَإِنْ كان
الْعَقْدُ مُطْلَقًا فَلَهُ أَنْ يَحْفَظَهَا فِيمَا يَحْفَظُ فيه مَالَ نَفْسِهِ
من دَارِهِ وَحَانُوتِهِ وَكِيسِهِ وَصُنْدُوقِهِ لِأَنَّهُ ما الْتَزَمَ
حِفْظَهَا إلَّا فِيمَا يَحْفَظُ فيه مَالَ نَفْسِهِ وَلَيْسَ له أَنْ يَحْفَظَ في
حِرْزِ غَيْرِهِ لِأَنَّ حِرْزَ غَيْرِهِ في يَدِ ذلك الْغَيْرِ وَلَا يَمْلِكُ
الْحِفْظَ بيده فَلَا يَمْلِكُهُ بِمَا في يَدِهِ أَيْضًا إلَّا إذَا اسْتَأْجَرَ
حِرْزًا لِنَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يَحْفَظَ فيه لِأَنَّ الْحِرْزَ في يَدِهِ فما في
الْحِرْزِ يَكُونُ في يَدِهِ أَيْضًا فَكَانَ حَافِظًا بِيَدِ نَفْسِهِ فَمَلَكَ
ذلك وَلَهُ أَنْ يَحْفَظَ الْحَضَرَ وَالسَّفَرَ بِأَنْ يُسَافِرَ بها عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كان لِلْوَدِيعَةِ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ أو لم يَكُنْ وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ كان لها حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يَمْلِكُ الْمُسَافَرَةَ
بها وَإِنْ لم يَكُنْ يَمْلِكُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا
يَمْلِكُ كَيْفَ ما كان
أَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ
الْمُسَافَرَةَ بالوديعة تَضْيِيعُ الْمَالِ لِأَنَّ الْمَفَازَةَ مَضْيَعَةٌ قال
النبي عليه أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ الْمُسَافِرُ وَمَالُهُ على قَلْبٍ إلَّا ما
وَقَى اللَّهُ فَكَانَ التَّحْوِيلُ إليهما ( ( ( إليها ) ) ) تَضْيِيعًا فَلَا
يَمْلِكُهُ الْمُودَعِ
وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحِفْظِ صَدَرَ مُطْلَقًا عن تَعْيِينِ الْمَكَانِ
فَلَا يَجُوزُ التَّعْيِينُ إلَّا بِدَلِيلٍ قَوْلُهُ الْمَفَازَةُ مَضْيَعَةٌ
قُلْنَا مَمْنُوعٌ أو نَقُولُ إذَا كان الطَّرِيقُ مَخُوفًا
أَمَّا إذَا كان أمنا فَلَا وَالْكَلَامُ فِيمَا إذَا كان الطَّرِيقُ أمنا
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حين كانت الْغَلَبَةُ لِلْكَفَرَةِ
وَكَانَتْ الطَّرِيقُ مَخُوفَةً
وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا
أَنَّ في الْمُسَافَرَةِ بِمَالِهِ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ ضَرَرًا بِالْمَالِكِ
لِجَوَازِ أَنْ يَمُوتَ الْمُودَعُ في السَّفَرِ فَيَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِرْدَادِ
من مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُهُ ذلك إلَّا بِحِمْلٍ وَمُؤْنَةٍ عَظِيمَةٍ
فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَلَا كَذَلِكَ إذَا لم يَكُنْ لها حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا مع الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحِفْظِ لَا يَتَعَرَّضُ لِمَكَانٍ دُونَ مَكَان وَلَا
يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ من غَيْرِ دَلِيلٍ
قَوْلُهُمَا فيه ضَرَرٌ
قُلْنَا هذا النَّوْعُ من الضَّرَرِ ليس بِغَالِبٍ فَلَا يَجِبُ دَفْعُهُ على
أَنَّهُ إنْ كان فَهُوَ الذي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ أَطْلَقَ الْأَمْرَ وَمَنْ
لم يَنْظُرْ لِنَفْسِهِ لَا يُنْظَرُ له
هذا إذَا كان الْعَقْدُ مُطْلَقًا عن شَرْطٍ في الْفَصْلَيْنِ جميعا فَأَمَّا إذَا
شَرَطَ فيه شَرْطًا نَظَرَ فيه إنْ كان شَرْطًا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ وَيُفِيدُ
اُعْتُبِرَ وَإِلَّا فَلَا
بَيَانُ ذلك إذَا أَمَرَهُ بِالْحِفْظِ وَشَرَطَ عليه أَنْ يُمْسِكَهَا بيده
لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا يَضَعُهَا فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ حتى لو وَضَعَهَا في
بَيْتِهِ أو فِيمَا يُحْرِزُ فيه ما له عَادَةً فَضَاعَتْ لَا ضَمَانَ عليه
لِأَنَّ إمْسَاكَ الْوَدِيعَةِ بيده بِحَيْثُ لَا يَضَعُهَا أَصْلًا غير مَقْدُورٍ
له عَادَةً فَكَانَ شَرْطًا لَا يُمْكِنُ مُرَاعَاتُهُ فيلغو ( ( ( فيلغى ) ) )
وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْحِفْظِ وَنَهَاهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى امْرَأَتِهِ أو
عَبْدِهِ أو وَلَدِهِ الذي هو في عِيَالِهِ أو من يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ بيده
عَادَةً نَظَرَ فيه إنْ كان لَا يَجِدُ بُدًّا من الدَّفْعِ إلَيْهِ له أَنْ
يَدْفَعَ لِأَنَّهُ إذَا لم يَجِدْ بُدًّا من الدَّفْعِ إلَيْهِ كان النَّهْيِ عن
الدَّفْعِ إلَيْهِ نَهْيًا عن الْحِفْظِ فَكَانَ سَفَهًا فَلَا يَصِحُّ نَهْيُهُ
وَإِنْ كان يَجِدُ بُدًّا من الدَّفْعِ إلَيْهِ ليس له أَنْ يَدْفَعَ
وَلَوْ دَفَعَ يَدْخُلُ في ضَمَانِهِ لِأَنَّهُ إذَا كان ( ( ( فكان ) ) ) له منه
يد ( ( ( بد ) ) ) في الدَّفْعِ إلَيْهِ أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ وهو
مُفِيدٌ لِأَنَّ الْأَيْدِيَ في الْحِفْظِ مُتَفَاوِتَةٌ وَالْأَصْلُ في
الشُّرُوطِ اعْتِبَارُهَا ما أَمْكَنَ
وَلَوْ قال لَا تُخْرِجْهَا من الْكُوفَةِ فَخَرَجَ بها تَدْخُلُ في ضَمَانِهِ
لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ وهو مُفِيدٌ
____________________
(6/209)
لِأَنَّ
الْحِفْظَ في الْمِصْرِ أَكْمَلُ من الْحِفْظِ في السَّفَرِ إذْ السَّفَرُ
مَوْضِعُ الْخَطَرِ إلَّا إذَا خَافَ التَّلَفَ عليها فَاضْطُرَّ إلَى الْخُرُوجِ
بها فَخَرَجَ لَا تَدْخُلُ في ضَمَانِهِ لِأَنَّ الْخُرُوجَ بها في هذه الْحَالَةِ
طَرِيقٌ مُتَعَيَّنٌ لِلْحِفْظِ كما إذَا وَقَعَ في دَارِهِ حَرِيقٌ أو كان في
سَفِينَةٍ فَخَافَ الْغَرَقَ فَدَفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ
وَلَوْ قال له احْفَظْ الْوَدِيعَةَ في دَارِكَ هذه فَحَفِظَهَا في دَارٍ له
أُخْرَى فَإِنْ كانت الدَّارَانِ في الْحِرْزِ سَوَاءً أو كانت الثَّانِيَةُ
أَحْرَزَ لَا تَدْخُلُ في ضَمَانِهِ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مُفِيدٍ وَإِنْ
كانت الْأُولَى أَحْرَزَ من الثَّانِيَةِ دَخَلَتْ في ضَمَانِهِ لِأَنَّ
التَّقْيِيدَ بِهِ عِنْدَ تَفَاوُتِ الْحِرْزِ مُفِيدٌ
وَكَذَلِكَ لو أَمَرَهُ أَنْ يَضَعَهَا في دَارِهِ في هذه الْقِرْيَةِ وَنَهَاهُ
عن أَنْ يَضَعَهَا في دَارِهِ في قَرْيَةٍ أُخْرَى فَهُوَ على هذا التَّفْصِيلِ
وَلَوْ قال له أخبئها ( ( ( أخبأها ) ) ) في هذا الْبَيْتِ وَأَشَارَ إلَى بَيْتٍ
مُعَيَّنٍ في دَارِهِ فَخَبَّأَهَا في بَيْتٍ آخَرَ في تِلْكَ الدَّارِ لَا
تَدْخُلُ في ضَمَانِهِ لِأَنَّ الْبَيْتَيْنِ من دَارٍ وَاحِدَةٍ لَا
يَخْتَلِفَانِ في الْحِرْزِ عَادَةً بِخِلَافِ الدَّارَيْنِ فَلَا يَكُونُ
التَّعْيِينُ مُفِيدًا حتى لو تَفَاوَتَا بِأَنْ كان الْأَوَّلُ أَحْرَزَ من
الثَّانِي تَدْخُلُ في ضَمَانِهِ
وَالْأَصْلُ الْمَحْفُوظُ في هذا الْبَابِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ
يُمْكِنُ مُرَاعَاتُهُ وَيُفِيدُ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ وَكُلُّ شَرْطٍ لَا يُمْكِنُ
مُرَاعَاتُهُ وَلَا يُفِيدُ فَهُوَ هَدَرٌ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَجِبُ مُرَاعَاةُ الشُّرُوطِ في الْمَوَاضِعِ
كُلِّهَا حتى إن الْمَأْمُورَ بِالْحِفْظِ في بَيْتٍ مُعَيَّنٍ لَا يَمْلِكُ
الْحِفْظَ في بَيْتٍ آخَرَ من دَارٍ وَاحِدَةٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ على الْوَجْهِ
الذي أَوْقَعَهُ فَلَا يَتْرُكُ هذا الْأَصْلَ إلَّا لِضَرُورَةٍ ولم تُوجَدْ
وَصَارَ كَالدَّارَيْنِ وَالْجَوَابُ نعم إذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ عَاقِبَةٌ
حَمِيدَةٌ فَأَمَّا إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ السَّفَهِ وَالْعَبَثِ فَلَا لِأَنَّ
التَّعْيِينَ عِنْدَ انْعِدَامِ التَّفَاوُتِ في الْحِرْزِ يَجْرِي مَجْرَى الْعَبَثِ
كما إذَا قال احْفَظْ بِيَمِينِكَ وَلَا تَحْفَظْ بِشِمَالِكَ أو احْفَظْ في هذه
الزَّاوِيَةِ من الْبَيْتِ وَلَا تَحْفَظْ في الزَّاوِيَةِ الْأُخْرَى فَلَا
يَصِحُّ التَّعْيِينُ لِانْعِدَامِ الْفَائِدَةِ حتى لو تَفَاوَتَا في الْحِرْزِ
يَصِحُّ بِخِلَافِ الدَّارَيْنِ وَالْأَصْلُ في الدَّارَيْنِ اخْتِلَافُ الْحِرْزِ
فَكَانَ التَّعْيِينُ مُفِيدًا حتى لو لم يَخْتَلِفْ فَالْجَوَابُ فيها
كَالْجَوَابِ في الْبَيْتَيْنِ على ما مَرَّ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حَالِ الْوَدِيعَةِ فَحَالُهَا أنها في يَدِ الْمُودَعِ
أَمَانَةٌ لِأَنَّ الْمُودَعَ مُؤْتَمَنٌ فَكَانَتْ الْوَدِيعَةُ أَمَانَةً في
يَدِهِ وَيَتَعَلَّقُ بِكَوْنِهَا أَمَانَةً أَحْكَامٌ منها وُجُوبُ الرَّدِّ
عِنْدَ طَلَبِ الْمَالِكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { إنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } حتى لو حَبَسَهَا
بَعْدَ الطَّلَبِ فَضَاعَتْ ضَمِنَ
هذا إذَا كانت الْوَدِيعَةُ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَمَّا إذَا كانت مُشَاعًا
لِرَجُلَيْنِ فَجَاءَ أَحَدُهُمَا وَطَلَبَ حِصَّتَهُ لَا يَجِبُ عليه الرَّدُّ
بِأَنْ أَوَدَعَ رَجُلَانِ رَجُلًا وَدِيعَةً دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ أو ( ( (
وثيابا ) ) ) ثيابا وَغَابَ ثُمَّ جَاءَهُ أَحَدُهُمَا وَطَلَبَ بَعْضَهَا وَأَبَى
الْمُسْتَوْدَعُ ذلك لم يأمره ( ( ( يأمر ) ) ) الْقَاضِي بِدَفْعِ شَيْءٍ إلَيْهِ
ما لم يَحْضُرْ الْغَائِبُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يُقَسِّمُ ذلك وَيَدْفَعُ إلَيْهِ حِصَّتَهُ وَلَا
يَكُونُ ذلك قِسْمَةً جَائِزَةً على الْغَائِبِ بِلَا خِلَافٍ حتى لو هَلَكَ
الْبَاقِي في يَدِ الْمُودَعِ ثُمَّ جاء الْغَائِبُ له أَنْ يُشَارِكَ صَاحِبَهُ
في الْمَقْبُوضِ عِنْدَهُمْ جميعا
وَلَوْ هَلَكَ الْمَقْبُوضُ في يَدِ الْقَابِضِ ثُمَّ جاء الْغَائِبِ فَلَيْسَ
لِلْقَابِضِ أَنْ يُشَارِكَ صَاحِبَهُ في الْبَاقِي
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْآخِذَ بِأَخْذِ حِصَّتِهِ مُتَصَرِّفٌ في مِلْكِ
نَفْسِهِ فَكَانَ له ذلك من غَيْرِ حَضْرَةِ الْغَائِبِ كما إذَا كان لِرَجُلَيْنِ
دَيْنٌ مُشْتَرَكٌ على رَجُلٍ فَجَاءَ أَحَدُهُمَا وَطَلَبَ حِصَّتَهُ من
الدَّيْنِ فإنه يَدْفَعُ إلَيْهِ حِصَّتَهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُودَعَ لو دَفَعَ شيئا إلَى الشَّرِيكِ
الْحَاضِرِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ من النَّصِيبَيْنِ جميعا
وَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ من نَصِيبِهِ خَاصَّةً لَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ
لِأَنَّ دَفْعَ نَصِيبِ الْغَائِبِ إلَيْهِ مُمْتَنِعٌ شَرْعًا وَلَا سَبِيلَ إلَى
الثَّانِي ولأن نَصِيبَهُ شَائِعٌ في كل الْأَلْفِ لِكَوْنِ الْأَلْفِ
مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا وَلَا يتميز ( ( ( تتميز ) ) ) إلَّا بِالْقِسْمَةِ
وَالْقِسْمَةُ على الْغَائِبِ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَلَوْ سَلَّمْنَا ذلك حتى قَالَا
إذَا جاء الْغَائِبُ وقد هَلَكَ الْبَاقِي له أَنْ يُشَارِكَ الْقَابِضَ في
الْمَقْبُوضِ وَلَوْ نَفَذَتْ الْقِسْمَةُ لَمَا شَارَكَهُ فيه لِتَمَيُّزِ
حَقِّهِ عن حَقِّ صَاحِبِهِ بِالْقِسْمَةِ وَالْقِيَاسُ على الدَّيْنِ
الْمُشْتَرَكِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْغَرِيمَ يَدْفَعُ نَصِيبَ أَحَدِ الشركين
( ( ( الشريكين ) ) ) بِدَفْعِ مَالِ نَفْسِهِ لَا مَالِ شَرِيكِهِ الْغَائِبِ
وَهُنَا يَدْفَعُ مَالَ الْغَائِبِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ الْقِيَاسُ
وَلَوْ كان في يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَجَاءَهُ رَجُلَانِ وَادَّعَى كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ أَوْدَعَهُ إيَّاهَا فقال الْمُودَعُ أَوْدَعَهَا
أَحَدُكُمَا وَلَسْتُ أَدْرِي أَيُّكُمَا هو فَهَذَا في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو من
أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إن اصْطَلَحَ الْمُتَدَاعِيَانِ على أَنْ يَأْخُذَا
الْأَلْفَ وَتَكُونَ بَيْنَهُمَا وإما إنْ لم يَصْطَلِحَا وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا أَنَّ الْأَلْفَ له خَاصَّةً لَا لِصَاحِبِهِ فَإِنْ اصْطَلَحَا على ذلك
فَلَهُمَا ذلك وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ أَنْ يَمْتَنِعَ عن تَسْلِيمِ الْأَلْفِ
إلَيْهِمَا لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْأَلْفَ لِأَحَدِهِمَا وإذا اصْطَلَحَا على
أنها تَكُونُ بَيْنَهُمَا لَا يُمْنَعَانِ عن ذلك وَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ
يَسْتَحْلِفَا
____________________
(6/210)
الْمُودَعَ
بَعْدَ الصُّلْحِ وَإِنْ لم يَصْطَلِحَا وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ
الْأَلْفَ له لَا يَدْفَعُ إلَى أَحَدِهِمَا شيئا لِجَهَالَةِ الْمُقِرِّ له بالوديعة
وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمُودَعَ فَإِنْ اسْتَحْلَفَهُ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَحْلِفَ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِمَّا أَنْ يَنْكُلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِمَّا
أَنْ يَحْلِفَ لِأَحَدِهِمَا وَيَنْكُلَ لِلْآخَرِ فَإِنْ حَلَفَ لَهُمَا فَقَدْ
انْقَطَعَتْ خُصُومَتُهُمَا لِلْحَالِ إلَى وَقْتِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ كما في
سَائِرِ الْأَحْكَامِ وَهَلْ يَمْلِكَانِ الِاصْطِلَاحَ على أَخْذِ الْأَلْفِ
بَيْنَهُمَا بَعْدَ الِاسْتِحْلَافِ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ المعروف ( ( (
والمعروف ) ) ) بين أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ على
قَوْلِهِمَا لَا يَمْلِكَانِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَمْلِكَانِ
وَهِيَ مَسْأَلَةُ الصُّلْحِ بَعْدَ الْحَلِفِ وقد مَرَّتْ في كِتَابِ الصُّلْحِ
وَإِنْ نَكَلَ لَهُمَا يُقْضَى بِالْأَلْفِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَيَضْمَنُ
أَلْفًا أُخْرَى بَيْنَهُمَا فَيَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ
كَامِلَةٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّ كُلَّ الْأَلْفِ له
فإذا نَكَلَ له وَالنُّكُولُ بَذْلٌ أو إقْرَارٌ فَكَأَنَّهُ بَذَلَ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا أو أَقَرَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَلْفٍ
فَيُقْضَى عليه بَيْنَهُمَا بِأَلْفٍ وَيَضْمَنُ أَيْضًا أَلْفًا أُخْرَى تَكُونُ
بَيْنَهُمَا لِيَحْصُلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ كَامِلَةٌ
ولو حَلَفَ لِأَحَدِهِمَا وَنَكَلَ لِلْآخَرِ قَضَى بِالْأَلْفِ لِلَّذِي نَكَلَ
له وَلَا شَيْءَ لِلَّذِي حَلَفَ له لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةُ من نَكَلَ له لَا
حُجَّةَ من حَلَفَ له
وَمِنْهَا وُجُوبُ الْأَدَاءِ إلَى الْمَالِكِ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِأَدَاءِ
الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَأَهْلُهَا مَالِكُهَا حتى لو رَدَّهَا إلَى
مَنْزِلِ الْمَالِكِ فَجَعَلَهَا فيه أو دَفَعَهَا إلَى من هو في عِيَالِ
الْمَالِكِ دَخَلَتْ في ضَمَانِهِ حتى لو ضَاعَتْ يَضْمَنُ بِخِلَافِ
الْعَارِيَّةِ فإن الْمُسْتَعِيرَ لو جاء بِمَتَاعِ الْعَارِيَّةِ وَأَلْقَاهَا في
دَارِ الْمُعِيرِ أو جاء بِالدَّابَّةِ فَأَدْخَلَهَا في إصْطَبْلِهِ كان رَدًّا
صَحِيحًا لِأَنَّ ظَاهِرَ النَّصِّ الذي تَلَوْنَا أَنْ لَا يَصِحَّ إلَّا أنها
صَارَتْ مَخْصُوصَةً عن عُمُومِ الْآيَاتِ فَبَقِيَتْ الْوَدِيعَةُ على ظَاهِرِهِ
وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ في الْمَوْضِعَيْنِ ما ذَكَرنَا من لُزُومِ الرَّدِّ إلَى
الْمَالِكِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا في الْعَارِيَّةِ لِلْعَادَةِ الْجَارِيَةِ
فيها بِرَدِّهَا إلَى بَيْتِ الْمَالِكِ أو بِدَفْعِهَا إلَى من في عِيَالِهِ حتى
لو كانت الْعَارِيَّةُ شيئا نَفِيسًا كَعِقْدِ جَوْهَرٍ وَنَحْوِ ذلك لَا يَصِحُّ
الرَّدُّ لِانْعِدَامِ جَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ في الْأَشْيَاءِ
النَّفِيسَةِ ولم تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ في مَالِ الْوَدِيعَةِ فَتَبْقَى على
أَصْلِ الْقِيَاسِ وَلِأَنَّ مَبْنَى الْإِيدَاعِ على السِّتْرِ وَالْإِغْفَاءِ
عَادَةً فإن الْإِنْسَانَ إنَّمَا يُودَعُ مَالَ غَيْرِهِ سِرًّا عن الناس لِمَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ من الْمَصْلَحَةِ فَلَوْ رَدَّهُ على غَيْرِ الْمَالِكِ
لَانْكَشَفَ إذْ السِّرُّ إذَا جَاوَزَ اثْنَيْنِ يَفْشُو فَيَفُوتُ الْمَعْنَى الْمَجْعُولُ
له الْإِيدَاعُ بِخِلَافِ الْعَارِيَّةِ لِأَنَّ مَبْنَاهَا على الْإِعْلَانِ
وَالْإِظْهَارِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِحَاجَةِ الْمُسْتَعِيرِ إلَى
اسْتِعْمَالِهَا في حَوَائِجِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِعْمَالُ سِرًّا عن الناس
عَادَةً وَالرَّدُّ إلَى غَيْرِ الْمَالِكِ لَا يُفَوِّتُ ما شرع ( ( ( شرعت ) ) )
له الْعَارِيَّةُ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا ضَاعَتْ في يَدِ الْمُودَعِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ لَا
يَضْمَنُ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ليس على
الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغَلِّ الضَّمَانُ وَلَا على الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ
الْمُغَلِّ الضَّمَانُ وَلِأَنَّ يَدَهُ يَدُ الْمَالِكِ فَالْهَلَاكُ في يَدِهِ
كَالْهَلَاكِ في يَدِ الْمَالِكِ
وَكَذَلِكَ إذَا دَخَلَهَا نَقْصٌ لِأَنَّ النُّقْصَانَ هَلَاكُ بَعْضِ
الْوَدِيعَةِ وَهَلَاكُ الْكُلِّ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ
أَوْلَى
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُودَعَ مع الْمُودِعِ إذَا اخْتَلَفَا فقال الْمُودَعُ
هَلَكَتْ أو قال رَدَدْتُهَا إلَيْكَ وقال الْمَالِكُ بَلْ اسْتَهْلَكْتُهَا
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُودَعِ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَدَّعِي على الْأَمِينِ
أَمْرًا عَارِضًا وهو التَّعَدِّي وَالْمُودَعُ مُسْتَصْحِبٌ لِحَالِ الْأَمَانَةِ
فَكَانَ مُتَمَسِّكًا بِالْأَصْلِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لَكِنَّ مع
الْيَمِينِ لِأَنَّ التُّهْمَةَ قَائِمَةٌ فَيُسْتَحْلَفُ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ
وَكَذَلِكَ إذَا قال الْمُودِعُ اُسْتُهْلِكَتْ من غَيْرِ أذني وقال الْمُودَعُ
بَلْ اسْتَهْلَكْتَهَا أنت أو غَيْرُكَ بِأَمْرِكَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ
الْمُودَعِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قال إنَّهَا قد ضَاعَتْ ثُمَّ قال بَعْدَ ذلك بَلْ كنت رَدَدْتُهَا إلَيْكَ
لكني أُوهِمْتُ لم يُصَدَّقْ وهو ضَامِنٌ لِأَنَّهُ نَفَى الرَّدَّ بِدَعْوَى
الْهَلَاكِ وَنَفَى الْهَلَاكَ بِدَعْوَى الرَّدِّ فَصَارَ نَافِيًا ما أَثْبَتَهُ
مُثْبِتًا ما نَفَاهُ وَهَذَا تَنَاقُضٌ فَلَا تُسْمَعُ منه دَعْوَى الضَّيَاعِ
وَالرَّدِّ لِأَنَّ الْمُنَاقِضَ لَا قَوْلَ له وَلِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى
دَعْوَتَيْنِ وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ في كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَقَدْ ذَهَبَتْ
أَمَانَتُهُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُغَيِّرُ حَالَ الْمَعْقُودِ عليه من الْأَمَانَةِ
إلَى الضَّمَانِ فَأَنْوَاعٌ منها تَرْكُ الْحِفْظِ لِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ
الْتَزَمَ حِفْظَ الْوَدِيعَةِ على وَجْهٍ لو تَرَكَ حِفْظَهَا حتى هَلَكَتْ
يَضْمَنُ بَدَلَهَا وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ وَلِهَذَا لو رَأَى إنْسَانًا
يَسْرِقُ الْوَدِيعَةَ وهو قَادِرٌ على مَنْعِهِ ضَمِنَ لِتَرْكِ الْحِفْظِ
الْمُلْتَزَمِ بِالْعَقْدِ وهو مَعْنَى قَوْلِ مَشَايِخِنَا إنَّ الْمُودَعَ
يُؤْخَذُ بِضَمَانِ الْعَقْدِ
وَمِنْهَا تَرْكُ الْحِفْظِ لِلْمَالِكِ بِأَنْ خَالَفَهُ في الْوَدِيعَةِ بِأَنْ
كانت الْوَدِيعَةُ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ أو دَابَّةً فَرَكِبَهَا أو عَبْدًا
فَاسْتَعْمَلَهُ أو أَوْدَعَهَا من ليس في
____________________
(6/211)
عِيَالِهِ
وَلَا هو مِمَّنْ يَحْفَظُ مَالَهُ بيده عَادَةً لِأَنَّ الْمُلْتَزَمَ
بِالْعَقْدِ هو الْحِفْظُ لِلْمَالِكِ فإذا حَفِظَ لِنَفْسِهِ فَقَدْ تَرَكَ
الْحِفْظَ لِلْمَالِكِ فَدَخَلَتْ في ضَمَانِهِ
وحكي عن الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ الهنداوي ( ( ( الهندواني ) ) ) أَنَّهُ مَنَعَ
دُخُولَ الْعَيْنِ في ضَمَانِهِ في الْمُنَاظَرَةِ حين قَدِمَ بُخَارَى وسأل ( ( (
وسئل ) ) ) عن هذه الْمَسْأَلَةِ وَهَذَا خِلَافُ إطْلَاقِ الْكِتَابِ فإنه قال
يَبْرَأُ عن الضَّمَانِ وَالْبَرَاءَةُ عن الضَّمَانِ بَعْدَ الدُّخُولِ في
الضَّمَانِ تَكُونُ وَكَذَلِكَ الْمُودِعُ مع الْمُودَعِ إذَا اخْتَلَفَا فقال
الْمُودَعُ هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ أو رَدَدْتُهَا إلَيْكَ
وقال الْمَالِكُ اسْتَهْلَكْتَهَا
إنْ كانت قبل الْخِلَافِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُودَعِ وَإِنْ كان بَعْدَهُ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ وَنَحْوِ ذلك مِمَّا يَدُلُّ على دُخُولِ
الْوَدِيعَةِ في ضَمَانِهِ بِالْخِلَافِ وَإِنْ خَالَفَ في الْوَدِيعَةِ ثُمَّ
عَادَ الْوِفَاقُ يَبْرَأْ عن الضَّمَانِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَبْرَأُ عن الضَّمَانِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَدِيعَةَ لَمَّا دَخَلَتْ في ضَمَانِ الْمُودَعِ
بِالْخِلَافِ فَقَدْ ارْتَفَعَ الْعَقْدُ فَلَا يَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ ولم
يُوجَدْ
فَصَارَ كما لو جَحَدَ الْوَدِيعَةَ ثُمَّ أَقَرَّ بها
وَكَذَلِكَ الْمُسْتَعِيرُ وَالْمُسْتَأْجَرُ إذَا خَالَفَا ثُمَّ عادا ( ( ( عاد
) ) ) إلَى الْوِفَاقِ لَا يَبْرَآنِ عن الضَّمَانِ لِمَا قُلْنَا
كَذَا هذا
وَلَنَا أنه بَعْدَ الْخِلَافِ مُودَعٌ وَالْمُودَعُ إذَا هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ
من غَيْرِ صُنْعِهِ لَا ضَمَانَ عليه كما قبل الْخِلَافِ
وَدَلَالَةُ أَنَّهُ بَعْدَ الْخِلَافِ مُودَعٌ أَنَّ الْمُودَعَ من يَحْفَظُ
مَالَ غَيْرِهِ له بِأَمْرِهِ وهو بَعْدَ الْخِلَافِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْحِفْظِ
حَافِظٌ مَالَ الْمَالِكِ له بِأَمْرِهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ تَنَاوَلَ ما بَعَدَ
الْخِلَافِ
قَوْلُهُ الْوَدِيعَةُ دَخَلَتْ في ضَمَانِ الْمُودَعِ فَيَرْتَفِعُ الْعَقْدُ
قُلْنَا مَعْنَى الدُّخُولِ في ضَمَانِ الْمُودَعِ أنه انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِ
الضَّمَانِ مَوْقُوفًا وُجُوبُهُ على وُجُودِ شَرْطِهِ وهو الْهَلَاكُ في حَالَةِ
الْخِلَافِ لَكِنَّ هذا لم يُوجِبْ ارْتِفَاعَ الْعَقْدِ أَلَيْسَ أَنَّ من
وَكَّلَ إنْسَانًا ببيع ( ( ( يبيع ) ) ) عَبْدَهُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ
بِأَلْفٍ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي دخل الْعَبْدُ في ضَمَانِهِ لِانْعِقَادِ
سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وهو تَسْلِيمُ مَالِ الْغَيْرِ إلَى غَيْرِهِ من غَيْرِ
إذْنِهِ وَمَعَ ذلك بَقِيَ الْعَقْدُ حتى لو أَخَذَهُ كان له بَيْعُهُ
بِأَلْفَيْنِ كَذَا هذا
على أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْعَقْدَ انْفَسَخَ لَكِنْ في قَدْرِ ما فَاتَ
وحكمه من حَقِّهِ وهو الْحِفْظُ الْمُلْتَزَمُ لِلْمَالِكِ في زَمَانِ الْخِلَافِ
لَا فِيمَا بَقِيَ في الْمُسْتَقْبَلِ كما إذَا اسْتَحْفَظَهُ بِأَجْرِ كل شَهْرٍ
بِكَذَا وَتَرَكَ الْحِفْظَ في بَعْضِ الشَّهْرِ ثُمَّ اشْتَغَلَ بِهِ في
الْبَاقِي بَقِيَ الْعَقْدُ في الْبَاقِي يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِقَدْرِهِ
وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الِارْتِفَاعَ لِضَرُورَةِ فَوَاتِ حُكْمِ
الْعَقْدِ فَلَا يَظْهَرُ إلَّا في قَدْرِ الْفَائِتِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ
وَالْإِعَارَةِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ تَمْلِيكُ
مَنَافِعَ مُقَدَّرَةٍ بِالْمَكَانِ أو الزَّمَانِ فإذا بَلَغَ الْمَكَانَ
الْمَذْكُورَ فَقَدْ انْتَهَى الْعَقْدُ لِانْتِهَاءِ حُكْمِهِ فَلَا يَعُودُ
إلَّا بِالتَّجْدِيدِ وَكَذَا الْإِعَارَةُ لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ
عِنْدَنَا إلَّا أنها تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالْإِجَارَةُ
تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ
وَأَمَّا حُكْمُ عَقَدِ الْوَدِيعَةِ فَلُزُومُ الْحِفْظِ لِلْمَالِكِ مُطْلَقًا
أو شَهْرًا أو ( ( ( وزمان ) ) ) زمان ما بَعْدَ الْخِلَافِ دَاخِلٌ في
الْمُطْلَقِ وَالْوَقْتِ فَلَا يَنْقَضِي بِالْخِلَافِ بَلْ يَتَقَرَّرُ فَهُوَ
الْفَرْقُ
وَمِنْهَا جُحُودُ الْوَدِيعَةِ في وَجْهِ الْمَالِكِ عِنْدَ طَلَبِهِ حتى لو
قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على الْإِيدَاعِ أو نَكَلَ الْمُودَعُ عن الْيَمِينِ أو
أَقَرَّ بِهِ دَخَلَتْ في ضَمَانِهِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا ظَهَرَ بِالْحُجَّةِ
فَقَدْ ظَهَرَ ارْتِفَاعُهُ بِالْجُحُودِ أو عِنْدَهُ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمَّا
طَلَبَ منه الْوَدِيعَةَ فَقَدْ عَزَلَهُ عن الْحِفْظِ وَالْمُودَعُ لَمَّا جَحَدَ
الْوَدِيعَةَ حَالَ حَضْرَةِ الْمَالِكِ فَقَدْ عَزَلَ نَفْسَهُ عن الْحِفْظِ
فَانْفَسَخَ الْعَقْدُ فَبَقِيَ مَالُ الْغَيْرِ في يَدِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ
فَيَكُونُ مَضْمُونًا عليه فإذا هَلَكَ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ
وَلَوْ جَحَدَ الْوَدِيعَةَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على هَلَاكِهَا فَهَذَا
لَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أنها
هَلَكَتْ بَعْدَ الْجُحُودِ أو قبل الْجُحُودِ أو مُطْلَقًا فَإِنْ أَقَامَ
الْبَيِّنَةَ على أنها هَلَكَتْ بَعْدَ الْجُحُودِ أو مُطْلَقًا لَا يَنْتَفِعُ
بِبَيِّنَتِهِ لِأَنَّ الْعَقْدَ ارْتَفَعَ بِالْجُحُودِ أو عِنْدَهُ فَدَخَلَتْ
الْعَيْنُ في ضَمَانِهِ
وَالْهَلَاكُ بَعْدَ ذلك يُقَرِّرُ الضَّمَانَ لَا أَنْ يُسْقِطَهُ
وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أنها هَلَكَتْ قبل الْجُحُودِ تُسْمَعُ
بَيِّنَتُهُ وَلَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّ الْهَلَاكَ قبل الْجُحُودِ لَمَّا ثَبَتَ
بِالْبَيِّنَةِ فَقَدْ ظَهَرَ انْتِهَاءُ الْعَقْدِ قبل الْجُحُودِ فَلَا
يَرْتَفِعُ بِالْجُحُودِ فَظَهَرَ أَنَّ الْوَدِيعَةَ هَلَكَتْ من غَيْرِ صُنْعِهِ
فَلَا يَضْمَنُ
وَلَوْ ادَّعَى الْهَلَاكَ قبل الْجُحُودِ وَلَا بَيِّنَةَ له وَطَلَب الْيَمِينَ
من الْمُودِعِ حَلَّفَهُ الْقَاضِي بِاَللَّهِ تَعَالَى ما لم يَعْلَمُ أنها
هَلَكَتْ قبل جُحُودِهِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ في بَابِ الِاسْتِحْلَافِ أَنَّ الذي
يُسْتَحْلَفُ عليه لو كان أَمْرًا لو أَقَرَّ بِهِ الْحَالِفُ لَلَزِمَهُ
فإذا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ وَهُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَالِكَ لو أَقَرَّ
بِالْهَلَاكِ قبل الْجُحُودِ لَقُبِلَ منه وَيَسْقُطُ الضَّمَانُ عن الْمُودَعِ
فإذا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ لَكِنْ على الْعِلْمِ لِأَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ على
فِعْلِ غَيْرِهِ
هذا إذَا جَحَدَ حَالَ حَضْرَةِ الْمَالِكِ فَإِنْ جَحَدَ عِنْدَ غَيْرِ
الْمَالِكِ حَالَ غَيْبَتِهِ قال أبو يُوسُفَ لَا يَضْمَنُ وقال زُفَرُ رَحِمَهُ
اللَّهُ يَضْمَنُ في الْحَالَيْنِ جميعا
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ ما هو سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْحَضْرَةِ
وَالْغِيبَةِ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ
وَجْهُ قَوْلِ
____________________
(6/212)
أبي
يُوسُفَ أَنَّ الْجُحُودَ سَبَبٌ لِلضَّمَانِ من حَيْثُ إنَّهُ يَرْفَعُ الْعَقْدَ
بِالْعَزْلِ على ما بَيَّنَّا وَلَا يَصِحُّ الْعَزْلُ حَالَةَ الْغَيْبَةِ فَلَا يَرْتَفِعُ
الْعَقْدُ وَلِأَنَّ الْجُحُودَ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِ حَالَ غَيْبَتِهِ
مَعْدُودٌ من بَابِ الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ عُرْفًا وَعَادَةً لِأَنَّ مَبْنَى
الْإِيدَاعِ على السِّتْرِ وَالْإِخْفَاءِ فَكَانَ الْجُحُودُ عِنْدَ غَيْرِ
الْمَالِكِ حَالَ غَيْبَتِهِ حِفْظًا مَعْنًى فَكَيْفَ يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ
الضَّمَانِ
وَمِنْهَا الْإِتْلَافُ حَقِيقَةً أو مَعْنًى وهو إعْجَازُ الْمَالِكِ عن
الِانْتِفَاعِ بالوديعة لِأَنَّ إتْلَافَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ سَبَبٌ
لِوُجُوبِ الضَّمَانِ حتى لو طَلَبَ الْوَدِيعَةَ فَمَنَعَهَا الْمُودَعُ مع
الْقُدْرَةِ على الدَّفْعِ وَالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ حتى هَلَكَتْ يَضْمَنُ
لِأَنَّهُ لَمَّا حَبَسَهَا عنه عَجَزَ عن الِانْتِفَاعِ بها لِلْحَالِ فَدَخَلَتْ
في ضَمَانِهِ فإذا هَلَكَتْ تَقَرَّرَ الْعَجْزُ فَيَجِبُ الضَّمَانُ
وَلَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِالْإِتْلَافِ وَادَّعَى أَنَّهُ كان بِإِذْنِ الْمَالِكِ
لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ
الضَّمَانِ في الْأَصْلِ وَقَوْلُهُ كان بِإِذْنِ الْمَالِكِ دَعْوَى أَمْرٍ
عَارِضٍ فَلَا تُقْبَلُ إلَّا بِحُجَّةٍ
وَكَذَلِكَ الْمُودَعُ إذَا خَلَطَ الْوَدِيعَةَ بِمَالِهِ خَلْطًا لَا
يَتَمَيَّزُ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ إذَا كان لَا يَتَمَيَّزُ فَقَدْ عَجَزَ
الْمَالِكُ من الِانْتِفَاعِ بالوديعة فَكَانَ الْخَلْطُ منه إتلاف ( ( ( إتلافا )
) ) فَيَضْمَنُ وَيَصِيرُ مِلْكًا بِالضَّمَانِ وَإِنْ مَاتَ كان ذلك لِجَمِيعِ
الْغُرَمَاءِ وَالْمُودَعُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ فيه وَلَوْ اخْتَلَطَتْ
بِمَالِهِ بِنَفْسِهَا من غَيْرِ صُنْعِهِ لَا يَضْمَنُ وهو شَرِيكٌ لِصَاحِبِهَا
أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَلِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ منه بَلْ تَلِفَتْ
بِنَفْسِهَا لِانْعِدَامِ الْفِعْلِ من جِهَتِهِ وَأَمَّا كَوْنُهُ شَرِيكًا
لِصَاحِبِهَا فلوجود ( ( ( فلوجوده ) ) ) مَعْنَى الشَّرِكَةِ وهو اخْتِلَاطُ
الْمِلْكَيْنِ
وَلَوْ أَوْدَعَهُ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَخَلَطَ
الْمُودَعُ الْمَالَيْنِ خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ فَلَا سَبِيلَ لَهُمَا على
أَخْذِ الدَّرَاهِمِ ويضمن ( ( ( يضمن ) ) ) الْمُودَعُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَلْفًا وَيَكُونُ الْمَخْلُوطُ له
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هُمَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَا اقْتَسَمَا
الْمَخْلُوطَ نِصْفَيْنِ وَإِنْ شَاءَا ضَمَّنَا الْمُودَعَ أَلْفَيْنِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ سَائِرُ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ إذاخلطا
الْجِنْسُ بِالْجِنْسِ خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ كَالْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ
وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ وَالدُّهْنِ بِالدُّهْنِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن الْوَدِيعَةَ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا لَكِنْ عَجَزَ
الْمَالِكُ عن الْوُصُولِ إلَيْهَا بِعَارِضِ الْخَلْطِ فَإِنْ شَاءَا اقْتَسَمَا
لِاعْتِبَارِ جِهَةِ الْقِيَامِ وَإِنْ شَاءَا ضَمَّنَا لِاعْتِبَارِ جِهَةِ
الْعَجْزِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَمَّا خَلَطَهُمَا خَلْطًا
لَا يَتَمَيَّزُ فَقَدْ عَجَزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن الِانْتِفَاعِ
بِالْمَخْلُوطِ فَكَانَ الْخَلْطُ منه إتْلَافَ الْوَدِيعَةِ عن كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
فَيَضْمَنُ وَلِهَذَا يَثْبُتُ اخْتِيَارُ التَّضْمِينِ عِنْدَهُمَا وَاخْتِيَارُ
التَّضْمِينِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِوُجُودِ الْإِتْلَافِ
دَلَّ أَنَّ الْخَلْطَ منه وَقَعَ إتْلَافًا
وَلَوْ أَوَدَعَهُ رَجُلٌ حِنْطَةً وَآخَرُ شَعِيرًا فَخَلَطَهُمَا فَهُوَ ضَامِنٌ
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلَ حَقِّهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْخَلْطَ
إتْلَافٌ وَعِنْدَهُمَا لَهُمَا أَنْ يَأْخُذَا الْعَيْنَ وَيَبِيعَاهَا
وَيَقْتَسِمَا الثَّمَنَ على قِيمَةِ الْحِنْطَةِ مَخْلُوطًا بِالشَّعِيرِ وَعَلَى
قِيمَةِ الشَّعِيرِ غَيْرِ مَخْلُوطٍ بِالْحِنْطَةِ لِأَنَّ قِيمَةَ الْحِنْطَةِ
تَنْقُصُ بِخَلْطِ الشَّعِيرِ وهو يَسْتَحِقُّ الثَّمَنَ لِقِيَامِ الْحَقِّ في
الْعَيْنِ وهو مُسْتَحِقُّ الْعَيْنِ بِخِلَافِ قِيمَةِ الشَّعِيرِ لِأَنَّ
قِيمَةَ الشَّعِيرِ تَزْدَادُ بِالْخَلْطِ بِالْحِنْطَةِ وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ
مِلْكُ الْغَيْرِ فَلَا يَسْتَحِقُّهَا صَاحِبُ الشَّعِيرِ وَلَوْ أَنْفَقَ
الْمُودَعُ بَعْضَ الْوَدِيعَةِ ضَمِنَ قَدْرَ ما أَنْفَقَ وَلَا يَضْمَنُ
الْبَاقِيَ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه إلَّا إتْلَافُ قَدْرِ ما أَنْفَقَ وَلَوْ
رَدَّ مثله فَخَلَطَهُ بِالْبَاقِي يَضْمَنُ الْكُلَّ لِوُجُودِ إتْلَافِ الْكُلِّ
منه النِّصْفُ بِالْإِتْلَافِ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي بِالْخَلْطِ لِكَوْنِ
الْخَلْطِ إتْلَافًا على ما بَيَّنَّا
وَلَوْ أَخَذَ بَعْضَ دَرَاهِمِ الْوَدِيعَةِ لِيُنْفِقَهَا فلم يُنْفِقْهَا ثُمَّ
رَدَّهَا إلَى مَوْضِعِهَا بَعْدَ أَيَّامٍ فَضَاعَتْ لَا ضَمَانَ عليه عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَضْمَنُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَخَذَهَا على وَجْهِ التَّعَدِّي فَيَضْمَنُ كما لو
انْتَفَعَ بها
وَلَنَا أَنَّ نَفْسَ الْأَخْذِ ليس بِإِتْلَافٍ وَنِيَّةُ الْإِتْلَافِ ليس ( ( (
ليست ) ) ) بِإِتْلَافٍ فَلَا تُوجِبُ الضَّمَانَ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عز شَأْنُهُ عَفَا عن أُمَّتِي ما حَدَّثَتْ
بِهِ أَنْفُسَهَا ما لم يَتَكَلَّمُوا أو يَفْعَلُوا ظَاهِرُ الحديث يَقْتَضِي
أَنْ يَكُونَ ما حَدَّثَتْ بِهِ النَّفْسُ عَفْوًا على الْعُمُومِ إلَّا ما خُصَّ
بِدَلِيلٍ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا أَوْدَعَهُ كِيسًا مَسْدُودًا فَحَلَّهُ
الْمُسْتَوْدَعُ أو صُنْدُوقًا مُقْفَلًا فَفَتْحَ الْقُفْلَ ولم يَأْخُذْ منه
شيئا حتى ضَاعَ أو مَاتَ الْمُودَعُ فَإِنْ كانت الْوَدِيعَةُ قَائِمَةً
بِعَيْنِهَا تُرَدُّ على صَاحِبِهَا لِأَنَّ هذا عَيْنُ مَالِهِ
وَمَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ على لِسَانِ رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم
وَإِنْ كانت لَا تُعْرَفُ بِعَيْنِهَا فَهِيَ دَيْنٌ في تَرِكَتِهِ يُحَاصُّ
الْغُرَمَاءُ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ مُجْهِلًا لِلْوَدِيعَةِ فَقَدْ أَتْلَفَهَا
مَعْنَى لِخُرُوجِهَا من أَنْ تكون ( ( ( يكون ) ) ) مُنْتَفِعًا به ( ( ( بها ) )
) في حَقِّ المال ( ( ( المالك ) ) ) بِالتَّجْهِيلِ وهو تَفْسِيرُ الْإِتْلَافِ
وَلَوْ قالت الْوَرَثَةُ إنَّهَا هَلَكَتْ أو رُدَّتْ على الْمَالِكِ لَا
يُصَدَّقُونَ على ذلك لِأَنَّ الْمَوْتَ مُجْهَلًا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ
لِكَوْنِهِ إتْلَافًا فَكَانَ
____________________
(6/213)
دَعْوَى
الْهَلَاكِ وَالرَّدِّ دَعْوَى أَمْرٍ عَارِضٍ فَلَا يُقْبَلُ إلَّا بِحُجَّةٍ
وَيُحَاصُّ الْمُودَعُ الْغُرَمَاءَ لِأَنَّهُ دَيْنُ الِاسْتِهْلَاكِ على ما
ذَكَرْنَا فَيُسَاوِي دَيْنَ الصِّحَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
كِتَابُ الْعَارِيَّةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في
بَيَانِ رُكْنِ الْعَارِيَّةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ
الْعَقْدِ وفي بَيَانِ ما يَمْلِكهُ الْمُسْتَعِيرُ من التَّصَرُّفِ في الْمُسْتَعَارِ
وما لَا يَمْلِكُهُ وفي بَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ وفي بَيَانِ حَالِ
الْمُسْتَعَارِ وفي بَيَانِ ما يُوجِبُ تَغَيُّرَ حَالِهِ أَمَّا رُكْنُهَا فَهُوَ
الْإِيجَابُ من الْمُعِيرِ وَأَمَّا الْقَبُولُ من الْمُسْتَعِيرِ فَلَيْسَ
بِرُكْنٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا وهو قَوْلُ زُفَرَ كما في الْهِبَةِ حتى إن من
حَلَفَ لَا يُعِيرُ فُلَانًا فَأَعَارَهُ ولم يَقْبَلْ يَحْنَثُ كما إذَا حَلَفَ
لَا يَهَبُ فُلَانًا شيئا فَوَهَبَهُ ولم يَقْبَلْ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ
الْهِبَةِ
وَالْإِيجَابُ هو أَنْ يَقُولَ أَعَرْتُك هذا الشَّيْءَ أو مَنَحْتُك هذا
الثَّوْبَ أو هذه الدَّارَ أو أَطْعَمْتُك هذه الْأَرْضَ أو هذه الْأَرْضُ لَك
طُعْمَةً أو أَخْدَمْتُك هذا الْعَبْدَ أو هذا الْعَبْدُ لَك خِدْمَةً أو
حَمَلْتُك على هذه الدَّابَّةِ إذَا لم يَنْوِ بِهِ الْهِبَةَ أو دَارِي لك
سُكْنَى أو دَارِي لك عُمْرَى سُكْنَى أَمَّا لَفْظُ الْإِعَارَةِ فَصَرِيحٌ في
بَابِهَا وَأَمَّا الْمِنْحَةُ فَهِيَ اسْمٌ لِلْعَطِيَّةِ التي يَنْتَفِعُ
الْإِنْسَانُ بها زَمَانًا ثُمَّ يَرُدُّهَا على صَاحِبِهَا وهو مَعْنَى
الْعَارِيَّةِ
قال النبي عليه السلام الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَمِنْحَةُ الْأَرْضِ زِرَاعَتُهَا
قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ازْرَعْهَا أو امْنَحْهَا أَخَاك وَكَذَا
الْإِطْعَامُ الْمُضَافُ إلَى الْأَرْضِ هو إطْعَامُ مَنَافِعِهَا التي تَحْصُلُ
منها بِالزِّرَاعَةِ من غَيْرِ عِوَضٍ عُرْفًا وَعَادَةً وهو مَعْنَى
الْعَارِيَّةِ
وَأَمَّا إخْدَامُ الْعَبْدِ إيَّاهُ فَجَعَلَ خِدْمَتَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وهو
تَفْسِيرُ الْعَارِيَّةِ وَكَذَا قَوْلُهُ دَارِي لَك سُكْنَى أو عمرى سُكْنَى هو
جَعْلُ سُكْنَى الدَّارِ له من غَيْرِ عِوَضٍ وَسُكْنَى الدَّارِ مَنْفَعَتُهَا
الْمَطْلُوبَةُ منها عَادَةً فَقَدْ أتى بِمَعْنَى الْإِعَارَةِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ حَمَلْتُك على هذه الدَّابَّةِ فإنه يَحْتَمِلُ الْإِعَارَةَ
وَالْهِبَةَ فَأَيُّ ذلك نَوَى فَهُوَ على ما نَوَى لِأَنَّهُ نَوَى ما يُحْتَمَلُ
لَفْظُهُ وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْعَارِيَّةِ لِأَنَّهَا أَدْنَى
فَكَانَ الْحَمْلُ عليها أَوْلَى وَلَوْ قال دَارِي لَك رُقْبَى أو حَبْسٌ فَهُوَ
عَارِيَّةٌ عِنْد أبي حَنِيفَة وَمُحَمَّدٍ
وَعِنْد أبي يُوسُفَ هِبَةٌ وَقَوْلُهُ رُقْبَى أو حَبْسٌ بَاطِلٌ وَهِيَ
مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْهِبَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ التي يَصِيرُ الرُّكْنُ بها إعَارَةً شَرْعًا
فَأَنْوَاعٌ منها الْعَقْلُ فَلَا تَصِحُّ الْإِعَارَةُ من الْمَجْنُونِ
وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا
حتى تَصِحَّ الْإِعَارَةُ من الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ لِأَنَّهَا من تَوَابِعِ
التِّجَارَةِ وَأَنَّهُ يَمْلِكُ التِّجَارَةَ فَيَمْلِكُ ما هو من تَوَابِعِهَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَمْلِكُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْمَأْذُونِ
وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَيَمْلِكُهَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ
لِأَنَّهَا من تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فَيَمْلِكُ بِمِلْكِ ذلك
وَمِنْهَا الْقَبْضُ من الْمُسْتَعِيرِ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ
فَلَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ بِدُونِ الْقَبْضِ كَالْهِبَةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَعَارُ مِمَّا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِدُونِ
اسْتِهْلَاكِهِ فَإِنْ لم يَكُنْ لَا تَصِحُّ إعَارَتُهُ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ
ثَبَتَ في الْمَنْفَعَةِ لَا في الْعَيْنِ إلَّا إذَا كانت مُلْحَقَةً
بِالْمَنْفَعَةِ على ما نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْعَقْدِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ
أَحَدُهُمَا في بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ صِفَتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ
لِلْمُسْتَعِيرِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أو ما هو مُلْحَقٌ بِالْمَنْفَعَةِ عُرْفًا
وَعَادَةً عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إبَاحَةُ الْمَنْفَعَةِ حتى يَمْلِكَ
الْمُسْتَعِيرُ الْإِعَارَةَ عِنْدَنَا في الْجُمْلَةِ كَالْمُسْتَأْجِرِ يَمْلِكُ
الْإِجَارَةَ وَعِنْدَهُ لَا يَمْلِكُهَا أَصْلًا كَالْمُبَاحِ له الطَّعَامُ لَا
يَمْلِكُ الْإِبَاحَةَ من غَيْرِهِ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا
الْإِجْمَاعُ فَلِجَوَازِ الْعَقْدِ من غَيْرِ أَجَلٍ وَلَوْ كان تَمْلِيكُ
الْمَنْفَعَةِ لَمَا جَازَ من غَيْرِ أَجَلٍ كَالْإِجَارَةِ وَكَذَا
الْمُسْتَعِيرُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَجِّرَ الْعَارِيَّةَ وَلَوْ ثَبَتَ
الْمِلْكُ له في الْمَنْفَعَةِ لِمِلْكٍ كَالْمُسْتَأْجِرِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ
لِأَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ لِانْعِدَامِ الْمَنْفَعَةِ حَالَةَ الْعَقْدِ
وَالْمَعْدُومُ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ لِأَنَّهُ بَيْعُ ما ليس عِنْدَ
الْإِنْسَانِ وقد نهى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عنه إلَّا أنها جُعِلَتْ
مَوْجُودَةً عِنْدَ الْعَقْدِ في بَابِ الْإِجَارَةِ حُكْمًا لِلضَّرُورَةِ وَلَا
ضَرُورَةَ إلَى الْإِعَارَةِ فَبَقِيَتْ الْمَنَافِعُ فيها على أَصْلِ الْعَدَمِ
وَلَنَا أَنَّ الْمُعِيرَ سَلَّطَهُ على تَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ وَصَرْفِهَا إلَى
نَفْسِهِ على وَجْهٍ زَالَتْ يَدُهُ عنها وَالتَّسْلِيطُ على هذا الْوَجْهِ
يَكُونُ تَمْلِيكًا لَا إبَاحَةً كما في الْأَعْيَانِ وَإِنَّمَا
____________________
(6/214)
صَحَّ
من غَيْرِ أَجَلٍ لِأَنَّ بَيَانَ الْأَجَلِ لِلتَّحَرُّزِ عن الْجَهَالَةِ
الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ وَالْجَهَالَةُ في بَابِ الْعَارِيَّةِ لَا
تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ وَلِهَذَا
الْمَعْنَى لَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ الإعارة ( ( (
والإعارة ) ) ) عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَلَوْ مَلَكَ الْإِجَارَةَ لَكَانَ فيه
إثْبَاتُ صِفَةِ اللُّزُومِ بِمَا ليس بِلَازِمٍ أو سَلْبُ صِفَةِ اللُّزُومِ عن
اللَّازِمِ وَكُلُّ ذلك بَاطِلٌ
وَقَوْلُهُ الْمَنَافِعُ مُنْعَدِمَةٌ عِنْدَ الْعَقْدِ
قُلْنَا نعم لَكِنَّ هذا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ كما في الْإِجَارَةِ
وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقْدَ الْوَارِدَ على الْمَنْفَعَةِ عِنْدَنَا عَقْدٌ مُضَافٌ
إلَى حِينِ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ فَلَا يَنْعَقِدُ في حَقِّ الْحُكْمِ إلَّا
عِنْدَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ شيئا فَشَيْئًا على حَسَبِ حُدُوثِهَا فلم يَكُنْ
بَيْعُ الْمَعْدُومِ وَلَا بَيْعُ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ
وَعَلَى هذا تَخْرُجُ إعَارَةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أنها تَكُونُ قَرْضًا
لَا إعَارَةً لِأَنَّ الْإِعَارَةَ لَمَّا كانت تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ أو
إبَاحَةَ الْمَنْفَعَةِ على اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ وَلَا يُمْكِنُ
الِانْتِفَاعُ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهَا وَلَا سَبِيلَ إلَى ذلك إلَّا
بِالتَّصَرُّفِ في الْعَيْنِ لَا في الْمَنْفَعَةِ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحًا
إعَارَةٌ حَقِيقِيَّةٌ فَتُصَحَّحُ قَرْضًا مَجَازًا لِوُجُودِ مَعْنَى
الْإِعَارَةِ فيه حتى لو اسْتَعَارَ حُلِيًّا لِيَتَجَمَّلَ بِهِ صَحَّ لِأَنَّهُ
يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ من غَيْرِ اسْتِهْلَاكٍ بِالتَّجَمُّلِ فَأَمْكَنَ
الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْحَمْلِ على الْمَجَازِ وَكَذَا
إعَارَةُ كل ما لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهِ
كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ يَكُونُ قَرْضًا لَا إعَارَةً لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّ مَحَلَّ حُكْمِ الْإِعَارَةِ الْمَنْفَعَةُ لَا بِالْعَيْنِ إلَّا إذَا كان
مُلْحَقًا بِالْمَنْفَعَةِ عُرْفًا وَعَادَةً كما إذَا مَنَحَ إنْسَانًا شاتا ( (
( شاة ) ) ) أو نَاقَةً لِيَنْتَفِعَ بِلَبَنِهَا وَوَبَرِهَا مُدَّةً ثُمَّ
يَرُدَّهَا على صَاحِبِهَا لِأَنَّ ذلك محدود ( ( ( معدود ) ) ) من الْمَنَافِعِ
عُرْفًا وَعَادَةً فَكَانَ له حُكْمُ الْمَنْفَعَةِ وقد رُوِيَ عن النبي عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هل من أَحَدٍ يَمْنَحُ من إبِلِهِ نَاقَةَ أَهْلِ بَيْتٍ
لَا دُرَّ لهم وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّرْغِيبِ كَمَنْ مَنَحَ مِنْحَةَ
وَرِقٍ أو مِنْحَةَ لُبْسٍ كان له بِعِدْلِ رَقَبَةٍ
وَكَذَا لو مَنَحَ جَدْيًا أو عَنَاقًا كان عَارِيَّةً لِأَنَّهُ يَعْرِضُ أَنْ
يَنْتَفِعَ بِلَبَنِهِ وَصُوفِهِ وَيَتَّصِلُ بهذا الْفَصْلِ بَيَانُ ما
يَمْلِكُهُ الْمُسْتَعِيرُ من التَّصَرُّفِ في الْمُسْتَعَارِ وما لَا يَمْلِكُهُ
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ عَقْدَ
الْإِعَارَةِ لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ أما إنْ كان مُطْلَقًا وأما إنْ كان
مُقَيَّدًا فَإِنْ كان مُطْلَقًا بِأَنْ أَعَارَ دَابَّتَهُ إنْسَانًا ولم يُسَمِّ
مَكَانًا وَلَا زَمَانًا وَلَا الرُّكُوبَ وَلَا الْحَمْلَ فَلَهُ أَنْ
يَسْتَعْمِلَهَا في أَيِّ مَكَان وَزَمَانٍ شَاءَ وَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ أو
يَحْمِلَ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْمُطْلَقِ أَنْ يَجْرِيَ على إطْلَاقِهِ وقد
مَلَّكَهُ مَنَافِعَ الْعَارِيَّةِ مُطْلَقًا فَكَانَ له أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا على
الْوَجْهِ الذي مَلَكَهَا
إلَّا أَنَّهُ لَا يَحْمِلُ عليها ما يَعْلَمُ أَنَّ مِثْلَهَا لَا يُطِيقُ
بِمِثْلِ هذا الْحَمْلِ وَلَا يَسْتَعْمِلُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ما لَا
يَسْتَعْمِلُ مِثْلَهَا من الدَّوَابِّ لِذَلِكَ عَادَةً حتى لو فَعَلَ فَعَطِبَتْ
يَضْمَنُ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْإِطْلَاقِ لَكِنَّ
الْمُطْلَقَ يَتَقَيَّدُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ دَلَالَةً كما يَتَقَيَّدُ
نَصًّا وَلَهُ أَنْ يُعِيرَ الْعَارِيَّةَ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كانت الْعَارِيَّةُ
مِمَّا يَتَفَاوَتُ في اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ أو لَا لِأَنَّ إطْلَاقَ
الْعَقْدِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمُسْتَعِيرِ فَكَانَ هو في
التَّمْلِيكِ من غَيْرِهِ على الْوَجْهِ الذي مَلَكَهُ مُتَصَرِّفًا في مِلْكِ
نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ لِمَا قُلْنَا
فَإِنْ آجَرَ وسلم إلَى الْمُسْتَأْجِرِ ضَمِنَ لِأَنَّهُ دَفَعَ مَالَ الْغَيْرِ
إلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَصَارَ غَاصِبًا فَإِنْ شَاءَ ضَمِنَهُ وَإِنْ شَاءَ
ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ
كَالْمُشْتَرِي من الْغَاصِبِ إلَّا أَنَّهُ إذَا ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ لَا
يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ
الضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ آجَرَ مِلْكَ نَفْسِهِ
وَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنْ كان عَالِمًا بِكَوْنِهَا عَارِيَّةً في
يَدِهِ لَا يَرْجِعُ على الْمُسْتَعِيرِ وَإِنْ لم يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ
يَرْجِعُ عليه لِأَنَّهُ إذَا لم يَعْلَمْ بِهِ فَقَدْ صَارَ مَغْرُورًا من جِهَةِ
الْمُسْتَعِيرِ فَيَرْجِعُ عليه بِضَمَانِ الْغُرُورِ وهو ضَمَانُ الْكَفَالَةِ في
الْحَقِيقَةِ
وإذا كان عَالِمًا لم يَصِرْ مَغْرُورًا من جِهَتِهِ فَلَا يَرْجِعُ عليه وَهَلْ
يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال مَشَايِخُ الْعِرَاقِ
يَمْلِكُ وهو قَوْلُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِعَارَةَ
فَالْإِيدَاعُ أَوْلَى لِأَنَّهَا دُونَ الْإِعَارَةِ
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَمْلِكُ اسْتِدْلَالًا بِمَسْأَلَةٍ مَذْكُورَةٍ في
الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهِيَ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ إذَا رَدَّ الْعَارِيَّةَ على
يَدِ أَجْنَبِيٍّ ضَمِنَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّدَّ على يَدِهِ إيدَاعُ إيَّاهُ
وَلَوْ مَلَكَ الْإِيدَاعَ لَمَا ضَمِنَ وَإِنْ كان مُقَيَّدًا فَيُرَاعَى فيه
الْقَيْدُ ما أَمْكَنَ
لِأَنَّ أَصْلَ اعْتِبَارِ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ على الْوَجْهِ الذي تَصَرَّفَ
إلَّا إذَا لم يمكن ( ( ( يكن ) ) ) اعْتِبَارُهُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ وَنَحْوِ
ذلك فَلَغَا الْوَصْفَ لِأَنَّ ذلك يَجْرِي مَجْرَى الْعَبَثِ ثُمَّ إنَّمَا
يُرَاعَى الْقَيْدُ فِيمَا دخل لَا فِيمَا لم يَدْخُلْ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ إذَا
قُيِّدَ بِبَعْضِ الْأَوْصَافِ يَبْقَى مُطْلَقًا فِيمَا وَرَاءَهُ فَيُرَاعَى
عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِيمَا وَرَاءَهُ
بَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ في مَسَائِلَ إذَا أَعَارَ إنْسَانًا دَابَّةً على أَنْ
يَرْكَبَهَا الْمُسْتَعِيرُ بِنَفْسِهِ ليس له أَنْ يُعِيرَهَا من غَيْرِهِ
وَكَذَلِكَ إذَا أَعَارَهُ ثَوْبًا
____________________
(6/215)
على
أَنْ يَلْبَسَهُ بِنَفْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ في الْمُقَيَّدِ
اعْتِبَارُ الْقَيْدِ فيه إلَّا إذَا تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ
وَاعْتِبَارُ هذا الْقَيْدِ مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ لِتَفَاوُتِ الناس في
اسْتِعْمَالِ الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ رُكُوبًا وَلُبْسًا فَلَزِمَ اعتبارالقيد
فيه فَإِنْ فَعَلَ حتى هَلَكَ ضَمِنَ لِأَنَّهُ خَالَفَ وَإِنْ رَكِبَ بِنَفْسِهِ
وَأَرْدَفَ غَيْرَهُ فَعَطِبَتْ فَإِنْ كانت الدَّابَّةُ مِمَّا تُطِيقُ
حَمْلَهُمَا جميعا يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ الدَّابَّةِ لِأَنَّهُ لم يُخَالِفْ
إلَّا في قَدْرِ النِّصْفِ وَإِنْ كانت الدَّابَّةُ مِمَّا لَا تُطِيقُ
حَمْلَهُمَا ضَمِنَ جَمِيعَ قِيمَتِهَا لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهَا
وَلَوْ أَعَارَهُ دَارًا لِيَسْكُنَهَا بِنَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يُسْكِنَهَا
غَيْرَهُ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ بِالْعَقْدِ السُّكْنَى وَالنَّاسُ لَا
يَتَفَاوَتُونَ فيه عَادَةً فلم يَكُنْ التَّقْيِيدُ بِسُكْنَاهُ مُفِيدًا
فَيَلْغُو إلَّا إذَا كان الذي يُسْكِنُهَا إيَّاهُ حَدَّادًا أو قَصَّارًا
وَنَحْوَهُمَا مِمَّنْ يُوهِنُ عليه الْبِنَاءُ فَلَيْسَ له أَنْ يُسْكِنَهَا
إيَّاهُ وَلَا أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ ذلك لِأَنَّ الْمُعِيرَ لَا يَرْضَى بِهِ
عَادَةً وَالْمُطْلَقُ يَتَقَيَّدُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كمافي الْإِجَارَةِ
وَلَوْ أَعَارَهُ دَابَّةً على أَنْ يَحْمِلَ عليها عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ شَعِيرٍ
فَلَيْسَ له أَنْ يَحْمِلَ عليها عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ لِأَنَّ
الْحِنْطَةَ أَثْقَلُ من الشَّعِيرِ فَكَانَ اعْتِبَارُ الْقَيْدِ مُفِيدًا
فَيُعْتَبَرُ وَلَوْ أَعَارَهَا على أَنْ يَحْمِلَ عليها عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ
حِنْطَةٍ فَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ عليها عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ شعير ( ( ( شعيرا ) ) )
أو دُخْنًا أو أُرْزًا أو غير ذلك مِمَّا يَكُونُ مِثْلَ الْحِنْطَةِ أو أَخَفَّ
منها اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ له ذلك حتى إنها لو عَطِبَتْ
لَا يَضْمَنُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ وأن يَضْمَنَ وهو قَوْلُ زُفَرَ
لِأَنَّهُ خَالَفَ
وَجَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هذا وَإِنْ كان خِلَافًا صُورَةً فَلَيْسَ
بِخِلَافٍ مَعْنًى لِأَنَّ الْمَالِكَ يَكُونُ رَاضِيًا بِهِ دَلَالَةً فلم يَكُنْ
التَّقْيِيدُ بِالْحِنْطَةِ مُفِيدًا وَصَارَ كما لو شَرَطَ عليه أَنْ يَحْمِلَ
عليها عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ من حِنْطَةِ نَفْسِهِ فَحَمَلَ عليها عَشَرَةَ
مَخَاتِيمَ من حِنْطَةِ غَيْرِهِ فإنه لَا يَكُونُ مُخَالِفًا حتى لَا يَضْمَنَ
كَذَا هذا
وَلَوْ قال على أَنْ يَحْمِلَ عليها عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةً ليس له أَنْ
يَحْمِلَ عليها حَطَبًا أو تِبْنًا أو آجُرًّا فَحَمَلَ عليها من الْحِنْطَةِ
زِيَادَةً على الْمُسَمَّى في الْقَدْرِ فَعَطِبَتْ نُظِرَ في ذلك
فَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مِمَّا لَا تُطِيقُ الدَّابَّةُ حَمْلَهَا يَضْمَنُ
جَمِيعَ قِيمَتِهَا لِأَنَّ حَمْلَ ما لَا تُطِيقُ الدَّابَّةُ إتْلَافٌ
لِلدَّابَّةِ وَإِنْ كانت الدَّابَّةُ مِمَّا تُطِيقُ حَمْلَهَا يَضْمَنُ من
قِيمَتِهَا قَدْرَ الزِّيَادَةِ حتى لو قال على أَنْ يَحْمِلَ عليها عَشَرَةَ
مَخَاتِيمَ حِنْطَةً فَحَمَلَ عليها أَحَدَ عَشَرَ مَخْتُومًا فَعَطِبَتْ يَضْمَنُ
جزأ من أَحَدَ عَشَرَ جزأ من قِيمَتِهَا لِأَنَّهُ لم يُتْلِفْ منها إلَّا هذا
الْقَدْرَ وَلَوْ قَيَّدَهَا بِالْمَكَانِ بِأَنْ قال على أَنْ تَسْتَعْمِلَهَا في
مَكَانِ كَذَا في الْمِصْرِ يَتَقَيَّدُ بِهِ وَلَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا في
أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ بِأَيِّ شَيْءٍ شَاءَ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ لم يُوجَدْ إلَّا
بِالْمَكَانِ فَبَقِيَ مُطْلَقًا فِيمَا وَرَاءَهُ لَكِنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ
يُجَاوِزَ ذلك الْمَكَانَ حتى لو جَاوَزَهُ دخل في ضَمَانِهِ وَلَوْ أَعَادَهَا
إلَى الْمَكَانِ الْمَأْذُونِ لَا يَبْرَأُ عن الضَّمَانِ حتى لو هَلَكَتْ من
قَبْلِ التَّسْلِيمِ إلَى الْمَالِكِ يَضْمَنُ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ عليه
الرَّحْمَةُ الْآخَرُ وكان يقول أَوَّلًا يَبْرَأُ عن الضَّمَانِ كَالْمُودِعِ
إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاق ثُمَّ رَجَعَ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بين الْعَارِيَّةِ والوديعة قد ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ
الْوَدِيعَةِ وَكَذَلِكَ لو قَيَّدَهَا بِالزَّمَانِ بِأَنْ قال على أَنْ
يَسْتَعْمِلَهَا يَوْمًا يَبْقَى مُطْلَقًا فِيمَا وَرَاءَهُ لَكِنَّهُ
يَتَقَيَّدُ بِالزَّمَانِ حتى لو مَضَى الْيَوْمُ ولم يَرُدَّهَا على الْمَالِكِ
حتى هَلَكَتْ يَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ لو قَيَّدَهَا بِالْحَمْلِ
وَكَذَلِكَ لو قَيَّدَهَا بِالِاسْتِعْمَالِ بِأَنْ قال على أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا
حتى لو أَمْسَكَهَا ولم يَسْتَعْمِلْهَا حتى هَلَكَتْ يَضْمَنُ لِأَنَّ
الْإِمْسَاكَ منه خِلَافٌ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمُعِيرُ أو
الْمُسْتَعِيرُ في الْأَيَّامِ أو الْمَكَانِ أو فِيمَا يُحْمَلُ عليها
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعِيرِ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَسْتَفِيدُ مِلْكَ
الِانْتِفَاعِ من الْمُعِيرِ فَكَانَ الْقَوْلُ في الْمِقْدَارِ وَالتَّعْيِينِ
قَوْلَهُ لَكِنْ مع الْيَمِينِ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الْحُكْمِ فَهِيَ أَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ
لِلْمُسْتَعِيرِ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ
فَلَا يَكُونُ لَازِمًا كَالْمِلْكِ الثَّابِتِ بِالْهِبَةِ فَكَانَ لِلْمُعِيرِ
أَنْ يَرْجِعَ في الْعَارِيَّةِ سَوَاءٌ أَطْلَقَ الْعَارِيَّةَ أو وَقَّتَ لها
وَقْتًا
وَعَلَى هذا إذَا اسْتَعَارَ من آخَرَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ عليها أو لِيَغْرِسَ
فيها ثُمَّ بَدَا لِلْمَالِكِ أَنْ يُخْرِجَهُ فَلَهُ ذلك سَوَاءٌ كانت
الْعَارِيَّةُ مُطْلَقَةً أو مؤقتة لِمَا قُلْنَا غير أنها إنْ
____________________
(6/216)
كانت
مُطْلَقَةً له أَنْ يُجْبِرَ الْمُسْتَعِيرَ على قَلْعِ الْغَرْسِ وَنَقْضِ
الْبِنَاءِ لِأَنَّ في التَّرْكِ ضَرَرًا بِالْمُعِيرِ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ له
وإذا قَلَعَ وَنَقَضَ لَا يَضْمَنُ الْمُعِيرُ شيئا من قِيمَةِ الْغَرْسِ
وَالْبِنَاءِ لِأَنَّهُ لو وَجَبَ عليه الضَّمَانُ لَوَجَبَ بِسَبَبِ الْغُرُورِ
وَلَا غُرُورَ من جِهَتِهِ حَيْثُ أَطْلَقَ الْعَقْدَ ولم يُوَقِّتْ فيه وَقْتًا
فَأَخْرَجَهُ قبل الْوَقْتِ بَلْ هو الذي غَرَّرَ نَفْسَهُ حَيْثُ حَمَلَ
الْمُطْلَقَ على الْأَبَدِ وَإِنْ كانت مُوَقَّتَةً فَأَخْرَجَهُ قبل الْوَقْتِ لم
يَكُنْ له أَنْ يُخْرِجَهُ وَلَا يُجْبَرُ على النَّقْضِ وَالْقَلْعِ
وَالْمُسْتَعِيرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ صَاحِبَ الْأَرْضِ قِيمَةَ
غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ قَائِمًا سَلِيمًا وَتَرَكَ ذلك عليه
لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَّتَ لِلْعَارِيَّةِ وَقْتًا ثُمَّ أَخْرَجَهُ قبل الْوَقْتِ
فَقَدْ غَرَّهُ فَصَارَ كَفِيلًا عنه فِيمَا يَلْزَمُهُ من الْعُهْدَةِ إذْ
ضَمَانُ الْغُرُورِ كَفَالَةٌ فَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ عليه بِالضَّمَانِ
وَيَمْلِكُ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ لان
هذا حُكْمُ الْمَضْمُونَاتِ أنها تُمْلَكُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ
وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ غَرْسَهُ وَبِنَاءَهُ وَلَا شَيْءَ على صَاحِبِ الْأَرْضِ
ثُمَّ إنَّمَا يَثْبُتُ خِيَارُ الْقَلْعِ وَالنَّقْضِ لِلْمُسْتَعِيرِ إذَا لم
يَكُنْ الْقَلْعُ أو النَّقْضُ مُضِرًّا بِالْأَرْضِ فَإِنْ كان مُضِرًّا بها
فَالْخِيَارُ لِلْمَالِكِ لِأَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ وَالْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ
تَابِعٌ لها فَكَانَ الملك ( ( ( المالك ) ) ) صَاحِبَ أَصْلٍ وَالْمُسْتَعِيرُ
صَاحِبَ تَبَعٍ فَكَانَ إثْبَاتُ الْخِيَارِ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ أَوْلَى إنْ
شَاءَ أَمْسَكَ الْغَرْسَ وَالْبِنَاءَ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ شَاءَ رضي بِالْقَلْعِ
وَالنَّقْضِ
هذا إذَا اسْتَعَارَ أَرْضًا لِلْغَرْسِ أو الْبِنَاءِ فَأَمَّا إذَا اسْتَعَارَ
أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ فَزَرَعَهَا ثُمَّ أَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ
يَأْخُذَهَا لم يَكُنْ له ذلك حتى يَحْصُدَ الزَّرْعَ بَلْ يُتْرَكُ في يَدِهِ
إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ اسْتِحْسَانًا في الْقِيَاسِ أَنْ
يَكُونَ له ذلك كما في الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِلِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النَّظَرَ من الْجَانِبَيْنِ
وَرِعَايَةَ الْحَقَّيْنِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ مُمْكِنٌ في
الزَّرْعِ لِأَنَّ إدْرَاكَ الزَّرْعِ له وَقْتٌ مَعْلُومٌ فَيُمْكِنُ النَّظَرُ
من الْجَانِبَيْنِ جَانِبِ الْمُسْتَعِيرِ لَا شَكَّ فيه وَجَانِبِ الْمَالِكِ
بِالتَّرْكِ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ بِالْأَجْرِ وَلَا يُمْكِنُ في الْغَرْسِ
وَالْبِنَاءِ لِأَنَّهُ ليس لِذَلِكَ وَقْتٌ مَعْلُومٌ فَكَانَ مُرَاعَاةُ صَاحِبِ
الْأَصْلِ أَوْلَى
وَقَالُوا في بَابِ الْإِجَارَةِ إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ لم
يَسْتَحْصِدْ أَنَّهُ يُتْرَكُ في يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ
بِأَجْرِ الْمِثْلِ كما في الْعَارِيَّةِ لِمَا قُلْنَا بِخِلَافِ بَابِ الْغَصْبِ
لِأَنَّ التَّرْكَ لِلنَّظَرِ وَالْغَاصِبُ جَانٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ
بَلْ يُجْبَرُ على الْقَلْعِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حَالِ الْمُسْتَعَارِ فَحَالُهُ أَنَّهُ أَمَانَةٌ في
يَدِ الْمُسْتَعِيرِ في حَالِ الِاسْتِعْمَالِ بِالْإِجْمَاعِ فَأَمَّا في غَيْرِ
حَالِ الِاسْتِعْمَالِ فَكَذَلِكَ عِنْدنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ مَضْمُونٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم اسْتَعَارَ من صَفْوَانَ دِرْعًا يوم حُنَيْنٌ فقال صَفْوَانُ أَغَصْبًا
يا محمد فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ وَلِأَنَّ
الْعَيْنَ مَضْمُونَةُ الرَّدِّ حَالَ قِيَامِهَا فَكَانَتْ مَضْمُونَةَ
الْقِيمَةِ حَالَ هَلَاكِهَا كَالْمَغْصُوبِ
وَهَذَا لِأَنَّ الْعَيْنَ اسْمٌ لِلصُّورَةِ وَالْمَعْنَى وَبِالْهَلَاكِ أن
عَجَزَ عن رَدِّ الصُّورَةِ لم يَعْجِزْ عن رَدِّ الْمَعْنَى لِأَنَّ قِيمَةَ
الشَّيْءِ مَعْنَاهُ فَيَجِبُ عليه رَدُّهُ بِمَعْنَاهُ كما في الْغَصْبِ
وَلِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ الْغَيْرِ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا عليه
كَالْمَقْبُوضِ على سَوْمِ الشِّرَاءِ
وَلَنَا أَنَّهُ لم يُوجَدْ من الْمُسْتَعِيرِ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَلَا
يَجِبُ عليه الضَّمَانُ كَالْوَدِيعَةِ وَالْإِجَارَةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذلك
لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَجِبُ على الْمَرْءِ بِدُونِ فِعْلِهِ وَفِعْلُهُ
الْمَوْجُودُ منه ظَاهِرًا هو الْعَقْدُ وَالْقَبْضُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ
أَمَّا الْعَقْدُ فَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ بِالْمَنْفَعَةِ تَمْلِيكًا أو
إبَاحَةً على اخْتِلَاف الْأَصْلَيْنِ
وَأَمَّا الْقَبْضُ فَلِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا إن قَبْضَ مَالِ الْغَيْرِ
بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَبِالْإِذْنِ
أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ قَبْضَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ هو إثْبَاتُ
الْيَدِ على مَالِ الْغَيْرِ وَحِفْظُهُ وَصِيَانَتُهُ عن الْهَلَاكِ وَهَذَا
إحْسَانٌ في حَقِّ الْمَالِكِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { هل جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا
الْإِحْسَانُ } وقال تَبَارَكَ وَتَعَالَى { ما على الْمُحْسِنِينَ من سَبِيلٍ }
دَلَّ أَنَّ قَبْضَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا
لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَمَعَ الْإِذْنِ أَوْلَى
الثاني ( ( ( والثاني ) ) ) إن الْقَبْضَ الْمَأْذُونَ فيه لَا يَكُونُ تَعَدِّيًا
لِأَنَّهُ لَا يُفَوِّتُ يَدَ الْمَالِكِ وَلَا ضَمَانَ إلَّا على الْمُتَعَدِّي
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَلَا عُدْوَانَ إلَّا على الظَّالِمِينَ }
بِخِلَافِ قَبْضِ الْغَصْبِ
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِضَمَانِ الرَّدِّ قُلْنَا إنْ وَجَبَ عليه رَدُّ
الْعَيْنِ حَالَ قِيَامِهَا لم يَجِبْ عليه رَدُّ الْقِيمَةِ حَالَ هلالكها ( ( (
هلاكها ) ) ) وَقَوْلُهُ قِيمَتُهَا مَعْنَاهَا قُلْنَا مَمْنُوعٌ وَهَذَا لِأَنَّ
الْقِيمَةَ هِيَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ
عَيْنٌ أُخْرَى لها صُورَةٌ وَمَعْنًى غَيْرُ الْعَيْنِ الْأُولَى فَالْعَجْزُ عن
رَدِّ أَحَدِ الْعَيْنَيْنِ لم يُوجِبْ رَدَّ الْعَيْنِ الْأُخْرَى
وفي بَابِ الْغَصْبِ لَا يَجِبُ عليه ضَمَانُ الْقِيمَةِ بهذا الطَّرِيقِ بَلْ
بِطَرِيقٍ آخَرَ وهو إتْلَافُ الْمَغْصُوبِ مَعْنًى لِمَا عُلِمَ وَهُنَا لم
يُوجَدْ
حتى ولو وُجِدَ يَجِبُ الضَّمَانُ
____________________
(6/217)
ثُمَّ
نَقُولُ إنَّمَا وَجَبَ عليه ضَمَانُ الرَّدِّ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَتَى انْتَهَى
بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ أو بِالطَّلَبِ بَقِيَ الْعَيْنُ في يَدِهِ
كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَغْصُوبُ مَضْمُونُ الرَّدِّ حَالَ قِيَامِهِ وَمَضْمُونُ
الْقِيمَةِ حَالَ هَلَاكِهِ وَعِنْدَنَا إذَا هَلَكَتْ في تِلْكَ الْحَالَةِ
ضَمِنَ
وَأَمَّا قَوْلُهُ قَبْضُ مَالِ الْغَيْرِ لِنَفْسِهِ فَنَعَمْ لَكِنْ قَبْضُ
مَالِ الْغَيْرِ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ
الضَّمَانِ لِمَا ذَكَرْنَا فَمَعَ الْإِذْنِ أَوْلَى
وَالْمَقْبُوضُ على سَوْمِ الشِّرَاءِ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْقَبْضِ بَلْ
بِالْعَقْدِ بِطَرِيقِ التَّعَاطِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ الثَّابِتِ دَلَالَةً
لِمَا عُلِمَ وَلَا حُجَّةَ له في حديث صَفْوَانَ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ قد
اخْتَلَفَتْ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ هَرَبَ من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فَأَمَّنَهُ وكان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يُرِيدُ
حُنَيْنًا فقال هل عِنْدَك شَيْءٌ من السِّلَاحِ فقال عَارِيَّةً أو غَصْبًا فقال
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَارِيَّةً فَأَعَارَهُ ولم يذكر فيه الضَّمَانَ
وَالْحَادِثَةُ حَادِثَةٌ وَاحِدَةٌ مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَا يَكُونُ الثَّابِتُ
إلَّا إحْدَاهُمَا فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ مع ما
أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ فَيَحْتَمِلُ ضَمَانَ الرَّدِّ وَبِهِ نَقُولُ فَلَا يُحْمَلُ
على ضَمَانِ الْغَيْرِ مع الِاحْتِمَالِ يُؤَيِّدُ ما قُلْنَا ما رُوِيَ عن رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُوجِبُ تَغَيُّرَ حَالِهَا فَاَلَّذِي يُغَيِّرُ
حَالَ الْمُسْتَعَارِ من الْأَمَانَةِ إلَى الضَّمَانِ ما هو الْمُغَيِّرُ حَالَ
الْوَدِيعَةِ وهو الْإِتْلَافُ حَقِيقَةً أو مَعْنًى بِالْمَنْعِ بَعْدَ الطَّلَبِ
أو بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَبِتَرْكِ الْحِفْظِ وَبِالْخِلَافِ حتى لو
حَبَسَ الْعَارِيَّةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أو بَعْدَ الطَّلَبِ قبل
انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ وَاجِبُ الرَّدِّ في هَاتَيْنِ
الْحَالَتَيْنِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ
وَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ على الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تَرُدَّهُ
وَلِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ انْتَهَى بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أو الطَّلَبِ
فَصَارَتْ الْعَيْنُ في يَدِهِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَغْصُوبُ مَضْمُونُ الرَّدِّ
حَالَ قِيَامِهِ وَمَضْمُونُ الْقِيمَةِ حَالَ هَلَاكِهِ
وَلَوْ رَدَّ الْعَارِيَّةَ مع عَبْدِهِ أو ابْنِهِ أو بَعْضِ من في عِيَالِهِ أو
مع عبد الْمُعِيرِ أو رَدَّهَا بِنَفْسِهِ إلَى مَنْزِلِ الْمَالِكِ وَجَعَلَهَا
فيه لَا يَضْمَنُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ كما في الْوَدِيعَةِ
وقد ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا في كِتَابِ الْوَدِيعَةِ وَكَذَا إذَا تَرَكَ
الْحِفْظَ حتى ضَاعَتْ وَكَذَا إذَا خَالَفَ إلَّا أَنَّ في بَابِ الْوَدِيعَةِ
إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ يَبْرَأُ عن الضَّمَانِ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُنَا لَا يَبْرَأُ وقد
تَقَدَّمَ الْفَرْقُ في كِتَابِ الْوَدِيعَةِ
وَلَوْ تَصَرَّفَ الْمُسْتَعِيرُ وَادَّعَى أَنَّ الْمَالِكَ قد أَذِنَ له
بِذَلِكَ وَجَحَدَ الْمَالِكُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ حتى يَقُومَ
لِلْمُسْتَعِيرِ على ذلك بَيِّنَةٌ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ منه سَبَبٌ لِوُجُوبِ
الضَّمَانِ في الْأَصْلِ فَدَعْوَى الْإِذْنِ منه دَعْوَى أَمْرٍ عَارِضٍ فَلَا
تُسْمَعُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ أَمَّا الْوَقْفُ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ
في بَيَانِ جَوَازِ الْوَقْفِ وَكَيْفِيَّتِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ
وفي بَيَانِ حُكْمِ الْوَقْفِ الْجَائِزِ وما يَتَّصِلُ بِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ لَا خِلَافَ بين
الْعُلَمَاءِ في جَوَازِ الْوَقْفِ في حَقِّ وُجُوبِ التَّصَدُّقِ بِالْفَرْعِ ما
دَامَ الواقف ( ( ( الوقف ) ) ) حَيًّا حتى إن من وَقَفَ دَارِهِ أو أَرْضَهُ
يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِغَلَّةِ الدَّارِ وَالْأَرْضِ وَيَكُونُ ذلك
بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ بِالتَّصَدُّقِ بِالْغَلَّةِ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا في
جَوَازِهِ في حَقِّ زَوَالِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ قَضَاءُ
الْقَاضِي أو أَضَافَهُ إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ بِأَنْ قال إذَا مِتَّ فَقَدْ
جَعَلْتُ دَارِي أو أَرْضِي وَقْفًا على كَذَا
أو قال هو وَقْفٌ في حَيَاتِي صدقه بَعْدَ وَفَاتِي
وَاخْتَلَفُوا في جَوَازِهِ مُزِيلًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ إذَا لم تُوجَدْ
الْإِضَافَةُ إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا اتَّصَلَ بِهِ حُكْمُ حَاكِمٍ
قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ لَا يَجُوزُ حتى كان لِلْوَاقِفِ بَيْعُ
الْمَوْقُوفِ وَهِبَتُهُ وإذا مَاتَ يَصِيرُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ رضي اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمْ يَجُوزُ حتى لَا يُبَاعَ وَلَا يُوهَبَ وَلَا يُورَثَ
ثُمَّ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عن أبي حَنِيفَةَ لَا فَرْقَ بين ما إذَا وَقَفَ في
حَالَةِ الصِّحَّةِ وَبَيْنَ ما إذَا وَقَفَ في حَالَةِ الْمَرَضِ حتى لَا يَجُوزَ
عِنْدَهُ في الْحَالَيْنِ جميعا إذَا لم تُوجَدْ الْإِضَافَةُ وَلَا حُكْمُ
الْحَاكِمِ
وَرَوَى الطَّحَاوِيَّ عنه أَنَّهُ إذَا وَقَفَ في حَالَةِ الْمَرَضِ جَازَ
عِنْدَهُ وَيُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ
وَفَاتِهِ
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَهُوَ جَائِزٌ في الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا بَنَى رِبَاطًا أو خَانًا لَلْمُجْتَازِينَ أو
سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ أو جَعَلَ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً لَا تَزُولُ رَقَبَةُ
هذه الْأَشْيَاءِ عن مِلْكِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ إلا إذا أَضَافَهُ إلَى ما
بَعْدَ الْمَوْتِ أو حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ وَعِنْدَهُمَا
____________________
(6/218)
يَزُولُ
بِدُونِ ذلك لَكِنْ عِنْدَ أبي يُوسُفَ بِنَفْسِ الْقَوْلِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
بِوَاسِطَةِ التَّسْلِيمِ وَذَلِكَ بِسُكْنَى الْمُجْتَازِينَ في الرِّبَاطِ
وَالْخَانِ وَسِقَايَةُ الناس من السِّقَايَةِ وَالدَّفْنِ في الْمَقْبَرَةِ
وَأَجْمَعُوا على أَنَّ من جَعَلَ دَارِهِ أو أَرْضَهُ مَسْجِدًا يَجُوزُ
وَتَزُولُ الرَّقَبَةُ عن مِلْكِهِ لَكِنَّ عَزْلَ الطَّرِيقِ وَإِفْرَازَهُ
وَالْإِذْنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فيه وَالصَّلَاةُ شَرْطٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ حتى كان له أَنْ يَرْجِعَ قبل ذلك وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ تَزُولُ
الرَّقَبَةُ عن مِلْكِهِ بِنَفْسِ قَوْلِهِ جَعَلْتُهُ مَسْجِدًا وَلَيْسَ له أَنْ
يَرْجِعَ عنه على ما نَذْكُرُهُ
وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى
عليهم أَجْمَعِينَ فإنه رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَقَفَ وَوَقَفَ سَيِّدُنَا أبو بَكْرٍ وَسَيِّدُنَا عُمَرُ وَسَيِّدُنَا
عُثْمَانُ وَسَيِّدُنَا عَلِيٌّ وَغَيْرُهُمْ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَكْثَرُ
الصَّحَابَةِ وَقَفُوا وَلِأَنَّ الْوَقْفَ ليس إلَّا إزَالَةَ الْمِلْكِ عن
الْمَوْقُوفِ وَجَعْلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَأَشْبَهَ الْإِعْتَاقَ
وَجَعَلَ الْأَرْضَ أو الدَّارَ مَسْجِدًا
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ يَصِحُّ مُضَافًا إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَصِحُّ
مُنَجَّزًا وَكَذَا لم اتَّصَلَ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي يَجُوزُ وَغَيْرُ
الْجَائِزِ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ لِقَضَاءِ الْقَاضِي
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ ما روى عن عبدالله بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ
عنهما أَنَّهُ قال لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ وَفُرِضَتْ فيها
الْفَرَائِضُ قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا حَبْسَ عن فَرَائِضِ
اللَّهِ تَعَالَى أَيْ لَا مَالَ يُحْبَسُ بعدم مَوْتِ صَاحِبِهِ عن الْقِسْمَةِ
بين وَرَثَتِهِ وَالْوَقْفُ حَبْسٌ عن فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ
فَكَانَ مَنْفِيًّا شَرْعًا
وَعَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قال جاء مُحَمَّدٌ بِبَيْعِ الْحَبِيسِ وَهَذَا منه
رِوَايَةً عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ
الْمَوْقُوفِ لِأَنَّ الْحَبِيسَ هو الْمَوْقُوف فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ
إذْ الْوَقْفُ حَبْسٌ لُغَةً فَكَانَ الْمَوْقُوفُ مَحْبُوسًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الرَّقَبَةِ عن مِلْكِ
الْوَاقِفِ
وَأَمَّا وَقْفُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَإِنَّمَا جَازَ لِأَنَّ
الْمَانِعَ من وُقُوعِهِ حَبْسًا عن فَرَائِضِ اللَّهِ عز وجل وَدَفْعُهُ صلى
اللَّهُ عليه وسلم لم يَقَعْ حَبْسًا عن فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم زإنا ( ( ( إنا ) ) ) مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ
ما تَرَكْنَا صَدَقَةٌ
وَأَمَّا أَوْقَافُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فما كان منها في زَمَنِ
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم اُحْتُمِلَ أنها كانت قبل نُزُولِ سُورَةِ
النِّسَاءِ فلم تَقَعْ حَبْسًا عن فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى وما كان بَعْدَ
وَفَاتِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَاحْتُمِلَ أَنَّ وَرَثَتَهُمْ
أَمْضَوْهَا بِالْإِجَازَةِ وَهَذَا هو الظَّاهِرُ وَلَا كَلَامَ فيه وَإِنَّمَا
جَازَ مُضَافًا إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ إلَى ما
بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ فَيَجُوزُ كَسَائِرِ
الْوَصَايَا لَكِنْ جَوَازُهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ لَا يَدُلُّ على جَوَازِهِ
لَا بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ
أَلَا تَرَى لو أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ جَازَ وَلَوْ تَصَدَّقَ
بِثُلُثِ مَالِهِ على الْفُقَرَاءِ لَا يَجُوزُ
وَأَمَّا إذَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ فَإِنَّمَا جَازَ لِأَنَّ حُكْمَهُ صَادَفَ
مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ وَأَفْضَى اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ وَقَضَاءُ الْقَاضِي في
مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ بِمَا أَفْضَى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ جَائِزٌ كما في سَائِرِ
الْمُجْتَهَدَاتِ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
الْوَاقِفِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْوَقْفِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ
الْمَوْقُوفِ أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْوَاقِفِ فَأَنْوَاعٌ منها الْعَقْلُ
وَمِنْهَا الْبُلُوغُ فَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ من الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ
لِأَنَّ الْوَقْفَ من التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ لِكَوْنِهِ إزَالَةَ الْمِلْكِ
بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَيْسَا من أَهْلِ التَّصَرُّفَاتِ
الضَّارَّةِ وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ مِنْهُمَا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ
وَالْإِعْتَاقُ وَنَحْوُ ذلك
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ فَلَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ لِأَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ
وَالْعَبْدُ ليس من أَهْلِ الْمِلْكِ وَسَوَاءٌ كان مَأْذُونًا أو مَحْجُورًا
لِأَنَّ هذا ليس من بَابِ التِّجَارَةِ وَلَا من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ فَلَا
يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ كما لَا يَمْلِكُ الصَّدَقَةَ وَالْهِبَةَ وَالْإِعْتَاقَ
وَمِنْهَا أَنْ يُخْرِجَهُ الْوَاقِفُ من يَدِهِ وَيَجْعَلَ له قَيِّمًا
وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ هذا
ليس بِشَرْطٍ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه وَقَفَ وكان
يَتَوَلَّى أَمْرَ وَقْفِهِ بِنَفْسِهِ وكان في يَدِهِ
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان يَفْعَلُ كَذَلِكَ
وَلِأَنَّ هذا إزَالَةُ الْمِلْكِ لَا إلَى أحد ( ( ( حد ) ) ) فَلَا يُشْتَرَطُ
فيه التَّسْلِيمُ كَالْإِعْتَاقِ
وَلَهُمَا أَنَّ الْوَقْفَ إخْرَاجُ الْمَالِ عن الْمِلْكِ على وَجْهِ الصَّدَقَةِ
فَلَا يَصِحُّ بِدُونِ التَّسْلِيمِ كَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ
وَأَمَّا وَقْفُ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنهما
فَاحْتَمَلَ أَنَّهُمَا أَخْرَجَاهُ عن أَيْدِيهِمَا وَسَلَّمَاهُ إلَى
الْمُتَوَلِّي بَعْدَ ذلك فَصَحَّ كَمَنْ وَهَبَ من آخَرَ شيئا أو تَصَدَّقَ أو لم
يُسَلَّمْ إلَيْهِ وَقْتَ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ ثُمَّ سُلِّمَ صَحَّ
التَّسْلِيمُ
كَذَا هذا
____________________
(6/219)
ثُمَّ
التَّسْلِيمُ في الْوَقْفِ عِنْدَهُمَا أَنْ يَجْعَلَ له قَيِّمًا وَيُسَلِّمَهُ
إلَيْهِ وفي الْمَسْجِدِ أَنْ يصلي فيه جَمَاعَةً بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ
بِإِذْنِهِ كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في شَرْحِهِ أَنَّهُ إذَا أَذِنَ
لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فيه فَصَلَّى وَاحِدٌ كان تَسْلِيمًا وَيَزُولُ مِلْكُهُ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا
يَشْرُطَ الْوَاقِفُ لِنَفْسِهِ من مَنَافِعِ الْوَقْفِ شيئا عِنْدَ أبي يُوسُفَ
ليس بِشَرْطٍ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ شَرْطٌ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هذا إخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَجَعْلُهُ خَالِصًا له وَشَرْطُ الِانْتِفَاعِ لِنَفْسِهِ يَمْنَعُ الْإِخْلَاصَ
فَيَمْنَعُ جَوَازَ الْوَقْفِ كما إذَا جَعَلَ أَرْضَهُ أو دَارِهِ مَسْجِدًا
وَشَرَطَ من مَنَافِعِ ذلك لِنَفْسِهِ شيئا وَكَمَا لو أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَشَرَطَ
خِدْمَتَهُ لِنَفْسِهِ وَلِأَبِي يُوسُفَ ما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي
اللَّهُ عنه أَنَّهُ وَقَفَ وَشَرَطَ في وَقْفِهِ لَا جُنَاحَ على من وَلِيَهُ
أَنْ يَأْكُلَ منه بِالْمَعْرُوفِ وكان يَلِي أَمْرَ وَقْفِهِ بِنَفْسِهِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْوَاقِفَ إذَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ
بَيْعَ الْوَقْفِ وَصَرْفَ ثَمَنِهِ إلَى ما هو أَفْضَلُ منه يَجُوزُ لِأَنَّ
شَرْطَ الْبَيْعِ شَرْطٌ لَا يُنَافِيهِ الْوَقْفُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُبَاعُ
بَابُ الْمَسْجِدِ إذَا خَلِقَ وَشَجَرُ الْوَقْفِ إذَا يَبِسَ وَمِنْهَا أَنْ
يَجْعَلَ آخِرَهُ بِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
فَإِنْ لم يذكر ذلك لم يَصِحَّ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُف ذِكْرُ هذا ليس
بِشَرْطٍ بَلْ يَصِحُّ وَإِنْ سَمَّى جِهَةً تَنْقَطِعُ وَيَكُونُ بَعْدَهَا
لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لم يُسَمِّهِمْ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ ثَبَتَ الْوَقْفُ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم وَعَنْ الصَّحَابَةِ ولم يَثْبُتْ عَنْهُمْ هذا الشَّرْطُ ذِكْرًا
وَتَسْمِيَةً وَلِأَنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ أَنْ يَكُونَ آخِرُهُ لِلْفُقَرَاءِ
وَإِنْ لم يُسَمِّهِمْ هو في الظَّاهِرُ من حَالِهِ فَكَانَ تَسْمِيَةُ هذا
الشَّرْطِ ثَابِتًا دَلَالَةً وَالثَّابِتُ دَلَالَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا
وَلَهُمَا أَنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطُ جَوَازِ الْوَقْفِ لِمَا نَذْكُرُ
وَتَسْمِيَةُ جِهَةٍ تَنْقَطِعُ تَوْقِيتٌ له مَعْنًى فَيَمْنَعُ الْجَوَازَ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْوَقْفِ فَهُوَ التَّأْبِيدُ وهو أَنْ
يَكُونَ مُؤَبَّدًا حتى لو وَقَّتَ لم يَجُزْ لِأَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ لَا
إلَى أحد ( ( ( حد ) ) ) فَلَا تَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ كَالْإِعْتَاقِ وَجَعْلِ
الدَّارِ مَسْجِدًا
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَوْقُوفِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ
مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ كَالْعَقَارِ وَنَحْوِهِ فَلَا يَجُوزُ
وَقْفُ الْمَنْقُولِ مَقْصُودًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطُ
جَوَازِهِ وَوَقْفُ الْمَنْقُولِ لَا يَتَأَبَّدَ لِكَوْنِهِ على شَرَفِ
الْهَلَاكِ فَلَا يَجُوزُ وَقْفُهُ مَقْصُودًا إلَّا إذَا كان تَبَعًا لِلْعَقَارِ
بِأَنْ وَقَفَ ضَيْعَةً بِبَقَرِهَا وَأَكَرَتِهَا وَهُمْ عَبِيدُهُ فَيَجُوزُ
كَذَا قَالَهُ أبو يُوسُفَ
وَجَوَازُهُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ لَا يَدُلُّ على جَوَازِهِ مَقْصُودًا كَبَيْعِ
الشُّرْبِ وَمَسِيلِ الْمَاءِ وَالطَّرِيقُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَقْصُودًا
وَيَجُوزُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ وَالدَّارِ وَإِنْ كان شيئا جَرَتْ الْعَادَةُ
بِوَقْفِهِ كَوَقْفِ الْمَرِّ وَالْقَدُومِ لِحَفْرِ الْقُبُورِ وَوَقْفِ
الْمِرْجَلِ لِتَسْخِينِ الْمَاءِ وَوَقْفِ الْجِنَازَةِ وَثِيَابِهَا
وَلَوْ وَقَفَ أَشْجَارًا قَائِمَةً فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّهُ
وَقَفَ الْمَنْقُولَ وفي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ لِتَعَامُلِ الناس ذلك وما رَآهُ
الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ
الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
لِأَنَّهُ مَنْقُولٌ وما جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
يَجُوزُ وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا بَيْعُ ما هَرِمَ منها أو صَارَ بِحَالٍ لَا
يُنْتَفَعُ بِهِ فَيُبَاعُ وَيُرَدُّ ثَمَنُهُ في مِثْلِهِ كَأَنَّهُمَا تَرَكَا
الْقِيَاسَ في الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ بِالنَّصِّ وهو ما رُوِيَ عن النبي عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال أَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ احْتَبَسَ أَكْرَاعًا
وَأَفْرَاسًا في سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا حُجَّةَ لَهُمَا في الحديث
لِأَنَّهُ ليس فيه أَنَّهُ وَقَفَ ذلك فَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ حَبَسَهُ أَيْ
أَمْسَكَهُ لِلْجِهَادِ لَا لِلتِّجَارَةِ
وَأَمَّا وَقْفُ الْكُتُبِ فَلَا يَجُوزُ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَمَّا على
قَوْلِهِمَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه وَحُكِيَ عن نَصْرِ بن يحيى
أَنَّهُ وَقَفَ على الْفُقَهَاءِ من أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مَقْسُومًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلَا يَجُوزُ
وَقْفُ الْمُشَاعِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ هذا ليس بِشَرْطٍ وَيَجُوزُ مَقْسُومًا
كان أو مُشَاعًا لِأَنَّ التَّسْلِيمَ شَرْطُ الْجَوَازِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ
وَالشُّيُوعُ يُخِلُّ بِالْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
التَّسْلِيمُ ليس بِشَرْطٍ أَصْلًا فَلَا يَكُونُ الخلل ( ( ( الخل ) ) ) فيه
مَانِعًا وقد رُوِيَ عن سَيِّدنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ مَلَكَ مِائَةَ
سَهْمٍ بِخَيْبَرَ فقال له رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم احْبِسْ أَصْلَهَا
فَدَلَّ على أَنَّ الشُّيُوعَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَقْفِ
وَجَوَابُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَقَفَ مِائَةَ سَهْمٍ
قبل الْقِسْمَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ بَعْدَهَا فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع
الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ على أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ أَنَّ الْوَقْفَ كان قبل
الْقِسْمَةِ فَيُحْمَلُ أَنَّهُ وَقَفَهَا شَائِعًا ثُمَّ قَسَّمَ وسلم وقد رُوِيَ
أَنَّهُ فَعَلَ كَذَلِكَ
وَذَلِكَ جَائِزٌ كما لو وَهَبَ مُشَاعًا ثُمَّ قَسَّمَ وسلم
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْوَقْفِ الْجَائِزِ وما يَتَّصِلُ بِهِ فَالْوَقْفُ إذَا
جَازَ على اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ في ذلك فَحُكْمُهُ أَنَّهُ يَزُولُ
____________________
(6/220)
الْمَوْقُوفُ
عن مِلْكِ الْوَاقِفِ وَلَا يَدْخُلُ في مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عليه لَكِنَّهُ
يَنْتَفِعُ بِغَلَّتِهِ بِالتَّصَدُّقِ عليه لِأَنَّ الْوَقْفَ حَبْسُ الْأَصْلِ
وَتَصَدُّقٌ بِالْفَرْعِ وَالْحَبْسُ لَا يُوجِبُ مِلْكَ الْمَحْبُوسِ كَالرَّهْنِ
وَالْوَاجِبُ أَنْ يَبْدَأَ بِصَرْفِ الْفَرْعِ إلَى مَصَالِحِ الْوَقْفِ من
عِمَارَتِهِ وَإِصْلَاحِ ما وهى من بِنَائِهِ وَسَائِرِ مُؤْنَاتِهِ التي لَا
بُدَّ منها سَوَاءٌ شَرَطَ ذلك الْوَاقِفُ أو لم يَشْرُطْ لِأَنَّ الْوَقْفَ
صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَجْرِي إلَّا بهذا
الطَّرِيقِ وَلَوْ وَقَفَ دَارِهِ على سُكْنَى وَلَدِهِ فَالْعِمَارَةُ على من له
السُّكْنَى لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ له فَكَانَتْ الْمُؤْنَةُ عليه لِقَوْلِهِ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ كَالْعَبْدِ الْمُوصَى
بِخِدْمَتِهِ إن نَفَقَتَهُ على الْمُوصَى له بِالْخِدْمَةِ لِمَا قُلْنَا
كَذَا هذا
فَإِنْ امْتَنَعَ من الْعِمَارَةِ ولم يَقْدِرْ عليها بِأَنْ كان فَقِيرًا
آجَرَهَا الْقَاضِي وَعَمَرَهَا بِالْأُجْرَةِ لِأَنَّ استبقاء ( ( ( استيفاء ) )
) الْوَقْفِ وَاجِبٌ وَلَا يبقي إلَّا بِالْعِمَارَةِ فإذا امْتَنَعَ عن ذلك أو
عَجَزَ عنه نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ في اسْتِبْقَائِهِ بِالْإِجَارَةِ
كَالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ إذَا امْتَنَعَ صَاحِبُهَا عن الْإِنْفَاقِ عليها
أَنْفَقَ الْقَاضِي عليها بِالْإِجَارَةِ
كَذَا هذا
وما انْهَدَمَ من بِنَاءِ الْوَقْفِ وَآلَتِهِ صَرَفَهُ الْحَاكِمُ في عِمَارَةِ
الْوَقْفِ إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ وَإِنْ اسْتَغْنَى عنه أَمْسَكَهُ إلَى وَقْتِ
الْحَاجَةِ إلَى عِمَارَتِهِ فَيَصْرِفُهُ فيها وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَهُ
إلَى مُسْتَحِقِّي الْوَقْفِ لِأَنَّ حَقَّهُمْ في الْمَنْفَعَةِ وَالْغَلَّةِ لَا
في الْعَيْنِ بَلْ هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى على الْخُلُوصِ
وَلَوْ جَعَلَ دَارِهِ مَسْجِدًا فَخَرِبَ جِوَارُ الْمَسْجِدِ أو اسْتَغْنَى عنه
لَا يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ وَيَكُونُ مَسْجِدًا أَبَدًا عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ بِوَجْهٍ مَخْصُوصٍ وهو
التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَكَانٍ يُصَلِّي فيه الناس فإذا اسْتَغْنَى
عنه فَقَدْ فَاتَ غَرَضُهُ منه فَيَعُودُ إلَى مِلْكِهِ كما لو كَفَّنَ مَيِّتًا
ثُمَّ أَكَلَهُ سَبْعٌ وَبَقِيَ الْكَفَنُ يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ
كَذَا هذا
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُ مَسْجِدًا فَقَدْ حَرَّرَهُ وَجَعَلَهُ
خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى على الْإِطْلَاقِ وَصَحَّ ذلك فَلَا يَحْتَمِلُ
الْعَوْدَ إلَى مِلْكِهِ كَالْإِعْتَاقِ بِخِلَافِ تَكْفِينِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ
ما حَرَّرَ الْكَفَنَ وَإِنَّمَا دَفَعَ حَاجَةَ الْمَيِّتِ بِهِ وهو سَتْرُ
عَوْرَتِهِ وقد اسْتَغْنَى عنه فَيَعُودُ مِلْكًا له
وَقَوْلُهُ أَزَالَ مِلْكَهُ بِوَجْهٍ وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عنه قُلْنَا
مَمْنُوعٌ فإن الْمُجْتَازِينَ يُصَلُّونَ فيه وَكَذَا احْتِمَالُ عَوْدِ
الْعِمَارَةِ قَائِمٌ وَجِهَةُ الْقُرْبَةِ قد صَحَّتْ بِيَقِينٍ فَلَا تَبْطُلُ
بِاحْتِمَالِ عَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ
وَلَوْ وَقَفَ دَارًا أو أَرْضًا على مَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ قال بَعْضُهُمْ هو على
الِاخْتِلَافِ على قَوْلِ أبي يُوسُفَ يَجُوزُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا
يَجُوزُ بِنَاءً على أَنَّ الْمَسْجِدَ عِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَصِيرُ مِيرَاثًا
بِالْخَرَابِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِيرُ مِيرَاثًا
وقال أبو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ بِالِاتِّفَاقِ وقال أبو
بَكْرٍ الْإِسْكَافُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ بِالِاتِّفَاقِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الصَّدَقَةُ إذَا قال دَارِي هذه في الْمَسَاكِينِ صَدَقَةً
تَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا وَإِنْ تَصَدَّقَ بِعَيْنِهَا جَازَ لِأَنَّ النَّاذِرَ
بِالنَّذْرِ يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَنْذُورِ بِهِ وَمَعْنَى
الْقُرْبَةِ يَحْصُلُ بِالتَّصَدُّقِ بِثَمَنِ الدَّارِ
وَلَوْ تَصَدَّقَ بِعَيْنِ الدَّارِ جَازَ لِأَنَّهُ أَدَّى الْمَنْصُوصَ عليه
وَلَوْ قال دَارِي هذه صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ على الْمَسَاكِينِ تَصَدَّقَ
بِالسُّكْنَى وَالْغَلَّةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ بِهِ
صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ وَالْوَقْفُ حَبْسُ الْأَصْلِ وَتَصَدُّقٌ الفرع ( ( (
بالفرع ) ) ) وَلَوْ قال مَالِي في الْمَسَاكِينِ صَدَقَةً تَصَدَّقَ بِكُلِّ
مَالٍ تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَتَصَدَّقَ
بِالْكُلِّ لِأَنَّ اسْمَ الْمَالِ يَنْطَلِقُ على الْكُلِّ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ
تَعَالَى ثُمَّ إيجَابِ الصَّدَقَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاسْمِ اللَّهِ من اللَّهِ
تَعَالَى في قَوْله تَعَالَى { خُذْ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وَنَحْوُ ذلك
نصرف ( ( ( تصرف ) ) ) إلَى بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ الْكُلِّ فَكَذَا إيجَابُ
الْعَبْدِ
وَلَوْ قال ما أَمْلِكُهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَيُقَال
له أَمْسِكْ قَدْرَ ما تُنْفِقُهُ على نَفْسِك وَعِيَالِك إلَى أَنْ تَكْتَسِبَ
مَالًا فإذا اكتسب ( ( ( اكتسبت ) ) ) مَالًا تَصَدَّقْت بِمِثْلِ ما أَمْسَكْت
لِنَفْسِك لِأَنَّهُ أَضَافَ الصَّدَقَةَ إلَى الْمَمْلُوكِ وَجَمِيعُ مَالِهِ
مَمْلُوكٌ له فَيَتَصَدَّقُ بِالْجَمِيعِ إلَّا أَنَّهُ يُقَالُ له أَمْسِكْ
قَدْرَ النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ لو تَصَدَّقَ بِالْكُلِّ على غَيْرِهِ لَاحْتَاجَ
إلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ غَيْرُهُ عليه وقد قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
ابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
كِتَابُ الدَّعْوَى الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ
رُكْنِ الدَّعْوَى وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حَدِّ الْمُدَّعِي
____________________
(6/221)
وَالْمُدَّعَى
عليه وفي بَيَانِ حُكْمِ الدَّعْوَى وما يَتَّصِلُ بِهِ وفي بَيَانِ حُجَّةِ الْمُدَّعِي
وَالْمُدَّعَى عليه وفي بَيَانِ عَلَائِقِ الْيَمِينِ وفي بَيَانِ ما تَنْدَفِعُ
بِهِ الْخُصُومَةُ عن الْمُدَّعَى عليه وَيَخْرُجُ عن كَوْنِهِ خَصْمًا وفي
بَيَانِ حُكْمِ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ مع تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ وَحُكْمِ
تَعَارُضِ الدَّعْوَى لَا غير وفي بَيَانِ حُكْمِ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ الثَّابِتِ
في الْمَحَلِّ
أَمَّا رُكْنُ الدَّعْوَى فَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لي على فُلَانٍ أو قِبَل
فُلَانٍ كَذَا أو قَضَيْتُ حَقَّ فُلَانٍ أو أَبْرَأَنِي عن حَقِّهِ وَنَحْوُ ذلك
فإذا قال ذلك فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الْمُصَحِّحَةُ لِلدَّعْوَى فَأَنْوَاعٌ منها عَقْلُ
الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عليه فَلَا تَصِحُّ دَعْوَى الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ
الذي لَا يَعْقِلُ وَكَذَا لَا تَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَيْهِمَا حتى لَا يَلْزَمَ
الْجَوَابُ وَلَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهُمَا مَبْنِيَّانِ على الدَّعْوَى
الصَّحِيحَةِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى مَعْلُومًا لِتَعَذُّرِ
الشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ وَالْعِلْمُ بِالْمُدَّعَى إنَّمَا
يَحْصُلُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا الْإِشَارَةُ وَإِمَّا التَّسْمِيَةُ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ المدعي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا فَإِنْ كان عَيْنًا فَلَا يَخْلُو أما إنْ كان
مُحْتَمِلًا لِلنَّقْلِ أو لم يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْلِ فَإِنْ كان
مُحْتَمِلًا لِلنَّقْلِ فَلَا بُدَّ من إحْضَارِهِ لِتُمْكِنَ الْإِشَارَةُ
إلَيْهِ عِنْدَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ فَيَصِيرُ مَعْلُومًا بها إلَّا إذَا
تَعَذَّرَ نَقْلُهُ كَحَجَرِ الرَّحَى وَنَحْوِهِ فَإِنْ شَاءَ الْقَاضِي
اسْتَحْضَرَهُ وَإِنْ شَاءَ بَعَثَ إلَيْهِ أَمِينًا وَإِنْ لم يَكُنْ مُحْتَمِلًا
لِلنَّقْلِ وهو الْعَقَارُ فَلَا بُدَّ من بَيَانِ حَدِّهِ لِيَكُونَ مَعْلُومًا
لِأَنَّ الْعَقَارَ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالتَّحْدِيدِ ثُمَّ لَا
خِلَافَ في أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى فيه بِذِكْرِ حَدٍّ وَاحِدٍ وَكَذَا بِذِكْرِ
حَدَّيْنِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَهَلْ
تَقَعُ الْكِفَايَةُ بِذَكَرِ ثَلَاثَةِ حُدُودٍ قال عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ
رضي اللَّهُ عَنْهُمْ نعم وقال زُفَرُ رضي اللَّهُ عنه لَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ
كِتَابِ الشُّرُوطِ وَكَذَا لَا بُدَّ من بَيَانِ مَوْضِعِ الْمَحْدُودِ
وَبَلَدِهِ لِيَصِيرَ مَعْلُومًا
هذا إذَا كان الْمُدَّعَى عَيْنًا فَإِنْ كان دَيْنًا فَلَا بُدَّ من بَيَانِ
جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَصِيرُ
مَعْلُومًا إلَّا بِبَيَانِ هذه الْأَشْيَاءِ
وَمِنْهَا أَنْ يَذْكُرَ الْمُدَّعِي في دَعْوَى الْعَقَارِ أَنَّهُ في يَدِ
الْمُدَّعَى عليه لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ على خَصْمٍ
وَالْمُدَّعَى عليه إنَّمَا يَصِيرُ خَصْمًا إذَا كان بيده فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَذْكُرَ
أَنَّهُ في يَدِهِ لِيَصِيرَ خَصْمًا فإذا ذَكَرَ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عليه
وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي فإنه يَحْلِفُ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى إقَامَةِ
الْبَيِّنَةِ من الْمُدَّعِي على أَنَّهُ في يَدِ الْمُدَّعَى عليه وَلَوْ كان له
بَيِّنَةٌ لَا تُسْمَعُ حتى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ في يَدِ هذا
الْمُدَّعَى عليه وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ من الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ
الْيَدِ غَيْرَهُ وَاصْطَلَحَا على ذلك فَلَوْ سمع الْقَاضِي بَيِّنَتَهُ لَكَانَ
قَضَاءً على الْغَائِبِ وَهَذَا الْمَعْنَى هُنَا مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّهُ لَا
قَضَاءَ هُنَا أَصْلًا لِأَنَّ الْمُدَّعَى عليه لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَحْلِفَ
وَإِمَّا أَنْ يَنْكُلَ فَإِنْ حَلَفَ فَالْأَمْرُ فيه ظَاهِرٌ وَإِنْ نَكَلَ
فَكَذَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا يَأْمُرُهُ بِأَنْ
يَخْرُجَ من الدَّارِ وَيُخَلِّيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُدَّعِي
وَمِنْهَا أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ لِأَنَّ حَقَّ الْإِنْسَانِ
إنَّمَا يَجِبُ إيفَاؤُهُ بِطَلَبِهِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بِلِسَانِهِ عَيْنًا
إذَا لم يَكُنْ بِهِ عُذْرٌ إلَّا إذَا رضي الْمُدَّعَى عليه بِلِسَانِ غَيْرِهِ
عِنْدَ أبي حَنِيفَة وَعِنْدَهُمَا ليس بِشَرْطٍ حتى لو وَكَّلَ الْمُدَّعِي
بِالْخُصُومَةِ من غَيْرِ عُذْرٍ ولم يَرْضَ بِهِ الْمُدَّعَى عليه لَا تَصِحُّ
دَعْوَاهُ عِنْدَهُ حتى لَا يَلْزَمَ الْجَوَابُ وَلَا تُسْمَعَ منه الْبَيِّنَةُ
وَعِنْدَهُمَا تَصِحُّ حتى يَلْزَمَ وَتُسْمَعَ لِمَا عُلِمَ في كِتَابِ
الْوَكَالَةِ وَمِنْهَا مَجْلِسُ الْحُكْمِ فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى إلَّا بين
يَدَيْ الْقَاضِي كما لَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ إلَّا بين يَدَيْهِ
وَمِنْهَا حَضْرَةُ الْخَصْمِ فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ إلَّا على
خَصْمٍ حَاضِرٍ إلَّا إذَا الْتَمَسَ الْمُدَّعِي بِذَلِكَ كِتَابًا حُكْمِيًّا
لِلْقَضَاءِ بِهِ فَيُجِيبُهُ الْقَاضِي إلَيْهِ فَيَكْتُبُ إلَى الْقَاضِي الذي
للغائب ( ( ( الغائب ) ) ) في بَلَدِهِ بِمَا سَمِعَهُ من الدَّعْوَى
وَالشَّهَادَةِ لِيَقْضِيَ عليه وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ حَضْرَةُ الْمُدَّعَى عليه لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِسَمَاعِ
الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ وَالْقَضَاءِ فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ على الْغَائِبِ
عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ ظَهَرَ صِدْقُ الْمُدَّعِي
في دَعْوَاهُ على الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ بِبَيِّنَتِهِ
قِيَاسًا على الْحَاضِرِ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَإِنْ
كان خيرا ( ( ( خبرا ) ) ) يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ لَكِنْ يُرَجَّحُ
جَانِبُ صِدْقِهِ على جَانِبِ الْكَذِبِ في خَبَرِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَيَظْهَرُ
صِدْقُهُ في دَعْوَاهُ كما إذَا كان الْمُدَّعَى عليه حَاضِرًا يُحَقِّقُهُ أَنَّ
الْمُدَّعَى عليه لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
مُنْكَرًا فَإِنْ كان مُقِرًّا فَكَانَ الْمُدَّعِي صَادِقًا في دَعْوَاهُ فَلَا
حَاجَةَ إلَى الْقَضَاءِ وَإِنْ كان مُنْكِرًا فَظَهَرَ صِدْقُهُ بِالْبَيِّنَةِ
فَكَانَ الْقَضَاءُ بِالْبَيِّنَةِ قَضَاءً بِحُجَّةٍ مُظْهِرَةٍ لِلْحَقِّ
فَجَازَ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه لَا تَقْضِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ ما لم
تَسْمَعْ كَلَامَ الْآخَرِ نَهَاهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عن الْقَضَاءِ
____________________
(6/222)
لِأَحَدِ
الْخَصْمَيْنِ قبل سَمَاعِ كَلَامِ الْآخَرِ وَالْقَضَاءُ بِالْحَقِّ لِلْمُدَّعِي
حَالَ غَيْبَةِ الْمُدَّعَى عليه قَضَاءٌ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قبل سَمَاعِ
كَلَامِ الْآخَرِ فَكَانَ مَنْهِيًّا عنه وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ
بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { يا
دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بين الناس بِالْحَقِّ
}
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَمْرِو بن الْعَاصِ اقْضِ بين هَذَيْنِ قال
أَقْضِي وَأَنْتَ حَاضِرٌ بَيْننَا فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اقْضِ
بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ وَالْحَقُّ اسْمٌ لِلْكَائِنِ الثَّابِتِ وَلَا ثُبُوتَ مع
احْتِمَالِ الْعَدَمِ وَاحْتِمَالُ الْعَدَمِ ثَابِتٌ في الْبَيِّنَةِ
لِاحْتِمَالِ الْكَذِبِ فلم يَكُنْ الْحُكْمُ بِالْبَيِّنَةِ حُكْمًا بِالْحَقِّ
فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ الْحُكْمُ بها أَصْلًا إلَّا أنها جُعِلَتْ
حُجَّةً لِضَرُورَةِ فَصْلِ الْخُصُومَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ ولم يَظْهَرْ حَالَةَ
الْغَيْبَةِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن كَلَامِهِ
ثُمَّ إنَّمَا لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ عِنْدَنَا على الْغَائِبِ إذَا لم يَكُنْ
عنه خَصْمٌ حَاضِرٌ فَإِنْ كان يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَضَاءً على الْحَاضِرِ
حَقِيقَةً وَمَعْنًى وَالْخَصْمُ الْحَاضِرُ والوكيل ( ( ( الوكيل ) ) )
وَالْوَصِيُّ وَالْوَارِثُ وَمَنْ كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَائِبِ اتِّصَالٌ
فِيمَا وَقَعَ فيه الدَّعْوَى لِأَنَّ الْوَكِيلَ وَالْوَصِيَّ نَائِبَانِ عنه
بِصَرِيحِ النِّيَابَةِ وَالْوَارِثُ نَائِبٌ عنه شَرْعًا وَحَضْرَةُ النَّائِبِ
كَحَضْرَةِ الْمَنُوبِ عنه فَلَا يَكُونُ قَضَاءً على الْغَائِبِ مَعْنًى
وَكَذَا إذَا كان بين الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ اتِّصَالٌ فِيمَا وَقَعَ فيه
الدَّعْوَى بِأَنْ كان ذلك سَبَبًا لِثُبُوتِ حَقِّ الْغَائِبِ لِأَنَّ الْحَاضِرَ
يَصِيرُ مُدَّعًى عليه فِيمَا هو حَقُّهُ وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ حَقِّهِ
ثُبُوتُ حَقِّ الْغَائِبِ فَكَانَ الْكُلُّ حَقَّ الْحَاضِرِ لِأَنَّ كُلَّ ما كان
من ضَرُورَاتِ الشَّيْءِ كان مُلْحَقًا بِهِ فَيَكُونُ قَضَاءً على الْحَاضِرِ حتى
إن من ادَّعَى على آخَرَ أَنَّهُ أَخُوهُ ولم يَدَّعِ مِيرَاثًا وَلَا نَفَقَةً
لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ دَعْوَى على الْغَائِبِ لِأَنَّهُ يُرِيدُ
إثْبَاتَ نَسَبِهِ من أَبُ الْمُدَّعَى عليه وَأُمِّهِ وَهُمَا غَائِبَانِ
وَلَيْسَ عنهما خَصْمٌ حَاضِرٌ لِأَنَّهُ لم تُوجَدْ الْإِنَابَةُ وَلَا حَقٌّ
يَقْضِي بِهِ على الْوَارِثِ لِيَكُونَ ثُبُوتُ النَّسَبِ من الْغَائِبِ من ضَرُورَاتِهِ
تَبَعًا له فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ أَصْلًا
وَلَوْ ادَّعَى عليه مِيرَاثًا أو نَفَقَةً عِنْدَ الْحَاجَةِ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ
وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهُ دَعْوَى حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ على الْحَاضِرِ وهو
الْمَالُ وَلَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِإِثْبَاتِ نَسَبِهِ من الْغَائِبِ
فَيُنَصَّبُ خَصْمًا عن الْغَائِبِ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ
تَبَعًا له وَلِهَذَا لو أَقَرَّ بِالنَّسَبِ من غَيْرِ دَعْوَى الْمَالِ لَا
يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِخِلَافِ ما لو ادَّعَى على رَجُلٍ أَنَّهُ أَبُوهُ أو ابْنُهُ
أَنَّهُ يَصِحُّ من غَيْرِ دَعْوَى الْمَالِ الْحَاضِرِ لِأَنَّهُ ليس فيه حَمْلُ
نَسَبِ الْغَيْرِ على الْغَيْرِ فَكَانَ دَعْوَى على الْحَاضِرِ أَلَا تَرَى
أَنَّهُ لو أَقَرَّ بِهِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ
بِالْأُخُوَّةِ
وَعَلَى هذا تُخَرَّجُ الْمَسَائِلُ الْمُخَمَّسَةُ وَتَوَابِعُهَا على ما
نَذْكُرُهَا في مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا عَدَمُ التَّنَاقُضِ في الدَّعْوَى وهو أَنْ لَا يَسْبِقَ منه ما
يُنَاقِضُ دَعْوَاهُ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ الشَّيْءِ مع ما يُنَاقِضُهُ
وَيُنَافِيهِ حتى لو أَقَرَّ بِعَيْنٍ في يَدِهِ لِرَجُلٍ فَأَمَرَ الْقَاضِي
بِدَفْعِهَا إلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كان اشْتَرَاهَا منه قبل ذلك لَا
تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ لِلْحَالِ يَمْنَعُ
الشِّرَاءَ منه قبل ذلك لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي
فَكَانَ مُنَاقِضًا لِلْإِقْرَارِ وَالْإِقْرَارُ يُنَاقِضُهُ فَلَا يَصِحُّ
وَكَذَا لو لم يُقِرَّ وَنَكَلَ عن الْيَمِينِ فقضى عليه بِنُكُولِهِ ثُمَّ
ادَّعَى أَنَّهُ كان اشْتَرَاهُ منه قبل ذلك لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا
تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ النُّكُولَ بِمَنْزِلَةِ
الْإِقْرَارِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ هذا
إذَا ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ منه قبل الْإِقْرَارِ وَالنُّكُولِ فَأَمَّا إذَا
ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ منه بَعْدَ ذلك تُسْمَعُ دَعْوَاهُ بِلَا خِلَافٍ
لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمِلْكِ لِفُلَانٍ لَا يَمْنَعُ الشِّرَاءَ منه بَعْدَ
ذلك لِانْعِدَامِ التَّنَاقُضِ لِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ
وَلَوْ قال هذا لِفُلَانٍ اشْتَرَيْته منه تُسْمَعُ منه مَوْصُولًا قال ذلك أو
مَفْصُولًا لِأَنَّهُ لم يَسْبِقْ منه ما يُنَاقِضُ الدَّعْوَى بَلْ سَبَقَ منه ما
يُقَرِّرُهَا لِأَنَّ سَابِقَةَ الْمِلْكِ لِفُلَانٍ شَرْطُ تَحَقُّقِ الشِّرَاءِ
منه
وَلَوْ قال هذا الْعَبْدُ لِفُلَانٍ اشْتَرَيْتُهُ منه مَوْصُولًا فَالْقِيَاسُ
أَنْ لَا تَصِحَّ دَعْوَاهُ وفي الِاسْتِحْسَانِ تَصِحُّ وَلَوْ قال ذلك
مَفْصُولًا لَا تَصِحُّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ قَوْلَهُ هو لِفُلَانٍ إقْرَارٌ منه بِكَوْنِهِ مِلْكًا
لِفُلَانٍ في الْحَالِ فَهَذَا يُنَاقِضُ دَعْوَى الشِّرَاءِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ
يُوجِبُ كَوْنَهُ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي فَلَا يَصِحُّ كما إذَا قال مَفْصُولًا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قَوْلَهُ هو لِفُلَانٍ اشْتَرَيْته منه مَوْصُولًا
مَعْنَاهُ في مُتَعَارَفِ الناس وَعَادَاتِهِمْ أَنَّهُ كان لِفُلَانٍ
فَاشْتَرَيْتُهُ منه قال اللَّهُ عز وجل { وَاذْكُرُوا إذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ
مُسْتَضْعَفُونَ في الْأَرْضِ } أَيْ إذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا إذْ لم يَكُونُوا
قَلِيلًا وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ فَيُحْمَلُ عليه تَصْحِيحًا له
وَلَا عَادَةَ جَرَتْ بِذَلِكَ في الْمَفْصُولِ فَحُمِلَ على حَقِيقَتِهِ وهو
بِحَقِيقَتِهِ مُنَاقَضَةٌ فَلَا تُسْمَعُ
هذا إذَا بَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ قبل الْإِقْرَارِ فَإِنْ بَيَّنَ أَنَّهُ
اشْتَرَاهُ بَعْدَهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِانْعِدَامِ التَّنَاقُضِ
____________________
(6/223)
على
ما بَيَّنَّا وَكَذَلِكَ لو لم يُبَيِّنْ وَادَّعَى الشِّرَاءَ مُبْهَمًا بِثَمَنٍ
مَعْلُومٍ تُسْمَعُ لِأَنَّهُ لَمَّا لم يذكر الْوَقْتَ يُحْمَلُ على الْحَالِ
تَصْحِيحًا له
هذا إذَا قال هذا الشَّيْءُ لِفُلَانٍ ولم يَقُلْ لَا حَقَّ لي فيه فَإِنْ قال لَا
حَقَّ لي فيه ثُمَّ ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ ذلك لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِأَنَّ
قَوْلَهُ لَا حَقَّ لي فيه لِتَأْكِيدِ الْبَرَاءَةِ إلَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ
اشْتَرَاهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَتُسْمَعُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ ادَّعَى على رَجُلٍ دَيْنًا فقال الْمُدَّعَى عليه لم يَكُنْ لَك عَلَيَّ
شَيْءٌ قَطُّ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ
ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعَى عليه الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كان قد قَضَاهُ إيَّاهُ
تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَتُقْبَلُ بَيِّنَته لِجَوَازِ أَنَّهُ لم يَكُنْ عليه شَيْءٌ
وَإِنَّمَا قَضَاهُ إيَّاهُ لَدَفْعِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ
وَلَوْ قال لم يَكُنْ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ وَلَا أَعْرِفُكَ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي
الْبَيِّنَةَ وَقَضَى الْقَاضِي بِبَيِّنَتِهِ ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعَى عليه
الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كان قَضَاهُ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا تُقْبَلُ
بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا أَعْرِفُكَ يُنَاقِضُ دَعْوَى الْقَضَاءِ
لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَقْضِي إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ إيَّاهُ
فَكَانَ في دَعْوَى الْقَضَاءِ مُنَاقِضًا فَلَا تُسْمَعُ
وَلَوْ ادَّعَى على رَجُلٍ أَنَّهُ اشْتَرَى منه عَبْدًا بِعَيْنِهِ وَالْعَبْدُ
في يَدِ الْبَائِعِ فَأَنْكَرَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ فَأَقَامَ الْمُشْتَرِي
الْبَيِّنَةَ وَقَضَى الْقَاضِي بِهِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَأَرَادَ أَنْ
يَرُدَّهُ على الْبَائِعِ فَأَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ على أَنَّ
الْمُشْتَرِيَ كان أَبْرَأهُ عن كل عَيْبٍ لم تُسْمَعْ دَعْوَاهُ وَلَا تُقْبَلُ
بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ إنْكَارَ الْبَيْعِ يُنَاقِضُ دَعْوَى الْإِبْرَاءِ عن
الْعَيْبِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ يَقْتَضِي وُجُودَ الْبَيْعِ فَكَانَ مُنَاقِضًا
في دَعْوَى الْإِبْرَاءِ فَلَا تُسْمَعُ
وَعَلَى هذا مَسَائِلُ وَالْأَصْلُ في هذا الْبَابِ أَنَّهُ إذَا سَبَقَ من
الْمُدَّعِي ما يُنَاقِضُ دَعْوَاهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى إلَّا في
النَّسَبِ وَالْعِتْقِ فإن التَّنَاقُضَ فِيهِمَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِأَنْ قال
لِمَجْهُولِ النَّسَبِ هو ابْنِي من الزِّنَا ثُمَّ قال هو ابْنِي من النِّكَاحِ
تُسْمَعُ دَعْوَاهُ
وَكَذَا مَجْهُولُ النَّسَبِ إذَا أَقَرَّ بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ ثُمَّ ادَّعَى
أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ حتى تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ
بَيَانَ النَّسَبِ مَبْنِيٌّ على أَمْرٍ خَفِيٍّ وهو الْعُلُوقُ منه إذْ هو مِمَّا
يَغْلِبُ خَفَاؤُهُ على الناس فَالتَّنَاقُضُ في مِثْلِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ كما
إذَا اخْتَلَعَتْ امْرَأَةٌ زَوْجَهَا على مَالٍ ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّهُ كان
طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قبل الْخُلْعِ وَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ على ذلك تُسْمَعُ
دَعْوَاهَا وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهَا لَمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَكَذَا الرِّقُّ وَالْحُرِّيَّةُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى مِمَّا يُحْتَمَلُ لِلثُّبُوتِ لِأَنَّ
دَعْوَى ما يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ حَقِيقَةً أو عَادَةً تَكُونُ دَعْوَى كَاذِبَةً
حتى لو قال لِمَنْ لَا يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ هذا ابْنِي لَا تُسْمَع
دَعْوَاهُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْأَكْبَرُ سِنًّا ابْنًا لِمَنْ هو
أَصْغَرُ سِنًّا منه
وَكَذَا إذَا قال لِمَعْرُوفِ النَّسَبِ من الْغَيْرِ هذا ابْنِي وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حَدِّ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عليه فَقَدْ اختلف ( ( (
اختلفت ) ) ) عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ في تَحْدِيدِهِمَا قال بَعْضُهُمْ
الْمُدَّعِي من إذَا تَرَكَ الْخُصُومَةَ لَا يُجْبَرُ عليها وَالْمُدَّعَى عليه
من إذَا تَرَكَ الْجَوَابَ يُجْبَرُ عليه
وقال بَعْضُهُمْ الْمُدَّعِي من يَلْتَمِسُ قِبَلَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ عَيْنًا أو
دَيْنًا أو حَقًّا وَالْمُدَّعَى عليه من يَدْفَعُ ذلك عن نَفْسِهِ
وقال بَعْضُهُمْ يُنْظَرُ إلَى الْمُتَخَاصِمَيْنِ أَيُّهُمَا كان مُنْكِرًا
فَالْآخَرُ يَكُونُ مُدَّعِيًا
وقال بَعْضُهُمْ الْمُدَّعِي من يُخْبِرُ عَمَّا في يَدِ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ
وَالْمُدَّعَى عليه من يُخْبِرُ عَمَّا في يَدِ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ
فَيَنْفَصِلَانِ بِذَلِكَ عن الشَّاهِدِ وَالْمُقِرِّ وَالشَّاهِدُ من يُخْبِرُ
عَمَّا في يَدِ غَيْرِهِ لِغَيْرِهِ وَالْمُقِرُّ من يُخْبِرُ عَمَّا في يَدِ
نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الدَّعْوَى وما يَتَّصِلُ بِهِ فَحُكْمُهَا
وُجُوبٌ الْجَوَابِ على الْمُدَّعَى عليه لِأَنَّ قَطْعَ الْخُصُومَةِ
وَالْمُنَازَعَةِ وَاجِبٌ وَلَا يُمْكِن الْقَطْعُ ألا بِالْجَوَابِ فَكَانَ
وَاجِبًا وَهَلْ يَسْأَلُهُ الْقَاضِي الْجَوَابَ قبل طَلَبِ المدعى
ذَكَرَ في أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَسْأَلُهُ وَذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ
لَا يَسْأَلُهُ ما لم يَقُلْ الْمُدَّعِي اسْأَلْهُ عن دَعْوَايَ وَعَلَى هذا إذَا
تَقَدَّمَ الْخَصْمَانِ إلَى الْقَاضِي هل يَسْأَلُ الْمُدَّعِيَ عن دَعْوَاهُ في
أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَسْأَلُهُ
وفي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُ وَيُعْرَفُ ذلك في كِتَابِ أَدَبِ
الْقَاضِي وَسَيَأْتِي
وإذا وَجَبَ الْجَوَابُ على الْمُدَّعَى عليه فَإِمَّا إنْ أَقَرَّ أو سَكَتَ أو
أَنْكَرَ فَإِنْ أَقَرَّ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَى الْمُدَّعِي لِظُهُورِ صِدْقِ
دَعْوَاهُ وَإِنْ أَنْكَرَ فَإِنْ كان لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ أَقَامَهَا
وَلَوْ قال لَا بَيِّنَةَ لي ثُمَّ جاء بِالْبَيِّنَةِ هل تُقْبَل رَوَى الْحَسَنُ
عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أنها تُقْبَلُ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أنها لَا تُقْبَل
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ قَوْلَهُ لَا بَيِّنَةَ لي إقْرَارٌ على نَفْسِهِ
وَالْإِنْسَانُ لَا يُتَّهَمُ في إقْرَارِهِ على نَفْسِهِ فَالْإِتْيَانُ
بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذلك رُجُوعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يَصِحُّ وَجْهُ
رِوَايَةِ الْحَسَنِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ من الْجَائِزِ أَنْ تَكُونَ له
بَيِّنَةٌ لم يَعْلَمْهَا الْمُدَّعِي بِأَنْ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عليه بين يَدَيْ
هَؤُلَاءِ وهو لَا يَعْلَمُ بِهِ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذلك بها فَأَمْكَنَ
التَّوْفِيقُ فَلَا يَكُونُ الْإِتْيَانُ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذلك رُجُوعًا
فَتُقْبَلُ وَإِنْ لم يَكُنْ له بَيِّنَةٌ وَطَلَب يَمِينَ الْمُدَّعَى عليه
يَحْلِفُ فِيمَا
____________________
(6/224)
يَحْتَمِلُ
التَّحْلِيفَ فَإِنْ سَكَتَ عن الْجَوَابِ يَأْتِي حُكْمُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى في الْفَصْلِ الذي يَلِيهِ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُجَّةُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عليه فَالْبَيِّنَةُ حُجَّةُ
الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ حُجَّةُ الْمُدَّعَى عليه لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ الْبَيِّنَةُ على الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ على الْمُدَّعَى عليه
جَعَلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْبَيِّنَةَ حُجَّةَ الْمُدَّعِي
وَالْيَمِينَ حُجَّةَ الْمُدَّعَى عليه وَالْمَعْقُولُ كَذَلِكَ لِأَنَّ
الْمُدَّعِيَ يَدَّعِي أَمْرًا خَفِيًّا فَيَحْتَاجُ إلَى إظْهَارِهِ
وَلِلْبَيِّنَةِ قُوَّةُ الْإِظْهَارِ لِأَنَّهَا كَلَامُ من ليس بِخَصْمٍ
فَجُعِلَتْ حُجَّةُ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ وَإِنْ كانت مُؤَكَّدَةً بِذِكْرِ
اسْمِ اللَّهِ عز وجل لَكِنَّهَا كَلَامُ الْخَصْمِ فَلَا تَصْلُحُ حُجَّة مظهره
لِلْحَقِّ وَتَصْلُحُ حُجَّةٌ المدعي عليه لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالظَّاهِرِ وهو
ظَاهِرُ الْيَدِ فَحَاجَتُهُ إلَى اسْتِمْرَارِ حُكْمِ الظَّاهِرِ وَالْيَمِينُ
وَإِنْ كانت كَلَامَ الْخَصْمِ فَهِيَ كَافٍ لِلِاسْتِمْرَارِ فَكَانَ جَعْلُ
الْبَيِّنَةِ حُجَّةَ الْمُدَّعِي وَجَعْلُ الْيَمِينِ حُجَّةَ الْمُدَّعَى عليه
وَضْعَ الشَّيْءِ في مَوْضِعِهِ وهو حَدُّ الْحِكْمَةِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّج الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ وَيَمِينٍ من الْمُدَّعِي
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قَضَى
بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا كانت حُجَّةَ الْمُدَّعِي
لِكَوْنِهَا مُرَجِّحَةً جِنْسِيَّةَ الصِّدْقِ على جِنْسِيَّةِ الْكَذِبِ في
دَعْوَاهَا الرُّجْحَانَ فَكَمَا يَقَعُ بِالشَّهَادَةِ يَقَعُ بِالْيَمِينِ
فَكَانَتْ الْيَمِينُ في كَوْنِهَا حُجَّةً مِثْلَ الْبَيِّنَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي
أَنْ يكتفى بها إلَّا أَنَّهُ ضَمَّ إلَيْهَا الشَّهَادَةَ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ
وَلَنَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَالْمَعْقُولُ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ من
وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْجَبَ
الْيَمِينَ على الْمُدَّعَى عليه
وَلَوْ جُعِلْت حُجَّةَ الْمُدَّعِي لَا تبقي وَاجِبَةً على الْمُدَّعَى عليه وهو
خِلَافُ النَّصِّ
وَالثَّانِي أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ كُلَّ جِنْسِ الْيَمِين
حُجَّةَ الْمُدَّعَى عليه لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَكَرَ
الْيَمِينَ بلام التَّعْرِيفِ فَيَقْتَضِي اسْتِغْرَاقَ كل الْجِنْسِ فَلَوْ
جُعِلَتْ حُجَّةَ الْمُدَّعِي لَا يَكُونُ كُلُّ جِنْسِ الْيَمِينِ حُجَّةَ المدعي
عليه بَلْ يَكُونُ من الْأَيْمَانِ ما ليس بِحُجَّةٍ له وهو يَمِينُ الْمُدَّعِي
وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ طَعَنَ فيه يحيى بْن مَعِينٍ وقال لم يَصِحَّ عن رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ
وَكَذَا رُوِيَ عن الزُّهْرِيِّ لَمَّا سُئِلَ عن الْيَمِينِ مع الشَّاهِدِ فقال
بِدْعَةٌ وَأَوَّلُ من قَضَى بِهِمَا مُعَاوِيَةُ رضي اللَّهُ عنه وَكَذَا ذَكَرَ
ابن جُرَيْجٍ عن عَطَاءِ بن أبي رَبَاحٍ أَنَّهُ قال كان الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ
أَنْ لَا يُقْبَلَ إلَّا شَاهِدَانِ وَأَوَّلُ من قَضَى بِالْيَمِينِ مع الشَّاهِد
عبد الْمَلِكِ بن مَرْوَانَ مع ما أَنَّهُ وَرَدَ مَوْرِدَ الْآحَادِ وَمُخَالِفًا
لِلْمَشْهُورِ فَلَا يُقْبَلُ
وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ أَمَّا ليس فيه أَنَّهُ فيه
قَضَى
وقد رُوِيَ عن بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ في
الْأَمَانِ وَعِنْدَنَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ في بَعْضِ أَحْكَامِ الْأَمَانِ
بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ إذَا كان عَدْلًا بِأَنْ شَهِدَ أَنَّهُ أَمَّنَ هذا الْكَافِرَ
تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ حتى لَا يُقْتَلَ لَكِنْ يُسْتَرَقُّ وَالْيَمِينُ من بَابِ
ما يُحْتَاطُ فيه فَحُمِلَ على هذا تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لها عن
التَّنَاقُضِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ في رَدِّهِ الْيَمِينَ إلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عليه
لِأَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ما جَعَلَ الْيَمِينَ حُجَّةً إلَّا
في جَانِبِ الْمُدَّعَى عليه فَالرَّدُّ إلَى الْمُدَّعِي يَكُونُ وَضْع الشَّيْءِ
في غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَهَذَا حَدُّ الظُّلْمِ وَعَلَى هذا يُخَرِّج مَسْأَلَةَ
الْخَارِجِ مع ذِي الْيَدِ إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا تُقْبَل
بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ حُجَّةً لِلْمُدَّعِي وَذُو الْيَدِ
ليس بِمُدَّعٍ بَلْ هو مُدَّعَى عليه فَلَا تَكُونُ الْبَيِّنَةُ حُجَّةً له
فَالْتَحَقَتْ بَيِّنَتُهُ بِالْعَدَمِ فَخَلَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي عن
الْمُعَارِضِ فَيُعْمَلُ بها وقد تُخَرَّجُ الْمَسْأَلَةُ على أَصْل آخِرٍ
نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
وإذا عَرَفْت أَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةُ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ حُجَّةُ
الْمُدَّعَى عليه فَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ عَلَائِقِهِمَا وَعَلَائِقِ
الْبَيِّنَةِ قد مَرَّ ذِكْرُهَا في كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَنَذْكُرُ هُنَا
عَلَائِقَ الْيَمِينِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْكَلَامُ في الْيَمِينِ
في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنَّ الْيَمِينَ وَاجِبَةٌ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ
الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ وفي
بَيَانِ حُكْمِ أَدَائِهِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الِامْتِنَاعِ عن تَحْصِيلِ
الْوَاجِبِ
أَمَّا دَلِيلُ الْوُجُوبِ فَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وهو قَوْلُهُ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْبَيِّنَةُ على الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ على
الْمُدَّعَى عليه وَعَلَى كَلِمَةٍ إيجَابٌ
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ منها الْإِنْكَارُ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ
لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ التُّهْمَةِ وَهِيَ تُهْمَةُ الْكَذِبِ في الْإِنْكَارِ
فإذا كان مُقِرًّا لَا حَاجَةَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُتَّهَم في الْإِقْرَارِ
على نَفْسِهِ
ثُمَّ الْإِنْكَارُ نَوْعَانِ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ
أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ صَرِيحُ الْإِنْكَارِ وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهُوَ
السُّكُوتُ عن جَوَابِ الْمُدَّعِي من غَيْرِ آفَةٍ لِأَنَّ الدَّعْوَى أَوْجَبَتْ
الْجَوَابَ عليه وَالْجَوَابُ نَوْعَانِ إقْرَارٌ وَإِنْكَارٌ فَلَا بُدَّ من
حَمْلِ السُّكُوتِ على
____________________
(6/225)
أَحَدِهِمَا
وَالْحَمْلُ على الْإِنْكَارِ أَوْلَى لِأَنَّ الْعَاقِلَ الْمُتَدَيِّنَ لَا
يَسْكُتُ عن إظْهَارِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ لِغَيْرِهِ مع قُدْرَتِهِ عليه وقد
يَسْكُتُ عن إظْهَارِ الْحَقِّ لِنَفْسِهِ مع قُدْرَتِهِ عليه فَكَانَ حَمْلُ
السُّكُوتِ على الْإِنْكَارِ أَوْلَى فَكَانَ السُّكُوتُ إنْكَارًا دَلَالَةً
وَلَوْ لم يُسْكَتْ الْمُدَّعَى عليه ولم يُقِرَّ وَلَكِنَّهُ قال لَا أُقِرُّ
وَلَا أُنْكِرُ وَأَصَرَّ على ذلك اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ هذا
إنْكَارٌ وقال بَعْضُهُمْ هذا إقْرَارٌ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ
لَا أُنْكِرُ إخْبَارٌ عن السُّكُوتِ عن الْجَوَابِ وَالسُّكُوتُ إنْكَارٌ على ما
مَرَّ
وَمِنْهَا الطَّلَبُ من الْمُدَّعِي لِأَنَّهَا وَجَبَتْ على الْمُدَّعَى عليه
حَقًّا لِلْمُدَّعِي وَحَقُّ الْإِنْسَانِ قِبَلَ غَيْرِهِ وَاجِبَ الْإِيفَاءِ
عِنْدَ طَلَبِهِ وَمِنْهَا عَدَمُ الْبَيِّنَةِ الْحَاضِرَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا ليس بِشَرْطٍ حتى لو قال الْمُدَّعِي لي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ ثُمَّ
أَرَادَ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُدَّعَى عليه ليس له ذلك عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا له
ذلك
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْيَمِينَ حُجَّةُ الْمُدَّعِي كَالْبَيِّنَةِ
وَلِهَذَا لَا تَجِبُ إلَّا عِنْدَ طَلَبِهِ فَكَانَ له وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ
أَيِّهِمَا شَاءَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ في كَوْنِهَا حُجَّةَ
الْمُدَّعِي كَالْأَصْلِ لِكَوْنِهَا كَلَامَ غَيْرِ الْخَصْمِ وَالْيَمِينُ
كَالْخَلْفِ عليها لِكَوْنِهَا كَلَامَ الْخَصْمِ فَلِهَذَا لو أَقَامَ
الْبَيِّنَةَ ثُمَّ أَرَادَ اسْتِحْلَافَ الْمُدَّعَى عليه ليس له ذلك
وَالْقُدْرَةُ على الْأَصْلِ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْخَلْفِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ المدعي حَقًّا لِلَّهِ عز وجل خَالِصًا فَلَا يَجُوزُ
الِاسْتِحْلَافُ في الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ عز وجل كَحَدِّ
الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لِأَجْلِ النُّكُولِ
وَلَا يُقْضَى بِالنُّكُولِ في الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِأَنَّهُ بَذْلٌ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا إقْرَارٌ فيه شُبْهَةُ الْعَدَمِ
وَالْحُدُودُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَذْلَ وَلَا تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ فيه شُبْهَةٌ
لِهَذَا لَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ وَالشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ
إلَّا أَنَّ في السَّرِقَةِ يَحْلِفُ على أَخْذِ الْمَالِ وَكَذَا لَا يَمِينَ في
اللَّعَّانِ لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْحَدِّ
وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَيَجْرِي فيه الِاسْتِحْلَافُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
لِأَنَّهُ ليس من الْحُدُودِ الْمُتَمَحِّضَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ
يَشُوبُهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَأَشْبَهَ التَّعْزِيرَ وفي التَّعْزِيرِ يَحْلِفُ
كَذَا هذا وَيَجْرِي الِاسْتِحْلَافُ في الْقِصَاصِ في النَّفْسِ وَالطَّرَفِ
لِأَنَّ الْقِصَاصَ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ المدعي مُحْتَمِلًا لِلْإِقْرَارِ بِهِ شَرْعًا بِأَنْ كان
لو أَقَرَّ بِهِ لَصَحَّ إقْرَارُهُ بِهِ فَإِنْ لم يَكُنْ لم يَجْرِ فيه
الِاسْتِحْلَافُ حتى إن من ادَّعَى على رَجُلٍ أَنَّهُ أَخُوهُ ولم يَدَّعِ في
يَدِهِ مِيرَاثًا فَأَنْكَرَ لَا يَحْلِفُ لِأَنَّهُ لو أَقَرَّ له بِالْأُخُوَّةِ
لم يَجُزْ إقْرَارُهُ لِكَوْنِهِ إقْرَارًا على غَيْرِهِ وهو أَبُوهُ
وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ أَخُوهُ وإن في يَدِهِ مَالًا من تَرِكَةِ أبيه وهو
مُسْتَحِقٌّ لِنِصْفِهِ بِإِرْثِهِ من أبيه فَأَنْكَرَ يَحْلِفُ لِأَجْلِ
الْمِيرَاثِ لَا لِلْأُخْوَةِ لِأَنَّهُ لو أَقَرَّ انه أَخُوهُ صَحَّ إقْرَارُهُ
في حَقِّ الْإِرْثِ حتى يُؤْمَرَ بِتَسْلِيمِ نِصْفِ الْمِيرَاثِ إلَيْهِ ولم
يَصِحَّ في حَقِّ النَّسَبِ حتى لَا يُقْضَى بِأَنَّهُ أَخُوهُ
وَعَلَى هذا عَبْدٌ في يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ فَأَقَرَّ بِهِ
لِأَحَدِهِمَا وسلم الْقَاضِي الْعَبْدَ إلَيْهِ فقال الْآخِرُ لَا بَيِّنَةَ لي
وَطَلَب من الْقَاضِي تَحْلِيفَ الْمُقِرِّ لَا يُحَلِّفُهُ في عَيْنِ الْعَبْدِ
لِأَنَّهُ لو أَقَرَّ بِهِ لَكَانَ إقْرَارُهُ بَاطِلًا فإذا أَنْكَرَ لَا
يُحَلَّفُ إلَّا أَنْ يَقُولَ الذي لم يُقِرَّ له إنك أَتْلَفَتْ على الْعَبْدَ
بِإِقْرَارِك بِهِ لِغَيْرِي فَاضْمَنْ قِيمَتَهُ لي يَحْلِفُ الْمُقِرُّ
بِاَللَّهِ تَعَالَى ما عليه رَدُّ قِيمَةِ ذلك الْعَبْدِ على هذا الْمُدَّعِي
وَلَا رَدُّ شَيْءٍ منها لِأَنَّهُ لو أَقَرَّ بِإِتْلَافِهِ لَصَحَّ وَضَمِنَ
الْقِيمَةَ فإذا أَنْكَرَ يَسْتَحْلِفُهُ
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ زَوَّجَهُ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ وَأَنْكَرَ
الْأَبُ لَا يَحْلِفُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِطَرِيقَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لو أَقَرَّ بِهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهِ عِنْدَهُ فأذا
أَنْكَرَ لَا يُسْتَحْلَفُ
وَالثَّانِي أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لَا يَجْرِي في النِّكَاحِ وَعِنْدَهُمَا
يَجْرِي لَكِنْ عِنْدَ أبي يُوسُفَ يَحْلِفُ على السَّبَبِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ على
الْحَاصِلِ وَالْحُكْمُ على ما نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ
هذا إذَا كانت صَغِيرَةً عِنْدَ الدَّعْوَى فَإِنْ كانت كَبِيرَةً وَادَّعَى أَنَّ
أَبَاهَا زَوَّجَهَا إيَّاهُ في صِغَرِهَا لَا يَحْلِفُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
لِمَا قُلْنَا من الطَّرِيقَيْنِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْلِفُ أَيْضًا لِأَحَدِ
طَرِيقَيْنِ وهو أَنَّهُ لو أَقَرَّ عليها في الْحَالِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ
وَلَكِنْ تَحْلِفُ الْمَرْأَةُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهَا لو أَقَرَّتْ لَصَحَّ
إقْرَارُهَا وَعِنْدَهُمَا الِاسْتِحْلَافُ يَجْرِي فيه لَكِنْ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
تَحْلِفُ على السَّبَبِ بِاَللَّهِ عز وجل ما تَعْلَمُ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا
وَهِيَ صَغِيرَةٌ إلَّا عِنْدَ التَّعَرُّضِ فَتَحْلِفُ على الْحُكْمِ كما قال
مُحَمَّدٌ
وَلَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ على رَجُلٍ أَنَّهُ زَوَّجَهَا عَبْدَهُ فَأَنْكَرَ
الْمَوْلَى لَا يَحْلِفُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِطَرِيقَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لو أَقَرَّ عليه لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا اسْتِحْلَافَ في النِّكَاحِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا
يَحْلِفُ أَيْضًا لَكِنْ لِطَرِيقٍ وَاحِدٍ وهو أَنَّهُ لو أَقَرَّ عليه لَا
يَصِحُّ إقْرَارُهُ
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ على رَجُلٍ أَنَّهُ زَوَّجَهُ أَمَتَهُ لَا يَحْلِفُ
الْمَوْلَى عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَحْلِفُ لِطَرِيقٍ وَاحِدٍ وهو
أَنَّ
____________________
(6/226)
الِاسْتِحْلَافَ
لَا يَجْرِي في النِّكَاحِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَجْرِي
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ المدعي مِمَّا يَحْتَمِلُ الْبَذْلَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
مع كَوْنِهِ مُحْتَمِلًا لِلْإِقْرَارِ وَعِنْدَهُمَا أَنْ يَكُونَ مِمَّا
يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ سَوَاءٌ احْتَمَلَ الْبَذْلَ أو لَا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ اخْتِلَافُهُمْ في الْأَشْيَاءِ السَّبْعَةِ أنها لَا
يَجْرِي فيها الِاسْتِحْلَافُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَهِيَ النِّكَاحُ
وَالرَّجْعَةُ وَالْفَيْءُ في الْإِيلَاءِ وَالنَّسَبُ وَالرِّقُّ وَالْوَلَاءُ
وَالِاسْتِيلَادُ أَمَّا النِّكَاحُ فَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ على امْرَأَةٍ
أنها امْرَأَتُهُ أو تَدَّعِي امْرَأَةٌ على رَجُلٍ أَنَّهُ زَوْجُهَا وَلَا
بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي وَطَلَب يَمِينَ الْمُنْكِرِ
وَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لِلْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ
انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قد كُنْت رَاجَعَتْك وَأَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ وَعَجَزَ
الزَّوْجُ عن إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَطَلَب يَمِينَهَا وَأَمَّا الْفَيْءُ في
الْإِيلَاءِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ آلَى من امْرَأَتِهِ وَمَضَتْ
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فقال قد كُنْت فِئْت إلَيْك بِالْجِمَاعِ فلم تُبَيِّنِي
فقالت لم تفىء ( ( ( تفئ ) ) ) إلَيَّ وَلَا بَيِّنَةَ لِلزَّوْجِ فَطَلَب
يَمِينَهَا
وَأَمَّا النَّسَبُ فَنَحْوُ أَنْ يَدَّعِيَ على رَجُلٍ أَنَّهُ أَبُوهُ أو
ابْنُهُ فَأَنْكَرَ الرَّجُلُ وَلَا بَيِّنَةَ له وَطَلَب يَمِينَهُ وَأَمَّا
الرِّقُّ فَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ على رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَأَنْكَرَ وقال
أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ لم يَجْرِ عليه رِقٌّ أَبَدًا وَلَا بَيِّنَةَ
لِلْمُدَّعِي فَطَلَب يَمِينَهُ
وَأَمَّا الْوَلَاءُ فإنه يَدَّعِي على امْرَأَةٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ أَبَاهَا وإن
أَبَاهَا مَاتَ وَوَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَأَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ
أَعْتَقَهُ وَأَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهُ ثَابِتًا منه وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي
فَطَلَب يَمِينَهَا على ما أَنْكَرَتْ من الْوَلَاءِ
وَأَمَّا الِاسْتِيلَادُ فَهُوَ أَنْ تَدَّعِيَ أَمَةٌ على مَوْلَاهَا فَتَقُولُ
أنا أُمُّ وَلَدٍ لِمَوْلَايَ وَهَذَا وَلَدِي فَأَنْكَرَ الْمَوْلَى لَا يَجْرِي
الِاسْتِحْلَافُ في هذه الْمَوَاضِعِ السَّبْعَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا يَجْرِي وَالدَّعْوَى من الْجَانِبَيْنِ تُتَصَوَّرُ في الْفُصُولِ
السِّتَّةِ وفي الِاسْتِيلَادِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا من جَانِبٍ وَاحِدٍ وهو
جَانِبُ الْأَمَةِ فَأَمَّا جَانِبُ الْمَوْلَى فَلَا تُتَصَوَّرُ الدَّعْوَى
لِأَنَّهُ لو ادَّعَى لَثَبَتَ بِنَفْسِ الدَّعْوَى وَهَذَا بِنَاء على ما
ذَكَرنَا أَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ عنه وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تَحْتَمِلُ
الْبَذْلَ وَعِنْدَهُمَا إقْرَارٌ فيه شُبْهَةٌ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَثْبُت
بِدَلِيلٍ فيه شُبْهَةٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ نُكُولَ الْمُدَّعَى عليه دَلِيلُ كَوْنِهِ كَاذِبًا في
إنْكَارِهِ لِأَنَّهُ لو كان صَادِقًا لَمَا امْتَنَعَ من الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ
فَكَانَ النُّكُولُ إقْرَارًا دَلَالَةً إلَّا أَنَّهُ دَلَالَةٌ قَاصِرَةٌ فيها
شُبْهَةُ الْعَدَمِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ قَاصِرٍ فيه
شُبْهَةُ الْعَدَمِ أَلَا تَرَى أنها تَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ
وَشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النُّكُولَ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ لَمَا قُلْتُمْ
وَيَحْتَمِلُ الْبَذْلَ لِأَنَّ الْعَاقِلَ الدَّيِّنَ كما يَتَحَرَّجُ عن
الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ يَتَحَرَّجُ عن التَّغْيِيرِ وَالطَّعْنِ بِالْيَمِينِ
بِبَذْلِ الْمُدَّعِي إلَّا أَنَّ حَمْلَهُ على الْبَذْلِ أَوْلَى لِأَنَّا لو
جَعَلْنَاهُ إقْرَارًا لَكَذَّبْنَاهُ لِمَا فيه من الْإِنْكَارِ وَلَوْ
جَعَلْنَاهُ بَذْلًا لم نَكْذِبْهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ في التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ
قال ليس هذا لَك وَلَكِنِّي لَا أَمْنَعُك عنه وَلَا أُنَازِعُك فيه فَيَحْصُلُ
الْمَقْصُودُ من غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى التَّكْذِيبِ وإذا ثَبَتَ أَنَّ النُّكُولَ
بَذْلٌ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَذْلَ فَلَا تَحْتَمِلُ
النُّكُولَ فَلَا تَحْتَمِلُ التَّحْلِيفَ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحْلِفُ
الْمُدَّعِيَ لِيَنْكُلَ الْمُدَّعَى عليه فيقضى عليه فإذا لم يَحْتَمِلْ
النُّكُولَ لَا يَحْتَمِل التَّحْلِيفَ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ فَالْكَلَامُ فيه يَتَعَلَّقُ
بِمَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ صِفَةِ التَّحْلِيفِ نَفْسِهِ أَنَّهُ
كَيْفَ يَحْلِفُ
وَالثَّانِي في بَيَانِ صِفَةِ الْمَحْلُوفِ عليه أَنَّهُ على مَاذَا يَحْلِفُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا إن كان الْحَالِفُ مُسْلِمًا
وَإِمَّا إن كان كَافِرًا فَإِنْ كان مُسْلِمًا فَيُحَلِّفُهُ الْقَاضِي
بِاَللَّهِ تَعَالَى إنْ شَاءَ من غَيْرِ تَغْلِيظٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حَلَّفَ يَزِيدَ بن رُكَانَةَ أو رُكَانَةَ بن عبد
يَزِيدَ بِاَللَّهِ عز وجل ما أَرَدْت بِالْبَتَّةِ ثَلَاثًا وَإِنْ شَاءَ غَلَّظَ
لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِتَغْلِيظِ الْيَمِينِ في الْجُمْلَةِ فإنه رُوِيَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حَلَّفَ ابْنَ صُورِيَّا الْأَعْوَرَ
وَغَلَّظَ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الذي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ على
سَيِّدِنَا مُوسَى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إن حَدَّ الزِّنَا في كِتَابِكُمْ
هذا
وقال مَشَايِخُنَا يَنْظُرُ إلَى حَالِ الْحَالِفِ إنْ كان مِمَّنْ لَا يُخَافُ
منه الِاجْتِرَاءُ على اللَّهِ تَعَالَى بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ يكتفى فيه
بِاَللَّهِ عز وجل من غَيْرِ تَغْلِيظٍ وَإِنْ كان مِمَّنْ يُخَافُ منه ذلك
تُغَلَّظُ لِأَنَّ من الْعَوَامّ من لَا يُبَالِي عن الْحَلِفِ بِاَللَّهِ عز وجل
كَاذِبًا فإذا غُلِّظَ عليه الْيَمِينُ يَمْتَنِعُ وقال بَعْضُهُمْ إنْ كان
الْمَالُ الْمُدَّعَى يَسِيرًا يكتفى فيه بِاَللَّهِ عز وجل وَإِنْ كان كَثِيرًا
يُغَلَّظُ
وَصِفَةُ التَّغْلِيظِ أَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ الذي لَا إلَهَ إلَّا هو عَالَمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرحمن الرَّحِيمِ الذي يَعْلَمُ من السِّرِّ ما
يَعْلَمُ من الْعَلَانِيَةِ وَنَحْوَ ذلك مِمَّا يُعَدُّ تَغْلِيظًا في الْيَمِينِ
وَإِنْ كان الْحَالِفُ كَافِرًا فإنه يَحْلِفُ بِاَللَّهِ عز وجل أَيْضًا ذِمِّيًّا
كان أو مُشْرِكًا لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ قال اللَّهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ من خَلْقَ السماوات
( ( ( السموات ) ) ) وَالْأَرْضَ لِيَقُولُنَّ اللَّهُ } فَيُعَظِّمُونَ اسْمَ
اللَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ
____________________
(6/227)
وَيَعْتَقِدُونَ
حُرْمَةَ الاله إلَّا الدَّهْرِيَّةَ وَالزَّنَادِقَةَ وَأَهْلَ الْإِبَاحَةِ
وَهَؤُلَاءِ أَقْوَامٌ لم يَتَجَاسَرُوا على إظْهَارِ نِحْلَتِهِمْ في عَصْرٍ من
الْأَعْصَارِ إلَى يَوْمِنَا هذا وَنَرْجُو من فَضْلِ اللَّهِ عز وجل على أُمَّةِ
حَبِيبِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ لَا يُقَدِّرَهُمْ على إظْهَارِ ما
انْتَحَلُوهُ إلَى انْقِضَاءِ الدُّنْيَا وَإِنْ رَأَى الْقَاضِي ما يَكُونُ
تَغْلِيظًا في دِينِهِ فَعَلَ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم غَلَّظَ على ابْنِ صُورِيَّا دَلَّ أَنَّ كُلَّ ذلك سَائِغٌ فَيُغَلِّظُ
على الْيَهُودِيِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى عز وجل الذي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ على
سَيِّدِنَا مُوسَى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَلَى النَّصْرَانِيِّ
بِاَللَّهِ الذي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ على سَيِّدِنَا عِيسَى عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَعَلَى الْمَجُوسِيِّ بِاَللَّهِ الذي خَلَقَ النَّارَ وَلَا
يَحْلِفُ على الْإِشَارَةِ إلَى مُصْحَفٍ مُعَيَّنٍ بِأَنْ يَقُولَ بِاَللَّهِ
الذي أَنْزَلَ هذا الْإِنْجِيلَ أو هذه التَّوْرَاةَ لِأَنَّهُ قد ثَبَتَ
تَحْرِيفُ بَعْضِهَا فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ تَقَعَ الْإِشَارَةُ إلَى الْمُحَرَّفِ
فَيَكُونُ التَّحْلِيفُ بِهِ تَعْظِيمًا لِمَا ليس بِكَلَامِ اللَّهِ عز وجل وَلَا
يَبْعَثُ هَؤُلَاءِ إلَى بُيُوتِ عِبَادَتِهِمْ من الْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ
وَبَيْتِ النَّارِ لِأَنَّ فيه تَعْظِيمَ هذه الْمَوَاضِعِ وَكَذَا لَا يَجِبُ
تَغْلِيظُ الْيَمِينِ على الْمُسْلِمِ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَان عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كان بِالْمَدِينَةِ يَحْلِفُ عِنْدَ
الْمِنْبَرِ وَإِنْ كان بِمَكَّةَ يَحْلِفُ عِنْدَ الْمِيزَابِ وَيَحْلِفُ بَعْدَ
الْعَصْرِ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رَوَيْنَا من الحديث الْمَشْهُورِ وهو قَوْلُهُ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْبَيِّنَةُ على الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ على
الْمُدَّعَى عليه مُطْلَقًا عن الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَرُوِيَ أَنَّهُ
اخْتَصَمَ زَيْدُ بن ثَابِتٍ وابن مُطِيعٍ في دَارٍ إلَى مَرْوَانَ بن الْحَكَمِ
فَقَضَى على زَيْدِ بن ثَابِتٍ بِالْيَمِينِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فقال له زَيْدٌ
أَحْلِفُ له مَكَانِي فقال له مَرْوَانُ لَا وَاَللَّهِ إلَّا عِنْدَ مَقَاطِعِ
الْحُقُوقِ فَجَعَلَ زَيْدٌ يَحْلِفُ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ
عِنْدَ الْمِنْبَرِ فَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ من ذلك وَلَوْ كان ذلك لَازِمًا
لَمَا احْتَمَلَ أَنْ يَأْبَاهُ زَيْدُ بن ثَابِتٍ وَلِأَنَّ تَخْصِيصَ
التَّحْلِيفِ بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ تَعْظِيمُ غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى وَفِيهِ مَعْنَى الْإِشْرَاكِ في التَّعْظِيمِ وَاَللَّهُ عز وجل
أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ صِفَةِ الْمَحْلُوفِ عليه أَنَّهُ على مَاذَا يَحْلِفُ فَنَقُولُ
الدَّعْوَى لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كانت مُطْلَقَةً عن سَبَبٍ وَإِمَّا إنْ كانت
مُقَيَّدَةً بِسَبَبٍ فَإِنْ كانت مُطْلَقَةً عن سَبَبٍ بِأَنْ ادَّعَى عَبْدًا أو
جَارِيَةً أو أَرْضًا وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عليه فَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ
يَحْلِفُ على الْحُكْمِ وهو ما وَقَعَ فيه الدَّعْوَى فَيُقَالُ بِاَللَّهِ ما هذا
الْعَبْدُ أو الْجَارِيَةُ أو الْأَرْضُ لِفُلَانٍ هذا وَلَا شَيْءَ منه وَإِنْ
كانت مُقَيَّدَةً بِسَبَبٍ بِأَنْ ادَّعَى أَنَّهُ أَقْرَضَهُ أَلْفًا أو غَصْبه
أَلْفًا أو أَوْدَعَهُ أَلْفًا وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عليه فَقَدْ اخْتَلَفَ أبو
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ في أَنَّهُ يَحْلِفُ على السَّبَبِ أو على الْحُكْمِ
قال أبو يُوسُفَ يَحْلِفُ على السَّبَبِ بِاَللَّهِ ما اسْتَقْرَضْت منه أَلْفًا
أو ما غَصَبْته أَلْفًا أو ما أَوْدَعَنِي أَلْفًا إلَّا أَنْ يُعَرِّضَ
الْمُدَّعَى عليه وَلَا يُصَرِّحُ فيقول قد يُسْتَقْرَضُ الْإِنْسَانُ وقد
يَغْصِبُ وقد يُودَعُ وَلَا يَكُونُ عليه لِمَا أَنَّهُ أَبْرَأهُ عن ذلك أو رَدَّ
الْوَدِيعَةَ وأنا لَا أُبَيِّنُ ذلك لِئَلَّا يَلْزَمَنِي شَيْءٌ فَحِينَئِذٍ
يَحْلِفُ على الْحُكْمِ
وقال مُحَمَّدٌ يَحْلِفُ على الْحُكْمِ من الِابْتِدَاءِ بِاَللَّهِ ماله عَلَيْكَ
هذه الْأَلْفُ التي ادَّعَى
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّحْلِيفَ على السَّبَبِ تَحْلِيفٌ على ما لَا
يُمْكِنُهُ الْحَلِفُ عليه عَسَى لِجَوَازِ أَنَّهُ وُجِدَ منه السَّبَبُ ثُمَّ
ارْتَفَعَ بِالْإِبْرَاءِ أو بِالرَّدِّ فَلَا يُمْكِنُهُ الْحَلِفُ على نَفْيِ
السَّبَبِ وَيُمْكِنُهُ الْحَلِفُ على نَفْيِ الْحُكْمِ على كل حَالٍ فَكَانَ
التَّحْلِيفُ على الْحُكْمِ أَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
حَلَّفَ الْيَهُودَ بِاَللَّهِ وفي بَابِ الْقَسَامَةِ على السَّبَبِ فقال عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِاَللَّهِ ما قَتَلْتُمُوهُ وَلَا عَلِمْتُمْ له
قَاتِلًا فَيَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَلِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْحَلِفِ ما
هو الدَّاخِلُ تَحْتَ الدَّعْوَى وَالدَّاخِلُ تَحْتَ الدَّعْوَى في هذه الصُّورَةِ
مَقْصُودًا هو السَّبَبُ فَيَحْلِفُ عليه فَبَعْدَ ذلك إنْ أَمْكَنَهُ الْحَلِفُ
على السَّبَبِ حَلَفَ عليه وَإِنْ لم يُمْكِنْهُ وَعَرَّضَ فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ
على الْحُكْمِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ دَعْوَى الشِّرَاءِ إذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عليه
فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَحْلِفُ على السَّبَبِ بِاَللَّهِ عز وجل ما بِعْته هذا
الشَّيْءَ إلَّا أَنْ يُعَرِّضَ الْخَصْمُ وَالتَّعْرِيضُ في هذا أَنْ يَقُولَ قد
يَبِيعُ الرَّجُلُ الشَّيْءَ ثُمَّ يَعُودُ إلَيْهِ بِهِبَةٍ أو فَسْخٍ أو
إقَالَةٍ أو رَدٍّ بِعَيْبٍ أو خِيَارِ شَرْطٍ أو خِيَارِ رُؤْيَةٍ وأنا لَا
أُبَيِّنُ ذلك كَيْ لَا يَلْزَمَنِي شَيْءٌ فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ على الْحُكْمِ
بِاَللَّهِ تَعَالَى ما بَيْنَكُمَا بَيْعٌ قَائِمٌ أو شِرَاءٌ قَائِمٌ بهذا
السَّبَبِ الذي يَدَّعِي وَهَكَذَا يَحْلِفُ على قَوْلِ مُحَمَّدٍ
وَعَلَى هذا دَعْوَى الطَّلَاقِ بِأَنْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ على زَوْجِهَا أَنَّهُ
طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أو خَالَعَهَا على كَذَا وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ذلك يَحْلِفُ
على السَّبَبِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ بِاَللَّهِ عز وجل ما طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أو ما
خَالَعَهَا إلَّا أَنْ يُعَرِّضَ الزَّوْجُ فيقول الْإِنْسَانُ قد يُخَالِعُ
____________________
(6/228)
امْرَأَتَهُ
ثُمَّ تَعُودُ إلَيْهِ وقد يُطَلِّقُهَا ثَلَاثًا ثُمَّ تَعُودُ إلَيْهِ بَعْدَ
زَوْجٍ آخَرَ فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ عز وجل ما هِيَ حَرَامٌ عَلَيْك
بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ أو بِاَللَّهِ عز وجل ما هِيَ مُطَلَّقَةٌ مِنْك ثَلَاثًا
أو ما هِيَ حَرَامٌ عَلَيْك بِالْخَلْعِ أو ما هِيَ بَائِنٌ مِنْك وَنَحْوُ ذلك من
الْعِبَارَاتِ وَهَكَذَا يَحْلِفُ على قَوْلِ مُحَمَّدٍ
وَعَلَى هذا دَعْوَى الْعَتَاقِ في الْأَمَةِ بِأَنْ ادَّعَتْ أَمَةٌ على
مَوْلَاهَا أَنَّهُ أَعْتَقَهَا وهو مُنْكِرٌ
عِنْدَ أبي يُوسُفَ يَحْلِفُ الْمَوْلَى على السَّبَبِ بِاَللَّهِ عز وجل ما
أَعْتَقَهَا إلَّا أَنْ يُعَرِّضَ لِأَنَّهُ يَتَصَوَّرُ النَّقْضَ في هذا
وَالْعَوْدَ إلَيْهِ بِأَنْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ
ثُمَّ سَبَاهَا أو سَبَاهَا غَيْرُهُ فَاشْتَرَاهَا فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ كما
قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَلَوْ كان الذي يَدَّعِي الْعِتْقَ هو الْعَبْدَ فَيَحْلِفُ
على السَّبَبِ بِلَا خِلَافٍ بِاَللَّهِ عز وجل ما أَعْتَقَهُ في الرِّقِّ
الْقَائِمِ لِلْحَالِ في مِلْكِهِ لِانْعِدَامِ تَصَوُّرِ التَّعْرِيضِ لِأَنَّ
الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ لَا يَحْتَمِلُ السَّبْيَ بَعْدَ الْعِتْقِ حتى لو كان
الْعَبْدُ لم يُعْرَفْ مُسْلِمًا أو كان كَافِرًا يَحْلِفُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ على
الْحُكْمِ لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ إلَى الرِّقِّ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا نَقَضَ
الْعَهْدَ وَلِحَقِّ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ سُبِيَ يُسْتَرَقُّ بِخِلَافِ
الْمُسْلِمِ فإنه يُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ وَيُقْتَلُ إنْ أَبَى وَلَا
يُسْتَرَقّ
وَعَلَى هذا دَعْوَى النِّكَاحِ وهو تَفْرِيعٌ على قَوْلِهِمَا لِأَنَّ أَبَا
حَنِيفَةَ لَا يَرَى الِاسْتِحْلَافَ فيه فيقول الدَّعْوَى لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ
تَكُونَ من الرَّجُلِ أو من الْمَرْأَةِ فَإِنْ كانت من الرَّجُلِ وَأَنْكَرَتْ
الْمَرْأَةُ النِّكَاحَ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَحْلِفُ على السَّبَبِ إلَّا أَنْ
يُعَرِّضَ لِاحْتِمَالِ الطَّلَاقِ وَالْفُرْقَةِ بِسَبَبٍ ما فَحِينَئِذٍ
يَحْلِفُ على الْحُكْمِ بِاَللَّهِ عز وجل ما بَيْنَكُمَا نِكَاحٌ قَائِمٌ كما هو
قَوْلُ مُحَمَّدٍ
وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لو قال الزَّوْجُ أنا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا
أو أَرْبَعًا سِوَاهَا فإن الْقَاضِيَ لَا يُمَكِّنُهُ من ذلك لِأَنَّهُ إقْرَارٌ
لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ أنها امْرَأَتُهُ فيقول له إنْ كُنْت تُرِيدُ ذلك فَطَلِّقْ
هذه ثُمَّ تَزَوَّجْ أُخْتَهَا أو أَرْبَعًا سِوَاهَا وَإِنْ كان دَعْوَى
النِّكَاحِ من الْمَرْأَةِ على رَجُلٍ فَأَنْكَرَ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَحْلِفُ
على السَّبَبِ إلَّا أَنْ يُعَرِّضَ فَيَحْلِفَ على الْحُكْمِ كما قَالَهُ
مُحَمَّدٌ
فَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لو قالت الْمَرْأَةُ إنِّي أُرِيدُ أَنْ
أَتَزَوَّجَ فإن الْقَاضِيَ لَا يُمَكِّنُهَا من ذلك لِأَنَّهَا قد أَقَرَّتْ
أَنَّ لها زَوْجًا فَلَا يُمَكِّنُهَا من التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ فَإِنْ قالت
ما الْخَلَاصُ عن هذا وقد بَقِيَتْ في عُهْدَتِهِ أَبَدَ الدَّهْرِ وَلَيْسَتْ لي
بَيِّنَةٌ وَهَذِهِ تُسَمَّى عُهْدَةَ أبي حَنِيفَةَ فإنه يقول الْقَاضِي
لِلزَّوْجِ طَلِّقْهَا فَإِنْ أَبَى أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عليه فَإِنْ قال
الزَّوْجُ لو طَلَّقْتهَا لَلَزِمَنِي الْمَهْرُ فَلَا أَفْعَلُ ذلك يقول له
الْقَاضِي قُلْ لها إنْ كُنْت امْرَأَتِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَطْلُقُ لو كانت
امْرَأَتَك وَإِنْ لم تَكُنْ فَلَا وَلَا يَلْزَمُك شَيْءٌ لِأَنَّ الْمَهْرَ لَا
يَلْزَمُ بِالشَّكِّ فَإِنْ أَبَى يَجْبُرُهُ على ذلك فإذا فَعَلَ تَخَلَّصَ عن
تِلْكَ الْعُهْدَةِ وَلَوْ كانت الدَّعْوَى على إجَارَةِ الدَّارِ أو عَبْدٍ أو
دَابَّةٍ أو مُعَامَلَةٍ مُزَارِعَةٍ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَحْلِفُ على السَّبَبِ
إلَّا إذَا عَرَّضَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْلِفُ على الْحُكْمِ على كل حَالٍ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
ما كان صَحِيحًا وهو الْإِجَارَةُ يَحْلِفُ وما كان فَاسِدًا وهو الْمُعَامَلَةُ
وَالْمُزَارَعَةُ لَا يَحْلِفُ أَصَلًا لِأَنَّ الْحَلِفَ بِنَاءً على الدَّعْوَى
الصَّحِيحَةِ ولم تَصِحَّ عِنْدَهُ
وَلَوْ كانت الدَّعْوَى في الْقَتْلِ الخطأ بِأَنْ ادَّعَى على رَجُلٍ أَنَّهُ
قَتَلَ أَبَاهُ خَطَأً وَأَنَّهُ وَجَبَتْ الدِّيَةُ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عليه
يَحْلِفُ على السَّبَبِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ بِاَللَّهِ ما قَتَلْت إلَّا إذَا
عَرَّضَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ على الْحُكْمِ بِاَللَّهِ ليس عَلَيْك الدِّيَةُ وَلَا
على عَاقِلَتِك وَإِنَّمَا يَحْلِفُ على هذا الْوَجْهِ لِاخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ
في الدِّيَةِ في فَصْلِهِ الخطأ أنها تَجِبُ على الْعَاقِلَةِ ابْتِدَاءً أو
تَجِبُ على الْقَاتِلِ ثُمَّ تَتَحَمَّلُ عنه الْعَاقِلَةُ فَإِنْ حَلَفَ برىء
وَإِنْ نَكَلَ يقضى عليه بِالدِّيَةِ في مَالِهِ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ أَدَائِهِ فَهُوَ انْقِطَاعُ الْخُصُومَةِ لِلْحَالِ لَا
مُطْلَقًا بَلْ مُوَقَّتًا إلَى غَايَةِ إحْضَارِ الْبَيِّنَةِ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ
وقال بَعْضُهُمْ حُكْمُهُ انْقِطَاعُ الْخُصُومَةِ على الْإِطْلَاقِ حتى ( ( (
وحتى ) ) ) لو أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ بَعْدَ يَمِينِ الْمُدَّعَى عليه
قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا تُقْبَلُ
لِأَنَّهُ لو أَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَا تَبْقَى له وِلَايَةُ الِاسْتِحْلَافِ
فَكَذَا إذَا اسْتَحْلَفَ لَا يَبْقَى له وِلَايَةُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ
وَالْجَامِعُ أَنَّ حَقَّهُ في أَحَدِهِمَا فَلَا يَمْلِكُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ الْأَصْلُ في
الْحُجَّةِ لِأَنَّهَا كَلَامُ الْأَجْنَبِيِّ
فَأَمَّا الْيَمِينُ فَكَالْخَلَفِ عن الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا كَلَامُ الْخَصْمِ
صِيرَ إلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ فإذا جاء الْأَصْلُ انْتَهَى حُكْمُ الْخَلَفِ
فَكَأَنَّهُ لم يُوجَدْ أَصْلًا
وَلَوْ قال الْمُدَّعِي لِلْمُدَّعَى عليه احْلِفْ وَأَنْتَ بَرِيءٌ من هذا
الْحَقِّ الذي ادَّعَيْته أو أنت بَرِيءٌ من هذا الْحَقِّ ثُمَّ أَقَامَ
الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ أنت بَرِيءٌ يَحْتَمِلُ
الْبَرَاءَةَ لِلْحَالِ أَيْ برىء ( ( ( بريء ) ) ) عن دَعْوَاهُ وَخُصُومَتِهِ
لِلْحَالِ وَيَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ عن الْحَقِّ فَلَا يُجْعَلُ إبْرَاءً عن
الْحَقِّ بِالشَّكِّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
____________________
(6/229)
فَصْلٌ
وَأَمَّا حُكْمُ الِامْتِنَاعِ عن تَحْصِيلِهِ فَالْمُدَّعَى عليه إذَا نَكَل عن
الْيَمِينِ فَإِنْ كان ذلك في دَعْوَى الْمَالِ يُقْضَى عليه بِالْمَالِ عِنْدَنَا
لَكِنْ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ له إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك الْيَمِينَ
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِنْ حَلَفْت وَإِلَّا قَضَيْت عَلَيْك لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ
الْمُدَّعَى عليه مِمَّنْ لَا يَرَى الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ أو يَكُونَ عِنْدَهُ
أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَرَى الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ أو لَحِقَهُ حِشْمَةُ الْقُضَاةِ
وَمَهَابَةُ الْمَجْلِسِ في الْمَرَّةِ الْأُولَى فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ أَنْ
يَقُولَ له ذلك فَإِنْ نَكَل عن الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَرْضِ عليه ثَلَاثًا فإن
الْقَاضِيَ يَقْضِي عليه عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَقْضِي بِالنُّكُولِ وَلَكِنْ برد (
( ( يرد ) ) ) الْيَمِينَ إلَى الْمُدَّعِي فَيَحْلِفُ فَيَأْخُذُ حَقَّهُ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِ النبي عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ الْبَيِّنَةُ على الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ على الْمُدَّعَى عليه
جَعَلَ الْبَيِّنَةَ حُجَّةَ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ حُجَّةُ الْمُدَّعَى عليه
ولم يذكر عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ النُّكُولَ فَلَوْ كان حُجَّةَ الْمُدَّعِي
لَذَكَرَهُ وَالْمَعْقُولُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَكَلَ لِكَوْنِهِ كَاذِبًا
في الْإِنْكَارِ فَاحْتُرِزَ عن الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ
نَكَل مع كَوْنِهِ صَادِقًا في الْإِنْكَارِ تَوَرُّعًا عن الْيَمِينِ
الصَّادِقَةِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةَ الْقَضَاءِ مع الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ
لَكِنْ يَرُدُّ الْيَمِينَ إلَى الْمُدَّعِي لِيَحْلِفَ فيقضى له لِأَنَّهُ تَرَجَّحَ
جنبة الصِّدْقُ في دَعْوَاهُ بِيَمِينِهِ وقد وَرَدَ الشَّرْعُ بِرَدِّ الْيَمِينِ
إلَى الْمُدَّعِي فإنه رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه ادَّعَى
على الْمِقْدَادِ مَالًا بين يَدَيْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فَأَنْكَرَ
الْمِقْدَادُ وَتَوَجَّهَتْ عليه الْيَمِينُ فَرَدَّ الْيَمِينَ على سَيِّدِنَا
عُثْمَانَ وَسَيِّدُنَا عُمَر جَوَّزَ ذلك
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ شُرَيْحًا قَضَى على رَجُلٍ بِالنُّكُولِ فقال
الْمُدَّعَى عليه أنا أَحْلِفُ فقال شُرَيْحٌ مَضَى قَضَائِي وكان لَا تَخْفَى
قَضَايَاهُ على أَصْحَابِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ولم يُنْقَل أَنَّهُ
أَنْكَرَ عليه مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا منهم على جَوَازِ الْقَضَاءِ
بِالنُّكُولِ وَلِأَنَّهُ ظَهَرَ صِدْقُ الْمُدَّعِي في دَعْوَاهُ عِنْدَ نُكُولِ
الْمُدَّعَى عليه فيقضى له كما لو أَقَامَ الْبَيِّنَةَ
وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَانِعَ من ظُهُورِ الصِّدْقِ في خَبَرِهِ
إنْكَارُهُ الْمُدَّعَى عليه وقد عَارَضَهُ النُّكُولُ لِأَنَّهُ كان صَادِقًا في
إنْكَارِهِ لَمَّا نَكَل فَزَالَ الْمَانِعُ لِلتَّعَارُضِ فَظَهَرَ صِدْقُهُ في
دَعْوَاهُ
وَقَوْلُهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَكَل تَوَرُّعًا عن الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ
قُلْنَا هذا احْتِمَالٌ نَادِرٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ الصَّادِقَةَ مَشْرُوعَةٌ
فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَرْضَى بِفَوَاتِ حَقِّهِ تَحَرُّزًا عن
مُبَاشَرَةِ أَمْرٍ مَشْرُوعٍ وَمِثْلُ هذا الِاحْتِمَالِ سَاقِطِ الِاعْتِبَارِ
شَرْعًا
أَلَا يُرَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةُ الْقَضَاءِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كانت
مُحْتَمَلَةً في الْجُمْلَةِ لِأَنَّهَا خَبَرُ من ليس بِمَعْصُومٍ عن الْكَذِبِ
لَكِنْ لَمَّا كان الظَّاهِرُ هو الصِّدْقَ سَقَطَ اعْتِبَارُ احْتِمَالِ
الْكَذِبِ
كَذَا هذا
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ الْبَيِّنَةُ حُجَّةُ الْمُدَّعِي وَهَذَا لَا
يَنْفِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا حُجَّةً
وَقَوْلُهُ لو كان حُجَّةً لَذَكَرَهُ
قُلْنَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لم يَذْكُرْهُ لِمَا قُلْتُمْ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لم
يَذْكُرْهُ نَصًّا مع كَوْنِهِ حُجَّةً تَسْلِيطًا لِلْمُجْتَهِدِينَ على
الِاجْتِهَادِ لِيُعْرَفَ كَوْنُهُ حُجَّةً بِالرَّأْيِ وَالِاسْتِنْبَاطِ فَلَا
يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ وَأَمَّا رَدُّ الْيَمِينِ على الْمُدَّعِي
فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لِمَا قُلْنَا من قَبْلُ
وَأَمَّا حَدِيثُ الْمِقْدَادِ فَلَا حُجَّةَ فيه لِأَنَّ فيه ذِكْرَ الرَّدِّ من
غَيْرِ نُكُولِ الْمُدَّعَى عليه وهو خَارِجٌ عن أَقَاوِيلِ الْكُلِّ فَكَانَ
مُؤَوَّلًا عِنْدَ الْكُلِّ ثُمَّ تَأْوِيلُهُ أَنَّ الْمِقْدَادَ رضي اللَّهُ عنه
ادَّعَى الْإِيفَاءَ فَأَنْكَرَ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ رضي اللَّهُ عنه
فَتَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عليه وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ
هذا إذَا نَكَل عن الْيَمِينِ في دَعْوَى الْمَالِ فَإِنْ كان النُّكُولُ في
دَعْوَى الْقِصَاصِ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى في
الْقِصَاصِ في النَّفْسِ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَإِنْ كان
في النَّفْسِ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يُقْضَى فيه لَا بِالْقِصَاصِ وَلَا
بِالْمَالِ لَكِنَّهُ يُحْبَسُ حتى يُقِرَّ أو يَحْلِفَ أَبَدًا وَإِنْ كان
الدَّعْوَى في الْقِصَاصِ في الطَّرَفِ فإنه يقضى بِالْقِصَاصِ في الْعَمْدِ
وَبِالدِّيَةِ في الخطأ وَعِنْدَهُمَا لَا يُقْضَى بِالْقِصَاصِ في النَّفْسِ
وَالطَّرَفِ جميعا وَلَكِنْ يقضى بِالْأَرْشِ وَالدِّيَةِ فِيهِمَا جميعا بِنَاءً
على أَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالطَّرَفُ
يَحْتَمِلُ الْبَذْلَ وَالْإِبَاحَةَ في الْجُمْلَةِ فإن من وَقَعَتْ في يَدِهِ
آكلة وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَأَمْرُ غَيْرِهِ بِقَطْعِهَا يُبَاحُ له
قَطْعُهَا صِيَانَةً لِلنَّفْسِ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الطَّرَفَ يَسْلُكُ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ
خُلِقَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ كَالْمَالِ
فَأَمَّا النَّفْسُ فَلَا تَحْتَمِلُ الْبَذْلَ وَالْإِبَاحَةَ بِحَالٍ وَكَذَا
الْمُبَاحُ له الْقَطْعُ إذَا قَطَعَ لَا ضَمَانَ عليه وَالْمُبَاحُ له الْقَتْلُ
إذَا قَتَلَ يَضْمَنُ فَكَانَ الطَّرَفُ جَارِيًا مَجْرَى الْمَالِ بِخِلَافِ
النَّفْسِ فَأَمْكَنَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ في الطَّرَفِ دُونَ النَّفْسِ
فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَسْتَحْلِف في النَّفْس عِنْده كما لَا يَسْتَحْلِف
في الْأَشْيَاء السَّبْعَة لِأَنَّ الِاسْتِحْلَاف لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْمَقْصُود
المدعى وهو إحْيَاء حَقّه بِالْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ وَلَا يقضى فيها بِالنُّكُولِ
أَصْلًا عِنْده فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحْلِف إلَّا أَنَّهُ
اُسْتُحْسِنَ في الِاسْتِحْلَاف فيها لِأَنَّ
____________________
(6/230)
الشَّرْع
وَرَدَ بِهِ في الْقَسَامَةِ وَجَعَلَهُ حَقًّا مَقْصُودًا في نَفْسِهِ تَعْظِيمًا
لِأَمْرِ الدَّمِ وَتَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ لِكَوْنِ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ
مُهْلِكَةً فَصَارَ بِالنُّكُولِ مَانِعًا حَقًّا مُسْتَحَقًّا عليه مَقْصُودًا
فَيُحْبَسُ حتى يُقِرَّ أو يَحْلِفَ بِخِلَافِ الْأَشْيَاءِ السَّبْعَةِ فإن
الِاسْتِحْلَافَ فيها لِلتَّوَسُّلِ إلَى اسْتِيفَاءِ الْمَقْصُودِ بِالنُّكُولِ
وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى هذا الْمَقْصُودِ وَعِنْدَهُمَا النُّكُولُ
إقْرَارٌ فيه شُبْهَةُ الْعَدَمِ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِطَرِيقِ السُّكُوتِ
وَأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ وَالْقِصَاصُ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وإذا سَقَطَ
الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ يَجِبُ الْمَالُ بِخِلَافِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ مع
الرِّجَالِ وَالشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ أنها لَا تُقْبَلُ في بَابِ
الْقِصَاصِ أَصْلًا لِأَنَّ التَّعَذُّرَ هُنَاكَ من جِهَةِ من له الْقِصَاصُ وهو
عَدَمُ الْإِتْيَانِ بِحُجَّةٍ مُظْهِرَةٍ لِلْحَقِّ وَهِيَ شَهَادَةُ شُهُودٍ
أُصُولٍ مَذْكُورٍ وَالتَّعَذُّرُ هُنَا من جِهَةِ من عليه الْقِصَاصُ وهو عَدَمُ
التَّنْصِيصِ على الْإِقْرَارِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقِصَاصَ إذَا بَطَل من جِهَةِ
من له الْقِصَاصُ لَا تَجِبُ الدِّيَةُ وإذا بَطَل من جِهَةِ من عليه تَجِبُ
الدِّيَةُ
وَأَمَّا في دَعْوَى السَّرِقَةِ إذَا حَلَفَ على الْمَالِ وَنَكَل يُقْضَى
بِالْمَالِ لَا بِالْقَطْعِ لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةٌ في الْأَمْوَالِ دُونَ
الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ
وَأَمَّا في حَدِّ الْقَذْفِ إذَا اسْتَحْلَفَ على ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فنكل ( (
( فكل ) ) ) يَقْضِي بِالْحَدِّ في ظَاهِرِ الْأَقَاوِيلِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ
الْقِصَاصِ في الطَّرَفِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ
التَّعْزِيرِ
وقال بَعْضُهُمْ هو بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْحُدُودِ لَا يُقْضَى فيه بِشَيْءٍ
وَلَا يُحَلَّفُ لِأَنَّهُ حَدٌّ
وَقِيلَ يُحَلَّفُ وَيُقْضَى فيه بِالتَّعْزِيرِ دُونَ الْحَدِّ كما في السَّرِقَةِ
يُحَلَّفُ وَيُقْضَى بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما تَنْدَفِعُ بِهِ الْخُصُومَةُ عن الْمُدَّعَى عليه
وَيَخْرُجُ عن كَوْنِهِ خَصْمًا لِلْمُدَّعِي فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
إنه يَخْرُجُ عن كَوْنه خَصْمًا لِلْمُدَّعِي بِكَوْنِ يَدِهِ غير يَدِ الْمَالِكِ
وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِالْبَيِّنَةِ أو بِالْإِقْرَارِ أو بِعِلْمِ الْقَاضِي نَحْوُ
ما إذَا ادَّعَى على رَجُلٍ دَارًا أو ثَوْبًا أو دَابَّةً فقال الذي في يَدِهِ هو
مِلْكُ فُلَانٍ الْغَائِبِ أو دعنيه
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَدَّعِيَ
عليه مِلْكًا مُطْلَقًا ولم يَدَّعِ عليه فِعْلًا أو يَدَّعِيَ عليه فِعْلًا
فَإِنْ ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا ولم يَدَّعِ عليه فِعْلًا فقال الذي في يَدِهِ
أَوْدَعَنِيهَا فُلَانُ الْغَائِبُ أو رَهَنَهَا أو آجَرَهَا أو أَعَارَهَا أو
غَصَبْتهَا أو سَرَقْتهَا أو أَخَذْتهَا أو انْتَزَعْتهَا أو ضَلَّتْ منه
فَوَجَدْتهَا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ على ذلك تَنْدَفِعُ عنه الْخُصُومَةُ عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال ابن أبي لَيْلَى تَنْدَفِعُ عنه الْخُصُومَةُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أو لم
يُقِمْ
وقال ابن شُبْرُمَةَ لَا تَنْدَفِعُ عنه الْخُصُومَةُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أو لم
يُقِمْ
هذا إذَا لم يَكُنْ الرَّجُلُ مَعْرُوفًا بِالِافْتِعَالِ وَالِاحْتِيَالِ فَإِنْ
كان تَنْدَفِعُ عنه الْخُصُومَةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَيْضًا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا تَنْدَفِعُ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمَعْرُوفَةُ
بِالْمُخَمَّسَةِ وَالْحُجَجُ تُعْرَفُ في الْجَامِعِ
وَكَذَلِكَ لو ادَّعَى لِنَفْسِهِ وَالْفِعْلَ على غَيْرِ ذِي الْيَدِ بِأَنْ قال
هذا مِلْكِي غَصْبه مِنِّي فُلَانٌ لِأَنَّهُ لم يَدَّعِ على ذِي الْيَدِ فِعْلًا
فَصَارَ في حَقِّ ذِي الْيَدِ دَعْوَى مُطْلَقَة فَكَانَ على الْخِلَافِ الذي
ذَكَرنَا
فَأَمَّا إذَا ادَّعَى فِعْلًا على ذِي الْيَدِ بِأَنْ قال هذه دَارِي أو
دَابَّتِي أو ثَوْبِي أَوْدَعْتُكهَا أو غَصَبْتنِيهَا أو سَرَقْتهَا أو
اسْتَأْجَرْتهَا أو ارْتَهَنْتهَا مِنِّي وقال الذي في يَدَيْهِ أنها لِفُلَانٍ
الْغَائِبِ أَوْدَعَنِيهَا أو غَصَبْتهَا منه وَنَحْوَ ذلك وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ
على ذلك لَا تَنْدَفِعُ عنه الْخُصُومَةُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ ذَا الْيَدِ في دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إنَّمَا
يَكُونُ خَصْمًا بيده
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو لم يَكُنْ الْمُدَّعِي في يَدِهِ لم يَكُنْ خَصْمًا فإذا
أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أَنَّ الْيَدَ لِغَيْرِهِ كان الْخَصْمُ ذلك الْغَيْرَ
وهو غَائِبٌ
فَأَمَّا في دَعْوَى الْفِعْلِ فَإِنَّمَا يَكُونُ خَصْمًا بِفِعْلِهِ لَا بيده
أَلَا تَرَى أَنَّ الْخُصُومَةَ مُتَوَجِّهَةٌ عليه بِدُونِ يَدِهِ وإذا كان
خَصْمًا بِفِعْلِهِ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْفِعْلَ منه لم يَكُنْ
فَبَقِيَ خَصْمًا
وَلَوْ ادَّعَى فِعْلًا لم يُسَمِّ فَاعِلَهُ بِأَنْ قال غُصِبَتْ مِنِّي أو
أُخِذَتْ مِنِّي فَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ على الْإِيدَاعِ تَنْدَفِعُ
الْخُصُومَةُ لِأَنَّهُ ادَّعَى الْفِعْلَ على مَجْهُولٍ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ
فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ دَعْوَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ فَتَنْدَفِعُ
الْخُصُومَةُ لِأَنَّهُ ادَّعَى الْفِعْلَ على مَجْهُولٍ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ
فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ دَعْوَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ فَتَنْدَفِعُ
الْخُصُومَةُ وَلَوْ قال سُرِقَ مِنِّي فَالْقِيَاسُ أَنْ تَنْدَفِعَ الْخُصُومَةُ
كما في الْغَصْبِ وَالْأَخْذِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ
وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَنْدَفِعُ فَرْقًا بين الْغَصْبِ وَالْأَخْذِ وهو قَوْلُ
أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَوَجْهُ الْفَرْقِ يُعْرَفُ
في الْجَامِعِ
وَلَوْ قال الْمُدَّعِي هذه الدَّارُ كانت لِفُلَانٍ فَاشْتَرَيْتهَا منه وقال
الذي في يَدِهِ أَوْدَعَنِي فُلَانٌ الذي ادَّعَيْت الشِّرَاءَ من جِهَتِهِ أو
سَرَقْتهَا منه أو غَصَبْتهَا تَنْدَفِعُ عنه الْخُصُومَةُ من غَيْرِ إقَامَةِ
الْبَيِّنَةِ على ذلك لِأَنَّهُ ثَبَتَ كَوْنُ يَدِهِ يَدَ غَيْرِهِ
بِتَصَادُقِهِمَا أَمَّا الْمُدَّعَى عليه فَظَاهِرٌ وَأَمَّا الْمُدَّعِي
فَبِدَعْوَاهُ الشِّرَاءَ منه لِأَنَّ الشِّرَاءَ منه لَا يَصِحُّ بِدُونِ
____________________
(6/231)
الْيَدِ
وَكَذَا لو أَقَامَ الذي في يَدَيْهِ الْبَيِّنَةُ على إقْرَارِ الْمُدَّعِي
بِذَلِكَ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ
عَايَنَا إقْرَارَهُ لَانْدَفَعَتْ الْخُصُومَةُ كَذَا هذا وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ
الْقَاضِي بِذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمُسْتَفَادَ له في زَمَانِ الْقَضَاءِ فَوْقَ
الْإِقْرَارِ لِكَوْنِهِ حُجَّةً مُتَعَدِّيَةً إلَى الناس كَافَّةً بِمَنْزِلَةِ
الْبَيِّنَةِ وَكَوْنِ الْإِقْرَارِ حُجَّةً مُقْتَصِرَةً على الْمُقِرِّ خَاصَّةً
ثُمَّ لَمَّا انْدَفَعَتْ الْخُصُومَةُ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعِي فَبِعِلْمِ
الْقَاضِي أَوْلَى
وَلَوْ قال الذي في يَدَيْهِ ابْتَعْته من فُلَانٍ الْغَائِبِ لَا تَنْدَفِعُ
الْخُصُومَةُ لِأَنَّهُ ادَّعَى الْمِلْكَ وَالْيَدَ لِنَفْسِهِ وَهَذَا مُقِرٌّ
بِكَوْنِهِ خَصْمًا فَكَيْفَ تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ
وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْتَاعَهُ من عبد اللَّهِ وقال
الذي في يَدَيْهِ أَوْدَعَنِيهِ عبد اللَّهِ ذلك تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ من
غَيْرِ بَيِّنَةٍ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا على الْوُصُولِ إلَيْهِ من يَدِ عبد
اللَّهِ فَأَثْبَتَا الْيَدَ له وهو غَائِبٌ وَعَلَى هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ
في الْجَامِعِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ مع تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ
فَالْكَلَامُ فيه يَقَعُ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ حُكْمِ تَعَارُضِ
الدَّعْوَتَيْنِ مع تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ الْقَائِمَتَيْنِ على أَصْلِ
الْمِلْكِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ حُكْمِ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ الْقَائِمَتَيْنِ على
قَدْرِ الْمِلْكِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَصْلُ أَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا في
أَصْلِ الْمِلْكِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ فَإِنْ أَمْكَنَ تَرْجِيحُ إحْدَاهُمَا على
الْأُخْرَى يُعْمَلُ بِالرَّاجِحِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ من حُجَجِ
الشَّرْعِ وَالرَّاجِحُ مُلْحَقٌ بِالْمُتَيَقَّنِ في أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَإِنْ
تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ فَإِنْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا من
كل وَجْهٍ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِمَا من كل وَجْهٍ
وَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا من وَجْهٍ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِمَا لِأَنَّ
الْعَمَلَ بِالدَّلِيلِينَ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَإِنْ تَعَذَّرَ
الْعَمَلُ بِهِمَا أَصْلًا سَقَطَ اعْتِبَارُهُمَا وَالْتَحَقَا بِالْعَدَمِ إذْ
لَا حُجَّةَ مع الْمُعَارَضَةِ كما لَا حُجَّةَ مع المنا ( ( ( المناقضة ) ) )
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في هذا الْفَصْلِ أَنَّ الدَّعْوَى ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ
دَعْوَى الْمِلْكِ وَدَعْوَى الْيَدِ وَدَعْوَى الْحَقِّ وزاد مُحَمَّدٌ مَسَائِلَ
الدَّعْوَى على دَعْوَى الْمِلْكِ وَالْيَدِ وَالنَّسَبِ
أَمَّا دَعْوَى الْمِلْكِ فَلَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ من الْخَارِجِ على ذِي
الْيَدِ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ من الْخَارِجِينَ على ذِي الْيَدِ
وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ من صَاحِبَيْ الْيَدِ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ فَإِنْ كانت
الدَّعْوَى من الْخَارِجِ على ذِي الْيَدِ دَعْوَى الْمِلْكِ وَأَقَامَا
الْبَيِّنَةَ فَلَا تخلو ( ( ( يخلو ) ) ) إمَّا إن قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ على
مِلْكٍ مُطْلَقٍ عن الْوَقْتِ وَإِمَّا إن قَامَتَا على مِلْكٍ مُؤَقَّتٍ
وأما إن قَامَتْ إحْدَاهُمَا على مِلْكٍ مُطْلَقٍ وَالْأُخْرَى على مِلْكٍ
مُؤَقَّتٍ وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا إن كانت بِسَبَبٍ وَإِمَّا إن كانت
بِغَيْرِ سَبَبٍ فَإِنْ قَامَتَا على مِلْكٍ مُطْلَقٍ عن الْوَقْتِ فَبَيِّنَةُ
الْخَارِجِ أَوْلَى عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيِّنَةُ
ذِي الْيَدِ أَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا من حَيْثُ الظَّاهِرُ
وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْيَدِ فَكَانَ الْعَمَلُ بها أَوْلَى
وَلِهَذَا عُمِلَ بِبَيِّنَتِهِ في دَعْوَى النِّكَاحِ
وَلَنَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةُ الْمُدَّعِي لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ الْبَيِّنَةُ على الْمُدَّعِي وَذُو الْيَدِ ليس بِمُدَّعٍ فَلَا
تَكُونُ الْبَيِّنَةُ حَجَّتَهُ وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ ليس بِمُدَّعٍ ما ذَكَرنَا
من تَحْدِيدِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ اسْمٌ لِمَنْ يُخْبِرُ عَمَّا في يَدِ غَيْرِهِ
لِنَفْسِهِ وَالْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ هو الْخَارِجُ لَا ذُو الْيَدِ
لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَمَّا في يَدِ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ فلم يَكُنْ مُدَّعِيًا
فَالْتَحَقَتْ بينته ( ( ( ببينته ) ) ) بِالْعَدَمِ فَبَقِيَتْ بَيِّنَةُ
الْخَارِج بِلَا مُعَارِضٍ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بها وَلِأَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ
أَظْهَرَتْ له سَبْقَ الْمِلْكِ فَكَانَ الْقَضَاءُ بها أَوْلَى كما إذَا
وُقِّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ نَصًّا وَوُقِّتَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ دَلَالَةً
وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أنها أَظْهَرَتْ له سَبْقَ الْيَدِ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا له
بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَلَا تَحِلُّ لهم الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ
إلَّا بِعِلْمِهِمْ بِهِ وَلَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْمِلْكِ إلَّا بَعْدَ
الْعِلْمِ بِدَلِيلِ الْمِلْكِ وَلَا دَلِيلَ على الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ سِوَى
الْيَدِ فإذا شَهِدُوا لِلْخَارِجِ فَقَدْ أَثْبَتُوا كَوْنَ الْمَالِ في يَدِهِ
وَكَوْنُ الْمَالِ في يَدِ ذِي الْيَدِ ظَاهِرًا ثَابِتٌ لِلْحَالِ فَكَانَتْ يَدُ
الْخَارِجِ سَابِقَةً على يَدِهِ فَكَانَ مِلْكُهُ سَابِقًا ضَرُورَةً وإذا ثَبَتَ
سَبْقُ الْمِلْكِ لِلْخَارِجِ يقضى بِبَيِّنَتِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ له
الْمِلْكُ وَالْيَدُ في هذه الْعَيْنِ في زَمَانٍ سَابِقٍ ولم يُعْرَفْ لِثَالِثٍ
فيها يَدٌ وَمِلْكٌ عُلِمَ أنها انْتَقَلَتْ من يَدِهِ إلَيْهِ فَوَجَبَ إعَادَةُ
يَدِهِ وَرَدُّ الْمَالِ إلَيْهِ حتى يُقِيمَ صَاحِبُ الْيَدِ الْآخِرِ الْحُجَّةَ
أَنَّهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ انْتَقَلَ إلَيْهِ كما إذَا عَايَنَ الْقَاضِي كَوْنَ
الْمَالِ في يَدِ إنْسَانٍ وَيَدَّعِيه لِنَفْسِهِ ثُمَّ رَآهُ في يَدِ غَيْرِهِ
فإنه يَأْمُرُهُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ إذَا ادعاه ذلك الرَّجُلُ إلَى أَنْ يُبَيِّنَ
سَبَبًا صَالِحًا لِلِانْتِقَالِ إلَيْهِ
وَكَذَا إذَا أَقَرَّ الْمُدَّعَى عليه أَنَّ هذا الْمَالَ كان في يَدِ
الْمُدَّعِي فإنه يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ إلَى أَنْ يُبَيِّنَ بِالْحُجَّةِ
طَرِيقًا صَالِحًا لِلِانْتِقَالِ إلَيْهِ كَذَلِكَ هذا وَصَارَ كما إذَا أَرَّخَا
نَصًّا وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقُ لِأَنَّ هذا تَارِيخٌ من حَيْثُ
الْمَعْنَى بِخِلَافِ النِّتَاج لِأَنَّ هُنَاكَ لم يَثْبُتْ
____________________
(6/232)
سَبْقُ
الْخَارِجِ لِانْعِدَامِ تَصَوُّرِ السَّبْقِ وَالتَّأْخِيرِ فيه لِأَنَّ
النِّتَاجَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ فَيُطْلَبُ التَّرْجِيحُ من وَجْهٍ
آخَرَ فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ بِالْيَدِ وَهُنَا بِخِلَافِهِ
هذا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ على مِلْكٍ مُطْلَقٍ عن الْوَقْتِ من غَيْرِ
سَبَبِ فَأَمَّا إذَا قَامَتَا على مِلْكٍ مُوَقَّتٍ من غَيْرِ سَبَبٍ فَإِنْ
اسْتَوَى الْوَقْتَانِ يقضى لِلْخَارِجِ لِأَنَّهُ بَطَل اعْتِبَارُ الْوَقْتَيْنِ
لِلتَّعَارُضِ فَبَقِيَ دَعْوَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ
من الْآخَرِ يُقْضَى لِلْأَسْبَقِ وَقْتًا أَيُّهُمَا كان في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رحمهما ( ( ( رحمهم ) ) ) اللَّهُ تَعَالَى
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ رَجَعَ عن هذا الْقَوْلِ عِنْدَ
رُجُوعِهِ من الرِّقَّةِ وقال لَا تُقْبَلُ من صَاحِبِ الْيَدِ بَيِّنَةٌ على
وَقْتٍ وَغَيْرِهِ إلَّا في النِّتَاجِ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
لِأَنَّ بَيِّنَةَ صَاحِبِ الْوَقْتِ الْأَسْبَقِ أَظْهَرَتْ الْمِلْكَ له في
وَقْتٍ لَا يُنَازِعهُ فيه أَحَدٌ فَيَدْفَعُ الْمُدَّعِي إلَى أَنْ يُثْبِتَ
بِالدَّلِيلِ سَبَبًا لِلِانْتِقَالِ عنه إلَى غَيْرِهِ وَإِنْ أَقَامَتْ
إحْدَاهُمَا على مِلْكٍ مُطْلَق وَالْأُخْرَى على مِلْكٍ مُوَقَّتٍ من غَيْرِ
سَبَبٍ لَا عِبْرَةَ لِلْوَقْتِ عِنْدَهُمَا ويقضى لِلْخَارِجِ وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْوَقْتِ أَيُّهُمَا كان وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ مِثْلُهُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ بَيِّنَةَ صَاحِبِ الْوَقْتِ أَظْهَرَتْ
الْمِلْكَ له في وَقْتٍ خَاصٍّ لَا يُعَارِضُهَا فيه بَيِّنَةُ مُدَّعِي الْمِلْكِ
الْمُطْلَقِ بِيَقِينٍ بَلْ تَحْتَمِلُ الْمُعَارَضَةَ وَعَدَمَهَا لِأَنَّ
الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ لَا يَتَعَارَضُ لِلْوَقْتِ فَلَا تَثْبُتُ الْمُعَارَضَةُ
بِالشَّكِّ وَلِهَذَا لو ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ من الْخَارِجَيْنِ على ثَالِثٍ وَأَقَامَ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ من رَجُلٍ وَاحِدٍ
وَوُقِّتَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا وَأُطْلِقَتْ الْأُخْرَى أَنَّهُ يقضى
لِصَاحِبِ الْوَقْتِ
كَذَا هذا
وَلَهُمَا أَنَّ الْمِلْكَ احْتَمَلَ السَّبْقَ وَالتَّأْخِيرَ لِأَنَّ الْمِلْكَ
الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ وَالسَّبْقَ لِجَوَازِ أَنَّ صَاحِبَ
الْبَيِّنَةِ الْمُطْلَقَةِ لو وُقِّتَتْ بَيِّنَتُهُ كان وَقْتُهَا أَسْبَقَ
فَوَقَعَ الِاحْتِمَالُ في سَبْقِ الْمِلْكِ الْمُوَقَّتِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ
الْوَقْتِ فَبَقِيَ دَعْوَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ فَيُقْضَى لِلْخَارِجِ بِخِلَافِ
الْخَارِجَيْنِ إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ من رَجُلٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْبَائِعَ
إذَا كان وَاحِدًا فَقَدْ اتَّفَقَا على تَلَقِّي الْمِلْكِ منه بِبَيْعِهِ
وَأَنَّهُ أَمْرٌ حَادِثٌ وقد ظَهَرَ بِالتَّارِيخِ أَنَّ شِرَاءَ صَاحِبِ
الْوَقْتِ أَسْبَقُ وَلَا تَارِيخَ مع الْآخَرِ وَشِرَاؤُهُ أَمْرٌ حَادِثٌ وَلَا
يُعْلَمُ تَارِيخُهُ فَكَانَ صَاحِبُ التَّارِيخِ أَوْلَى
هذا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ من الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ على مِلْكٍ
مُطْلَقٍ أو مُوَقَّتٍ من غَيْرِ سَبَبِ فَأَمَّا إذَا كان في دَعْوَى ذلك
بِسَبَبٍ فَإِنْ كان السَّبَبُ هو الْإِرْثَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ حتى لو قَامَتْ
الْبَيِّنَتَانِ على مِلْكٍ مُطْلَقٍ بِسَبَبِ الْإِرْث بِأَنْ أَقَامَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ مِلْكُهُ مَاتَ أَبُوهُ وَتَرَكَهُ
مِيرَاثًا له يُقْضَى لِلْخَارِجِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ
اللَّهُ
وَكَذَلِكَ إنْ قَامَتَا على مِلْكٍ مُوَقَّتٍ وَاسْتَوَى الْوَقْتَانِ لِأَنَّهُ
سَقَطَ اعْتِبَارُ الْوَقْتَيْنِ لِلتَّعَارُضِ فَبَقِيَ دَعْوَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ
وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ من الْآخَرِ يُقْضَى لِأَسْبَقِهِمَا وَقْتًا
أَيُّهُمَا كان في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْأَوَّلِ
وفي قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْآخَرِ يُقْضَى لِلْخَارِجِ لِأَنَّ دَعْوَى الْإِرْث
دَعْوَى مِلْكِ الْمَيِّتِ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ من الْبَيِّنَتَيْنِ أَظْهَرَتْ
مِلْكَ الْمَيِّتِ لَكِنْ قام الْوَارِثُ مَقَامَ الْمَيِّتِ في مِلْكِ الْمَيِّتِ
فَكَأَنَّ الْوَارِثَيْنِ ادَّعَيَا مِلْكًا مُطْلَقًا أو موقعا ( ( ( موقتا ) ) )
من غَيْرِ سَبَبٍ وَهُنَاكَ الْجَوَابُ هَكَذَا في الْفُصُولِ كُلِّهَا من
الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ إلَّا في فَصْلٍ وَاحِدٍ وهو ما إذَا قَامَتْ إحْدَى
الْبَيِّنَتَيْنِ على مِلْكٍ مُطْلَقٍ وَالْأُخْرَى على مِلْكٍ مُوَقَّتٍ فإن
هُنَا يُقْضَى لِلْخَارِجِ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا عِبْرَةَ لِلْوَقْتِ كما لَا
عِبْرَةَ له في دَعْوَى الْمُوَرِّثِينَ
وَهَذَا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَطَّرِدُ على أَصْلِ أبي يُوسُفَ
فَيُشْكَلُ وَإِنْ كان السَّبَبُ هو الشِّرَاءَ بِأَنْ ادَّعَى الْخَارِجُ أَنَّهُ
اشْتَرَى هذه الدَّارَ من صَاحِبِ الْيَدِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ
وَادَّعَى صَاحِبُ الْيَدِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا من الْخَارِجِ وَنَقَدَهُ
الثَّمَنَ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ على ذلك فَإِنْ
أَقَامَا الْبَيِّنَةَ على الشِّرَاءِ من غَيْرِ وَقْتٍ وَلَا قَبْضٍ لَا تُقْبَلُ
الْبَيِّنَتَانِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَلَا يَجِبُ لِوَاحِدٍ
مِنْهُمَا على صَاحِبِهِ شَيْءٌ وَيَتْرُكُ الْمُدَّعِي في يَدِ ذِي الْيَدِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْضَى بِالْبَيِّنَتَيْنِ وَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ
الْمُدَّعِي إلَى الْخَارِجِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّوْفِيقَ بين الدَّلِيلَيْنِ وَاجِبٌ بِقَدْرِ
الْإِمْكَانِ وَأَمْكَنَ التَّوْفِيقُ هُنَا بين الْبَيِّنَتَيْنِ بِتَصْحِيحِ
الْعَقْدَيْنِ بِأَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ اشْتَرَاهُ أَوَّلًا من
الْخَارِجِ وَقَبَضَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْخَارِجُ من صَاحِبِ الْيَدِ ولم
يَقْبِضْهُ حتى بَاعَهُ من صَاحِبِ الْيَدِ فَيُوجَدُ الْعَقْدَانِ على الصِّحَّةِ
لَكِنْ بِتَقْدِيرِ تَارِيخٍ وَقَبْضٍ وفي هذا التَّقْدِيرِ تَصْحِيحُ
الْعَقْدَيْنِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِالْعَكْسِ من
ذلك بِأَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّ الْخَارِجَ اشْتَرَى أَوَّلًا من صَاحِبِ الْيَدِ ولم
يَقْبِضْهُ حتى بَاعَهُ من صَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ
____________________
(6/233)
في
هذا التَّقْدِيرِ إفْسَادَ الْعَقْدِ الْأَخِيرِ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْعَقَارِ
الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُ فَتَعَيَّنَ
تَصْحِيحُ الْعَقْدَيْنِ بِالتَّقْدِيرِ الذي قُلْنَا وإذا صَحَّ الْعَقْدَانِ
يَبْقَى المشتري في يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ فَيُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى
الْخَارِجِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَأَبِي حَنِيفَةَ إن كُلَّ مشتري ( ( ( مشتر ) ) )
يَكُونُ مُقِرًّا بِكَوْنِ الْبَيْعِ مِلْكًا لِلْبَائِعِ فَكَانَ دَعْوَى
الشِّرَاءِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إقْرَارًا بِمِلْكِ الْمَبِيعِ لِصَاحِبِهِ
فكأن الْبَيِّنَتَانِ قَائِمَتَيْنِ على إقْرَارِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
بِالْمِلْكِ لِصَاحِبِهِ وَبَيْنَ مُوجِبِي الْإِقْرَارَيْنِ تَنَافٍ فَتَعَذَّرَ
الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ أَصْلًا وَإِنْ وقت ( ( ( وقتت ) ) )
الْبَيِّنَتَانِ وَوَقْتُ الْخَارِجِ أَسْبَقُ فإذا لم يَذْكُرُوا قَبْضًا يقضى
بِالدَّارِ لِصَاحِبِ الْيَدِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْضَى لِلْخَارِجِ
لِأَنَّ وَقْتَ الْخَارِجِ إذَا كان أَسْبَقَ جُعِلَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى الدَّارَ
أَوَّلًا ولم يَقْبِضْهَا حتى بَاعَهَا من صَاحِبِ الْيَدِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْضَى لِلْخَارِجِ لِأَنَّ وَقْتَ
الْخَارِجِ إذَا كان أَسْبَقَ جُعِلَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى الدَّارَ أَوَّلًا ولم
يَقْبِضْهَا حتى بَاعَهَا من صَاحِبِ الْيَدِ وَبَيْعُ الْعَقَارِ قبل الْقَبْضِ
لَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وإذا لم يَجُزْ بَقِيَ على مِلْكِ الْخَارِجِ وَعِنْدَهُمَا
ذلك جَائِزٌ فَصَحَّ الْبَيْعَانِ
وَلَوْ ذَكَرُوا الْقَبْضَ جَازَ الْبَيْعَانِ وَيُقْضَى بِالدَّارِ لِصَاحِبِ
الْيَدِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ بَيْعَ الْعَقَارِ بَعْدَ الْقَبْضِ جَائِزٌ بِلَا
خِلَافٍ فَيَجُوزُ الْبَيْعَانِ
وَأَمَّا إذَا كان وَقْتُ صَاحِبِ الْيَدِ أَسْبَقَ ولم يَذْكُرُوا قَبْضًا
يُقْضَى بها لِلْخَارِجِ لِأَنَّهُ إذَا كان وَقْتُهُ أَسْبَقَ يُجْعَلُ سَابِقًا
في الشِّرَاءِ كَأَنَّهُ اشْتَرَى من الْخَارِجِ وَقَبَضَ ثُمَّ اشْتَرَى منه
الْخَارِجُ ولم يَقْبِضْ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ
وَكَذَلِكَ إنْ ذَكَرُوا قَبْضًا لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ كَأَنَّهُ اشْتَرَى من
صَاحِبِ الْيَدِ أَوَّلًا وَقَبَضَ ثُمَّ اشْتَرَى الْخَارِجُ منه وَقَبَضَ ثُمَّ
عَادَتْ إلَى يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ بِوَجْهٍ آخَرَ وَإِنْ كان السَّبَبُ هو
النِّتَاجَ وهو الْوِلَادَةُ في الْمِلْكِ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا إن قَامَتْ
الْبَيِّنَتَانِ على النِّتَاجِ وإما إن قامت إحداهما على النتاج والأخرى على
الملك المطلق فإن قامت البينتان على النتاج فلا يخلو إما إن كانت البينتان
مُطْلَقَتَيْنِ عن الْوَقْتِ وَإِمَّا إن وَقَّتَا وَقْتًا فَإِنْ لم يُوَقِّتَا
وَقْتًا يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْقَائِمَةَ على
النِّتَاجِ قَائِمَةٌ على أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ وقد اسْتَوَتْ الْبَيِّنَتَانِ
في إظْهَارِ الْأَوَّلِيَّةِ فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ بِالْيَدِ
فَيُقْضَى بِبَيِّنَتِهِ
وقد رُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى بين يَدَيْ رسول
اللَّهِ نِتَاجَ نَاقَةٍ في يَدِ رَجُلٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عليه وَأَقَامَ
ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ على مِثْلِ ذلك فَقَضَى رسول اللَّهِ بِالنَّاقَةِ
لِصَاحِبِ الْيَدِ وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا
وقال عِيسَى بن أَبَانَ من أَصْحَابِنَا أنه لَا يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ بَلْ
تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ وَيُتْرَك الْمُدَّعَى في يَدِ صَاحِبِ الْيَد
قَضَاءَ تَرْكٍ وَهَذَا خِلَافِ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا فإنه نَصَّ على لَفْظَة
الْقَضَاءِ وَالتَّرْكِ في يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ لَا يَكُونُ قَضَاءً حَقِيقَةً
وَكَذَا في الحديث الذي رَوَيْنَاهُ عن النبي أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ لِصَاحِبِ
الْيَدِ
وَكَذَلِكَ في دَعْوَى النِّتَاجِ من الْخَارِجَيْنِ على ثَالِثٍ يُقْضَى بَيْنَهُمَا
نِصْفَيْنِ وَلَا يُتْرَكُ في يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ دَلَّ أَنَّ ما ذَكَره خِلَافُ
مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا
وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ على النِّتَاجِ وَالْآخَرُ على الْمِلْكِ
الْمُطْلَقِ عن النِّتَاجِ فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى لِمَا قُلْنَا أنها
قَامَتْ على أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ لِصَاحِبِهِ فَلَا تَثْبُتُ لِغَيْرِهِ إلَّا
بِالتَّلَقِّي منه
وَأَمَّا إنْ وُقِّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ فَإِنْ اتَّفَقَ الْوَقْتَانِ فَكَذَلِكَ
السُّقُوطُ اعْتِبَارُهُمَا لِلتَّعَارُضِ فَبَقِيَ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ
وَإِنْ اخْتَلَفَا بِحُكْمِ سِنِّ الدَّابَّةِ فَتُقْضَى لِصَاحِبِ الْوَقْتِ الذي
وَافَقَهُ السِّنُّ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ الْأُخْرَى كَاذِبَةٌ
بِيَقِينٍ هذا إذَا عُلِمَ سِنُّهَا فَأَمَّا إذَا أُشْكِل سَقَطَ اعْتِبَارُ
التَّارِيخِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سِنُّهَا مُوَافِقًا لِهَذَا
الْوَقْتِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِذَلِكَ الْوَقْتِ وَيُحْتَمَلُ
أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لَهُمَا جميعا فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُمَا كَأَنَّهُمَا
سَكَتَا عن التَّارِيخِ أَصْلًا وَإِنْ خَالَفَ سِنُّهَا الْوَقْتَيْنِ جميعا
سَقَطَ الْوَقْتُ
كَذَا ذَكَره في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ بُطْلَانُ التَّوْقِيتِ
فَكَأَنَّهُمَا لم يُوَقِّتَا فَبَقِيَتْ الْبَيِّنَتَانِ قَائِمَتَيْنِ على
مُطْلَقِ الْمِلْكِ من غَيْرِ تَوْقِيتٍ وَذَكَر الْحَاكِمُ في مُخْتَصَرِهِ أَنَّ
في رِوَايَةِ أبي اللَّيْثِ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ
قال وهو الصَّحِيحُ
وَوَجْهُهُ أَنَّ سِنَّ الدَّابَّةِ إذَا خَالَفَ الْوَقْتَيْنِ فَقَدْ
تَيَقَّنَّا بِكَذِبِ الْبَيِّنَتَيْنِ فَالْتَحَقَتَا بِالْعَدَمِ فَيُتْرَكُ
المدعى في يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ كما كان
وَالْجَوَابُ أَنَّ مُخَالَفَةَ السِّنِّ الْوَقْتَيْنِ يُوجِبُ كَذِبَ
الْوَقْتَيْنِ لَا كَذِبَ الْبَيِّنَتَيْنِ أَصْلًا وَرَأْسًا وَكَذَلِكَ لو
اخْتَلَفَا في جَارِيَةٍ فقال الْخَارِجُ إنَّهَا وُلِدَتْ في مِلْكِي من أَمَتِي
هذه وقال صَاحِبُ الْيَدِ كَذَلِكَ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ لو اخْتَلَفَا في الصُّوفِ والمرعزي وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
بينة ( ( ( البينة ) ) ) أَنَّهُ له جَزُّهُ في مِلْكِهِ يُقْضَى لِصَاحِبِ
الْيَدِ
وَكَذَلِكَ لو اخْتَلَفَا في الْغَزْلِ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ له غَزْلُهُ
____________________
(6/234)
من
قُطْنٍ هو له يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُنَازَعَةَ إذَا وَقَعَتْ في سَبَبِ مِلْكٍ لَا يَحْتَمِلُ
التَّكْرَارَ كان بِمَنْزِلَةِ النِّتَاجِ فَيُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ فإذا
وَقَعَتْ في سَبَبِ مِلْكٍ يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ لَا يَكُونُ في مَعْنَى
النِّتَاجِ وَيُقْضَى لِلْخَارِجِ وَإِنْ أُشْكِلَ الْأَمْرُ في الْمِلْكِ أَنَّهُ
يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ أو لَا يُقْضَى لِلْخَارِجِ أَيْضًا
فَعَلَى هذا إذَا اخْتَلَفَا في اللَّبَنِ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ له حُلِبَ في يَدِهِ وفي مِلْكِهِ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ
لِأَنَّ اللَّبَنَ الْوَاحِدَ لَا يَحْتَمِلُ الْحَلْبَ مَرَّتَيْنِ فَكَانَ في
مَعْنَى النِّتَاجِ
وَكَذَلِكَ لو ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الشَّاةَ التي حَلَبَ منها
اللَّبَنَ نَتَجَتْ عِنْدَهُ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ بِالشَّاةِ وَاللَّبَنِ
جميعا وَكَذَلِكَ لو اخْتَلَفَا في جُبْنٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ له صَنْعُهُ في مِلْكِهِ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ
اللَّبَنَ الْوَاحِدَ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَصْنَعَ جُبْنًا مَرَّتَيْنِ فَكَانَ
بِمَنْزِلَةِ النِّتَاجِ
وَلَوْ اخْتَلَفَا في الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَنَّهُ أَرْضُهُ غَرَسَ النَّخْلَ فيها يُقْضَى بها لِلْخَارِجِ لِأَنَّ هذا ليس
في مَعْنَى النِّتَاجِ لِأَنَّ النِّتَاجَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْوَلَدِ وَالْغَرْسُ
ليس بِسَبَبٍ الملك ( ( ( لملك ) ) ) الْأَرْضِ
وَكَذَا الْغَرْسُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ فلم يَكُنْ في مَعْنَى
النِّتَاجِ
وَكَذَلِكَ لو اخْتَلَفَا في الْحُبُوبِ النَّابِتَةِ وَالْقُطْنِ النابت ( ( (
الثابت ) ) ) ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ له زَرْعُهُ في أَرْضِهِ
فإنه يُقْضَى بِالْأَرْضِ وَالْحَبِّ وَالْقُطْنِ لِلْخَارِجِ وَكَذَلِكَ لو
اخْتَلَفَا في الْبِنَاءِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ بنى على
أَرْضِهِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ اخْتَلَفَا في حُلِيٍّ مَصُوغٍ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ
صَاغَهُ في مِلْكِهِ يُقْضَى لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الصِّيَاغَةَ تَحْتَمِلُ
التَّكْرَارَ فلم تَكُنْ في مَعْنَى النِّتَاجِ
وَلَوْ اخْتَلَفَا في ثَوْبِ خَزٍّ أو شَعْرٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ له نَسَجَهُ في مِلْكِهِ فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ ذلك لَا
يُنْسَجُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّهُ
بِمَنْزِلَةِ النِّتَاجِ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ يُنْسَجُ مَرَّتَيْنِ يُقْضَى
لِلْخَارِجِ وَكَذَا إنْ كان مُشْكِلًا
وَكَذَلِكَ لو اخْتَلَفَا في سَيْفٍ مَطْبُوعٍ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَنَّهُ طُبِعَ في مِلْكِهِ يَرْجِعُ في هذا إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ
وَلَوْ اخْتَلَفَا في جَارِيَةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ
أَنَّ أُمَّهَا أَمَتُهُ وَأَنَّهَا وَلَدَتْ هذه في مِلْكِهِ يُقْضَى
بِالْجَارِيَةِ وَبِأُمِّهَا لِلْخَارِجِ لِأَنَّ هذا ليس دَعْوَى النِّتَاجِ
بَلْ هو دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وهو مِلْكُ الْأُمِّ وَالْبَيِّنَةُ
بَيِّنَةُ الْخَارِجِ في الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَيُقْضَى بِالْأُمِّ لِلْخَارِجِ
ثُمَّ يُمْلَكُ الْوَلَدُ بِمِلْكِ الْأُمِّ وَكَذَلِكَ لو اخْتَلَفَا في الشَّاةِ
مع الصُّوفِ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ هذه الشَّاةَ
مَمْلُوكَةٌ له وَأَنَّ هذا صُوفُ هذه الشَّاةِ يُقْضَى بِالشَّاةِ وَالصُّوفِ
لِلْخَارِجِ لَمَا قُلْنَا
شَاتَانِ إحْدَاهُمَا بَيْضَاءُ وَالْأُخْرَى سَوْدَاءُ وَهُمَا في يَدِ رَجُلٍ
فَأَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ على أَنَّ الشَّاةَ الْبَيْضَاءَ شَاتُه
وَلَدَتْهَا السَّوْدَاءُ في مِلْكِهِ وَأَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ على
أَنَّ السَّوْدَاءَ شَاتُه وَلَدَتْهَا الْبَيْضَاءُ في مِلْكِهِ يُقْضَى لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالشَّاةِ التي شَهِدَتْ شُهُودُهُ إنها وُلِدَتْ في مِلْكِهِ فَيُقْضَى
لِلْخَارِجِ بِالْبَيْضَاءِ وَلِصَاحِبِ الْيَدِ بِالسَّوْدَاءِ لِأَنَّ بَيِّنَةَ
الْخَارِجِ قَامَتْ على النِّتَاجِ في الْبَيْضَاءِ وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ
قَامَتْ فيها على مِلْكٍ مُطْلَقٍ فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى
كَذَا بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ قَامَتْ على النِّتَاجِ في السَّوْدَاءِ وَبَيِّنَةُ
الْخَارِجِ فيها قَامَتْ على مِلْكٍ مُطْلَقٍ فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى
وَلَوْ اخْتَلَفَا في اللَّبَنِ الذي صُنِعَ منه الْجُبْنُ فَأَقَامَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ اللَّبَنَ الذي صُنِعَ منه الْجُبْنُ في
مِلْكِهِ فَيُقْضَى لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْقَائِمَةَ على مِلْكِ
اللَّبَنِ قَائِمَةٌ على مِلْكٍ مُطْلَقٍ لَا على أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ
فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى من دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ
وَلَوْ ادَّعَى عَبْدًا في يَدِ إنْسَانٍ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ من فُلَانٍ وإنه
وُلِدَ في مِلْكِ الذي اشْتَرَاهُ منه وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ
اشْتَرَاهُ من رَجُلٍ آخَرَ وَأَنَّهُ وُلِدَ في مِلْكِهِ يُقْضَى لِصَاحِبِ
الْيَدِ لِأَنَّ دَعْوَى الْوِلَادَةِ في مِلْكِ بَائِعِهِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى
الْوِلَادَةِ في مِلْكِهِ لِأَنَّهُ تَلَقَّى الْمِلْكَ من جِهَتِهِ وَهُنَاكَ
يُقْضَى له
كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ لو ادَّعَى مِيرَاثًا أو هِبَةً أو صَدَقَةً أو وَصِيَّةً وإنه وُلِدَ
في مِلْكِ الْمُوَرِّثِ وَالْوَاهِبِ وَالْمُوصِي فإنه يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ
لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ ادَّعَى الْخَارِجُ مع ذِي الْيَدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّتَاجَ
فَقَضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ ثُمَّ جاء رَجُلٌ وَادَّعَى النِّتَاجَ وَأَقَامَ
الْبَيِّنَةَ عليه يُقْضَى له إلَّا أَنْ يُعِيدَ صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ
على النِّتَاجِ فَيَكُونُ هو أَوْلَى لِأَنَّ الْقَضَاءَ على الْمُدَّعِي
الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ قَضَاءً على الْمُدَّعِي الثَّانِي فلم يَكُنْ الثَّانِي
مَقْضِيًّا عليه فَتُسْمَعُ الْبَيِّنَةَ منه
فَرَّقَ بين الْمِلْكِ وَبَيْنَ الْعِتْقِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعِتْقِ على
شَخْصٍ وَاحِدٍ يَكُونُ قَضَاءً على الناس كَافَّةً وَالْقَضَاءُ بِالْمِلْكِ على
شَخْصٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ قَضَاءً على غَيْرِهِ وَإِنْ كانت بَيِّنَةُ
النِّتَاجِ تُوجِبُ الْمِلْكَ بِصِفَةِ الْأَوَّلِيَّةِ وإنه لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ
كَالْعِتْقِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّ
الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ على إبْطَالِهِ حتى لَا يَجُوزَ اسْتِرْقَاقُ الْحُرِّ
بِرِضَاهُ
وَلَوْ كان
____________________
(6/235)
حَقُّ
الْعَبْدِ لَقَدَرَ على إبْطَالِهِ كَالرِّقِّ وإذا كان حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى
فَالنَّاسُ في إثْبَاتِ حُقُوقِهِ خُصُومٌ عنه بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ
لِكَوْنِهِمْ عَبِيدَهُ فَكَانَ حَضْرَةُ الْوَاحِدِ كَحَضْرَةِ الْكُلِّ
وَالْقَضَاءُ على الْوَاحِد قَضَاءٌ على الْكُلِّ لِاسْتِوَائِهِمْ في
الْعُبُودِيَّةِ كَالْوَرَثَةِ لَمَّا قَامُوا مَقَامَ الْمَيِّتِ في إثْبَاتِ
حُقُوقِهِ وَالدَّفْعِ عنه لِكَوْنِهِمْ خُلَفَاءَهُ فَقَامَ الْوَاحِدُ منهم
مَقَامَ الْكُلِّ لِاسْتِوَائِهِمْ في الْخِلَافَةِ بِخِلَافِ الْمِلْكِ فإنه
خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ فَالْحَاضِرُ فيه لَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عن الْغَائِبِ
إلَّا بِالْإِنَابَةِ حَقِيقَةً أو بِثُبُوتِ النِّيَابَةِ عنه شَرْعًا
وَاتِّصَالٍ بين الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ فِيمَا وَقَعَ فيه الدَّعْوَى على ما
عُرِفَ ولم يُوجَدْ شَيْءٌ من ذلك فَالْقَضَاءُ على غَيْرِهِ يَكُونُ قَضَاءً على
الْغَائِبِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عنه خَصْمٌ حَاضِرٌ
وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّ هذه الْحِنْطَةَ من زَرْعٍ حُصِدَ من أَرْضِ هذا
الرَّجُلِ لم يَكُنْ لِصَاحِبِ الْأَرْض أَنْ يَأْخُذَهَا لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ
أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ لِغَيْرِهِ وَمِلْكُ الزَّرْعِ يَتْبَعُ ملك البذر لا
مِلْكَ الْبَذْرِ لَا مِلْكَ الْأَرْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَرْضَ
الْمَغْصُوبَةَ إذَا زَرَعَهَا الْغَاصِبُ من بَذْر نَفْسِهِ كانت الْحِنْطَةُ له
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ هذه الْحِنْطَةَ من زَرْعِ هذا أو هذا التَّمْرُ من نَخْلِ
هذا يُقْضَى له لِأَنَّ مِلْكَ الْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ يَتْبَعُ مِلْكَ الزَّرْعِ
وَالنَّخْلِ
وَلَوْ قالوا هذه الْحِنْطَةُ من زَرْعٍ كان من أَرْضِهِ لم يَقْضِ له لِأَنَّهُمْ
لو شَهِدُوا أَنَّهُ حُصِدَ من أَرْضِهِ لم يَقْضِ له فَهَذَا أَوْلَى
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ هذا اللَّبَنَ وَهَذَا الصُّوفَ حِلَابُ شَاتِه وَصُوفُ
شَاتِه لم يَقْضِ له لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الشَّاةُ له وَحِلَابُهَا وَصُوفُهَا
لِغَيْرِهِ بِأَنْ أَوْصَى بِذَلِكَ لِغَيْرِهِ هذا الذي ذَكَرنَا كُلّه في دَعْوَى
الْخَارِجِ الْمِلْكَ فَأَمَّا دَعْوَى الْخَارِجَيْنِ على ذِي الْيَدِ الْمِلْكَ
فَنَقُولُ لَا تَخْلُو في الْأَصْلِ من أَحَدِ وَجْهَيْنِ أما أَنْ يَدَّعِيَ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ ما يَدَّعِي الْآخَرُ وأما أَنْ يَدَّعِيَ
أَكْثَرَ مِمَّا يَدَّعِي الْآخَرُ فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ
ما يَدَّعِي الْآخَرُ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرنَا أَيْضًا وهو أَنَّ
الْبَيِّنَتَيْنِ أما إن قَامَتَا على مِلْكٍ مُطْلَقٍ عن الْوَقْتِ وأما إن
قَامَتَا على مِلْكٍ مُوَقَّتٍ وأما إن قَامَتْ إحْدَاهُمَا على مِلْكٍ مُطْلَقٍ
وَالْأُخْرَى على مِلْكٍ مُوَقَّتٍ وَكُلُّ ذلك بِسَبَبٍ أو بِغَيْرِ سَبَبٍ
فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ على مِلْكٍ مُطْلَقٍ من غَيْرِ سَبَبٍ فإنه
يُقْضَى بِالْمُدَّعَى بَيْنَهُمَا نصفان ( ( ( نصفين ) ) ) عِنْدَ أَصْحَابِنَا
وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَانِ في قَوْلٍ تَتَهَاتَرُ
الْبَيِّنَتَانِ وَيُتْرَكُ الْمُدَّعَى في يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ وفي قَوْلٍ
يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَيُقْضَى لِمَنْ خَرَجَتْ له الْقُرْعَةُ مِنْهُمَا
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَيِّنَتَيْنِ
مُتَعَذِّرٌ لِتَنَافٍ بين مُوجِبِهِمَا لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الْعَيْنِ
الْوَاحِدَةِ مَمْلُوكَةً لِاثْنَيْنِ على الْكَمَالِ في زَمَانٍ وَاحِدٍ
فَيَبْطُلَانِ جميعا إذْ ليس الْعَمَلُ بِإِحْدَاهُمَا أَوْلَى من الْعَمَلِ
بِالْأُخْرَى لِاسْتِوَائِهِمَا في الْقُوَّةِ أو تُرَجَّحُ إحْدَاهُمَا
بِالْقُرْعَةِ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِالْقُرْعَةِ في الْجُمْلَةِ
وَلَنَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ دَلِيلٌ من أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَالْعَمَلُ
بِالدَّلِيلَيْنِ وَاجِبٌ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فَإِنْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ
بِهِمَا من كل وَجْهٍ يُعْمَلُ بِهِمَا من كل وَجْهٍ وَإِنْ لم يُمْكِنْ الْعَمَلُ
بِهِمَا من كل وَجْهٍ يُعْمَلُ بِهِمَا من وَجْهٍ كما في سَائِرِ دَلَائِلِ
الشَّرْعِ من ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ وَأَخْبَارُ
الْآحَادِ وَالْأَقْيِسَةِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا تَعَارَضَتْ وَهُنَا إنْ تَعَذَّرَ
الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِإِظْهَارِ الْمِلْكِ في كل الْمَحِلِّ أَمْكَنَ
الْعَمَلُ بِهِمَا بِإِظْهَارِ الْمِلْكِ في النِّصْفِ فَيُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ
وَلَوْ قَامَتَا على مِلْكٍ مُوَقَّتٍ من غَيْرِ سَبَبٍ فَإِنْ اسْتَوَى
الْوَقْتَانِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِأَنَّهُ إذَا لم يَثْبُتْ سَبْقُ
أَحَدِهِمَا بِحُكْمٍ التَّعَارُضِ سَقَطَ التَّارِيخُ وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ
فَبَقِيَ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَإِنْ كان وَقْتُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقَ
من الْآخَرِ فَالْأَسْبَقُ أَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يَجِيءُ هُنَا خِلَافُ
مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ من الْخَارِجِ مَسْمُوعَةٌ بِلَا
خِلَافٍ وَالْبَيِّنَتَانِ قَامَتَا من الْخَارِجَيْنِ فَكَانَتَا مَسْمُوعَتَيْنِ
ثُمَّ تَرَجَّحَ إحْدَاهُمَا بِالتَّارِيخِ لِأَنَّهَا أَثْبَتَتْ الْمِلْكَ في
وَقْتٍ لَا تُعَارِضُهَا فيه الْأُخْرَى فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ إلَى أَنْ
يَقُومَ الدَّلِيلُ على أَنَّهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ انْتَقَلَ إلَيْهِ الْمِلْكُ
وَإِنْ أُرِّخَتْ إحْدَاهُمَا وَأُطْلِقَتْ الْأُخْرَى من غَيْرِ سَبَبٍ يُقْضَى
بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَلَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْوَقْتِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْضَى
لِصَاحِبِ الْإِطْلَاقِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَيِّنَةَ الْقَائِمَةَ على الْمِلْكِ
الْمُطْلَقِ أَقْوَى لِأَنَّ الْمِلْك الْمُطْلَقَ مِلْكِهِ من الْأَصْلِ حُكْمًا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَظْهَرُ في الزَّوَائِدِ وَتُسْتَحَقّ بِهِ الْأَوْلَادُ
وَالْأَكْسَابُ
وَهَذَا حُكْمُ ظُهُورِ الْمِلْكِ من الْأَصْلِ وَلَا يُسْتَحَقّ ذلك بِالْمِلْكِ
الْمُوَقَّتِ فَكَانَتْ الْبَيِّنَةُ الْقَائِمَةُ عليه أَقْوَى فَكَانَ
الْقَضَاءُ بها أَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ما ذَكَرنَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ
الْمُؤَرَّخَةَ تُظْهِرُ الْمِلْكَ في زَمَانٍ لَا تُعَارِضُهَا فيه الْبَيِّنَةُ
الْمُطْلَقَةُ عن التَّارِيخِ
____________________
(6/236)
بِيَقِينٍ
بَلْ تَحْتَمِلُ الْمُعَارِضَةَ وَعَدَمَهَا فَلَا تَثْبُتُ الْمُعَارِضَةُ
بِالشَّكِّ فَتَثْبُتُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ التَّارِيخِ بِلَا مُعَارِضٍ فَكَانَ
صَاحِبُ التَّارِيخِ أَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ما مَرَّ أَيْضًا أَنَّ الْمِلْكَ
الْمُوَقَّتَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ
مُتَأَخِّرًا لِاحْتِمَالِ أَنَّ صَاحِبَ الْإِطْلَاقِ لو أَرَّخَ لَكَانَ
تَارِيخُهُ أَقْدَمَ يَثْبُتُ السَّبْقُ مع الِاحْتِمَالِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ
التَّارِيخِ فَبَقِيَ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ
هذا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ من الْخَارِجَيْنِ على ذِي الْيَدِ على
الْمِلْكِ من غَيْرِ سَبَبٍ فَإِنْ كان ذلك بِسَبَبٍ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا
إن ادَّعَيَا الْمِلْكَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ من الْإِرْثِ أو الشِّرَاءِ أو
النِّتَاجِ وَنَحْوِهَا وَإِمَّا إن ادَّعَيَاهُ بِسَبَبَيْنِ فَإِنْ ادَّعَيَا
الْمِلْكَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَإِنْ كان السَّبَبُ هو الْإِرْثَ فَإِنْ لم
تُوَقَّتْ الْبَيِّنَتَانِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ
الْمِلْكَ الْمَوْرُوثَ هو مِلْكُ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنَّمَا
الْوَارِثُ يَخْلُفُهُ وَيَقُومُ مَقَامَهُ في مِلْكِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُجَهَّزُ من التَّرِكَةِ وَيُقْضَى منها دُيُونُهُ وَيُرَدُّ
الْوَارِثُ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ عليه فكأن الْمُوَرِّثَيْنِ حَضَرَا وَادَّعَيَا
مِلْكًا مُطْلَقًا عن الْوَقْتِ
وَإِنْ وَقَّتَا وَقْتًا فَإِنْ كان وَقْتُهُمَا وَاحِدًا فَكَذَلِكَ لِمَا مَرَّ
وَإِنْ كان أَحَدُ الْوَقْتَيْنِ أَسْبَقَ يُقْضَى لِمَنْ هو أَسْبَقُ وَقْتًا
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ
عِنْدَهُ في الْمِيرَاثِ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْمَوْرُوثَ مِلْكُ الْمَيِّتِ
وَالْوَارِثُ قام مَقَامَهُ فلم يَكُنْ الْمَوْتُ تَارِيخًا لَمِلْكِ الْوَارِثِ
فَسَقَطَ التَّارِيخُ لِمِلْكِهِ وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ دَعْوَى
الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ عن التَّارِيخِ فَيَسْتَوِيَانِ فيه
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمَا إنْ لم يُؤَرِّخَا مِلْكَ الْمَيِّتَيْنِ فَكَذَلِكَ
فَأَمَّا إذَا أَرَّخَا مِلْكَ الْمَيِّتَيْنِ فَيُقْضَى لِأَسْبَقِهِمَا
تَارِيخًا ذَكَره في نَوَادِرِ هِشَامٍ وأبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ يَقُولَانِ بَلْ الْوَارِثُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يُظْهِرُ الْمِلْكَ
لِلْمُوَرِّثِ لَا لِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ حَضَرَ الْمُوَرِّثَانِ
وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً مُؤَرَّخَةً وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا
أَسْبَقُ وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَقُضِيَ لِأَسْبَقِهِمَا وَقْتًا لِإِثْبَاتِهِ
الْمِلْك في وَقْتٍ لَا تُعَارِضُهُ فيه بَيِّنَةُ الْآخَرِ كَذَا هذا
وَلَوْ وُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا ولم تُوَقَّتْ الْأُخْرَى يُقْضَى بَيْنَهُمَا نصفان
( ( ( نصفين ) ) ) بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فإن التَّارِيخَ في
بَابِ الْمِيرَاث سَاقِطٌ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَصِيرُ
كَأَنَّ الْمُوَرِّثَيْنِ الْخَارِجَيْنِ حَضَرَا وَادَّعَيَا مِلْكًا فَأَرَّخَهُ
أَحَدُهُمَا ولم يُؤَرِّخْهُ الْآخَرُ وَهُنَاكَ كان الْمُدَّعَى بَيْنَهُمَا
نِصْفَيْنِ فَكَذَا هُنَا لِأَنَّهُمَا ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ من
رَجُلَيْنِ وَلَا عِبْرَةَ فيه بِالتَّارِيخِ
وَإِنْ كان السَّبَبُ هو الشِّرَاءَ فَنَقُولُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ
الدَّارُ في يَدِ ثَالِثٍ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ في يَدِ أَحَدِهِمَا وَكُلُّ ذلك
لَا يَخْلُو إمَّا إن ادَّعَيَا الشِّرَاءَ من وَاحِدٍ وأما إنْ ادَّعَيَاهُ من
اثْنَيْنِ فَإِنْ كانت في يَدِ ثَالِثٍ وَادَّعَيَا الشِّرَاءَ من وَاحِدٍ فَإِنْ
كان صَاحِبُ الْيَدِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ على الشِّرَاءِ منه بِثَمَنٍ
مَعْلُومٍ وَنَقَدَ الثَّمَنَ مُطْلَقًا عن التَّارِيخِ وَذَكَر الْقَبْضَ يُقْضَى
بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ فيه قَوْلَانِ في قَوْلٍ
تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ وفي قَوْلٍ يَقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَيُقْضَى لِمَنْ
خَرَجَتْ له الْقُرْعَةُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ التَّهَاتُرِ وقد تَقَدَّمَتْ وإذا
قُضِيَ بِالدَّارِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ يَكُونُ لَهُمَا الْخِيَارُ ان شَاءَ
أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ
نَقَضَ لِأَنَّ غَرَضَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من الشِّرَاءِ الْوُصُولُ إلَى
جَمِيعِ الْمَبِيعِ ولم يَحْصُلْ فَأَوْجَبَ ذلك خَلَلًا في الرِّضَا فَلِذَلِكَ
أُثْبِت لَهُمَا الْخِيَارُ فَإِنْ اخْتَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَخْذَ
نِصْفِ الدَّارِ رَجَعَ على الْبَائِعِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ لم يُحَصَّلْ
له إلَّا نِصْفُ الْمَبِيعِ وَإِنْ اخْتَارَ الرَّدَّ رَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ انْفَسَخَ الْبَيْعُ فَإِنْ اخْتَارَ
أَحَدُهُمَا الرَّدَّ وَالْآخَرُ الْأَخْذَ فَإِنْ كان ذلك بَعْدَ قَضَاءِ
الْقَاضِي وَتَخْيِيرِهِ إيَّاهُمَا فَلَيْسَ له أَنْ يَأْخُذَ إلَّا النِّصْفَ
بِنِصْفِ الثَّمَنِ لِأَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي بِذَلِكَ أَوْجَبَ انْفِسَاخَ
الْعَقْدِ في حَقِّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا في النِّصْفِ فَلَا يَعُودُ إلَّا
بِالتَّحْدِيدِ كما إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ
لِلشَّفِيعَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا الشُّفْعَةَ لَا يَكُونُ لِصَاحِبِهِ
إلَّا نِصْفُ الدَّارِ فَأَمَّا إذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا تَرْكَ الْخُصُومَةِ
قبل تَخْيِيرِ الْقَاضِي فَلِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ الْمَبِيعِ بِجَمِيعِ
الثَّمَنِ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ كُلُّ الْبَيْعِ وَالِامْتِنَاعُ
بِحُكْمِ الْمُزَاحَمَةِ فإذا انْقَطَعَتْ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ كَأَحَدِ
الشَّفِيعَيْنِ إذَا سَلَّمَ الشُّفْعَةَ قبل قَضَاءِ الْقَاضِي بِالدَّارِ
الْمَشْفُوعَةِ يُقْضَى لِصَاحِبِهِ بِالْكُلِّ
وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الشِّرَاءَ من رَجُلٍ آخَرَ
سِوَى صَاحِبِ الْيَدِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ على ذلك يُقْضَى بِالدَّارِ
بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَنَا وَثَبَتَ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
وَالْكَلَامُ في تَوَابِعِ الْخِيَارِ على نَحْوِ ما بَيَّنَّا غيرأن هُنَاكَ
الشَّهَادَةَ الْقَائِمَةَ على الشِّرَاءِ من صَاحِبِ الْيَدِ وهو الْبَائِعُ
تُقْبَلُ من غَيْرِ ذَكَر الْمِلْكِ له وَالشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ على
الشِّرَاءِ من غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ لَا تُقْبَلُ إلَّا بِذِكْرِ الْمِلْكِ
لِلْبَائِعِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ في يَدِ الْبَائِعِ
____________________
(6/237)
وَالْيَدُ
دَلِيلُ الْمِلْكِ فوقع ( ( ( فوقعت ) ) ) الْغُنْيَةُ عن ذِكْرِهِ وفي الفضل ( (
( الفصل ) ) ) الثَّانِي الْمَبِيعُ ليس في يَدِ الْبَائِعِ فَدَعَتْ الْحَاجَةُ
إلَى ذِكْرِهِ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ
هذا إذَا لم تُؤَرَّخْ الْبَيِّنَتَانِ فَأَمَّا إذَا أُرِّخَتَا فَإِنْ اسْتَوَى
التَّارِيخَانِ فَكَذَلِكَ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِهِمَا بِالتَّعَارُضِ فَبَقِيَ
دَعْوَى مُطْلَقِ الشِّرَاءِ وَإِنْ كانت إحْدَاهُمَا أَسْبَقَ تَارِيخًا كانت
أَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ الْمِلْكَ في وَقْتٍ لَا تُعَارِضُهَا
فيه الْأُخْرَى فَتَنْدَفِعُ بها الْأُخْرَى
وَلَوْ أُرِّخَتْ إحْدَاهُمَا وَأُطْلِقَتْ الْأُخْرَى فَالْمُؤَرَّخَةُ أَوْلَى
لِأَنَّهَا تُظْهِرُ الْمِلْكَ في زَمَانٍ مُعَيَّنٍ وَالْأُخْرَى لَا تَتَعَرَّضُ
لِلْوَقْتِ فَتَحْتَمِلُ السَّبْقَ وَالتَّأْخِيرَ فَلَا تُعَارِضُهَا مع الشَّكِّ
وَالِاحْتِمَالِ وَلَوْ لم تُؤَرَّخْ الْبَيِّنَتَانِ وَلَكِنْ ذَكَرَتْ
إحْدَاهُمَا الْقَبْضَ فَهِيَ أَوْلَى لِأَنَّهَا لَمَّا أَثْبَتَتْ قَبْضَ
الْمَبِيعِ جُعِلَ كَأَنَّ بَيْعَ صَاحِبِ الْقَبْضِ أَسَبْقُ فَيَكُونُ أَوْلَى
وَكَذَلِكَ لو ذَكَرَتْ احداهما تَارِيخًا وَالْأُخْرَى قَبْضًا فَبَيِّنَةُ
الْقَبْضِ أَوْلَى إلَّا أَنْ تَشْهَدَ بَيِّنَةُ التَّارِيخِ أَنَّ شِرَاءَهُ قبل
شِرَاءِ الْآخَرِ فَيُقْضَى له وَيَرْجِعُ الْآخَرُ بِالثَّمَنِ على الْبَائِعِ
وَكَذَا لو أَرَّخَا تَارِيخًا وَاحِدًا وَذَكَرَتْ إحْدَاهُمَا الْقَبْضَ
فَبَيِّنَةُ الْقَبْضِ أَوْلَى إلَّا إذَا كان وَقْتُ الأخر أَسْبَقَ
هذا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ من وَاحِدٍ وهو صَاحِبُ الْيَدِ أو غَيْرُهُ
فَأَمَّا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ من اثْنَيْنِ سِوَى صَاحِبِ الْيَدِ مُطْلَقًا
عن الْوَقْتِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ على ذلك يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ
لِأَنَّهُمَا ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ من الْبَائِعَيْنِ فَقَامَا
مَقَامَهُمَا فَصَارَ كَأَنَّ الْبَائِعَيْنِ الْخَارِجَيْنِ حَضَرَا وَأَقَامَا
الْبَيِّنَةَ على مِلْكٍ مُطْلَقٍ وَلَوْ كان كذلك ( ( ( كذاك ) ) ) يُقْضَى
بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَذَا هذا وَيَثْبُتُ لَهُمَا الْخِيَارُ وَالْكَلَامُ في
الْخِيَارِ على نَحْوِ ما ذَكَرنَا
وَلَوْ وَقَّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ فَإِنْ كان وَقْتُهُمَا وَاحِدًا فَكَذَلِكَ
وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ من الأخر فَالْأَسْبَقُ تَارِيخًا أَوْلَى عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَكَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ في رِوَايَةِ الْأُصُولِ
بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عِنْدَهُ وَوَجْهُ
الْفَرْقِ له ذَكَرَهُ الدَّارِيِّ وهو أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ
لِنَفْسِهِ وَالْوَارِثُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِلْمَيِّتِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ في
الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ سَوَّى بين الْمِيرَاثِ وَالشِّرَاءِ وقال لَا عِبْرَةَ
بِالتَّارِيخِ في الشِّرَاءِ أَيْضًا إلَّا أَنْ يُؤَرِّخَا مِلْكَ الْبَائِعَيْنِ
وَإِنْ وُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا ولم تُوَقَّتْ الْأُخْرَى يُقْضَى بَيْنَهُمَا
نِصْفَيْنِ وَلَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ أَيْضًا
فَرَّقَ بين هذا وَبَيْنَ ما إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ من رَجُلٍ وَاحِدٍ
فَوُقِّتَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا وَأُطْلِقَتْ الْأُخْرَى أَنَّ بَيِّنَةَ
الْوَقْتِ أَوْلَى
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُمَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ من اثْنَيْنِ فَقَدْ
ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ من الْبَائِعَيْنِ فَتَارِيخُ إحْدَى
الْبَيِّنَتَيْنِ لَا يَدُلُّ على سَبْقِ أَحَدِ الشراءين بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
شِرَاءُ صَاحِبِهِ أَسْبَقَ من شِرَائِهِ فَلَا يُحْكَمُ بِسَبْقِ أَحَدِهِمَا مع
الِاحْتِمَالِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِخِلَافِ ما إذَا ادَّعَيَا
الشِّرَاءَ من وَاحِدٍ لِأَنَّ هُنَاكَ اتَّفَقَا على تَلَقِّي الْمِلْكِ من
وَاحِدٍ فَتَارِيخُ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ أَوْجَبَ تَلَقِّيَ الْمِلْكِ منه في
زَمَانٍ لَا يُنَازِعُهُ فيه أَحَدٌ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ حتى يَقُومَ
على التَّلَقِّي منه دَلِيلٌ آخَرُ
هذا إذَا كانت الدَّارُ في يَدِ ثَالِثٍ فَإِنْ كانت في يَدِ أَحَدِهِمَا فَإِنْ
ادَّعَيَا الشِّرَاءَ من وَاحِدٍ فَصَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى سَوَاءٌ أَرَّخَ
الْآخَرُ أو لم يُؤَرِّخ وَسَوَاءٌ ذَكَر شُهُودَ الْقَبْضِ أو لم يذكر لِأَنَّ
الْقَبْضَ من صَاحِبِ الْيَدِ أَقْوَى لِثُبُوتِهِ حِسًّا وَمُشَاهَدَةً وَقَبْضُ
الْآخَرِ لم يَثْبُتْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَكَانَ
الْقَبْضُ الْمَحْسُوسُ أَوْلَى فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الْقَبْضَ الثَّابِتَ
بِالْحِسِّ أَوْلَى من الثَّابِتِ بِالْخَبَرِ وَمِنْ التَّارِيخِ أَيْضًا
وَالْقَبْضُ الثَّابِتُ بِالْخَبَرِ أَوْلَى من التَّارِيخِ
وَإِنْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ من اثْنَيْنِ يُقْضَى لِلْخَارِجِ سَوَاءٌ وُقِّتَتْ
البينات ( ( ( البينتان ) ) ) أو لَا أو وُقِّتَتْ احداهما دُونَ الْأُخْرَى إلَّا
إذَا وُقِّتَتَا وَوَقْتُ صَاحِبِ الْيَدِ أَسْبَقُ لِأَنَّهُمَا ادَّعَيَا
تَلَقِّيَ الْمِلْكِ من الْبَائِعَيْنِ فَقَامَا مَقَامَ الْبَائِعَيْنِ فَصَارَ
كَأَنَّ الْبَائِعَيْنِ حَضَرَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ
وَلَوْ كان كَذَلِكَ يُقْضَى لِلْخَارِجِ
كَذَا هذا
بِخِلَافِ ما إذَا كان الْبَائِعُ وَاحِدًا لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا على أَنَّ
الْمِلْكَ لَهُمَا بِالشِّرَاءِ من جِهَتِهِ وَلِأَحَدِهِمَا يَدٌ فَيُجْعَلُ
كَأَنَّ شِرَاءَ صَاحِبِ الْيَدِ أَسْبَقُ
وَإِنْ كان السَّبَبُ هو النِّتَاجَ بِأَنْ ادعي كُلُّ وَاحِدٍ من الْخَارِجَيْنِ
أنها دَابَّتُهُ نَتَجَتْ عِنْدَهُ فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ
على مِلْكٍ مُطْلَقٍ يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَاءِ الْحُجَّتَيْنِ
وَتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا بِإِظْهَارِ الْمِلْكِ في كل الْمَحَلِّ
فَلْيُعْمَلْ بِهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ
وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ على مِلْكٍ مؤقت فَإِنْ اتَّفَقَ الْوَقْتَانِ
فَكَذَلِكَ
وَإِنْ اخْتَلَفَا يُحَكَّمُ سِنُّ الدَّابَّةِ إنْ عُلِمَ وَإِنْ أُشْكِلَ
فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يُقْضَى لِأَسْبَقِهِمَا وَقْتًا
وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى بَيْنَهُمَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ السِّنَّ إذَا أُشْكِلَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ
مُوَافِقًا لِوَقْتِ هذا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِوَقْتِ ذَاكَ
فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْوَقْتِ وَصَارَ كَأَنَّهُمَا سَكَتَا عن الْوَقْتِ أَصْلًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي
____________________
(6/238)
حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ وُقُوعَ الْإِشْكَالِ في السِّنِّ يُوجِبُ سُقُوطَ
اعْتِبَارِ حُكْمِ السَّبْقِ فَبَطَل تَحْكِيمُهُ فَبَقِيَ الْحُكْمُ لِلْوَقْتِ
فَالْأَسْبَقُ أَوْلَى
وَهَذَا يُشْكِلُ بِالْخَارِجِ مع ذِي الْيَدِ
وَإِنْ خَالَفَ الْوَقْتَيْنِ جميعا فَهُوَ على ما ذَكَرنَا في الْخَارِجِ مع ذِي
الْيَدِ
وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ على النِّتَاجِ وَالْآخَرُ على مِلْكٍ
مُطْلَقٍ فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى لِمَا مَرَّ
هذا إذَا ادَّعَى الْخَارِجَانِ الْمِلْكَ من وَاحِدٍ أو اثْنَيْنِ بِسَبَبَيْنِ
مُتَّفِقَيْنِ من الْمِيرَاثِ وَالشِّرَاءِ وَالنِّتَاجِ
فَإِنْ كان بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا إن كان من
اثْنَيْنِ وَإِمَّا إن كان من وَاحِدٍ
فَإِنْ كان من اثْنَيْنِ يَعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ من السَّبَبَيْنِ بِأَنْ
ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى هذه الدَّابَّةَ من فُلَانٍ وَادَّعَى
الْآخَرُ أَنَّ فُلَانًا آخَرَ وَهَبَهَا له وَقَبَضَهَا منه قُضِيَ بَيْنَهُمَا
نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُمَا ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ من الْبَائِعِ
وَالْوَاهِبِ فَقَامَا مَقَامَهُمَا كَأَنَّهُمَا حَضَرَا وَادَّعَيَا وَأَقَامَا
الْبَيِّنَةَ على مِلْكٍ مُرْسَلٍ
وَكَذَا لو ادَّعَى ثَالِثٌ مِيرَاثًا عن أبيه فإنه يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ
أَثْلَاثًا وَلَوْ ادَّعَى رَابِعٌ وَصَدَّقَهُ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا
لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ كان ذلك من وَاحِدٍ يُنْظَرُ إلَى السَّبَبَيْنِ فَإِنْ كان أَحَدُهُمَا
أَقْوَى يُعْمَلُ بِهِ
لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالرَّاجِحِ وَاجِبٌ
وَإِنْ اسْتَوَيَا في الْقُوَّةِ يُعْمَلُ بِهِمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَان على ما هو
سَبِيلُ دَلَائِلِ الشَّرْعِ
بَيَانُ ذلك إذَا أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى هذه الدَّارَ
من فُلَانٍ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ وَقَبَضَ الدَّارَ وَأَقَامَ الْآخَرُ
الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا ذَاكَ وَهَبَهَا له وَقَبَضَهَا يُقْضَى لِصَاحِبِ
الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ وَالْهِبَةُ لَا تُفِيدُ
الْحُكْمَ إلَّا بِالْقَبْضِ فَكَانَ الشِّرَاءُ أَوْلَى
وَكَذَلِكَ الشِّرَاءُ مع الصَّدَقَةِ وَالْقَبْضِ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ الشِّرَاءُ مع الرَّهْنِ وَالْقَبْضِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُفِيدُ
مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَالرَّهْنُ يُفِيدُ مِلْكَ الْيَدِ وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ أَقْوَى
وَلَوْ اجْتَمَعَتْ الْبَيِّنَتَانِ مع الْقَبْضِ يقضي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ
لِاسْتِوَاءِ السَّبَبَيْنِ وَقِيلَ هذا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ
كَالدَّابَّةِ وَالْعَبْدِ وَنَحْوِهِمَا
فَأَمَّا فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَالدَّارِ وَنَحْوِهَا فَلَا يُقْضَى
لَهُمَا بِشَيْءٍ على أَصْل أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْهِبَةِ من
رَجُلَيْنِ لِحُصُولِ مَعْنَى الشُّيُوعِ
وَقِيلَ لَا فَرْقَ بين ما يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَبَيْنَ ما لَا يَحْتَمِلُهَا
هُنَا لِأَنَّ هذا في مَعْنَى الشُّيُوعِ الطارىء لِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ على
الْكُلِّ وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ
وَكَذَلِكَ لو اجْتَمَعَتْ الصَّدَقَةُ مع الْقَبْضِ أو الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ
مع الْقَبْضِ يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَاءِ السَّبَبَيْنِ لَكِنَّ
هذا إذَا لم يَكُنْ الْمُدَّعَى في يَدِ أَحَدِهِمَا فَإِنْ كان يُقْضَى لِصَاحِبِ
الْيَدِ بازجماع ( ( ( بالإجماع ) ) ) لِمَا مَرَّ وَلَوْ اجْتَمَعَ الرَّهْنُ
وَالْهِبَةُ أو الرَّهْنُ وَالصَّدَقَةُ فَالْقِيَاسُ أَنْ تَكُونَ الْهِبَةُ
أَوْلَى وَكَذَا الصَّدَقَةُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُفِيدُ مِلْكَ
الرَّقَبَةِ وَالرَّهْنُ يُفِيدُ مِلْكَ الْيَدِ وَالْحَبْسَ وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ
أَقْوَى وفي الِاسْتِحْسَانِ الرَّهْنُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَرْهُونَ عِنْدَنَا
مَضْمُونٌ بِقَدْرِ الدَّيْنِ فَأَمَّا الْمَوْهُوبُ فَلَيْسَ بِمَضْمُونٍ أَصْلًا
فَكَانَ الرَّهْنُ أَقْوَى وَلَوْ اجْتَمَعَ النِّكَاحَانِ بِأَنْ ادَّعَتْ
امْرَأَتَانِ وَأَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ
تَزَوَّجَهَا عليه يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَاءِ السَّبَبَيْنِ
وَلَوْ اجْتَمَعَ النِّكَاحُ مع الْهِبَةِ أو الصَّدَقَةِ أو الرَّهْنِ
فَالنِّكَاحُ أَوْلَى لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ فَكَانَ
أَقْوَى
وَلَوْ اجْتَمَعَ الشِّرَاءُ وَالنِّكَاحُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عِنْدَ
أبي يُوسُفَ وَلِلْمَرْأَةِ نِصْفُ نِصْفِ الْقِيمَةِ على الزَّوْجِ وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ الشِّرَاءُ أَوْلَى وَلِلْمَرْأَةِ الْقِيمَةُ على الزَّوْجِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الشِّرَاءَ أَقْوَى من النِّكَاحِ بِدَلِيلِ
أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ وَيَصِحُّ النِّكَاحُ
بِدُونِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ وَكَذَا لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ بِدُونِ
الْمِلْكِ في الْبَيْعِ وَتَصِحُّ في بَابِ النِّكَاحِ كما لو تَزَوَّجَ على
جَارِيَةِ غَيْرِهِ دَلَّ إن الشِّرَاءَ أَقْوَى من النِّكَاحِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ إن النِّكَاحَ مِثْلُ الشِّرَاءِ فإن كان ( ( ( كل ) )
) وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعَاوَضَةٌ يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ هذا إذَا ادَّعَى
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ ما يَدَّعِي الْآخَرُ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى
أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِمَّا يَدَّعِي الْآخَرُ بِأَنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا كُلَّ
الدَّارِ وَالْآخَرُ نِصْفَهَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ على ذلك فإنه يُقْضَى
لِمُدَّعِي الْكُلِّ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدَّارِ وَلِمُدَّعِي النِّصْفِ
بِرُبْعِهَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى لِمُدَّعِي الْكُلِّ
بِثُلُثَيْ الدَّارِ وَلِمُدَّعِي النِّصْفِ بِثُلُثِهَا وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ
جَوَابُهُمْ لِاخْتِلَافِهِمْ في طَرِيقِ الْقِسْمَةِ فَتُقْسَمُ عِنْدَهُ
بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ وَهُمَا قَسَّمَا بِطَرِيقِ الْعَدْلِ وَالْمُضَارَبَةِ
وَتَفْسِيرُ الْقِسْمَةِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْقَدْرِ
الذي وَقَعَ التَّنَازُعُ فيه فَيُجْعَلُ الْجُزْءُ الذي خَلَا عن الْمُنَازَعَةِ
سَالِمًا لِمُدَّعِيهِ
وَتَفْسِيرُ الْقِسْمَةِ على طَرِيقِ الْعَدْلِ وَالْمُضَارَبَةِ أَنْ تُجْمَعَ
السِّهَامُ كُلُّهَا في الْعَيْنِ فَتُقَسَّمُ بين الْكُلِّ بِالْحِصَصِ
فَيَضْرِبُ كُلٌّ بِسَهْمِهِ كما في الْمِيرَاثِ وَالدُّيُونِ الْمُشْتَرَكَةِ
الْمُتَزَاحِمَةِ وَالْوَصَايَا فلما كانت الْقِسْمَةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ على
طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ تَجِبُ مُرَاعَاةُ مَحَلِّ النِّزَاع فَهُنَا يَدَّعِي
أَحَدُهُمَا
____________________
(6/239)
كُلَّ
الدَّارِ وَالْآخَرُ لَا يُنَازِعُهُ إلَّا في النِّصْفِ فَبَقِيَ النِّصْفُ
الْآخَرُ خَالِيًا عن الْمُنَازَعَةِ فَيُسَلَّمُ لِمُدَّعِي الْكُلِّ لِأَنَّهُ
يَدَّعِي شيئا لَا يُنَازِعُهُ فيه غَيْرُهُ وَمَنْ ادَّعَى شيئا لَا يُنَازِعُهُ
فيه غَيْرُهُ يُسَلَّمُ له وَالنِّصْفُ الْآخَرُ اسْتَوَتْ فيه مُنَازَعَتُهُمَا
فيقضى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ أَرْبَاعًا ثَلَاثَةُ
أَرْبَاعِ الدَّارِ لِمُدَّعِي الْكُلِّ وَرُبْعُهَا لِمُدَّعِي النِّصْفِ
وَلَمَّا كانت الْقِسْمَةُ عِنْدَهُمَا على طَرِيقِ الْمُضَارَبَةِ يُقْسَمُ
الثَّمَنُ على مَبْلَغِ السِّهَامِ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ بِسَهْمِهِ فَهُنَا
أَحَدُهُمَا يَدَّعِي كُلَّ الدَّارِ وَالْآخَرُ يَدَّعِي نِصْفَهَا فَيُجْعَلُ
أَخَسُّهُمَا سَهْمًا فَجُعِلَ نِصْفُ الدَّارِ بَيْنَهُمَا
وإذا جُعِلَ نِصْفُ الدَّارِ بَيْنَهُمَا صَارَ الْكُلُّ سَهْمَيْنِ فَمُدَّعِي
الْكُلِّ يَدَّعِي سَهْمَيْنِ وَمُدَّعِي النِّصْفِ يَدَّعِي سَهْمًا وَاحِدًا
فَيُعْطَى هذا سَهْمًا وَذَاكَ سَهْمَيْنِ فَكَانَتْ الدَّارُ بَيْنَهُمَا
أَثْلَاثًا ثُلُثَاهَا لِمُدَّعِي الْكُلِّ وَثُلُثُهَا لِمُدَّعِي النِّصْفِ
وَالصَّحِيحُ قِسْمَةُ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى
الْقِسْمَةِ لِضَرُورَةِ الدَّعْوَى وَالْمُنَازَعَةِ وَوُقُوعِ التَّعَارُضِ في
الْحُجَّةِ وَلَا مُنَازَعَةَ لِمُدَّعِي الْكُلِّ إلَّا في النِّصْفِ فَلَا
يَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ إلَّا فيه فَيُسَلَّمُ له ما وَرَاءَهُ لِقِيَامِ
الْحُجَّةِ عليه وَخُلُوّهَا عن الْمُعَارِضِ فَكَانَ ما قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ
عَمَلًا بِالدَّلِيلِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ هذا إذَا كانت
الدَّارُ في يَدِ ثَالِثٍ فَإِنْ كانت في أَيْدِيهمَا فَبَيِّنَةُ مُدَّعِي
الْكُلِّ أَوْلَى لِأَنَّهُ خَارِجٌ لِأَنَّهُ يَدَّعِي على صَاحِبِهِ النِّصْفَ
الذي في يَدِهِ وَمُدَّعِي النِّصْفِ لَا يَدَّعِي شيئا هو في يَدِ صَاحِبِهِ
لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي إلَّا النِّصْفَ وَالنِّصْفُ في يَدِهِ فَكَانَ مُدَّعِي
الْكُلِّ خَارِجًا وَمُدَّعِي النِّصْفِ صَاحِبَ يَدٍ فَكَانَتْ بَيِّنَةُ
الْخَارِجِ أَوْلَى فَيُقْضَى له بِالنِّصْفِ الذي في يَدِ صَاحِبِهِ وَيُتْرَكُ
النِّصْفُ الذي في يَدِهِ على حَالِهِ هذا إذَا ادَّعَى الْخَارِجَانِ شيئا في
يَدِ ثَالِثٍ فَأَنْكَرَ الذي في يَده فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ
فَإِنْ لم يُقِمْ لَهُمَا بَيِّنَةً وَطَلَبَا يمين ( ( ( بيمين ) ) ) الْمُنْكِرِ
يَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ نَكَل لَهُمَا جميعا يُقْضَى لَهُمَا
بِالنُّكُولِ لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا
فَإِنْ حَلَفَ لِأَحَدِهِمَا وَنَكَل لِلْآخَرِ يُقْضَى لِلَّذِي نَكَل لِوُجُودِ
الْحُجَّة في حَقِّهِ
وَإِنْ حَلَفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُتْرَك الْمُدَّعَى في يَدِهِ قَضَاءَ
تَرْكٍ لَا قَضَاءَ اسْتِحْقَاقٍ حتى لو قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ بَعْدَ ذلك
تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُمَا وَيُقْضَى لَهُمَا بِخِلَافِ ما إذَا أَقَامَا
الْبَيِّنَةَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ أَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ
الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ مِلْكُهُ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ
وَكَذَا إذَا أَقَامَ أَحَدُ المدعين ( ( ( المدعيين ) ) ) الْبَيِّنَةَ على
النِّصْفِ الذي اسْتَحَقَّهُ صَاحِبُهُ بعدما قُضِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لَا
تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ بِالتَّرْكِ في يَدِ المدعي عليه لم يَكُنْ كُلُّ
وَاحِدٍ من الْمُدَّعِيَيْنِ مَقْضِيًّا عليه حَقِيقَةً فَتُسْمَعُ مِنْهُمَا
الْبَيِّنَةُ
فَأَمَّا صَاحِبُ الْيَدِ فَقَدْ صَارَ مَقْضِيًّا عليه حَقِيقَةً وَكَذَا كُلُّ
وَاحِدٍ من الْمُدَّعِيَيْنِ بعدما قضى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ صَارَ مَقْضِيًّا
عليه في النِّصْفِ وَالْبَيِّنَةُ من الْمَقْضِيِّ عليه غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ إلَّا
إذَا ادَّعَى التَّلَقِّيَ من جِهَةِ الْمُسْتَحِقِّ أو ادَّعَى النِّتَاجَ
وَكَذَا لو ادَّعَى بَائِعُ الْمَقْضِيِّ عليه أو بَائِعُ بَائِعِهِ هَكَذَا
وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ
لِأَنَّ الْقَضَاءَ عليه قَضَاءٌ على الْبَاعَةِ كُلِّهِمْ في حَقِّ بُطْلَانِ
الدَّعْوَى إنْ لم يَكُنْ قَضَاءً عليهم في حَقِّ وِلَايَةِ الرُّجُوعِ
بِالثَّمَنِ إلَّا إذَا قَضَى الْقَاضِي لِهَذَا الْمُشْتَرِي بِالرُّجُوعِ على
بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ فَيَرْجِعُ هذا الْبَائِعُ على بَائِعِهِ أَيْضًا هَكَذَا
فَرَّقَ بين هذا وَبَيْنَ الْحُرِّيَّةِ والأصلية ( ( ( الأصلية ) ) ) أَنَّ
الْقَضَاءَ بِالْحُرِّيَّةِ قَضَاءٌ على الناس كُلِّهِمْ في حَقِّ بُطْلَانِ
الدَّعْوَى وَثُبُوتِ وِلَايَةِ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ على الْبَاعَةِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بين الْمِلْكِ وَالْعِتْقِ على نَحْوِ ما ذَكَرنَا من قَبْلِ
هذا إذَا أَنْكَرَ الذي في يَدِهِ فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ لِأَحَدِهِمَا فَنَقُولُ
هذا لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إن كان قبل إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ
وَإِمَّا ان كان بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَإِنْ أَقَرَّ قبل إقَامَةِ
الْبَيِّنَةِ جَازَ إقْرَارُهُ وَدَفَعَ إلَى الْمُقِرِّ له لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ
في يَدِهِ وَمِلْكِهِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيه
بِالْإِقْرَارِ وَغَيْرِهِ
وَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ قبل التَّزْكِيَةِ لم يَجُزْ
إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ تَضَمُّن إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ وهو الْبَيِّنَةُ فَكَانَ
إقْرَارًا على غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ في حَقِّ ذلك الْغَيْرِ وَلَكِنْ يُؤْمَرُ
بِالدَّفْعِ إلَى الْمَقَرِّ له لِأَنَّ إقْرَارَهُ في حَقِّ نَفْسِهِ صَحِيحٌ
وَكَذَا الْبَيِّنَةُ قد لَا تَتَّصِلُ بها التَّزْكِيَةُ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ
إلَى الْمَقَرِّ له في الْحَالِ فإذا زُكِّيَتْ الْبَيِّنَتَانِ يُقْضَى
بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُدَّعَى كان بنيهما ( ( ( بينهما
) ) ) نِصْفَيْنِ فَظَهَرَ إن إقرار ( ( ( إقراره ) ) ) كان إبْطَالًا لِحَقِّ
الْغَيْرِ فلم يَصِحَّ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ
وَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَبَعْدَ التَّزْكِيَةِ يُقْضَى
بَيْنَهُمَا لِمَا قُلْنَا إنَّ إقْرَارَهُ لم يَصِحَّ فَكَانَ مُلْحَقًا
بِالْعَدَمِ هذا كُلُّهُ إذَا كانت الدَّعْوَى من الْخَارِجِ على ذِي الْيَدِ أو
من الْخَارِجَيْنِ على ذِي الْيَدِ فَأَمَّا إذَا كانت من صاحب ( ( ( صاحبي ) ) )
ليد ( ( ( اليد ) ) ) أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ بِأَنْ كان الْمُدَّعَى في أَيْدِيهمَا
فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ يُقْضَى له بِالنِّصْفِ الذي في
يَدِ صَاحِبِهِ وَالنِّصْفُ الذي كان في يَدِهِ تُرِكَ في يَدِهِ وهو مَعْنَى
قَضَاءِ التَّرْكِ
____________________
(6/240)
وَلَوْ
أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ له يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ الذي في يَدِ صَاحِبِهِ ولأن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في
ذلك النِّصْفِ خَارِجٌ وَلَوْ لم تَقُمْ لاحدهما بَيِّنَةٌ يُتْرَكُ في
أَيْدِيهمَا قَضَاءَ تَرْكٍ حتى لو قَامَتْ لاحدهما بَعْدَ ذلك بَيِّنَةٌ تُقْبَلُ
لِأَنَّهُ لم يَصِرْ مَقْضِيًّا عليه حَقِيقَةً
هذا إذَا لم تُوَقَّتْ الْبَيِّنَتَانِ فَإِنْ وُقِّتَا فَإِنْ اتَّفَقَ
الْوَقْتَانِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ اخْتَلَفَا فَالْأَسْبَقُ أَوْلَى عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلَا عِبْرَةَ لِلْوَقْتِ في بَيِّنَةِ صَاحِبِ
الْيَدِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِنْ وَقَّتَ إحْدَاهُمَا دُون
الْأُخْرَى يَكُونُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالْوَقْتُ
سَاقِطٌ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ هو لِصَاحِبِ الْوَقْتِ وقد مَرَّتْ الْحُجَجُ قبل
هذا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا حُكْمُ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ الْقَائِمَتَيْنِ على قَدْرِ
الْمِلْكِ فَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الْبَيِّنَةَ الْمُظْهِرَةَ لِلزِّيَادَةِ
أَوْلَى كما إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ في قَدْرِ الثَّمَنِ فقال
الْبَائِعُ بِعْتُك هذا الْعَبْدَ بِأَلِفَيْ دِرْهَمٍ
وقال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْته مِنْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ
فإنه يُقْضَى بِبَيِّنَةِ الْبَائِعِ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ زِيَادَةَ أَلْفٍ
وَكَذَا لو اخْتَلَفَا في قَدْرِ الْمَبِيعِ فقال الْبَائِعُ بِعْتُك هذا
الْعَبْدَ بِأَلْفٍ وقال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت مِنْك هذا الْعَبْدَ وَهَذِهِ
الْجَارِيَةَ بِأَلْفٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ يُقْضَى بِبَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي
لِأَنَّهَا تُظْهِرُ زِيَادَةً
وَكَذَا لو اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ في قَدْرِ الْمَهْرِ فقال الزَّوْجُ
تَزَوَّجْتُكِ على أَلْفٍ وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ على أَلْفَيْنِ وَأَقَامَا
الْبَيِّنَةَ يُقْضَى بِبَيِّنَةِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ فَضْلًا ثُمَّ
انما كانت بَيِّنَةُ الزِّيَادَةِ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا مُعَارِضَ لها في قَدْرِ
الزِّيَادَةِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بها في ذلك الْقَدْرِ لِخُلُوِّهَا عن
الْمُعَارِضِ وَلَا يُمْكِنُ إلَّا بِالْعَمَلِ في الْبَاقِي فَيَجِبُ الْعَمَلُ
بها في الْبَاقِي ضَرُورَةَ وُجُوبِ الْعَمَلِ بها في الزِّيَادَةِ وَلَا يَلْزَمُ
على هذا الْأَصْلِ ما إذَا اخْتَلَفَ الشَّفِيعُ وَالْمُشْتَرِي في قَدْرِ ثَمَنِ
الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ فقال الشَّفِيعُ اشْتَرَيْتهَا بِأَلْفٍ
وقال الْمُشْتَرِي بِأَلْفَيْنِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ يُقْضَى
بِبَيِّنَةِ الشَّفِيعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَإِنْ كانت بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي تُظْهِرُ الزِّيَادَةَ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ
إنَّمَا تُقْبَلُ من الْمُدَّعِي لِأَنَّهَا جُعِلَتْ حُجَّةَ الْمُدَّعِي في
الْأَصْلِ وَالْمُدَّعِي هُنَاكَ هو الشَّفِيعُ لِوُجُودِ حَدِّ الْمُدَّعِي فيه
وهو أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا في الْخُصُومَةِ بِحَيْثُ لو تَرَكَهَا يُتْرَكُ
وَلَا يُجْبَرُ عليها فَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَمَجْبُورٌ على الْخُصُومَةِ
أَلَا تَرَى لو تَرَكَهَا لَا يُتْرَكُ بَلْ يُجْبَرُ عليها فَكَانَ هو مُدَّعَى
عليه وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةُ الْمُدَّعِي لَا حُجَّةُ الْمُدَّعَى عليه في
الْأَصْلِ لِذَلِكَ قُضِيَ بِبَيِّنَةِ الشَّفِيعِ لَا بِبَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي
بِخِلَافِ ما إذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي في قَدْرِ الثَّمَنِ
لِأَنَّ هُنَاكَ الْبَائِعَ هو الْمُدَّعِي لِأَنَّ الْمُخَيَّرَ في الْخُصُومَةِ
إنْ شَاءَ خَاصَمَ وَإِنْ شَاءَ لَا وَفِيمَا إذَا اخْتَلَفَا في قَدْرِ
الْمَبِيعِ الْمُدَّعِي هو الْمُشْتَرِي
أَلَا تَرَى لو تَرَكَ الْخُصُومَةَ يُتْرَكُ وَكَذَا في بَابِ النِّكَاحِ
الْمُدَّعِي في الْحَقِيقَةِ هو الْمَرْأَةُ لِمَا قُلْنَا فَهُوَ الْفَرْقُ
وَوَجْهٌ آخَرُ من الْفَرْقِ ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ الشُّفْعَةِ وَعَلَى هذا
يَخْرُجُ اخْتِلَافُ الْمُتَبَايِعِينَ في أَجَلِ الثَّمَنِ في أَصْلِ الْأَجَلِ
أو في قَدْرِهِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ
الْمُشْتَرِي لِأَنَّهَا تُظْهِرُ الزِّيَادَةَ وَكَذَا لو اخْتَلَفَا في
مُضِيِّهِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ
لم يَمْضِ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ زِيَادَةً
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ اخْتِلَافُهُمَا في الْمُسَلَّمِ فيه في قَدْرِهِ أو جِنْسِهِ
أو صِفَتِهِ مع اتِّفَاقِهِمَا على رَأْسِ الْمَالِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ
بَعْدَ تَفَرُّقِهِمَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ رَبِّ السَّلَمِ وَيُقْضَى
بِسَلَمٍ وَاحِدٍ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا على أَنَّ الْمُسَلَّمَ
إلَيْهِ لم يَقْبِضْ إلَّا رَأْسَ مَالٍ وَاحِدِ وَإِنْ اخْتَلَفَا قبل
التَّفَرُّقِ فَكَذَلِكَ وَيُقْضَى بِسَلَمٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُقْبَلُ الْبَيِّنَتَانِ جميعا وَيُقْضَى
بِسَلَمَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الْبَيِّنَتَيْنِ قَامَتْ على
عَقْدٍ على حِدَةٍ لِاخْتِلَافِ الْبَدَلَيْنِ فَيُعْمَلُ بِهِمَا جميعا وَيُقْضَى
بِسَلَمَيْنِ إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا وَلَهُمَا أَنَّهُمَا اتَّفَقَا على
عَقْدٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا في قَدْرِ الْمَعْقُودِ عليه قَدْرًا أو
جِنْسًا أو صِفَةً وَبَيِّنَةُ رَبِّ السَّلَمِ تُظْهِرُ زِيَادَةً فَكَانَتْ
أَقْوَى
وَلَوْ اخْتَلَفَا في رَأْسِ الْمَالِ في قَدْرِهِ أو جِنْسِهِ أو صِفَتِهِ مع
اتِّفَاقِهِمَا على الْمُسَلَّمِ فيه فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُسَلَّمِ
إلَيْهِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ تُقْبَلُ الْبَيِّنَتَانِ جميعا وَيُقْضَى
بِسَلَمَيْنِ وَالْحُجَجُ على نَحْوِ ما ذَكَرنَا هذا إذَا تَصَادَقَا أَنَّ
رَأْسَ الْمَالِ كان دَيْنًا فَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّهُ عَيْنٌ وَاخْتَلَفَا في
الْمُسَلَّمِ فيه فَإِنْ كان رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا وَاحِدَةً يُقْضَى بِسَلَمٍ
وَاحِدٍ كما إذَا قال رَبُّ السَّلَمِ أَسْلَمْت إلَيْك هذا الثَّوْبَ في كَرِّ
حِنْطَةٍ وقال الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ في كَرِّ شَعِيرٍ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ
رَبِّ السَّلَمِ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ إذَا كان عَيْنًا وَاحِدَةً لَا يُمْكِنُ
أَنْ يُجْعَلَ عَقْدَيْنِ فَيُجْعَلُ عَقْدًا وَاحِدًا وَبَيِّنَةُ رَبِّ
السَّلَمِ تُظْهِرُ زِيَادَةً فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وإذا كان عَيْنَيْنِ
بِأَنْ قال رَبُّ السَّلَم أَسْلَمْت إلَيْك هذا الْفَرَسَ في كَرِّ حِنْطَةٍ وقال
الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ هذا الثَّوْبُ في كَرِّ شَعِيرٍ يقضي بِسَلَمَيْنِ
بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عَقْدَيْنِ فَيُجْعَلُ
سَلَمَيْنِ
هذا كُلُّهُ
____________________
(6/241)
إذَا
كانت الدَّعْوَى دَعْوَى الْمِلْكِ فَأَمَّا دَعْوَى الْيَدِ بِأَنْ تَنَازَعَ
رَجُلَانِ في شَيْءٍ يَدَّعِيه كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ في يَدِهِ فَعَلَى
كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ على الْيَدِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ الْبَيِّنَةُ على الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ على الْمُدَّعَى عليه
وَلِأَنَّ الْمِلْكَ وَالْيَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ في نَفْسِهِ
فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ
أَقَامَا جميعا الْبَيِّنَةَ يُقْضَى بِكَوْنِهِ في أَيْدِيهمَا لِاسْتِوَائِهِمَا
في الْحُجَّة
وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ صَارَ صَاحِبَ يَدٍ وَصَارَ مُدَّعَى
عليه وَإِنْ لم تَقُمْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ فَعَلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
الْيَمِينُ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْيَمِينُ على من أَنْكَرَ
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُنْكِرُ دَعْوَى صَاحِبِ الْيَدِ فَيَحْلِفُ
هذا كُلُّهُ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ على الْمِلْكِ أو على الْيَدِ فَأَمَّا
إذَا قَامَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ على الْمِلْكِ وَالْأُخْرَى على الْيَدِ
فَبَيِّنَةُ الْمِلْكِ أَوْلَى نَحْوُ ما إذَا أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ
على أَنَّ الدَّارَ له مُنْذُ سَنَتَيْنِ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ على
أنها في يَدِهِ مُنْذُ ثَلَاثِ سِنِينَ يُقْضَى بها لِلْخَارِجِ لِأَنَّ
الْبَيِّنَةَ الْقَائِمَةَ على الْمِلْكِ أَقْوَى لِأَنَّ الْيَدَ قد تَكُونُ
مُحِقَّةً وقد تَكُونُ مُبْطِلَةً كَيَدِ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْيَدُ
الْمُحِقَّةُ قد تَكُونُ يَدَ مِلْكٍ وقد تَكُونُ يَدَ إعَارَةٍ وَإِجَارَةٍ
فَكَانَتْ مُحْتَمِلَةً فَلَا تَصْلُحُ بَيِّنَتُهَا مُعَارِضَةً لِبَيِّنَةِ
الْمِلْكِ
وَأَمَّا دَعْوَى النَّسَبِ فَالْكَلَامُ في النَّسَبِ في الْأَصْلِ في ثَلَاثَةِ
مَوَاضِعَ في بَيَانِ ما يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ وفي بَيَانِ ما يَظْهَرُ بِهِ
النَّسَبُ وفي بَيَانِ صِفَةِ النَّسَبِ الثَّابِتِ أَمَّا ما يَثْبُتُ بِهِ
النَّسَبُ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما يَثْبُتُ
بِهِ نَسَبُ الْوَلَدِ من الرَّجُلِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَثْبُتُ بِهِ نَسَبُهُ من الْمَرْأَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَسَبُ الْوَلَدِ من الرَّجُلِ لَا يَثْبُتُ إلَّا
بِالْفِرَاشِ وهو أَنْ تَصِيرَ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا له لِقَوْلِهِ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجْرُ
وَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ أَيْ لِصَاحِبِ
الْفِرَاشِ إلَّا أَنَّهُ أَضْمَرَ الْمُضَافَ فيه اخْتِصَارًا كما في قَوْلِهِ عز
وجل { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ } وَنَحْوِهِ وَالْمُرَادُ من الْفِرَاشِ هو
الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تُسَمَّى فِرَاشَ الرَّجُلِ وَإِزَارَهُ وَلِحَافَهُ وفي
التَّفْسِيرِ في قَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ } أنها نِسَاءُ
أَهْلِ الْجَنَّةِ فَسُمِّيَتْ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا لِمَا أنها تُفْرَشُ
وَتُبْسَطُ بِالْوَطْءِ عَادَةً وَدَلَالَةُ الحديث من وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ
أَحَدُهَا أَنَّ النبي عليه السلام أَخْرُج الْكَلَامَ مُخْرَجَ الْقِسْمَةِ
فَجَعَلَ الْوَلَدَ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ وَالْحَجْرَ لِلزَّانِي فَاقْتَضَى أَنْ
لَا يَكُونَ الْوَلَدُ لِمَنْ لَا فِرَاشَ له كما لَا يَكُونُ الْحَجْرُ لِمَنْ
لَا زِنَا منه إذْ الْقِسْمَةُ تَنْفِي الشَّرِكَةَ
وَالثَّانِي أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ الْوَلَدَ لِصَاحِبِ
الْفِرَاشِ وَنَفَاهُ عن الزَّانِي بِقَوْلِهِ عليه السلام وَلِلْعَاهِرِ
الْحَجْرُ لِأَنَّ مِثْلَ هذا الْكَلَامِ يُسْتَعْمَلُ في النَّفْيِ
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ جَعَلَ كُلَّ جِنْسِ الْوَلَدِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ فَلَوْ
ثَبَتَ نَسَبُ وَلَدٍ لِمَنْ ليس بِصَاحِبِ الْفِرَاشِ لم يَكُنْ كُلُّ جِنْسِ
الْوَلَدِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ
فَعَلَى هذا إذَا زَنَى رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ
الزَّانِي لم يَثْبُتْ نَسَبُهُ منه لِانْعِدَامِ الْفِرَاشِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ
فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ منها لِأَنَّ الْحُكْمَ في جَانِبِهَا يَتْبَعُ الْوِلَادَةَ
على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وقد وُجِدَتْ
وَكَذَلِكَ لو ادَّعَى رَجُلٌ عَبْدًا صَبِيًّا في يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ ابْنُهُ من
الزِّنَا لم يَثْبُتْ منه كَذَّبَهُ الْمَوْلَى فيه أو صَدَّقَهُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ هَلَكَ الْوَلَدُ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ عَتَقَ عليه لِأَنَّهُ أَقَرَّ
أَنَّهُ مَخْلُوقٌ من مَائِهِ وَإِنْ مَلَكَ أُمَّهُ لم تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ له
لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ تَتْبَعُ ثَبَاتَ النَّسَبِ ولم يَثْبُتْ
وَكَذَلِكَ لو كان هذا الْعَبْدُ لِأَبِ الْمُدَّعِي أو عَمِّهِ لِمَا ذَكَرنَا
وَلَوْ كان لِابْنِ الْمُدَّعِي فقال هو ابْنِي من الزِّنَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ منه
وهو مخطىء ( ( ( مخطئ ) ) ) في قَوْلِهِ من الزِّنَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ
مُتَمَلِّكًا الْجَارِيَةَ عِنْدَنَا قُبَيْلَ الِاسْتِيلَادِ أو مُقَارِنًا له
وَلَا يَتَحَقَّقُ الْوَطْءُ زِنًا مع ثُبُوتِ الْمِلْكِ وَلَوْ كان الْمُدَّعِي
غير الْأَبِ فقال هو ابْنِي منها ولم يَقُلْ من الزِّنَا فَإِنْ صَدَّقَهُ
الْمَوْلَى ثَبَتَ نَسَبُهُ منه وَيَكُونُ عَبْدًا لِمَوْلَى الْأُمِّ وَإِنْ
كَذَّبَهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ لِلْحَالِ وإذا مَلَكَهُ الْمُدَّعِي يَثْبُتُ
النَّسَبُ وَيُعْتَقُ عليه لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْبُنُوَّةِ مُطْلَقًا عن
الْجِهَةِ مَحْمُولٌ على جِهَةٍ مُصَحِّحَةٍ لِلنَّسَبِ وَهِيَ الْفِرَاشُ إلَّا
أَنَّهُ لم يَظْهَرْ نَفَاذُهُ لِلْحَالِ لِقِيَامِ مِلْكِ الْمَوْلَى فإذا
مَلَكَهُ زَالَ الْمَانِعُ
وَكَذَلِكَ لو قال هو ابْنِي من نِكَاحٍ فَاسِدٍ أو شِرَاءٍ فَاسِدٍ وَادَّعَى
شُبْهَةً بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ أو قال أَحَلَّهَا لي اللَّهُ إنْ صَدَّقَهُ
الْمَوْلَى يَثْبُتُ النَّسَبُ وَإِنْ كَذَّبَهُ لم يَثْبُتْ النَّسَبُ ما دَامَ
عَبْدًا فإذا مَلَكَهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيُعْتَقُ عليه لِأَنَّ الْعَقْدَ
الْفَاسِدَ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ في ثَبَاتِ النَّسَبِ وَكَذَلِكَ الشُّبْهَةُ
فيه مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فَكَانَ هذا إقْرَارًا بِالنَّسَبِ بِجِهَةٍ
مُصَحِّحَةٍ لِلنَّسَبِ شَرْعًا إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ ظُهُورُهُ لِلْحَالِ
لِحَقِّ الْمَوْلَى فإذا زَالَ ظَهَرَ وَعَتَقَ لِأَنَّهُ مِلْكُ ابْنِهِ وَإِنْ
مَلَكَ أُمَّهَا كانت أُمَّ وَلَدٍ له لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ أُمُومِيَّةِ
الْوَلَدِ وهو ثُبُوتُ النَّسَبِ بِنَاءً على وُجُودِ سَبَبِ الثُّبُوتِ وهو
الْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ بِجِهَةٍ
____________________
(6/242)
مُصَحِّحَةٍ
له شَرْعًا إلَّا أنها تَوَقَّفَتْ على شَرْطِهَا وهو الْمِلْكُ وقد وُجِدَ
بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يُوجَدْ سَبَبُ أُمُومِيَّةِ
الْوَلَدِ أَصْلًا لِانْعِدَامِ سَبَبِ ثُبُوتِ النَّسَبِ وهو الْإِقْرَارُ
بِجِهَةٍ مُصَحِّحَةٍ شَرْعًا
وَعَلَى هذا إذَا تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ على أَنَّ الْوَلَدَ من الزِّنَا من
فُلَانٍ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ منه وَيَثْبُتُ من الزَّوْجِ لِأَنَّ الْفِرَاشَ
له
وَعَلَى هذا إذَا ادَّعَى رَجُلٌ صَبِيًّا في يَدِ امْرَأَةٍ فقال هو ابْنِي من
الزِّنَا وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ هو من النِّكَاحِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ من
الرَّجُلِ وَلَا من الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الرَّجُلَ أَقَرَّ أَنَّهُ ابْنُهُ من
الزِّنَا وَالزِّنَا لَا يُوجِبُ النَّسَبَ وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِي النِّكَاحَ وَالنِّكَاحُ
لَا بُدَّ له من حُجَّةٍ
وَكَذَلِكَ لو كان الْأَمْرُ على الْعَكْس بِأَنْ ادَّعَى الرَّجُلُ أَنَّهُ
ابْنُهُ من النِّكَاحِ وَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ من الزِّنَا لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قال الرَّجُلُ بَعْدَ ذلك في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ هو من النِّكَاحِ أو
قالت الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذلك في الْفَصْلِ الثَّانِي هو من النِّكَاحِ يَثْبُتُ
النَّسَبُ وَإِنْ كان ذلك مِنْهُمَا تَنَاقَضَا لِأَنَّ التَّنَاقُضَ سَاقِطُ
الِاعْتِبَارِ شَرْعًا في بَابِ النَّسَبِ كما هو سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا
في بَابِ الْعِتْقِ لِمَا ذَكَرنَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الثَّانِي فَنَسَبُ الْوَلَدِ من الْمَرْأَةِ يَثْبُتُ بِالْوِلَادَةِ
سَوَاءٌ كان بِالنِّكَاحِ أو بِالسِّفَاحِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْفِرَاشِ إنَّمَا
عَرَفْنَاهُ بِالْحَدِيثِ وهو قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْوَلَدُ
لِلْفِرَاشِ أَيْ لِمَالِكِ الْفِرَاشِ وَلَا فِرَاشَ لِلْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا
مَمْلُوكَةٌ وَلَيْسَتْ بمالكه فَبَقِيَ الْحُكْمُ في جَانِبِهَا مُتَعَلِّقًا
بِالْوِلَادَةِ
وإذا عَرَفْت أَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ من الرَّجُلِ لَا يَثْبُتُ إلَّا إذَا
صَارَتْ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا له فَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ ما تَصِيرُ بِهِ
الْمَرْأَةُ فِرَاشًا وَكَيْفِيَّةِ عَمَلِهِ في ذلك فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ
التَّوْفِيقُ الْمَرْأَةُ تَصِيرُ فِرَاشًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا
عَقْدُ النِّكَاحِ وَالثَّانِي مِلْكُ الْيَمِينِ إلَّا أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ
يُوجِبُ الْفِرَاشَ بِنَفْسِهِ لِكَوْنِهِ عَقْدًا مَوْضُوعًا لِحُصُولِ الْوَلَدِ
شَرْعًا
قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَنَاكَحُوا تَوَالَدُوا تَكْثُرُوا
فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمْ الْأُمَمَ يوم الْقِيَامَةِ وَلَوْ بِالسَّقْطِ وَكَذَا
الناس يُقْدِمُونَ على النِّكَاحِ لِغَرَضِ التَّوَالُدِ عَادَةً فَكَانَ
النِّكَاحُ سَبَبًا مُفْضِيًا إلَى حُصُولِ الْوَلَدِ فَكَانَ سَبَبًا لِثَبَاتِ
النَّسَبِ بِنَفْسِهِ وَيَسْتَوِي فيه النِّكَاحُ الصَّحِيحُ وَالْفَاسِدُ إذَا
اتَّصَلَ بِهِ الْوَطْءُ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ يَنْعَقِدُ في حَقِّ
الْحُكْمِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لِوُجُودِ رُكْنِ الْعَقْدِ من أَهْلِهِ في
مَحَلِّهِ وَالْفَاسِدُ ما فَاتَهُ شَرْطٌ من شَرَائِطِ الصِّحَّةِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ
انْعِقَادَهُ في حَقِّ الْحُكْمِ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ إلَّا أَنَّهُ يَمْنَعُ
من الْوَطْءِ لِغَيْرِهِ
وَهَذَا لَا يَمْنَعُ ثَبَاتَ النَّسَبِ كَالْوَطْءِ في حَالَةِ الْحَيْضِ
وَالنِّفَاسِ وَسَوَاءٌ كانت الْمَنْكُوحَةُ حُرَّةً أو أُمَّةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ
من فِرَاشِ الزَّوْجِيَّةِ لَا يَخْتَلِفُ
وَأَمَّا مِلْكُ الْيَمِينِ فَفِي أُمِّ الْوَلَدِ يُوجِبُ الْفِرَاشَ بِنَفْسِهِ
أَيْضًا لِأَنَّهُ مِلْكٌ يَقْصِدُ بِهِ حُصُولُ الْوَلَدِ عَادَةً كَمِلْكِ
النِّكَاحِ فَكَانَ مُفْضِيًا إلَى حُصُولِ الْوَلَدِ كَمِلْكِ النِّكَاحِ إلَّا
أَنَّهُ أَضْعَفُ منه لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِ ذلك مِثْلَ ما يُقْصَدُ
بِمِلْكِ النِّكَاحِ وَكَذَا يَحْتَمِلُ النَّقْلُ إلَى غَيْرِهِ بِالتَّزْوِيجِ
وَيَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ من غَيْرِ لِعَانٍ بِخِلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ
وَأَمَّا في الْأَمَةِ فَلَا يُوجِبُ الْفِرَاشَ بِنَفْسِهِ بِالْإِجْمَاعِ حتى
لَا تَصِيرَ الْأَمَةُ فِرَاشًا بِنَفْسِ الْمِلْكِ بِلَا خِلَافٍ وَهَلْ تَصِيرُ
فِرَاشًا بِالْوَطْءِ اُخْتُلِفَ فيه
قال أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ لَا تَصِيرُ فِرَاشًا إلَّا
بِقَرِينَةِ الدَّعْوَةِ
وقال الشَّافِعِيُّ عليه الرَّحْمَةُ تَصِيرُ فِرَاشًا بِنَفْسِ الْوَطْءِ من
غَيْرِ دَعْوَةٍ
وَعِبَارَةُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ في هذا الْبَابِ أَنَّ الْفِرَاشَ
ثَلَاثَةٌ فِرَاشٌ قَوِيٌّ وَفِرَاشٌ ضَعِيفٌ وَفِرَاشٌ وَسَطٌ فَالْقَوِيُّ
فِرَاشُ الْمَنْكُوحَةِ حتى يَثْبُتَ النَّسَبُ من غَيْرِ دَعْوَةٍ وَلَا
يَنْتَفِي إلَّا بِاللِّعَانِ وَالْوَسَطُ فِرَاشُ أُمِّ الْوَلَدِ حتى يَثْبُتَ
النَّسَبُ من غَيْرِ دَعْوَةٍ وَيَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ من غَيْرِ
لِعَانٍ
وَالضَّعِيفُ فِرَاشُ الْأَمَةِ حتى لَا يَثْبُتَ النَّسَبُ فيه إلَّا
بِالدَّعْوَةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ ثَبَاتَ النَّسَبِ منه لِحُصُولِ الْوَلَدِ من مَائِهِ
وَهَذَا يَحْصُلُ بِالْوَطْءِ من غَيْرِ دَعْوَةٍ
لِأَنَّ الْوَطْءَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ قُصِدَ منه ذلك أو لَا
وَلَنَا أَنَّ وَطْءَ الْأَمَةِ لَا يُقْصَدُ بِهِ حُصُولُ الْوَلَدِ عَادَةً
لِأَنَّهَا لَا تُشْتَرَى لِلْوَطْءِ عَادَةً بَلْ لِلِاسْتِخْدَامِ
وَالِاسْتِرْبَاحِ
وَلَوْ وَطِئَتْ فَلَا يُقْصَدُ بِهِ حُصُولُ الْوَلَدِ عَادَةً لِأَنَّ الْوَلَدَ
لَا يَحْصُلُ إلَّا بِتَرْكِ الْعَزْلِ وَالظَّاهِرُ في الْإِمَاءِ هو الْعَزْلُ
وَالْعَزْلُ بِدُونِ رِضَاهُنَّ مَشْرُوعٌ فَلَا يَكُونُ وَطْؤُهَا سَبَبًا
لِحُصُولِ الْوَلَدِ إلَّا بِقَرِينَةِ الدَّعْوَةِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى
علم ( ( ( علما ) ) ) بِقَرِينَةِ الدَّعْوَةِ أَنَّهُ وَطِئَهَا ولم يَعْزِلْ
عنها
وَالْوَطْءُ من غَيْرِ عَزْلٍ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ
حتى لو كان الْمَوْلَى وَطِئَهَا وَحَصَّنَهَا ولم يَعْزِلْ عنها لَا يَحِلُّ له
النَّفْيُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ بَلْ تَلْزَمُهُ
الدَّعْوَى وَالْإِقْرَارُ بِهِ
لِأَنَّهُ إذَا كان كَذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَلَدُهُ فَلَا يَحِلُّ له
نَفْيُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا خِلَافٍ بين
أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا وَطِئَهَا
____________________
(6/243)
وَحَصَّنَهَا
وَلَكِنْ عَزْل عنها أو لم يَعْزِلْ عنها وَلَكِنَّهُ لم يُحَصِّنْهَا قال أبو
حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه يَحِلُّ له النَّفْيُ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَبُّ إلى أَنْ يَدْعُوَ إذَا كان وَطِئَهَا
ولم يَعْزِلْ عنها وَإِنْ لم يُحَصِّنْهَا
وقال مُحَمَّدٌ عليه الرَّحْمَةُ أَحَبُّ إلى أَنْ يُعْتَقَ وَلَدُهَا
وَيَسْتَمْتِعُ بِأُمِّهِ إلَى أَنْ يَقْرُبَ مَوْتُهُ فَيُعْتِقُهَا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا ولم يَعْزِلْ عنها اُحْتُمِلَ
كَوْنُ الْوَلَدِ منه فَلَا يَحِلُّ له النَّفْيُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا لم يُحَصِّنْهَا اُحْتُمِلَ كَوْنُهُ من
غَيْرِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِقْرَارُ بِهِ بِالشَّكِّ لِأَنَّ غير الثَّابِتِ
بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ كما أَنَّ الثَّابِتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ
بِالشَّكِّ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا اُحْتُمِلَ كَوْنُهُ من غَيْرِهِ لَا
يَلْزَمُهُ الْإِقْرَارُ بِهِ كما قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلِمَا
اُحْتُمِلَ كَوْنُهُ منه لَا يَجُوزُ له النَّفْيُ أَيْضًا كما قَالَهُ أبو
يُوسُفَ لَكِنْ يَسْلُكُ فيه مَسْلَكَ الِاحْتِيَاطِ فَيُعْتَقُ الْوَلَدُ
صِيَانَةً عن اسْتِرْقَاقِ الْحُرِّ عَسَى وَيَسْتَمْتِعُ بِأُمِّهِ لِأَنَّ
الِاسْتِمْتَاعَ بِالْأَمَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ مُبَاحٌ وَيُعْتِقُهَا عِنْدَ
مَوْتِهِ صِيَانَةً عن اسْتِرْقَاقِ الْحُرَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ عَسَى
وَيَسْتَوِي في فِرَاشِ الْمِلْكِ مِلْكُ كل الْمَحَلِّ وَبَعْضِهِ وَمِلْكُ
الذَّاتِ وَمِلْكُ الْيَدِ في ثُبُوتِ النَّسَبِ
وَبَيَانُ ذلك في مَسَائِلَ إذَا حَمَلَتْ الْجَارِيَةُ في مِلْكِ رَجُلَيْنِ
فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ منه
لِأَنَّ ما له من الْمِلْكِ أَوْجَبَ النَّسَبَ بِقَدْرِهِ إلَّا أَنَّ النَّسَبَ
لَا يَتَجَزَّأُ فَمَتَى ثَبَتَ في الْبَعْضِ يَتَعَدَّى إلَى الْكُلِّ وَتَصِيرُ
الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهَا لِشَرِيكِهِ وَنِصْفُ
الْعُقْرِ وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ
وَهِيَ من مَسَائِلِ كِتَابِ الْعِتْقِ
وَلَوْ ادَّعَيَاهُ جميعا مَعًا فَهُوَ ابْنُهُمَا وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ
لَهُمَا
وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هو ابن أَحَدِهِمَا وَيَتَعَيَّنُ
بِقَوْلِ الْقَائِفِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ خَلْقَ وَلَدٍ وَاحِدٍ من مَاءِ فَحْلَيْنِ مُسْتَحِيلٌ
عَادَةً
ما أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَادَةَ بِذَلِكَ إلَّا في
الْكِلَابِ على ما قِيلَ فَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ إلَّا من أَحَدِهِمَا وَيُعْرَفُ
ذلك بِقَوْلِ الْقَائِفِ
فإن الشَّرْعَ وَرَدَ بِقَبُولِ قَوْلِ الْقَائِفِ في النَّسَبِ
فإنه روى أَنَّ قَائِفًا مَرَّ بِأُسَامَةَ وَزَيْدٍ وَهُمَا تَحْتَ قَطِيفَةٍ
وَاحِدَةٍ قد غَطَّى وُجُوهَهُمَا
وَأَرْجُلُهُمَا بَادِيَةٌ فقال إنَّ هذه الْأَقْدَامَ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا
فَسَمِعَ رسول اللَّهِ فَفَرِحَ بِذَلِكَ حتى كَادَتْ تَبْرُقُ أَسَارِيرُ
وَجْهِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
فَقَدْ اعْتَبَرَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَوْلَ الْقَائِفِ حَيْثُ لم
يَرُدَّ عليه
بَلْ قَرَّرَهُ بِإِظْهَارِ الْفَرَحِ
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ أَنَّهُ وَقَعَتْ
هذه الْحَادِثَةُ في زَمَنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فَكَتَبَ إلَى
شُرَيْحٍ لَبَّسَا فَلُبِّسَ عَلَيْهِمَا وَلَوْ بَيَّنَا لَبُيِّنَ لَهُمَا هو
ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ ولم
يُنْقَل أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا لِأَنَّ سَبَبَ
اسْتِحْقَاقِ النَّسَبِ بِأَصْلِ الْمِلْكِ وقد وُجِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
فَيَثْبُتُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ حِصَّةٌ لِلنَّسَبِ ثُمَّ يَتَعَدَّى لِضَرُورَةِ
عَدَمِ التَّجَزِّي فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الْكَمَالِ
وَأَمَّا فَرَحُ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَرْكُ الرَّدِّ
وَالنُّكُرِ فَاحْتُمِلَ أَنَّهُ لم يَكُنْ لِاعْتِبَارِهِ قَوْلَ الْقَائِفِ
حُجَّةً بَلْ لِوَجْهٍ آخَرَ وهو أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَطْعَنُونَ في نَسَبِ
أُسَامَةَ رضي اللَّهُ عنه وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ الْقِيَافَةَ فلما قال
الْقَائِفُ ذلك فَرِحَ رسول اللَّهِ لِظُهُورِ بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ بِمَا هو
حُجَّةٌ عِنْدَهُمْ فَكَانَ فَرَحُهُ في الْحَقِيقَةِ بِزَوَالِ الطَّعْنِ بِمَا
هو دَلِيلُ الزَّوَالِ عِنْدَهُمْ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً
وَكَذَلِكَ لو كانت الْجَارِيَةُ بين ثَلَاثَةٍ أو أَرْبَعَةٍ أو خَمْسَةٍ
فَادَّعَوْهُ جميعا مَعًا فَهُوَ ابْنُهُمْ جميعا ثَابِتُ نَسَبِهِ منهم
وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لهم عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ لَا
يَثْبُتُ من أَكْثَرَ من اثْنَيْنِ وقال مُحَمَّدٌ لَا يَثْبُتُ من أَكْثَرَ من
ثَلَاثَةٍ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى ثُبُوتَ النَّسَبِ من
أَكْثَرَ من رَجُلٍ وَاحِدٍ لِمَا ذَكَرنَا لِلشَّافِعِيِّ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا
الْقِيَاسَ في رَجُلَيْنِ بِأَثَرِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه
فَبَقِيَ حُكْمُ الزِّيَادَةِ مَرْدُودًا إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْحَمْلَ الْوَاحِدَ يَجُوزُ أَنْ يَكُون
ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ منهم يَجُوزُ أَنْ يُخْلَقَ من مَاءٍ على
حِدَةٍ وقد جاء عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَثْبَتَ
النَّسَبَ من ثَلَاثَةٍ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ على الثَّلَاثَةِ في بَطْنٍ وَاحِدٍ
فَنَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ فَالشَّرْعُ الْوَارِدُ في الِاثْنَيْنِ يَكُونُ
وَارِدًا في الثَّلَاثَةِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِثَبَاتِ النَّسَبِ لَا يَفْصِلُ بين
عَدَدِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمْسَةِ فَالْفَصْلُ بين عَدَدٍ وَعَدَدٍ يَكُونُ
تَحَكُّمًا من غَيْرِ دَلِيلٍ وَسَوَاءٌ كانت الْأَنْصِبَاءُ مُتَّفِقَةً أو
مُخْتَلِفَةً بِأَنْ كان لِأَحَدِهِمْ السُّدُسُ وَلِلْآخَرِ الرُّبْعُ
وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ وَلِلْآخَرِ ما بَقِيَ فَالْوَلَدُ ابْنُهُمْ جميعا
فَحُكْمُ النَّسَبِ لَا يَخْتَلِفُ لِأَنَّ سَبَبَ ثَبَاتِ النَّسَبِ هو أَصْلُ
الْمِلْكِ لَا صِفَةُ الْمَالِكِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَم
وَأَمَّا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ فَيَثْبُتُ في نَصِيبِ كل
____________________
(6/244)
وَاحِدٍ
بِقَدْرِ حِصَّتِهِ من الْمِلْكِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى نَصِيبِ غَيْرِهِ
وَلَوْ كانت الْجَارِيَةُ بين الْأَبِ وَالِابْنِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ
فَادَّعَيَاهُ جميعا مَعًا فَالْأَبُ أَوْلَى عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُمَا جميعا وَجْهُ
قَوْلِهِ أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا في سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وهو أَصْلُ الْمِلْكِ
فَيَسْتَوِيَانِ في الِاسْتِحْقَاقِ
وَلَنَا إن التَّرْجِيحَ لِجَانِبِ الْأَبِ لِأَنَّ نِصْفَ الْجَارِيَةِ مِلْكُهُ
حَقِيقَةً وَلَهُ حَقُّ تَمْلِيكِ النِّصْفِ الْآخِرِ وَلَيْسَ لِلِابْنِ إلَّا
مِلْكُ النِّصْفِ فَكَانَ الْأَبُ أَوْلَى وَيَتَمَلَّكُ نَصِيبَ الِابْنِ من
الْجَارِيَةِ بِالْقِيمَةِ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ في نَصِيبِهِ
لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ في الْبَعْضِ دُونَ
الْبَعْضِ كما في الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بين الْأَجْنَبِيَّيْنِ وَيَضْمَنُ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ نِصْفَ الْعُقْرِ لِأَنَّ الْوَطْءَ من كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا في قَدْرِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ حَصَلَ في غَيْرِ الْمِلْكِ كما في
الْأَجْنَبِيَّيْنِ يَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الْعُقْرِ لِلْآخَرِ
ثُمَّ يَكُون النِّصْفُ بِالنِّصْفِ قِصَاصًا كما في الْأَجَانِبِ وَهَذَا
بِخِلَافِ حَالَةِ الِانْفِرَادِ فإن أَمَةً الرجل ( ( ( لرجل ) ) ) إذَا جَاءَتْ
بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَبُوهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ منه وَلَا عُقْرَ عليه عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ صَارَ مُتَمَلِّكًا الْجَارِيَةَ
ضَرُورَةَ صِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ سَابِقًا عليه أو مُقَارِنًا له لِانْعِدَامِ
حَقِيقَةِ الْمِلْكِ فَجُعِلَ الْوَطْءُ في الْمِلْكِ وَهَهُنَا الِاسْتِيلَادُ
صَحِيحٌ بِدُونِ التَّمَلُّكِ لِقِيَامِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ في النِّصْفِ فَلَا
حَاجَةَ إلَى التَّمَلُّكِ لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ وَأَنَّهُ صَحِيحٌ بِدُونِهِ
وَإِنَّمَا يُثْبِتُ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ في نَصِيبِهِ لِأَنَّهُ
يَحْتَمِلُ التجزي ( ( ( التجزؤ ) ) ) على ما ذَكَرنَا هو الْفَرْقُ وَكَذَلِكَ
الْجَدُّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ
وَلَوْ كان بين الْجَدِّ وَالْحَافِدِ جَارِيَةٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ
مَعًا وَالْأَبُ حَيٌّ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُمَا جميعا لِأَنَّ الْجَدَّ حَالَ
قِيَامِ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ ادَّعَى الْوَلَدَ أَحَدُ
الْمَالِكِينَ وَأَبُ الْمَالِكِ الْآخَرِ فَالْمَالِكُ أَوْلَى لِأَنَّ له
حَقِيقَةَ الْمِلْكِ وَلِأَبٍ الْمَالِكِ الْآخَرِ حَقُّ التَّمَلُّكِ فَكَانَ
الْمَالِكُ الْحَقِيقِيُّ أَوْلَى
هذا كُلُّهُ إذَا كان الشَّرِيكَانِ الْمُدَّعِيَانِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ
فَإِنْ كان أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا فَالْحُرُّ أَوْلَى لِأَنَّ
إثْبَاتَ النَّسَبِ منه أَنْفَعُ حَيْثُ يَصِلُ هو إلَى حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ
وَأُمُّهُ إلَى حَقِّ الْحُرِّيَّةِ
وَكَذَلِكَ لو كان أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا مُكَاتَبًا فَالْحُرُّ
أَوْلَى لِأَنَّ الْوَلَدَ يَصِلُ إلَى حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ وَلَوْ كان
أَحَدُهُمَا مُكَاتَبًا وَالْآخَرُ عَبْدًا فَالْمُكَاتَبُ أَوْلَى لِأَنَّهُ
حُرٌّ يَدًا فَكَانَ أَنْفَعَ لِلْوَلَدِ وَلَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ يَثْبُتُ
النَّسَبُ مِنْهُمَا جميعا لَكِنْ هل يُشْتَرَطُ فيه تَصْدِيقُ الْمَوْلَى فيه رِوَايَتَانِ
وَمِنْهُمْ من وَفَّقَ بين الرِّوَايَتَيْنِ فَحَمَلَ شَرْطَ التَّصْدِيقِ على ما
إذَا كان الْعَبْدُ مَحْجُورًا وَحَمَلَ الْأُخْرَى على ما إذَا كان مَأْذُونًا
عَمَلًا بِهِمَا جميعا
وَلَوْ كان أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ ذِمِّيًّا فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى
اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا وهو رِوَايَةُ
الْحَسَنِ عن أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ النَّسَبَ حُكْمُ الْمِلْكِ وقد اسْتَوَيَا في الْمِلْكِ
فَيَسْتَوِيَانِ في حُكْمِهِ كما في سَائِرِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ
بِالْمِلْكِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ من الْمُسْلِمِ أَنْفَعُ
لِلصَّبِيِّ لِأَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا له وَكَذَلِكَ لو كان
أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا فَالْقِيَاسُ أَنْ يَثْبُتَ
النَّسَبُ مِنْهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا في الْمِلْكِ وفي الِاسْتِحْسَانِ
الْكِتَابِيُّ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ من الْمَجُوسِيِّ
فَكَانَ أَنْفَعَ لِلصَّبِيِّ
وَلَوْ كان أَحَدُهُمَا عَبْدًا مُسْلِمًا أو مُكَاتَبًا مُسْلِمًا وَالْآخَر
حُرًّا كَافِرًا فَالْحُرُّ أَوْلَى لِأَنَّ هذا أَنْفَعُ لِلصَّبِيِّ لِأَنَّهُ
يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتَسِبَ الْإِسْلَامَ بِنَفْسِهِ إذَا عَقَلَ وَلَا يُمْكِنُهُ
اكْتِسَابُ الْحُرِّيَّةِ بِحَالٍ وَلَوْ كان أَحَدُهُمَا ذِمِّيًّا وَالْآخَرُ
مُرْتَدًّا فَهُوَ ابن الْمُرْتَدِّ لِأَنَّ وَلَدَ الْمُرْتَدِّ على حُكْمِ
الْإِسْلَامِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا بَلَغَ كَافِرًا يُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ وإذا
أُجْبِرَ عليه فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُسْلِمُ فَكَانَ هذا أَنْفَعَ لِلصَّبِيِّ
هذا كُلُّهُ إذَا خَرَجَتْ دَعْوَةُ الشَّرِيكَيْنِ مَعًا فَأَمَّا إذَا سَبَقَتْ
دَعْوَةُ أَحَدِهِمَا في هذه الْفُصُولِ كُلِّهَا كَائِنًا من كان فَهُوَ أَوْلَى
لِأَنَّ النَّسَبَ إذَا ثَبَتَ من إنْسَانٍ في زَمَانٍ لَا يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ
من غَيْرِهِ بَعْدَ ذلك الزَّمَانِ
هذا إذَا حَمَلَتْ الْجَارِيَةُ في مِلْكِهِمَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ
أَحَدُهُمَا أو ادَّعَيَاهُ جميعا
فَأَمَّا إذَا كان الْعُلُوقُ قبل الشِّرَاءِ بِأَنْ اشْتَرَيَاهَا وَهِيَ حَامِلٌ
فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا
فَأَمَّا حُكْمُ نَسَبِ الْوَلَدِ وَصَيْرُورَةُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ له
وَضَمَانُ نِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ مُوسِرًا كان أو مُعْسِرًا فَلَا يَخْتَلِفُ
وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الْعُقْرِ وَالْوَلَدِ فَلَا يَجِبُ الْعُقْرُ هُنَا وَيَجِبُ
هُنَاكَ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ هُنَا لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْوَطْءِ
لِتَيَقُّنِنَا بِعَدَمِ الْعُلُوقِ في الْمِلْكِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ
وَالْوَلَدُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ بين شَرِيكَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا
لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعُلُوقِ لم يَكُنْ في مِلْكِهِ فلم يَجُزْ إسْنَادُ
الدَّعْوَى إلَى حَالَةِ الْعُلُوقِ إلَّا أَنَّهُ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدٍ بَعْضُهُ
على مِلْكِهِ وَدَعْوَى الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْإِعْتَاقِ
وَلَوْ أَعْتَقَ هذا
____________________
(6/245)
الْوَلَدَ
يَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ منه إنْ كان مُوسِرًا ولم يَضْمَنْ إنْ كان مُعْسِرًا
كَذَا هذا بِخِلَافِ ما إذَا عَلِقَتْ الْجَارِيَةُ في ملكهما ( ( ( ملكها ) ) )
لِأَنَّ هُنَاكَ اسْتَنَدَتْ الدَّعْوَةُ إلَى حَالِ الْعُلُوقِ فَسَقَطَ
الضَّمَانُ وَهُنَا لَا تَسْتَنِدُ فَلَا بُدَّ من إفْرَادِ الْوَلَدِ
بِالضَّمَانِ وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا
وَإِنْ ادَّعَيَاهُ فَهُوَ ابْنُهُمَا وَلَا عُقْرَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا على
صَاحِبِهِ كما في الْأَوَّلِ وَلَا يَفْتَرِقَانِ إلَّا في الْوَلَاءِ فَإِنْ
ثَبَتَ هُنَا لَا يَثْبُتُ هُنَاكَ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ ثَمَّةَ دَعْوَةُ
الِاسْتِيلَادِ فَيُعَلَّقُ الْوَلَدُ حُرًّا وَالدَّعْوَةُ هُنَا دَعْوَةُ
تَحْرِيرٍ وَأَنَّهُ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْوَلَاءِ قال عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَلَوْ كانت الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرَاةُ
زَوْجَةَ أَحَدِهِمَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ يَثْبُتُ
نَسَبُهُ من الزَّوْجِ من غَيْرِ دَعْوَةٍ لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ
من سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَقَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّ عُلُوقَ الْوَلَدِ كان من
النِّكَاحِ وَعَقْدُ النِّكَاحِ يُوجِبُ الْفِرَاشَ بِنَفْسِهِ وَيَضْمَنُ نِصْفَ
قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ له فَصَارَ مُتَمَلِّكًا
نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِالْقِيمَةِ وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ
عَتَقَ عليه من غَيْرِ صُنْعِهِ
وَلَوْ اشْتَرَى إخوان جَارِيَةً حَامِلًا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ
أَحَدُهُمَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ منه وَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَةِ الْوَلَدِ لِأَنَّ
دَعْوَتَهُ دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ فإذا ادَّعَاهُ فَقَدْ حَرَّرَهُ وَالتَّحْرِيرُ
إتْلَافُ نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ وَلَا يُعْتَقُ الْوَلَدُ
على عَمِّهِ بِالْقَرَابَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ من أَخِيهِ إعْتَاقٌ حَقِيقَةً
فَيُضَافُ الْعِتْقُ إلَيْهِ لَا إلَى الْقَرَابَةِ هذا إذَا وَلَدَتْ
الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرَكَةُ وَلَدًا فَادَّعَاهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أو
ادَّعَيَاهُ جميعا فَأَمَّا إذَا وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا وَلَدًا على حِدَةٍ
فَنَقُولُ هذا في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو إمَّا إن وَلَدَتْهُمَا في بَطْنٍ وَاحِدٍ
وَإِمَّا إن وَلَدَتْهُمَا في بَطْنَيْنِ مُخْتَلِفِينَ وَالدَّعْوَتَانِ إمَّا إن
خَرَجَتَا جميعا مَعًا وَإِمَّا أَنْ سَبَقَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى فَإِنْ
وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ الْوَلَدَيْنِ في بَطْنٍ وَاحِدٍ فَإِنْ خَرَجَتْ
الدَّعْوَتَانِ جميعا مَعًا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدَيْنِ مِنْهُمَا جميعا لِأَنَّ
دَعْوَةَ أَحَدِ التَّوْأَمَيْنِ دَعْوَةُ الْآخَرِ لِاسْتِحَالَةِ الْفَصْلِ
بَيْنَهُمَا في النَّسَبِ لِعُلُوقِهِمَا من مَاءٍ وَاحِدٍ فَكَانَتْ دَعْوَةُ
أَحَدِهِمَا دَعْوَةَ الْآخَرِ ضَرُورَةً وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَةِ
ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدَيْنِ منه لِأَنَّهُ ثَبَتَ نَسَبُ المدعي وَمِنْ
ضَرُورَتِهِ ثُبُوتُ نَسَبِ الْآخَرِ وَعَتَقَا جميعا لِعُلُوقِهِمَا حُرَّيْ
الْأَصْلِ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَغَرِمَ نِصْفَ الْعُقْرِ
وَنِصْفَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا وَلَدَتْهُمَا في بَطْنٍ وَاحِدٍ فَأَمَّا إذَا وَلَدَتْهُمَا في
بَطْنَيْنِ مُخْتَلِفِينَ فَإِنْ خَرَجَتْ الدَّعْوَتَانِ جميعا مَعًا ثَبَتَ
نَسَبُ الْأَكْبَرِ من مُدَّعِي الْأَكْبَرِ بِلَا شَكٍّ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ
أُمَّ وَلَدٍ له وَغَرِمَ نِصْفَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَنِصْفَ الْعُقْرِ
لِمُدَّعِي الْأَصْغَرِ وَهَلْ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ الْأَصْغَرِ من مُدَّعِي
الْأَصْغَرِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ إلَّا بِتَصْدِيقِ مُدَّعِي
الْأَكْبَرِ وفي الِاسْتِحْسَانِ يَثْبُتُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْجَارِيَةَ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِمُدَّعِي
الْأَكْبَرِ لِثُبُوتِ نَسَبِ الْأَكْبَرِ منه فَمُدَّعِي الْأَصْغَرِ يَدَّعِي
وَلَدَ أُمِّ وَلَدِ الْغَيْرِ
وَمَنْ ادَّعَى وَلَدَ أُمِّ وَلَدِ الْغَيْرِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ منه إلَّا
بِتَصْدِيقِهِ ولم يُوجَدْ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مُدَّعِيَ الْأَكْبَرِ غَيْرُ مُدَّعِي الْأَصْغَرِ
حَيْثُ أَخَّرَ الدَّعْوَةَ إلَى دَعْوَتِهِ فَصَارَ مُدَّعِي الْأَصْغَرِ
بِتَأْخِيرِ دَعْوَةِ الْأَكْبَرِ مَغْرُورًا من جِهَتِهِ وَوَلَدُ الْمَغْرُور
ثَابِتُ النَّسَبِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ وَعَلَى مُدَّعِي الْأَصْغَرِ الْعُقْرُ
لِمُدَّعِي الْأَكْبَرِ لَكِنَّ نَصِفَ الْعُقْرِ أو كُلَّهُ فَفِيهِ اخْتِلَافُ
الرِّوَايَتَيْنِ وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ لِأَنَّ رِوَايَةَ نِصْفِ
الْعُقْرِ على مُدَّعِي الْأَصْغَرِ جَوَابُ حَاصِلِ ما عليه من الْعُقْر بَعْدَ
الْقِصَاصِ وهو النِّصْفُ
وَرِوَايَةُ الْكُلِّ بَيَانُ ما عليه قِبَلَهُ لِأَنَّ مُدَّعِيَ الْأَكْبَرِ قد
غَرِمَ نِصْفَ الْعُقْرِ لِمُدَّعِي الْأَصْغَرِ فَالنِّصْفُ بِالنِّصْفِ
يَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا فَلَا يَبْقَى على مُدَّعِي الْأَصْغَرِ بَعْدَ
الْمُقَاصَّةِ إلَّا النِّصْفَ فَأَمْكَنَ التَّوْفِيقُ بين الرِّوَايَتَيْنِ من
هذا الْوَجْهِ وَعَلَى مُدَّعِي الْأَصْغَرِ قِيمَةُ الْوَلَدِ الْأَصْغَرِ
لِأَنَّهُ وَلَدُ الْمَغْرُورِ وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ
بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ
فَإِذًا على مُدَّعِي الْأَصْغَرِ نِصْفُ الْعُقْرِ وَكُلُّ قِيمَةِ الْوَلَدِ
وَعَلَى مُدَّعِي الْأَكْبَرِ نِصْفُ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِصَيْرُورَتِهَا أُمَّ
وَلَدٍ له فَيَصِيرُ نِصْفُ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ الذي على مُدَّعِي الْأَكْبَرِ
قِصَاصًا بِنِصْفِ الْعُقْرِ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ الذي على مُدَّعِي الْأَصْغَرِ
وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ
هذا إذَا خَرَجَتْ الدَّعْوَتَانِ جميعا مَعًا فَادَّعَى أَحَدُهُمَا الْأَكْبَرَ
وَالْآخَرُ الْأَصْغَرَ فَأَمَّا إذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَةِ فَإِنْ
ادَّعَى السَّابِقُ الْأَكْبَرَ أَوَّلًا فَقَدْ ثَبَتَ نَسَبُ الْأَكْبَرِ منه
وَعَتَقَ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَغَرِمَ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ
قِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَنِصْفَ الْعُقْرِ
بَعْدَ ذلك إذَا ادَّعَى الْآخَرُ الْأَصْغَرَ فَقَدْ ادَّعَى وَلَدَ أُمِّ وَلَدِ
الْغَيْرِ فَلَا بُدَّ من التَّصْدِيقِ لِثَبَاتِ النَّسَبِ فَإِنْ صَدَّقَهُ
ثَبَتَ النَّسَبُ وَيَكُونُ على حُكْمِ أُمِّهِ
وَإِنْ كَذَّبَهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ
هذا إذَا ادَّعَى السَّابِقُ بِالدَّعْوَةِ الْأَكْبَرَ
____________________
(6/246)
أَوَّلًا
فَأَمَّا إذَا ادَّعَى الْأَصْغَرَ أَوَّلًا ثَبَتَ نَسَبُ الْأَصْغَرِ منه
وَعَتَقَ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا
وَنِصْفَ عُقْرِهَا لِشَرِيكِهِ الْآخَرِ وَالْأَكْبَرُ يعد رَقِيقٌ بَيْنَهُمَا
لِأَنَّهُ وَلَدُ جَارِيَةٍ مَمْلُوكَةٍ بَيْنَهُمَا لم يَدَّعِهِ أَحَدٌ فإذا
ادَّعَاهُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ بَعْدَ ذلك صَارَ كَعَبْدٍ بين اثْنَيْنِ
أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ منه وَالشَّرِيكُ
الْآخَرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ
الْمُعْتِقَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ إنْ كان مُوسِرًا وَإِنْ كان مُعْسِرًا فَلَهُ
خِيَارُ الْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِسْعَاءِ لَا غَيْرُ
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا إنْ كان مُوسِرًا
فَلَهُ تَضْمِينُ الْمُوسِرِ لَا غَيْرُ وَإِنْ كان مُعْسِرًا فَلَهُ
الِاسْتِسْعَاءُ على ما عُلِمَ في كِتَابِ الْعَتَاقِ
وَلَوْ قال أَحَدُهُمَا الْأَكْبَرُ ابْنِي وَالْأَصْغَرُ ابن شَرِيكِي ثَبَتَ
نَسَبُ الْأَكْبَرِ منه وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَضَمِنَ نِصْفَ
قِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَنِصْف الْعُقْرِ لِشَرِيكِهِ وَالْأَصْغَرُ وَلَدُ أُمِّ
وَلَدِهِ أَقَرَّ بِنَسَبِهِ لِشَرِيكِهِ فَإِنْ صَدَّقَهُ شَرِيكُهُ ثَبَتَ
نَسَبُهُ منه وَلَا يُعْتَقُ وَإِنْ كَذَّبَهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ
وَكَذَلِكَ لو قَدَّمَ وَأَخَّرَ بِأَنْ قال الْأَصْغَرُ ابْنِي وَالْأَكْبَرُ ابن
شَرِيكِي ثَبَتَ نَسَبُ الْأَصْغَرِ منه وَنَسَب الْأَكْبَرِ مَوْقُوفٌ على
تَصْدِيقِ شَرِيكِهِ
وَلَوْ قال أَحَدُهُمَا الْأَصْغَرُ ابْنِي وَالْأَكْبَرُ ابن شَرِيكِي أو قَدَّمَ
وَأَخَّرَ فقال الْأَكْبَرُ ابن شَرِيكِي وَالْأَصْغَرُ ابْنِي ثَبَتَ نَسَبُ
الْأَصْغَرِ منه وَعَتَقَ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَعَتَقَ
وَضَمِنَ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَنِصْفَ الْعُقْرِ وَنَسَبُ
الْأَكْبَرِ مَوْقُوفٌ على تَصْدِيقِ شَرِيكِهِ فَإِنْ صَدَّقَهُ ثَبَتَ النَّسَبِ
منه وَيَغْرَمُ لِمُدَّعِي الْأَصْغَرِ نِصْفَ قِيمَةِ الْأَكْبَرِ وَإِنْ
كَذَّبَهُ صَارَ كَعَبْدٍ بين شَرِيكَيْنِ شَهِدَ أَحَدُهُمَا على صَاحِبِهِ
بِالْإِعْتَاقِ وَكَذَّبَهُ صَاحِبُهُ لِمَا عُلِمَ في كِتَابِ الْعَتَاقِ
وَلَوْ وَلَدَتْ جَارِيَةٌ في يَدِ إنْسَانٍ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فَادَّعَى
أَحَدُهُمْ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ وُلِدُوا في بَطْنٍ وَاحِدٍ وَإِمَّا
إنْ وُلِدُوا في بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ ادَّعَى أَحَدُهُمْ
بِعَيْنِهِ وَإِمَّا إنْ ادَّعَى أَحَدُهُمْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَإِنْ وُلِدُوا في
بَطْنٍ وَاحِدٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فقال أَحَدُ هَؤُلَاءِ
ابْنِي أو عَيَّنَ وَاحِدًا منهم فقال هذا ابْنِي عَتَقُوا وَثَبَتَ نَسَبُ
الْكُلِّ منه لِأَنَّ من ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمْ ثُبُوتُ نَسَبِ
الْبَاقِينَ لِأَنَّهُمْ تَوْأَمٌ عَلِقُوا من مَاءٍ وَاحِدٍ فَلَا يُفْصَلُ بين
الْبَعْضِ وَالْبَعْضِ في النَّسَبِ
وإذا ثَبَتَ نَسَبُهُمْ صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له
هذا إذَا وُلِدُوا في بَطْنٍ وَاحِدٍ
وَأَمَّا إذَا وُلِدُوا في بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ فقال الْأَكْبَرُ وَلَدِي ثَبَتَ
نَسَبُهُ منه وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَهَلْ يَثْبُتُ نَسَبُ
الْأَوْسَطِ وَالْأَصْغَرِ الْقِيَاسُ أَنْ يَثْبُتَ وهو قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا حُكْمَ الْأُمِّ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَثْبُتُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ الْأَكْبَرِ فَقَدْ
صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له فَكَانَ الْأَوْسَطُ وَالْأَصْغَرُ وَلَدَ
أُمِّ الْوَلَدِ وَوَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ من مَوْلَاهَا من
غَيْرِ دَعْوَةٍ ما لم يُوجَدْ النَّفْيُ منه ولم يُوجَدْ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النَّفْيَ فيه وَإِنْ لم يُوجَدْ نَصًّا فَقَدْ
وُجِدَ دَلَالَةً وهو الْإِقْدَامُ على تَخْصِيصِ أَحَدِهِمْ بِالدَّعْوَةِ فإن
ذلك دَلِيلُ نَفْيِ الْبَوَاقِي إذْ لو لم يَكُنْ كَذَلِكَ لم يَكُنْ لِتَخْصِيصِ
الْبَعْضِ مع اسْتِوَاءِ الْكُلِّ في اسْتِحْقَاقِ الدَّعْوَةِ مَعْنًى
هذا إذَا ادَّعَى الْأَكْبَرُ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى الْأَوْسَطُ فَهُوَ حُرٌّ
ثَابِتُ النَّسَبِ منه وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَالْأَكْبَرُ
رَقِيقٌ لِأَنَّهُ وَلَدٌ على مِلْكِهِ ولم يَدَّعِهِ أَحَدٌ وَهَلْ يَثْبُتُ
نَسَبُ الْأَصْغَرِ فَهُوَ على ما ذَكَرنَا من الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانُ
هذا إذَا ادَّعَى الْأَوْسَطُ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى الْأَصْغَرُ فَهُوَ حُرٌّ
ثَابِتُ النَّسَبِ وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ له وَالْأَكْبَرُ وَالْأَوْسَطُ
رَقِيقَانِ لِمَا ذَكَرنَا
هذا إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمْ بِعَيْنِهِ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى بِغَيْرِ عَيْنِهِ
فقال أَحَدُ هَؤُلَاءِ ابن ( ( ( ابني ) ) ) فَإِنْ بَيَّنَ فَالْحُكْمُ فيه ما
ذَكَرنَا وَإِنْ مَاتَ قبل الْبَيَانِ عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ بِلَا شَكٍّ
لِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى نَسَبَ أَحَدِهِمْ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ الْجَارِيَةَ
أُمُّ وَلَدٍ له وَأُمُّ الْوَلَدِ تُعْتَقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ
وَأَمَّا حُكْمُ الْأَوْلَادِ في الْعِتْقِ فَقَدْ ذَكَرنَا الِاخْتِلَافَ فيه بين
أبي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عليهم في كِتَابِ الْعَتَاقِ
عَبْدٌ صَغِيرٌ بين اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ ادَّعَاهُ الْآخَرُ
ثَبَتَ نَسَبُهُ منه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَنِصْفُ ولأنه ( ( (
ولائه ) ) ) لَلْآخَرِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِنَاءً على أَنَّ
الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ فَيَبْقَى نَصِيبُ الْمُدَّعِي على مِلْكِهِ
فَتَصِحُّ دَعْوَتُهُ فيه وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَيُعْتَقُ الْكُلُّ فلم
يَبْقَ لِلْمُدَّعِي فيه مِلْكٌ فلم تَصِحَّ دَعْوَتُهُ
وَإِنْ كان الْعَبْدُ كَبِيرًا فَكَذَلِكَ عِنْدَهُ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّهُ
يَبْقَى الْمِلْكُ له في نَصِيبِهِ وَعِنْدَهُمَا إنْ صَدَّقَهُ الْعَبْدُ ثَبَتَ
النَّسَبُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ عَتَقَ كُلُّهُ بِإِعْتَاقِ الْبَعْضِ فَلَا
بُدَّ من تَصْدِيقِهِ
وَيُخَرَّجُ على الْأَصْلِ الذي ذَكَرْنَا دَعْوَةُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَلَدَ
جَارِيَةٍ من أَكْسَابِهِ أنها تَصِحُّ وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوُلْدِ منه لِأَنَّ
مِلْكَ الْيَدِ ثَابِتٌ له وَأَنَّهُ كَافٍ لِثَبَاتِ
____________________
(6/247)
النَّسَبِ
وَلَوْ ادَّعَى الْمُضَارِبُ وَلَدَ جَارِيَةِ الْمُضَارَبَةِ لم تَصِحَّ دَعْوَتُهُ
إذَا لم يَكُنْ في الْمُضَارِبِ رِبْحٌ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِثَبَاتِ النَّسَبِ
من مِلْكٍ وَلَا مِلْكَ لِلْمُضَارِبِ أَصْلًا لَا مِلْكُ الذَّاتِ وَلَا مِلْكُ
الْيَدِ إذَا لم يَكُنْ في الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ
وَلَوْ ادَّعَى وَلَدًا من جَارِيَةٍ لِمَوْلَاهُ ليس من تِجَارَتِهِ وَادَّعَى
أَنَّ مَوْلَاهَا أَحَلَّهَا له أو زَوَّجَهَا منه لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ منه
إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عن مِلْكِ الْمَوْلَى
لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ له فيه أَصْلًا فَالْتَحَقَ بِسَائِرِ الْأَجَانِبِ إلَّا
في الْحَدِّ فَإِنْ كَذَّبَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ عَتَقَ فَمَلَكَ الْجَارِيَةَ
بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ نَفَذَتْ دَعْوَتُهُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِجِهَةٍ
مُصَحِّحَة لِلنَّسَبِ لَكِنْ تَوَقَّفَ نَفَاذُهُ لِحَقِّ الْمَوْلَى وقد زَالَ
وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمَأْذُونُ حُرَّةً أو أَمَةً فَوَطِئَهَا ثَبَتَ النَّسَبُ
منه سَوَاءٌ كان النِّكَاحُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى أو لَا لِأَنَّ النَّسَبَ ثَبَتَ
بِالنِّكَاحِ صَحِيحًا كان أو فَاسِدًا وَعَلَى هذا دَعْوَةُ الْمُكَاتَبِ وَلَدَ
جَارِيَةٍ من أَكْسَابِهِ صَحِيحَةً لِأَنَّ مِلْكَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ
ثَابِتٌ له كَالْمَأْذُونِ
وإذا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ منه لم يَجُزْ بَيْعُ الْوَلَدِ وَلَا بَيْعُ
الْجَارِيَةِ أَمَّا الْوَلَدُ فَلِأَنَّهُ مُكَاتَبٌ عليه وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ
الْمُكَاتَبِ وَأَمَّا الْأُمُّ فَلِأَنَّهُ له فيها حَقُّ مِلْكٍ يَنْقَلِبُ ذلك
الْحَقُّ حَقِيقَةً عِنْدَ الْأَدَاءِ فَمُنِعَ من بَيْعِهَا وَالْعَبْدُ
الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ سَوَاءٌ في دَعْوَى النَّسَبِ وَكَذَا الْمُكَاتَبُ
الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُنَافِي النَّسَبَ
وَيَسْتَوِي في دَعْوَتِهِ الِاسْتِيلَادَ وُجُودُ الْمِلْكِ وَعَدَمُهُ عِنْدَ
الدَّعْوَةِ بَعْدَ أَنْ كان الْعُلُوقُ في الْمِلْكِ فَإِنْ كان الْعُلُوقُ في
غَيْرِ الْمِلْكِ كانت دَعْوَتُهُ دَعْوَةَ تَحْرِيرٍ فَيُشْتَرَطُ قِيَامُ
الْمِلْكِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ فَإِنْ كان في مِلْكِهِ يَصِحُّ وَإِنْ كان في
مَلَكِ غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِشَرْطِ التَّصْدِيقِ أو الْبَيِّنَةِ
فَنَقُولُ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الدَّعْوَةَ نَوْعَانِ دَعْوَةُ
الِاسْتِيلَادِ وَدَعْوَةُ تَحْرِيرٍ فَدَعْوَةُ الِاسْتِيلَادِ هِيَ أَنْ يَكُونَ
عُلُوقُ المدعي في مِلْكِ الْمُدَّعِي وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ تَسْتَنِدُ إلَى
وَقْتِ الْعُلُوقِ وَتَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْوَطْءِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ
عَلِقَ حُرًّا وَدَعْوَةُ التَّحْرِيرِ هو أَنْ يَكُونَ عُلُوقُ المدعي في غَيْرِ
مِلْكِ الْمُدَّعِي وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ تَقْتَصِرُ على الْحَالِ وَلَا
تَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْوَطْءِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَقْتَ الْعُلُوقِ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ في مَسَائِلَ إذَا وَلَدَتْ جَارِيَةٌ في مِلْكِ رَجُلٍ
لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فلم يَدَّعِ الْوَلَدَ حتى بَاعَ الْأُمَّ
وَالْوَلَدَ ثُمَّ ادَّعَى الْوَلَدَ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ منه
وَعَتَقَ وَظَهَرَ أَنَّ الْجَارِيَةَ أُمُّ وَلَدٍ له وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ في
الْجَارِيَةِ وفي وَلَدِهَا وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وفي الْقِيَاسِ أَنْ لَا تَصِحَّ
دَعْوَتُهُ وَلَا يَثْبُتَ النَّسَبُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قِيَامَ الْمِلْكِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ ليس بِشَرْطٍ
لِصِحَّةِ هذه الدَّعْوَةِ بَلْ الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ عُلُوقُ الْوَلَدِ في
الْمِلْكِ لِأَنَّ هذه الدَّعْوَةَ تَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فإذا كان
عُلُوقُ الْوَلَدِ في مِلْكِ الْمُدَّعِي فَقَدْ ثَبَتَ له حَقُّ اسْتِحْقَاقِ
النَّسَبِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ كما لَا يَحْتَمِلُ حَقِيقَةَ
النَّسَبِ فلم يَبْطُلْ الْبَيْعُ وَصَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَظَهَرَ أَنَّ
الْجَارِيَةَ كانت أُمَّ وَلَدٍ فلم يَصِحَّ بَيْعُهَا وَبَيْعُ وَلَدِهَا
فَيَرُدُّهَا وَوَلَدَهَا وَيَرُدُّ الثَّمَنَ وَلَوْ لم يَدَّعِهِ الْبَائِعُ حتى
خَرَجَ عن مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ يُنْظَرُ إنْ كان ذلك
يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ يَفْسَخُ وَإِنْ لم يَحْتَمِلْهُ لَا يَفْسَخُ إلَّا
لِضَرُورَةٍ فَنَقُولُ بَيَانُهُ إذَا كان الْمُشْتَرِي بَاعَ الْوَلَدَ أو
وَهَبَهُ أو رَهْنه أو آجَرَهُ أو كَاتَبَهُ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ نَقَضَ ذلك
وَثَبَتَ النَّسَبُ لِأَنَّ هذه التَّصَرُّفَاتِ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ
وَالنَّقْضَ
وَكَذَلِكَ لو كان الْمُشْتَرِي بَاعَ الْأُمَّ أو كَاتَبَهَا أو رَهَنَهَا أو
آجَرَهَا أو زَوَّجَهَا لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كان أَعْتَقَهَا أو أَعْتَقَ الْوَلَدَ لم تَصِحَّ دَعْوَةِ الْبَائِعِ
لِأَنَّ الْعِتْقَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ إلَّا
لِضَرُورَةٍ لِأَنَّهُ يَعْقُبُهُ أثرا ( ( ( أثر ) ) ) لَا يَحْتَمِلُ
الْبُطْلَانَ وهو الْوَلَاءُ
وَكَذَلِكَ لو مَاتَ الْوَلَدُ أو قُتِلَ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مُسْتَغْنٍ عن
النَّسَبِ
وَكَذَلِكَ لو كان الْمُشْتَرِي بَاعَ الْوَلَدَ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي أو
دَبَّرَهُ أو مَاتَ عَبْدُهُ لم تَصِحَّ دَعْوَةُ الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كان الْمُشْتَرِي أَعْتَقَ الْأُمَّ أو دَبَّرَهَا دُونَ الْوَلَدِ صَحَّتْ
دَعْوَتُهُ في الْوَلَدِ ولم تَصِحَّ في الْأُمِّ وَفُسِخَ الْبَيْعُ في الْوَلَدِ
وَلَا يُفْسَخُ في الْأُمِّ لِأَنَّ الْمَانِعَ من الْفَسْخِ خَصَّ الْأُمَّ وَلَا
تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ لَيْسَتْ من
لَوَازِمِ ثَبَاتِ النَّسَبِ بَلْ تَنْفَصِلُ عنه في الْجُمْلَةِ كَمَنْ اسْتَوْلَدَ
جَارِيَةَ الْغَيْرِ بِالنِّكَاحِ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ منه وَلَا تَصِيرُ
الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له لِلْحَالِ إلَّا أَنْ يَمْلِكَهَا بِوَجْهٍ من
الْوُجُوهِ وإذا فُسِخَ الْبَيْعُ في الْوَلَدِ يَرُدُّ الْبَائِعُ من الثَّمَنِ
حِصَّةَ الْوَلَدِ فَيُقَسَّم الثَّمَنُ على قَدْرِ قِيمَتِهِمَا فَتُعْتَبَرُ
قِيمَةُ الْأُمِّ يوم الْعَقْدِ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ يوم الْوِلَادَةِ لِأَنَّهُ
إنَّمَا صَارَ وَلَدًا بِالْوِلَادَةِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمئِذٍ
فَيَسْقُطُ قَدْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ وَيَرُدُّ قَدْرَ قِيمَةِ الْوَلَدِ
وَلَوْ كانت قُطِعَتْ يَدُ الْوَلَد عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَأَخَذَ أَرْشَهَا ثُمَّ
ادَّعَاهُ الْبَائِعُ ثَبَتَ نَسَبُهُ وسلم الْأَرْشَ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ هذه
دَعْوَةُ الِاسْتِيلَادِ وَأَنَّهَا تَسْتَنِدُ إلَى
____________________
(6/248)
وَقْتِ
الْعُلُوقِ وَمِنْ شَأْنِ الْمُسْتَنِدِ أَنْ يَثْبُتَ لِلْحَالِ أَوَّلًا ثُمَّ
يَسْتَنِدُ فَيَسْتَدْعِي قِيَامَ الْمَحَلِّ لِلْحَالِ لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ
الْحُكْمِ في الْهَالِكِ وَالْيَدُ الْمَقْطُوعَةُ هَالِكَةٌ فَلَا يُمْكِنُ
تَصْحِيحُ الدَّعْوَةِ فيها بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَيَسْقُطُ عن الْبَائِعِ من
الثَّمَنِ حِصَّةُ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ سَلَّمَ الْبَدَلَ لِلْمُشْتَرِي وهو
الْأَرْشُ
وَلَوْ مَاتَتْ الْأُمُّ ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ
وَثَبَتَ النَّسَبُ لِأَنَّ مَحَلَّ النَّسَبِ قَائِمٌ وهو الْوَلَدُ
وَأُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ لَيْسَتْ من لَوَازِمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ لِمَا
تَقَدَّمَ فَثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ
وَإِنْ لم تَصِرْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَهَلْ يَرُدُّ جَمِيعَ الثَّمَنِ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ نعم وَعِنْدَهُمَا لَا يَرُدُّ إلَّا قَدْرَ قِيمَةِ
الْوَلَدِ فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَتَانِ وَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ على قَدْرِ
قِيمَتِهِمَا فما أَصَابَ قِيمَةَ الْأُمِّ يَسْقُطُ وما أَصَابَ قِيمَةَ
الْوَلَدِ يُرَدُّ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْجَارِيَةَ أُمُّ وَلَدِهِ وَمَنْ بَاعَ
أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ هَلَكَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عليه
عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عليه
وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ غَيْرُ مُتَقَوَّمَةٍ من حَيْثُ
إنَّهَا مَالٌ عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا مُتَقَوَّمَةٌ وَهِيَ من مَسَائِلِ الْعَتَاقِ
وَعَلَى هذا إذَا بَاعَهَا وَالْحَمْلُ غَيْرُ ظَاهِرٍ فَوَلَدَتْ في يَدِ
الْمُشْتَرِي لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ
وَعَلَى هذا إذَا حَمَلَتْ الْجَارِيَةُ في مِلْكِهِ فَبَاعَهَا وَهِيَ حَامِلٌ
فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُ
الْبَائِعُ
هذا إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا فَأَمَّا إذَا وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ في بَطْنٍ وَاحِدٍ
فَادَّعَى الْبَائِعُ فَإِنْ ادَّعَاهُمَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدَيْنِ منه
وَهَذَا ظَاهِرٌ
وَكَذَا إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَلَزِمَهُ الْوَلَدَانِ
جميعا لِمَا مَرَّ أَنَّ التَّوْأَمَيْنِ لَا يَحْتَمِلَانِ الْفَصْلَ في
النَّسَبِ لِانْخِلَاقِهِمَا من مَاءٍ وَاحِدٍ
فَإِنْ وَلَدَتْ أَحَدَهُمَا لِأَقَلَّ من سنة ( ( ( ستة ) ) ) وَالْآخَرَ
لِأَكْثَرَ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَى أَحَدَهُمَا ثَبَتَ نَسَبُهُمَا
وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا وَلَدَتْهُمَا جميعا عِنْدَ الْبَائِعِ لِأَقَلَّ من
سِتَّةِ أَشْهُرٍ لِأَنَّهُمَا كَانَا جميعا في الْبَطْنِ وَقْتَ الْبَيْعِ
وَلَوْ وَلَدَتْهُمَا عِنْدَ الْبَائِعِ فَبَاعَ أَحَدَ الْوَلَدَيْنِ مع الْأُمِّ
ثُمَّ ادَّعَى الْوَلَدَ الذي عِنْدَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَنَسَبُ الْوَلَدِ
الْمَبِيعِ أَيْضًا سَوَاءٌ كان الْمُشْتَرِي ادَّعَاهُ أو أَعْتَقَهُ لِمَا
ذَكَرنَا أَنَّهُمَا لَا يَحْتَمِلَانِ الْفَصْلَ في ثَبَاتِ النَّسَبِ فَمِنْ
ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ نَسَبِ الْآخَرِ
وَكَذَلِكَ لو وَلَدَتْهُمَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَأَعْتَقَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ
ادَّعَى الْبَائِعُ الْآخَرَ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا جميعا وَيُنْتَقَضُ الْعِتْقُ
ضَرُورَةً فَرْقًا بين الْوَلَدِ وَبَيْنَ الْأُمِّ أَنَّهُ لو كان أَعْتَقَ
الْأُمَّ فَادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ لَا يُنْتَقَضُ الْعِتْقُ في الْأُمِّ
وَيُنْتَقَضُ في الْوَلَدِ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ مَقْصُودًا
وَإِنَّمَا يَحْتَمِلُهُ لِلضَّرُورَةِ
وفي الْوَلَدِ ضَرُورَةُ عَدَمِ الِاحْتِمَالِ لِلِانْفِصَالِ في النَّسَبِ وَلَا
ضَرُورَةَ في الْأُمِّ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ تَنْفَصِلُ عن
إثْبَاتِ النَّسَبِ في الْجُمْلَةِ
وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُ أَحَدِ الْوَلَدَيْنِ ثُمَّ ادَّعَاهُمَا الْبَائِعُ ثَبَتَ
نَسَبُهُمَا وكان الْأَرْشُ لِلْمُشْتَرِي لَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ
الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ على الدَّعْوَةِ قبل الْبَيْعِ فَتَكُونُ له لِمَا
ذَكَرنَا أَنَّ ما ثَبَتَ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ ثَبَتَ في الْحَالِ ثُمَّ
يَسْتَنِدُ فَيَسْتَدْعِي قِيَامَ الْمَحَلِّ لِلْحَالِ وَالْيَدُ الْمَقْطُوعَةُ
هَالِكَةٌ فَلَا يَظْهَرُ أَثَرُ الدَّعْوَةِ فيها
وَلَوْ قُتِلَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ ادَّعَاهُمَا الْبَائِعُ ثَبَتَ نَسَبَهُمَا
وَكَانَتْ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ لَا لِلْمُشْتَرِي فَرْقًا
بين الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ مَحَلَّ حُكْمِ الدَّعْوَةِ مَقْصُودًا هو النَّفْسُ
وَإِنَّمَا يَظْهَرُ في الْأَطْرَافِ تَبَعًا لِلنَّفْسِ وَبِالْقَطْعِ
انْقَطَعَتْ التَّبَعِيَّةُ فَلَا يَظْهَرُ حُكْمُ الدَّعْوَةِ فيها فَسَلِمَ
الْأَرْشُ لِلْمُشْتَرِي وَنَفْسُ كل وَاحِدٍ من التَّوْأَمَيْنِ أَصْلٌ في حُكْمِ
الدَّعْوَةِ فَمَتَى صَحَّتْ في أَحَدِهِمَا تَصِحُّ في الْآخَرِ
وَإِنْ كان مَقْتُولًا ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا
في النَّسَبِ وَمَتَى صَحَّتْ الدَّعْوَةُ اسْتَنَدَتْ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ
لِأَنَّهَا دَعْوَةُ الِاسْتِيلَادِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمَا عَلِقَا حُرَّيْنِ
فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ لَا الْقِيمَةُ
إلَّا أَنَّهُ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ لِأَنَّ صِحَّةَ هذه الدَّعْوَةِ بِطَرِيقِ
الِاسْتِنَادِ وَالْمُسْتَنَدِ يَكُونُ ظَاهِرًا من وَجْهٍ مُقْتَصَرًا على
الْحَال من وَجْهٍ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ فَأَوْجَبْنَا الْقِيمَةَ عَمَلًا
بِشَبَهِ الِاقْتِصَادِ وَجَعَلْنَا الْوَاجِبَ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ عَمَلًا
بِشَبَهِ الظُّهُورِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَكَذَلِكَ
لو أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي أَحَدَهُمَا ثُمَّ قُتِلَ وَتَرَكَ مِيرَاثًا فَأَخَذَ
دِيَتَهُ وَمِيرَاثَهُ بِالْوَلَاءِ ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَيْنِ فإنه
يُقْضَى بِالْحَيِّ وَأُمِّهِ لِلْبَائِعِ وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ
الْمَقْتُولِ منه وَيَأْخُذُ الدِّيَةَ وَالْمِيرَاثَ من الْمُشْتَرِي لِمَا
قُلْنَا
هذا إذَا وَلَدَتْ في يَدِ الْمُشْتَرِي لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ من وَقْتِ
الْبَيْعِ فَإِنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لم تَصِحَّ دَعْوَةُ
الْبَائِعُ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّا لم نَتَيَقَّنْ
بِالْعُلُوقِ في الْمِلْكِ فلم يُمْكِنْ تَصْحِيحُ هذه الدَّعْوَةِ دَعْوَةَ
اسْتِيلَادٍ فَتُصَحَّحُ دَعْوَةَ تَحْرِيرٍ وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ هذه
الدَّعْوَةِ قِيَامُ الْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي وَقْتَ الدَّعْوَةِ ولم يُوجَدْ فَلَا
تَصِحُّ إلَّا إذَا صَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي فَتَصِحُّ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِنَسَبِ
عبد غَيْرِهِ وقد صَدَّقَهُ الْغَيْرُ في ذلك فَثَبَتَ نَسَبُهُ وَيَكُونُ عَبْدًا
لِمَوْلَاهُ
وَلَوْ
____________________
(6/249)
ادَّعَى
الْمُشْتَرِي نَسَبَهُ بَعْدَ تَصْدِيقِهِ الْبَائِعَ لم يَصِحَّ لِمَا مَرَّ
أَنَّ النَّسَبَ مَتَى ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ في زَمَانٍ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ
من غَيْرِهِ بَعْدَ ذلك هذا كُلِّهِ إذَا كانت الدَّعْوَى من الْبَائِعِ فَإِنْ
كانت من الْمُشْتَرِي وقد وَلَدَتْ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ صَحَّتْ
دَعْوَتُهُ وَثَبَتَ النَّسَبُ لِأَنَّ هذه دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ لَا دَعْوَةُ
اسْتِيلَادٍ لِتَيَقُّنِنَا أَنَّ الْعُلُوقَ لم يَكُنْ في الْمِلْكِ
فَيَسْتَدْعِي قِيَامَ الْمِلْكِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ وقد وُجِدَ فَلَوْ ادَّعَاهُ
الْبَائِعُ بَعْدَ ذلك لَا تُسْمَعُ دَعْوَتُهُ لِمَا مَرَّ أَنَّ إثْبَاتَ نَسَبِ
وَلَدٍ وَاحِدٍ من اثْنَيْنِ على التَّعَاقُبِ يَمْتَنِعُ وَلَوْ ادَّعَاهُ
الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي مَعًا فَدَعْوَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى لِأَنَّ دَعْوَتَهُ
دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ لِوُقُوعِ الْعُلُوقِ في الْمِلْكِ وَأَنَّهَا تَسْتَنِدُ
إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَدَعْوَةُ الْمُشْتَرِي دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ لِوُقُوعِ
الْعُلُوقِ في غَيْرِ الْمِلْكِ بِيَقِينٍ وَأَنَّهَا تَقْتَصِرُ على الْحَال
وَالْمُسْتَنِدُ أَوْلَى لِأَنَّهُ سَابِقٌ في الْمَعْنَى وَالْأَسْبَقُ أَوْلَى
كَرَجُلَيْنِ ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ من وَاحِدٍ وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا
أَسْبَقُ كان الْأَسْبَقُ أَوْلَى كَذَا هذا
وَعَلَى هذا إذَا وَلَدَتْ أَمَةُ رَجُلٍ وَلَدًا في مِلْكِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ
فَصَاعِدًا فَادَّعَاهُ أَبُوهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ منه سَوَاءٌ ادَّعَى شُبْهَةً أو
لَا صدقة الِابْنُ في ذلك أو كَذَّبَهُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِنَسَبِ الْوَلَدِ
إقْرَارٌ بِوَطْءِ الْجَارِيَةِ ولأب ( ( ( والأب ) ) ) إذَا وطىء جَارِيَةَ
ابْنِهِ من غَيْرِ نِكَاحٍ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا إيَّاهَا لِحَاجَتِهِ إلَى نَسَبِ
وَلَدٍ يَحْيَا بِهِ ذِكْرُهُ وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَّا بِالْمِلْكِ
وَلِلْأَبِ وِلَايَةُ تَمَلُّكِ مَالِ ابْنِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَمَلَّكُ مَالَهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَى الْإِنْفَاقِ على
نَفْسِهِ كَذَا هذا
إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَتَمَلَّكُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُنَا بِعِوَضٍ وهو قِيمَةُ
الْجَارِيَةِ لِتَفَاوُتٍ بين الْحَاجَتَيْنِ إذْ الْحَاجَةُ هُنَاكَ إلَى
إبْقَاءِ النَّفْسِ وَالْحَاجَةُ هُنَا إلَى إبْقَاءِ الذِّكْرِ وَالِاسْمِ
وَالتَّمَلُّكُ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَقْوَى من التَّمَلُّكِ بِعِوَضٍ لِأَنَّ ما
قَابَلَهُ عِوَضٌ كان تَمَلُّكًا صُورَةً لَا مَعْنًى وقد دَفَعَ الشَّارِعُ كُلَّ
حَاجَةٍ بِمَا يُنَاسِبُهَا فَدَفَعَ حَاجَةَ اسْتِيفَاءِ الْمُهْجَةِ
بِالتَّمَلُّكِ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَحَاجَةَ اسْتِيفَاءِ الذِّكْرِ بِالتَّمَلُّكِ
بِبَدَلٍ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ جَانِبِ الِابْنِ وَجَانِبِ الْأَبِ
وَتَصْدِيقُ الِابْنِ ليس بِشَرْطٍ فَسَوَاءٌ صَدَّقَهُ الِابْنُ في الدَّعْوَى
وَالْإِقْرَارِ أو كَذَّبَهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ فَرْقًا بين هذا وَبَيْنَ
الْمَوْلَى إذَا ادَّعَى وَلَدَ أَمَةِ مُكَاتَبِهِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ
منه إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمُكَاتَبِ
وجه ( ( ( ووجه ) ) ) الْفَرْقِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْمَوْلَى على
مَالِ الْمُكَاتَبِ فَكَانَ أَجْنَبِيًّا عنه فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى
تَصْدِيقِهِ وَلِلْأَبِ وِلَايَةٌ على مَالِ ابْنِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى
تَصْدِيقِهِ لِصِحَّةِ هذه الدَّعْوَةِ لَكِنْ من شَرْطِ صِحَّةِ هذه الدَّعْوَةِ
كَوْنُ الْجَارِيَةِ في مِلْكِ الِابْنِ من وَقْتِ الْعُلُوقِ إلَى وَقْتِ
الدَّعْوَةِ حتى لو اشْتَرَاهَا الِابْنُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ
أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُ الْأَبُ لَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ
وَقْتَ الْعُلُوقِ وَكَذَا لو بَاعَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ في يَدِ الْمُشْتَرِي
لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُ الْأَبُ لم تَصِحَّ لِانْعِدَامِ
الْمِلْكِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ
وَكَذَا لو كان الْعُلُوقُ في مِلْكِهِ وَوَلَدَتْ في مِلْكِهِ وَخَرَجَتْ عن
مِلْكِهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا لِانْقِطَاعِ الْمِلْكِ فِيمَا بَيْنَهُمَا ثُمَّ
إنَّمَا كان قِيَامُ الْمِلْكِ لِلِابْنِ في الْجَارِيَةِ من وَقْتِ الْعُلُوقِ
إلَى وَقْتِ الدَّعْوَةِ شَرْطًا لِصِحَّةِ هذه الدَّعْوَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ
يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا إلَى زَمَانِ الْعُلُوقِ وَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ إلَّا
بِالتَّمَلُّكِ وَلَا تَمَلُّكَ إلَّا بِوِلَايَةِ التَّمَلُّكِ لِأَنَّ تَمَلُّكَ
مَالِ الْإِنْسَانِ عليه كُرْهًا وَتَنْفِيذَ التَّصَرُّفِ عليه جَبْرًا لَا
يَكُونُ إلَّا بِالْوِلَايَةِ فَلَا بُدَّ من قِيَامِ الْوِلَايَةِ فإذا لم تَكُنْ
الْجَارِيَةُ في مِلْكِهِ من وَقْتِ الْعُلُوقِ إلَى وَقْتِ الدَّعْوَةِ لم
تَتِمَّ الْوِلَايَةُ فَلَا يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ وَكَذَلِكَ الْأَبُ لو كان
كَافِرًا أو عَبْدًا فَادَّعَى لَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ لِأَنَّ الْكُفْرَ
وَالرِّقَّ يَنْفِيَانِ الْوِلَايَةَ
وَلَوْ كان كَافِرًا فَأَسْلَمَ أو عَبْدًا فَأُعْتِقَ فَادَّعَى نُظِرَ في ذلك
إنْ وَلَدَتْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أو الْإِعْتَاقِ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ
لم تَصِحَّ دَعْوَته لِانْعِدَامِ وِلَايَةِ التَّمَلُّكِ وَقْتَ الْعُلُوقِ
وَإِنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةٍ فَصَاعِدًا صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ
لِقِيَامِ الْوِلَايَةِ
وَلَوْ كان مَعْتُوهًا فَأَفَاقَ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ
أَنْ لَا تَصِحَّ لِأَنَّ الْجُنُونَ مُنَافٍ لِلْوِلَايَةِ بِمَنْزِلَةِ
الْكُفْرِ وَالرِّقِّ
ووجه ( ( ( وجه ) ) ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجُنُونَ أَمْرٌ عَارِضٌ
كَالْإِغْمَاءِ وَكُلُّ عَارِضٍ على أَصْلٍ إذَا زَالَ يُلْتَحَقُ بِالْعَدَمِ من
الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ كما لو أُغْمِيَ عليه ثُمَّ أَفَاقَ وَلَوْ كان
مُرْتَدًّا فَادَّعَى وَلَدَ جَارِيَةِ ابْنِهِ فَدَعْوَتُهُ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ لِتَوَقُّفِ وِلَايَتِهِ وَعِنْدَهُمَا صَحِيحَةٌ لِنَفَاذِ
وِلَايَتِهِ بِنَاءً على أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ وإذا ثَبَتَ الْوَلَدُ من الْأَبِ فَنَقُولُ صَارَتْ
الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ وَلَا عُقْرَ عليه عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمْ
اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجِبُ
عليه الْعُقْرُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ
وَالِاسْتِيلَادُ إيلَاجُ مَنْزِلٍ مُعَلَّقٍ فَكَانَ الْفِعْلُ قبل الْإِنْزَالِ
خَالِيًا عن الْمِلْكِ فَيُوجِبُ الْعُقْرَ
وَلِهَذَا يُوجِبُ نِصْفَ الْعُقْرِ في الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بين
الْأَجْنَبِيَّيْنِ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا لِأَنَّ
____________________
(6/250)
الْوَطْءَ
في نَصِيبِ شَرِيكِهِ حَصَلَ في غَيْرِ الْمِلْكِ فَيُوجِبُ نِصْفَ الْعُقْرِ
وَلَنَا أَنَّ الْإِيلَاجَ الْمُنْزِلَ الْمُعَلَّقَ من أَوَّلِهِ إلَى آخر ( ( (
آخره ) ) ) إيلَاجٌ وَاحِدٌ فَكَانَ من أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ اسْتِيلَادًا فَلَا
بُدَّ وَأَنْ يَتَقَدَّمَهُ الْمِلْكُ أو يُقَارِنَهُ على جَارِيَةٍ مَمْلُوكَةٍ
لِنَفْسِهِ فَلَا عُقْرَ بِخِلَافِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ لِأَنَّ ثَمَّةَ
لم يَكُنْ نَصِيبُ الشَّرِيكِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ وَثَبَاتُ
النَّسَبِ لِأَنَّ نِصْفَ الْجَارِيَةِ مِلْكُهُ وَقِيَامُ أَصْلِ الْمِلْكِ يَكْفِي
لِذَلِكَ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمًا لِلثَّابِتِ في نَصِيبِهِ قَضِيَّةً
لِلنَّسَبِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَحُكْمُ الشَّيْءِ لَا يَسْبِقُهُ
بَلْ يَتَعَقَّبُهُ فَوَطْءُ الْمُدَّعِي صَادَفَ نَصِيبَهُ وَنَصِيبَ شَرِيكِهِ
وَلَا مِلْكَ له في نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَالْوَطْءُ في غَيْرِ الْمِلْكِ يُوجِبُ
الْحَدَّ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَوَجَبَ الْعُقْرُ وَهُنَا
التَّمَلُّكُ ثَبَتَ شَرْطًا لِثُبُوتِ النَّسَبِ وَصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ
وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَكُونُ سَابِقًا عليه أو مُقَارِنًا له فَالْوَطْءُ صَادَفَ
مِلْكَ نَفْسِهِ فَلَا يُوجِبُ الْعُقْرَ وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ
أَيْضًا لِأَنَّهُ عَلِقَ حُرًّا
وَإِنْ كانت الْجَارِيَةُ مَمْلُوكَةً لَا وَلَاءَ عليه لِأَنَّ ذلك حُكْمُ
الْإِعْتَاقِ فَيَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الرِّقِّ ولم يُوجَدْ وَدَعْوَةُ الْجَدِّ
أبي الْأَبِ وَلَدَ جَارِيَةِ ابْنِ الِابْنِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَةِ الْأَبِ
عِنْدَ انْعِدَامِهِ أو عِنْدَ انْعِدَامِ وِلَايَتِهِ
فَأَمَّا عِنْدَ قِيَامِ وِلَايَتِهِ فَلَا حتى لو كان الْجَدُّ نَصْرَانِيًّا
وَحَافِدُهُ مِثْلُهُ وَالْأَبُ مُسْلِمٌ لم تَصِحَّ دَعْوَةُ الْجَدِّ لِقِيَامِ
وِلَايَةِ الْأَبِ
وَإِنْ كان مَيِّتًا أو كان كَافِرًا أو عَبْدًا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْجَدِّ
لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْأَبِ وَكَذَا إذَا كان الْأَبُ مَعْتُوهًا من وَقْتِ
الْعُلُوقِ إلَى وَقْتِ الدَّعْوَةِ صَحَّتْ دَعْوَةُ الْجَدِّ لِمَا قُلْنَا
فَإِنْ أَفَاقَ ثُمَّ ادَّعَى الْجَدُّ لم تَصِحَّ دَعْوَتُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا
أَفَاقَ فَقَدْ الْتَحَقَ الْعَارِضُ بِالْعَدَمِ من الْأَصْلِ فَعَادَتْ
وِلَايَةُ الْأَبِ فَسَقَطَتْ وِلَايَةُ الْجَدِّ
وَلَوْ كان الْأَبُ مُرْتَدًّا فَدَعْوَةُ الْجَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنْ قُتِلَ على الرِّدَّةِ أو مَاتَ صَحَّتْ
دَعْوَةُ الْجَدِّ وَإِنْ أَسْلَمَ لم تَصِحَّ لِتَوَقُّفٍ وِلَايَتِهِ عِنْدَهُ
كَتَوَقُّفِ تَصَرُّفَاتِهِ وَعِنْدَهُمَا لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْجَدِّ لِأَنَّ
تَصَرُّفَاتِهِ عِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ قَائِمَةً
هذا إذَا وطىء الْأَبُ جَارِيَةَ الِابْنِ من غَيْرِ نِكَاحٍ
فَأَمَّا إذَا وَطِئَهَا بِالنِّكَاحِ ثَبَتَ النَّسَبُ من غَيْرِ دَعْوَةٍ
سَوَاءٌ وَطِئَهَا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ أو فَاسِدٍ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُوجِبُ
الْفِرَاشَ بِنَفْسِهِ صَحِيحًا كان أو فَاسِدًا وَلَا يَتَمَلَّكُ الْجَارِيَةَ
لِأَنَّهُ وَطِئَهَا على مِلْكِ الِابْنِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ هذا النِّكَاحُ لِمَا عُلِمَ في
كِتَابِ النِّكَاحِ وَيُعْتَقُ الْوَلَدُ على أَخِيهِ بِالْقَرَابَةِ لِأَنَّ
النَّسَبَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِعَقْدِ النِّكَاح لَا يملك ( ( ( بملك ) ) )
الْيَمِينِ فَبَقِيَتْ الْجَارِيَةُ على مِلْكِ الِابْنِ وقد مَلَكَ الِابْنُ
أَخَاهُ فَيُعْتَقُ عليه فَإِنْ مَلَكَ الْأَبُ الْجَارِيَةَ بِوَجْهٍ من
الْوُجُوهِ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ له لِوُجُودِ سَبَبِ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وهو
ثَبَاتُ النَّسَبِ إلَّا أَنَّهُ تَوَقَّفَ حُكْمُهُ على وُجُودِ الْمِلْكِ فإذا
مَلَكَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ له
هذا كُلُّهُ إذَا ادَّعَى الْأَبُ وَلَدَ جَارِيَةِ ابْنِهِ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى
وَلَدَ أُمِّ وَلَدِهِ أو مُدَبَّرَتِهِ بِأَنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ
الِابْنُ حتى انْتَفَى نَسَبُهُ منه ثُمَّ ادَّعَاهُ الْأَبُ لم يَثْبُتْ نَسَبُهُ
منه في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَلَيْهِ نِصْفُ الْعُقْرِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ فَرَّقَ بين وَلَدِ أُمِّ
الْوَلَدِ وَبَيْنَ وَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ فقال لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ أُمِّ
الْوَلَدِ وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ من الْأَبِ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ
الْوَلَدِ وَالْعُقْرِ وَالْوَلَاءِ لِلِابْنِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ اثبات النَّسَبِ لَا يَقِفُ على مِلْكِ
الْجَارِيَةِ لَا مَحَالَةَ فَإِنْ نَسَبَ ولد ( ( ( ولدا ) ) ) الأم ( ( ( لأمة )
) ) الْمَنْكُوحَةِ يَثْبُتُ من الزَّوْجِ وَالْأَمَةُ مِلْكُ الْمَوْلَى
وَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلِأَنَّهُ وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ عَلِقَ حُرًّا
فَأَشْبَهَ وَلَدَ الْمَغْرُورِ فَيَكُونُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ وَالْوَلَاءُ
لِلِابْنِ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهُ بِالتَّدْبِيرِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ
الْفَسْخَ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ بِخِلَافِ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّ أُمَّ
الْوَلَدِ فِرَاشٌ لِمَوْلَاهَا فَكَانَ الْوَلَدُ مَوْلُودًا على فِرَاشِ
الِابْنِ وَالْمَوْلُودُ على فِرَاشِ إنْسَانٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ من غَيْرِهِ
وَإِنْ انْتَفَى عنه بِالنَّفْيِ كما في اللِّعَانِ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْمِلْكِ وَأُمُّ الْوَلَدِ
وَالْمُدَبَّرَةُ لَا يَحْتَمِلَانِ التَّمَلُّكَ وَيَضْمَنُ الْعُقْرَ لِأَنَّهُ
إذَا لم يَتَمَلَّكْهَا فَقَدْ حَصَلَ الْوَطْءُ في غَيْرِ الْمِلْكِ وقد سَقَطَ الْحَدُّ
لِلشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الْعُقْرُ
هذا إذَا لم يُصَدِّقْهُ الِابْنُ في الدَّعْوَى بعد ما نَفَاهُ فَإِنْ صَدَّقَهُ
ثَبَتَ النَّسَبُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَةِ الْأَجْنَبِيِّ
يَثْبُتُ من الْمُدَّعِي بِتَصْدِيقِهِ في النَّسَبِ فَنَسَبُ وَلَدِ جَارِيَةِ
الِابْنِ أَوْلَى وَيُعْتَقُ على الِابْنِ لِأَنَّ أَخَاهُ مَلَكَهُ وَوَلَاؤُهُ
له لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ وَلَوْ ادَّعَى وَلَدَ مُكَاتَبَةِ ابْنِهِ
لم يَثْبُتْ نَسَبُهُ منه لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْمِلْكِ وَالْمُكَاتَبَةُ
لَا تَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ إلَّا إذَا عَجَزَتْ
فَتَنْفُذُ دَعْوَتُهُ لِأَنَّهَا إذَا عَجَزَتْ فَقَدْ عَادَتْ قتا ( ( ( قنا ) )
) وَجُعِلَ الْمُعَارِضُ كَالْعَدَمِ من الْأَصْلِ فَصَارَ كما لو ادَّعَى قبل
الْكِتَابَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
____________________
(6/251)
فَصْلٌ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَظْهَرُ بِهِ النَّسَبُ فَالنَّسَبُ يَظْهَرُ بِالدَّعْوَةِ
مَرَّةً وَبِالْبَيِّنَةِ أُخْرَى أَمَّا ظُهُورُ النَّسَبِ بِالدَّعْوَةِ
فَيَسْتَدْعِي شَرَائِطَ صِحَّةِ الدَّعْوَةِ وَالْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ
وَسَنَذْكُرُهُ في كِتَابِ الْإِقْرَارِ إلَّا أَنَّهُ قد يَظْهَرُ بِنَفْسِ
الدَّعْوَةِ وقد لَا يَظْهَرُ إلَّا بِشَرِيطَةِ التَّصْدِيقِ فَنَقُولُ جُمْلَةُ
الْكَلَامِ فيه أَنَّ المدعي نَسَبُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ في يَدِ نَفْسِهِ
وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كان في يَدِ نَفْسِهِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ من
الْمُدَّعِي إلَّا إذَا صَدَّقَهُ لِأَنَّهُ إذا كان في يَدِ نَفْسِهِ
فَإِقْرَارُهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ يَدِهِ فَلَا تَبْطُلُ إلَّا بِرِضَاهُ وَإِنْ
لم يَكُنْ في يَدِ نَفْسِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا وَإِمَّا إن لم
يَكُنْ فَإِنْ كان مَمْلُوكًا يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ إذَا كان في
مِلْكِ الْمُدَّعِي وَقْتَ الدَّعْوَةِ وَإِنْ كان في مِلْكِ غَيْرِهِ عِنْدَ
الدَّعْوَةِ فَإِنْ كان عُلُوقُهُ في مِلْكِ الْمُدَّعِي ثَبَتَ نَسَبُهُ بِنَفْسِ
الدَّعْوَةِ أَيْضًا وَإِنْ لم يَكُنْ عُلُوقُهُ في مِلْكِهِ لَا يَثْبُتُ
نَسَبُهُ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمَالِكِ على ما ذَكَرنَا وَإِنْ لم يَكُنْ
مَمْلُوكًا فأما إنْ لم يَكُنْ في يَدِ أَحَدٍ لَا في يَدِ غَيْرِهِ وَلَا في يَدِ
نَفْسِهِ كَالصَّبِيِّ الْمَنْبُوذِ وأما إنْ كان في يَدِ أَحَدٍ كَاللَّقِيطِ
فَإِنْ لم يَكُنْ في يَدِ أَحَدٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ
اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ ادَّعَى أَمْرًا جَائِزَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَلَا
بُدَّ لِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ من مُرَجِّحٍ ولم يُوجَدْ فلم تَصِحَّ
الدَّعْوَةُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ عَاقِلٌ أَخْبَرَ بِمَا هو مُحْتَمَلُ الثُّبُوتِ
وَكُلُّ عَاقِلٍ أَخْبَرَ بِمَا يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ يَجِبُ تَصْدِيقُهُ
تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ وهو الْأَصْلُ إلَّا إذَا كان في تَصْدِيقِهِ ضَرَرٌ
بِالْغَيْرِ وَهُنَا في التَّصْدِيقِ نَظَرٌ من الْجَانِبَيْنِ جَانِبِ اللَّقِيطِ
بِالْوُصُولِ إلَى شَرَفِ النَّسَبِ وَالْحَضَانَةِ وَالتَّرْبِيَةِ وَجَانِبِ
الْمُدَّعِي بِوَلَدٍ يَسْتَعِينُ بِهِ على مَصَالِحِهِ الدِّينِيَّةِ
وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَتَصْدِيقُ الْعَاقِلِ في دَعْوَى ما يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا
يَتَضَرَّرُ غَيْرُهُ بِهِ وَاجِبٌ وَلَوْ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ ثَبَتَ نَسَبُهُ
مِنْهُمَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا
من أَحَدِهِمَا وَيَتَعَيَّنُ بِقَبُولِ الْقَافَةِ على ما ذَكَرنَا
وَلَوْ ادَّعَاهُ أَكْثَرُ من رَجُلَيْنِ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
يَثْبُتُ نَسَبُهُ من خَمْسَةٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ من اثْنَيْنِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ من ثَلَاثَةٍ وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ
وَلَوْ ادَّعَتْهُ امْرَأَتَانِ صَحَّتْ دَعْوَتُهُمَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا لَا تَصِحُّ وَسَنَذْكُرُ الْحُجَجَ من بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
هذا إذَا لم يَكُنْ في يَدِ أَحَدٍ فَإِنْ كان وهو اللَّقِيطُ ثَبَتَ نَسَبُهُ من
الْمُلْتَقِطِ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ
إلَّا بِالْبَيِّنَةِ وقد ذَكَرنَا وَجْهَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَكَذَا من الْخَارِجِ صَدَّقَهُ الْمُلْتَقَطُ في ذلك أو لَا اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ إذَا كَذَّبَهُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ هذا إقْرَارٌ تَضَمَّنَ إبْطَالَ يَدِ الْمُلْتَقِطِ
لِأَنَّ يَدَهُ عليه ثَابِتَةٌ حَقِيقَةً وَشَرْعًا حتى لو أَرَادَ غَيْرُهُ أَنْ
يَنْزِعَهُ من يَدِهِ جَبْرًا لِيَحْفَظَهُ ليس له ذلك وَالْإِقْرَارُ إذَا
تَضَمَّنَ إبْطَالَ الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ يَدَ الْمُدَّعِي أَنْفَعُ لِلصَّبِيِّ من يَدِ
الْمُلْتَقِطِ لِأَنَّهُ يَقُومُ بِحَضَانَتِهِ وَتَرْبِيَتِهِ وَيَتَشَرَّفُ
بِالنَّسَبِ فَكَانَ الْمُدَّعِي بِهِ أَوْلَى وَسَوَاءٌ كان الْمُدَّعِي
مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَصِحَّ دَعْوَةُ
الذِّمِّيِّ
وَوَجْهُهُ أَنَّا لو صَحَّحْنَا دَعْوَتَهُ وَأَثْبَتنَا نَسَبَ الْوَلَدِ منه
لَلَزِمَنَا اسْتِتْبَاعُهُ في دِينِهِ وَهَذَا يَضُرُّ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ ادَّعَى أَمْرَيْنِ يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عن
الْآخَرِ في الْجُمْلَةِ وهو النَّسَبُ وَالتَّبَعِيَّةُ في الدِّينِ إذْ ليس من
ضَرُورَةِ كَوْنِ الْوَلَدِ منه أَنْ يَكُونَ على دِينِهِ
أَلَا يُرَى أَنَّهُ لو أَسْلَمَتْ أَمُّهُ يَحْكُمُ بِإِسْلَامِهِ وَإِنْ كان
أَبُوهُ كَافِرًا فَيُصَدَّقُ فِيمَا يَنْفَعُهُ وَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَضُرُّهُ
وَيَكُونُ مُسْلِمًا
وَذَكَرَ في النَّوَادِرِ أَنَّ من الْتَقَطَ لَقِيطًا فَادَّعَاهُ نَصْرَانِيٌّ
فَهُوَ ابْنُهُ ثُمَّ إنْ كان عليه زِيُّ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مُسْلِمٌ
وَإِنْ كان عليه زِيُّ الشِّرْكِ بِأَنْ يَكُونَ في رَقَبَتِهِ صَلِيبٌ وَنَحْوُ
ذلك فَهُوَ على دِينِ النَّصَارَى
هذا إذَا أَقَرَّ الذِّمِّيُّ أَنَّهُ ابْنُهُ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على ذلك
فَإِنْ كان الشُّهُودُ من أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ في
اسْتِتْبَاعِ الْوَلَدِ في دِينِهِ لِأَنَّ هذه شَهَادَةٌ تَضَمَّنَتْ إبْطَالَ
يَدِ الْمُسْلِمِ وهو الْمُلْتَقِطُ فَكَانَتْ شَهَادَةً على الْمُسْلِمِ فَلَا
تُقْبَلُ وَإِنْ كَانُوا من الْمُسْلِمِينَ تُقْبَلُ وَيَكُونُ الْوَلَدُ على
دِينِهِ فَرْقًا بين الْإِقْرَارِ وَبَيْنَ الْبَيِّنَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ
مُتَّهَمٌ في إقْرَارِهِ وَلَا تُهْمَةَ في الشَّهَادَةِ وَسَوَاءٌ كان
الْمُدَّعِي حُرًّا أو عَبْدًا لِأَنَّهُ ادَّعَى شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا
يَحْتَمِلُ الْفَصْلَ على الْآخَرِ وهو النَّسَبُ وَالرَّقّ فَيُصَدَّقُ فِيمَا
يَنْفَعُهُ وَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَضُرُّهُ
وَلَوْ ادَّعَاهُ الْخَارِجُ وَالْمُلْتَقِطُ مَعًا فَالْمُلْتَقِطُ أَوْلَى
لِاسْتِوَائِهِمَا في الدَّعْوَةِ وَنَفْعِ الصَّبِيِّ فَتُرَجَّحُ بِالْيَدِ
فَإِنْ سَبَقَتْ دَعْوَةُ الْمُلْتَقِطِ لَا تَسْمَعُ دَعْوَةُ الْخَارِجِ
لِأَنَّهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ منه فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ من غَيْرِهِ بَعْدَ
ذلك إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ لَا تُعَارِضُ
الْبَيِّنَةَ
وَلَوْ ادَّعَاهُ خَارِجَانِ فَإِنْ كان
____________________
(6/252)
أَحَدُهُمَا
مُسْلِمًا وَالْآخَر ذِمِّيًّا فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَتْبَعُهُ في
الْإِسْلَامِ فَكَانَ أَنْفَعَ لِلصَّبِيِّ وَكَذَا إذَا ادَّعَتْهُ مُسْلِمَةٌ
وَذِمِّيَّةٌ فَالْمُسْلِمَةُ أَوْلَى وَلَوْ شَهِدَ لِلذِّمِّيِّ مُسْلِمَانِ
وَلِلْمُسْلِمِ ذِمِّيَّانِ فَهُوَ لِلْمُسْلِمِ لِأَنَّ الْحَجَّتَيْنِ وَإِنْ
تَعَارَضَتَا فَإِسْلَامُ الْمُدَّعِي كَافٍ لِلتَّرْجِيحِ
وَلَوْ كان أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا فَالْحُرُّ أَوْلَى لِأَنَّهُ
أَنْفَعُ لِلَّقِيطِ وَإِنْ كَانَا حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ فَإِنْ ذَكَرَ
أَحَدُهُمَا عَلَامَةً في بَدَنِ اللَّقِيطِ ولم يذكر الْآخَرُ فَوَافَقَتْ
دَعْوَتُهُ الْعَلَامَةَ فَصَاحِبُهَا أَوْلَى لِرُجْحَانِ دَعْوَاهُ
بِالْعَلَامَةِ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالتَّرْجِيحِ بِالْعَلَامَةِ في
الْجُمْلَةِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى في قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عليه أَفْضَلُ
التَّحِيَّةِ { وَشَهِدَ شَاهِدٌ من أَهْلِهَا إنْ كان قَمِيصُهُ قُدَّ من قُبُلٍ
فَصَدَقَتْ وهو من الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كان قَمِيصُهُ قُدَّ من دُبُرٍ فَكَذَبَتْ
وهو من الصَّادِقِينَ فلما رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ من دُبُرٍ قال إنَّهُ من
كَيَدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } جَعَلَ قَدَّ الْقَمِيصِ من خَلْفٍ
دَلِيلَ مُرَاوَدَتِهَا إيَّاهُ لِمَا أَنَّ ذلك عَلَامَةُ جَذْبِهَا إيَّاهُ إلَى
نَفْسِهَا وَالْقَدُّ من قُدَّامِ عَلَامَةَ دَفْعِهَا إيَّاهُ عن نَفْسِهَا
وَكَذَلِكَ قال أَصْحَابُنَا في لُؤْلُئِيٍّ وَدَبَّاغٍ في حَانُوتٍ وَاحِدٍ هو في
أَيْدِيهِمَا فيه لُؤْلُؤٌ وَإِهَابٍ فَتَنَازَعَا إنه فِيهِمَا يقضي
بِاللُّؤْلُؤِ لِلُّؤْلُئِيِّ وَبِالْإِهَابِ لِلدَّبَّاغِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ
يَشْهَدُ بِاللُّؤْلُؤِ لِلُّؤْلُئِيِّ وَبِالْإِهَابِ لِلدَّبَّاغِ
وَكَذَلِكَ قالوا في الزَّوْجَيْنِ اخْتَلَفَا في مَتَاعِ الْبَيْتِ أَنَّ ما
يَكُونُ لِلرِّجَالِ يَجْعَلُ في يَدِ الزَّوْجِ وما يَكُونُ لِلنِّسَاءِ يُجْعَلُ
في يَدِهَا وَنَحْوُ ذلك من الْمَسَائِلِ بِنَاءً على ظَاهِرِ الْحَالِ وَغَالِبِ
الْأَمْرِ كَذَا هذا فَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلَامَاتٍ في هذا اللَّقِيطِ
فَوَافَقَ الْبَعْضَ وَخَالَفَ الْبَعْضَ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
أَنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ وَقَعَ التَّعَارُضُ في
الْعَلَامَاتِ فَسَقَطَ التَّرْجِيحُ بها كَأَنْ سَكَتَ عن ذِكْرِ الْعَلَامَةِ
رَأْسًا وَإِنْ لم يذكر أَحَدُهُمَا عَلَامَةً أَصْلًا وَلَكِنْ لِأَحَدِهِمَا
بَيِّنَةٌ فإن ( ( ( فإنه ) ) ) يُقْضَى له لِأَنَّ الدَّعْوَةَ لَا تُعَارِضُ
الْبَيِّنَةَ وَإِنْ لم يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا
جميعا وَهَذَا عِنْدَنَا لِاسْتِوَائِهِمَا في الدَّعْوَةِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إلَّا من
أَحَدِهِمَا وَيَتَعَيَّنُ بِقَوْلِ الْقَافَةِ على ما ذَكَرنَا
وَالْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَقَدَّمَ
وَلَوْ كان الْمُدَّعِي أَكْثَرَ من رَجُلَيْنِ فَهُوَ على الْخِلَافِ الذي
ذَكَرْنَاهُ في الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ
وَلَوْ قال أَحَدُ الْمُدَّعِيَيْنِ هو ابْنِي وهو غُلَامٌ فإذا هو جَارِيَةٌ لم
يُصَدَّقْ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُهُ بِيَقِينٍ
وَلَوْ قال أَحَدُهُمَا هو ابْنِي
وقال الْآخَرُ هو ابْنَتِي فإذا هو خُنْثَى يُحَكَّمُ مَبَالُهُ فَإِنْ كان
يَبُولُ من مَبَالِ الرِّجَالِ فَهُوَ ابن مُدَّعِي الْبُنُوَّةِ وَإِنْ كان
يَبُولُ من مَبَالِ النِّسَاءِ فَهِيَ ابْنَةُ مُدَّعِي الْبِنْتِيَّةِ
وَإِنْ كان يَبُولُ مِنْهُمَا جميعا يُعْتَبَرُ السَّبْقُ فَإِنْ اسْتَوَيَا في
السَّبْقِ فَهُوَ مُشْكَلٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا تُعْتَبَرُ
كَثْرَةُ الْبَوْلِ فَإِنْ اسْتَوَيَا في ذلك فَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّ هذا حُكْمُ
الْخُنْثَى وَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا جميعا
وَلَوْ قال الْمُلْتَقِطُ هو ابْنِي من زَوْجَتِي هذه فَصَدَّقَتْهُ فَهُوَ
ابْنُهُمَا حُرَّةً كانت أو أَمَةً غير أنها إنْ كانت حُرَّةً كان الِابْنُ حُرًّا
بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كانت أَمَةً كان مِلْكًا لِمَوْلَى الْأَمَةِ عِنْدَ أبي
يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ حُرًّا
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ نَسَبَهُ وَإِنْ ثَبَتَ من الْأَمَةِ لَكِنْ في
جَعْلِهِ تَبَعَا لها في الرِّقِّ مَضَرَّةٌ بِالصَّبِيِّ وفي جَعْلِهِ حُرًّا
مَنْفَعَةٌ له فَيَتْبَعُهَا فِيمَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَتْبَعُهَا فِيمَا
يَضُرُّهُ كَالذِّمِّيِّ إذَا ادَّعَى نَسَبَ لَقِيطٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ منه لَكِنْ
لَا يَتْبَعُهُ فِيمَا يَضُرُّهُ وهو دِينُهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ في
الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَكَانَ من ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ منها أَنْ
يَكُونَ رَقِيقًا وَالرِّقُّ وَإِنْ كان يَضُرُّهُ فَهُوَ ضَرَرٌ يَلْحَقُهُ
ضَرُورَةَ غَيْرِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ وَلَوْ ادَّعَتْهُ امْرَأَةٌ أَنَّهُ
ابْنُهَا وَهِيَ حُرَّةٌ أو أَمَةٌ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أنها لَا تُصَدَّقُ على
ذلك حتى تُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أنها وَلَدَتْهُ
وَإِنْ أَقَامَتْ امْرَأَةً وَاحِدَةً على الْوِلَادَةِ قُبِلَتْ إذَا كانت
حُرَّةً عَدْلَةٌ أَطْلَقَ الْجَوَابَ في الْأَصْلِ ولم يَفْصِلْ بين ما إذَا كان
لها زَوْجٌ أَمْ لَا منهم من حَمَلَ هذا الْجَوَابَ على ما إذَا كان لها زَوْجٌ
لِأَنَّهُ إذَا كان لها زَوْجٌ كان في تَصْحِيحِ دَعْوَتِهَا حَمْلُ النَّسَبِ على
الْغَيْرِ فَلَا تَصِحُّ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ أو بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ فَأَمَّا
إذَا لم يَكُنْ لها زَوْجٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى التَّحْمِيلِ فَيَصِحُّ من
غيره بَيِّنَةٍ
وَمِنْهُمْ من حَقَّقَ جَوَابَ الْكِتَابِ وَأَجْرَى رِوَايَةَ الْأَصْلِ على
إطْلَاقِهَا وَفَرَّقَ بين الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فقال يَثْبُتُ نَسَبُهُ من
الرَّجُلِ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ منها إلَّا بِبَيِّنَةٍ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ النَّسَبَ في جَانِبِ الرِّجَالِ يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ
وفي جَانِبِ النِّسَاءِ يَثْبُتُ بِالْوِلَادَةِ وَلَا تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ إلَّا
بِدَلِيلٍ وَأَدْنَى الدَّلَائِلِ عليها شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ وَلَوْ ادَّعَتْهُ
امْرَأَتَانِ فَهُوَ ابْنُهُمَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَكَذَا إذَا كُنَّ خَمْسًا
عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ من الْمَرْأَتَيْنِ أَصْلًا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ النَّسَبَ في جَانِبِ النِّسَاءِ يَثْبُتُ
بِالْوِلَادَةِ وَوِلَادَةُ وَلَدٍ
____________________
(6/253)
وَاحِدٍ
من امْرَأَتَيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَا يُتَصَوَّرَ ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْهُمَا
بِخِلَافِ الرِّجَالِ لِأَنَّ النَّسَبَ في جَانِبِهِمْ يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ سَبَبَ ظُهُورِ النَّسَبِ هو الدَّعْوَةُ وقد وُجِدَتْ
من كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وما قَالَا إنَّ الْحُكْمَ في جَانِبِهِنَّ مُتَعَلِّقٌ
بِالْوِلَادَةِ فَنَعَمْ لَكِنْ في مَوْضِعٍ أَمْكَنَ وَهُنَا لَا يُمْكِنُ
فَتَعَلَّقَ بِالدَّعْوَةِ وقد ادَّعَيَاهُ جميعا فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُمَا
وَعَلَى هذا لو ادَّعَاهُ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ من الْكُلِّ
عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ من الرَّجُلِ لَا غَيْرُ وَلَوْ ادَّعَاهُ
رَجُلَانِ وَامْرَأَتَانِ كُلُّ رَجُلٍ يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ من هذه
الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ صَدَّقَتْهُ فَهُوَ ابْن الرَّجُلَيْنِ
وَالْمَرْأَتَيْنِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا ابن الرَّجُلَيْنِ لَا غير
وَأَمَّا ظُهُورُ النَّسَبِ بِالْبَيِّنَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
الْبَيِّنَةُ يَظْهَرُ بها النَّسَبُ مَرَّةً وَيَتَأَكَّدُ ظُهُورُهُ أُخْرَى
فَكُلُّ نَسَبٍ يَجُوزُ ثُبُوتُهُ من الْمُدَّعِي إذَا لم يَحْتَمِلْ الظُّهُورَ
بِالدَّعْوَةِ أَصْلًا لَا بِنَفْسِهَا وَلَا بِقَرِينَةِ التَّصْدِيقِ بِأَنْ كان
فيه حَمْلُ النَّسَبِ على الْغَيْرِ وَنَحْوُ ذلك يَظْهَرُ بِالْبَيِّنَةِ وَكَذَا
ما احْتَمَلَ الظُّهُورَ بِالدَّعْوَةِ لَكِنْ بِقَرِينَةِ التَّصْدِيقِ إذَا
انْعَدَمَ التَّصْدِيقُ وَظَهَرَ أَيْضًا بِالْبَيِّنَةِ وَكُلُّ نَسَبٍ
يَحْتَمِلُ الظُّهُورَ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ يَتَأَكَّدُ ظُهُورُهُ بِالْبَيِّنَةِ
كما إذَا ادَّعَى اللَّقِيطَ رَجُلٌ الْمُلْتَقِطُ أو غَيْرُهُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ
من الْمُدَّعِي ثُمَّ ادَّعَاهُ رَجُلٌ آخَرُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ يُقْضَى له
لِأَنَّ النَّسَبَ وَإِنْ ظَهَرَ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ
فَاحْتَمَلَ الْبُطْلَانَ بِالْبَيِّنَةِ
وَكَذَا لو ادَّعَاهُ رَجُلَانِ مَعًا ثُمَّ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ
فَصَاحِبُ الْبَيِّنَةِ أَوْلَى لِمَا قُلْنَا وإذا تَعَارَضَتْ الْبَيِّنَتَانِ
في النَّسَبِ فَالْأَصْلُ فيه ما ذَكَرنَا في تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ على
الْمِلْكِ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ تَرْجِيحُ إحْدَاهُمَا على الْأُخْرَى يُعْمَلُ
بِالرَّاجِحِ وَإِنْ تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ يُعْمَلُ بِهِمَا إلَّا أَنَّ هُنَاكَ
إذَا تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ يُعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا من وَجْهٍ
بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَهُنَا يُعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا من كل وجه
ويثبت النسب من وجه بقدر الإمكان وهنا يعمل بكل واحدة منهما من كل وَجْهٍ
وَيَثْبُتُ النَّسَبُ من كل وَاحِدٍ من الْمُدَّعِيَيْنِ لِإِمْكَانِ إثْبَاتِ
النَّسَبِ لِوَلَدٍ وَاحِدٍ من اثْنَيْنِ على الْكَمَالِ وَاسْتِحَالَةُ كَوْنِ
الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مَمْلُوكًا لِاثْنَيْنِ على الْكَمَالِ في زَمَانٍ وَاحِدٍ
إذَا عَرَفْنَا هذا فَنَقُولُ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ تَعَارُضَ
الْبَيِّنَتَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بين الْخَارِجِ وَبَيْنَ ذِي الْيَدِ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بين الْخَارِجَيْنِ وَبَيْنَ ذِي الْيَدِ فَإِنْ كان بين
الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى لِأَنَّهُمَا
اسْتَوَيَا في الْبَيِّنَةِ فَيُرَجَّحُ صَاحِبُ الْيَدِ بِالْيَدِ وَإِنْ كان بين
الْخَارِجَيْنِ وَبَيْنَ ذِي الْيَدِ فَإِنْ أَمْكَنَ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا بِوَجْهٍ
من الْوُجُوهِ من الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَلَامَةِ وَالْيَدِ
وَقُوَّةِ الْفِرَاشِ وَغَيْرِ ذلك من أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ يُعْمَلُ
بِالرَّاجِحِ وَإِنْ اسْتَوَيَا يُعْمَلُ بِهِمَا وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُمَا
وَعَلَى هذا إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّقِيطَ ابْنُهُ وَادَّعَى
الْآخَرُ أَنَّهُ عَبْدُهُ يُقْضَى لِلَّذِي ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ لِأَنَّهُ
يَدَّعِي الْحُرِّيَّةَ وَالْآخَرُ يَدَّعِي الرِّقَّ فَبَيِّنَةُ الْحُرِّيَّةِ
أَقْوَى
وَكَذَلِكَ لو أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ من هذه
الْحُرَّةِ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ من هذه الْأَمَةِ
فَهُوَ ابن الْحُرِّ وَالْحُرَّةِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ من
امْرَأَةٍ حُرَّةٍ فَهُوَ ابن الرَّجُلَيْنِ وابن الْمَرْأَتَيْنِ على قِيَاسِ
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا ابن الرَّجُلَيْنِ لَا غير
لِمَا مَرَّ
وَلَوْ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ وَوُقِّتَتْ بَيِّنَةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ
اسْتَوَى الْوَقْتَانِ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُمَا لِاسْتِوَاءِ الْبَيِّنَتَيْنِ
وَلَوْ كان وَقْتُ إحْدَاهُمَا أَسْبَقَ بحكم ( ( ( يحكم ) ) ) سِنّ الصَّبِيِّ
فَيُعْمَلُ عليه لِأَنَّهُ حُكْمُ عَدْلٍ فَإِنْ أَشْكَلَ سِنُّهُ فَعَلَى قِيَاسِ
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ يُقْضَى لِأَسْبِقْهُمَا وَقْتًا وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى
لَهُمَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ إذَا أَشْكَلَ السِّنُّ سَقَطَ اعْتِبَارُ التَّارِيخِ
أَصْلًا كَأَنَّهُمَا سَكَتَا عنه وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ
إذَا أَشْكَلَ السِّنُّ لم يَصْلُحْ حُكْمًا فَبَقِيَ الْحُكْمُ لِلتَّارِيخِ
فَيُرَجَّحُ الْأَسْبَقُ
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ اللَّقِيطَ ابْنُهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ
وَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ ابْنُهَا وَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ فَهُوَ
بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ التَّنَافِي بين ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهُمَا كما إذَا
ادَّعَاهُ رَجُلَانِ بَلْ أَوْلَى
وَعَلَى هذا غُلَامٌ قد احْتَلَمَ ادَّعَى على رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ أَنَّهُ
ابْنُهُمَا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ وَامْرَأَتُهُ أَنَّ
الْغُلَامَ ابْنُهُمَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ ثَبَتَ نَسَبُ الْغُلَامِ من
الْأَبِ وَالْأُمِّ الذي ادَّعَاهُ الْغُلَامُ أَنَّهُ ابْنُهُمَا وَيَبْطُلُ
النَّسَبُ الذي أَنْكَرَهُ الْغُلَامُ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا
وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ الْغُلَامِ بيده إذْ هو في يَدِ نَفْسِهِ
كَالْخَارِجَيْنِ إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَلِأَحَدِهِمَا يَدٌ كان صَاحِبُ
الْيَدِ أَوْلَى كَذَا هُنَا
وَكَذَلِكَ لو كان الْغُلَامُ نَصْرَانِيًّا فَأَقَامَ بَيِّنَةً من
الْمُسْلِمِينَ على رَجُلٍ نَصْرَانِيٍّ وَامْرَأَةٍ نَصْرَانِيَّةٍ وَادَّعَاهُ
مُسْلِمٌ وَمُسْلِمَةٌ فَبَيِّنَةُ الْغُلَامِ أَوْلَى وَلَا تَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ
الْمُدَّعِي الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ لَا يَدَ له وَإِنْ كان مُسْلِمًا وَإِنْ كان
بَيِّنَةُ الْغُلَامِ من النَّصَارَى يُقْضَى بِالْغُلَامِ لِلْمُسْلِمِ
وَالْمُسْلِمَةِ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ على الْمُسْلِمِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ
فَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ مُجَرَّدُ الدَّعْوَةِ فَلَا تُعَارِضُ
الْبَيِّنَةَ وَيُجْبَرُ الْغُلَامُ على الْإِسْلَامِ
غُلَامٌ في
____________________
(6/254)
يَدِ
إنْسَانٍ ادَّعَى صَاحِبُ الْيَدِ أَنَّهُ ابْنُهُ وَوَلَدَتْهُ أَمَتُهُ هذه في
مِلْكِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ على ذلك وَادَّعَى خَارِجٌ أَنَّ الْغُلَامَ
ابْنُهُ وَلَدَتْهُ الْأَمَةُ في مِلْكِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ كان
الْغُلَامُ صَغِيرًا لَا يَتَكَلَّمُ يُقْضَى بِهِ لِصَاحِبِ الْيَد
لِاسْتِوَائِهِمَا في الْبَيِّنَة فَيُرَجَّحُ صَاحِبُ الْيَدَ بِالْيَدِ كما في
النِّكَاحِ وَإِنْ كان كَبِيرًا يَتَكَلَّمُ فقال أنا ابن الْآخَرِ يُقْضَى
بِالْأَمَةِ وَالْغُلَامِ لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْغُلَامَ إذَا كان كَبِيرًا
يَتَكَلَّمُ في يَدِ نَفْسِهِ فَالْبَيِّنَةُ التي يَدَّعِيهَا الْغُلَامُ أَوْلَى
وَكَذَلِكَ لو كان الْغُلَامُ وَلَدَ حُرَّةٍ وَهُمَا في يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ
صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ وُلِدَ على فِرَاشِهِ وَالْغُلَامُ
يَتَكَلَّمُ وَيَدَّعِي ذلك وَأَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ على مِلْكِهِ
يُقْضَى بِالْمَرْأَةِ وَبِالْوَلَدِ لِلَّذِي هُمَا في يَدِهِ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ كان الذي في يَدِهِ من أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمَرْأَةُ ذِمِّيَّةٌ
وَأَقَامَ شُهُودًا مُسْلِمِينَ يُقْضَى بِالْمَرْأَةِ وَالْوَلَدِ لِلَّذِي هُمَا
في يَدِهِ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمُسْلِمِينَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ
وَلَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا في وَقْتِ كَذَا
وَأَقَامَ الذي في يَدِهِ الْبَيِّنَةَ على وَقْتٍ دُونَهُ يُقْضَى لِلْخَارِجِ
لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ سَبْقُ أَحَدِ النِّكَاحَيْنِ كان الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا
فَاسِدًا فَالْبَيِّنَةُ الْقَائِمَةُ على النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَقْوَى
فَكَانَتْ أَوْلَى وَعَلَى هذا غُلَامٌ قد احْتَلَمَ ادَّعَى أَنَّهُ ابن فُلَانٍ
وَلَدَتْهُ أَمَتُهُ فُلَانَةُ على فِرَاشِهِ وَذَلِكَ الرَّجُلُ يقول هو عَبْدِي
وَلَدُ أَمَتِي التي زَوَّجْتهَا عَبْدِي فُلَانًا فَوَلَدَتْ هذا الْغُلَامَ منه
وَالْعَبْدُ حَيٌّ يَدَّعِي ذلك فَهُوَ ابن الْعَبْدِ لِأَنَّهُ تَعَارَضَ
الْفِرَاشَانِ فِرَاشُ النِّكَاحِ وَفِرَاشُ الْمِلْكِ وَفِرَاشُ النِّكَاحِ
أَقْوَى لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِي إلَّا بِاللِّعَانِ وَفِرَاشُ الْمِلْكِ
يَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ فَكَانَ فِرَاشُ النِّكَاحِ أَقْوَى فَكَانَ
أَوْلَى
وَلَوْ ادَّعَى الْغُلَامُ أَنَّهُ ابن الْعَبْدِ من هذه الْأَمَةِ فَأَقَرَّ
الْعَبْدُ بِذَلِكَ وَقَامَتْ عليه الْبَيِّنَةُ وَادَّعَى الْمَوْلَى أَنَّهُ
ابْنُهُ فَهُوَ ابن الْعَبْدِ لِمَا قُلْنَا وَيُعْتَقُ لِأَنَّهُ ادَّعَى
نَسَبَهُ وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْحُرِّيَّةِ
فَإِنْ لم يُعْمَلْ في النَّسَبِ يُعْمَلُ في الْحُرِّيَّةِ
وَكَذَلِكَ لو مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَك مَالًا فَأَقَامَ الْغُلَامُ الْبَيِّنَةَ
أَنَّهُ ابن الْمَيِّتِ من أَمَتِهِ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ
عَبْدُهُ وَلَدَتْهُ أَمَتُهُ من زَوْجِهَا فُلَانٍ وَالزَّوْجُ عَبْدُهُ أَيْضًا
وَالْعَبْدُ حَيٌّ يَدَّعِي ذلك يُقْضَى له بِالنَّسَبِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي
فِرَاشَ النِّكَاحِ وَأَنَّهُ أَقْوَى فَإِنْ كان الْعَبْدُ مَيِّتًا ثَبَتَ
نَسَبُ الْغُلَامِ من الْحُرِّ وَوَرِثَ منه لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْغُلَامِ خَلَتْ
عن الْمُعَارِضِ لِانْعِدَامِ الدَّعْوَةِ من الْعَبْدِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بها
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ النَّسَب الثَّابِتِ فَالنَّسَبُ في جَانِبِ النِّسَاءِ
إذَا ثَبَتَ يَلْزَمُ حتى لَا يَحْتَمِلَ النَّفْيَ أَصْلًا لِأَنَّهُ في
جَانِبهنَّ يَثْبُتُ بِالْوِلَادَةِ وَلَا مَرَدَّ لها
وَأَمَّا في جَانِبِ الرِّجَالِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَحْتَمِلُ النَّفْيَ وَنَوْعٌ
لَا يَحْتَمِلُهُ أَمَّا ما يَحْتَمِلُ النَّفْيَ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَنْتَفِي
بِنَفْسِ النَّفْيِ من غَيْرِ لِعَانٍ وَنَوْعٌ لَا يَنْتَفِي بِنَفْسِ النَّفْيِ
بَلْ بِوَاسِطَةِ اللِّعَانِ
أَمَّا الذي يَنْتَفِي بِنَفْسِ النَّفْيِ فَهُوَ نَسَبُ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ
لِأَنَّ فِرَاشَ أُمِّ الْوَلَدِ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ حتى احْتَمَلَ
النَّقْلَ إلَى غَيْرِهِ بِالتَّزْوِيجِ فَاحْتَمَلَ الِانْتِفَاءَ بِنَفْسِ
النَّفْيِ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى اللِّعَانِ
وَأَمَّا الذي لَا يَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ فَهُوَ نَسَبُ وَلَدِ زَوْجَةٍ
يَجْرِي بَيْنَهُمَا اللِّعَانُ وهو أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَانِ حُرَّيْنِ
مُسْلِمَيْنِ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ غير مَحْدُودَيْنِ في الْقَذْف على ما
ذَكَرنَا في كِتَابِ اللِّعَانِ لِأَنَّ فِرَاشَ النِّكَاحِ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ
النَّقْلَ فَكَانَ قَوِيًّا فَلَا يَحْتَمِلُ الِانْتِفَاءَ بِنَفْسِ النَّفْيِ ما
لم يَنْضَمَّ إلَيْهِ اللِّعَانُ وَلِهَذَا إذَا كان الْعُلُوقُ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ
أو شُبْهَةِ نِكَاحٍ لَا يَنْتَفِي نَسَبُ الْوَلَدِ بِالنَّفْيِ لِأَنَّ
الِانْتِفَاءَ بِوَاسِطَةِ اللِّعَانِ وَلَا لِعَانَ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ
لِانْعِدَامِ الزَّوْجِيَّةِ حَقِيقَةً لِمَا عُلِمَ في كِتَابِ اللِّعَانِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي لَا يَحْتَمِلُ النَّفْيَ فَهُوَ نَسَبُ وَلَدِ زَوْجَةٍ لَا
يَجْرِي بَيْنَهُمَا اللِّعَانُ فإذا كان الزَّوْجَانِ مِمَّنْ لَا لِعَانَ
بَيْنَهُمَا لَا يَنْتَفِي نَسَبُ الْوَلَدِ بِالنَّفْيِ وَكَذَا النَّسَبُ بَعْدَ
الْإِقْرَارِ بِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّفْيَ لِأَنَّ النَّفْيَ يَكُونُ إنْكَارًا
بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَلَا يُسْمَعُ إلَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ نَوْعَانِ نَصٌّ
وَدَلَالَةٌ لِمَا ذَكَرنَا في كِتَابِ اللِّعَانِ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ لَا غَيْرُ أَمَّا حُكْمُهُ في
النَّسَبِ فَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ في أَثْنَاءِ مَسَائِلِ النَّسَبِ وَأَمَّا
حُكْمُهُ في الْمِلْكِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في حُكْمِ
تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ في أَصْلِ الْمِلْكِ وَالثَّانِي في قَدْرِ الْمِلْكِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَسَبِيلُ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ في أَصْلِ الْمِلْكِ ما هو
سَبِيلُ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ فيه من طَلَبِ التَّرْجِيحِ وَالْعَمَلِ
بِالرَّاجِحِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَعِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا يقدر ( (
( بقدر ) ) ) الْإِمْكَانِ تَصْحِيحًا لِلدَّعْوَتَيْنِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ
وَبَيَانُ ذلك في مَسَائِلَ رَجُلَانِ ادَّعَيَا دَابَّةً أَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا
وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِلِجَامِهَا فَهِيَ لِلرَّاكِبِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ
لِلدَّابَّةِ فَكَانَتْ في يَدِهِ
وَكَذَلِكَ إذَا
____________________
(6/255)
كان
لِأَحَدِهِمَا عليه حَمْلٌ وَلِلْآخَرِ عليه كَوْرٌ مُعَلَّقٌ أو مِخْلَاةٌ ملعقة (
( ( معلقة ) ) ) فَصَاحِبُ الْحَمْلِ أَوْلَى لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كَانَا جميعا رَاكِبَيْنِ لَكِنَّ أَحَدَهُمَا في السَّرْجِ وَالْآخَرَ
رَدِيفُهُ فَهِيَ لَهُمَا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أنها لِرَاكِبِ السَّرْجِ لِقُوَّةِ
يَدِهِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُمَا جميعا اسْتَوَيَا في أَصِلْ
الِاسْتِعْمَالِ فَكَانَتْ الدَّابَّةُ في أَيْدِيهمَا فَكَانَتْ لَهُمَا وَلَوْ
كَانَا جميعا رَاكِبَيْنِ في السَّرْجِ فَهِيَ لَهُمَا إجْمَاعًا
لِاسْتِوَائِهِمَا في الِاسْتِعْمَالِ وَلَوْ ادَّعَيَا عَبْدًا صَغِيرًا لَا
يُعَبِّرُ عن نَفْسِهِ وهو في أَيْدِيهمَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ إذَا كان
لَا يُعَبِّرُ عن نَفْسِهِ كان بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ وَالْبَهَائِمِ فَتَبْقَى
الْيَدُ عليه
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو ادَّعَى صَبِيًّا صَغِيرًا مَجْهُولَ النَّسَبِ في يَدِهِ
أَنَّهُ عَبْدُهُ ثُمَّ كَبَرَ الصَّبِيُّ فَادَّعَى الْحُرِّيَّةَ فَالْقَوْلُ
قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ وَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى الْحُرِّيَّةِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ
لِأَنَّهُ كان في يَدِهِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ فَلَا تَزُولُ يَدُهُ عنه إلَّا
بِدَلِيلٍ
وَبِمِثْلِهِ لو ادَّعَى غُلَامًا كَبِيرًا أَنَّهُ عَبْدُهُ وقال الْغُلَامُ أنا
حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغُلَامِ لِأَنَّهُ ادَّعَاهُ في حَالٍ هو في يَدِ
نَفْسِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَوْ ادَّعَيَا عَبْدًا كَبِيرًا فقال
الْعَبْدُ أنا عَبْدٌ لِأَحَدِهِمَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا وَلَا يُصَدَّقُ الْعَبْدُ
في ذلك
وَكَذَا إذَا كان الْعَبْدُ في يَدِ رَجُلٍ فَأَقَرَّ أَنَّهُ لِرَجُلٍ آخَرَ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ وَلَا يُصَدَّقُ الْعَبْدُ في إقْرَارِهِ
أَنَّهُ لِغَيْرِهِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالرِّقِّ إقْرَارٌ بِسُقُوطِ يَدِهِ عن
نَفْسِهِ فَكَانَ في يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ فَلَا يُسْمَعُ قَوْلُهُ أَنَّهُ
لِغَيْرِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا قَوْلَ له وَلَوْ قال كُنْت عَبْدَ فُلَانٍ
فَأَعْتَقَنِي وأنا حُرٌّ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْعَبْدِ وَيُحْكَمُ
بِحُرِّيَّتِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ إذْ الْحُرِّيَّةُ
أَصْلٌ في بَنِي آدَمَ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا له فَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ أَنَّهُ كان عَبْدًا فَقَدْ أَقَرَّ
بِزَوَالِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَثُبُوتِ الْعَارِضِ وهو الرِّقُّ منه فَصَارَ
الرِّقُّ فيه هو الْأَصْلَ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا له
وَلَوْ ادَّعَيَا ثَوْبًا وَأَحَدُهُمَا لَابِسُهُ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ
بِذَيْلِهِ فَاللَّابِسُ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لِلثَّوْبِ
وَلَوْ ادَّعَيَا بِسَاطًا وَأَحَدُهُمَا جَالِسٌ عليه وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ
بِهِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا وَلَا يَكُونُ الْجَالِسُ بِجُلُوسِهِ وَالنَّوْمُ عليه
أَوْلَى لِاسْتِوَائِهِمَا في الْيَدِ عليه وَلَوْ ادَّعَيَا دَارًا وَأَحَدُهُمَا
سَاكِنٌ فيها فَهِيَ لِلسَّاكِنِ
وَكَذَلِكَ لو كان أَحَدُهُمَا أَحْدَثَ فيها شيئا من بِنَاءٍ أو حَفْرٍ فَهِيَ
لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ وَالْحَفْرِ لِأَنَّ سُكْنَى الدَّارِ وَإِحْدَاثَ الْبِنَاءِ
وَالْحَفْرِ تَصَرُّفٌ في الدَّارِ فَكَانَتْ في يَدِهِ وَلَوْ لم يَكُنْ شَيْءٌ
من ذلك وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا دَاخِلٌ فيها وَالْآخَرُ خَارِجٌ منها فَهِيَ
بَيْنَهُمَا
وَكَذَا إذَا كَانَا جميعا فيها لِأَنَّ الْيَدَ على الْعَقَارِ لَا تَثْبُتُ
بِالْكَوْنِ فيه وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِالتَّصَرُّفِ فيه وَلَوْ وُجِدَ خَيَّاطٌ
يَخِيطُ ثَوْبًا في دَارِ إنْسَانٍ فَاخْتَلَفَا في الثَّوْبِ فَالْقَوْلُ
لِصَاحِبِ الدَّارِ لِأَنَّ الثَّوْبَ وَإِنْ كان في يَدِ الْخَيَّاطِ صُورَةً
فَهُوَ في يَدِ صَاحِبِ الدَّارِ مَعْنًى لِأَنَّ الْخَيَّاطَ وما في يَدِهِ في
دَارِهِ وَالدَّارُ في يَدِهِ فما فيها يَكُونُ في يَدِهِ
حَمَّالٌ خَرَجَ من دَارِ رَجُلٍ وَعَلَى عَاتِقِهِ مَتَاعٌ فَإِنْ كان ذلك
الْحَامِلُ يُعْرَفُ بِبَيْعِ ذلك وَحَمْلِهِ فَهُوَ له لِأَنَّ الظَّاهِر شَاهِدٌ
له وَإِنْ كان لا يُعْرَفُ بِذَلِكَ فَهُوَ لِصَاحِبِ الدَّارِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ
شَاهِدٌ له
وَكَذَلِكَ حَمَّالٌ عليه كَارَّةٌ وهو في دَارِ بَزَّازٍ اخْتَلَفَا في
الْكَارَّةِ فَإِنْ كانت الْكَارَّةُ مِمَّا يُحْمَلُ فيها فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْحَمَّالِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ له وَإِنْ كانت مِمَّا لَا يُحْمَلُ فيها
فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الدَّارِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ له
رَجُلٌ اصْطَادَ طَائِرًا في دَارِ رَجُلٍ فَاخْتَلَفَا فيه فَإِنْ اتَّفَقَا على
أَنَّهُ على أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لم يَسْتَوْلِ عليه قَطُّ فَهُوَ لِلصَّائِدِ
سَوَاءٌ اصْطَادَهُ من الْهَوَاءِ أو من الشَّجَرِ أو الْحَائِطِ لِأَنَّهُ
الْآخِذُ دُونَ صَاحِبِ الدَّارِ إذْ الصَّيْدُ لَا يَصِيرُ مَأْخُوذًا بِكَوْنِهِ
على حَائِطٍ أو شَجَرَةٍ وقد قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الصَّيْدُ لِمَنْ
أَخَذَهُ وَإِنْ اخْتَلَفَا فقال صَاحِبُ الدَّارِ اصْطَدْتُهُ قَبْلَك أو
وَرِثْته وَأَنْكَرَ الصَّائِدُ فإنه يُنْظَرُ إنْ أَخَذَهُ من الْهَوَاءِ فَهُوَ
له لِأَنَّهُ الْآخِذُ إذْ لَا يَدَ لِأَحَدٍ على الْهَوَاءِ وَإِنْ أَخَذَهُ من
جِدَارِهِ أو شَجَرِهِ فَهُوَ لِصَاحِبِ الدَّارِ لِأَنَّ الْجِدَارَ وَالشَّجَرَ
في يَدِهِ وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفَا في أَخْذِهِ من الْهَوَاءِ أو من الْجِدَارِ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الدَّارِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ ما في دَارِ
إنْسَانٍ يَكُونُ في يَدِهِ
هَكَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ مَسْأَلَةٌ لِلصَّيْدِ على هذا الْفَصْلِ
وَلَوْ ادَّعَيَا وَأَحَدُهُمَا سَاكِنٌ فيها فَهِيَ لِلسَّاكِنِ فيها وَكَذَا لو
كان أَحْدَثَ فيها شيئا من بِنَاءٍ أو حَفْرٍ فَهِيَ لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ
وَالْحَفْرِ لِأَنَّ سُكْنَى الدَّارِ وَإِحْدَاثَ الْبِنَاءِ وَالْحَفْرِ
تَصَرُّفٌ في الدَّارِ فَكَانَتْ في يَدِهِ وَلَوْ لم يَكُنْ شَيْءٌ من ذلك
وَلَكِنْ أَحَدَهُمَا دَاخِلٌ فيها وَالْآخَرُ خَارِجٌ منها فَهِيَ بَيْنَهُمَا
وَكَذَا لو كَانَا جميعا فيها لِأَنَّ الْيَدَ على الْعَقَارِ لَا تَثْبُتُ
بِالْكَوْنِ فيها وَإِنَّمَا
____________________
(6/256)
تَثْبُتُ
بِالتَّصَرُّفِ فيها ولم يُوجَدْ
وَلَوْ ادَّعَيَا حَائِطًا من دَارَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا عليه جُذُوعٌ فَهُوَ له
لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لِلْحَائِطِ
وَلَوْ كان لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُذُوعٌ فَإِنْ كانت ثَلَاثَةً أو أَكْثَرَ
فَهِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ سَوَاءٌ اسْتَوَتْ جُذُوعُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أو
كانت لِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ بَعْدَ أَنْ كان لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ
جُذُوعٍ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا في اسْتِعْمَالِ الْحَائِطِ فَاسْتَوَيَا في
ثُبُوتِ الْيَدِ عليه
وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْبَيْتِ أَنْ يَتَبَرَّعَ على الْآخَرِ بِمَا زَادَ على
الثَّلَاثَةِ ليس له ذلك لَكِنْ يُقَالُ له زِدْ أنت أَيْضًا إلَى تَمَامِ عَدَدِ
خَشَبِ صَاحِبِك إنْ أطلق ( ( ( أطاق ) ) ) الْحَائِطُ حَمْلَهَا وَإِلَّا
فَلَيْسَ لَك الزِّيَادَةُ وَلَا النَّزْعُ وَلَوْ كان لِأَحَدِهِمَا ثَلَاثَةُ
جُذُوعٍ وَلِلْآخَرِ جِذْعٌ أو جِذْعَانِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْحَائِطُ
بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ
وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَكُونُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ زِيَادَةَ الِاسْتِعْمَالِ بِكَثْرَةِ الْجُذُوعِ
زِيَادَةٌ من جِنْسِ الْحُجَّةِ وَالزِّيَادَةُ من جِنْسِ الْحَجَّةِ لَا يَقَعُ
بها التَّرْجِيحُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو كان لِأَحَدِهِمَا ثَلَاثَةٌ وَلِلْآخَرِ
أَرْبَعَةٌ كان الْحَائِطُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِنْ كان اسْتِعْمَالُ
أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ دَلَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَصْلُ الِاسْتِعْمَالِ لاقدره
وقد اسْتَوَيَا فيه
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنْ يُقَالَ نعم لَكِنَّ أَصْلَ الِاسْتِعْمَالِ لَا
يَحْصُلُ بِمَا دُونَ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ الْجِدَارَ لَا يُبْنَى له عَادَةً
وَإِنَّمَا يُبْنَى لِأَكْثَرَ من ذلك إلَّا أَنَّ الْأَكْثَرَ مِمَّا لانهاية له
وَالثَّلَاثَةُ أَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ فَقُيِّدَ بِهِ فَكَانَ ما وَرَاءَ
مَوْضِعِ الْجُذُوعِ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ
وَأَمَّا مَوْضِعُ الْجِذْعِ الْوَاحِدِ فَكَذَلِكَ على رِوَايَةِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ
وَإِنَّمَا لِصَاحِبِ الْقَلِيلِ حَقُّ ووضع ( ( ( وضع ) ) ) الْجِذْعِ لَا أَصْلُ
الْمِلْكِ وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الدَّعْوَى له مَوْضِعُ الْجِذْعِ من
الْحَائِطِ وما رواءه ( ( ( وراءه ) ) ) لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ مُسْتَعْمِلٌ لِذَلِكَ
الْقَدْرِ حَقِيقَةً فَكَانَ ذلك الْقَدْرُ في يَدِهِ فَيَمْلِكُهُ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْإِقْرَارِ ما مَرَّ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ لَا يَحْصُلُ
بِالْجِذْعِ وَالْجِذْعَيْنِ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى له عَادَةً فلم
يَكُنْ شَيْءٌ من الْحَائِطِ في يَدِهِ فَكَانَ كُلُّهُ في يَدِ صَاحِبِ
الْكَثِيرِ إلَّا أَنَّهُ ليس له دَفْعُ الْجُذُوعِ وَإِنْ كان مَوْضِعُ الْجِذْعِ
مَمْلُوكًا له لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْحَائِطِ مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ
وَلِآخَرَ عليه حَقُّ الْوَضْعِ بِخِلَافِ ما لو أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ
الْحَائِطَ له لِأَنَّ له أَنْ يَدْفَعَ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ
فإذا أَقَامَهَا تُبَيِّنُ أَنَّ الْوَضْعَ من الْأَصْلِ كان بِغَيْرِ حَقِّ
وِلَايَةِ الدَّفْعِ وَلَيْسَ له ذلك حَالَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّا إنَّمَا
جَعَلْنَا الْحَائِطَ له لِظَاهِرِ الْيَدِ وَالظَّاهِرُ يَصْلُحُ لِلتَّقْرِيرِ
لَا لِلتَّغْيِيرِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَلَوْ كان الْحَائِطُ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ إحْدَى الدَّارَيْنِ اتِّصَالَ
الْتِزَاقٍ وَارْتِبَاطٍ فَهُوَ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ لِأَنَّهُ
كَالْمُتَعَلِّقِ بِهِ وَلَوْ كان لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالُ الْتِزَاقٍ وَلِلْآخَرِ
جُذُوعٍ فَصَاحِبُ الْجُذُوعِ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لِلْحَائِطِ وَلَا
اسْتِعْمَالَ من صَاحِبِ الِاتِّصَالِ وَلَوْ كان لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالُ
الْتِزَاقٍ وَارْتِبَاطٍ وَلِلْآخَرِ اتِّصَالُ تَرْبِيعٍ فَصَاحِبُ التَّرْبِيعِ
أَوْلَى لِأَنَّ اتِّصَالَ التَّرْبِيعِ أَقْوَى من اتِّصَالِ الِالْتِزَاقِ
وَلَوْ كان لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالُ تَرْبِيعٍ وَلِلْآخَرِ جُذُوعٍ فَالْحَائِطُ
لِصَاحِبِ التَّرْبِيعِ وَلِصَاحِبِ الْجُذُوعِ حَقُّ وَضْعِ الْجُذُوعِ لَكِنَّ
الْكَلَامَ في صُورَةِ التَّرْبِيعِ فَنَقُولُ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ أَنَّ التَّرْبِيعَ هو أَنْ يَكُونَ أَنْصَافُ أَلْبَانِ الْحَائِطِ
مُدَاخَلَةً حَائِطَ إحْدَى الدَّارَيْنِ يُبْنَى كَذَلِكَ كَالْأَزَجِ وَالطَّاقَاتِ
فَكَانَ بِمَعْنَى النِّتَاجِ فَكَانَ صَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ تَفْسِيرَ التَّرْبِيعِ أَنْ
يَكُونَ طَرَفَا هذا الْحَائِط المدعي مُدَاخَلِينَ حَائِطَ إحْدَى الدَّارَيْنِ
وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَنْقُولٌ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَصِيرُ
الْحَاصِلُ أَنَّ الْمُدَاخَلَةَ إذَا كانت من جَانِبَيْ الْحَائِطِ كان صَاحِبُ
الِاتِّصَالِ أَوْلَى بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كانت من جَانِبٍ وَاحِدٍ فَعَلَى
قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ صَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى وَعَلَى
قَوْلِ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ صَاحِبُ الْجُذُوعِ أَوْلَى
وَجْه قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ ما ذَكَرْنَا أَنَّ ذلك بِمَعْنَى النِّتَاجِ حَيْثُ
حَدَثَ من بِنَائِهِ كَذَلِكَ فَكَانَ هو أَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْمُدَاخَلَةَ من الْجَانِبَيْنِ تُوجِبُ
الِاتِّحَادَ وَجَعْلَ الْكُلِّ بِنَاءً وَاحِدًا فَسَقَطَ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ
لِضَرُورَةِ الِاتِّحَادِ فَمِلْكُ الْبَعْضِ يُوجِبُ مِلْكَ الْكُلِّ ضَرُورَةً
إلَّا أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ على الرَّفْعِ بَلْ يُتْرَكُ على حَالِهِ لِأَنَّ ذلك
ليس من ضَرُورَاتِ مِلْكِ الْأَصْلِ بَلْ يَحْتَمِلُ الِانْفِصَالَ عنه في
الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ السَّقْفَ الذي هو بين بَيْتِ الْعُلُوِّ وَبَيْنَ
بَيْتِ السُّفْلِ هو مِلْكُ صَاحِبِ السُّفْلِ وَلِصَاحِبِ الْعُلُوِّ عليه حَقُّ
الْقَرَارِ حتى لو أَرَادَ صَاحِبُ السُّفْلِ رَفْعَ السَّقْفِ مُنِعَ منه شَرْعًا
كَذَا هذا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ وَلِصَاحِبِ
الْجُذُوعِ حَقُّ وَضْعِ الْجِذْعِ عليه بِخِلَافِ ما إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ
____________________
(6/257)
أَنَّهُ
يُجْبَرُ على الرَّفْعِ وقد تَقَدَّمَ وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا
ثُمَّ فَرَّعَ أبو يُوسُفَ على ما رُوِيَ عنه من تَفْسِيرِ التَّرْبِيعِ أَنَّهُ
إذَا اشْتَرَى دَارًا وَلِرَجُلٍ آخِرَ دَارٌ يجنب ( ( ( بجنب ) ) ) تِلْكَ
الدَّارِ وَبَيْنَهُمَا حَائِطٌ وَأَقَامَ الرَّجُلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ له
فَأَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ على الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ
إنْ كان مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ حَائِطِ الْمُدَّعِي ليس له أَنْ يَرْجِعَ على
الْبَائِعِ لِأَنَّهُ إذَا كان مُتَّصِلًا بِبِنَائِهِ لم يَتَنَاوَلْ الْبَيْعَ
فلم يَكُنْ مَبِيعًا فَلَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الرُّجُوعِ وَإِنْ لم
يَكُنْ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ الْمُدَّعِي وهو مُتَّصِلٌ بِبِنَاءِ الدَّارِ
الْمَبِيعَةِ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ على الْبَائِعِ بِحِصَّةِ الْحَائِطِ
من الثَّمَنِ لِأَنَّهُ إذَا كان مُتَّصِلًا بِحَائِطِ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ
تَنَاوَلَهُ الْبَيْعُ فَكَانَ مَبِيعًا فَيَثْبُتُ الرُّجُوعُ عِنْدَ
الِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ كان مُتَّصِلًا بِحَائِطِ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ
وَلِلْآخَرِ عليه جُذُوعٌ لَا يَرْجِعُ وَهَذَا يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْكَرْخِيِّ
أَنَّ صَاحِبَ الْجُذُوعِ أَوْلَى من صَاحِبِ الِاتِّصَالِ إذَا كان من جَانِبٍ
وَاحِدٍ
وَلَوْ كان اتِّصَالَ تَرْبِيعٍ وَاسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي الرُّجُوعَ على
الْبَائِعِ لَا تُنْزَعُ الْجُذُوعُ بَلْ تُتْرَكُ على حَالِهَا لِمَا ذَكَرنَا
وَلَوْ كان لِأَحَدِهِمَا عليه سُتْرَةٌ أو بِنَاءٌ وَصَاحِبُهُ مُقِرٌّ بِأَنَّ
السُّتْرَةَ وَالْبِنَاءَ له فَالْحَائِطُ لِصَاحِبِ السُّتْرَةِ لِأَنَّهُ
مُسْتَعْمِلٌ الْحَائِطَ بِالسُّتْرَةِ فَكَانَ في يَدِهِ
وَلَوْ لم يَكُنْ عليه سُتْرَةٌ وَلَكِنْ لِأَحَدِهِمَا عليه مَرَادَيْ هو
الْقَصَبُ الْمَوْضُوعُ على رَأْسِ الْجِدَارِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا وَلَا
يَسْتَحِقُّ بِالْمُرَادِي وَالْبَوَادِي شيئا لِأَنَّ وَضْعَ الْمُرَادِي على
الْحَائِطِ ليس بِأَمْرٍ مَقْصُودٍ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى له فَكَانَ
مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ
وَلَوْ كان وَجْهُ الْحَائِطِ إلَى أَحَدِهِمَا وَظَهْرُهُ إلَى الْآخَرِ وكان
أَنْصَافُ اللَّبِنِ أو الطَّاقَاتِ إلَى أَحَدِهِمَا فَلَا حُكْمَ لِشَيْءٍ من
ذلك عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْحَائِطُ بَيْنَهُمَا
وَعِنْدَهُمَا الْحَائِطُ لِمَنْ إلَيْهِ وَجْهُ الْبِنَاءِ وَأَنْصَافُ اللَّبِنِ
وَالطَّاقَاتِ وَهَذَا إذَا جُعِلَ الْوَجْهُ وَقْتَ الْبِنَاءِ حين ما بَنَى
فَأَمَّا إذَا جُعِلَ بَعْدِ الْبِنَاءِ بِالنَّقْشِ وَالتَّطَيُّنِ فَلَا
عِبْرَةَ بِذَلِكَ إجْمَاعًا
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا ادَّعَيَا بَابًا مُغْلَقًا على حَائِطٍ بين
دَارَيْنِ وَالْغَلْقُ إلَى أَحَدِهِمَا فَالْبَابُ لَهُمَا عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا لِمَنْ إلَيْهِ الْغَلْقُ
وَلَوْ كان لِلْبَابِ غَلِقَانِ من الْجَانِبَيْنِ فَهُوَ لَهُمَا إجْمَاعًا
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ خُصٌّ بين دَارَيْنِ أو بين كَرْمَيْنِ وَالْقِمْطُ إلَى
أَحَدِهِمَا فَالْخُصُّ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا
يُنْظَرُ إلَى الْقِمْطِ وَعِنْدَهُمَا الْخُصُّ لِمَنْ إلَيْهِ الْقِمْطُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا في هذه الْمَسَائِلِ اعْتِبَارُ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فإن
الناس في الْعَادَاتِ يَجْعَلُونَ وَجْهَ الْبِنَاءِ وَأَنْصَافَ اللَّبَنِ
وَالطَّاقَاتِ وَالْغَلْقِ وَالْقِمْطِ إلَى صَاحِبِ الدَّارِ فَيَدُلُّ على
أَنَّهُ بِنَاؤُهُ فَكَانَ في يَدِهِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هذا دَلِيلُ الْيَدِ في الْمَاضِي لَا
وَقْتَ الدَّعْوَةِ وَالْيَدُ في الْمَاضِي لَا تَدُلُّ على الْيَدِ وَقْتَ
الدَّعْوَةِ وَالْحَاجَةُ في إثْبَاتِ الْيَدِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ ثُمَّ في كل
مَوْضِعٍ قضى بِالْمِلْكِ لِأَحَدِهِمَا لِكَوْنِ المدعي في يَدِهِ تَجِبُ عليه
الْيَمِينُ لِصَاحِبِهِ إذَا طُلِبَ فَإِنْ حَلَفَ برىء وَإِنْ نَكِل يُقْضَى عليه
بِالنُّكُولِ وَعَلَى هذا إذَا اخْتَلَفَا في الْمُرُورِ في دَارٍ وَلِأَحَدِهِمَا
بَابٌ من دَارِهِ إلَى تِلْكَ الدَّارِ فَلِصَاحِبِ الدَّارِ مَنْعُ صَاحِبِ
الْبَابِ عن الْمُرُورِ فيها حتى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ إن له في دَارِهِ طَرِيقًا
وَلَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْبَابِ بِالْبَابِ شيئا لِأَنَّ فَتْحَ الْبَابِ إلَى
دَارِ غَيْرِهِ قد يَكُونُ بِحَقٍّ لَازِمٍ وقد يَكُونُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَصْلًا
وقد يَكُونُ بِحَقٍّ غَيْرِ لَازِمٍ وهو الْإِبَاحَةُ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا على
حَقِّ الْمُرُورِ في الدَّارِ مع الِاحْتِمَالِ
وَكَذَا لو شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ كان يَمُرُّ فيها لم
يَسْتَحِقَّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ شيئا لِاحْتِمَالِ أَنَّ مُرُورَهُ فيها كان
غَصْبًا أو إبَاحَةً وَلَئِنْ دَلَّتْ على أَنَّهُ كان لِحَقِّ الْمُرُورِ لَكِنْ
في الزَّمَانِ الْمَاضِي لِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَامَتْ عليه فَلَا يَثْبُتُ بها
الْحَقُّ لِلْحَالِ وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ له فيها طَرِيقًا فَإِنْ حَدُّوا
الطَّرِيقَ فَسَمَّوْا طُولَهُ وَعَرْضَهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ وَكَذَلِكَ إذَا
لم يَحُدُّوهُ كَذَا ذُكِرَ في الْكِتَابِ
وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ من حَمَلَ الْمَسْأَلَةَ على ما إذَا
شَهِدُوا على إقْرَارِ صَاحِبِ الدَّارِ بِالطَّرِيقِ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ
مَجْهُولٌ وَجَهَالَةُ المشهو ( ( ( المشهود ) ) ) بِهِ تَمْنَعُ صِحَّةَ
الشَّهَادَةِ
أَمَّا جَهَالَةُ الْمَقَرِّ بِهِ فَلَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ
وَمِنْهُمْ من أَجْرَى جَوَابَ الْكِتَابِ على إطْلَاقِهِ لِأَنَّ الطَّرِيقَ
طُولُهُ مَعْلُومٌ وَعَرْضُهُ مِقْدَارُ عَرْضِ الْبَابِ في مُتَعَارَفِ الناس
وَعَادَاتِهِمْ فَكَانَتْ هذه شَهَادَةُ بِمَعْلُومٍ فَتُقْبَلُ وَكَذَلِكَ لو
شَهِدُوا أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَ طَرِيقًا في هذه الدَّارِ فَهُوَ على ما
ذَكَرنَا
وَعَلَى هذا إذَا كان لِرَجُلٍ مِيزَابٌ في دَارِ رَجُلٍ فَاخْتَلَفَا في مَسِيلِ
الْمَاءِ فَلِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَمْنَعَهُ عن التَّسْيِيلِ حتى يُقِيمَ
الْبَيِّنَةَ أَنَّ له في هذه الدَّارِ مَسِيلَ مَاءٍ وَلَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ
الْمِيزَابِ بِنَفْسِ الْمِيزَابِ شيئا لِمَا ذَكَرنَا وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو
اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمِيزَابَ إذَا كان قَدِيمًا فَلَهُ حَقُّ
التَّسْيِيلِ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في كِتَابِ الشُّرْبِ في نَهْرٍ في أَرْضِ رَجُلٍ يَسِيلُ فيه
الْمَاءُ فَاخْتَلَفَا في ذلك فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْمَاءِ لِأَنَّهُ إذَا
كان يَسِيلُ
____________________
(6/258)
فيه
الْمَاءُ كان النَّهْرُ مَشْغُولًا بِالْمَاءِ فَكَانَ النَّهْرُ مُسْتَعْمَلًا
بِهِ فَكَانَ في يَدِهِ بِخِلَافِ الْمِيزَابِ فإن مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا
إذَا لم يَكُنْ في الْمِيزَابِ مَاءٌ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ حتى لو كان فيه مَاءٌ
كان حُكْمُهُ حُكْمَ النَّهْرِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا الْمَاءَ يَسِيلُ في الْمِيزَابِ فَلَيْسَتْ
هذه الشَّهَادَةُ بِشَيْءٍ لِأَنَّ التَّسْيِيلَ قد يَكُونُ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَكَذَا الشَّهَادَةُ ما قَامَتْ بِحَقٍّ كَائِنٍ على ما مَرَّ
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ له حَقًّا في الدَّارِ من حَيْثُ التَّسْيِيلُ فَإِنْ
بَيَّنُوا أَنَّهُ لِمَاءِ الْمَطَرِ فَهُوَ لِمَاءِ الْمَطَرِ وَإِنْ بَيَّنُوا
أَنَّهُ مَسِيلُ مَاءٍ دَائِمٍ لِلْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ فَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ لم
يُبَيِّنُوا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ أَيْضًا وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِ
الدَّارِ مع يَمِينِهِ أَنَّهُ لِلْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ أو لِمَاءِ الْمَطَرِ
لِأَنَّ أَصْلَ الْحَقِّ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ وَبَقِيَتْ الصِّفَةُ
مَجْهُولَةً فَيَتَبَيَّنُ بِبَيَانِ صَاحِبِ الدَّارِ لَكِنْ مع الْيَمِينِ
وَإِنْ لم يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ أَصْلًا يُسْتَحْلَفُ صَاحِبُ الدَّارِ
على ذلك فَإِنْ حَلَفَ برىء وَإِنْ نَكِل يُقْضَى بِالنُّكُولِ كما في بَابِ
الْأَمْوَالِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ في مَتَاعِ الْبَيْتِ وَلَا
بَيِّنَةَ لِأَحَدِهِمَا على ما ذَكَرنَا في كِتَابِ النِّكَاحِ وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ في قَدْرِ الْمِلْكِ فَهُوَ
كَاخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ في قَدْرِ الثَّمَنِ أو الْمَبِيعِ فَنَقُولُ
جُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا فَلَا يخو ( (
( يخلو ) ) ) إمَّا إنْ اخْتَلَفَا في الثَّمَنِ وَإِمَّا إنْ اخْتَلَفَا في
الْمَبِيعِ فَإِنْ اخْتَلَفَا في الثَّمَنِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ اخْتَلَفَا في
قَدْرِ الثَّمَنِ وَإِمَّا إنْ اخْتَلَفَا في جِنْسِهِ وَإِمَّا إنْ اخْتَلَفَا في
وَقْتِهِ وهو الْأَجَلُ
فَإِنْ اخْتَلَفَا في قَدْرِهِ بِأَنْ قال الْبَائِعُ بِعْت مِنْك هذا الْعَبْدَ
بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وقال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت بِأَلْفٍ
فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كانت السِّلْعَةُ قَائِمَةً وَإِمَّا إنْ كانت
هَالِكَةً
فَإِنْ كانت قَائِمَةً فأما إنْ كانت قَائِمَةً على حَالِهَا لم تَتَغَيَّرْ
وأما إنْ تَغَيَّرَتْ إلَى الزِّيَادَةِ أو إلَى النُّقْصَانِ
فَإِنْ كانت قَائِمَةً على حَالِهَا لم تَتَغَيَّرْ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا
سَوَاءٌ كان قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ
أَمَّا قبل الْقَبْضِ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مدعي ( ( ( مدع ) ) )
وَمُدَّعًى عليه من وَجْهٍ
لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي على الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ ثَمَنٍ وهو يُنْكِرُ
وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي على الْبَائِعِ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ إلَيْهِ عِنْدَ
أَدَاءِ الْأَلْفِ وهو يُنْكِرُ فَيَتَحَالَفَانِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَالْيَمِينُ على من أَنْكَرَ وَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَكَانَ
يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْلِفَ الْبَائِعُ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي
مع يَمِينِهِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي على الْبَائِعِ شيئا لِسَلَامَةِ
الْمَبِيعِ له
وَالْبَائِعُ يَدَّعِي على الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ ثَمَنٍ وهو يُنْكِرُ فَكَانَ
الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ
إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا التَّحَالُفَ وهو الْحَلِفُ من الْجَانِبَيْنِ بِنَصٍّ
خَاصٍّ وهو قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا اخْتَلَفَ
الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا وَيُبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي في
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ
وفي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ يُبْدَأُ بِيَمِينِ الْبَائِعِ وَيُقَالُ إنَّهُ قَوْلُ
أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَظِيفَةُ
الْمُنْكِرِ
وَالْمُشْتَرِي أَشَدُّ إنْكَارًا من الْبَائِعِ
لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ في الْحَالَيْنِ جميعا قبل الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ
وَالْبَائِعُ بَعْدَ الْقَبْضِ ليس بِمُنْكِرٍ
لِأَنَّ الْمُشْتَرِي لَا يَدَّعِي عليه شيئا فَكَانَ أَشَدَّ إنْكَارًا منه
وَقَبْلَ الْقَبْضِ إنْ كان مُنْكِرًا لَكِنَّ الْمُشْتَرِي أَسْبَقُ إنْكَارًا
منه لِأَنَّهُ يُطَالَبُ أَوَّلًا بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ حتى يَصِيرَ عَيْنًا وهو
يُنْكِرُ فَكَانَ أَسْبَقَ إنْكَارًا من الْبَائِعِ فَيُبْدَأُ بِيَمِينِهِ
فَإِنْ نَكِل لَزِمَهُ دَعْوَى الْبَائِعِ لِأَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ أو إقْرَارٌ
وَإِنْ حَلَفَ يَحْلِفُ الْبَائِعُ
ثُمَّ إذَا تَحَالَفَا هل يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ أو
يُحْتَاجُ فيه إلَى فَسْخِ الْقَاضِي
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فيه
قال بَعْضُهُمْ يَنْفَسِخُ
ينفس ( ( ( بنفس ) ) ) التَّحَالُفِ لِأَنَّهُمَا إذَا تُحَالَفَا لم يَكُنْ في
بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ فَيَنْفَسِخُ
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِفَسْخِ الْقَاضِي عِنْدَ طَلَبِهِمَا أو
طَلَبِ أَحَدِهِمَا وهو الصَّحِيحُ
حتى لو أَرَادَ أَحَدُهُمَا إمْضَاءَ الْبَيْعِ بِمَا يَقُولُهُ صَاحِبُهُ فَلَهُ
ذلك من غَيْرِ تَجْدِيدِ الْعَقْدِ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْفَائِدَةِ ثَابِتٌ
لِاحْتِمَالِ التَّصْدِيقِ من أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ وَالْعَقْدُ الْمُنْعَقِدُ
قد يَبْقَى لِفَائِدَةٍ مُحْتَمَلَةِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ
بِيَقِينٍ فَلَا يَزُولُ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ الْفَائِدَةِ على الْأَصْلِ
الْمَعْهُودِ في الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لِأَنَّهُ لَا يَزُولُ بِالِاحْتِمَالِ
فَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِفَسْخِ الْقَاضِي وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ لِانْعِدَامِ
الْفَائِدَةِ لِلْحَالِ وَلِأَنَّ الْمُنَازَعَةَ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِفَسْخِ
الْقَاضِي لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَحَالَفَا صَارَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا
فَيَتَنَازَعَانِ فَلَا بُدَّ من قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَلَا تَنْقَطِعُ إلَّا
بِالْقَضَاءِ بِالْفَسْخِ
هذا إذَا كانت السِّلْعَةُ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا من غَيْرِ تَغَيُّرٍ فَأَمَّا
إذَا كانت تَغَيَّرَتْ ثُمَّ اخْتَلَفَا في قَدْرِ الثَّمَنِ فَلَا يَخْلُو أما إن
تَغَيَّرَتْ إلَى الزِّيَادَةِ وَإِمَّا إن تَغَيَّرَتْ إلَى النُّقْصَانِ فَإِنْ
كان التَّغْيِيرُ إلَى الزِّيَادَةِ فَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً
مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ كَالسَّمْنِ وَالْجَمَالِ مَنَعَتْ التَّحَالُفَ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
رَحِمَهُ
____________________
(6/259)
اللَّهُ
لَا تَمْنَعُ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْعَيْنَ بِنَاءً على أَنَّ هذه
الزِّيَادَةَ تُمْنَع الْفَسْخَ عِنْدَهُمَا في عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ
فَتَمْنَعُ التَّحَالُفَ وَعِنْدَهُ لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ فَلَا تَمْنَعُ
التَّحَالُفَ
وَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَة غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ كَالصَّبْغِ
في الثَّوْبِ وَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ في الْأَرْضِ فَكَذَلِكَ تَمْنَعُ
التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا تَمْنَعُ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي
الْقِيمَةَ لِمَنْ هُمَا عِنْدَهُ لِأَنَّ هذا النَّوْعَ من الزِّيَادَةِ
بِمَنْزِلَةِ الْهَلَاكِ وَهَلَاكُ السِّلْعَةِ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا
وَعِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الزِّيَادَةَ
وَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ
وَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ فَهُوَ على هذا الِاخْتِلَافِ
وَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ
كَالْمَوْهُوبِ في الْمَكْسُوبِ لَا تَمْنَعُ التَّحَالُفَ إجْمَاعًا
فَيَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْعَيْنَ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ لَا
تَمْنَعُ الْفَسْخَ في عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَلَا تَمْنَعُ التَّحَالُفَ
وَكَذَا هِيَ لَيْسَتْ في مَعْنَى هَلَاكِ الْعَيْنِ فَلَا تَمْنَعُ التَّحَالُفَ
وإذا تَحَالَفَا يَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ دُونَ الزِّيَادَةِ وَكَانَتْ
الزِّيَادَةُ له لِأَنَّهَا حَدَّثَتْ على مِلْكِهِ وَتَطِيبُ له لِعَدَمِ تَمَكُّنِ
الْحِنْثِ فيها
هذا إذَا تَغَيَّرَتْ السِّلْعَةُ إلَى الزِّيَادَةِ فَأَمَّا إذَا تَغَيَّرَتْ
إلَى النُّقْصَانِ في يَدِ الْمُشْتَرِي فَنَذْكُرُ حُكْمَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
هذا إذَا كانت السِّلْعَةُ قَائِمَةً
فَأَمَّا إذَا كانت هَالِكَةً فَلَا يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَالْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مع يَمِينِهِ في مِقْدَارِ الثَّمَنِ
فَإِنْ حَلَفَ لَزِمَهُ ما أَقَرَّ بِهِ
وَإِنْ نَكِل لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي
الْقِيمَةَ
فَإِنْ اخْتَلَفَا في مِقْدَارِ الْقِيمَةِ على قَوْلِهِ كان الْقَوْلُ قَوْلَ
الْمُشْتَرِي مع يَمِينِهِ في مِقْدَارِ الْقِيمَةِ
وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ هَلَاكَ السِّلْعَةِ هل يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا
يَمْنَعُ وَعِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا اخْتَلَفَ
الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا
أَثْبَتَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ التَّحَالُفَ مُطْلَقًا عن شَرْطِ قِيَامِ
السِّلْعَةِ وَلَا يُقَالُ وَرَدَ هُنَا نَصٌّ خَاصٌّ مُقَيَّدٌ بِحَالِ قِيَامِ
السِّلْعَةِ
وهو قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ
وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا لِأَنَّ الْمَذْهَبَ
عِنْدَنَا أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ على الْمُقَيَّدِ لِمَا في الْحَمْلِ من
ضَرْبِ النُّصُوصِ بَعْضِهَا في بَعْضٍ بَلْ يَجْرِي الْمُطْلَقُ على إطْلَاقِهِ
وَالْمُقَيَّدُ على تَقْيِيدِهِ
فَكَانَ جَرَيَانُ التَّحَالُفِ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ ثَابِتًا بِنَصَّيْنِ
وَحَالُ هَلَاكِهَا ثَابِتًا بِنَصٍّ وَاحِدٍ وهو النَّصُّ الْمُطْلَقُ وَلَا
تَنَافِي بَيْنَهُمَا فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا جميعا
وَلَهُمَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وهو قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَالْيَمِينُ على من أَنْكَرَ فَبَقِيَ التَّحَالُفُ وهو الْحَلِفُ من الْجَانِبَيْنِ
بَعْدَ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عليه لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْجَبَ
جِنْسَ الْيَمِينِ على جِنْسِ الْمُنْكِرِينَ
فَلَوْ وَجَبَتْ يَمِينٌ لَا على مُنْكِرٍ لم يَكُنْ جِنْسُ الْيَمِينِ على جِنْسِ
الْمُنْكِرِينَ
وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَالْمُنْكِرُ بَعْدَ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عليه هو
الْمُشْتَرِي
لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عليه زِيَادَةَ ثَمَنٍ وهو يُنْكِرُ
فَأَمَّا الْإِنْكَارُ من قِبَلِ الْبَائِعِ فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي
عليه شيئا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ التَّحَالُفُ حَالَ قِيَامِ
السِّلْعَةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذلك بِنَصٍّ خَاصٍّ مُقَيَّدٍ وهو
قَوْلُهُ عليه السلام إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ
بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا
وَهَذَا الْقَيْدُ ثَابِتٌ في النَّصِّ الْآخَرِ أَيْضًا دَلَالَةً لِأَنَّهُ قال
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَرَادَّا
وَالتَّرَادُّ لَا يَكُونُ إلَّا حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ فَبَقِيَ التَّحَالُفُ
حَالَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ منبتا ( ( ( مثبتا ) ) ) بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ
وَيَسْتَوِي هَلَاكُ كل السِّلْعَةِ وَبَعْضِهَا في الْمَنْعِ من التَّحَالُفِ
أَصْلًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ هَلَاكُ السِّلْعَةِ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ في قَدْر
الْهَالِكِ لَا غير وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَمْنَعُ أَصْلًا حتى لو اشْتَرَى
عَبْدَيْنِ فَقَبَضَهُمَا ثُمَّ هَلَكَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ اخْتَلَفَا في مِقْدَارِ
الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَلَا
يَتَحَالَفَانِ إلَّا أَنْ يرضي الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْقَائِمَ وَلَا
يَأْخُذُ من ثَمَنِ الْهَالِكِ شيئا فَحِينَئِذٍ يَتَحَالَفَانِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَتَحَالَفَانِ على الْهَالِكِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْمُشْتَرِي في حِصَّةِ الْهَالِكِ وَيَتَحَالَفَانِ على الْقَائِمِ
وَيُتَرَادَّانِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ عَلَيْهِمَا وَيَرُدُّ قِيمَةَ
الْهَالِكِ أَمَّا مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَدْ مَرَّ على أَصْلِهِ لِأَنَّ
هَلَاكَ كل السِّلْعَةِ عِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ
أَوْلَى
وَكَذَلِكَ لِأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْمَانِعَ من التَّحَالُفِ هو الْهَلَاكُ
فَيَتَقَدَّرُ الْمَنْعُ بِقَدْرِهِ تَقْدِيرًا لِلْحُكْمِ بِقَدْرِ الْعِلَّةِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الحديث يَنْفِي التَّحَالُفَ بَعْدَ قَبْضِ السِّلْعَةِ
لِمَا ذَكَرنَا إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذلك بِنَصٍّ خَاصٍّ وَالنَّصُّ وَرَدَ في
حَالِ قِيَامِ كل السِّلْعَةِ فَبَقِيَ التَّحَالُفُ حَالَ هَلَاكِ بَعْضِهَا
مَنْفِيًّا بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَلِأَنَّ قَدْرَ الثَّمَنِ الذي يُقَابِلُ
الْقَائِمَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا يَجُوزُ
التَّحَالُفُ عليه إلَّا إذَا شَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الحي ( ( ( الحد ) )
) وَلَا يَأْخُذَ من ثَمَنِ الْهَالِكِ شيئا فَحِينَئِذٍ يَتَحَالَفَانِ لِأَنَّهُ
رضي أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ كُلُّهُ بِمُقَابِلَةِ الْقَائِمِ فَيَخْرُجُ
الْهَالِكُ
____________________
(6/260)
عن
الْعَقْدِ كَأَنَّهُ ما وَقَعَ الْعَقْدُ عليه وَإِنَّمَا وَقَعَ على الْقِيَامِ
فَيَتَحَالَفَانِ عليه وَسَوَاءٌ كان هَلَاكُ الْمَبِيعِ حَقِيقَةً أو حُكْمًا
بِأَنْ خَرَجَ عن مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِسَبَبٍ من الْأَسْبَابِ لِأَنَّ
الْهَالِكَ حُكْمًا يُلْحَقُ بِالْهَالِكِ حَقِيقَةً وقد مَرَّ الِاخْتِلَافُ فيه
وَسَوَاءٌ خَرَجَ كُلُّهُ أو بَعْضُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
فَخُرُوجُ الْبَعْضِ في الْمَنْعِ من التَّحَالُفِ بِمَنْزِلَةِ خُرُوجِ الْكُلِّ
عِنْدَهُمَا لِأَنَّ التَّحَالُفَ هُنَا يُؤَدِّي إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ على
الْبَائِعِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ
الْقَائِمَ وَحِصَّةَ الْخَارِجِ من الثَّمَنِ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي فَحِينَئِذٍ
يَتَحَالَفَانِ على الْقَائِمِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي ما بَقِيَ في مِلْكِهِ
وَعَلَيْهِ حِصَّةُ الْخَارِجِ بِقَوْلِهِ وَهَذَا عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَأَمَّا
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلَا يَتَحَالَفَانِ في الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَأَمَّا
عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَيَتَحَالَفَانِ لِأَنَّ الْحَقِيقِيَّ لَا يَمْنَعُ
التَّحَالُفَ عِنْدَهُ فَالْحُكْمِيُّ أَوْلَى ثُمَّ هَلَاكُ الْكُلِّ بِأَنْ
خَرَجَ كُلُّهُ عن مِلْكِهِ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ
أَوْلَى وإذا تَحَالَفَا عِنْدَهُ فَإِنْ هَلَكَ كُلُّ الْمَبِيعِ بِأَنْ خَرَجَ
كُلُّهُ عن مِلْكِهِ يَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ إنْ لم يَكُنْ مِثْلِيًّا
وَالْمِثْلُ إنْ كان مِثْلِيًّا
وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهُ بِأَنْ خَرَجَ الْبَعْضُ عن مِلْكِهِ دُونَ الْبَعْضِ
يُنْظَرُ إنْ كان الْمَبِيعُ مِمَّا في تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ أو في تَشْقِيصِهِ
عَيْبٌ فَالْبَائِعُ بَعْدَ التَّحَالُفِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ
الْبَاقِيَ وَقِيمَةَ الْهَالِكِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الْبَاقِيَ وَأَخَذَ قِيمَةَ
الْكُلِّ وَإِنْ كان الْمَبِيعُ مِمَّا لَا ضَرَرَ في تَبْعِيضِهِ وَلَا عَيْبَ في
تَشْقِيصِهِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِيَ وَمِثْلَ الْفَائِتِ إنْ كان
مِثْلِيًّا وَقِيمَتَهُ إنْ لم يَكُنْ مِثْلِيًّا
وَلَوْ خَرَجَتْ السِّلْعَةُ عن مِلْكِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ عَادَتْ إله ( ( ( إليه
) ) ) ثُمَّ اخْتَلَفَا في مِقْدَارِ الثَّمَنِ نُظِرَ في ذلك إنْ كان الْعَوْدُ
فَسْخًا بِأَنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي يَتَحَالَفَانِ
وَيَرُدُّ الْعَيْنَ لِأَنَّ الْفَسْخَ رَفْعٌ من الْأَصْلِ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ لم
يَكُنْ وإذا لم يَكُنْ الْعَوْدُ فَسْخًا بِأَنْ كان مِلْكًا جَدِيدًا لَا
يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ
الْعَوْدَ إذَا لم يَكُنْ فَسْخًا لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْهَلَاكَ لم يَكُنْ وَالْهَلَاكُ
يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ
الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ لَا الْعَيْنَ
وَكَذَلِكَ لو لم يَخْرُجْ الْمَبِيعُ عن مِلْكِهِ لَكِنَّهُ صَارَ بِحَالٍ
يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ إمَّا بِالزِّيَادَةِ وَإِمَّا بِالنُّقْصَانِ
أَمَّا حُكْمُ الزِّيَادَةِ فَقَدْ مَرَّ تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فيه وَأَمَّا
حُكْمُ النُّقْصَانِ فَيُخَرَّجُ على هذا الْأَصْلِ لِأَنَّ النُّقْصَانَ من بَابِ
الْهَلَاكِ فَنَقُولُ إذَا انتقص ( ( ( انتقض ) ) ) الْمَبِيعُ في يَدِ الْمُشْتَرِي
ثُمَّ اخْتَلَفَا في مِقْدَارِ الثَّمَنِ لم يَتَحَالَفَا عِنْدَهُمَا سَوَاءٌ كان
النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أو بِفِعْلِ
الْمُشْتَرِي أو بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ أو بِفِعْلِ الْبَائِعِ لِأَنَّ
نُقْصَانَ الْمَبِيع هَلَاكُ جُزْءٍ منه وَهَلَاكُ الْجُزْءِ في الْمَنْعِ من
التَّحَالُفِ كَهَلَاكِ الْكُلِّ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَلَا
يَتَحَالَفَانِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي إلَّا إذَا كان النُّقْصَانُ
بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أو بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي وَرَضِيَ
الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ نَاقِصًا وَلَا يَأْخُذُ لِأَجَلِ
النُّقْصَانِ شيئا فَحِينَئِذٍ يَتَحَالَفَانِ وَيُتَرَادَّانِ وَعِنْدَ مُحَمَّدِ
يَتَحَالَفَانِ ثُمَّ الْبَائِعُ بَعْدَ التَّحَالُفِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ
أَخَذَ الْمَبِيعَ نَاقِصًا وَلَا يَأْخُذُ لِأَجَلِ النُّقْصَانِ شيئا وَإِنْ
شَاءَ تَرَكَ وَأَخَذَ الْقِيمَةَ
وقال بَعْضُهُمْ على قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنْ اخْتَارَ أَخْذَ الْعَيْنِ يَأْخُذُ
مَعَهَا النُّقْصَانَ كَالْمَقْبُوضِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَإِنْ كان
النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ أو بِفِعْلِ الْبَائِعِ يَتَحَالَفَانِ
وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَحَالَفَانِ
وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مع يَمِينِهِ هذا إذَا اخْتَلَفَا في قَدْرِ
الثَّمَنِ فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا في جِنْسِهِ بِأَنْ قال أَحَدُهُمَا الثَّمَنُ
عَيْنٌ وقال الْآخَرُ هو دِينٌ فَإِنْ كان مُدَّعِي الْعَيْنِ هو الْبَائِعَ
بِأَنْ قال لِلْمُشْتَرِي بِعْت مِنْك جَارِيَتِي بِعَبْدِك هذا
وقال الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ اشْتَرَيْتهَا مِنْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ كانت
الْجَارِيَةُ قَائِمَةً تَحَالَفَا وتردا ( ( ( وترادا ) ) ) لِقَوْلِهِ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ
قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا من غَيْرِ فِصَلٍ بين ما إذَا كان الِاخْتِلَافُ
في قَدْرِ الثَّمَنِ أو في جِنْسِهِ
وَإِنْ كانت هَالِكَةً عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَا يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي في الثَّمَنِ مع
يَمِينِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ هَلَاكِ
السِّلْعَةِ وقد مَرَّتْ وَإِنْ كان مُدَّعِي الْعَيْنِ هو الْمُشْتَرِي بِأَنْ
قال اشْتَرَيْت جَارِيَتَك بِعَبْدِي هذا
وقال الْبَائِعُ بِعْتهَا مِنْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أو بِمِائَةِ دِينَارٍ فَإِنْ
كانت الْجَارِيَةُ قَائِمَةً يَتَحَالَفَانِ بِالنَّصِّ وَإِنْ كانت هَالِكَةً
يَتَحَالَفَانِ أَيْضًا إجْمَاعًا وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ أما على
أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ هَلَاكَ السِّلْعَةِ عِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ
التَّحَالُفَ وأما على أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّ وُجُوبَ الْيَمِينِ على الْمُشْتَرِي
ظَاهِرٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عليه ثَمَنَ الْجَارِيَةِ أَلْفَ
دِرْهَمٍ وهو يُنْكِرُ
وَأَمَّا وُجُوبُ الْيَمِينِ على الْبَائِعِ فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي
عليه إلزم ( ( ( إلزام ) ) ) الْعَيْنِ وهو يُنْكِرُ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مُدَّعِيًا من وَجْهٍ مُنْكِرًا من وَجْهٍ فَيَتَحَالَفَانِ وَلَوْ كان
الْبَائِعُ يَدَّعِي عَيْنًا وَالْبَعْضَ دَيْنًا وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي
____________________
(6/261)
الْكُلَّ
دَيْنًا بِأَنْ قال الْبَائِعُ بِعْت مِنْك جَارِيَتِي بِعَبْدِك هذا وَبِأَلْفِ
دِرْهَمٍ
وقال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت جَارِيَتَك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ كان الْمَبِيعُ
وهو الْجَارِيَةُ قَائِمًا تَحَالَفَا بِالنَّصِّ وَإِنْ كان هَالِكًا فَهُوَ على
الِاخْتِلَافِ وَلَوْ كان الْأَمْرُ على الْعَكْسِ من ذلك كَأَنْ يَدَّعِيَ
الْبَعْضَ عَيْنًا وَالْبَعْضَ دَيْنًا وَالْبَائِعُ يَدَّعِي الْكُلَّ دَيْنًا
بِأَنْ قال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت مِنْك جَارِيَتَك بِعَبْدِي هذا وَبِأَلْفِ
دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ خَمْسُمِائَةٍ
وقال الْبَائِعُ بِعْتُك جَارِيَتِي هذه بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ كانت
الْجَارِيَةُ قَائِمَةً تَحَالَفَا وَتَرَادَّا بِالنَّصِّ وَإِنْ كانت هَالِكَةً
يَتَحَالَفَانِ أَيْضًا إجْمَاعًا إلَّا أَنَّ عِنْدَهُمَا تُقَسَّمُ الْجَارِيَةُ
على قِيمَة الْعَبْدِ وَعَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فما كان بِإِزَاءِ الْعَيْنِ وهو
الْعَبْدُ وَذَلِكَ ثُلُثُ الْجَارِيَةِ يَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ وما كان
بِإِزَاءِ الدَّيْنِ وهو الْأَلْفُ وَذَلِكَ ثُلُثَا الْجَارِيَةِ يَرُدُّ أَلْفَ
دِرْهَمٍ وَلَا يَرُدُّ الْقِيمَةَ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ
لو كان يَدَّعِي كُلَّ الثَّمَنِ عَيْنًا كَانَا يَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ
الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ على ما ذَكَرنَا
وَلَوْ كان كُلُّ الثَّمَنِ دَيْنًا لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَا
يَتَحَالَفَانِ على ما مَرَّ فإذا كان يَدَّعِي بَعْضَ الثَّمَنِ عَيْنًا
وَبَعْضَهُ دَيْنًا يَرُدُّ الْقِيمَةَ بِإِزَاءِ الْعَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ
بِإِزَاءِ الدَّيْنِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
يَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ
هذا إذَا اخْتَلَفَا في جِنْسِ الثَّمَنِ فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا في وَقْتِهِ
وهو الْأَجَلُ مع اتِّفَاقِهِمَا على قَدْرِهِ وَجِنْسِهِ فَنَقُولُ هذا لَا
يَخْلُو من أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إنْ اخْتَلَفَا في أَصْلِ الْأَجَلِ
وَإِمَّا إنْ اخْتَلَفَا في قَدْرِهِ وَإِمَّا إن اخْتَلَفَا في مُضِيِّهِ
وَإِمَّا إن اخْتَلَفَا في قَدْرِهِ وَمُضِيِّهِ جميعا فَإِنْ اخْتَلَفَا في
أَصْلِهِ لَا يَتَحَالَفَانِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مع يَمِينِهِ لِأَنَّ
الْأَجَلَ أَمْرٌ يُسْتَفَادُ من قِبَلِهِ وهو مُنْكِرٌ لِوُجُودِهِ وَلِأَنَّ
الْأَصْلَ في الثَّمَنِ هو الْحُلُولُ وَالتَّأْجِيلُ عَارِضٌ فَكَانَ الْقَوْلُ
قَوْلَ من يَدَّعِي الْأَصْلَ وَإِنْ اخْتَلَفَا في قَدْرِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ
أَيْضًا لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ اخْتَلَفَا في مُضِيِّهِ مع اتِّفَاقِهِمَا على أَصْلِهِ وَقَدْرِهِ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لم يَمْضِ لِأَنَّ الْأَجَلَ صَارَ
حَقًّا له بِتَصَادُقِهِمَا فَكَانَ الْقَوْلُ فيه قَوْلَهُ وَإِنْ اخْتَلَفَا في
الْقَدْرِ وَالْمُضِيِّ جميعا فقال الْبَائِعُ الْأَجَلُ شَهْرٌ وقد مَضَى وقال
الْمُشْتَرِي شَهْرَانِ ولم يَمْضِيَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ في الْقَدْرِ
وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي في الْمُضِيِّ فَيُجْعَلُ الْأَجَلُ شَهْرًا لم
يَمْضِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لِلْبَائِعِ في الْقَدْرِ وَلِلْمُشْتَرِي في
الْمُضِيِّ على ما مَرَّ
هذا إذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ كُلُّهُ أو بَعْضُهُ حَقِيقَةً أو حُكْمًا فَأَمَّا
إذَا هَلَكَ الْعَاقِدَانِ أو أَحَدُهُمَا وَالْمَبِيعُ قَائِمٌ فَاخْتَلَفَ
وَرَثَتُهُمَا أو الْحَيُّ مِنْهُمَا وَوَرَثَةُ الْمَيِّتِ فَإِنْ كانت
السِّلْعَةُ غير مَقْبُوضَةٍ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا لِأَنَّ لِلْقَبْضِ شَبَهًا
بِالْعَقْدِ فَكَانَ قَبْضُ الْمَعْقُودِ عليه من الْوَارِثِ بِمَنْزِلَةِ
ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ منه فَيَجْرِي بَيْنَهُمَا التَّحَالُفُ إلَّا أَنَّ
الْوَارِثَ يَحْلِفُ على الْعِلْمِ لَا على الْبَتَاتِ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ على
فِعْلِ الْغَيْرِ وَلَا عِلْمَ له بِهِ وَإِنْ كانت السِّلْعَةُ مَقْبُوضَةً فَلَا
تَحَالُفَ عِنْدَهُمَا وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي أو وَرَثَتِهِ بَعْدَ
مَوْتِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ هَلَاكَ الْعَاقِدِ بَعْدَ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عليه كَهَلَاكِ
الْمَعْقُودِ عليه وَهَلَاكُ الْمَعْقُودِ عليه يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا
فَكَذَا هَلَاكُ الْعَاقِدِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ذلك لَا يَمْنَعُ من التَّحَالُفِ
كَذَا هذا
وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُمَا لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمَشْهُورَ يَمْنَعُ من
التَّحَالُفِ لَكُنَّا عَرَفْنَاهُ بِنَصٍّ خَاصٍّ حَالَ قِيَامِ الْعَاقِدَيْنِ
لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَحَالُفَ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَالْمُتَبَايِعُ من وُجِدَ منه
فِعْلُ الْبَيْعِ ولم يُوجَدْ من الْوَارِثِ حَقِيقَةً فَبَقِيَ التَّحَالُفُ
بَعْدَ هَلَاكِهِمَا أو هَلَاكِ أَحَدِهِمَا مَنْفِيًّا بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ
هذا إذَا اخْتَلَفَا في الثَّمَنِ أَمَّا إذَا اخْتَلَفَا في الْمَبِيعِ فَنَقُولُ
لَا يَخْلُو الْمَبِيعُ من أَنْ يَكُونَ عَيْنًا أو دَيْنًا وهو الْمُسَلَّمُ فيه
فَإِنْ كان عَيْنًا فَاخْتَلَفَا في جِنْسِهِ أو في قَدْرِهِ بِأَنْ قال
الْبَائِعُ بِعْت مِنْك هذا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وقال الْمُشْتَرِي
اشْتَرَيْت مِنْك هذه الْجَارِيَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أو قال الْبَائِعُ بِعْت
مِنْك هذا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وقال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت مِنْك هذا
الْعَبْدَ مع هذه الْجَارِيَةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا
لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ
تَحَالَفَا وَتَرَادَّا
وَإِنْ كان دَيْنًا وهو الْمُسَلَّمُ فيه فَاخْتَلَفَا فَنَقُولُ اخْتِلَافُهُمَا
في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إنْ اخْتَلَفَا في
الْمُسَلَّمِ فيه مع اتِّفَاقِهِمَا على رَأْسِ الْمَالِ وَإِمَّا إنْ اخْتَلَفَا
في رَأْسِ الْمَالِ مع اتِّفَاقِهِمَا في الْمُسَلَّمِ فيه
وَإِمَّا إنْ اخْتَلَفَا فِيهِمَا جميعا فَإِنْ اخْتَلَفَا في الْمُسَلَّمِ فيه مع
اتِّفَاقِهِمَا على رَأْس الْمَالِ فأما إنْ اخْتَلَفَا في جِنْسِ الْمُسَلَّمِ
فيه وأما إنْ اخْتَلَفَا في قَدْرِهِ وأما إنْ اخْتَلَفَا في صِفَتِهِ وأما إنْ
اخْتَلَفَا في مَكَانِ إيفَائِهِ وأما إنْ اخْتَلَفَا في وَقْتِهِ وهو الْأَجَلُ
فَإِنْ اخْتَلَفَا في جِنْسِهِ أو قَدْرِهِ أو صِفَتِهِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا
لِأَنَّ هذا اخْتِلَافٌ في الْمَعْقُودِ عليه وَأَنَّهُ يُوجِبُ التَّحَالُفَ
بِالنَّصِّ وَاَلَّذِي يَبْدَأُ بِالْيَمِينِ هو الْمُسْلِمُ إلَيْهِ في قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وفي قَوْلِهِ الْآخَرِ وهو
قَوْلُ مُحَمَّدٍ هو رَبُّ السَّلَمِ
وَجْهُ
____________________
(6/262)
قَوْلِهِمَا
أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْيَمِينِ من الْمُشْتَرِي كما في بَيْعِ الْعَيْنِ
وَرَبِّ السَّلَمِ هو الْمُشْتَرِي فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِهِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْيَمِينَ على الْمُنْكِرِ
وَالْمُنْكِرُ هو الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ وَلَا إنْكَارَ مع رَبِّ السَّلَمِ فَكَانَ
يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْلِفَ أَصْلًا إلَّا أَنَّ التَّحْلِيفَ في جَانِبِهِ
ثَبَتَ بِالنَّصِّ
وقد رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّهُ قال أَيُّهُمَا بَدَأَ بِالدَّعْوَى
يَسْتَحْلِفُ الْآخَرُ لِأَنَّهُ صَارَ مدعيا ( ( ( مدعى ) ) ) عليه وهو مُنْكِرٌ
وقال بَعْضُهُمْ التَّعْيِينُ إلَى الْقَاضِي يَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَإِنْ
شَاءَ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا فَيَبْدَأُ بِاَلَّذِي خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ
وَلَوْ اخْتَلَفَا في مَكَانِ إيفَاءِ الْمُسَلَّمِ فيه
فقال رَبُّ السَّلَمِ شَرَطْت عَلَيْك الْإِيفَاءَ في مَكَانِ كَذَا
وقال الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ بَلْ شَرَطْت لَك الْإِيفَاءَ في مَكَانِ كَذَا
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ وَلَا يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَتَحَالَفَانِ بِنَاءً على أَنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ لَا
يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْإِيفَاءِ عِنْدَهُ حتى كان تَرْكُ بَيَانِ مَكَانِ
الْإِيفَاءِ مُفْسِدًا لِلسَّلَمِ عِنْدَهُ فلم يَدْخُلْ مَكَانُ الْإِيفَاءِ في
الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ بَلْ بِالشَّرْطِ وَالِاخْتِلَافُ فِيمَا لَا يَدْخُلُ في
الْعَقْدِ إلَّا بِالشَّرْطِ لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ كَالْأَجَلِ وَعِنْدَهُمَا
مَكَانُ الْعَقْدِ يَتَعَيَّنُ مَكَانًا لِلْإِيفَاءِ حتى لَا يَفْسُدَ السَّلَمُ
بِتَرْكِ بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ عندهم ( ( ( عندهما ) ) ) فَكَانَ
الْمَكَانُ دَاخِلًا في الْعَقْدِ من غَيْرِ شَرْطٍ فَيُوجِبُ التَّحَالُفَ
وَإِنْ اخْتَلَفَا في وَقْتِ الْمُسَلَّمِ فيه وهو الْأَجَلُ فَنَقُولُ لَا
يَخْلُو إمَّا إن اخْتَلَفَا في أَصْلِ الْأَجَلِ وَإِمَّا إن اخْتَلَفَا في
قَدْرِهِ وَإِمَّا إن اخْتَلَفَا في مُضِيِّهِ وَإِمَّا إن اخْتَلَفَا في قَدْرِهِ
وَمُضِيِّهِ جميعا فَإِنْ اخْتَلَفَا في أَصْلِ الْأَجَلِ لم يَتَحَالَفَا عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا وَاحْتَجَّ
بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا اخْتَلَفَ
الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا وَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ في أَصْلِ
الْمُسَلَّمِ فيه كَالِاخْتِلَافِ في صِفَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا صِحَّةَ
لِلسَّلَمِ بِدُونِ الْأَجَلِ كما لَا صِحَّةَ له بِدُونِ الْوَصْفِ فَصَارَ
الْأَجَلُ وَصْفًا لِلْمَعْقُودِ عليه شَرْعًا فَيُوجِبُ التَّحَالُفَ
وَلَنَا أَنَّ الْأَجَلَ ليس بِمَعْقُودٍ عليه وَالِاخْتِلَافُ فِيمَا ليس
بِمَعْقُودٍ عليه لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ في الصِّفَةِ
لِأَنَّ الصِّفَةَ في الدَّيْنِ مَعْقُودٌ عليه كَالْأَجَلِ وَالِاخْتِلَافُ في
الْأَجَلِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ فَكَذَا في الصِّفَةِ وإذا لم يَتَحَالَفَا فَإِنْ
كان مُدَّعِي الْأَجَلِ هو رَبُّ السَّلَمِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَيَجُوزُ
السَّلَمُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي صِحَّةَ الْعَقْدِ وَالْمُسَلَّمُ إلَيْهِ يَدَّعِي
الْفَسَادَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الصِّحَّةِ وَلِأَنَّ الْمُسَلَّمَ
إلَيْهِ مُتَعَنِّتٌ في إنْكَارِ الْأَجَلِ لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُ وَالْمُتَعَنِّتُ
لَا قَوْلَ له وَإِنْ كان هو الْمُسَلَّمَ إلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ وَيَجُوزُ السَّلَمُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ
الْقَوْلُ قَوْلَ رَبِّ السَّلَمِ وَيَفْسُدُ السَّلَمُ وهو قَوْلُهُمَا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْأَجَلَ أَمْرٌ يُسْتَفَادُ من قِبَلِ رَبِّ السَّلَمِ
حَقًّا عليه شَرْعًا وأنه مُنْكِرٌ ثُبُوتَهُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ في
الشَّرْعِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُسَلَّمَ إلَيْهِ بِدَعْوَى الْأَجَلِ يَدَّعِي
صِحَّةَ الْعَقْدِ وَرَبُّ السَّلَمِ بِالْإِنْكَارِ يَدَّعِي فَسَادَهُ فَكَانَ
الْقَوْلُ قَوْلَ من يَدَّعِي الصِّحَّةَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ له إذْ
الظَّاهِرُ من حَالِ الْمُسَلِّمِ اجْتِنَابُ الْمَعْصِيَةِ وَمُبَاشَرَةُ
الْعَقْدِ الْفَاسِدِ مَعْصِيَةٌ
وإذا كان الْقَوْلُ قَوْلَهُ في أَصْلِ الْأَجَلِ كان الْقَوْلُ قَوْلَهُ في
مِقْدَارِ الْأَجَلِ أَيْضًا
وقال بَعْضُهُمْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ إلَى شَهْرٍ لِأَنَّهُ أَدْنَى الْآجَالِ
فَأَمَّا الزِّيَادَةُ على شَهْرٍ فَلَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ
وَإِنْ اخْتَلَفَا في قَدْرِهِ لم يَتَحَالَفَا عِنْدَنَا خِلَافًا لَزُفَرَ
وَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبّ السَّلَمِ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ الْأَجَلَ أَمْرٌ
يُسْتَفَادُ من قِبَلِهِ فَيَرْجِعُ في بَيَانِ الْقَدْرِ إلَيْهِ
وَإِنْ اخْتَلَفَا في مُضِيِّهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ
وَصُورَتُهُ إذَا قال رَبُّ السَّلَمِ كان الْأَجَلُ شَهْرًا وقد مَضَى
وقال الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ كان شَهْرًا ولم يَمْضِ وَإِنْ أَخَذْت السَّلَمَ
السَّاعَةَ كان الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ
لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَصَادَقَا على أَصْلِ الْأَجَلِ وَقَدْرِهِ فَقَدْ صَارَ
الْأَجَلُ حَقًّا لِلْمُسَلَّمِ إلَيْهِ فَكَانَ الْقَوْلُ في الْمُضِيِّ قَوْلَهُ
وَإِنْ اخْتَلَفَا في قَدْرِهِ وَمُضِيِّهِ جميعا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ
السَّلَمِ في الْقَدْرِ وَقَوْلُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ في المضي ( ( ( المعنى ) )
) لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لِرَبِّ السَّلَمِ في الْقَدْرِ وَلِلْمُسَلَّمِ
إلَيْهِ في الْمُضِيِّ
هذا إذَا اخْتَلَفَا في الْمُسَلَّمِ فيه مع اتِّفَاقِهِمَا على رَأْسُ الْمَالِ
فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا في رَأْسِ الْمَالِ مع اتِّفَاقِهِمَا في الْمُسَلَّمِ
فيه تَحَالَفَا وَتَرَادَّا أَيْضًا
سَوَاءٌ اخْتَلَفَا في جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ أو قَدْرِهِ أو صِفَتِهِ لِمَا
قُلْنَا في الِاخْتِلَافِ في الْمُسَلَّمِ فيه إلَّا أَنَّ الذي يَبْدَأُ بِالْيَمِينِ
هَهُنَا هو رَبُّ السَّلَمِ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهُ الْمُشْتَرِي وهو
الْمُنْكِرُ أَيْضًا
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِيهِمَا جميعا فَكَذَلِكَ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا لِأَنَّهُمَا
اخْتَلَفَا في الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ
وَالِاخْتِلَافُ في أَحَدِهِمَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ فَفِيهِمَا أَوْلَى
وَالْقَاضِي يَبْدَأُ بِالْيَمِينِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بين ( ( ( بيان ) ) ) حُكْمِ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ الثَّابِتِ في
الْمَحِلِّ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ حُكْمُ الْمِلْكِ وِلَايَةُ
التَّصَرُّفِ لِلْمَالِكِ في
____________________
(6/263)
الْمَمْلُوكِ
بِاخْتِيَارِهِ ليس لِأَحَدٍ وِلَايَةُ الْجَبْرِ عليه إلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَا
لِأَحَدٍ وِلَايَةُ الْمَنْعِ عنه وَإِنْ كان يَتَضَرَّرُ بِهِ
إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ فَيُمْنَعُ عن التَّصَرُّفِ من غَيْرِ
رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ وَغَيْرُ الْمَالِكِ لَا يَكُونُ له التَّصَرُّفُ في
مِلْكِهِ من غَيْرِ إذْنِهِ وَرِضَاهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَكَذَلِكَ حُكْمُ
الْحَقِّ الثَّابِتِ في الْمَحِلِّ
إذا عَرَفَ هذا فَنَقُولُ لِلْمَالِكِ أَنْ يَتَصَرَّفَ في مِلْكِهِ أَيَّ
تَصَرُّفٍ شَاءَ سَوَاءٌ كان تَصَرُّفًا يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إلَى غَيْرِهِ أو لَا
يَتَعَدَّى فَلَهُ أَنْ يَبْنِيَ في مِلْكِهِ مِرْحَاضًا أو حَمَّامًا أو رَحًى أو
تَنُّورًا وَلَهُ أَنْ يُقْعِدَ في بِنَائِهِ حَدَّادًا أو قَصَّارًا وَلَهُ أَنْ
يَحْفِرَ في مِلْكِهِ بِئْرًا أو بَالُوعَةً أو دِيمَاسًا وَإِنْ كان يُهِنَّ من
ذلك الْبِنَاءِ وَيَتَأَذَّى بِهِ جَارُهُ وَلَيْسَ لِجَارِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ حتى
لو طَلَب جَارُهُ تَحْوِيلَ ذلك لم يُجْبَرْ عليه لِأَنَّ الْمِلْكَ مُطْلَقٌ
لِلتَّصَرُّفِ في الْأَصْلِ وَالْمَنْعُ منه لِعَارِضِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ
فإذا لم يُوجَدْ التَّعَلُّقُ لَا يَمْنَعُ إلَّا أَنَّ الِامْتِنَاعَ عَمَّا
يُؤْذِي الْجَارَ دَيَّانَةً وَاجِبٌ لِلْحَدِيثِ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
الْمُؤْمِنُ من أَمِنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ وَلَوْ فَعَلَ شيئا من ذلك حتى وَهَنَ
الْبِنَاءُ وَسَقَطَ حَائِطُ الْجَارِ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ منه في
مِلْكِ الْغَيْرِ
وَعَلَى هذا سُفْلٌ لِرَجُلٍ وَعَلَيْهِ عُلُوٌّ لِغَيْرِهِ انْهَدَمَا لم
يُجْبَرْ صَاحِبُ السُّفْلِ على بِنَاءِ السُّفْلِ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ
وَالْإِنْسَانُ لَا يُجْبَرُ على عِمَارَةِ مِلْكِ نَفْسِهِ وَلَكِنْ يُقَالُ
لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ إنْ شِئْت فَابْن السُّفْلَ من مَالِ نَفْسِك وَضَعَ عليه
عُلُوَّك ثُمَّ امْنَعْ صَاحِبَ السُّفْلِ عن الِانْتِفَاعِ بِالسُّفْلِ حتى
يَرُدَّ عَلَيْك قِيمَةَ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَإِنْ كان
تَصَرُّفًا في مِلْكِ الْغَيْرِ لَكِنَّ فيه ضَرُورَةً لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ
الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ نَفْسِهِ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ في مِلْكِ غَيْرِهِ فَصَارَ
مُطْلَقًا له شَرْعًا وَلَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا
لِأَنَّ الْبِنَاءَ مِلْكُهُ لِحُصُولِهِ بِإِذْنِ الشَّرْعِ وَإِطْلَاقِهِ فَلَهُ
أَنْ لَا يُمَكِّنَهُ من الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ إلَّا بِبَدَلٍ يَعْدِلُهُ وهو
الْقِيمَةُ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَهُ وَكَذَا ذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ
يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ لِأَنَّهُ لَمَّا لم يَقْدِرْ على الِانْتِفَاعِ
بِالْعُلُوِّ إلَّا بِبِنَاءِ السُّفْلِ وَلَا ضَرَرَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ في
بِنَائِهِ بَلْ فيه نَفْعٌ صَارَ مَأْذُونًا بِالْإِنْفَاقِ من قِبَلِهِ دَلَالَةً
فَكَانَ له حَقُّ الرُّجُوعِ بِمَا أَنْفَقَ وَهَذَا بِخِلَافِ الْبِئْرِ
الْمُشْتَرَكِ وَالدُّولَابِ الْمُشْتَرَكِ وَالْحَمَّامِ الْمُشْتَرَكِ وَنَحْوِ
ذلك إذَا خَرِبَتْ فَامْتَنَعَ أَحَدُهُمَا عن الْعِمَارَةِ أَنَّهُ يُجْبَرُ
الْآخَرُ على الْعِمَارَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ ضَرُورَةً لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ
الِانْتِفَاعُ بِهِ بِوَاسِطَةِ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ
وَالتَّرْكَ لِذَلِكَ تَعْطِيلُ الْمِلْكِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِمَا فَكَانَ الذي
أَبَى الْعِمَارَةَ مُتَعَنِّتًا مَحْضًا في الِامْتِنَاعِ فَيَدْفَعُ تَعَنُّتَهُ
بِالْجَبْرِ على الْعِمَارَةِ
هذا إذَا انْهَدَمَا بِأَنْفُسِهِمَا فَأَمَّا إذَا هَدَمَ صَاحِبُ السُّفْلِ
سُفْلَهُ حتى انْهَدَمَ الْعُلُوُّ يُجْبَرُ على إعَادَتِهِ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ
حَقَّ صَاحِبِ الْعُلُوِّ بِإِتْلَافِ مَحِلِّهِ وَيُمْكِنُ جَبْرُهُ
بِالْإِعَادَةِ فَتَجِبُ عليه إعَادَتُهُ
وَعَلَى هذا حَائِطٌ بين دَارَيْنِ انْهَدَمَ وَلَهُمَا عليه جُذُوعٌ لم يُجْبَرْ
وَاحِدٌ مِنْهُمَا على بِنَائِهِ لِمَا قُلْنَا وَلَكِنْ إذَا أَبَى أَحَدُهُمَا
الْبِنَاءَ يُقَالُ لِلْآخَرِ إنْ شِئْت فَابْنِ من مَالِ نَفْسِك وَضَعْ خَشَبَك
عليه وَامْنَعْ صَاحِبَك من الْوَضْعِ حتى يَرُدَّ عَلَيْك نِصْفَ قِيمَةِ
الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا أو نِصْفَ ما أَنْفَقْته على حَسْبِ ما ذَكَرنَا في
السُّفْلِ وَالْعُلُوِّ
وَقِيلَ إنَّمَا يَرْجِعُ إذَا لم يَكُنْ مَوْضِعُ الْحَائِطِ عَرِيضًا وَلَا
يُمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبْنِيَ حَائِطًا على حِدَةٍ في نصيبه (
( ( نصبه ) ) ) بَعْدَ الْقِسْمَةِ
فَأَمَّا إذَا كان عَرِيضًا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ وَأَنْ يَبْنِيَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا في نَصِيبِهِ حَائِطًا يَصْلُحُ لِوَضْعِ الْجُذُوعِ عليه فَبَنَاهُ كما
كان بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ لَا يَكُونُ له حَقُّ الرُّجُوعِ على صَاحِبِهِ بَلْ
يَكُونُ مُتَبَرِّعًا لِأَنَّهُ يَبْنِي مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ من
غَيْرِ ضَرُورَةِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فَلَا يَرْجِعُ عليه بِشَيْءٍ
وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ عُرْضَةِ الْحَائِطِ لم تُقْسَمْ إلَّا عن
تَرَاضٍ مِنْهُمَا بِالْقِسْمَةِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عليه حَقَّ
وَضْعِ الْخَشَبِ وفي الْقِسْمَةِ جَبْرًا إبْطَالُ حَقِّ الْآخَرِ من غَيْرِ
رِضَاهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هذا إذَا لم يَكُنْ
عَرِيضًا فَإِنْ كان يُقْسَمُ قِسْمَةَ جَبْرٍ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ
حَقِّ الْغَيْرِ
وَلَوْ كانت الْجُذُوعُ عليه لِأَحَدِهِمَا فَطَلَب أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ
وَأَبَى الْآخَرُ فَإِنْ كان الطَّالِبُ صَاحِبَ الْجُذُوعِ يُجْبَرُ الْآخَرُ على
الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ في الِانْتِفَاعِ مُتَعَنِّتٌ وَإِنَّمَا الْحَقُّ
لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ وقد رضي بِسُقُوطِ حَقِّهِ
وَإِنْ كان الطَّالِبُ من لَا جِذْعَ له لَا يُجْبَرُ صَاحِبُ الْجُذُوعِ على
الْقِسْمَةِ لِأَنَّ فيه إبْطَالَ حَقِّهِ في وَضْعِ الْجُذُوعِ فَلَا يَجُوزُ من
غَيْرِ رِضَاهُ وَلَوْ هَدَمَ الْحَائِطَ أَحَدُهُمَا يُجْبَرُ على إعَادَتِهِ
لِمَا ذَكَرنَا أَنَّهُ أَتْلَفَ مَحَلَّ حَقِّ أَحَدِهِمَا فَيَجِبُ جَبْرُهُ على
الْإِعَادَةِ
وَعَلَى هذا سُفْلٌ لِرَجُلٍ وَعَلَيْهِ عُلُوٌّ لِغَيْرِهِ فَأَرَادَ صَاحِبُ
السُّفْلِ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا أو يُثْبِتَ كَوَّةً أو يَحْفِرَ طَاقًا أو
يَقُدَّ وَتِدًا على الْحَائِطِ أو يَتَصَرَّفَ فيه تَصَرُّفًا لم يَكُنْ قبل ذلك
ليس له ذلك من غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْعُلُوِّ سَوَاءٌ أَضَرَّ ذلك بِالْعُلُوِّ
____________________
(6/264)
بِأَنْ
أَوْجَبَ وَهَنَ الْحَائِطِ أو لم يَضُرَّ بِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا له ذلك إنْ لم يَضُرَّ بِالْعُلُوِّ
وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ السُّفْلِ أَنْ يَحْفِرَ في سُفْلِهِ بِئْرًا أو
بَالُوعَةً أو سِرْدَابًا فَلَهُ ذلك من غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْعُلُوِّ
إجْمَاعًا وَكَذَا إيقَادُ النَّارِ لِلطَّبْخِ أو للخبر ( ( ( للخبز ) ) )
وَصَبُّ الْمَاءِ لِلْغُسْلِ أو لِلْوُضُوءِ بِالِاتِّفَاقِ
وَعَلَى هذا الِاخْتِلَافُ لو أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ أَنْ يُحْدِثَ على
عُلُوِّهِ بِنَاءً أو يَضَعَ جُذُوعًا لم يَكُنْ قبل ذلك أو يَشْرَعَ فيه بَابًا
أو كَنِيفًا لم يَكُنْ قَبْلَهُ ليس له ذلك عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ أَضَرَّ
بِالسُّفْلِ أو لَا
وَعِنْدَهُمَا له أَنْ يَفْعَلَ ذلك ما لم يَضُرَّ بِالسُّفْلِ وَلَهُ إيقَادُ
النَّارِ وَصَبُّ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ إجْمَاعًا منهم من قال لَا
خِلَافَ بَيْنَهُمْ في الْحَقِيقَةِ
وَقَوْلُهُمَا تَفْسِيرُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمِنْهُمْ من
حَقَّقَ الْخِلَافَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ صَاحِبَ السُّفْلِ يَتَصَرَّفُ في مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا
يُمْنَعُ إلَّا لِحَقِّ الْغَيْرِ وَحَقُّ الْغَيْرِ لَا يَمْنَعُ من التَّصَرُّفِ
لَعَيْنِهِ بَلْ لِمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْنَعُ من الِاسْتِظْلَالِ بِجِدَارِ
غَيْرِهِ وَمِنْ الِاصْطِلَاءِ بِنَارِ غَيْرِهِ لِانْعِدَامِ تَضَرُّرِ
الْمَالِكِ وَالْخِلَافُ هُنَا في تَصَرُّفٌ لَا يَضُرُّ بِصَاحِبِ الْعُلُوِّ
فَلَا يُمْنَعُ عنه
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حُرْمَةَ التزصرف ( ( ( التصرف ) ) )
في مِلْكِ الْغَيْرِ وَحَقِّهِ لَا يَقِفُ على الضَّرَرِ بَلْ هو حَرَامٌ سَوَاءٌ
تَضَرَّرَ بِهِ أَمْ لَا
أَلَا تَرَى أَنَّ نَقْلَ الْمِرْآةِ والمبحار من دَارِ الْمَالِكِ إلَى مَوْضِعٍ
آخَرَ حَرَامٌ وَإِنْ كان لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَالِكُ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ يُبَاحُ التَّصَرُّفُ في مِلْكِ الْغَيْرِ وَحَقِّهِ
بِرِضَاهُ
وَلَوْ كانت الْحُرْمَةُ لِمَا يَلْحَقُهُ من الضَّرَرِ لَمَا أُبِيحَ
لِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يَنْعَدِمُ بِرِضَا الْمَالِكِ وَصَاحِبُ الْحَقِّ دَلَّ
أَنَّ التَّصَرُّفَ في مِلْكِ الْغَيْرِ وَحَقِّهِ حَرَامٌ أَضَرَّ بِالْمَالِكِ
أو لَا
وَهُنَا حَقٌّ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ مُتَعَلِّقٌ بِالسُّفْلِ فَيَحْرُمُ
التَّصَرُّفُ فيه إلَّا بِإِذْنِهِ وَرِضَاهُ بِخِلَافِ ما ضَرَبْنَا من
الْمِثَالِ وهو الِاسْتِظْلَالُ بِجِدَارِ غَيْرِهِ وَالِاصْطِلَاءُ بِنَارِ
غَيْرِهِ لِأَنَّ ذلك ليس تَصَرُّفًا في مِلْكٍ الْغَيْرِ وَحَقِّهِ
إذْ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ مُتَّصِلٌ بِمِلْكِ الْغَيْرِ وَحَقِّهِ وَهُنَا
بِخِلَافِهِ
وَعَلَى هذا إذَا كان مَسِيلُ مَاءٍ في قَنَاةٍ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْقَنَاةِ أَنْ
يَجْعَلَهُ مِيزَابًا أو كان مِيزَابًا فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ قَنَاةً ليس له
ذلك
وَكَذَلِكَ لو أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ مِيزَابًا أَطْوَلَ من مِيزَابِهِ أو
أَعْرَضَ
أو أَرَادَ أَنْ يَسِيلَ مَاءُ سَطْحٍ آخَرَ في ذلك الْمِيزَابِ لم يَكُنْ له ذلك
لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ زِيَادَةً على حَقِّهِ
وَكَذَلِكَ لو أَرَادَ أَهْلُ الدَّارِ أَنْ يَبْنُوا حَائِطًا لِيَسُدُّوا
مَسِيلَهُ أو أَرَادُوا أَنْ يَنْقُلُوا الْمِيزَابَ عن مَوْضِعِهِ أو يَرْفَعُوهُ
أو يُسْفِلُوهُ لم يَكُنْ لهم ذلك لِأَنَّ ذلك تَصَرُّفٌ في حَقِّ الْغَيْرِ
بِالْإِبْطَالِ وَالتَّغْيِيرِ فَلَا يَجُوزُ من غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ
وَلَوْ بَنَى أَصْلَ الدَّارِ لِتَسْيِيلِ مِيزَابِهِ على ظُهْرِهِ فَلَهُمْ ذلك
لِأَنَّ مَقْصُودَ صَاحِبِ الْمِيزَابِ حَاصِلٌ في الْحَالَيْنِ
دَارٌ لِرَجُلٍ فيها طَرِيقٌ فَأَرَادَ أَهْلُ الدَّارِ أَنْ يَبْنُوا في سَاحَةِ
الدَّارِ ما يَقْطَعُ طَرِيقَهُ ليس لهم ذلك لِأَنَّ فيه إبْطَالَ حَقِّ الْمُرُورِ
وَيَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكُوا في سَاحَةِ الدَّارِ عَرْضَ بَابِ الدَّارِ
لِأَنَّ عَرْضَ الطَّرِيقِ مُقَدَّرٌ بِعَرْضِ بَابِ الدَّارِ
وَلَوْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَشْرَعَ إلَى الطَّرِيقِ جَنَاحًا أو مِيزَابًا
فَنَقُولُ هذا في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إنْ كانت
السِّكَّةُ نَافِذَةً وَإِمَّا إنْ كانت غير نَافِذَةٍ
فَإِنْ كانت نَافِذَةً فإنه يَنْظُرُ إنْ كان ذلك مِمَّا يَضُرُّ بِالْمَارِّينَ
فَلَا يَحِلُّ له أَنْ يَفْعَلَ ذلك في دِينِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لَا ضَرَرَ وَلَا إضْرَارَ في الْإِسْلَامِ وَلَوْ فَعَلَ ذلك
فَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يُقْلِعَ عليه ذلك
وَإِنْ كان ذلك مِمَّا لَا يَضُرُّ بِالْمَارِّينَ حَلَّ له الِانْتِفَاعُ بِهِ ما
لم يَتَقَدَّمْ إلَيْهِ أَحَدٌ بِالرَّفْعِ وَالنَّقْضِ فإذا تَقَدَّمَ إلَيْهِ وَاحِدٌ
من عُرْضِ الناس لَا يَحِلُّ له الِانْتِفَاعُ بِهِ بَعْدَ ذلك عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يَحِلُّ له الِانْتِفَاعُ قبل
التَّقَدُّمِ وَبَعْدَهُ
وَكَذَلِكَ هذا الْحُكْمُ في غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَبِنَاءُ الدَّكَاكِينَ
وَالْجُلُوسِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ على قَارِعَةِ الطَّرِيقِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا ما ذَكَرنَا أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ في حَقِّ الْغَيْرِ
ليس لَعَيْنِهِ بَلْ لِلتَّحَرُّزِ عن الضَّرَرِ والإضرار بِالْمَارَّةِ
فَاسْتَوَى فيه حَالُ ما قبل التَّقَدُّمِ وَبَعْدَهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ إشْرَاعَ الْجَنَاحِ وَالْمِيزَابِ إلَى طَرِيقِ
الْعَامَّة تَصَرُّفٌ في حَقِّهِمْ لِأَنَّ هَوَاءَ الْبُقْعَةِ في حُكْمِ
الْبُقْعَةِ وَالْبُقْعَةُ حَقُّهُمْ فَكَذَا هَوَاؤُهَا فَكَانَ الِانْتِفَاعُ
بِذَلِكَ تَصَرُّفًا في حَقِّ الْغَيْرِ وقد مَرَّ أَنَّ التَّصَرُّفَ في حَقِّ
الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ حَرَامٌ سَوَاءٌ أَضَرَّ بِهِ أو لَا إلَّا أَنَّهُ
حَلَّ له الِانْتِفَاعُ بِذَلِكَ قبل التَّقَدُّمِ لِوُجُودِ الْإِذْنِ منهم
دَلَالَةً وَهِيَ تَرْكُ التَّقَدُّمِ بِالنَّقْضِ وَالتَّصَرُّفُ في حَقِّ
الْإِنْسَانِ بِإِذْنِهِ مُبَاحٌ فإذا وَقَعَتْ الْمُطَالَبَةُ بِصَرِيحِ
النَّقْضِ بَطَلَتْ الدَّلَالَةُ فَبَقِيَ الِانْتِفَاعُ بالمبني تَصَرُّفًا في
حَقٍّ مُشْتَرَكٍ بين الْكُلِّ من غَيْرِ إذْنِهِمْ وَرِضَاهُمْ فَلَا يَحِلُّ
هذا إذَا كانت السِّكَّةُ نَافِذَةً فَأَمَّا إذَا كانت غير نَافِذَةٍ فَإِنْ كان
له حَقٌّ في التَّقْدِيمِ فَلَيْسَ لِأَهْلِ السِّكَّةِ حَقُّ الْمَنْعِ
لِتَصَرُّفِهِ في حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ لم
____________________
(6/265)
يَكُنْ
له حَقٌّ في التَّقْدِيمِ فَلَهُمْ مَنْعُهُ سَوَاءٌ كان لهم في ذلك مَضَرَّةٌ أو
لَا لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ في حَقِّ الْغَيْرِ لَا تَقِفُ
على الْمَضَرَّةِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمَ
كِتَابُ الشَّهَادَةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ
رُكْنِ الشَّهَادَةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ ما يَلْزَمُ
الشَّاهِدَ بِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الشَّهَادَةِ أَمَّا
رُكْنُ الشَّهَادَةِ فَقَوْلُ الشَّاهِدِ أَشْهَدُ بِكَذَا وَكَذَا وفي
مُتَعَارَفِ الناس في حُقُوقِ الْعِبَادِ هو الْإِخْبَارُ عن كَوْنِ ما في يَدِ
غَيْرِهِ لِغَيْرِهِ فَكُلُّ من أَخْبَرَ بِأَنَّ ما في يَدِ غَيْرِهِ لِغَيْرِهِ
فَهُوَ شَاهِدٌ وَبِهِ يَنْفَصِلُ عن الْمُقِرِّ وَالْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عليه
على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الدَّعْوَى
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ في الْأَصْلِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ هو شَرْطُ
تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَنَوْعٌ هو شَرْطُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ أَمَّا
الْأَوَّلُ فَثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ
فَلَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ من الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ
لِأَنَّ تَحَمُّلَ الشَّهَادَةِ عِبَارَةٌ عن فَهْمِ الْحَادِثَةِ وَضَبْطِهَا
وَلَا يَحْصُلُ ذلك إلَّا بِآلَةِ الْفَهْمِ وَالضَّبْطِ وَهِيَ الْعَقْلُ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ عِنْدَنَا فَلَا يَصِحُّ
التَّحَمُّلُ من الْأَعْمَى وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْبَصَرُ
ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ التَّحَمُّلِ وَلَا لِصِحَّةِ الْأَدَاءِ لِأَنَّ
الْحَاجَةَ إلَى الْبَصَرِ عِنْدَ التَّحَمُّلِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ
بِالْمَشْهُودِ بِهِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالسَّمَاعِ وَلِلْأَعْمَى سَمَاعٌ
صَحِيحٌ فَيَصِحُّ تَحَمُّلُهُ لِلشَّهَادَةِ وَيَقْدِرُ على الْأَدَاءِ بَعْدَ
التَّحَمُّلِ
وَلَنَا أَنَّ الشَّرْطَ هو السَّمَاعُ من الْخَصْمِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَقَعُ
له وَلَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ خَصْمًا إلَّا بِالرُّؤْيَةِ لِأَنَّ النَّغَمَاتِ
يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا
وَأَمَّا الْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْعَدَالَةُ فَلَيْسَتْ من
شَرَائِطِ التَّحَمُّلِ بَلْ من شَرَائِطِ الْأَدَاءِ حتى لو كان وَقْتَ
التَّحَمُّلِ صَبِيًّا عَاقِلًا أو عَبْدًا أو كَافِرًا أو فَاسِقًا ثُمَّ بَلَغَ
الصَّبِيُّ وَعَتَقَ الْعَبْدُ وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَتَابَ الْفَاسِقُ
فَشَهِدُوا عِنْدَ الْقَاضِي تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ
وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ لِمَوْلَاهُ ثُمَّ عَتَقَ فَشَهِدَ
له تُقْبَلُ وَكَذَا الْمَرْأَةُ إذَا تَحَمَّلَتْ الشَّهَادَةَ لِزَوْجِهَا ثُمَّ
بَانَتْ منه فَشَهِدَتْ له تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا لِأَنَّ تَحَمُّلَهَا
الشَّهَادَةَ لِلْمَوْلَى وَالزَّوْجِ صَحِيحٌ وقد صَارَا من أَهْلِ الْأَدَاءِ
بِالْعِتْقِ وَالْبَيْنُونَةِ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا
وَلَوْ شَهِدَ الْفَاسِقُ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِتُهْمَةِ الْفِسْقِ أو شَهِدَ
أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِتُهْمَةِ
الزَّوْجِيَّةِ ثُمَّ شَهِدُوا في تِلْكَ الْحَادِثَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ
وَالْبَيْنُونَةِ لَا تُقْبَلُ وَلَوْ شَهِدَ الْعَبْدُ أو الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ
أو الْكَافِرُ على مُسْلِمٍ في حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ثُمَّ أَسْلَمَ
الْكَافِرُ وَعَتَقَ الْعَبْدُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ فَشَهِدُوا في تِلْكَ
الْحَادِثَةِ بِعَيْنِهَا تُقْبَلُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْفَاسِقَ وَالزَّوْجَ لَهُمَا شَهَادَةٌ في
الْجُمْلَةِ وقد ردت ( ( ( وردت ) ) ) فإذا شَهِدُوا بَعْدَ التَّوْبَةِ وَزَوَالِ
الزَّوْجِيَّةِ في تكلك ( ( ( تلك ) ) ) الْحَادِثَةِ فَقَدْ أَعَادَ تِلْكَ
الشَّهَادَةَ وَهِيَ مَرْدُودَةٌ وَالشَّهَادَةُ الْمَرْدُودَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْقَبُولَ
بِخِلَافِ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ
لِلْكَافِرِ على الْمُسْلِمِ أَصْلًا
وَكَذَا الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ لَا شَهَادَةَ لَهُمَا أَصْلًا فإذا أَسْلَمَ
الْكَافِرُ وَعَتَقَ الْعَبْدُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ فَقَدْ حَدَثَتْ لهم
بِالْإِسْلَامِ وَالْعِتْقِ وَالْبُلُوغِ شَهَادَةٌ وَهِيَ غَيْرُ الْمَرْدُودَةِ
فَقُبِلَتْ فَهُوَ الْفَرْقُ
الثالث ( ( ( والثالث ) ) ) أَنْ يَكُونَ التَّحَمُّلُ بِمُعَايَنَةِ الْمَشْهُودِ
بِهِ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ إلَّا في أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ يَصِحُّ
التَّحَمُّلُ فيها بِالتَّسَامُعِ من الناس لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لِلشَّاهِدِ إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا
فَدَعْ وَلَا يَعْلَمُ مِثْلَ الشَّمْسِ إلَّا بِالْمُعَايَنَةِ بِنَفْسِهِ فَلَا
تُطْلَقُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ إلَّا في أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ
النِّكَاحُ وَالنَّسَبُ وَالْمَوْتُ فَلَهُ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ فيها
بِالتَّسَامُعِ من الناس وَإِنْ لم يُعَايِنْ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ مَبْنَى هذه
الْأَشْيَاءِ على الِاشْتِهَارِ فَقَامَتْ الشُّهْرَةُ فيها مَقَامَ
الْمُعَايَنَةِ
وَكَذَا إذَا شَهِدَ الْعُرْسَ وَالزِّفَافَ يَجُوزُ له أَنْ يَشْهَدَ
بِالنِّكَاحِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ النِّكَاحِ وَكَذَا في الْمَوْتِ إذَا شَهِدَ
جِنَازَةَ رَجُلٍ أو دَفْنَهُ حَلَّ له أَنْ يَشْهَدَ بِمَوْتِهِ وَاخْتَلَفُوا في
تَفْسِيرِ التَّسَامُعِ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هو أَنْ يَشْتَهِرَ
ذلك وَيَسْتَفِيضَ وَتَتَوَاتَرَ بِهِ الْأَخْبَارُ عِنْدَهُ من غَيْرِ تَوَاطُؤٍ
لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالتَّوَاتُرِ وَالْمَحْسُوسَ بِحِسِّ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ
سَوَاءٌ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ شَهَادَةً عن مُعَايَنَةٍ فَعَلَى
هذا إذَا أخبره بِذَلِكَ رَجُلَانِ أو رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لَا يَحِلُّ له
الشَّهَادَةُ ما لم يَدْخُلْ في حَدِّ التَّوَاتُرِ
وَذَكَرَ أَحْمَدُ بن عَمْرِو بن مهير ( ( ( مهران ) ) ) الْخَصَّافُ أَنَّهُ إذَا
أخبره رَجُلَانِ عَدْلَانِ أو رَجُلٌ
____________________
(6/266)
وَامْرَأَتَانِ
أَنَّ هذا ابن فُلَانٍ أو امْرَأَةُ فُلَانٍ يَحِلُّ له الشَّهَادَةُ بِذَلِكَ
اسْتِدْلَالًا بِحُكْمِ الحكام ( ( ( الحاكم ) ) ) وَشَهَادَتِهِ فإنه يَحْكُمُ
بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ من غَيْرِ مُعَايَنَةٍ منه بَلْ يخبرهما ( ( ( بخبرهما )
) ) وَيَجُوزُ له أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ بَعْدَ الْعَزْلِ كَذَا هذا
وَلَوْ أخبره رَجُلٌ أو امْرَأَةٌ بِمَوْتِ إنْسَانٍ حَلَّ لِلسَّامِعِ أَنْ
يَشْهَدَ بِمَوْتِهِ فَعَلَى هذا يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بين الْمَوْتِ وَبَيْنَ
النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ مَبْنَى هذه الْأَشْيَاءِ وَإِنْ كان على الِاشْتِهَارِ
إلَّا أَنَّ الشُّهْرَةَ في الْمَوْتِ أَسْرَعُ منه في النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ
لِذَلِكَ شُرِطَ الْعَدَدُ في النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ لَا في الْمَوْتِ لَكِنْ
يَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَ في كل ذلك على الْبَتَاتِ وَالْقَطْعِ دُونَ التَّفْصِيلِ
وَالتَّقْيِيدِ بِأَنْ يَقُولَ إنِّي لم أُعَايِنْ ذلك وَلَكِنْ سمعت من فُلَانٍ
كَذَا وَكَذَا حتى لو شَهِدَ كَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ
وَأَمَّا الْوَلَاءُ فَالشَّهَادَةُ فيه بِالتَّسَامُعِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ
اللَّهُ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وقال تُقْبَلُ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مع أبي يُوسُفَ
الْآخَرَ
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَلَاءَ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ ثُمَّ الشَّهَادَةُ
بِالتَّسَامُعِ في النَّسَبِ مَقْبُولَةٌ كَذَا في الْوَلَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّا
كما نَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ كان ابْنَ الْخَطَّابِ رضي اللَّهُ عنه
نَشْهَدُ أَنَّ نَافِعًا كان مولى ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما
وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ جَوَازَ الشَّهَادَةِ
بِالتَّسَامُعِ في النَّسَبِ لِمَا أَنَّ مَبْنَى النَّسَبِ على الِاشْتِهَارِ
فَقَامَتْ الشُّهْرَةُ فيه مَقَامَ السَّمَاعِ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ مَبْنَى
الْوَلَاءِ على الِاشْتِهَارِ فَلَا بُدَّ من مُعَايَنَةِ الْإِعْتَاقِ حتى لو
اشْتَهَرَ اشْتِهَارَ نَافِعٍ لِابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما
حَلَّتْ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ في الْوَقْفِ فلم يَذْكُرْهُ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا أَلْحَقُوهُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّ مَبْنَى
الْوَقْفِ على الِاشْتِهَارِ أَيْضًا كَالْمَوْتِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِهِ
وَكَذَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ في الْقَضَاءِ وَالْوِلَايَةِ أَنَّ
هذا قَاضِي بَلَدِ كَذَا وَوَالِي بَلَدِ كَذَا وَإِنْ لم يُعَايِنْ الْمَنْشُورَ
لِأَنَّ مَبْنَى الْقَضَاءِ وَالْوِلَايَةِ على الشُّهْرَةِ فَقَامَتْ الشُّهْرَةُ
فيها مَقَامَ الْمُعَايَنَةِ ثُمَّ تُحْمَلُ الشَّهَادَةُ كما يَحْصُلُ
بِمُعَايَنَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ بِنَفْسِهِ يَحْصُلُ بِمُعَايَنَةِ دَلِيلِهِ
بِأَنْ يَرَى ثَوْبًا أو دَابَّةً أو دَارًا في يَدِ إنْسَانٍ يَسْتَعْمِلُهُ
اسْتِعْمَالَ الْمُلَّاكِ من غَيْرِ مُنَازِعٍ حتى لو خَاصَمَهُ غَيْرُهُ فيه
يَحِلُّ له أَنْ يَشْهَدَ بِالْمِلْكِ لِصَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ الْيَدَ
الْمُتَصَرِّفَةَ في الْمَالِ من غَيْرِ مُنَازِعٍ دَلِيلُ الْمِلْكِ فيه بَلْ لَا
دَلِيلَ بِشَاهِدٍ في الْأَمْوَالِ أَقْوَى منها
وزاد أبو يُوسُفَ فقال لَا تَحِلُّ له الشَّهَادَةُ حتى يَقَعَ في قَلْبِهِ
أَيْضًا أَنَّهُ له وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هذا قَوْلَهُمْ جميعا أَنَّهُ لَا
تَجُوزُ لِلرَّائِي الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِصَاحِبِ الْيَدِ حتى يَرَاهُ في
يَدِهِ يَسْتَعْمِلُهُ اسْتِعْمَالَ الْمُلَّاكِ من غَيْرِ مُنَازِعٍ وَحَتَّى
يَقَعَ في قَلْبِهِ أَنَّهُ له
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وقال كُلُّ شَيْءٍ في يَدِ إنْسَانٍ سِوَى
الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ يَسَعُك أَنْ تَشْهَدَ أَنَّهُ له اسْتَثْنَى الْعَبْدَ
وَالْأَمَةَ فَيَقْتَضِي أَنْ لَا تَحِلَّ له الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِصَاحِبِ
الْيَدِ فِيهِمَا إلَّا إذَا أَقَرَّا بِأَنْفُسِهِمَا وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ
الْعَبْدَ الذي يَكُونُ له في نَفْسِهِ يَدٌ بِأَنْ كان كَبِيرًا يُعَبِّرُ عن
نَفْسِهِ وَكَذَا الْأَمَةُ لِأَنَّ الْكَبِيرَ في يَدِ نَفْسِهِ ظاهرا إذْ
الْأَصْلُ هو الْحُرِّيَّةُ في بَنِي آدَمَ وَالرِّقُّ عَارِضٌ فَكَانَتْ يَدُهُ
إلَى نَفْسِهِ أَقْرَبَ من يَدِ غَيْرِهِ فلم تَصْلُحْ يَدُ غَيْرِهِ دَلِيلَ
الْمِلْكِ فيه بِخِلَافِ الْجَمَادَاتِ وَالْبَهَائِمِ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لها
فَبَقِيَتْ يَدُ صَاحِبِ الْيَدِ دَلِيلًا على الْمِلْكِ وَلِأَنَّ الْحُرَّ قد
يَخْدُمُ كَأَنَّهُ عَبْدٌ عَادَةً وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ في مُتَعَارَفِ الناس
وَعَادَاتِهِمْ فَتَعَارَضَ الظَّاهِرَانِ فلم تَصْلُحْ الْيَدُ دَلِيلًا فيه
أَمَّا إذَا كان صَغِيرًا لَا يُعَبِّرُ عن نَفْسِهِ كان حُكْمُهُ حُكْمَ
الثَّوْبِ وَالْبَهِيمَةِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ له في نَفْسِهِ يَدٌ فَيَلْحَقُ بِالْعُرُوضِ
وَالْبَهَائِمِ فَتَحِلُّ لِلرَّائِي الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ فيه لِصَاحِبِ
الْيَدِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرَائِطُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
الشَّاهِدِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الشَّهَادَةِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ
إلَى مَكَانِ الشَّهَادَةِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَشْهُودِ بِهِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الشَّاهِدِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَعُمُّ
الشَّهَادَاتِ كُلَّهَا وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ
أَمَّا الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ فَمِنْهَا الْعَقْلُ لِأَنَّ من لَا يَعْقِلُ لَا
يَعْرِفُ الشَّهَادَةَ فَكَيْفَ يَقْدِرُ على أَدَائِهَا
وَمِنْهَا الْبُلُوغُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ لِأَنَّهُ
لَا يَقْدِرُ على الْأَدَاءِ إلَّا بِالتَّحَفُّظِ وَالتَّحَفُّظُ بِالتَّذَكُّرِ
وَالتَّذَكُّرُ بِالتَّفَكُّرِ وَلَا يُوجَدُ من الصَّبِيِّ عَادَةً وَلِأَنَّ
الشَّهَادَةَ فيها مَعْنَى الْوِلَايَةِ وَالصَّبِيُّ مُوَلًّى عليه وَلِأَنَّهُ
لو كان له شَهَادَةٌ لَلَزِمَتْهُ الْإِجَابَةُ عِنْدَ الدَّعْوَةِ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ
وهو قَوْله تَعَالَى { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا ما دُعُوا } أَيْ دُعُوا
لِلْأَدَاءِ فَلَا يَلْزَمُهُ إجْمَاعًا
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ لقوله ( ( ( وقوله )
) ) تَعَالَى { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ على
شَيْءٍ } وَالشَّهَادَةُ شَيْءٌ فَلَا يَقْدِرُ على أَدَائِهَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ
الْكَرِيمَةِ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَجْرِي مَجْرَى الْوِلَايَاتِ
وَالتَّمْلِيكَاتِ
أَمَّا مَعْنَى
____________________
(6/267)
الْوِلَايَةِ
فإن فيه تَنْفِيذَ الْقَوْلِ على الْغَيْرِ وَإِنَّهُ من بَابِ الْوَلَاءِ
وَأَمَّا مَعْنَى التَّمْلِيكِ فإن الْحَاكِمَ يَمْلِكُ الْحُكْمَ بِالشَّهَادَةِ
فَكَأَنَّ الشَّاهِدَ مَلَّكَهُ الْحُكْمَ وَالْعَبْدُ لَا وِلَايَةَ له على
غَيْرِهِ وَلَا يَمْلِكُ فَلَا شَهَادَةَ له وَلِأَنَّهُ لو كان له شَهَادَةٌ
لَكَانَ يَجِبُ عليه الْإِجَابَةُ إذَا دُعِيَ لِأَدَائِهَا لِلْآيَةِ
الْكَرِيمَةِ وَلَا يَجِبُ لِقِيَامِ حَقِّ الْمَوْلَى وَكَذَا لَا تُقْبَلُ
شَهَادَةُ الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّهُمْ عُبَيْدٌ
وَكَذَا مُعْتَقُ الْبَعْضِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا
بِمَنْزِلَةِ حُرٍّ عليه دَيْنٌ
وَمِنْهَا بَصَرُ الشَّاهِدِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى عِنْدَهُمَا سَوَاءٌ كان بَصِيرًا
وَقْتَ التَّحَمُّلِ أو لَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ ليس بِشَرْطٍ حتى تُقْبَلَ
شَهَادَتُهُ إذَا كان بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ
وَهَذَا إذَا كان الْمُدَّعَى شيئا لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهِ
وَقْتَ الْأَدَاءِ فَأَمَّا إذَا كان شيئا يَحْتَاجُ إلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهِ
وَقْتَ الْأَدَاءِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إجْمَاعًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْبَصَرِ ليس لَعَيْنِهِ بَلْ
لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ وَذَا يَحْصُلُ إذَا كان بَصِيرًا وَقْتَ
التَّحَمُّلِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ الْمَشْهُودِ له
وَالْإِشَارَةِ إلَيْهِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ فإذا كان أَعْمَى عِنْدَ الْأَدَاءِ
لَا يَعْرِفُ بالمشهود ( ( ( المشهود ) ) ) له من غَيْرِهِ فَلَا يَقْدِرُ على
أَدَاءِ الشَّهَادَةِ
وَمِنْهَا النُّطْقُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ
لَفْظَةِ الشَّهَادَةِ شَرْطُ صِحَّةِ أَدَائِهَا وَلَا عِبَارَةَ لِلْأَخْرَسِ
أَصْلًا فَلَا شَهَادَةَ له
وَمِنْهَا الْعَدَالَةُ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ على الْإِطْلَاقِ فَإِنَّهَا لَا
تُقْبَلُ على الْإِطْلَاقِ دُونَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ من
الشُّهَدَاءِ } وَالشَّاهِدُ الْمَرْضِيُّ هو الشَّاهِدُ الْعَدْلُ
وَالْكَلَامُ في الْعَدَالَةِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ مَاهِيَّةِ الْعَدَالَةِ
أنها ما هِيَ في عُرْفِ الشَّرْعِ وفي بَيَانِ صِفَةِ الْعَدَالَةِ الْمَشْرُوطَةِ
وفي بَيَانِ أنها شَرْطُ أَصْلِ الْقَبُولِ وُجُودًا أَمْ شَرْطُ الْقَبُولِ على
الْإِطْلَاقِ وَوُجُوبًا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ
في مَاهِيَّةِ الْعَدَالَةِ الْمُتَعَارَفَةِ قال بَعْضُهُمْ من لم يُطْعَنْ عليه
في بَطْنٍ وَلَا فَرْجٍ فَهُوَ عَدْلٌ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ
وَالشَّرِّ يَرْجِعُ إلَى هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ
وقال بَعْضُهُمْ من لم يُعْرَفْ عليه جَرِيمَةٌ في دِينِهِ فَهُوَ عَدْلٌ
وقال بَعْضُهُمْ من غَلَبَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ فَهُوَ عَدْلٌ وقد رُوِيَ
عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ
يَعْتَادُ الصَّلَاةَ في الْمَسَاجِدِ فَاشْهَدُوا له بِالْإِيمَانِ وَرُوِيَ من
صلى إلَى قِبْلَتِنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَاشْهَدُوا له بِالْإِيمَانِ
وقال بَعْضُهُمْ من يَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ وَأَدَّى الْفَرَائِضَ وَغَلَبَتْ
حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ فَهُوَ عَدْلٌ
وهو اخْتِيَارُ أُسْتَاذِ أُسْتَاذِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ عَلِيٍّ
الْبَزْدَوِيِّ رحمه ( ( ( رضي ) ) ) اللَّهُ تَعَالَى
واختلفت في مَاهِيَّةِ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ
قال بَعْضُهُمْ ما فيه حَدٌّ في كِتَابِ اللَّهِ عز وجل فَهُوَ كَبِيرَةٌ وما لَا
حَدَّ فيه فَهُوَ صَغِيرَةٌ
وَهَذَا ليس بِسَدِيدٍ فإن شُرْبَ الْخَمْرِ وَأَكْلَ الرِّبَا كَبِيرَتَانِ وَلَا
حَدَّ فِيهِمَا في كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وقال بَعْضُهُمْ ما يُوجِبُ الْحَدَّ
فَهُوَ كَبِيرَةٌ وما لَا يُوجِبُهُ فَهُوَ صَغِيرَةٌ وَهَذَا يَبْطُلُ أَيْضًا
بِأَكْلِ الرِّبَا فإنه كَبِيرَةٌ وَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَكَذَا يَبْطُلُ
أَيْضًا بِأَشْيَاءَ أُخَرَ هِيَ كَبَائِرُ وَلَا تُوجِبُ الْحَدَّ نَحْوُ عُقُوقِ
الْوَالِدَيْنِ والفرارمن الزَّحْفِ وَنَحْوِهَا
وقال بَعْضُهُمْ كل ما جاء مَقْرُونًا بِوَعِيدٍ فَهُوَ كَبِيرَةٌ نَحْوُ قَتْلِ
النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ وَالزِّنَا وَالرَّبَّا
وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَالْفِرَارِ من الزخف ( ( ( الزحف ) ) ) وهو مَرْوِيٌّ
عن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما وَقِيلَ له إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن
سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما قال الْكَبَائِرُ سَبْعٌ فقال هِيَ إلَى
سَبْعِينَ أَقْرَبُ وَلَكِنْ لَا كَبِيرَةَ مع تَوْبَةٍ وَلَا صَغِيرَةَ مع
إصْرَارٍ
وَرُوِيَ عن الْحَسَنِ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال ما
تَقُولُونَ في الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ قالوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَعْلَمُ
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُنَّ فَوَاحِشُ وَفِيهِنَّ عُقُوبَةٌ
ثُمَّ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ
الْكَبَائِرِ فَقَالُوا بَلَى يا رَسُولَ اللَّهِ فقال الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ
وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وكان عليه السلام مُتَّكِئًا فَجَلَسَ ثُمَّ قال أَلَا
وَقَوْلُ الزُّورِ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ
فإذا عَرَفْت تَفْسِيرَ الْعَدَالَةِ في عُرْفِ الشَّرْعِ فَلَا عَدَالَةَ
لِشَارِبِ الْخَمْرِ لِأَنَّ شُرْبَهُ كَبِيرَةٌ فَتَسْقُطُ بِهِ الْعَدَالَةُ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال إذَا كان الرَّجُلُ صَالِحًا في أُمُورِهِ تَغْلِبُ
حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ وَلَا يُعْرَفُ بِالْكَذِبِ وَلَا بِشَيْءٍ من
الْكَبَائِرِ غير أَنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ أَحْيَانًا لِصِحَّةِ الْبَدَنِ
وَالتَّقَوِّي لَا لِلتَّلَهِّي يَكُونُ عَدْلًا
وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا على أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَدْلًا لِأَنَّ شُرْبَ
الْخَمْرِ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ وَإِنْ كان لِلتَّقَوِّي
وَمَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ بِنَفْسِ الشُّرْبِ لِأَنَّ
شُرْبَهُ لِلتَّقَوِّي دُونَ التهلي ( ( ( التلهي ) ) ) حَلَالٌ وَأَمَّا
السُّكْرُ منه فَإِنْ كان وَقَعَ منه مَرَّةً وهو لَا يَدْرِي أو وَقَعَ سَهْوًا
لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ
وَإِنْ كان يُعْتَادُ السُّكْرَ منه تَسْقُطُ
____________________
(6/268)
عَدَالَتُهُ
لِأَنَّ السُّكْرَ منه حَرَامٌ وَلَا عَدَالَةَ لِمَنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَ
الشُّرْبِ وَيَجْلِسُ بَيْنَهُمْ وَإِنْ كان لَا يَشْرَبُ لِأَنَّ حُضُورَهُ
مَجْلِسَ الْفِسْقِ فِسْقٌ وَلَا عَدَالَةَ لِلنَّائِحِ وَالنَّائِحَةِ لِأَنَّ
فِعْلَهُمَا مَحْظُورٌ وَأَمَّا الْمُغَنِّي فَإِنْ كان يَجْتَمِعُ الناس عليه
لِلْفِسْقِ بِصَوْتِهِ فَلَا عَدَالَةَ له وَإِنْ كان هو لَا يَشْرَبُ لِأَنَّهُ
رَأْسُ الْفَسَقَةِ وَإِنْ كان يَفْعَلُ ذلك مع نَفْسِهِ لِدَفْعِ الْوَحْشَةِ لَا
تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ لِأَنَّ ذلك مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ السَّمَاعَ
مِمَّا يُرَقِّقُ الْقُلُوبَ لَكِنْ لَا يَحِلُّ الْفِسْقُ بِهِ
وَأَمَّا الذي يَضْرِبُ شيئا من الْمَلَاهِي فإنه يُنْظَرُ إنْ لم يَكُنْ
مُسْتَشْنَعًا كَالْقَصَبِ وَالدُّفِّ وَنَحْوِهِ لَا بَأْسَ بِهِ وَلَا تَسْقُطُ
عَدَالَتُهُ وَإِنْ كان مُسْتَشْنَعًا كَالْعُودِ وَنَحْوِهِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ
لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ
وَاَلَّذِي يَلْعَبُ بِالْحَمَامِ فَإِنْ كان لَا يُطَيِّرُهَا لَا تَسْقُطُ
عَدَالَتُهُ وَإِنْ كان يُطَيِّرُهَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ لِأَنَّهُ يَطَّلِعُ
على عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَيَشْغَلُهُ ذلك عن الصَّلَاةِ وَالطَّاعَاتِ
وَمَنْ يَلْعَبُ بالرند ( ( ( بالنرد ) ) ) فَلَا عَدَالَةَ له
وَكَذَلِكَ من يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَيَعْتَادُهُ فَلَا عَدَالَةَ له وَإِنْ
أَبَاحَهُ بَعْضُ الناس لِتَشْحِيذِ الْخَاطِرِ وَتَعَلُّمِ أَمْرِ الْحَرْبِ
لِأَنَّهُ حَرَامٌ عِنْدَنَا لِكَوْنِهِ لَعِبًا
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلُّ لَعِبٍ حَرَامٌ إلَّا مُلَاعَبَةَ
الرَّجُلِ أَهْلَهُ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَرَمْيَهُ عن قَوْسِهِ
وَكَذَلِكَ إذَا اعْتَادَ ذلك يَشْغَلُهُ عن الصَّلَاةِ وَالطَّاعَاتِ
فَإِنْ كان يَفْعَلُهُ أَحْيَانًا وَلَا يُقَامِرُ بِهِ لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ
وَلَا عَدَالَةَ لِمَنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ لِأَنَّ سَتْرَ
الْعَوْرَةِ فَرِيضَةٌ وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ بِالْجَمَاعَاتِ اسْتِخْفَافًا
بها وَهَوَانًا بِتَرْكِهَا فَلَا عَدَالَةَ له لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ
وَإِنْ كان تَرَكَهَا عن تَأْوِيلٍ بِأَنْ كان الْإِمَامُ غير مَرْضِيٍّ عِنْدَهُ
لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ وَلَا عَدَالَةَ لِمَنْ يَفْجُرُ بِالنِّسَاءِ أو
يَعْمَلُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ وَلَا لِلسَّارِقِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ
وَالْمُتَلَصِّصِ وَقَاذِفِ الْمُحْصَنَاتِ وَقَاتِلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ
وَآكِلِ الرِّبَا وَنَحْوِهِ
لِأَنَّ هَؤُلَاءِ من رؤس الْكَبَائِرِ وَلَا عَدَالَةَ لِلْمُخَنَّثِ لِأَنَّ
فِعْلَهُ وَعَمَلَهُ كَبِيرَةٌ وَلَا عَدَالَةَ لِمَنْ لم يُبَالِ من أَيْنَ
يَكْتَسِبُ الدَّرَاهِمَ من أَيِّ وَجْهٍ كان لِأَنَّ من هذا حَالُهُ لَا يأمن ( (
( يؤمن ) ) ) منه أَنْ يَشْهَدَ زُورًا طَمَعًا في الْمَالِ
وَالْمَعْرُوفُ بِالْكَذِبِ لَا عَدَالَةَ له وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا
وَإِنْ تَابَ
لِأَنَّ من صَارَ مَعْرُوفًا بِالْكَذِبِ وَاشْتُهِرَ بِهِ لَا يُعْرَفُ صِدْقُهُ
في تَوْبَتِهِ بِخِلَافِ الْفَاسِقِ إذَا تَابَ عن سَائِرِ أَنْوَاعِ الْفِسْقِ
تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ
وَكَذَا من وَقَعَ في الْكَذِبِ سَهْوًا وَابْتُلِيَ بِهِ مَرَّةً ثُمَّ تَابَ
لِأَنَّهُ قَلَّ ما يَخْلُو مُسْلِمٌ عن ذلك فَلَوْ مُنِعَ الْقَبُولُ لَانْسَدَّ
بَابُ الشَّهَادَةِ
وَأَمَّا الْأَقْلَفُ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا كان عَدْلًا ولم يَكُنْ
تَرْكُهُ الْخِتَانَ رَغْبَةً عن السُّنَّةِ لِعُمُومَاتِ الشَّهَادَةِ وَلِأَنَّ إسْلَامَهُ
إذَا كان في حَالِ الْكِبَرِ فَيَجُوزُ أَنَّهُ خَافَ على نَفْسِهِ التَّلَفَ
فَإِنْ لم يَخَفْ ولم يَخْتَتِنْ تَارِكًا لِلسُّنَّةِ لم تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ
كَالْفَاسِقِ وَاَلَّذِي يَرْتَكِبُ الْمَعَاصِيَ أَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تَجُوزُ
وَإِنْ كنا لَا نَسْتَيْقِنُ كَوْنَهُ فَاسِقًا في تِلْكَ الْحَالِ
وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ وَلَدِ الزِّنَا إذا كان عَدْلًا لِعُمُومَاتِ الشَّهَادَةِ
لِأَنَّ زِنَا الْوَالِدَيْنِ لَا يَقْدَحُ في عَدَالَتِهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وما رُوِيَ عنه وَلَدُ
الزِّنَا أَسْوَأُ الثَّلَاثَةِ فَذَا في وَلَدٍ مُعَيَّنٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ
وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْخَصِيِّ لِعُمُومَاتِ الشَّهَادَةِ
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قَبِلَ شَهَادَةَ
عَلْقَمَةَ الْخَصِيِّ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه مُنْكِرٌ من
الصَّحَابَةِ وَلِأَنَّ الْخِصَاءَ لَا يَقْدَحُ في الْعَدَالَةِ فَلَا يَمْنَعُ
قَبُولَ الشَّهَادَةِ
وَأَمَّا شَهَادَةُ صَاحِبِ الْهَوَى إذَا كان عَدْلًا في هَوَاهُ وَدِينِهِ
نُظِرَ في ذلك إنْ كان هَوًى يُكَفِّرُهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّ
شَهَادَةَ الْكَافِرِ على الْمُسْلِمِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ
وَإِنْ كان لَا يُكَفِّرُهُ فَإِنْ كان صَاحِبُ الْعَصَبِيَّةِ وَصَاحِبُ
الدَّعْوَةِ إلَى هَوَاهُ أو كان فيه مَجَانَةٌ لَا تُقْبَلُ أَيْضًا لِأَنَّ صَاحِبَ
الْعَصَبِيَّةِ وَالدَّعْوَةِ لَا يُبَالِي من الْكَذِبِ وَالتَّزْوِيرِ
لِتَرْوِيجِ هَوَاهُ فَكَانَ فَاسِقًا فيه
وَكَذَا إذَا كان فيه مَجَانَةٌ لِأَنَّ الْمَاجِنَ لَا يُبَالِي من الْكَذِبِ
فَإِنْ لم يَكُنْ كَذَلِكَ وهو عَدْلٌ في هَوَاهُ تُقْبَلُ لِأَنَّ هَوَاهُ
يَزْجُرُهُ عن الْكَذِبِ إلَّا صِنْفٌ من الرَّافِضَةِ يُسَمَّوْنَ
بِالْخَطَّابِيَّةِ فَإِنَّهُمْ لَا شَهَادَةَ لهم لِأَنَّ من نِحْلَتِهِمْ
أَنَّهُ تَحِلُّ الشَّهَادَةُ لِمَنْ يُوَافِقُهُمْ على من يُخَالِفُهُمْ
وَقِيلَ من نِحْلَتِهِمْ أَنَّ من ادَّعَى أَمْرًا من الْأُمُورِ وَحَلَفَ عليه
كان صَادِقًا في دَعْوَاهُ فَيَشْهَدُونَ له فَإِنْ كان هذا مَذْهَبَهُمْ فَلَا
تَخْلُو شَهَادَتُهُمْ عن الْكَذِبِ
وَكَذَا لَا عَدَالَةَ لِأَهْلِ الْإِلْهَامِ لِأَنَّهُمْ يَحْكُمُونَ
بِالْإِلْهَامِ فَيَشْهَدُونَ لِمَنْ يَقَعُ في قُلُوبِهِمْ أَنَّهُ صَادِقٌ في
دَعْوَاهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذلك لَا يَخْلُو عن الْكَذِبِ وَلَا عَدَالَةَ لِمَنْ
يُظْهِرُ شَتِيمَةَ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ لِأَنَّ شَتِيمَةَ
وَاحِدٍ من آحَادِ الْمُسْلِمِينَ مُسْقِطَةٌ لِلْعَدَالَةِ فَشَتِيمَتُهُمْ
أَوْلَى
وَلَا عَدَالَةَ لِصَاحِبِ الْمَعْصِيَةِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
ليس مِنَّا من مَاتَ على الْمَعْصِيَةِ
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من مَاتَ على الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ كَحِمَارٍ
نَزَعَ
____________________
(6/269)
بِدِينِهِ
فَكَانَتْ الْمَعْصِيَةُ مَعْصِيَةً مُسْقِطَةً لِلْعَدَالَةِ
وَالْأَصْلُ في هذا الْفَصْلِ أَنَّ من ارْتَكَبَ جَرِيمَةً فَإِنْ كانت من
الْكَبَائِرِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ فَإِنْ لم تَكُنْ من
الْكَبَائِرِ فَإِنْ أَصَرَّ عليها وَاعْتَادَ ذلك فَكَذَلِكَ لِأَنَّ
الصَّغِيرَةَ بِالْإِصْرَارِ عليها تَصِيرُ كَبِيرَةً
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا صَغِيرَةَ مع الْإِصْرَارِ وَلَا كَبِيرَةَ
مع الِاسْتِغْفَارِ وَإِنْ لم يُصِرَّ عليها لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ إذَا
غَلَبَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ
وَأَمَّا بَيَانُ صِفَةِ الْعَدَالَةِ الْمَشْرُوطَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ
أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه الشَّرْطُ هو
الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ فَأَمَّا الْعَدَالَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَهِيَ
الثَّابِتَةُ بِالسُّؤَالِ عن حَالِ الشُّهُودِ بِالتَّعْدِيلِ وَالتَّزْكِيَةِ
فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّهَا شَرْطٌ
وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ جَائِزٌ عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّهُ لَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا طَعَنَ الْخَصْمُ
في الشَّاهِدِ أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ بَلْ يَسْأَلُ
الْقَاضِي عن حَالِ الشُّهُودِ وَكَذَا لَا خِلَافَ في أَنَّهُ يَسْأَلُ عن
حَالِهِمْ في الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَلَا يَكْتَفِي بِالْعَدَالَةِ
الظَّاهِرَةِ سَوَاءٌ طَعَنَ الْخَصْمُ فِيهِمْ أو لم يَطْعَنْ
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ إذَا لم يَطْعَنْ الْخَصْمُ
قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَسْأَلُ
وَقَالَا يَسْأَلُ عن مَشَايِخِنَا من قال هذا الِاخْتِلَافُ اخْتِلَافُ زَمَانٍ
لَا اخْتِلَافَ حَقِيقَةٍ لِأَنَّ زَمَنَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كان من
أَهْلِ خَيْرٍ وَصَلَاحٍ لِأَنَّهُ زَمَنُ التَّابِعِينَ وقد شَهِدَ لهم النبي
بِالْخَيْرِيَّةِ بِقَوْلِهِ خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الذي أنا فيه ثُمَّ
الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يفشوا ( ( ( يفشو ) ) )
الْكَذِبُ الحديث فَكَانَ الْغَالِبُ في أَهْلِ زَمَانِهِ الصَّلَاحَ وَالسَّدَادَ
فَوَقَعَتْ الْغُنْيَةُ عن السُّؤَالِ عن حَالِهِمْ في السِّرِّ
ثُمَّ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ وَظَهَرَ الْفَسَادُ في قَرْنِهِمَا فَوَقَعَتْ
الْحَاجَةُ إلَى السُّؤَالِ عن الْعَدَالَةِ فَكَانَ اخْتِلَافُ جَوَابِهِمْ
لِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ فَلَا يَكُونُ اخْتِلَافًا حقيقا ( ( ( حقيقة ) ) )
وَمِنْهُمْ من حَقَّقَ الْخِلَافَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَدَالَةَ الظَّاهِرَةَ تَصْلُحُ لِلدَّفْعِ لَا
لِلْإِثْبَاتِ لِثُبُوتِهَا بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ دُونَ الدَّلِيلِ
وَالْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى الْإِثْبَاتِ وهو إيجَابُ الْقَضَاءِ وَالظَّاهِرُ لَا
يَصْلُحُ حُجَّةً له فَلَا بُدَّ من إثْبَاتِ الْعَدَالَةِ بِدَلِيلِهَا وَلِأَبِي
حَنِيفَةَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ عز وجل { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أَمَةً وَسَطًا }
أَيْ عَدْلًا
وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُؤْمِنِي هذه الْأُمَّةِ بِالْوَسَاطَةِ
وَهِيَ الْعَدَالَةُ
وقال سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه عُدُولٌ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ
فَصَارَتْ الْعَدَالَةُ أَصْلًا في الْمُؤْمِنِينَ وَزَوَالُهَا بِعَارِضٍ
وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ الْحَقِيقِيَّةَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهَا
فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالظَّاهِرِ وقد ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُمْ قبل السُّؤَالِ عن
حَالِهِمْ فَيَجِبُ الِاكْتِفَاءُ بِهِ إلَّا أَنْ يَطْعَنَ الْخَصْمُ لِأَنَّهُ
إذَا طَعَنَ الْخَصْمُ وهو صَادِقٌ في الطَّعْنِ فَيَقَعُ التَّعَارُضُ بين
الظَّاهِرَيْنِ فَلَا بُدَّ من التَّرْجِيحِ بِالسُّؤَالِ وَالسُّؤَالُ في
الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ طَرِيقٌ لِدَرْئِهَا وَالْحُدُودُ يُحْتَالُ فيها
لِلدَّرْءِ
وَلَوْ طَعَنَ الْمَشْهُودُ عليه في حُرِّيَّةِ الشَّاهِدَيْنِ وقال إنَّهُمَا
رَقِيقَانِ وَقَالَا نَحْنُ حُرَّانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ حتى تَقُومَ لَهُمَا
الْبَيِّنَةُ على حُرِّيَّتِهِمَا لِأَنَّ الْأَصْلَ في بَنِي آدَمَ وَإِنْ كان هو
الْحُرِّيَّةَ لِكَوْنِهِمْ أَوْلَادَ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السلام
وَهُمَا حُرَّانِ لَكِنَّ الثَّابِتَ بِحُكْمِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ لَا يَصْلُحُ
لِلْإِلْزَامِ على الْخَصْمِ وَلَا بُدَّ من إثْبَاتِهَا بِالدَّلَائِلِ
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الناس كُلَّهُمْ أَحْرَارٌ إلَّا في أَرْبَعَةٍ
الشَّهَادَاتِ وَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالْعَقْلِ هذا إذَا كَانَا مَجْهُولَيْ
النَّسَبِ لم تُعْرَفْ حُرِّيَّتُهُمَا ولم تَكُنْ ظَاهِرَةً مَشْهُورَةً بِأَنْ
كَانَا من الْهِنْدِ أو التُّرْكِ أو غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا تُعْرَفُ
حُرِّيَّتُهُ
أو كَانَا عَرَبِيَّيْنِ
فَأَمَّا إذَا لم يَكُونَا مِمَّنْ يَجْرِي عليه الرِّقُّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا
وَلَا يَثْبُتُ رِقُّهُمَا إلَّا بِالْبَيِّنَةِ
وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ قَبُولِ أَصْلِ الشَّهَادَةِ وُجُودًا
أَمْ شَرْطُ الْقَبُولِ مُطْلَقًا وُجُوبًا وَوُجُودًا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال
أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ إنَّهَا شَرْطُ الْقَبُولِ لِلشَّهَادَةِ
وُجُودًا على الْإِطْلَاقِ وَوُجُوبًا لَا شَرْطَ أَصْلِ الْقَبُولِ حتى يَثْبُتَ
الْقَبُولُ بِدُونِهِ وقال الشَّافِعِيُّ عليه الرَّحْمَةُ إنَّهَا شَرْطُ أَصْلِ
الْقَبُولِ لَا يَثْبُتُ الْقَبُولُ أَصْلًا دُونَهَا حتى إنَّ الْقَاضِيَ لو
تَحَرَّى الصِّدْقَ في شَهَادَةِ الْفَاسِقِ يَجُوزُ له قَبُولُ شَهَادَتِهِ وَلَا
يَجُوزُ الْقَبُولُ من غَيْرِ تَحَرٍّ بِالْإِجْمَاعِ
وَكَذَا لَا يَجِبُ عليه الْقَبُولُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ
شَهَادَةَ الْعَدْلِ من غَيْرِ تَحَرٍّ وإذا شَهِدَ يَجِبُ عليه الْقَبُولُ
وَهَذَا هو الْفَصْلُ بين شَهَادَةِ الْعَدْلِ وَبَيْنَ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ
عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عليه الرَّحْمَةُ لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ
يَقْضِيَ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ أَصْلًا
وَكَذَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقَيْنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ
لَا يَنْعَقِدُ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَبْنَى قَبُولِ
الشَّهَادَاتِ على الصِّدْقِ وَلَا يَظْهَرُ الصِّدْقُ إلَّا بِالْعَدَالَةِ
لِأَنَّ خَبَرَ من ليس بِمَعْصُومٍ عن الْكَذِبِ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ
وَلَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ إلَّا بِالْعَدَالَةِ
وَاحْتَجَّ في انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِقَوْلِهِ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ
وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ
وَلَنَا عُمُومَاتُ قَوْله تَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِجَالِكُمْ
} وَقَوْلِهِ لَا
____________________
(6/270)
نِكَاحَ
إلَّا بِشُهُودٍ وَالْفَاسِقُ شَاهِدٌ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {
مِمَّنْ تَرْضَوْنَ من الشُّهَدَاءِ } قَسَّمَ الشُّهُودَ إلَى مَرْضِيِّينَ
وَغَيْرِ مَرْضِيِّينَ فَيَدُلُّ على كَوْنِ غَيْرِ الْمَرْضِيِّ وهو الْفَاسِقُ
شَاهِدًا وَلِأَنَّ حَضْرَةَ الشُّهُودِ في بَابِ النِّكَاحِ لِدَفْعِ تُهْمَةِ الزِّنَا
لَا لِلْحَاجَةِ إلَى شَهَادَتِهِمْ عِنْدَ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ لِأَنَّ
النِّكَاحَ يَشْتَهِرُ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَيُمْكِنُ دَفْعُ الْجُحُودِ
وَالْإِنْكَارِ بِالشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ وَالتُّهْمَةُ تَنْدَفِعُ
بِحَضْرَةِ الْفَاسِقِ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحَضْرَتِهِمْ
وَأَمَّا قَوْلُهُ الرُّكْنُ في الشَّهَادَةِ هو صِدْقُ الشَّاهِدِ فَنَعَمْ
لَكِنَّ الصِّدْقَ لَا يَقِفُ على الْعَدَالَةِ لَا مَحَالَةَ فإن من الْفَسَقَةِ
من لَا يُبَالِي بِارْتِكَابِهِ أَنْوَاعًا من الْفِسْقِ وَيَسْتَنْكِفُ عن الْكَذِبِ
وَالْكَلَامُ في فَاسِقٍ تَحَرَّى الْقَاضِي الصِّدْقَ في شَهَادَتِهِ فَغَلَبَ
على ظَنِّهِ صِدْقُهُ وَلَوْ لم يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ
بِشَهَادَتِهِ عِنْدَنَا
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ رُوِيَ عن بَعْضِ نَقَلَةِ الحديث أَنَّهُ قال لم يَثْبُتْ
عن رسول اللَّهِ وَلَنْ يَثْبُتَ فَلَا حُجَّةَ له فيه بَلْ هو حُجَّةٌ عليه
لِأَنَّهُ ليس فيه جَعْلُ الْعَدَالَةِ صِفَةً لِلشَّاهِدِ لِأَنَّهُ لو كان
كَذَلِكَ لَقَالَ لَا نكالح ( ( ( نكاح ) ) ) إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ
عَدْلَيْنِ بَلْ هذا إضَافَةُ الشَّاهِدَيْنِ إلَى الْعَدْلِ وهو كَلِمَةُ
التَّوْحِيدِ فَكَأَنَّهُ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا نِكَاحَ إلَّا
بِوَلِيٍّ مقابل ( ( ( مقابلي ) ) ) كَلِمَةِ الْعَدْلِ وَهِيَ كَلِمَةُ
الْإِسْلَامِ وَالْفَاسِقُ مُسْلِمٌ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحَضْرَتِهِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَحْدُودًا في قَذْفٍ عِنْدَنَا وهو شَرْطُ الْأَدَاءِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس بِشَرْطٍ وَاحْتَجَّ بِعُمُومَاتِ
الشَّهَادَةِ من غَيْرِ فَصْلٍ لِأَنَّ الْمَانِعَ هو الْفِسْقُ بِالْقَذْفِ وقد
زَالَ بِالتَّوْبَةِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى جَلَّ وَعَلَا { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ }
الْآيَةَ
نهى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن قَبُولِ شَهَادَةِ الرَّامِي على التَّأْبِيدِ
فَيَتَنَاوَلُ زَمَانَ ما بَعْدَ التَّوْبَةِ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَحْدُودَ في الْقَذْفِ مَخْصُوصٌ من عُمُومَاتِ
الشَّهَادَةِ عَمَلًا بِالنُّصُوصِ كُلِّهَا صِيَانَةً لها عن التَّنَاقُضِ
وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إذَا قَذَفَ مُسْلِمًا فَحُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا
تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ على أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنْ أَسْلَمَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ
عليهم وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ
وَبِمِثْلِهِ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ إذَا قَذَفَ حُرًّا ثُمَّ حُدَّ حَدَّ
الْقَذْفِ ثُمَّ عَتَقَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا وَإِنْ أُعْتِقَ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ تُوجِبُ بُطْلَانَ شَهَادَةٍ كان
لِلْقَاذِفِ قبل الْإِقَامَةِ وَالثَّابِتُ لِلذِّمِّيِّ قبل إقَامَةِ الْحَدِّ
شَهَادَتُهُ على أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا على أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَتَبْطُلُ تِلْكَ
الشَّهَادَةُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ فإذا أَسْلَمَ فَقَدْ حَدَثَتْ له
بِالْإِسْلَامِ شَهَادَةٌ غَيْرُ مَرْدُودَةٍ وَهِيَ شهادته ( ( ( شهادة ) ) ) على
أَهْلِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهَا لم تَكُنْ له لِتَبْطُلَ بِالْحَدِّ فَتُقْبَلُ
هذه الشَّهَادَةُ ثُمَّ من ضَرُورَةِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ على أَهْلِ الْإِسْلَامِ
قَبُولُ شَهَادَتِهِ على أَهْلِ الذِّمَّةِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ
من أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَإِنْ لم تَكُنْ له شَهَادَةٌ مَقْبُولَةٌ لِأَنَّ له
عَدَالَةَ الْإِسْلَامِ وَالْحَدُّ أَبْطَلَ ذلك على التَّأْبِيدِ
وَلَوْ ضُرِبَ الذِّمِّيُّ بَعْضَ الْحَدِّ فَأَسْلَمَ ثُمَّ ضُرِبَ الْبَاقِيَ
تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّ الْمُبْطِلَ لِلشَّهَادَةِ إقَامَةُ الْحَدِّ في
حَالَةِ الْإِسْلَامِ ولم تُوجَدْ لِأَنَّ الْحَدَّ اسْمٌ لِلْكُلِّ فَلَا يَكُونُ
الْبَعْضُ حَدًّا لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَتَجَزَّأُ وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ
وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ عليه الرَّحْمَةُ رِوَايَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ
فقال في رِوَايَةٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وفي رِوَايَةٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ
وَلَوْ ضُرِبَ سَوْطًا وَاحِدًا في الْإِسْلَامِ لِأَنَّ السِّيَاطَ
الْمُتَقَدِّمَةَ تَوَقَّفَ كَوْنُهَا حَدًّا على وُجُودِ السَّوْطِ الْأَخِيرِ
وقد وُجِدَ كَمَالُ الْحَدِّ في حَالَةِ الْإِسْلَامِ وفي رِوَايَةٍ اُعْتُبِرَ
الْأَكْثَرُ إنْ وُجِدَ أَكْثَرُ الْحَدِّ في حَالِ الْإِسْلَامِ تَبْطُلُ
شَهَادَتُهُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ في الشَّرْعِ
وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَدَّ اسْمٌ
لِلْكُلِّ وَعِنْدَ ضَرْبِ السَّوْطِ الْأَخِيرِ تَبَيَّنَ أَنَّ السِّيَاطَ
كُلَّهَا كانت حَدًّا ولم يُوجَدْ الْكُلُّ في حَالِ الْإِسْلَامِ بَلْ الْبَعْضُ
فَلَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ الْحَادِثَةُ بِالْإِسْلَامِ
هذا إذَا شَهِدَ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَبَعْدَ التَّوْبَةِ فَأَمَّا إذَا
شَهِدَ بَعْدَ التَّوْبَةِ قبل إقَامَةِ الْحَدِّ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ
بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ شَهِدَ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ قبل التَّوْبَةِ لَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ شَهِدَ قبل التَّوْبَةِ وَقَبْلَ إقَامَةِ
الْحَدِّ فَهِيَ مَسْأَلَةُ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ وقد مَرَّتْ
وَأَمَّا النِّكَاحُ بِحَضْرَةِ الْمَحْدُودِينَ في الْقَذْفِ فَيَنْعَقِدُ
بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّ له
شَهَادَةً أَدَاءً فَكَانَتْ له شَهَادَةٌ سَمَاعًا وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ
حَضْرَةَ الشُّهُودِ لَدَى النِّكَاحِ لَيْسَتْ لِدَفْعِ الْجُحُودِ
وَالْإِنْكَارِ لِانْدِفَاعِ الْحَاجَةِ بِالشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ بَلْ لِرَفْعِ
رِيبَةِ الزِّنَا وَالتُّهْمَةِ بِهِ وَذَا يُجْعَلُ بِحَضْرَةِ الْمَحْدُودِينَ
في الْقَذْفِ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحَضْرَتِهِمْ وَلَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُمْ لِلنَّهْيِ عن الْقَبُولِ وَالِانْعِقَادُ يَنْفَصِلُ
____________________
(6/271)
عن
الْقَبُولِ في الْجُمْلَةِ
وَأَمَّا الْمَحْدُودُ في الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ فَتُقْبَلُ
شَهَادَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ إذَا تَابَ لِأَنَّهُ صَارَ عَدْلًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ في الْقَذْفِ إذَا تَابَ
لَوْلَا النَّصُّ الْخَاصُّ بِعَدَمِ الْقَبُولِ على التَّأْبِيدِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَجُرَّ الشَّاهِدُ إلَى نَفْسِهِ مَغْنَمًا وَلَا يَدْفَعَ عن
نَفْسِهِ مَغْرَمًا بِشَهَادَتِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا
شَهَادَةَ لِجَارِ الْمَغْنَمِ وَلَا لِدَافِعِ الْمَغْرَمِ وَلِأَنَّ شَهَادَتَهُ
إذَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى النَّفْعِ وَالدَّفْعِ فَقَدْ صَارَ مُتَّهَمًا وَلَا
شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ على لِسَانِ رسول اللَّهِ وَلِأَنَّهُ إذَا جَرَّ
النَّفْعَ إلَى نَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ لم تَقَعْ شَهَادَتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى عز
وجل بَلْ لِنَفْسِهِ فَلَا تُقْبَلُ
وَعَلَى هذا تَخْرُجُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ وَإِنْ عَلَا لِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ
وَعَكْسُهُ أنها غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لِأَنَّ الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ
يَنْتَفِعُ الْبَعْضُ بِمَالِ الْبَعْضِ عَادَةً فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى جَرِّ النَّفْعِ
وَالتُّهْمَةِ وَالشَّهَادَةِ لِنَفْسِهِ فَلَا تُقْبَلُ
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ في أَدَبِ الْقَاضِي عن النبي عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ
لِوَلَدِهِ وَلَا الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ وَلَا
الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ وَلَا الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا وَلَا الزَّوْجِ
لِزَوْجَتِهِ
وَأَمَّا سَائِرُ الْقَرَابَاتِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْخَالِ وَنَحْوِهِمْ
فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ ليس لِبَعْضِهِمْ
تَسَلُّطٌ في مَالِ الْبَعْضِ عُرْفًا وَعَادَةً فَالْتَحَقُوا بِالْأَجَانِبِ
وَكَذَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ من الرَّضَاعِ لِوَلَدِهِ من الرَّضَاعِ
وَشَهَادَةُ الْوَلَدِ من الرَّضَاعِ لِوَالِدِهِ من الرَّضَاعِ لِأَنَّ
الْعَادَةَ ما جَرَتْ بِانْتِفَاعِ هَؤُلَاءِ بَعْضِهِمْ بِمَالِ الْبَعْضِ
فَكَانُوا كَالْأَجَانِبِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ وَلَا
شَهَادَةُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ فَلَا تُقْبَلُ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُقْبَلُ وَاحْتَجَّ بِعُمُومَاتِ
الشَّهَادَةِ من غَيْرِ تَخْصِيصٍ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى جلا ( ( ( جل ) ) )
وَعَلَا { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِجَالِكُمْ } وَقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ {
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَقَوْلِهِ عَظُمَتْ كِبْرِيَاؤُهُ {
مِمَّنْ تَرْضَوْنَ من الشُّهَدَاءِ } من غَيْرِ فَصْلٍ بين عَدْلٍ وَعَدْلٍ ومرضى
ومرضى
وَلَنَا ما رَوَيْنَا من النُّصُوصِ من قَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا
شَهَادَةَ لِجَارِ الْمَغْنَمِ وَلَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ وَأَحَدُ
الزَّوْجَيْنِ بِشَهَادَتِهِ لِلزَّوْجِ الْآخَرِ يَجُرُّ الْمَغْنَمَ إلَى
نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِمَالِ صَاحِبِهِ عَادَةً فَكَانَ شَاهِدًا
لِنَفْسِهِ لِمَا رَوَيْنَا من حديث الْخَصَّافِ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَأَمَّا الْعُمُومَاتُ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهَا لَكِنْ لم قُلْتُمْ إنَّ أَحَدَ
الزَّوْجَيْنِ في الشَّهَادَةِ لِصَاحِبِهِ عَدْلٌ وَمَرْضِيٌّ بَلْ هو مَائِلٌ
وَمُتَّهَمٌ لِمَا قُلْنَا لَا يَكُونُ شَاهِدًا فَلَا تَتَنَاوَلُهُ
الْعُمُومَاتُ
وَكَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ له في الْحَادِثَةِ التي اسْتَأْجَرَهُ
فيها لِمَا فيه من تُهْمَةِ جَرِّ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِصَاحِبِهِ في مَالِ الشَّرِكَةِ
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ لِرَجُلَيْنِ على الْمَيِّتِ بِدَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ
ثُمَّ شَهِدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا لِلشَّاهِدَيْنِ على الْمَيِّتِ بِدَيْنِ
أَلْفِ دِرْهَمٍ فَشَهَادَةُ الْفَرِيقَيْنِ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه
الرَّحْمَةُ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ جَائِزَةٌ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ لو شَهِدَا أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لَهُمَا بِالثُّلُثِ
وَشَهِدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لِلشَّاهِدَيْنِ
بِالثُّلُثِ
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ الْمَيِّتَ غَصَبَهُمَا دَارًا أو عَبْدًا وَشَهِدَ
الْمَشْهُودُ لَهُمَا لِلشَّاهِدَيْنِ بِدَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَشَهَادَةُ
الْفَرِيقَيْنِ جَائِزَةٌ بِالْإِجْمَاعِ
لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَشْهَدُ لِغَيْرِهِ لَا
لِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَّهَمًا في شَهَادَتِهِ
وَلَهُمَا أَنَّ ما يَأْخُذُهُ كُلُّ فَرِيقٍ فَالْفَرِيقُ الْآخَرُ يُشَارِكُهُ
فيه فَكَانَ كُلُّ فَرِيقٍ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ ما إذَا اخْتَلَفَ
جِنْسُ الْمَشْهُودِ بِهِ لِأَنَّ ثَمَّةَ مَعْنَى الشَّرِكَةِ لَا يَتَحَقَّقُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ خَصْمًا لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا
تَجُوزُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ وَلِأَنَّهُ إذَا كان خَصْمًا
فَشَهَادَتُهُ تَقَعُ لِنَفْسِهِ فَلَا تُقْبَلُ
وَعَلَى هذا تَخْرُجُ شَهَادَةُ الْوَصِيِّ لِلْمَيِّتِ وَالْيَتِيمِ الذي في
حِجْرِهِ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فيه وَكَذَا شَهَادَةُ الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ لِمَا
قُلْنَا
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْمَشْهُودِ بِهِ وَقْتَ الْأَدَاءِ ذَاكِرًا
له عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا ليس بِشَرْطٍ حتى إنَّهُ
لو رَأَى اسْمَهُ وَخَطَّهُ وَخَاتَمَهُ في الْكِتَابِ لَكِنَّهُ لَا يَذْكُرُ
الشَّهَادَةَ لَا يَحِلُّ له أَنْ يَشْهَدَ
وَلَوْ شَهِدَ وَعَلِمَ الْقَاضِي بِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا له أَنْ يَشْهَدَ وَلَوْ شَهِدَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا رَأَى اسْمَهُ وَخَطَّهُ وَخَاتَمَهُ على الصَّكِّ
دَلَّ أَنَّهُ تُحْمَلُ الشَّهَادَةُ وَهِيَ مَعْلُومَةٌ في الصَّكِّ فَيَحِلُّ له
أَدَاؤُهَا وإذا أَدَّاهَا تُقْبَلُ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ أَمْرٌ جُبِلَ عليه
الْإِنْسَانُ خُصُوصًا عِنْدَ طُولِ الْمُدَّةِ بِالشَّيْءِ لِأَنَّ طُولَ
الْمُدَّةِ يُنْسِي فَلَوْ شَرَطَ تَذَكُّرَ الْحَادِثَةِ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ
لَانْسَدَّ بَابُ الشَّهَادَةِ فَيُؤَدِّي إلَى تَضْيِيعِ الْحُقُوقِ وَهَذَا لَا
يَجُوزُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْله تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {
وَلَا تَقْفُ ما ليس لك بِهِ عِلْمٌ } وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لِشَاهِدٍ إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا
____________________
(6/272)
فَدَعْ
وَلَا اعْتِمَادَ على الْخَطِّ وَالْخَتْمِ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ
وَالْخَتْمُ يُشْبِهُ الْخَتْمَ وَيَجْرِي فيه الِاحْتِيَالُ وَالتَّزْوِيرُ مع ما
أَنَّ الْخَطَّ لِلتَّذَكُّرِ فَخَطٌّ لَا يُذْكَرُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ
بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا وَجَدَ الْقَاضِي في دِيوَانِهِ شيئا لَا يَذْكُرُهُ
وَدِيوَانُهُ تَحْتَ خَتْمِهِ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِهِ عِنْدَهُ وَعِنْدُهُمَا
يَعْمَلُ إذَا كان تَحْتَ خَتْمِهِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا عُزِلَ الْقَاضِي ثُمَّ استقضي بَعْدَمَا عُزِلَ
فَأَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ بِشَيْءٍ مِمَّا يَرَى في دِيوَانِهِ الْأَوَّلِ ولم يذكر
ذلك ليس له ذلك عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا له ذلك وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الشَّرَائِطُ التي تَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الشَّهَادَةِ فَأَنْوَاعٌ منها
لَفْظُ الشَّهَادَةِ فَلَا تُقْبَلُ بِغَيْرِهَا من الْأَلْفَاظِ كَلَفْظِ
الْإِخْبَارِ وَالْإِعْلَامِ وَنَحْوِهِمَا وَإِنْ كان يُؤَدِّي مَعْنَى
الشَّهَادَةِ تَعَبُّدًا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى
وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِلدَّعْوَى فِيمَا يُشْتَرَطُ فيه الدَّعْوَى
فَإِنْ خَالَفَتْهَا لَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ الْمُدَّعِي بين الدَّعْوَى
وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ عِنْدَ إمْكَانِ التَّوْفِيقِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إذَا
خَالَفَتْ الدَّعْوَى فِيمَا يُشْتَرَطُ فيه الدَّعْوَى وَتَعَذَّرَ التَّوْفِيقُ
انْفَرَدَتْ عن الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةُ الْمُنْفَرِدَةُ عن الدَّعْوَى فِيمَا
يُشْتَرَطُ فيه الدَّعْوَى غَيْرُ مَقْبُولَةٍ
وَبَيَانُ ذلك في مَسَائِلَ إذَا ادَّعَى مِلْكًا بِسَبَبٍ ثُمَّ أَقَامَ
الْبَيِّنَةَ على مِلْكٍ مُطْلَقٍ لَا تُقْبَلُ وَبِمِثْلِهِ لو ادَّعَى مِلْكًا
مُطْلَقًا ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على الْمِلْكِ بِسَبَبٍ تُقْبَلُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ أَعَمُّ من الْمِلْكِ بِسَبَبٍ
لِأَنَّهُ يَظْهَرُ من الْأَصْلِ حتى تُسْتَحَقَّ بِهِ الزَّوَائِدُ وَالْمِلْكُ
بِسَبَبٍ يَقْتَصِرُ على وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ فَكَانَ الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ
أَعَمَّ فَصَارَ الْمُدَّعِي بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ على الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ
مُكَذِّبًا شُهُودَهُ في بَعْضِ ما شَهِدُوا بِهِ وَالتَّوْفِيقُ مُتَعَذَّرٌ
لِأَنَّ الْمِلْكَ من الْأَصْلِ يُنَافِي الْمِلْكَ الْحَادِثَ بِسَبَبٍ
لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِهِمَا مَعًا في مَحِلٍّ وَاحِدٍ بِخِلَافِ ما إذَا ادَّعَى
الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على الْمِلْكِ بِسَبَبٍ لِأَنَّ
الْمِلْكَ بِسَبَبٍ أَخَصُّ من الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ على ما بَيَّنَّا فَقَدْ
شَهِدُوا بِأَقَلَّ مِمَّا ادَّعَى فلم يَصِرْ الْمُدَّعِي مُكَذِّبًا شُهُودَهُ
بَلْ صَدَّقَهُمْ فِيمَا شَهِدُوا بِهِ وَادَّعَى زِيَادَةَ شَيْءٍ لَا شَهَادَةَ
لهم عليه وَصَارَ كما لو ادَّعَى أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَشَهِدَ الشُّهُودُ على
أَلْفٍ أَنَّهُ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ على الْأَلْفِ لِمَا قُلْنَا
كَذَا هذا
وَلَوْ ادَّعَى الْمِلْكَ بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على
الْمِلْكِ بِسَبَبٍ آخَرَ بِأَنْ ادَّعَى دَارًا في يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَرِثَهَا
من أبيه ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على الْمِلْكِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا من صَاحِبِ
الْيَدِ أو وَهَبَهَا له أو تَصَدَّقَ بها عليه وَقَبَضَ أو ادَّعَى الشِّرَاءَ أو
الْهِبَةَ أو الصَّدَقَةَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على الْإِرْثِ لَا تُقْبَلُ
بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ خَالَفَتْ الدَّعْوَى لِاخْتِلَافِ
الْبَيِّنَتَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى
أَمَّا الصُّورَةُ فَلَا شَكَّ فيها وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ حُكْمَ
الْبَيِّنَتَيْنِ يَخْتَلِفُ فَلَا يُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ بين الدَّعْوَى
وَالشَّهَادَةِ فقال كنت اشْتَرَيْتُ منه لَكِنَّهُ جَحَدَنِي الشِّرَاءَ
وَعَجَزْتُ عن إثْبَاتِهِ فَاسْتَوْهَبْتُ منه فَوَهَبَ مِنِّي وَقَبَضْتُ
وَأَعَادَ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ لِأَنَّهُ إذا وَفَّقَ فَقَدْ زَالَتْ
الْمُخَالَفَةُ وَظَهَرَ أَنَّهُ لم يُكَذِّبْ شُهُودَهُ
وَيَصِيرُ هذا في الْحَقِيقَةِ ابْتِدَاءً وَلِهَذَا يَجِبُ عليه إعَادَةُ
الْبَيِّنَةِ لِتَقَعَ الشَّهَادَةُ عِنْدِ الدَّعْوَى
وَكَذَا إذَا وَفَّقَ فقال وَرِثْتُهُ من أبي إلَّا أَنَّهُ جَحَدَ إرْثِي
فَاشْتَرَيْتُ منه أو وَهَبَ لي فَإِنَّهَا تُقْبَلُ لِزَوَالِ التَّنَاقُضِ
وَالِاخْتِلَافِ بَيْن الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ
وَلَوْ ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ هذا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ على الشِّرَاءِ
بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَا تُقْبَلُ
لِأَنَّ الْبَدَلَ قد اخْتَلَفَ
وَاخْتِلَافُ الْبَدَلِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعَقْدِ
فَقَدْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على عَقْدٍ آخَرَ غير ما ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي فَلَا
تُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ المدعى فقال اشْتَرَيْتُ بِالْعَبْدِ إلَّا أَنَّهُ
جَحَدَنِي الشِّرَاءَ بِهِ فَاشْتَرَيْتُهُ بَعْدَ ذلك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ
فَتُقْبَلُ لِزَوَالِ الْمُخَالَفَةِ
وَهَذَا إذَا كان دَعْوَى التَّوْفِيقِ في مَجْلِسٍ آخَرَ بِأَنْ قام عن مَجْلِسِ
الْحُكْمِ ثُمَّ جاء وَادَّعَى التَّوْفِيقَ
فَأَمَّا إذَا لم يَقُمْ عن مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَدَعْوَى التَّوْفِيقِ غَيْرُ
مَسْمُوعَةٍ
وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ له ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ لِفُلَانٍ
وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فيه تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ
وَبِمِثْلِهِ لو ادَّعَى أَنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فيه ثُمَّ
أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ له لَا تُقْبَلُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ قَوْلَهُ أَوَّلًا إنَّهُ لي لَا يَنْفِي قَوْلَهُ
إنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فيه لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ له
بِحَقِّ الْخُصُومَةِ وَالْمُطَالَبَةِ وَلِغَيْرِهِ بِحَقِّ الْمِلْكِ فَكَانَ
التَّوْفِيقُ مُمْكِنًا فَقُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الثَّانِي
لِأَنَّ قَوْلَهُ هو لِفُلَانٍ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فيه يَنْفِي قَوْلَهُ
بَعْدَ ذلك هو لي لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ الْمِلْكَ فيه لِفُلَانٍ وَأَنَّهُ
وَكِيلٌ بِالْخُصُومَةِ فيه بِقَوْلِهِ إنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَنِي
بِالْخُصُومَةِ فيه فَكَانَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذلك هو لي إقْرَارًا منه بِالْمِلْكِ
لِنَفْسِهِ فَكَانَ مُنَاقِضًا فَلَا تُقْبَلُ
وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فيه ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ
على أَنَّهُ لِفُلَانٍ آخَرَ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فيه لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ
قَوْلَهُ أَوَّلًا إنَّهُ لِفُلَانٍ
____________________
(6/273)
وَكَّلَنِي
بِالْخُصُومَةِ فيه كما يَنْفِي قَوْلَهُ إنَّهُ لي يَنْفِي قَوْلَهُ إنَّهُ
لِفُلَانٍ آخَرَ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فيه فَلَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ
فقال إنَّ الْمُوَكِّلَ الْأَوَّلَ بَاعَ من الْمُوَكِّلِ الثَّانِي ثُمَّ
وَكَّلَنِي الثَّانِي بِالْخُصُومَةِ فَيُقْبَلُ لِزَوَالِ الْمُنَاقَضَةِ
وَلَوْ ادَّعَى في ذِي الْقَعْدَةِ أَنَّهُ اشْتَرَى منه هذه الدَّارَ في شَهْرِ
رَمَضَانَ بِأَلْفٍ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ
تَصَدَّقَ بِالدَّارِ على الْمُدَّعِي في شَعْبَانَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ
لِأَنَّ دَعْوَى التَّصَدُّقِ في شَعْبَانَ تُنَافِي الشِّرَاءَ في شَهْرِ
رَمَضَانَ لِاسْتِحَالَةِ شِرَاءِ الْإِنْسَانِ مِلْكَ نَفْسِهِ وَالتَّوْفِيقُ
غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَا تُقْبَلُ
وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على التَّصَدُّقِ في شَوَّالٍ وَوَفَّقَ فقال
جَحَدَنِي الشِّرَاءَ ثُمَّ تَصَدَّقَ بها عَلَيَّ تُقْبَلُ
وَلَوْ ادَّعَى دَارًا في يَدَيْ رَجُلٍ أنها له وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أنها
كانت في يَدِ الْمُدَّعِي بِالْأَمْسِ لَا تُقْبَلُ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ أنها تُقْبَلُ وَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ وَلَوْ أَقَامَ
صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ على أنها كانت مِلْكًا لِلْمُدَّعِي تُقْبَلُ
بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ لَمَّا قَامَتْ
على أنها ما كانت في يَدِهِ فَالْأَصْلُ في الثَّابِتِ بَقَاؤُهُ وَلِهَذَا
قَبِلْت الْبَيِّنَةُ على مِلْكٍ كان وَلِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ
بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ ثَبَتَ بِالْمُعَايَنَةِ أو بِالْإِقْرَارِ أَنَّهُ كان
في يَدِهِ بِالْأَمْسِ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ
كَذَا هذا
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الشَّهَادَةَ قَامَتْ على يَدٍ كانت فَلَا
يَثْبُتُ الْكَوْنُ لِلْحَالِ إلَّا بِحُكْمِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ وإنه لَا
يَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ وَلِأَنَّ الْيَدَ قد تَكُونُ مُحِقَّةً وقد تَكُونُ
مُبْطِلَةً وقد تَكُونُ يَدَ مِلْكٍ وقد تَكُونُ يَدَ أَمَانَةٍ فَكَانَتْ
مُحْتَمَلَةً وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً بِخِلَافِ الْمِلْكِ
وَالْمُعَايَنَةِ وَبِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ بِنَفْسِهِ
وَالْبَيِّنَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا
وَجْهَ لِلْقَضَاءِ بِالْمُحْتَمَلِ وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أنها كانت في
يَدِهِ بِالْأَمْسِ فَأَخَذَهَا هذا منه أو غَصَبَهَا أو أَوْدَعَهُ أو أَعَارَهُ
تُقْبَلُ ويقضى لِلْخَارِجِ لِأَنَّهُ عَلِمَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ تلقي الْيَدَ
من جِهَةِ الْخَارِجِ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا ادَّعَى دَارًا في يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَرِثَهَا من
أبيه وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أنها كانت لِأَبِيهِ فَنَقُولُ هذا لَا يَخْلُو
من أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ شَهِدُوا أَنَّ الدَّارَ كانت لِأَبِيهِ ولم
يَقُولُوا مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا له وَإِمَّا أَنْ قالوا أنها كانت
لِأَبِيهِ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا له وَإِمَّا أَنْ قالوا أنها كانت في يَدِ
أبيه يوم الْمَوْتِ وَإِمَّا أَنْ أَثْبَتُوا من أبيه فِعْلًا فيها عِنْدَ
مَوْتِهِ
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَعَلَى قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ وَعَلَى قَوْلِ أبي يُوسُفَ
تُقْبَلُ
وَكَذَا لو شَهِدُوا أنها كانت لِأَبِيهِ مَاتَ قَبْلَهَا لَا تُقْبَلُ
قالوا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هذا على قَوْلِهِمَا أَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفِ على
ما رُوِيَ عنه في الْأَمَالِي يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمِلْكَ مَتَى ثَبَتَ لِأَبِيهِ بِشَهَادَتِهِمْ
فَالْأَصْلُ فِيمَا ثَبَتَ يَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُزِيلُ فَصَارَ كما لو
شَهِدُوا أنها كانت لِأَبِيهِ يوم الْمَوْتِ أَيْضًا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ خَالَفَتْ الدَّعْوَى لِأَنَّ الْمُدَّعِي
ادَّعَى مِلْكًا كَائِنًا وَالشَّهَادَةُ وَقَعَتْ بِمِلْكٍ كان لَا بِمِلْكٍ
كَائِنٍ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ مُخَالِفَةً لِلدَّعْوَى فَلَا يُقْبَلُ
قَوْلُهُ ما ثَبَتَ يَبْقَى
قُلْنَا نعم لَكِنْ لَا حكم ( ( ( حكما ) ) ) لِدَلِيلِ الثُّبُوتِ لِأَنَّ دَلِيلَ
الثُّبُوتِ لَا يَتَعَرَّضُ لِلْبَقَاءِ وَإِنَّمَا الْبَقَاءُ بِحُكْمِ
اسْتِصْحَابِ الْحَالِ وأنه لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ
وَلَوْ شَهِدُوا أنها كانت لِجَدِّهِ فَعِنْدَهُمَا لَا يَقْضِي بها ما لم
يَشْهَدُوا بِالْمِيرَاثِ بِأَنْ يَقُولُوا مَاتَ جَدُّهُ وَتَرَكَهَا لِأَبِيهِ
ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا له
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَنْظُرُ إنْ عَلِمَ أَنَّ الْجَدَّ مَاتَ قبل الْأَبِ يقضى
بها له وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْأَبَ مَاتَ قبل الْجَدِّ أو لم يَعْلَمْ لم يَقْضِ
بها
وَلَوْ شَهِدُوا أنها لِأَبِيهِ لَا يقضى بها له منهم من قال هذا على الِاتِّفَاقِ
وَمِنْهُمْ من قال هو على الْخِلَافِ الذي ذكرنا ( ( ( ذكرناه ) ) ) وهو
الصَّحِيحُ فإنه رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أنها تُقْبَلُ
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي وهو ما إذَا شَهِدُوا أنها كانت لِأَبِيهِ مَاتَ
وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا له فَلَا شَكَّ أَنَّ هذه الشَّهَادَةَ مَقْبُولَةٌ
لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْمِلْكِ الْمَوْرُوثِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالتَّرْكِ
مِيرَاثًا له وهو تَفْسِيرُ الْمِلْكِ الْمَوْرُوثِ
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ وهو ما إذَا شَهِدُوا أنها كانت في يَدِهِ يوم
الْمَوْتِ فَالشَّهَادَةُ مَقْبُولَةٌ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْيَدِ من الْأَصْلِ
يُحْمَلُ على يَدِ الْمَالِكِ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ بِيَدٍ قَائِمَةٍ عِنْدَ
الْمَوْتِ شَهَادَةً بِمِلْكٍ قَائِمٍ عِنْدَ الْمَوْتِ فإذا مَاتَ فَقَدْ تَرَكَ فَثَبَتَ
الْمِلْكُ له في الْمَتْرُوكِ إذْ هو تَفْسِيرُ الْمِلْكِ الْمَوْرُوثِ وَلِأَنَّ
يَدَهُ إنْ كانت يَدَ مِلْكٍ كان الْمِلْكُ ثَابِتًا لِلْمُوَرِّثِ عِنْدَ
الْمَوْتِ وَإِنْ كانت يَدَ أَمَانَةٍ انْتَقَلَتْ يَدَ مِلْكٍ إذَا مَاتَ
مُجَهِّلًا لِأَنَّ التَّجْهِيلَ عِنْدَ الْمَوْتِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ
وَوُجُوبُ الضَّمَانِ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ في الْمَضْمُونِ عِنْدَنَا
وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ وهو ما إذَا ثَبَتَ لِيَدِ الْمَشْهُودِ من الْأَبِ
فِعْلًا في الْعَيْنِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَهَذَا على وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ
ذلك فِعْلًا هو دَلِيلُ الْيَدِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِعْلًا ليس هو دَلِيلُ
الْيَدِ وَالْفِعْلُ
____________________
(6/274)
الذي
هو دَلِيلُ الْيَدِ هو فِعْلٌ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ بِدُونِ النَّقْلِ في
النَّقْلِيَّاتِ كَاللُّبْسِ وَالْحَمْلِ أو فِعْلٌ يُوجَدُ لِلنَّقْلِ عَادَةً
كَالرُّكُوبِ في الدَّوَابِّ أو فِعْلًا يُوجَدُ في الْغَالِبِ من الْمُلَّاكِ
فِيمَا لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ لَا من غَيْرِهِمْ كَالسُّكْنَى في الدُّورِ
وَالْفِعْلُ الذي ليس بِدَلِيلِ الْيَدِ هو فِعْلٌ ثَبَتَ في النَّقْلِيَّاتِ من
غَيْرِ نَقْلٍ وَلَا يَكُونُ حُصُولُهُ لِلنَّقْلِ عَادَةً كَالْجُلُوسِ على
الْبِسَاطِ أو فِعْلٌ ليس بِفِعْلٍ لِلْمُلَّاكِ غَالِبًا فِيمَا لَا يَقْبَلُ
كَالنَّوْمِ وَالْجُلُوسِ في الدَّارِ وَأَشْبَاهِ ذلك فَإِنْ كان فِعْلًا هو
دَلِيلُ الْيَدِ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ على ثُبُوتِهِ عِنْدَ مَوْتِ
الْأَبِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ الْقَائِمَةَ على ما هو دَلِيلُ الْيَدِ عِنْدَ
الْمَوْتِ قَائِمَةٌ على الْيَدِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَإِنْ كان فِعْلًا ليس
بِدَلِيلِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ دَلِيلُ الْيَدِ التي
هِيَ دَلَالَةُ الْمِلْكِ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي
الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ في هذه الدَّارِ إنها لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لم
تُوجَدْ الشَّهَادَةُ على الْيَدِ الدَّالَّةِ على الْمِلْكِ وَلَا على فِعْلٍ
دَالٍّ على الْيَدِ وَلَا على فِعْلٍ هو فِعْلُ الْمُلَّاكِ غَالِبًا لِأَنَّ
الدَّارَ قد يَمُوتُ فيها الْمَالِكُ وقد يَمُوتُ فيها غَيْرُ الْمَالِكِ من
الزُّوَّارِ وَالضَّيْفِ وَنَحْوِهِ
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ وهو لَابِسٌ هذا الْقَمِيصَ أو لَابِسٌ هذا
الْخَاتَمَ تُقْبَلُ لِأَنَّ لُبْسَ الْقَمِيصِ وَالْخَاتَمِ فِعْلٌ لَا
يُتَصَوَّرُ بِدُونِ النَّقْلِ فَكَانَ دَلِيلًا على الْيَدِ عِنْدَ الْمَوْتِ
أَطْلَقَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْجَامِعِ الْجَوَابَ في الْخَاتَمِ
وَمِنْهُمْ من حَمَلَ جَوَابَ الْكِتَابِ على ما إذَا كان الْخَاتَمُ في
خِنْصَرِهِ أو بِنْصِرِهِ يوم الْمَوْتِ وَزَعَمَ أَنَّهُ إذَا كان فِيمَا
سِوَاهُمَا من الْأَصَابِعِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ
الْمُلَّاكِ في الْخَاتَمِ هذا عَادَةٌ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عليه
قَائِمَةً على الْيَدِ
فَأَمَّا جَعْلُهُ فِيمَا سِوَاهُمَا من الْأَصَابِعِ من الْمُلَّاكِ فَهُوَ ليس
بِمُعْتَادٍ فَلَا يَكُونُ ذلك اسْتِعْمَالَ الْخَاتَمِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ
الْيَدِ
وَلِهَذَا قالوا لو جَعَلَ الْمُودِعُ الْخَاتَمَ في خِنْصَرِهِ أو بِنْصِرِهِ
فَضَاعَ من يَدِهِ يُضْمَنُ لِمَا أَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ
وَلَوْ جَعَلَهُ فِيمَا سِوَاهُمَا من الْأَصَابِعَ فَضَاعَ لَا يَضْمَنُ لِمَا
أَنَّ ذلك حِفْظٌ وَلَيْسَ بِاسْتِعْمَالٍ وَالصَّحِيحُ إطْلَاقُ جَوَابِ
الْكِتَابِ لِأَنَّ فِعْلَهُ كَيْفَ ما كان لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ النَّقْلِ
فَكَانَ دَلِيلًا على الْيَدِ
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ وهو جَالِسٌ على هذا الْبِسَاطِ أو على هذا
الْفِرَاشِ أو نَائِمٌ عليه لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ هذه الْأَفْعَالَ تُتَصَوَّرُ من
غَيْرِ نَقْلٍ وَلَا تُفْعَلُ لِلنَّقْلِ عَادَةً فلم يَكُنْ دَلِيلَ الْيَدِ
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ لو تَنَازَعَ اثْنَانِ في بِسَاطٍ أَحَدُهُمَا
جَالِسٌ عليه وَالْآخِرُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ
وَهَذَا دَلِيلُ ثُبُوتِ يَدَيْهِمَا عليه
قِيلَ له إنَّمَا قضي بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِدَعْوَاهُمَا أَنَّهُ في
يَدَيْهِمَا لَا لِثُبُوتِ الْيَدِ لِأَنَّ الْجُلُوسَ عليه وَالتَّعَلُّقَ بِهِ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ النَّقْلِ وَلَا يوجدان النَّقْلَ
غَالِبًا على ما بَيَّنَّا فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْيَدِ
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ وهو رَاكِبٌ على هذه الدَّابَّةِ تُقْبَلُ ويقضى
بِالدَّابَّةِ لِلْوَارِثِ لِأَنَّ الرُّكُوبَ وَإِنْ كان يَتَهَيَّأُ بِدُونِ
نَقْلِ الدَّابَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُفْعَلُ عَادَةً إلَّا لِلنَّقْلِ فَكَانَ
دَلِيلَ الْيَدِ
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ وهو سَاكِنٌ هذه الدَّارَ تُقْبَلُ ويقضى
لِلْوَارِثِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ وَلَا يَقْضِي
وَوَجْهُهُ أَنَّ فِعْلَ السُّكْنَى في الدَّارِ كما يُوجَدُ من الْمُلَّاكِ
يُوجَدُ من غَيْرِهِمْ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا على الْيَدِ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ السُّكْنَى فِعْلٌ يُوجَدُ في الْغَالِبِ من
الْمُلَّاكِ لَا من غَيْرِهِمْ
هذا هو الْمُعْتَادُ فِيمَا بين الناس فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عليه
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ وَهَذَا الثَّوْبُ مَوْضُوعٌ على رَأْسِهِ ولم
يَشْهَدُوا أَنَّهُ كان حَامِلًا له لَا تُقْبَلُ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي
بهذا شيئا لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَضَعَهُ بِنَفْسِهِ أو وَضَعَهُ غَيْرُهُ
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَقَعَ عليه من غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ بِأَنْ هَبَّتْ رِيحٌ
بِهِ فَأَلْقَتْهُ على رَأْسِهِ فَوَقَعَ الشَّكُّ في النَّقْلُ منه فَلَا
يَثْبُتُ النَّقْلُ منه بِالشَّكِّ فَلَا تَثْبُتُ الْيَدُ بِالشَّكِّ
ثُمَّ نَقُولُ إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ أنها كانت لِأَبِيهِ مَاتَ وَتَرَكَهَا
مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ قالوا هذا وَارِثُهُ لَا وَارِثَ
له غَيْرُهُ وأما أَنْ قالوا هو وَارِثُهُ لَا نَعْلَمُ أَنَّ له وَارِثًا
غَيْرُهُ
وَإِمَّا أَنْ قالوا هو وَارِثُهُ ولم يَقُولُوا
لَا وَارِثَ له غَيْرُهُ وَلَا قالوا لَا نَعْلَمُ له وَارِثًا غَيْرَهُ
فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وهو ما إذَا قالوا هو وَارِثُهُ لَا وَارِثَ له
غَيْرُهُ فإنه تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا
تُقْبَلَ لِأَنَّهَا كَشَهَادَةٍ على ما لَا عِلْمَ لِلشَّاهِدِ بِهِ لِاحْتِمَالِ
أَنْ يَكُونَ له وَارِثٌ لَا يَعْلَمُهُ وقد قال عليه الصلاة ( ( ( السلام ) ) )
والسلام لِلشَّاهِدِ إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا وَارِثَ له غَيْرُهُ مَعْنَاهُ في
مُتَعَارَفِ الناس وَعَادَاتِهِمْ لَا نَعْلَمُ له وَارِثًا غَيْرَهُ أو لَا
وَارِثَ له غَيْرُهُ في عِلْمِنَا
وَلَوْ نَصَّ على ذلك لَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ فَكَذَا هذا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي وهو ما إذَا قالوا هو وَارِثُهُ لَا نَعْلَمُ له
وَارِثًا غَيْرَهُ
____________________
(6/275)
تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُمْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال ابن أبي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تُقْبَلُ حتى يَقُولُوا لَا وَارِثَ له
غَيْرُهُ لِأَنَّهُمْ لو لم يَقُولُوا لَا وَارِثَ له غَيْرُهُ اُحْتُمِلَ أَنْ
يَكُونَ له وَارِثٌ غَيْرُهُ لَا يَعْلَمُونَهُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ
لِأَنَّ الشَّاهِدَ إنَّمَا تَحِلُّ له الشَّهَادَةُ بِمَا في عِلْمِهِ وَنَفْيُ
وَارِثٍ آخَرَ ليس في عِلْمِهِ فَلَا تَحِلُّ له الشَّهَادَةُ بِهِ إلَّا على
اعْتِبَارِ ما في عِلْمِهِ على ما ذَكَرْنَا
وَلَوْ قالوا لَا نَعْلَمُ له وَارِثًا غَيْرَهُ في هذا الْمِصْرِ أو في أَرْضِ
كَذَا تُقْبَلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا تُقْبَلُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا نَعْلَمُ له وَارِثًا غَيْرَهُ في هذا
الْمِصْرِ لَا يَنْفِي وَارِثًا غَيْرَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ له وَارِثٌ آخَرُ
في مِصْرٍ آخَرَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لو كان له وَارِثٌ
آخَرُ في مَوْضِعٍ آخَرَ لَعَلِمُوهُ لِأَنَّ وَارِثَ الْإِنْسَانِ لَا يَخْفَى
على أَهْلِ بَلَدِهِ عَادَةً فَكَانَ التَّخْصِيصُ وَالتَّعْمِيمُ فيه سَوَاءٌ
ثُمَّ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ له غَيْرُهُ أو شَهِدُوا
أَنَّهُ وَارِثُهُ لَا نَعْلَمُ له وَارِثًا غَيْرَهُ أو لَا نَعْلَمُ له وَارِثًا
غَيْرَهُ في هذا الْمِصْرِ على مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فإنه
يَدْفَعُ كُلَّ التَّرِكَةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ كان الْوَارِثُ مِمَّنْ لَا
يَحْتَمِلُ الْحَجْبَ كَالِابْنِ وَالْأَبِ وَالْأُمِّ وَنَحْوِهِمْ
أو يَحْتَمِلُهُ كَالْأَخِ وَالْأُخْتِ وَالْجَدِّ وَنَحْوِهِمْ لِأَنَّهُ
تَعَيَّنَ وَارِثًا له فَيُدْفَعُ إلَيْهِ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ
إلَّا إذَا كان زَوْجًا أو زَوْجَةً فَلَا يُعْطَى إلَّا أَكْثَرُ نَصِيبِهِ فَلَا
يُعْطَى الزَّوْجُ إلَّا النِّصْفُ وَلَا تُعْطَى الْمَرْأَةُ إلَّا الرُّبُعُ
لِأَنَّهُمَا لَا يَسْتَحِقَّانِ من الْمِيرَاثِ أَكْثَرَ من ذلك لِأَنَّهُ لَا
يُرَدُّ عَلَيْهِمَا
وفي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لَا يُؤْخَذُ من الْوَارِثِ كَفِيلٌ بِالْإِجْمَاعِ
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ وهو ما إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ وَارِثُهُ ولم
يَقُولُوا لَا وَارِثَ له غَيْرُهُ وَلَا قالوا لَا نَعْلَمُ له وَارِثًا غَيْرَهُ
فإنه يُنْظَرُ إنْ كان مِمَّنْ يَحْتَمِلُ الْحَجْبَ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ شَيْءٌ
لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ثَمَّةَ حَاجِبٍ فَإِنْ كان لَا يُعْطَى وَإِنْ لم يَكُنْ
يُعْطَى بِالشَّكِّ وَإِنْ كان مِمَّنْ لَا يَحْتَمِلُ الْحَجْبَ يُدْفَعُ إلَيْهِ
جَمِيعُ الْمَالِ إلَّا الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ فإنه لَا يُدْفَعُ إلَيْهِمَا
إلَّا نَصِيبُهُمَا وهو أَكْثَرُ النَّصِيبَيْنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَقَلُّ النَّصِيبَيْنِ لِلزَّوْجِ
الرُّبُعُ والمرأة ( ( ( وللمرأة ) ) ) الثُّمْنُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عنه
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ النُّقْصَانَ عن أَكْثَرِ
النَّصِيبَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْمُزَاحَمَةِ وفي وُجُودِ الْمُزَاحِمِ شَكٌّ فَلَا
يَثْبُتُ النُّقْصَانُ بِالشَّكِّ
وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأَقَلَّ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ وفي
الزِّيَادَةِ شَكٌّ فَلَا تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ بِالشَّكِّ
وَرُوِيَ عنه رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ لِلزَّوْجِ الرُّبُعَ وَلِلْمَرْأَةِ رُبُعُ
الثُّمْنِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ له أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَيَكُونُ لها رُبُعُ
الثُّمْنِ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ وفي الزِّيَادَةِ شَكٌّ
وَرَوَى عنه أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ وَلِلزَّوْجِ الْخُمُسُ وَلِلْمَرْأَةِ رُبُعُ
التُّسْعِ
أَمَّا الزَّوْجُ فَلِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ أَبَوَانِ
وَبِنْتَانِ وَزَوْجٌ
أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ من اثْنَيْ عَشَرَ لِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ أَرْبَعَةٌ
وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ وَلِلزَّوْجِ الرُّبُعُ ثَلَاثَةٌ
فَعَالَتْ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فَصَارَتْ الْفَرِيضَةُ من خَمْسَةَ عَشَرَ
وَثَلَاثَةٌ من خَمْسَةَ عَشَرَ خُمُسُهَا فَذَلِكَ لِلزَّوْجِ
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ لِلْمَيِّتِ أَبَوَانِ
وَبِنْتَانِ وَزَوْجَةٌ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ من أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ
لِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ ثَمَانِيَةٌ وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ
عَشَرَ وَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةٌ فَعَالَتْ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ
فَصَارَتْ الْفَرِيضَةُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ وَثَلَاثَةٌ من سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ
تُسْعُهَا ثُمَّ من الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا ثَلَاثَةٌ أُخْرَى فَيَكُنَّ
أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ فَيَكُونُ لها رُبُعُ التُّسْعِ وَثَلَاثَةٌ على أَرْبَعَةٍ
لَا تَسْتَقِيمُ فَتُضْرَبُ أَرْبَعَةٌ في تِسْعَةٍ وَيَكُونُ سِتَّةً
وَثَلَاثِينَ سَهْمًا تُسْعُهَا أَرْبَعَةٌ فَلَهَا من ذلك سَهْمٌ وهو رُبُعُ
التُّسْعِ وهو سَهْمٌ من سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا
ثُمَّ في هذا الْوَجْهِ الثَّالِثِ إذَا كان الْوَارِثُ مِمَّنْ لَا يَحْتَمِلُ
الْحَجْبَ وَدُفِعَ الْمَالُ إلَيْهِ هل يُؤْخَذُ منه كَفِيلٌ
قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ لَا يُؤْخَذُ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُؤْخَذُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ لِصِيَانَةِ الْحَقِّ وَالْحَاجَةُ
مَسَّتْ إلَى الصِّيَانَةِ لِاحْتِمَالِ ظُهُورِ وَارِثٍ آخَرَ فَيُؤْخَذُ
الْكَفِيلُ نَظَرًا لِلْوَارِثِ كما في رَدِّ الْآبِقِ وَاللُّقَطَةِ إلَى
صَاحِبِهَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أن حَقَّ الْحَاضِرِ لِلْحَالِ ثَابِتٌ
بِيَقِينٍ وفي ثُبُوتِ الْحَقِّ لِوَارِثٍ آخَرَ شَكٌّ لِأَنَّهُ قد يَظْهَرُ
وَارِثٌ آخَرُ وقد لَا يَظْهَرُ فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْحَقِّ الثَّابِتِ
بِيَقِينٍ لِحَقٍّ مَشْكُوكٍ فيه مع ما أَنَّ الْمَكْفُولَ له مَجْهُولٌ
وَالْكَفَالَةُ لِلْمَجْهُولِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ
وَإِنَّمَا أُخِذَ الْكَفِيلُ بِتَسْلِيمِ الْآبِقِ وَاللُّقَطَةِ فَقَدْ قِيلَ
إنَّهُ قَوْلُهُمَا لِمَا أَنَّ في الْمَسْأَلَةِ روايتان ( ( ( روايتين ) ) )
فَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ على
أَنَّا سَلَّمْنَا فَتِلْكَ كَفَالَةٌ لِمَعْلُومٍ لَا لِمَجْهُولٍ لِأَنَّ
الرَّادَّ إنَّمَا يَأْخُذُ الْكَفِيلَ لِنَفْسِهِ كيلا يَلْزَمَهُ الضَّمَانُ فلم
تَكُنْ كَفَالَةً لِمَجْهُولٍ
وَذَكَرَ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هذه الْمَسْأَلَةَ في الْجَامِعِ
الصَّغِيرِ
____________________
(6/276)
وقال
هذا شَيْءٌ احْتَاطَ بِهِ بَعْضُ الْقُضَاةِ وهو ظُلْمٌ أَرَأَيْتَ لو لم يَجِدْ
كَفِيلًا كنت أَمْنَعُهُ حَقَّهُ
دَلَّتْ تَسْمِيَتُهُ أَخُذَ الْكَفِيلِ ظُلْمًا على أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ ليس
كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا إذْ الصَّوَابُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ظُلْمًا
فَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ على بَرَاءَةِ سَاحَتِهِ عن لَوْثِ الِاعْتِزَالِ
بِحَمْدِ اللَّهِ وَمَنِّهِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَشْهُودِ بِهِ فَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ
الشَّهَادَةُ بِمَعْلُومٍ فَإِنْ كانت بِمَجْهُولٍ لم تُقْبَلْ لِأَنَّ عِلْمَ
الْقَاضِي بِالْمَشْهُودِ بِهِ شَرْطُ صِحَّةِ قَضَائِهِ فما لم يَعْلَمْ لَا
يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ بِهِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عن الْقَاضِي أَنَّ فُلَانًا
وَارِثُ هذا الْمَيِّتِ لَا وَارِثَ له غَيْرُهُ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِمَجْهُولٍ لِجَهَالَةِ الْوَارِثِ
أَسْبَابَ الْوِرَاثَةِ وَاخْتِلَافَ أَحْكَامِهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولُوا ابْنُهُ
وَوَارِثُهُ لَا يَعْلَمُونَ له وَارِثًا غَيْرَهُ أو أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ
لَا يَعْلَمُونَ له وَارِثًا غَيْرَهُ وَقَوْلُهُ لَا يَعْلَمُونَ له وَارِثًا
غَيْرَهُ لِئَلَّا يَتَلَوَّمَ الْقَاضِي لَا لِأَنَّهُ من الشَّهَادَةِ عِنْدَ
مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِجِنْسِ هذه الْمَسَائِلِ بابا ( ( ( باب ) ) ) في
الزِّيَادَاتِ يُعْرَفُ ثَمَّةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِهِ مَعْلُومًا لِلشَّاهِدِ عِنْدَ أَدَاءِ
الشَّهَادَةِ حتى لو ظَنَّ لَا تَحِلُّ له الشَّهَادَةُ وَإِنْ رَأَى خَطَّهُ
وَخَتْمَهُ وَأَخْبَرَهُ الناس بِمَا يَتَذَكَّرُ بِنَفْسِهِ وَهَذَا عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا إنْ رَأَى خَطَّهُ وَخَتْمَهُ له أَنْ
يَشْهَدَ نحو ما تَقَدَّمَ من الْخِلَافِ وَالْحُجَجِ من الْجَانِبَيْنِ
وَأَمَّا الذي يَخُصُّ الْمَكَانَ فَوَاحِدٌ وهو مَجْلِسُ الْقَاضِي لِأَنَّ
الشَّهَادَةَ لَا تَصِيرُ حُجَّةً مُلْزِمَةً إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي
فَتَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الشَّرَائِطُ التي تَخُصُّ بَعْضَ الشَّهَادَاتِ دُونَ الْبَعْضِ
فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا منها الدَّعْوَى في الشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ على حُقُوقِ
الْعِبَادِ من الْمُدَّعِي بِنَفْسِهِ أو نَائِبِهِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ في هذا
الْبَابِ شُرِعَتْ لِتَحْقِيقِ قَوْلِ الْمُدَّعِي وَلَا يَتَحَقَّقُ قَوْلُهُ إلَّا
بِدَعْوَاهُ إمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِنَائِبِهِ
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَلَا يُشْتَرَطُ فيها الدَّعْوَى
كَأَسْبَابِ الْحُرُمَاتِ من الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ وَأَسْبَابُ الْحُدُودِ
الْخَالِصَةِ حقا ( ( ( حق ) ) ) لِلَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ شُرِطَتْ
الدَّعْوَى في بَابِ السَّرِقَةِ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَسْرُوقِ مِلْكًا لِغَيْرِ
السَّارِقِ شَرْطُ تَحَقُّقِ كَوْنِ الْفِعْلِ سَرِقَةً شَرْعًا وَلَا يَظْهَرُ
ذلك إلَّا بِالدَّعْوَى فَشُرِطَتْ الدَّعْوَى لِهَذَا
وَاخْتُلِفَ في عِتْقِ الْعَبْدِ أَنَّهُ حَقٌّ لِلْعَبْدِ فَتُشْتَرَطُ فيه
الدَّعْوَى أو حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا تُشْتَرَطُ فيه الدَّعْوَى مع
الِاتِّفَاقِ على أَنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لِمَا عُلِمَ من
الْخِلَافِ في كِتَابِ الْعَتَاقِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْعَدَدُ في الشَّهَادَةِ بِمَا يَطَّلِعُ عليه الرِّجَالُ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِجَالِكُمْ فَإِنْ لم يَكُونَا
رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ }
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { ثُمَّ لم يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ }
وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ على الشَّاهِدِ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ لِلَّهِ عز وجل
الْآيَةُ
وهو قَوْله تَعَالَى { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } تعالى وقَوْله تَعَالَى
{ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ } وَلَا تَقَعُ الشَّهَادَةُ
لِلَّهِ إلَّا وَأَنْ تَكُونَ خَالِصَةً صَافِيَةً عن جَرِّ النَّفْعِ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ في الشَّهَادَةِ مَنْفَعَةً لِلشَّاهِدِ من حَيْثُ التَّصْدِيقُ
لِأَنَّ من صَدَقَ قَوْلُهُ يَتَلَذَّذُ بِهِ فَلَوْ قُبِلَ قَوْلُ الْفَرْدِ لم
تَخْلُ شَهَادَتُهُ عن جَرِّ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ فَلَا يَخْلُصُ لِلَّهِ عز
وجل
فَشُرِطَ الْعَدَدُ في الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مُضَافًا إلَى قَوْلِ
صَاحِبِهِ فَتَصْفُو الشَّهَادَةُ لِلَّهِ عز شَأْنُهُ وَلِأَنَّهُ إذَا كان
فَرْدًا يُخَافُ عليه السَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَطْبُوعٌ
على السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ فَشَرْطُ الْعَدَدِ في الشَّهَادَةِ لِيُذَكِّرَ
الْبَعْضُ الْبَعْضَ عِنْدَ اعْتِرَاضِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ كما قال اللَّهُ
تَعَالَى في إقَامَةِ امْرَأَتَيْنِ مَقَامَ رَجُلٍ في الشَّهَادَةِ { أَنْ
تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } ثُمَّ الشَّرْطُ عَدَدُ
الْمُثَنَّى في عُمُومِ الشَّهَادَاتِ الْقَائِمَةِ على ما يَطَّلِعُ عليه
الرِّجَالُ إلَّا في الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا فإنه يُشْتَرَطُ فيها عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لم يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } وقَوْله تَعَالَى { فإذ لم يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ
فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ } وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ في هذا
الْبَابِ أَحَدُ نَوْعَيْ الْحُجَّةِ فَتُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ وهو
الْإِقْرَارُ ثُمَّ عَدَدُ الْأَقَارِيرِ الْأَرْبَعَةِ شَرْطُ ظُهُورِ الزِّنَا
عِنْدَنَا فَكَذَا عَدَدُ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ
فإنه لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ في الْإِقْرَارِ لِظُهُورِهَا فَكَذَا في
الشَّهَادَةِ وَلِأَنَّ عَدَدَ الْأَرْبَعَةِ في الزِّنَا ثَبَتَ نَصًّا بِخِلَافِ
الْقِيَاسِ لِأَنَّ خَبَرَ من ليس بِمَعْصُومٍ من الْكَذِبِ لَا يَخْلُو عن
احْتِمَالِ الْكَذِبِ
وَعَدَدُ الْأَرْبَعَةِ في احْتِمَالِ الْكَذِبِ مِثْلُ عَدَدِ الْمُثَنَّى ما لم
يَدْخُلْ في حَدِّ التَّوَاتُرِ لَكِنَّا عَرَفْنَاهُ شَرْطًا بِنَصٍّ خَاصٍّ
مَعْدُولًا بِهِ عن الْقِيَاسِ فَبَقِيَ سَائِرُ الْأَبْوَابِ على أَصْلِ
الْقِيَاسِ
وَأَمَّا فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عليه الرِّجَالُ كَالْوِلَادَةِ وَالْعُيُوبِ الْبَاطِنَةِ
في النِّسَاءِ فَالْعَدَدُ فيه ليس
____________________
(6/277)
بِشَرْطٍ
عِنْدَنَا فَتُقْبَلُ فيه شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ
وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إن الْعَدَدَ فيه شَرْطٌ
إلَّا أَنَّ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يكتفي فيه بِامْرَأَتَيْنِ وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا بُدَّ من الْأَرْبَعِ
وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ شَهَادَةَ الرِّجَالِ لَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُهَا في
هذا الْبَابِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَجَبَ الِاكْتِفَاءُ بِعَدَدِهِمْ من
النِّسَاءِ
وَوَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ كُلَّ
امْرَأَتَيْنِ في بَابِ الشَّهَادَةِ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ ثُمَّ لَا يكتفي
بِأَقَلَّ من رَجُلَيْنِ فَلَا يكتفي بِأَقَلَّ من أَرْبَعِ نِسْوَةٍ
وَلَنَا أَنَّ شَرْطَ الْعَدَدِ في الشَّهَادَةِ في الْأَصْلِ ثَبَتَ تَعَبُّدًا
غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى
لِأَنَّ خَبَرَ من ليس بِمَعْصُومٍ عن الْكَذِبِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ قَطْعًا
وَيَقِينًا
وَإِنَّمَا يُفِيدُهُ غَالِبُ الرَّأْيِ وَأَكْثَرُ الظَّنِّ
وَهَذَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ
وَلِهَذَا لم يُشْتَرَطْ الْعَدَدُ في رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ
إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا الْعَدَدَ فيها شَرْطًا بِالنَّصِّ
وَالنَّصُّ وَرَدَ بِالْعَدَدِ في شَهَادَةِ النِّسَاءِ في حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ
وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ { فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ } فَبَقِيَتْ حَالَةُ الِانْفِرَادِ عن الرِّجَالِ على أَصْلِ
الْقِيَاسِ
وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَبِلَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ على الْوِلَادَةِ
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَاحِدٌ بِالْوِلَادَةِ يُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَمَّا قَبِلَ
شَهَادَةَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَشَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَوْلَى
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا اتِّفَاقُ الشَّهَادَتَيْنِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فيه الْعَدَدُ فَإِنْ
اخْتَلَفَا لم تُقْبَلْ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الدَّعْوَى
وَالشَّهَادَةِ وَلِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الشَّهَادَتَيْنِ لم يُوجَدْ إلَّا
أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ وَلَا يُكْتَفَى بِهِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فيه
الْعَدَدُ
ثُمَّ نَقُولُ الِاخْتِلَافُ قد يَكُونُ في جِنْسِ الْمَشْهُودِ بِهِ وقد يَكُونُ
في قَدْرِهِ وقد يَكُونُ في الزَّمَانِ وقد يَكُونُ في الْمَكَانِ وَغَيْرِ ذلك
أَمَّا اخْتِلَافُهُمَا في الْجِنْسِ فَقَدْ يَكُونُ في الْعَقْدِ وقد يَكُونُ في
الْمَالِ أَمَّا في الْعَقْدِ فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا بِالْبَيْعِ
وَالْآخَرُ بِالْمِيرَاثِ أو بِالْهِبَةِ أو غَيْرِ ذلك فَلَا تُقْبَلُ
لِاخْتِلَافِ الْعَقْدَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى فَقَدْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِعَقْدٍ غَيْرِ ما شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ وَلَيْسَ على أَحَدِهِمَا
شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ
وَأَمَّا في الْمَالِ فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا بِمَكِيلٍ وَالْآخَرُ
بِمَوْزُونٍ فَلَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ وَلَيْسَ على
أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ
وَأَمَّا اخْتِلَافُ الشَّهَادَةِ في قَدْرِ الْمَشْهُودِ بِهِ فَنَحْوُ ما إذَا
ادَّعَى رَجُلٌ على رَجُلٍ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ شَهِدَ
أَحَدُهُمَا بِأَلْفَيْنِ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ أَصْلًا وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ على الْأَلْفِ
وَلَوْ كان الْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا
بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ تُقْبَلُ على الْأَلْفِ
بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ لم تُخَالِفْ الدَّعْوَى في قَدْرِ
الْأَلْفِ بَلْ وَافَقَتْهَا بِقَدْرِهَا إلَّا أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَدَّعِي
زِيَادَةَ مَالٍ لَا شَهَادَةَ لهم عليه فَيَثْبُتُ قَدْرُ ما وَقَعَ الِاتِّفَاقُ
عليه كما إذَا ادَّعَى أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ
وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ تُقْبَلُ على الْأَلْفِ لِمَا قُلْنَا
كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ شَطْرَ الشَّهَادَةِ خَالَفَ
الدَّعْوَى لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَدَّعِي أَلْفَيْنِ وإنه اسْمٌ وُضِعَ دَلَالَةً
على عَدَدٍ مَعْلُومٍ وَالِاسْمُ الْمَوْضُوعُ دَلَالَةً على عَدَدٍ لَا يَقَعُ
على ما دُونَ ذلك الْعَدَدِ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ كالمتروك ( ( (
كالبرك ) ) ) لِأَلْفٍ من الْإِبِلِ وَالْهُنَيْدَةِ لِمِائَةٍ منها وَنَحْوِ ذلك
فلم تَكُنْ الْأَلْفُ الْمُفْرَدَةُ مُدَّعًى فلم تَكُنْ الشَّهَادَةُ شَاهِدَةً
على ما دخل تَحْتَ الدَّعْوَى فَانْفَرَدَتْ الشَّهَادَةُ عن الدَّعْوَى فِيمَا
يُشْتَرَطُ فيه الدَّعْوَى فَلَا تُقْبَلُ بِخِلَافِ ما إذَا ادَّعَى أَلْفًا
وَخَمْسَمِائَةٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ أَنَّهُ
يُقْبَلُ على الْأَلْفِ لِأَنَّ الْأَلْفَ وَالْخَمْسَمِائَةِ اسْمٌ لِعَدَدَيْنِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُعْطَفُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ فَيُقَالُ أَلْفٌ
وَخَمْسُمِائَةٍ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بانفرداه ( ( ( بانفراده ) ) )
دَاخِلًا تَحْتَ الدَّعْوَى فَالشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَيْهِمَا تَكُونُ
قَائِمَةً على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودًا فإذا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ
فَقَدْ شَهِدَ بِأَحَدِ الْعَدَدَيْنِ الدَّاخِلَيْنِ تَحْتَ الدَّعْوَى فَكَانَتْ
الشَّهَادَةُ مُوَافِقَةً لِلدَّعْوَى في عَدَدِ الْأَلْفِ فَيُقْضَى بِهِ
لِلْمُدَّعِي لِقِيَامِ الْحُجَّةِ عليه بِخِلَافِ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ
لِأَنَّهُ اسْمٌ لِعَدَدٍ وَاحِدٍ لَا تَصِحُّ على ما دُونَهُ بِحَالٍ فلم تَكُنْ
الْأَلْفُ الْمُفْرَدَةُ دَاخِلَةً تَحْتَ الدَّعْوَى فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ
الْقَائِمَةُ عليها شَهَادَةً على ما لم يَدْخُلْ تَحْتَ الدَّعْوَى فَلَا
تُقْبَلُ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا
وَلَوْ ادَّعَى أَلْفًا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْأَلْفِ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ
لَا تُقْبَلُ على الْأَلْفِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ كَذَّبَ أَحَدَ
شَاهِدَيْهِ في بَعْضِ ما شَهِدَ بِهِ فَأَوْجَبَ ذلك تُهْمَةً في الْبَاقِي فَلَا
تُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ فقال كان لي عليه أَلْفَانِ إلَّا أَنَّهُ كان قد
قَضَانِي أَلْفًا ولم يَعْلَمْ بِهِ الشَّاهِدُ فَيُقْبَلُ
وَكَذَا لو ادَّعَى أَلْفًا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بها وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ
وَخَمْسِمِائَةٍ لَا تُقْبَلُ لِمَا قُلْنَا إلَّا إذَا وَفَّقَ فقال كان لي عليه
أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ إلَّا أَنَّهُ قَضَانِي خَمْسَمِائَةٍ ولم يَعْلَمْ بها
الشَّاهِدُ فَتُقْبَلُ لِأَنَّهُ إذَا وَفَّقَ فَقَدْ زَالَ الِاخْتِلَافُ
الْمَانِعُ من الْقَبُولِ
____________________
(6/278)
وَلَوْ
ادَّعَى على رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وهو يُنْكِرُ
فَشَهِدَ شَاهِدٌ بِأَلْفَيْنِ وَآخَرُ بِأَلْفٍ أو ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَهُ
بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ
وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ لَا تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ
لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ اخْتَلَفَا في الْبَدَلِ
وَاخْتِلَافُ الْبَدَلَيْنِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعَقْدَيْنِ فَصَارَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدًا بِعَقْدٍ غَيْرِ عَقْدِ صَاحِبِهِ وَلَيْسَ على
أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ فَلَا تُقْبَلُ وَلَا يَثْبُتُ الْعَقْدُ
وَكَذَا لو كان الْمُشْتَرِي مُدَّعِيًا وَالْبَائِعُ مُدَّعًى عليه لِمَا قُلْنَا
فَإِنْ كان هذا في الْإِجَارَةِ يُنْظَرُ إنْ كانت الدَّعْوَى من المؤاجرة ( ( (
المؤاجر ) ) ) في مُدَّةِ الْإِجَارَةِ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ هذا يَكُونُ دَعْوَى
الْعَقْدِ وَلَيْسَ على أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ فَلَا
تُقْبَلُ كما في بَابِ الْبَيْعِ وَإِنْ كانت الدَّعْوَى بَعْدَ انْقِضَاءِ
مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَهَذَا دَعْوَى الْمَالِ لَا دَعْوَى الْعَقْدِ فَكَانَ
حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الدُّيُونِ وقد ذَكَرْنَاهُ على الِاتِّفَاقِ
وَالِاخْتِلَافِ هذا إذَا كانت الدَّعْوَى من الْمُؤَاجِرِ فَإِنْ كانت من
الْمُسْتَأْجِرِ لَا تُقْبَلُ سَوَاءٌ كانت الدَّعْوَى في الْمُدَّةِ أو بَعْدَ
انْقِضَائِهَا لِأَنَّ هذا دَعْوَى الْعَقْدِ
وَلَوْ كان هذا في النِّكَاحِ فَإِنْ كانت الدَّعْوَى من الْمَرْأَةِ فَهَذَا
دَعْوَى الْمَالِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ حتى إنها لو ادَّعَتْ على
رَجُلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا على أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَشَهِدَ لها شَاهِدَانِ
أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ تُقْبَلُ وَالنِّكَاحُ
جَائِزٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَعِنْدَهُمَا لَا تُقْبَلُ وَلَا يَجُوزُ النِّكَاحُ
لِأَنَّ هذا دَعْوَى الْعَقْدِ
وَلَوْ كانت الدَّعْوَى من الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةُ تُنْكَرُ لَا تُقْبَلُ
بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ هذا دَعْوَى الْعَقْدِ وَلَوْ كانت الدَّعْوَى في
الْخُلْعِ أو في الطَّلَاقِ على مَالٍ أو في الْعَتَاقِ أو في الصُّلْحِ عن دَمِ
الْعَمْدِ على مَالٍ فَإِنْ كانت الدَّعْوَى من الزَّوْجِ أو من الْمَوْلَى أو
وَلِيِّ الْقِصَاصِ تُقْبَلُ لِأَنَّ هذا دَعْوَى الْمَالِ وَإِنْ كانت الدَّعْوَى
من الْمَرْأَةِ أو الْعَبْدِ أو الْقَاتِلِ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ هذا دَعْوَى
الْعَقْدِ
وَلَوْ كان هذا في الْكِتَابَةِ فَإِنْ كانت الدَّعْوَى من الْمُكَاتَبِ لَا
تُقْبَلُ لِأَنَّ هذا دَعْوَى الْعَقْدِ فَلَا تُقْبَلُ وَلَا تَصِحُّ
الْكِتَابَةُ وَإِنْ كانت من الْمَوْلَى فَلَا تَصِحُّ لِأَنَّ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ
يُعْجِزَ نَفْسَهُ مَتَى شَاءَ
وَأَمَّا اخْتِلَافُ الشَّهَادَةِ في الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فإنه يُنْظَرُ إنْ
كان ذلك في الْأَقَارِيرِ لَا يَمْنَعُ الْقَبُولَ وَإِنْ كان في الْأَفَاعِيلِ من
الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَالْغَصْبِ وَإِنْشَاءِ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهَا يَمْنَعُ الْقَبُولَ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْإِقْرَارَ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ فَيُمْكِنُ
التَّوْفِيقُ بين الشَّهَادَتَيْنِ لِسَمَاعِهِ عن الْإِقْرَارِ في زَمَانَيْنِ أو
مَكَانَيْنِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الِاخْتِلَافُ بين الشَّهَادَتَيْنِ بِخِلَافِ
الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَإِنْشَاءِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ من الْعُقُودِ
وَالْفُسُوخِ لِأَنَّ هذا لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ فَاخْتِلَافُ الزَّمَانِ
وَالْمَكَانِ فيها يُوجِبُ اخْتِلَافَ الشَّهَادَتَيْنِ فَيَمْنَعُ الْقَبُولَ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ على رَجُلٍ قَرْضَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ
أَحَدُهُمَا على الْقَرْضِ وَالْآخَرُ على الْقَرْضِ وَالْقَضَاءِ يقضى
بِشَهَادَتِهِمَا على الْقَرْضِ وَلَا يقضى بِالْقَضَاءِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهِمَا
بِالْقَرْضِ أَيْضًا لِأَنَّهُمَا وَإِنْ اجْتَمَعَا على الشَّهَادَةِ بِالْقَرْضِ
لَكِنَّ الذي شَهِدَ بِالْقَضَاءِ فَسَخَ شَهَادَتَهُ بِالْقَرْضِ فَبَقِيَ على
الْقَرْضِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَلَا يَقْضِي بِالشَّهَادَةِ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الشهادتان ( ( ( الشهادتين ) ) ) اخْتَلَفَتَا في
الْقَضَاءِ لَا في الْقَرْضِ بَلْ اتَّفَقَا على الْقَرْضِ فيقضي بِهِ
وَقَوْلُهُ شَاهِدُ الْقَضَاءِ فَسَخَ شَهَادَتَهُ بِالْقَرْضِ
قُلْنَا مَمْنُوعٌ بَلْ قَرَّرَ شَهَادَتَهُ على الْقَرْضِ لِأَنَّ قَضَاءَ
الْقَرْضِ بَعْدَ الفرض ( ( ( القرض ) ) ) يَكُونُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَكَانِ فَوَاحِدٌ وهو مَجْلِسُ الْقَضَاءِ
وَمِنْهَا الذُّكُورَةُ في الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَلَا تُقْبَلُ
فيها شَهَادَةُ النِّسَاءِ لِمَا رُوِيَ عن الزُّهْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ
قال مَضَتْ السُّنَّةُ من لَدُنْ رسول اللَّهِ وَالْخَلِيفَتَيْنِ من بعدهما ( ( (
بعده ) ) ) رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ
شَهَادَةُ النِّسَاءِ في الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَلِأَنَّ الْحُدُودَ
وَالْقِصَاصَ مَبْنَاهُمَا على الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ بِالشُّبُهَاتِ
وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ لَا تَخْلُو عن شُبْهَةٍ لِأَنَّهُنَّ جُبِلْنَ على
السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ وَنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ فَيُورِثُ ذلك شُبْهَةً
بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَحْكَامِ لِأَنَّهَا تَجِبُ مع الشُّبْهَةِ وَلِأَنَّ
جَوَازَ شَهَادَةِ النِّسَاءِ على الْبَدَلِ من شَهَادَةِ الرِّجَالِ والأبدال في
بَابِ الْحُدُودِ غَيْرُ مقبولة ( ( ( مقبول ) ) ) كَالْكَفَالَاتِ
وَالْوَكَالَاتِ
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ على الْأَمْوَالِ فَالذُّكُورَةُ لَيْسَتْ فيها بِشَرْطٍ
وَالْأُنُوثَةُ لَيْسَتْ بِمَانِعَةٍ بِالْإِجْمَاعِ فَتُقْبَلُ فيها شَهَادَةُ
النِّسَاءِ مع الرِّجَالِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى في بَابِ
الْمُدَايَنَةِ { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِجَالِكُمْ فَإِنْ لم يَكُونَا
رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ من الشُّهَدَاءِ }
وَاخْتُلِفَ في اشْتِرَاطِهَا في الشَّهَادَةِ بِالْحُقُوقِ التي ليس ( ( ( ليست )
) ) بِمَالٍ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالنَّسَبِ
قال أَصْحَابُنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وقال الشَّافِعِيُّ رضي
اللَّهُ عنه شَرْطٌ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ حُجَّةٌ
ضَرُورَةً لِأَنَّهَا جُعِلَتْ حُجَّةً في بَابِ الدِّيَانَاتِ عِنْدَ عَدَمِ
الرِّجَالِ وَلَا ضَرُورَةَ في الْحُقُوقِ التي لَيْسَتْ بِمَالٍ لِانْدِفَاعِ
الْحَاجَةِ فيها بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ وَلِهَذَا لم تُجْعَلْ حُجَّةً في بَابِ
الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَكَذَا لم تُجْعَلْ حُجَّةً بِانْفِرَادِهِنَّ فِيمَا
لَا يَطَّلِعُ عليه الرِّجَالُ
وَلَنَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا } الْآيَةَ جَعَلَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
____________________
(6/279)
لِرَجُلٍ
وَامْرَأَتَيْنِ شَهَادَةً على الْإِطْلَاقِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
جَعَلَهُمْ من الشُّهَدَاءِ وَالشَّاهِدُ الْمُطْلَقُ من له شَهَادَةٌ على
الْإِطْلَاقِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ لهم شَهَادَةٌ في سَائِرِ الْأَحْكَامِ
إلَّا ما قُيِّدَ بِدَلِيلٍ
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ
النِّسَاءِ مع الرِّجَالِ في النِّكَاحِ وَالْفُرْقَةِ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ
أَنْكَرَ عليه مُنْكِرٌ من الصَّحَابَةِ فَكَانَ إجْمَاعًا منهم على الْجَوَازِ
وَلِأَنَّ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ في إظْهَارِ الشهود ( ( ( المشهود ) )
) بِهِ مِثْلُ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ لِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ فيها على
جَانِبِ الْكَذِبِ بِالْعَدَالَةِ لَا أنها لم تُجْعَلْ حُجَّةً فِيمَا يُدْرَأُ
بِالشُّبُهَاتِ لِنَوْعِ قُصُورٍ وَشُبْهَةٍ فيها لِمَا ذَكَرْنَا وَهَذِهِ
الْحُقُوقُ تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ فيه شُبْهَةٌ
وَأَمَّا قَوْلُهُ بِأَنَّهَا ضَرُورَةٌ فَلَا تَسْلَمُ فَإِنَّهَا مع الْقُدْرَةِ
على شَهَادَةِ الرِّجَالِ في بَابِ الْأَمْوَالِ مَقْبُولَةٌ فَدَلَّ أنها
شَهَادَةٌ مُطْلَقَةٌ لَا ضَرُورَةً
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ نُقْصَانَ الْأُنُوثَةِ يَصِيرُ مَجْبُورًا بِالْعَدَدِ
فَكَانَتْ شَهَادَةً مُطْلَقَةً
وَاخْتُلِفَ في اشْتِرَاطِهَا في الشَّهَادَةِ على الْإِحْصَانِ
قال عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ
وقال زُفَرُ حتى يَظْهَرَ الْإِحْصَانُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ
عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَظْهَرُ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الذُّكُورَةَ شَرْطٌ في عِلَّةِ
الْعُقُوبَاتِ بِالْإِجْمَاعِ حتى لَا يَظْهَرَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ
وَامْرَأَتَيْنِ وَالْإِحْصَانُ من جُمْلَةِ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ عِلَّةَ
وُجُوبِ الرَّجْمِ ليس هو الزِّنَا الْمُطْلَقَ بَلْ الزِّنَا الموصوف ( ( (
لموصوف ) ) ) بِالتَّغْلِيظِ وَلَا يَتَغَلَّظُ إلَّا بِالْإِحْصَانِ فَكَانَ
الْإِحْصَانُ من جُمْلَةِ الْعِلَّةِ لا ( ( ( فلا ) ) ) يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ
النِّسَاءِ وَلِهَذَا لو أَقَرَّ بِالْإِحْصَانِ جَازَ رُجُوعُهُ كما أَنَّهُ لو
أَقَرَّ بِالزِّنَا رَجَعَ
وَكَذَا الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ على الْإِحْصَانِ من غَيْرِ دَعْوَى
كَالشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ على الزِّنَا وَلَنَا قَوْلُهُ عز وجل {
فَاسْتَشْهِدُوا } الْآيَةَ وَدَلَالَتُهَا على نَحْوِ ما تَقَدَّمَ مع
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
وَأَمَّا قَوْلُهُ من جُمْلَةِ الْعِلَّةِ الْإِحْصَانُ
قُلْنَا لَا مَمْنُوعٌ بَلْ هو شَرْطُ الْعِلَّةِ فَيَصِيرُ الزِّنَا عِنْدَهُ
عِلَّةً وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ لَا إلَى الشَّرْطِ لِمَا عُرِفَ في
أُصُولِ الْفِقْهِ
وَأَمَّا الرُّجُوعُ عنه بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ
الرُّجُوعُ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَصِحُّ في قَوْلِ
زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا حُجَّةٌ على زُفَرَ وَلَا رِوَايَةَ فيه عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قلنا ( ( ( فلنا ) ) ) أَنْ
نَمْنَعَ وَعَدَمُ اشْتِرَاطِ الدَّعْوَى يَدُلُّ على أَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا على أَنَّهُ تُضَافُ إلَيْهِ الْعُقُوبَةُ
أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ في عِتْقِ الْأَمَةِ إجْمَاعًا
وَلَا في عِتْقِ الْعَبْدِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَإِنْ كان لَا
يَتَقَرَّرُ تَعَلُّقُ عُقُوبَةٍ بِهِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِحْصَانَ
حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى في هذا الْوَقْتِ على ما عُرِفَ في الْخِلَافِيَّاتِ
وَمِنْهَا إسْلَامُ الشَّاهِدِ إذَا كان الْمَشْهُودُ عليه مُسْلِمًا حتى لَا
تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْكَافِرِ على الْمُسْلِمِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فيها مَعْنَى
الْوِلَايَةِ وهو تَنْفِيذُ الْقَوْلِ على الْغَيْرِ وَلَا وِلَايَةَ لِلْكَافِرِ
فَلَا شَهَادَةَ له عليه
وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ على الْكَافِرِ لِأَنَّهُ من أَهْلِ أَنْ
يَثْبُتَ له الْوِلَايَةُ على الْمُسْلِمِ فَعَلَى الْكَافِرِ أَوْلَى
وَأَمَّا إذَا كان الْمَشْهُودُ عليه كَافِرًا فَإِسْلَامُ الشَّاهِدِ هل هو
شَرْطٌ لِقَبُولِ شَهَادَتِهِ عليه فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال أَصْحَابُنَا رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ ليس بِشَرْطٍ حتى تُقْبَلَ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ
بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ أو اخْتَلَفَتْ بَعْدَ أَنْ
كَانُوا عُدُولًا في دِينِهِمْ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ شَرْطٌ حتى لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُمْ
أَصْلًا
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ
لِلْكَافِرِينَ على الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } نَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَنْ يَكُونَ لِلْكَافِرِينَ على الْمُؤْمِنِينَ سبيلا ( ( ( سبيل ) )
) وفي قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ إثْبَاتُ السَّبِيلِ
لِلْكَافِرِينَ على الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ يَجِبُ على الْقَاضِي الْقَضَاءُ
بِشَهَادَتِهِمْ وأنه مَنْفِيٌّ وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ قَبُولِ
الشَّهَادَةِ وَالْفِسْقُ مَانِعٌ وَالْكُفْرُ رَأْسُ الْفِسْقِ فَكَانَ أَوْلَى
بِالْمَنْعِ من الْقَبُولِ وَلَنَا قَوْلُ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في
ذلك الحديث فإذا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لهم ما
لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ ما على الْمُسْلِمِينَ وَلِلْمُسْلِمِ على
الْمُسْلِمِ شَهَادَةٌ فَكَذَا لِلذِّمِّيِّ على الذِّمِّيِّ فَظَاهِرُهُ
يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلذِّمِّيِّ على الْمُسْلِمِ شَهَادَةٌ كَالْمُسْلِمِ
إلَّا أَنَّ ذلك صَارَ مَخْصُوصًا من عُمُومِ النَّصِّ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ
مَسَّتْ إلَى صِيَانَةِ حُقُوقِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا تَحْصُلُ الصِّيَانَةُ
إلَّا وَأَنْ يَكُونَ لِبَعْضِهِمْ على بَعْضٍ شَهَادَةٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ
الْحَاجَةَ
____________________
(6/280)
إلَى
صِيَانَةِ حُقُوقِهِمْ مَاسَّةٌ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ
لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الصِّيَانَةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ
لِبَعْضِهِمْ على بَعْضٍ شَهَادَةٌ لِأَنَّ هذه الْمُعَامَلَاتِ تَكْثُرُ فِيمَا
بَيْنَهُمْ
وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَحْضُرُونَ مُعَاقَدَتِهِمْ لِيَتَحَمَّلُوا حَوَادِثَهُمْ
فَلَوْ لم يَكُنْ لِبَعْضِهِمْ على بَعْضٍ شَهَادَةٌ لَضَاعَتْ حُقُوقُهُمْ عِنْدَ
الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الصِّيَانَةِ بِالشَّهَادَةِ
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَوُجُوبُ الْقَضَاءِ لَا يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ
وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالتَّقْلِيدِ السَّابِقِ وَالشَّهَادَةُ شَرْطُ الْوُجُوبِ
وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ فَلَا يَكُونُ في قَبُولِ شَهَادَةِ
بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ إثْبَاتُ السَّبِيلِ لِلْكَافِرِ على الْمُؤْمِنِ
سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ أو اخْتَلَفَتْ
فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ النَّصْرَانِيِّ على الْيَهُودِيِّ وَالْيَهُودِيِّ على
الْمَجُوسِيِّ
وقال ابن أبي لَيْلَى إنْ اخْتَلَفَتْ لَا تُقْبَلُ
وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْكُفْرَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ صُورَةً
فَهُوَ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ حَقِيقَةً فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ
كَيْفَ ما كان بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ من أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ حتى
لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِ على الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ
دَارِ الْإِسْلَامِ حَقِيقَةً وَإِنْ كان فيها صُورَةً لِأَنَّهُ ما دخل دَارَنَا
لِلسُّكْنَى فيها بَلْ لِيَقْضِيَ حَوَائِجَهُ ثُمَّ يَعُودَ عن قَرِيبٍ فلم
يَكُنْ من أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَالذِّمِّيُّ من أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ
فَاخْتَلَفَتْ الدَّارَانِ فلم تُقْبَلْ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عليه بِالنَّصِّ
الذي رَوَيْنَا وَصَارَ حُكْمُ الْمُسْتَأْمَنِ مع الذِّمِّيِّ في الشَّهَادَةِ
كَحُكْمِ الذِّمِّيِّ مع الْمُسْلِمِ
وَشَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِ تُقْبَلُ على الْمُسْتَأْمَنِ إنْ اتَّفَقَتْ
دَارُهُمْ وَمِلَلُهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ لَا تُقْبَلُ
وَمِنْهَا عَدَمُ التَّقَادُمِ في الشَّهَادَةِ على الْحُدُودِ كُلِّهَا إلَّا
حَدَّ الْقَذْفِ حتى لَا تُقْبَلَ الشَّهَادَةُ عليها إذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ
إلَّا على حَدِّ الْقَذْفِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِمَا عُرِفَ في كِتَابِ
الْحُدُودِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
ومنها قِيَامُ الرَّائِحَةِ في الشَّهَادَةِ على شُرْبِ الْخَمْرِ إذَا لم يَكُنْ
سَكْرَانَ ولم يُحَقَّقْ أَنَّهُ من مَسِيرِهِ لَا يَبْقَى الرِّيحُ من الْمَجِيءِ
بِهِ من مِثْلِهَا عَادَةً عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ليس بِشَرْطٍ وَهِيَ من
مَسَائِلِ الْحُدُودِ وَتُذْكَرُ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا الْأَصَالَةُ في الشَّهَادَةِ على الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ حتى لَا
تُقْبَلَ فيها الشَّهَادَةُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ وَهِيَ الشَّهَادَةُ على الشَّهَادَةِ
عِنْدَنَا كَذَا لَا يُقْبَلُ فيها كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لِأَنَّهُ في
مَعْنَى الشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
ليس بِشَرْطٍ حتى تُقْبَلَ فيها الشَّهَادَةُ على الشَّهَادَةِ
وَأَجْمَعُوا على أنها لَيْسَتْ بِشَرْطٍ في الْأَمْوَالِ وَالْحُقُوقِ
الْمُجَرَّدَةِ عنها فَتُقْبَلُ فيها الشَّهَادَةُ على الشَّهَادَةِ وَكِتَابُ
الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي إلَّا في الْعَبْدِ الْآبِقِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ تُقْبَلُ فيه أَيْضًا على ما نَذْكُرُ في
كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْفُرُوعَ يُؤَدُّونَ
الشَّهَادَةَ نِيَابَةً عن الْأُصُولِ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ شَهَادَةَ
الْأُصُولِ مَعْنًى وَشَهَادَةُ الْأُصُولِ على الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ مَقْبُولَةٌ
وَلَنَا أَنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ مِمَّا تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ
وَالشَّهَادَةُ على الشَّهَادَةِ لَا تَخْلُو عن شُبْهَةٍ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ
فيها شَهَادَةُ النِّسَاءِ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ في شَهَادَتِهِنَّ بِسَبَبِ
السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الشُّبْهَةَ هُنَا تَمَكَّنَتْ في
مَجْلِسٍ فَكَانَ فيها زِيَادَةٌ لَيْسَتْ في شَهَادَةِ الْأُصُولِ وَلِأَنَّ
الْحُدُودَ لَمَّا كانت مَبْنِيَّةً على الدَّرْءِ أَوْجَبَ ذلك اخْتِصَاصَهَا
بِحُجَجٍ مَخْصُوصَةٍ بَلْ إيقَافَ إقَامَتِهَا وَلِهَذَا شُرِطَ عَدَدُ
الْأَرْبَعَةِ في الشَّهَادَةِ على الزِّنَا لِأَنَّ إطلاع أَرْبَعَةٍ من
الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ على غَيْبُوبَةِ ذَكَرِهِ في فَرْجِهَا كما يَغِيبُ
الْمِيلُ في الْمُكْحُلَةِ نَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ
ثُمَّ نَقُولُ الْكَلَامُ في الشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ
في صُورَةِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ وفي شَرَائِطِ التَّحَمُّلِ
وفي صُورَةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ وفي شَرَائِطِ الْأَدَاءِ
أَمَّا صُورَةُ التَّحَمُّلِ فَلَهَا عِبَارَتَانِ مُخْتَصَرَةٌ وَمُطَوَّلَةٌ
أَمَّا اللَّفْظُ الْمُخْتَصَرُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ اشهد على
شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ لِفُلَانٍ على فُلَانٍ كَذَا أو يَقُولَ أَشْهَدُ
أَنَّ لِفُلَانٍ على فُلَانٍ كَذَا فاشهد على شَهَادَتِي بِذَلِكَ
وَأَمَّا الْمُطَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ أَشْهَدُ أَنَّ
لِفُلَانٍ على فُلَانٍ كَذَا أُشْهِدُكَ على شَهَادَتِي هذه وَآمُرُكَ أَنْ
تَشْهَدَ على شَهَادَتِي هذه فَاشْهَدْ وَأَمَّا شَرَائِطُ تَحَمُّلِ هذه
الشَّهَادَاتِ فما ذَكَرْنَا في عُمُومِ الشَّهَادَاتِ
وَأَمَّا الذي يَخْتَصُّ بها فَأَنْوَاعٌ منها الْإِشْهَادُ حتى لَا يَصِحَّ
التَّحَمُّلُ بِنَفْسِ السَّمَاعِ دُونَ الْإِشْهَادِ حتى لو قال أَشْهَدُ أَنَّ
لِفُلَانٍ على فُلَانٍ كَذَا فَسَمِعَ إنْسَانٌ لَكِنْ لم يَقُلْ اشْهَدْ أنت لم
يَصِحَّ التَّحَمُّلُ بِخِلَافِ سَائِرِ الشَّهَادَاتِ أَنَّهُ يَصِحُّ
التَّحَمُّلُ فيها بِنَفْسِ مُعَايَنَةِ الْفِعْلِ وَسَمَاعِ الْإِقْرَارِ
وَالْإِنْشَاءِ من غَيْرِ إشْهَادٍ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْفُرُوعَ يَشْهَدُونَ نِيَابَةً عن الْأُصُولِ فَلَا
بُدَّ من الْإِنَابَةِ منهم وَذَلِكَ
____________________
(6/281)
بِالْإِشْهَادِ
بِخِلَافِ سَائِرِ الشَّهَادَاتِ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الشَّاهِدِ في سَائِرِهَا
بِطَرِيقِ الإحارة ( ( ( الإحالة ) ) ) بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ فَيَصِحُّ
التَّحَمُّلُ فيها بِطَرِيقِ الْمُعَايَنَةِ
وَمِنْهَا الْإِشْهَادُ على شَهَادَتِهِ حتى لو قال اشهد بِمِثْلِ ما شَهِدْتُ أو
كما شَهِدْت أو على ما شَهِدْتُ لَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ ما لم يَقُلْ على
شَهَادَتِي لِأَنَّ مَعْنَى التَّحَمُّلِ وَالْإِنَابَةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا
بِالْإِشْهَادِ على شَهَادَتِهِ
وَمِنْهَا عَدَدُ التَّحَمُّلِ وهو أَنْ يَتَحَمَّلَ من كل وَاحِدٍ من شَاهِدَيْ
الْأَصْلِ اثْنَانِ حتى لو تَحَمَّلَ من أَحَدِهِمَا وَاحِدٌ وَتَحَمَّلَ من
الْآخَرِ وَاحِدٌ لَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ حَقٌّ ثَابِتٌ في
ذِمَّةِ الشَّاهِدِ وَالْحُقُوقُ الثَّابِتَةُ في الذِّمَمِ لَا يَنْقُلُهَا إلَى
الْقَاضِي إلَّا شَاهِدَانِ وَلَوْ تَحَمَّلَ اثْنَانِ من أَحَدِهِمَا شَهَادَتَهُ
ثُمَّ تَحَمَّلَا من الْآخَرِ شَهَادَتَهُ جَازَ التَّحَمُّلُ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ
على التَّحَمُّلِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدَانِ
فَأَمَّا الذُّكُورَةُ في تَحَمُّلِ هذه الشَّهَادَةِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ حتى
يَصِحَّ التَّحَمُّلُ فيها من النِّسَاءِ
وَأَمَّا صُورَةُ أَدَاءِ هذه الشَّهَادَةِ فَلَهَا لَفْظَانِ أَيْضًا مُخْتَصَرٌ
وَمُطَوَّلٌ فَالْمُخْتَصَرُ أَنْ يَقُولَ شَهِدَ فُلَانٌ عِنْدِي أَنَّ لِفُلَانٍ
على فُلَانٍ كَذَا وَأَشْهَدَنِي على شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ فَأَنَا أَشْهَدُ على
شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ
وَأَمَّا الْمُطَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ شَهِدَ عِنْدِي فُلَانٌ أَنَّ
لِفُلَانٍ على فُلَانٍ كَذَا وَأَشْهَدَنِي على شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ وَأَمَرَنِي
أَنْ أَشْهَدَ على شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ وأنا أَشْهَدُ الْآنَ على شَهَادَتِهِ
بِذَلِكَ وَلَوْ لم يَقُلْ وَأَمَرَنِي أَنْ أَشْهَدَ على شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ
جَازَ لِأَنَّ مَعْنَى التَّحَمُّلِ والأنابة يَتَأَدَّى بِقَوْلِهِ أَشْهَدَنِي
على شَهَادَتِهِ فَكَانَ قَوْلُهُ أَمَرَنِي بِذَلِكَ من بَابِ التَّأْكِيدِ
وَأَمَّا شَرَائِطُهَا فما ذَكَرْنَاهُ كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ وَاَلَّذِي
يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ عليه مَيِّتًا أو
غَائِبًا مَسِيرَةَ سَفَرٍ أو مَرِيضًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ
الْقَضَاءِ لِأَنَّ جَوَازَ الشَّهَادَةِ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ وَلَا
تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ إلَّا في هذه الْمَوَاضِعِ
وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِأَدَاءِ هذه الشَّهَادَةِ فَتُقْبَلُ
فيها شَهَادَةُ النِّسَاءِ مع الرِّجَالِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {
فَإِنْ لم يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ من
الشُّهَدَاءِ } فَظَاهِرُ النَّصِّ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلنِّسَاءِ مع
الرِّجَالِ شَهَادَةٌ على الْإِطْلَاقِ من غَيْرِ فَصْلٍ إلَّا ما قُيِّدَ
بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ قَضِيَّةَ الْقِيَاسِ أَنْ لَا تُشْتَرَطَ الذُّكُورَةُ
وَالْأَصْلُ في عُمُومِ الشَّهَادَاتِ إلَّا أَنَّ اشْتِرَاطَ الذُّكُورَةِ في
شَهَادَةِ الْأُصُولِ على الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ثَبَتَ بِنَصٍّ خَاصٍّ وهو
حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِتَمَكُّنِ شُبْهَةٍ في شهادتين ( ( (
شهادتهن ) ) ) لَيْسَتْ في شَهَادَةِ الرِّجَالِ وَاشْتِرَاطُ الْأَصَالَةِ في
الشَّهَادَةِ لِتَمَكُّنِ زِيَادَةِ شُبْهَةٍ في شَهَادَةِ الْفُرُوعِ لَيْسَتْ في
شَهَادَةِ الْأُصُولِ وهو الشُّبْهَةُ في الشَّهَادَتَيْنِ على ما ذَكَرْنَا
فَشُرِطَ ذلك احْتِيَالًا لِدَرْءِ ما يندرىء ( ( ( يندرئ ) ) ) بِالشُّبُهَاتِ
وَالْأَمْوَالُ وَالْحُقُوقُ مِمَّا ثَبَتَ بِالشُّبْهَةِ فثبتت ( ( ( فثبت ) ) )
على أَصْلِ الْقِيَاسِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَلْزَمُ الشَّاهِدَ بِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ
فَاَلَّذِي يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
فِيمَا سِوَى أَسْبَابِ الْحُدُودِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُقِيمُوا
الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } وَقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
شُهَدَاءَ لِلَّهِ } إلَّا أَنَّ في الشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ على حُقُوقِ
الْعِبَادِ وَأَسْبَابِهَا لَا بُدَّ من طَلَبِ الْمَشْهُودِ له لِوُجُوبِ
الْأَدَاءِ فإذا طَلَبَ وَجَبَ عليه الْأَدَاءُ حتى لو امْتَنَعَ بَعْدَ الطَّلَبِ
يَأْثَمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا ما دُعُوا } أَيْ
دُعُوا لاداء الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَمَانَةُ الْمَشْهُودِ له في
ذِمَّةِ الشَّاهِدِ وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَلْيُؤَدِّ الذي اُؤْتُمِنَ
أَمَانَتَهُ } وقال تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا }
وَأَمَّا في حُقُوقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَفِيمَا سِوَى أَسْبَابِ
الْحُدُودِ نَحْوُ طَلَاقِ امْرَأَةٍ وَإِعْتَاقِ عَبْدٍ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ
وَنَحْوُهَا من أَسْبَابِ الْحُرُمَاتِ تَلْزَمُهُ الْإِقَامَةُ حِسْبَةً لِلَّهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْإِقَامَةِ من غَيْرِ طَلَبٍ من
أَحَدٍ من الْعِبَادِ
وَأَمَّا في أَسْبَابِ الْحُدُودِ من الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ
وَالْقَذْفِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بين أَنْ يَشْهَدَ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى
وَبَيْنَ أَنْ يَسْتُرَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } وقال عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من سَتَرَ على مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عليه في
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وقد نَدَبَهُ الشَّرْعُ إلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ
شَاءَ اخْتَارَ جِهَةَ الْحِسْبَةِ فَأَقَامَهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنْ شَاءَ
اخْتَارَ جِهَةَ السَّتْرِ فَيَسْتُرُ على أَخِيهِ الْمُسْلِمِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الشَّهَادَةِ فَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْقَضَاءِ على
الْقَاضِي لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهَا مظهر ( ( (
مظهرة ) ) ) لِلْحَقِّ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ قال اللَّهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الْأَرْضِ
فَاحْكُمْ بين الناس بِالْحَقِّ } وَثُبُوتُ ما يَتَرَتَّبُ عليها من الْأَحْكَامِ
____________________
(6/282)
كِتَابُ
الرُّجُوعِ عن الشَّهَادَةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في الْأَصْلِ في مَوْضِعٍ
وَاحِدٍ وهو بَيَانُ حُكْمِ الرُّجُوعِ عن الشَّهَادَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ
التَّوْفِيقُ الرُّجُوعُ عن الشَّهَادَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا
يَرْجِعُ إلَى مَالِ الشَّاهِدِ وَالثَّانِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِهِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى مَالِهِ فَهُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ وَالْكَلَامُ فيه في
ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ في بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ
الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَسَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ في هذا الْبَابِ إتْلَافُ الْمَالِ
أو النَّفْسِ بِالشَّهَادَةِ لِأَنَّ الضَّمَانَ في الشَّرْعِ إنَّمَا يَجِبُ
إمَّا بِالِالْتِزَامِ أو بِالْإِتْلَافِ ولم يُوجَدْ الِالْتِزَامُ فَيَتَعَيَّنَ
الْإِتْلَافُ فيها سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَإِنْ وَقَعَتْ إتْلَافًا
انْعَقَدَتْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَإِلَّا فَلَا وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما
إذَا شَهِدَا على رَجُلٍ بِأَلْفٍ وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ
رَجَعَا أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ الْأَلْفَ لِأَنَّهُمَا لَمَّا رَجَعَا عن
شَهَادَتِهِمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَقَعَتْ
سَبَبًا إلَى الْإِتْلَافِ في حَقِّ الْمَشْهُودِ عليه وَالتَّسَبُّبُ إلَى
الْإِتْلَافِ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشَرَةِ في حَقِّ سَبَبِيَّةِ وُجُوبِ
الضَّمَانِ كَالْإِكْرَاهِ على إتْلَافِ الْمَالِ وَحَفْرِ الْبِئْرِ على
قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ
فَإِنْ قِيلَ لَمَّا رَجَعَا عن شَهَادَتِهِمَا تَبَيَّنَ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي
لم يَصِحَّ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَخَذَ الْمَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلِمَ
لَا يَرُدُّهُ إلَى الْمَشْهُودِ عليه
قِيلَ له إنَّهُ بِالرُّجُوعِ لم يَتَبَيَّنْ بُطْلَانُ الْقَضَاءِ لِأَنَّ
الشَّاهِدَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ في الرُّجُوعِ في حَقِّ الْقَاضِي وَالْمَشْهُودِ له
لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الرُّجُوعَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ
وَالْقَضَاءُ بِالْحَقِّ لِلْمَشْهُودِ بِهِ نَفَذَ بِدَلِيلٍ من حَيْثُ الظَّاهِرُ
وهو الشَّهَادَةُ الصَّادِقَةُ عِنْدَ الْقَاضِي فَلَا يُنْتَقَضُ الثَّابِتُ
ظَاهِرًا بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ فَبَقِيَ الْقَضَاءُ مَاضِيًا على الصِّحَّةِ
وَالْمُدَّعَى في يَدِ الْمُدَّعِي كما كان
وَالثَّانِي أَنَّ الشَّاهِدَ في الرُّجُوعِ عن شَهَادَتِهِ مُتَّهَمٌ في حَقِّ
الْمَشْهُودِ له لِجَوَازِ أَنَّ الْمَشْهُودَ عليه غَرَّهُ بِمَالٍ أو غَيْرِهِ
لِيَرْجِعَ عن شَهَادَتِهِ فَيَظْهَرَ كَذِبُ الْمُدَّعِي في دَعْوَاهُ فلم
يُصَدَّقْ في الرُّجُوعِ في حَقِّ الْمَشْهُودِ له لِلتُّهْمَةِ إذْ التُّهْمَةُ
كما تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الرُّجُوعِ عن الشَّهَادَةِ
فلم يَصِحَّ الرُّجُوعُ في حَقِّهِ فلم يُنْقَضْ الْقَضَاءُ وَلَا يُسْتَرَدُّ
الْمُدَّعَى من يَدِهِ وَمَعْنَى التُّهْمَةِ لَا يُتَوَهَّمُ في الْمَشْهُودِ
عليه فَصَحَّ الرُّجُوعُ في حَقّه إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إظْهَارُ الصِّحَّةِ
في نَقْضِ الْقَضَاءِ وَالتَّوَصُّلِ إلَى عَيْنِ الْمَشْهُودِ بِهِ فَيَظْهَرُ في
التَّوَصُّلِ إلَى بَدَلِهِ رِعَايَةً لِلْجَوَانِبِ كُلِّهَا وإذا رَجَعَا قبل
الْقَضَاءِ لَا يَضْمَنَانِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَصِيرُ حُجَّةً إلَّا
بِالْقَضَاءِ فَلَا تَقَعُ تَسْبِيبًا إلَى الْإِتْلَافِ بِدُونِهِ
وَعَلَى هذا إذَا شَهِدَا على رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقَضَى
الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ رَجَعَا إنْ كان الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ
بِأَنْ كان الزَّوْجُ مُقِرًّا بِالدُّخُولِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِانْعِدَامِ
الْإِتْلَافِ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَيَتَأَكَّدُ
بِالدُّخُولِ لَا بِشَهَادَتِهِمَا فلم تَقَعْ شَهَادَتُهُمَا إتْلَافًا فلم
يَجِبْ الضَّمَانُ
وَإِنْ كان الطَّلَاقُ قبل الدُّخُولِ فَقَضَى الْقَاضِي بِنِصْفِ الْمَهْرِ
بِأَنْ كان الْمَهْرُ مُسَمًّى أوبالمتعة بِأَنْ لم يَكُنْ الْمَهْرُ مُسَمًّى
ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا ذلك لِلزَّوْجِ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَإِنْ لم تُوجِبْ
على الزَّوْجِ شيئا من الْمَهْرِ لَكِنَّهَا أَكَّدَتْ الْوَاجِبَ لِأَنَّ
الْوَاجِبَ قبل الدُّخُولِ كان مُحْتَمِلًا لِلسُّقُوطِ بِأَنْ جَاءَتْ
الْفُرْقَةُ من قِبَلِهَا وَبِشَهَادَتِهِمَا بِالطَّلَاقِ تَأَكَّدَ الْوَاجِبُ
عليه على وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بَعْدَهُ أَصْلًا فَصَارَتْ
شَهَادَتُهُمَا مُؤَكِّدَةً لِلْوَاجِبِ وَالْمُؤَكِّدُ لِلْوَاجِبِ بِمَنْزِلَةِ
الْوَاجِبِ في الشَّرْعِ كَالْمُحْرِمِ إذَا أَخَذَ صَيْدًا فَذَبَحَهُ رَجُلٌ في
يَدِهِ يَجِبُ الْجَزَاءُ على الْآخِذِ وَيَرْجِعُ الْآخِذُ بِذَلِكَ على
الْقَاتِلِ لِوُقُوعِ الْقَتْلِ منه تَأْكِيدًا لِلْجَزَاءِ الْوَاجِبِ على
الْمُحْرِمِ إذْ لَوْلَا ذَبْحُهُ لَاحْتَمَلَ السُّقُوطَ بِالْإِرْسَالِ فَهُوَ
بِالذَّبْحِ أَكَّدَ الْوَاجِبَ عليه فَنَزَلَ الْمُؤَكَّدُ منه مَنْزِلَةَ
الْوَاجِبِ كَذَا هذا
وَعَلَى هذا إذَا شَهِدَا على رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا أو أَمَةً له وهو
يُنْكِرُ فَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا يَضْمَنَانِ قِيمَةَ الْعَبْدِ أو
الْأَمَةِ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا أَتْلَفَا عليه مَالِيَّةَ
الْعَبْدِ أو الْأَمَةِ فَيَضْمَنَانِ وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ
الْإِعْتَاقَ نَفَذَ عليه وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ
فَإِنْ قِيلَ هذا إتْلَافٌ بِعِوَضٍ وهو الْوَلَاءُ فَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ
قِيلَ له الْوَلَاءُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ وَإِنَّمَا هو من
أَسْبَابِ الْإِرْثِ فَكَانَ هذا إتْلَافًا بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ
وَلَوْ شَهِدَا على إقْرَارِ الْمَوْلَى أَنَّ هذه الْأَمَةَ وَلَدَتْ منه وهو
مُنْكِرٌ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا فَنَقُولُ هذا في الْأَصْلِ
لَا يَخْلُو من
____________________
(6/283)
أَحَدِ
وَجْهَيْنِ إمَّا إن لم يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ
وَإِمَّا إن كان مَعَهَا وَلَدٌ وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا إن رَجَعَا في
حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى وَإِمَّا إن رَجَعَا بَعْدَ وَفَاتِهِ
أَمَّا إذَا لم يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ وَرَجَعَا في حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى
يَضْمَنَانِ لِلْمَوْلَى نُقْصَانَ قِيمَتِهَا فَتُقَوَّمُ أَمَةً قِنًّا
وَتُقَوَّمُ أُمَّ وَلَدٍ لو جَازَ بَيْعُهَا فَيَضْمَنَانِ النُّقْصَانَ
لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عليه بِشَهَادَتِهِمَا هذا الْقَدْرَ حَالَ حَيَاتِهِ
فَيَضْمَنَانِهِ فإذا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ لِأَنَّهَا أُمُّ
وَلَدِهِ وَأُمُّ الْوَلَدِ تَعْتِقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا وَيَضْمَنَانِ بَقِيَّةَ
قِيمَتِهَا لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا بِشَهَادَتِهِمَا كُلَّ
الْجَارِيَةِ لَكِنَّ بَعْضَهَا في حَالِ الْحَيَاةِ وَالْبَاقِي بَعْدَ
الْوَفَاةِ فَيَضْمَنَانِ كَذَلِكَ
وَإِنْ كان مَعَهَا وَلَدٌ وَرَجَعَا في حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى فَإِنَّهُمَا
يَضْمَنَانِ قِيمَةَ الْوَلَدِ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهُ عليه
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا لَكَانَ الْوَلَدُ عَبْدًا له فَهُمَا
بِشَهَادَتِهِمَا أَتْلَفَاهُ عليه فَعَلَيْهِمَا الضَّمَانُ وَعَلَيْهِمَا
ضَمَانُ نُقْصَانِ قِيمَةِ الْأُمِّ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا فإذا مَاتَ الْمَوْلَى
بَعْدَ ذلك لم يَكُنْ مع الْوَلَدِ شَرِيكٌ في الْمِيرَاثِ فَلَا يَضْمَنَانِ له
شيئا وَيَرْجِعَانِ على الْوَلَدِ بِمَا قَبَضَ الْأَبُ مِنْهُمَا لِأَنَّ في
زَعْمِ الولد أن رُجُوعَهُمَا بَاطِلٌ وَأَنَّ ما أَخَذَ الْأَبُ مِنْهُمَا
أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَصَارَ مَضْمُونًا عليه فَيُؤَدِّي من تَرِكَتِهِ إنْ
كانت له تَرِكَةٌ وَإِنْ لم يَكُنْ له تَرِكَةٌ فَلَا ضَمَانَ على الْوَلَدِ لِأَنَّ
من أَقَرَّ على مُوَرِّثِهِ بِدَيْنٍ وَلَيْسَ لِلْمَيِّتِ تَرِكَةٌ لَا يُؤْخَذُ
من مَالِ الْوَارِثِ
وَإِنْ كان معه أَخٌ فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ لِلْأَخِ نِصْفَ الْبَقِيَّةِ من
قِيمَتِهَا لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عليه ذلك الْقَدْرَ وَيَرْجِعَانِ على الْوَلَدِ
بِمَا أَخَذَهُ الْأَبُ مِنْهُمَا لِمَا قُلْنَا وَلَا يَرْجِعَانِ بِمَا قَبَضَ
الْأَخُ لِأَنَّ الْأَخَ ظَلَمَ عَلَيْهِمَا في زَعْمِهِمَا فَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ
يَظْلِمَا عليه وَلَا ضَمَانَ لِلْأَخِ ما أَخَذَ هذا من الْمِيرَاثِ لِأَنَّهُمَا
ما أَتْلَفَا عليه الْمِيرَاثَ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
هذا إذَا كان الرُّجُوعُ في حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى فَأَمَّا إذَا كان بَعْدَ
وَفَاتِهِ فَإِنْ لم يَكُنْ مع الْوَلَدِ شَرِيكٌ في الْمِيرَاثِ فَلَا ضَمَانَ
عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْوَلَدَ يُكَذِّبُهُمَا في الرُّجُوعِ وَإِنْ كان معه
شَرِيكٌ في الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ لِلْأَخِ نِصْفَ الْبَقِيَّةِ من
قِيمَتِهِمَا لِمَا قُلْنَا وَيَضْمَنَانِ لِلْأَخِ نِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ
لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عليه نِصْفَ الْوَلَدِ وَلَا يَضْمَنَانِ له ما أَخَذَ هذا
الْوَلَدُ من الْمِيرَاثِ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَرْجِعَانِ على الْوَلَدِ هَهُنَا
لِأَنَّ هذا ظُلْمٌ لِلْأَخِ في زَعْمِهِمَا فَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَظْلِمَا
الْوَلَدَ
هذا إذَا كانت الشَّهَادَةُ في حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى وَالرُّجُوعُ عليه في
حَالِ حَيَاتِهِ أو بَعْدَ وَفَاتِهِ فَأَمَّا إذَا كانت الشَّهَادَةُ بَعْدَ
وَفَاتِهِ بِأَنْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنًا وَعَبْدًا وَأَمَةً وَتَرِكَةً
فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هذا الْعَبْدَ وَلَدَتْهُ هذه الْأَمَةُ من الْمَيِّتِ
وَصَدَّقَهُمَا الْوَلَدُ وَالْأَمَةُ وَأَنْكَرَ الِابْنُ فَقَضَى الْقَاضِي
بِذَلِكَ وَجَعَلَ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ رَجَعَا يَضْمَنَانِ قِيمَةَ
الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَنِصْفَ الْمِيرَاثِ لِلِابْنِ فُرِّقَ بين حَالِ
الْحَيَاةِ وَبَيْنَ حَالِ الْمَمَاتِ فإن هُنَاكَ لَا يَضْمَنَانِ الْمِيرَاثَ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالنَّسَبِ حَالَ الْحَيَاةِ لَا تَكُونُ
شَهَادَةً بِالْمَالِ وَالْمِيرَاثِ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فيه
التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَمُوتَ الْأَبُ أَوَّلًا
فَيَرِثَهُ الِابْنُ كما يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ الِابْنُ أَوَّلًا وَيَرِثَهُ
الْأَبُ فلم تَكُنْ الشَّهَادَةُ بِالنَّسَبِ شَهَادَةً بِالْمَالِ وَالْمِيرَاثِ
لَا مَحَالَةَ فَلَا تَتَحَقَّقُ الشَّهَادَةُ إتْلَافًا لِلْمَالِ فَلَا
يَضْمَنَانِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهَا شَهَادَةٌ
بِالْمَالِ لَا مَحَالَةَ فَقَدْ أَتْلَفَا عليه نِصْفَ الْمِيرَاثِ فَيَضْمَنَانِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ دَبَّرَ عَبْدَهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ
رَجَعَا يَضْمَنَانِ لِلْمَوْلَى نُقْصَانَ التَّدْبِيرِ فَيُقَوَّمُ قِنًّا
وَيُقَوَّمُ مُدَبَّرًا فَيَضْمَنَانِ النُّقْصَانَ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عليه
حَالَ حَيَاتِهِ بِشَهَادَتِهِمَا هذا الْقَدْرَ فَيَضْمَنَانِهِ فإذا مَاتَ
الْمَوْلَى بَعْدَ ذلك عَتَقَ الْعَبْدُ كُلُّهُ إنْ كان يَخْرُجُ من الثُّلُثِ
وَلَا سِعَايَةَ عليه لِأَنَّهُ مُدَبَّرُهُ وَيَضْمَنَانِ لِلْوَرَثَةِ بَقِيَّةَ
قِيمَتِهِ عَبْدًا لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا بِشَهَادَتِهِمَا بَقِيَّةَ
مَالِيَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إعْتَاقٌ بَعْدَ الْمَوْتِ
وَلَوْ لم يَكُنْ له مَالٌ سِوَى الْمُدَبَّرِ عَتَقَ عليه مَجَّانًا لِأَنَّ
التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ فَيُعْتَبَرُ بِسَائِرِ الْوَصَايَا وَيَسْعَى في ثُلُثَيْ
قِيمَتِهِ عَبْدًا قِنًّا لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِيمَا زَادَ على
الثُّلُثِ لَا تَنْفُذُ من غَيْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَيَضْمَنُ الشاهدان
لِلْوَرَثَةِ ثُلُثَ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عليه بِشَهَادَتِهِمَا
ثُلُثَ الْعَبْدِ
هذا إذَا كانت السِّعَايَةُ تَخْرُجُ من ثُلُثِ الْعَبْدِ فَإِنْ كانت لَا
تَخْرُجُ بِأَنْ كان مُعْسِرًا فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ جَمِيعَ قِيمَتِهِ
مُدَبَّرًا ثُمَّ يَرْجِعَانِ على الْعَبْدِ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهِ إذَا أَيْسَرَ
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قال لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ
وَشَهِدَ آخَرَانِ بِالدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ على شُهُودِ
الْيَمِينِ لِأَنَّ الْعِتْقَ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ أنت حُرٌّ وَإِنَّمَا الدُّخُولُ
شَرْطٌ وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْعِتْقِ لَا إلَى الشَّرْطِ فَكَانَ التَّلَفُ
حَاصِلًا بِشَهَادَتِهِمَا فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا
وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا أَنَّهُ قال لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ
فَأَنْتِ طَالِقٌ وَشَهِدَ آخَرَانِ بِالدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعُوا لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ لو شَهِدَا على رَجُلٍ
____________________
(6/284)
بِالزِّنَا
وَشَهِدَ آخَرَانِ بِالْإِحْصَانِ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ على شُهُودِ
الزِّنَا لَا على شُهُودِ الْإِحْصَانِ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطٌ
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا خَطَأً وَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا
ضَمِنَا الدِّيَةَ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا عليه وَتَكُونُ في مَالِهِمَا
لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ مِنْهُمَا
بِالْإِتْلَافِ وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْإِقْرَارَ كما لو أقر ( ( ( أقرا )
) ) صَرِيحًا وَلِهَذَا لو رَجَعَا في حَالِ الْمَرَضِ اُعْتُبِرَ إقرار ( ( (
إقرارا ) ) ) بِالدَّيْنِ حتى يَقْدَمَ عليه دَيْنُ الصِّحَّةِ كما في سَائِرِ
الْأَقَارِيرِ
وَكَذَا لو شَهِدَا أَنَّهُ قَطَعَ يَدَ فُلَانٍ خَطَأً وَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ
رَجَعَا ضَمِنَا دِيَةَ الْيَدِ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَا لو شَهِدَا عليه بِالسَّرِقَةِ فَقَضَى عليه بِالْقَطْعِ فَقُطِعَتْ
يَدُهُ ثُمَّ رَجَعَا فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ سَيِّدِنَا
عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ على رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَضَى عليه
بِالْقَطْعِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ جاء الشَّاهِدَانِ بِآخَرَ فَقَالَا
أَوْهَمْنَا أَنَّ السَّارِقَ هذا يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فقال سَيِّدُنَا
عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه لَا أُصَدِّقُكُمَا على هذا وَأُغَرِّمُكُمَا دِيَةَ يَدِ
الْأَوَّلِ وَلَوْ عَلِمْتَ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُ أَيْدِيَكُمَا
وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا عَمْدًا فَقَضَى الْقَاضِي وَقُتِلَ ثُمَّ
رَجَعَا فَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا شَهِدَا أَنَّهُ قَطَعَ يَدَ فُلَانٍ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَقَعَتْ
قَتْلًا تَسْبِيبًا لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ وأنه يُفْضِي إلَى
الْقَتْلِ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمَا تَسْبِيبًا إلَى الْقَتْلِ وَالتَّسْبِيبُ في
بَابِ الْقِصَاصِ في مَعْنَى الْمُبَاشَرَةِ كَالْإِكْرَاهِ على الْقَتْلِ
وَلَنَا أَنْ نُسَلِّمَ أَنَّ الشَّهَادَةَ وَقَعَتْ تَسْبِيبًا إلَى الْقَتْلِ
لَكِنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ يَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ مُبَاشَرَةً لَا تَسْبِيبًا
لِأَنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ الْوَارِدِ على حَقِّ الْعَبْدِ مُقَيَّدٌ
بِالْمِثْلِ شَرْعًا وَلَا مُمَاثَلَةَ بين الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً وَبَيْنَ
الْقَتْلِ تَسْبِيبًا بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ على الْقَتْلِ لِأَنَّ الْقَاتِلَ هو
الْمُكْرِهُ مُبَاشَرَةً لَكِنْ بِيَدِ الْمُكْرَهِ وهو كَالْآلَةِ وَالْفِعْلُ
لِمُسْتَعْمِلِ الْآلَةِ لَا لِلْآلَةِ على ما عُرِفَ على أَنَّ ذلك وَإِنْ كان
قَتْلًا تَسْبِيبًا فَهُوَ مَخْصُوصٌ عن نُصُوصِ الْمُمَاثَلَةِ فَمَنْ ادَّعَى
تَخْصِيصَ الْفَرْعِ يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا شَهِدَا على وَلِيِّ الْقَتِيلِ أَنَّهُ عَفَا عن
الْقَتْلِ وَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا في
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ مِنْهُمَا إتْلَافُ الْمَالِ وَلَا
النَّفْسِ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا قَامَتْ على الْعَفْوِ عن الْقِصَاصِ
وَالْقِصَاصُ ليس بِمَالٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو أَكْرَهَ رَجُلًا على الْعَفْوِ
عن الْقِصَاصِ فَعَفَا لَا يَضْمَنُ الْمُكْرَهُ وَلَوْ كان الْقِصَاصُ مَالًا
يَضْمَنُ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَضْمَنُ بِالْإِكْرَاهِ على إتْلَافِ الْمَالِ
وَكَذَا من وَجَبَ له الْقِصَاصُ وهو مَرِيضٌ فَعَفَا ثُمَّ مَاتَ في مَرَضِهِ ذلك
لَا يُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ وَلَوْ كان مَالًا اُعْتُبِرَ من الثُّلُثِ كما إذَا
تَبَرَّعَ في مَرَضِهِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ الدِّيَةَ لِوَلِيِّ
الْقَتِيلِ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا إتْلَافٌ لِلنَّفْسِ لِأَنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ
تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ في حَقِّ الْقِصَاصِ فَقَدْ أَتْلَفَا
بِشَهَادَتِهِمَا على الْمَوْلَى نَفْسًا تُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ أو عَشَرَةَ
آلَافِ دِرْهَمٍ فَيَضْمَنَانِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ
أَنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ بَلْ
الثَّابِتُ له مِلْكُ الْفِعْلِ لَا مِلْكُ الْمَحَلِّ لِأَنَّ في الْمَحَلِّ ما
يُنَافِي الْمِلْكَ لِمَا عُلِمَ في مَسَائِلِ الْقِصَاصِ فلم تَقَعْ
شَهَادَتُهُمَا إتْلَافَ النَّفْسِ وَلَا إتْلَافَ الْمَالِ فَلَا يَضْمَنَانِ
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ هذا الْغُلَامَ ابن هذا الرَّجُلِ وَالْأَبُ يَجْحَدُهُ
فَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ رَجَعَا لَا يَبْطُلُ النَّسَبُ وَلَا
ضَمَانَ على الشَّاهِدَيْنِ لِانْعِدَامِ إتْلَافِ الْمَالِ مِنْهُمَا
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ بَعْدَ
الْقَضَاءِ فَإِنْ كان قَبْلَهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ
الرُّكْنَ في وُجُوبِ الضَّمَانِ بِالشَّهَادَةِ وُقُوعُ الشَّهَادَةِ إتْلَافًا
وَلَا تَصِيرُ إتْلَافًا إلَّا إذَا صَارَتْ حُجَّةً وَلَا تَصِيرُ حُجَّةً إلَّا
بِالْقَضَاءِ فَلَا تَصِيرُ إتْلَافًا إلَّا بِهِ
وَمِنْهَا مَجْلِسُ الْقَضَاءِ فَلَا عِبْرَةَ بِالرُّجُوعِ عِنْدَ غَيْرِ
الْقَاضِي كما لَا عِبْرَةَ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَ غَيْرِهِ حتى لو أَقَامَ
الْمُدَّعَى عليه الْبَيِّنَةَ على رُجُوعِهِمَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَكَذَا
لَا يَمِينَ عَلَيْهِمَا إذَا أَنْكَرَ الرُّجُوعَ إلَّا إذَا حَكَيَا عِنْد
الْقَاضِي رُجُوعَهُمَا عِنْدَ غَيْرِهِ فَيُعْتَبَرُ رُجُوعُهُمَا لِأَنَّ ذلك
بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ رُجُوعِهِمَا عِنْدَ الْقَاضِي فَكَانَ مُعْتَبَرًا
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُتْلَفُ بِالشَّهَادَةِ عَيْنَ مَالٍ حتى لو كان
مَنْفَعَةً لَا يَجِبُ الضَّمَانُ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ
مَضْمُونَةٍ بِالْإِتْلَافِ عِنْدَنَا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا شَهِدَا أَنَّهُ تَزَوَّجَ هذه الْمَرْأَةَ بِأَلْفِ
دِرْهَمٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَانِ وَهِيَ تُنْكِرُ فَقَضَى الْقَاضِي
بِالنِّكَاحِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ رَجَعَا لَا يَضْمَنَانِ لِلْمَرْأَةِ شيئا
لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عليها مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ
بِعَيْنِ مَالٍ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يُعْطَى لها حُكْمُ الْأَمْوَالِ بِعَارِضِ
عَقْدِ الْإِجَارَةِ
وَكَذَا لو ادَّعَتْ امْرَأَةٌ على رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَهَا على أَلْفِ دِرْهَمٍ
وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ فَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا لم
يَضْمَنَا لِلزَّوْجِ شيئا لِأَنَّهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا
____________________
(6/285)
أَتْلَفَا
على الزَّوْجِ الْمَنْفَعَةَ لَا عَيْنَ الْمَالِ
وَعَلَى هذا لو ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَ هذه الدَّابَّةَ من فُلَانٍ
بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَأَجْرُ مِثْلِهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَالْمُؤَجِّرُ
يُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ وَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا لَا يَضْمَنَانِ
لِلْمُؤَجِّرِ شيئا لِأَنَّهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا الْمَنْفَعَةَ لَا عَيْنَ
الْمَالِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ إتْلَافُ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِنْ كان بِعِوَضٍ
لَا يَجِبُ الضَّمَانُ سَوَاءٌ كان الْعِوَضُ عَيْنَ مَالٍ أو مَنْفَعَةً لها
حُكْمُ عَيْنِ الْمَالِ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ بِعِوَضٍ يَكُونُ إتْلَافًا صُورَةً
لَا مَعْنًى وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا ادَّعَى رَجُلٌ على رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ
عَبْدَهُ منه بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ
بِذَلِكَ وَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كانت قِيمَةُ
الْعَبْدِ أَلْفًا أو أَكْثَرَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ
شَهَادَتَهُمَا وَقَعَتْ إتْلَافًا بِعِوَضٍ فَلَا يَكُونُ إتْلَافًا مَعْنًى
فَلَا يُوجَبُ الضَّمَانُ وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَقَلَّ من أَلْفٍ يَضْمَنَانِ
الزِّيَادَةَ له لِوُقُوعِ الشَّهَادَةِ إتْلَافًا بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ وَلَوْ
كانت الدَّعْوَى من الْمُشْتَرِي وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا إنْ كانت قِيمَتُهُ
مِثْلَ الثَّمَنِ الْمَذْكُورِ أو أَقَلَّ لَا ضَمَانَ على الشَّاهِدَيْنِ
لِلْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَكْثَرَ من أَلْفٍ يَضْمَنَانِ الزِّيَادَةَ لِلْبَائِعِ
لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَقَعَتْ إتْلَافًا بِغَيْرِ الزِّيَادَةِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا ادَّعَتْ امْرَأَةٌ على رَجُلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا
على أَلْفِ دِرْهَمٍ وَالرَّجُلُ يُنْكِرُ فَشَهِدَ لها شَاهِدَانِ بِذَلِكَ
وَقَضَى الْقَاضِي بِالنِّكَاحِ بِأَلْفٍ ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كان
مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا أو أَكْثَرَ من ذلك لم يَضْمَنَا لِلزَّوْجِ شيئا وَإِنْ
أَتْلَفَا عليه عَيْنَ الْمَالِ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا بِعِوَضٍ له حُكْمُ
عَيْنِ الْمَالِ وهو الْبُضْعُ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَالًا حَالَ دُخُولِهِ في
مِلْكِ الزَّوْجِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَبَ يَمْلِكُ أَنْ يُزَوِّجَ من ابْنِهِ
امْرَأَةً وَلَوْ لم يُعْتَبَرْ الْبُضْعُ مَالًا حَالَ دُخُولِهِ في مِلْكِ
الزَّوْجِ لِمَا مَلَكَ لِأَنَّ الْأَبَ لَا يَمْلِكُ على ابْنِهِ مُعَاوَضَةَ
مَالٍ بِمَا ليس بِمَالٍ
وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً على أَلْفِ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ
مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ بَلْ من جَمِيعِ الْمَالِ وَلَوْ لم
يَكُنْ الْبُضْعُ في حُكْمِ الْمَالِ في حَالِ الدُّخُولِ في مِلْكِ الزَّوْجِ
لَاعْتُبِرَ من الثُّلُثِ كَالتَّبَرُّعِ دَلَّ أَنَّ الْبُضْعَ يُعْتَبَرُ مَالًا
في حَقِّ الزَّوْجِ حَالَ دُخُولِهِ في مِلْكِهِ فَكَانَ الْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ هو
في حُكْمِ عَيْنِ الْمَالِ فَلَا يَكُونُ إتْلَافًا مَعْنًى وَإِنْ كان مَهْرُ
مِثْلِهَا أَقَلَّ من أَلْفِ دِرْهَمٍ يَضْمَنَانِ الزِّيَادَةَ على مَهْرِ
الْمِثْلِ لِلزَّوْجِ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا الزِّيَادَةَ عليه من غَيْرِ عِوَضٍ
أَصْلًا وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا ادَّعَى رَجُلٌ على امْرَأَةٍ أَنَّهُ
طَلَّقَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْمَرْأَةُ تُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ
بِذَلِكَ وَقَضَى الْقَاضِي عليها بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُمَا
يَضْمَنَانِ لِلْمَرْأَةِ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عليها عَيْنَ
الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا لِأَنَّ الْبُضْعَ حَالَ خُرُوجِهِ عن مِلْكِ
الزَّوْجِ لَا يُعْتَبَرُ مَالًا بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَبَ لَا يَمْلِكُ أَنْ
يَخْلَعَ من ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ على مَالٍ وَلَوْ فَعَلَ وَأَدَّى من مَالِهَا
يَضْمَنُ وَلَوْ كان مَالًا لِمِلْكٍ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ عليها مُعَاوَضَةَ مَالٍ
بِمَالٍ
وَكَذَلِكَ الْمَرِيضَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ من نَفْسِهَا حَالَ مَرَضِهَا على مَالٍ
يُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ كَالْوَصِيَّةِ وَلَوْ كان له حُكْمُ الْمَالِ
لَاعْتُبِرَ من جَمِيعِ الْمَالِ كما في سَائِرِ مُعَاوَضَاتِ الْمَالِ بِالْمَالِ
وإذا لم يَكُنْ له حُكْمُ الْمَالِ حَالَ الْخُرُوجِ عن مِلْكِ الزَّوْجِ حَصَلَتْ
شَهَادَتُهُمَا إتْلَافًا عَلَيْهِمَا من عِوَضٍ أَصْلًا فَيَجِبُ الضَّمَانُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ آجَرَ دَارِهِ من فُلَانٍ
شَهْرًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَالْمُسْتَأْجِرُ يُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ
بِذَلِكَ وَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا فَأَمَّا إنْ كان في أَوَّلِ الْمُدَّةِ
يَنْظُرُ إنْ كان أُجْرَةُ الدَّارِ مِثْلَ الْمُسَمَّى لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا
لِلْمُسْتَأْجِرِ
وَلَوْ أَتْلَفَا عليه عَيْنَ مَالٍ لَكِنْ بِعِوَضٍ له حُكْمُ عَيْنِ الْمَالِ
وهو الْمَنْفَعَةُ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ في بَابِ الْإِجَارَةِ لها حُكْمُ عَيْنِ
الْمَالِ
وَإِنْ كانت أُجْرَةُ مِثْلِهَا أَقَلَّ من الْمُسَمَّى فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ
الزِّيَادَةَ لِأَنَّ التَّلَفَ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ حَصَلَ بِغَيْرِ عِوَضٍ
أَصْلًا
وَإِنْ كانت الدَّعْوَى بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَعَلَيْهِمَا
ضَمَانُ الْأُجْرَةِ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عليه من غَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا
فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِمَا وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ
على الْقَاتِلِ أَنَّهُ صَالَحَ وَلِيَّ الْقَتِيلِ على مَالٍ وَالْقَاتِلُ
يُنْكِرُ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُمَا لَا يَضْمَنَانِ
شيئا لِلْقَاتِلِ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عليه عَيْنَ مَالٍ بِعِوَضٍ وهو
النَّفْسُ لِأَنَّ النَّفْسَ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ عِوَضًا بِدَلِيلِ أَنَّ
الْمَرِيضِ وَجَبَ عليه الْقِصَاصُ فَصَالَحَ الْوَلِيَّ على الدِّيَةِ جَازَ
وَلَا تُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ بَلْ من جَمِيعِ الْمَالِ وَلَوْ لم تَصْلُحْ
النَّفْسُ عِوَضًا لَاعْتُبِرَ من الثُّلُثِ دَلَّ أَنَّ هذا إتْلَافٌ بِعِوَضٍ
فَلَا يُوجَبُ الضَّمَانُ إلَّا إذَا شَهِدَا على الصُّلْحِ بِأَكْثَرَ من
الدِّيَةِ فَيَضْمَنَانِ الزِّيَادَةَ على الدِّيَةِ لِلْقَاتِلِ لِأَنَّ تَلَفَ
الزِّيَادَةِ حَصَلَ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَيُمْكِنُ تَخَرُّجُ هذه الْمَسَائِلِ على
فَصْلِ التَّسَبُّبِ لِأَنَّ ما قَابَلَهُ عِوَضٌ لَا يَكُونُ إتْلَافًا مَعْنًى
فلم يُوجَدْ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَلَا يَجِبُ فَافْهَمْ ذلك وَيَسْتَوِي في
وُجُوبِ الضَّمَانِ الرُّجُوعُ
____________________
(6/286)
عن
الشَّهَادَةِ وَالرُّجُوعُ على الشَّهَادَةِ حتى لو رَجَعَتْ الْفُرُوعُ وَثَبَتَ
الْأُصُولُ يَجِبُ الضَّمَانُ على الْفُرُوعِ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ منهم
لِوُجُودِ الشَّهَادَةِ منهم حَقِيقَةً
وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولُ وَثَبَتَ الْفُرُوعُ فَلَا ضَمَانَ على الْفُرُوعِ
لِانْعِدَامِ الرُّجُوعِ منهم وَهَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ على الْأُصُولِ قال أبو
حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجِبُ وقال مُحَمَّدٌ يَجِبُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْفُرُوعَ لَا يَشْهَدُونَ بِشَهَادَةِ أَنْفُسِهِمْ
وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ فإذا شَهِدُوا فَقَدْ أَظْهَرُوا
شَهَادَتَهُمْ فَكَأَنَّهُمْ حَضَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَشَهِدُوا ثُمَّ رَجَعُوا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ وُجِدَتْ من الْفُرُوعِ لَا من الْأُصُولِ
لِعَدَمِ الشَّهَادَةِ حَقِيقَةً فَإِنَّهُمْ لم يَشْهَدُوا حَقِيقَةً وَإِنَّمَا
شَهِدَ الْفُرُوعُ وَهُمْ ثَابِتُونَ على شَهَادَتِهِمْ فلم يُوجَدْ الْإِتْلَافُ
من الْأُصُولِ لِعَدَمِ الشَّهَادَةِ منهم حَقِيقَةً فَلَا يَضْمَنُونَ
وَعَلَى هذا إذَا رَجَعُوا جميعا فَالضَّمَانُ على الْفُرُوعِ عِنْدَهُمَا وَلَا
شَيْءَ على الْأُصُولِ لِوُجُودِ الشَّهَادَةِ من الْفُرُوعِ حَقِيقَةً لَا من
الْأُصُولِ وَعِنْدَهُ الْمَشْهُودُ عليه بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمِنَ
الْفُرُوعُ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْأُصُولُ لِوُجُودِ الشَّهَادَةِ من
الْفَرِيقَيْنِ وَلَوْ لم يَرْجِعْ أَحَدٌ من الْفَرِيقَيْنِ وَلَكِنَّ الْأُصُولَ
أَنْكَرُوا الْإِشْهَادَ فَلَا ضَمَانَ على أَحَدٍ لِانْعِدَامِ الرُّجُوعِ عن
الشَّهَادَةِ وَيَسْتَوِي في وُجُوبِ ضَمَانِ الرُّجُوعِ رُجُوعُ الشُّهُودِ
وَالْمُزَكِّينَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ حتى إنَّ الْمُزَكِّينَ لو زَكَّوْا
الشُّهُودَ فَشَهِدُوا وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعَ
الْمُزَكُّونَ ضَمِنُوا عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا رُجُوعُ الْمُزَكِّينَ لَا يُوجِبُ
الضَّمَانَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ رُجُوعَ الْمُزَكِّينَ بِمَنْزِلَةِ رُجُوعِ شُهُودِ
الْإِحْصَانِ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ لَيْسَتْ إلَّا بِنَاءً عن الشُّهُودِ
كَالشَّهَادَةِ على الصِّفَاتِ التي هِيَ خِصَالٌ حَمِيدَةٌ ثُمَّ الرُّجُوعُ عن
الشَّهَادَةِ على الْإِحْصَانِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ
كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّزْكِيَةَ في مَعْنَى الشَّهَادَةِ في وُجُوبِ
الضَّمَانِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عن الشَّهَادَةِ إنَّمَا يُوجِبُ الضَّمَانَ
لِوُقُوعِهِ إتْلَافًا وَإِنَّمَا يَصِيرُ إتْلَافًا بِالتَّزْكِيَةِ أَلَا تَرَى
أَنَّهُ لَوْلَا التَّزْكِيَةُ لَمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ
عَامِلَةً بِالتَّزْكِيَةِ فَكَانَتْ التَّزْكِيَةُ في مَعْنَى عِلَّةِ فَكَانَتْ
إتْلَافًا بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ على الْإِحْصَانِ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطُ
كَوْنِ الزِّنَا عِلَّةً وَالْحُكْمُ لِلْعِلَّةِ لَا لِلشَّرْطِ
وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ من الضَّمَانِ فَالْأَصْلُ أَنَّ مِقْدَارَ
الْوَاجِبِ منه على قَدْرِ الْإِتْلَافِ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هو
الْإِتْلَافُ وَالْحُكْمُ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْعِلَّةِ وَالْعِبْرَةُ فيه
لِبَقَاءِ من بَقِيَ من الشُّهُودِ بَعْدَ رُجُوعِ من رَجَعَ منهم فَإِنْ بَقِيَ
منهم بَعْدَ الرُّجُوعِ من يَحْفَظُ الْحَقَّ كُلَّهُ فَلَا ضَمَانَ على أَحَدٍ
لِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ أَصْلًا من أَحَدٍ وَإِنْ بَقِيَ منهم من يَحْفَظُ
بَعْضَ الْحَقِّ وَجَبَ على الرَّاجِعِينَ ضَمَانُ قَدْرِ التَّالِفِ بِالْحِصَصِ
فَنَقُولُ بَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعَ
أَحَدُهُمَا عليه نِصْفُ الْمَالِ لِأَنَّ النِّصْفَ مَحْفُوظٌ بِشَهَادَةِ
الْبَاقِي
وَلَوْ كانت الشُّهُودُ أَرْبَعَةً فَرَجَعَ وَاحِدٌ منهم لَا ضَمَانَ عليه
وَكَذَا إذَا رَجَعَ اثْنَانِ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ يَحْفَظَانِ الْمَالَ وَلَوْ
رَجَعَ منهم ثَلَاثَةٌ فَعَلَيْهِمْ نِصْفُ الْمَالِ لِأَنَّ النِّصْفَ عِنْدَنَا
بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعَ الرَّجُلُ غَرِمَ
نِصْفَ الْمَالِ لِأَنَّ النِّصْفَ بَقِيَ بِثَبَاتِ الْمَرْأَتَيْنِ
وَلَوْ رَجَعَتْ الْمَرْأَتَانِ غَرِمَتَا نِصْفَ الْمَالِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ
لِبَقَاءِ النِّصْفِ بِثَبَاتِ الرَّجُلِ وَلَوْ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ
فَعَلَيْهِمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالُ نِصْفُهُ على الرَّجُلِ وَرُبُعُهُ
على الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بِبَقَاءِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ الرُّبُعُ
فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ثَلَاثَةَ الْأَرْبَاعِ
وَالرَّجُلُ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ فَكَانَ عليها الرُّبُعُ وَعَلَى الرَّجُلِ
النِّصْفُ وَلَوْ رَجَعُوا جميعا فَنِصْفُ الْمَالِ على الرَّجُلِ وَالنِّصْفُ على
الْمَرْأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ على
الرَّجُلَيْنِ وَلَا شَيْءَ على الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ في
الشَّهَادَةِ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الْقَاضِيَ
لَا يَقْضِي بشهادتهما ( ( ( بشهادتها ) ) )
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَتَانِ ثُمَّ رَجَعَتْ الْمَرْأَتَانِ فَلَا
ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْحَقَّ يَبْقَى مَحْفُوظًا بِالرَّجُلَيْنِ
وَلَوْ رَجَعَ الرَّجُلَانِ يَضْمَنَانِ نِصْفَ الْمَالِ لِأَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ
يحفظان ( ( ( تحفظان ) ) ) النِّصْفَ
وَلَوْ رَجَعَ رَجُلٌ وَاحِدٌ لَا شَيْءَ عليه لِأَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ
يَحْفَظُونَ جَمِيعَ الْمَالِ وَلَوْ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَعَلَيْهِمَا
رُبُعُ الْمَالِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ على الرَّجُلِ وَثُلُثُهُ على
الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ بَقِيَ ثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ بِبَقَاءِ رَجُلٍ
وَامْرَأَتَيْنِ فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ الرُّبُعَ
وَالرَّجُلُ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ فَكَانَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَلَوْ رَجَعُوا
جميعا فَالضَّمَانُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثٌ أَيْضًا ثُلُثَاهُ على الرَّجُلَيْنِ
وَثُلُثُهُ على الْمَرْأَتَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّجُلَ ضِعْفُ
الْمَرْأَةِ فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِ ضِعْفَ ما تَلِفَ بِشَهَادَتِهَا
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وعشرة ( ( ( وعشر ) ) )
____________________
(6/287)
نِسْوَةٍ
ثُمَّ رَجَعُوا جميعا فَالضَّمَانُ بَيْنَهُمْ أَسْدَاسٌ سُدُسُهُ على الرَّجُلِ
وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ على النِّسْوَةِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ فَأَمَّا
عِنْدَهُمَا فَالضَّمَانُ بَيْنَهُمْ نِصْفَانِ نِصْفُهُ على الرَّجُلِ وَنِصْفُهُ
على النِّسْوَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ النِّسَاءَ وَإِنْ كَثُرْنَ فَلَهُنَّ شَطْرُ
الشَّهَادَةِ لَا غَيْرُ فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِنَّ نِصْفَ الْمَالِ
وَالنِّصْفَ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ فَكَانَ الضَّمَانُ بَيْنَهُمْ أَنْصَافًا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ في
الشَّهَادَةِ فَكَانَ قِسْمَةُ الضَّمَانِ بَيْنَهُمْ أَسْدَاسًا
وَلَوْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ ضَمِنَ نِصْفَ الْمَالِ لِأَنَّ النِّصْفَ
مَحْفُوظٌ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ
وَكَذَا لو رَجَعَتْ النِّسْوَةُ غَرِمْنَ نِصْفَ الْمَالِ لِأَنَّ النِّصْفَ
مَحْفُوظٌ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ
هَذَانِ الْفَصْلَانِ يُؤَيِّدَانِ قَوْلَهُمَا في الظَّاهِرِ
وَلَوْ رَجَعَ ثَمَانِ نِسْوَةٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِنَّ لِأَنَّ الْحَقَّ
بَقِيَ مَحْفُوظًا بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَلَوْ رَجَعَتْ امْرَأَةٌ بَعْدَ ذلك
فَعَلَيْهَا وَعَلَى الثَّمَانِ رُبُعُ الْمَالِ لِأَنَّهُ بَقِيَ بِثَبَاتِ
رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ فَكَانَ التَّالِفُ
بِشَهَادَتِهِنَّ الرُّبُعَ
وَلَوْ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَعَلَيْهِمَا نِصْفُ الْمَالِ أَثْلَاثًا
ثُلُثَاهُ على الرَّجُلِ وَالثُّلُثُ على الْمَرْأَةِ لِأَنَّ تِسْعَ نِسْوَةٍ
يَحْفَظْنَ الْمَالَ فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ النِّصْفَ
وَالرَّجُلُ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعَ الرَّجُلُ وَامْرَأَةٌ
فَعَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ الْمَالِ وَلَا شَيْءَ على الْمَرْأَةِ في قِيَاسِ
قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وفي قِيَاسِ قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه نِصْفُ الْمَالِ يَكُونُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا
ثُلُثَاهُ على الرَّجُلِ وَثُلُثُهُ على الْمَرْأَةِ وَلَوْ رَجَعُوا جميعا
فَالضَّمَانُ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ خُمُسَاهُ على الرَّجُلِ
وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ على النِّسْوَةِ لِأَنَّ الرَّجُلَ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ
وَعِنْدَهُمَا نِصْفُ الضَّمَانِ على الرَّجُلِ وَنِصْفُهُ على الْمَرْأَةِ لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّ لَهُنَّ شَطْرَ الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَثُرْنَ فَكَانَ التَّالِفُ
بِشَهَادَةِ كل نَوْعٍ نِصْفَ الْمَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ
ثَلَاثًا وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِالدُّخُولِ فَقَضَى
الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عليهم أَرْبَاعٌ على
شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ الرُّبُعُ لِأَنَّ شَاهِدَيْ الدُّخُولِ شَهِدَا بِكُلِّ
الْمَهْرِ لِأَنَّ كُلَّ الْمَهْرِ يَتَأَكَّدُ بِالدُّخُولِ وَلِلْمُؤَكَّدِ
حُكْمُ الْمُوجَبِ على ما مَرَّ وشاهدا ( ( ( وشاهدي ) ) ) الطَّلَاقِ شَهِدَا
بِالنِّصْفِ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَهْرِ يَتَأَكَّدُ بِالطَّلَاقِ على ما ذَكَرْنَا
وَالْمُؤَكِّدُ لِلْوَاجِبِ في مَعْنَى الْوَاجِبِ فَشَاهِدُ الدُّخُولِ انْفَرَدَ
بِنِصْفِ الْمَهْرِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ اشْتَرَكَ فيه الشُّهُودُ كلهم فَكَانَ
نِصْفُ النِّصْفِ وهو الرُّبُعُ على شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ وَثَلَاثَةُ
الْأَرْبَاعِ على شَاهِدَيْ الدُّخُولِ
فَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِهِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا وُجُوبُ الْحَدِّ
لَكِنْ في شَهَادَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ على الزِّنَا
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الرُّجُوعَ عن الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا إمَّا
أَنْ يَكُونَ من جَمِيعِ الشُّهُودِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ من بَعْضِهِمْ دُونَ
بَعْضٍ فَإِنْ رَجَعُوا جميعا يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ سَوَاءٌ رَجَعُوا بَعْدَ
الْقَضَاءِ أو قبل الْقَضَاءِ
أَمَّا قبل الْقَضَاءِ فَلِأَنَّ كَلَامَهُمْ قبل الْقَضَاءِ انْعَقَدَ قَذْفًا
لَا شَهَادَةً إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عليهم لِلْحَالِ لِاحْتِمَالِ
أَنْ يَصِيرَ شَهَادَةً بِقَرِينَةِ الْقَضَاءِ فإذا رَجَعُوا فَقَدْ زَالَ
الِاحْتِمَالُ فَبَقِيَ قَذْفًا فَيُوجَبُ الْحَدُّ بِالنَّصِّ
وَأَمَّا بَعْدَ الْقَضَاءِ فَلِأَنَّ كَلَامَهُمْ وَإِنْ صَارَ شَهَادَةً
بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَقَدْ انْقَلَبَ قَذْفًا بِالرُّجُوعِ فَصَارُوا
بِالرُّجُوعِ قَذَفَةً فَيُحَدُّونَ وَلَوْ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ
وَالْإِمْضَاءِ فَلَا خِلَافَ في أَنَّهُمْ يُحَدُّونَ إذَا كان الْحَدُّ جَلْدًا
وَإِنْ كان رَجْمًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا حَدَّ عليهم
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ
كَلَامَهُمْ وَقَعَ قَذْفًا من حِينِ وُجُودِهِ فَصَارَ كما لو قَذَفُوا صَرِيحًا
ثُمَّ مَاتَ الْمَقْذُوفُ وَحَدُّ الْقَذْفِ لَا يُوَرَّثُ بِلَا خِلَافٍ بين
أَصْحَابِنَا فَيَسْقُطُ
وَلَنَا أَنَّ بِالرُّجُوعِ لَا يَظْهَرُ أَنَّ كَلَامَهُمْ كان قَذْفًا من حِينِ
وُجُودِهِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ قَذْفًا وَقْتَ الرُّجُوعِ وَالْمَقْذُوفُ وَقْتَ
الرُّجُوعِ مَيِّتٌ فَصَارَ قَذْفًا بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَجِبُ الْحَدُّ
هذا حُكْمُ الْحَدِّ وَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ فَأَمَّا قبل الْإِمْضَاءِ لَا
ضَمَانَ أَصْلًا لِعَدَمِ الْإِتْلَافِ أَصْلًا وَأَمَّا بَعْدَ الْإِمْضَاءِ
فَإِنْ كان الْحَدُّ رَجْمًا ضَمِنُوا الدِّيَةَ بِلَا خِلَافٍ لِوُقُوعِ
شَهَادَتِهِمْ إتْلَافًا أو إقْرَارًا بِالْإِتْلَافِ وَإِنْ كان الْحَدُّ جَلْدًا
فَلَيْسَ عليهم أَرْشُ الْجَلَدَاتِ إذَا لم يَمُتْ منها وَلَا الدِّيَةُ إنْ
مَاتَ منها عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُونَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ شَهَادَتَهُمْ وَقَعَتْ إتْلَافًا بِطَرِيقِ
التَّسْبِيبِ لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَضَاءُ يُفْضِي إلَى
إقَامَةِ الْجَلَدَاتِ وإنها تُفْضِي إلَى التَّلَفِ فَكَانَ التَّلَفُ بِهَذِهِ
الْوَسَائِطِ مُضَافًا إلَى الشَّهَادَةِ فَكَانَتْ إتْلَافًا تَسْبِيبًا
وَلِهَذَا لو شَهِدُوا بِالْقِصَاصِ أو بِالْمَالِ ثُمَّ رَجَعُوا وَجَبَتْ عليهم
الدِّيَةُ وَالضَّمَانُ كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عليه
____________________
(6/288)
الرَّحْمَةُ
أَنَّ الْأَثَرَ حَصَلَ مُضَافًا إلَى الضَّرْبِ دُونَ الشَّهَادَتَيْنِ
لِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّ الشُّهُودَ لم يَشْهَدُوا على ضَرْبٍ جَارِحٍ
لِأَنَّ الضَّرْبَ الْجَارِحَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ في الْجَلْدِ فَلَا يَكُونُ
الْجُرْحُ مُضَافًا إلَى شَهَادَتِهِمْ
وَالثَّانِي أَنَّ الضَّرْبَ مُبَاشَرَةُ الْإِتْلَافِ وَالشَّهَادَةَ تَسْبِيبٌ
إلَيْهِ وَإِضَافَةُ الْأَثَرِ إلَى الْمُبَاشَرَةِ أَوْلَى من إضَافَتِهِ إلَى
التَّسْبِيبِ إلَّا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ على بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ هذا ليس
خَطَأً من الْقَاضِي لِيَكُونَ عَطَاؤُهُ في بَيْتِ الْمَالِ لِنَوْعِ تَقْصِيرٍ
منه وَلَا تَقْصِيرَ من جِهَتِهِ هَهُنَا فَلَا شَيْءَ على بَيْتِ الْمَالِ
هذا إذَا رَجَعُوا جميعا فَأَمَّا إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ منهم فَإِنْ كان قبل
الْقَضَاءِ يُحَدُّونَ جميعا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ
يُحَدُّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كَلَامَهُمْ وَقَعَ شَهَادَةً قَذْفًا لِكَمَالِ نِصَابِ
الشَّهَادَةِ وهو عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ وَإِنَّمَا يَنْقَلِبُ قَذْفًا
بِالرُّجُوعِ ولم يُوجَدْ إلَّا من أَحَدِهِمْ فَيَنْقَلِبُ كَلَامُهُ قَذْفًا
خَاصَّةً بِخِلَافِ ما إذَا شَهِدَ ثَلَاثَةٌ بِالزِّنَا أَنَّهُمْ يُحَدُّونَ
لِأَنَّ هُنَاكَ نِصَابَ الشَّهَادَةِ لم يَكْمُلْ فَوَقَعَ كَلَامُهُمْ من
الإبتداء قَذْفًا
وَلَنَا أَنَّ كَلَامَهُمْ لَا يَصِيرُ شَهَادَةً إلَّا بِقَرِينَةِ الْقَضَاءِ
أَلَا تَرَى أنها لَا تَصِيرُ حُجَّةً إلَّا بِهِ فَقَبْلَهُ يَكُونُ قَذْفًا لَا
شَهَادَةً فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عليهم بِالنَّصِّ لِوُجُودِ
الرَّمْيِ منهم إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَامُ الاحتمال ( ( ( لاحتمال ) ) ) أَنْ
يَصِيرَ شَهَادَةً بِقَرِينَةِ الْقَضَاءِ وَلِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى سَدِّ بَابِ
الشَّهَادَةِ فإذا رَجَعَ أَحَدُهُمْ زَالَ هذا الْمَعْنَى فَبَقِيَ كَلَامُهُمْ
قَذْفًا فَيُحَدُّونَ وَصَارَ كما لو كان الشُّهُودُ من الِابْتِدَاءِ ثَلَاثَةً
فَإِنَّهُمْ يَحُدُّونَ لِوُقُوعِ كَلَامِهِمْ قَذْفًا
كَذَا هذا
وَإِنْ كان بَعْدَ الْقَضَاءِ قبل الْإِمْضَاءِ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ جميعا
عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الرَّاجِعُ خَاصَّةً
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كَلَامَهُمْ وَقَعَ شَهَادَةً لِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ
فَلَا يَنْقَلِبُ قَذْفًا إلَّا بِالرُّجُوعِ ولم يَرْجِعْ إلَّا وَاحِدٌ منهم
فَيَنْقَلِبُ كَلَامُهُ خَاصَّةً قَذْفًا فلم يَصِحَّ رُجُوعُهُ في حَقِّ
الْبَاقِينَ فَبَقِيَ كَلَامُهُمْ شَهَادَةً فَلَا يُحَدُّونَ وَلَهُمَا أَنَّ
الْإِمْضَاءَ في بَابِ الْحُدُودِ من الْقَضَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّ عَمَى الشُّهُودِ
أو رِدَّتَهُمْ قبل الْقَضَاءِ كما يَمْنَعُ من الْقَضَاءِ فَبَعْدَهُ يَمْنَعُ من
الْإِمْضَاءِ فَكَانَ رُجُوعُهُ قبل الْإِمْضَاءِ بِمَنْزِلَةِ رُجُوعِهِ قبل
الْقَضَاءِ وَلَوْ رَجَعَ قبل الْقَضَاءِ يُحَدُّونَ جميعا بِلَا خِلَافٍ بين
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
كَذَا إذَا رَجَعَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قبل الْإِمْضَاءِ وَإِنْ كان بَعْدَ الْإِمْضَاءِ
فَإِنْ كان الْحَدُّ جَلْدًا يُحَدُّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ
رُجُوعَهُ صَحِيحٌ في حَقِّهِ خَاصَّةً لَا في حَقِّ الْبَاقِينَ فَانْقَلَبَتْ
شَهَادَتُهُ خَاصَّةً قَذْفًا فَيُحَدُّ خَاصَّةً وَإِنْ كان الْحَدُّ رَجْمًا
وَمَاتَ الْمَقْذُوفُ يُحَدُّ الرَّاجِعُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِزُفَرَ
وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ
هذا حُكْمُ الْحَدِّ فَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ فَلَا ضَمَانَ إذَا كان رُجُوعُهُ
قبل الْقَضَاءِ أو بَعْدَهُ قبل الْإِمْضَاءِ لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا بَعْدَ الْإِمْضَاءِ فَإِنْ كان الْحَدُّ جَلْدًا فَلَا شَيْءَ على
الرَّاجِعِ من أَرْشِ السِّيَاطِ وَلَا من الدِّيَةِ إنْ مَاتَ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ وَإِنْ كان رَجْمًا غَرِمَ
الرَّاجِعُ رُبُعَ الدِّيَةِ
لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ يَحْفَظُونَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ فَكَانَ
التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِ الرُّبُعَ
هذا إذَا كان شُهُودُ الزِّنَا أَرْبَعَةً فَأَمَّا إذَا كَانُوا خَمْسَةً
فَرَجَعَ وَاحِدٌ منهم فإن الْقَاضِيَ يُقِيمُ الْحَدَّ على الْمَشْهُودِ عليه
بِمَا بَقِيَ من الشُّهُودِ لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ نِصَابٌ تَامٌّ يَحْفَظُونَ
الْحَدَّ على الْمَشْهُودِ عليه
وَإِنْ أَمْضَى الْحَدَّ ثُمَّ رَجَعَ إثنان ضَمِنَا رُبُعَ الدِّيَةِ إنْ مَاتَ
الْمَرْجُومُ
لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ قَامُوا بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْحَقِّ فَكَانَ التَّالِفُ
بِشَهَادَتِهِمَا الرُّبُعَ فَيَضْمَنَانِهِ
وَإِنْ لم يَمُتْ فَلَيْسَ عَلَيْهِمَا أَرْشٌ لِلضَّرْبِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ
وقد تَقَدَّمَتْ الْمَسْأَلَةُ
وَالثَّانِي وُجُوبُ التَّعْزِيرِ في عُمُومِ الشَّهَادَاتِ سِوَى الشَّهَادَةِ
على الزِّنَا بِأَنْ تَعَمَّدَ شَهَادَةَ الزُّورِ وَظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي
بِإِقْرَارِهِ
لِأَنَّ قَوْلَ الزُّورِ جِنَايَةٌ ليس فيها سِوَى الْقَذْفِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ
فَتُوجِبُ التَّعْزِيرَ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ التَّعْزِيرِ
قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ تَعْزِيرُهُ تَشْهِيرٌ فَيُنَادَى عليه في
سُوقِهِ أو مَسْجِدِ حَيِّهِ وَيُحَذَّرُ الناس منه
فَيُقَالُ هذا شَاهِدُ الزُّورِ فَاحْذَرُوهُ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُضَمُّ إلَيْهِ ضَرْبُ
أَسْوَاطٍ
هذا إذَا تَابَ
فَأَمَّا إذَا لم يَتُبْ وَأَصَرَّ على ذلك بِأَنْ قال إنِّي شَهِدْتُ بِالزُّورِ
وأنا على ذلك قَائِمٌ فإنه يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ بِالْإِجْمَاعِ
احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي اللَّهُ عنه
أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ وَسَخَّمَ وَجْهَهُ وَلِأَنَّ قَوْلَ الزُّورِ من
أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَلَيْسَ إلَيْهِ فِيمَا سِوَى الْقَذْفِ بِالزِّنَا حَدٌّ
مُقَدَّرٌ فَيَحْتَاجُ إلَى أَبْلَغِ الزَّوَاجِرِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ما رُوِيَ أَنَّ شُرَيْحًا كان يَشْهَرُ
شَاهِدَ الزُّورِ وَلَا يُعَزِّرُهُ وكان لَا تَخْفَى قَضَايَاهُ على أَصْحَابِ
رسول اللَّهِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عليهم
ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه مُنْكِرٌ
وَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ
____________________
(6/289)
شَهِدَ
بِزُورٍ نَادِمًا على ما فَعَلَ لَا مُصِرًّا عليه
وَالنَّدَمُ تَوْبَةٌ على لِسَانِ رسول اللَّهِ وَالتَّائِبُ لَا يَسْتَوْجِبُ
الضَّرْبَ حتى لو كان مُصِرًّا على ذلك يُضْرَبُ
وَفِعْلُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه مَحْمُولٌ عليه تَوْفِيقًا بين
الدَّلَائِلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
____________________
(6/290)
كِتَابُ
آدَابِ الْقَاضِي الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ
فَرْضِيَّةِ نَصْبِ الْقَاضِي وفي بَيَانِ من يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ وفي بَيَانِ ما
يُفْتَرَضُ عليه قَبُولُ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ
الْقَضَاءِ وفي بَيَانِ آدَابِ الْقَضَاءِ وفي بَيَانِ ما يَنْفُذُ من الْقَضَايَا
وما يُنْقَضُ منها إذَا رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ وفي بَيَانِ ما يُحِلُّهُ
الْقَاضِي وما لَا يُحِلُّهُ وفي بَيَانِ حُكْمِ خَطَأِ الْقَاضِي في الْقَضَاءِ
وفي بَيَانِ ما يَخْرُجُ بِهِ الْقَاضِي عن الْقَضَاءِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَصْبُ الْقَاضِي فَرْضٌ لِأَنَّهُ يُنْصَبُ لِإِقَامَةِ
أَمْرٍ مَفْرُوضٍ وهو الْقَضَاءُ قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { يا دَاوُد
إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بين الناس بِالْحَقِّ } وقال
تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِنَبِيِّنَا الْمُكَرِّمِ عليه أَفْضَلُ الصَّلَاةِ
وَالسَّلَامِ { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ }
وَالْقَضَاءُ هو الْحُكْمُ بين الناس بِالْحَقِّ وَالْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ عز وجل فَكَانَ نَصْبُ الْقَاضِي لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ فَكَانَ فَرْضًا
ضَرُورَةً وَلِأَنَّ نَصْبَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ فَرْضٌ بِلَا خِلَافٍ بين
أَهْلِ الْحَقِّ وَلَا عِبْرَةَ بِخِلَافِ بَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ لِإِجْمَاعِ
الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ذلك وَلِمِسَاسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ
لِتَقَيُّدِ الْأَحْكَامِ وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ من الظَّالِمِ وَقَطْعِ
الْمُنَازَعَاتِ التي هِيَ مَادَّةُ الْفَسَادِ وَغَيْرِ ذلك من الْمَصَالِحِ التي
لَا تَقُومُ إلَّا بِإِمَامٍ لِمَا عُلِمَ في أُصُولِ الْكَلَامِ
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِمَا نُصِبَ له بِنَفْسِهِ
فَيَحْتَاجُ إلَى نَائِبٍ يَقُومُ مَقَامَهُ في ذلك وهو الْقَاضِي وَلِهَذَا كان
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَبْعَثُ إلَى الْآفَاقِ قُضَاةً فَبَعَثَ
سَيِّدَنَا مُعَاذًا رضي اللَّهُ عنه إلَى الْيَمَنِ وَبَعَثَ عَتَّابَ بن
أُسَيْدٍ إلَى مَكَّةَ فَكَانَ نَصْبُ الْقَاضِي من ضَرُورَاتِ نَصْبِ الْإِمَامِ
فَكَانَ فَرْضًا وقد سَمَّاهُ مُحَمَّدٌ فَرِيضَةً مُحْكَمَةً لِأَنَّهُ لَا
يَحْتَمِلُ النَّسْخَ لِكَوْنِهِ من الْأَحْكَامِ التي عُرِفَ وُجُوبُهَا
بِالْعَقْلِ وَالْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِسَاخَ وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ
____________________
(7/2)
فَصْلٌ
وَأَمَّا بَيَانُ من يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ فَنَقُولُ الصَّلَاحِيَّةُ لِلْقَضَاءِ
لها شَرَائِطُ
منها الْعَقْلُ وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ
وَمِنْهَا الْبَصَرُ
وَمِنْهَا النُّطْقُ
وَمِنْهَا السَّلَامَةُ عن حَدِّ الْقَذْفِ لِمَا قُلْنَا في الشَّهَادَةِ فَلَا
يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ وَالْعَبْدِ
وَالْأَعْمَى وَالْأَخْرَسِ وَالْمَحْدُودِ في الْقَذْفِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ من
بَابِ الْوِلَايَةِ بَلْ هو أَعْظَمُ الْوِلَايَاتِ وَهَؤُلَاءِ لَيْسَتْ لهم
أَهْلِيَّةُ أَدْنَى الْوِلَايَاتِ وَهِيَ الشَّهَادَةُ فَلَأَنْ لَا يَكُونَ لهم
أَهْلِيَّةٌ أَعْلَاهَا أَوْلَى
وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ من شَرْطِ جَوَازِ التَّقْلِيدِ في الْجُمْلَةِ
لِأَنَّ الْمَرْأَةَ من أَهْلِ الشَّهَادَاتِ في الْجُمْلَةِ إلَّا أنها لَا
تَقْضِي بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لأنها لَا شَهَادَةَ لها في ذلك وَأَهْلِيَّةُ
الْقَضَاءِ تَدُورُ مع أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ
وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ فَهَلْ هو
شَرْطُ جَوَازِ التَّقْلِيدِ عِنْدَنَا ليس بِشَرْطِ الْجَوَازِ بَلْ شَرْطُ
النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ
وَعِنْدَ أَصْحَابِ الحديث كَوْنُهُ عَالِمًا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَسَائِرِ
الْأَحْكَامِ مع بُلُوغِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ في ذلك شَرْطُ جَوَازِ
التَّقْلِيدِ
كما قالوا في الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ
وَعِنْدَنَا هذا ليس بِشَرْطِ الْجَوَازِ في الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ لِأَنَّهُ
يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِ غَيْرِهِ بِالرُّجُوعِ إلَى فَتْوَى غَيْرِهِ
من الْعُلَمَاءِ
فَكَذَا في الْقَاضِي
لَكِنْ مع هذا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ الْجَاهِلُ بِالْأَحْكَامِ لِأَنَّ
الْجَاهِلَ بِنَفْسِهِ ما يُفْسِدُ أَكْثَرُ مِمَّا يُصْلِحُ بَلْ يَقْضِي
بِالْبَاطِلِ من حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ
وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال الْقُضَاةُ
ثَلَاثَةٌ قَاضٍ في الْجَنَّةِ وَقَاضِيَانِ في النَّارِ
رَجُلٌ عَلِمَ عِلْمًا فَقَضَى بِمَا عَلِمَ فَهُوَ في الْجَنَّةِ
وَرَجُلٌ عَلِمَ علما فَقَضَى بِغَيْرِ ما عَلِمَ فَهُوَ في النَّارِ
وَرَجُلٌ جَهِلَ فَقَضَى بِالْجَهْلِ فَهُوَ في النَّارِ إلَّا أَنَّهُ لو قُلِّدَ
جَازَ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ يَقْدِرُ على الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ بِعِلْمِ غَيْرِهِ
بِالِاسْتِفْتَاءِ من الْفُقَهَاءِ فَكَانَ تَقْلِيدُهُ جَائِزًا في نَفْسِهِ
فَاسِدًا لِمَعْنًى في غَيْرِهِ
وَالْفَاسِدُ لِمَعْنًى في غَيْرِهِ يَصْلُحُ لِلْحُكْمِ عِنْدَنَا مِثْلُ
الْجَائِزِ
حتى يَنْفُذَ قَضَايَاهُ التي لم يُجَاوِزْ فيها حَدَّ الشَّرْعِ
وهو كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ إنه مِثْلُ الْجَائِزِ عِنْدَنَا في حَقِّ الْحُكْمِ
كَذَا هذا
وَكَذَا الْعَدَالَةُ عِنْدَنَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ التَّقْلِيدِ
لَكِنَّهَا شَرْطُ الْكَمَالِ فَيَجُوزُ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ وَتَنْفُذُ
قَضَايَاهُ إذَا لم يُجَاوِزْ فيها حَدَّ الشَّرْعِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ شَرْطُ الْجَوَازِ فَلَا يَصْلُحُ الْفَاسِقُ قَاضِيًا عِنْدَهُ
بِنَاءً على أَنَّ الْفَاسِقَ ليس من أَهْلِ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ فَلَا يَكُونُ
من أَهْلِ الْقَضَاءِ وَعِنْدَنَا هو من أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَيَكُونُ من أَهْلِ
الْقَضَاءِ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ الْفَاسِقُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ
أَمَانَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ أَمَانَةُ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَالنُّفُوسِ
فَلَا يَقُومُ بِوَفَائِهَا إلَّا من كَمُلَ وَرَعُهُ وَتَمَّ تَقْوَاهُ إلَّا
أَنَّهُ مع هذا لو قُلِّدَ جَازَ التَّقْلِيدُ في نَفْسِهِ وَصَارَ قَاضِيًا
لِأَنَّ الْفَسَادَ لِمَعْنًى في غَيْرِهِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازُ تَقْلِيدِهِ
الْقَضَاءَ في نَفْسِهِ لِمَا مَرَّ
وَأَمَّا تَرْكُ الطَّلَبِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ التَّقْلِيدِ
بِالْإِجْمَاعِ فَيَجُوزُ تَقْلِيدُ الطَّالِبِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ
على الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ لِأَنَّ
الطَّالِبَ يَكُونُ مُتَّهَمًا
وَرُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال إنَّا لَا نُوَلِّي
أَمْرَنَا هذا من كان له طَالِبًا وَعَنْهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ
قال من سَأَلَ الْقَضَاءَ وُكِّلَ إلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أُجْبَرَ عليه نَزَلَ عليه
مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الطَّالِبَ لَا يُوَفَّقُ
لِإِصَابَةِ الْحَقِّ وَالْمُجْبَرُ عليه يُوَفَّقُ
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي
عَالِمًا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ
قد بَلَغَ في عِلْمِهِ ذلك حَدَّ الِاجْتِهَادِ عَالِمًا بِمُعَاشَرَةِ الناس
وَمُعَامَلَتِهِمْ
عَدْلًا وَرِعًا عَفِيفًا عن التُّهْمَةِ صَائِنَ النَّفْسِ عن الطَّمَعِ
لِأَنَّ الْقَضَاءَ هو الْحُكْمُ بين الناس بِالْحَقِّ
فإذا كان الْمُقَلَّدُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَقْضِي
إلَّا بِالْحَقِّ
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ شَرْطُ جَوَازِ التَّقْلِيدِ فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ
التَّحْكِيمِ لِأَنَّ التَّحْكِيمَ مَشْرُوعٌ
قال اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ { فَابْعَثُوا حَكَمًا من أَهْلِهِ وَحَكَمًا من
أَهْلِهَا } فَكَانَ الْحُكْمُ من الْحَكَمَيْنِ بِمَنْزِلَةِ حُكْمِ الْقَاضِي
الْمُقَلَّدِ
إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ في أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ منها أَنَّ الْحُكْمَ في
الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِحُّ
وَمِنْهَا أَنَّهُ ليس بِلَازِمٍ ما لم يَتَّصِلْ بِهِ الْحُكْمُ حتى لو رَجَعَ
أَحَدُ الْمُتَحَاكِمَيْنِ قبل الْحُكْمِ يَصِحُّ رُجُوعُهُ
وإذا حَكَمَ صَارَ لَازِمًا
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا حَكَمَ في فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فيه ثُمَّ رُفِعَ حُكْمُهُ
إلَى الْقَاضِي وَرَأْيُهُ يُخَالِفُ رَأْيَ الْحَاكِمِ الْمُحَكَّمِ له أَنْ
يَفْسَخَ حُكْمَهُ وَالْفَرْقُ بين هذه الْجُمْلَةِ يُعْرَفُ في مَوْضِعِهِ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يُفْتَرَضُ عليه قَبُولُ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ
فَنَقُولُ إذَا عُرِضَ الْقَضَاءُ على من يَصْلُحُ له من أَهْلِ الْبَلَدِ
يُنْظَرُ إنْ كان في الْبَلَدِ عَدَدٌ يَصْلُحُونَ يصلحون لَا يُفْتَرَضُ عليه
الْقَبُولُ بَلْ هو في سَعَةٍ من الْقَبُولِ وَالتَّرْكِ
أَمَّا جَوَازُ الْقَبُولِ فَلِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عليهم أَجْمَعِينَ قَضَوْا بين الْأُمَمِ بِأَنْفُسِهِمْ وَقَلَّدُوا
غَيْرَهُمْ وَأَمَرُوا بِذَلِكَ فَقَدْ بَعَثَ
____________________
(7/3)
رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مُعَاذًا رضي اللَّهُ عنه إلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا
وَبَعَثَ عَتَّابَ بن أُسَيْدٍ رضي اللَّهُ عنه إلَى مَكَّةَ قَاضِيًا وَقَلَّدَ
النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَثِيرًا من أَصْحَابِهِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
الْأَعْمَالَ وَبَعَثَهُمْ إلَيْهَا
وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ قَضَوْا بِأَنْفُسِهِمْ وَقَلَّدُوا
غَيْرَهُمْ فَقَلَّدَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه شُرَيْحًا الْقَضَاءَ
وَقَرَّرَهُ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ وَسَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنهما
وَأَمَّا جَوَازُ التَّرْكِ فَلِمَا رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
أَنَّهُ قال لِأَبِي ذَرٍّ رضي اللَّهُ عنه إيَّاكَ وَالْإِمَارَةَ وَرُوِيَ عنه
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا تَتَأَمَّرْنَ على اثْنَيْنِ
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه عُرِضَ عليه الْقَضَاءُ فَأَبَى
حتى ضُرِبَ على ذلك ولم يَقْبَلْ
وَكَذَا لم يَقْبَلْهُ كَثِيرٌ من صَالِحِي الْأُمَّةِ وَهَذَا مَعْنَى ما ذَكَرَ
في الْكِتَابِ دخل فيه قَوْمٌ صَالِحُونَ وَتَرَكَ الدُّخُولَ فيه قَوْمٌ
صَالِحُونَ
ثُمَّ إذَا جَازَ التَّرْكُ وَالْقَبُولُ في هذا الْوَجْهِ اخْتَلَفُوا في أَنَّ
الْقَبُولَ أَفْضَلُ أَمْ التَّرْكَ قال بَعْضُهُمْ التَّرْكُ أَفْضَلُ وقال
بَعْضُهُمْ الْقَبُولُ أَفْضَلُ احْتَجَّ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِمَا رُوِيَ عن
النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال من جُعِلَ على الْقَضَاءِ فَقَدْ ذُبِحَ
بِغَيْرِ سِكِّينٍ وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى الزَّجْرِ عن تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ
احْتَجَّ الْفَرِيقُ الْآخَرُ بِصُنْعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عليهم أَجْمَعِينَ وَصُنْعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ لِأَنَّ لنا
فِيهِمْ قُدْوَةً وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَقِّ إذَا أَرَادَ بِهِ وَجْهَ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَكُونُ عِبَادَةً خَالِصَةً بَلْ هو من أَفْضَلِ
الْعِبَادَاتِ قال النبي الْمُكَرَّمُ عليه الصلاة ( ( ( أفضل ) ) ) والسلام ( ( (
التحية ) ) ) عَدْلُ سَاعَةٍ خَيْرٌ من عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً وَالْحَدِيثُ
مَحْمُولٌ على الْقَاضِي الْجَاهِلِ أو الْعَالِمِ الْفَاسِقِ أو الطَّالِبِ الذي
لَا يَأْمَنُ على نَفْسِهِ الرِّشْوَةَ فَيَخَافُ أَنْ يَمِيلَ إلَيْهَا
تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ
هذا إذَا كان في الْبَلَدِ عَدَدٌ يَصْلُحُونَ لِلْقَضَاءِ فَأَمَّا إذَا كان لم
يَصْلُحْ له إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ فإنه يُفْتَرَضُ عليه الْقَبُولُ إذَا عُرِضَ
عليه لِأَنَّهُ إذَا لم يَصْلُحْ له غَيْرُهُ تَعَيَّنَ هو لِإِقَامَةِ هذه
الْعِبَادَةِ فَصَارَ فَرْضَ عَيْنٍ عليه إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ من التَّقْلِيدِ
فإذا قُلِّدَ اُفْتُرِضَ عليه الْقَبُولُ على وَجْهٍ لو امْتَنَعَ من الْقَبُولِ
يَأْثَمُ كما في سَائِرِ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الْقَضَاءِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاضِي
وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَضَاءِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
الْمَقْضِيِّ له وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْضِيِّ عليه
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْقَاضِي فما ذَكَرْنَا من شَرَائِطِ جَوَازِ
تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ من لَا يَصْلُحُ قَاضِيًا لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ
ضَرُورَةً
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَضَاءِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ
بِحَقٍّ وهو الثَّابِتُ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل من حُكْمِ الْحَادِثَةِ إمَّا
قَطْعًا بِأَنْ قام عليه دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ وهو النَّصُّ الْمُفَسَّرُ من
الْكِتَابِ الْكَرِيمِ أو الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ وَالْمُتَوَاتِرُ وَالْإِجْمَاعُ
وَإِمَّا ظَاهِرًا بِأَنْ قام عليه دَلِيلٌ ظَاهِرٌ يُوجِبُ عِلْمَ غَالِبِ
الرَّأْيِ وَأَكْثَرَ الظَّنِّ من ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ
وَالْمُتَوَاتِرِ وَالْمَشْهُورِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ
وَذَلِكَ في الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ التي اخْتَلَفَ فيها الْفُقَهَاءُ
رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَاَلَّتِي لَا رِوَايَةَ في جَوَابِهَا عن السَّلَفِ بِأَنْ
لم تَكُنْ وَاقِعَةً حتى لو قَضَى بِمَا قام الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ على
خِلَافِهِ لم يَجُزْ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ بِالْبَاطِلِ قَطْعًا
وَكَذَا لو قَضَى في مَوْضِعِ الْخِلَافِ بِمَا كان خَارِجًا عن أَقَاوِيلِ
الْفُقَهَاءِ كُلِّهِمْ لم يَجُزْ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُو أَقَاوِيلَهُمْ
فَالْقَضَاءُ بِمَا هو خَارِجٌ عنها كُلِّهَا يَكُونُ قَضَاءً بَاطِلًا قَطْعًا
وَكَذَا لو قَضَى بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا فيه نَصٌّ ظَاهِرٌ يُخَالِفُهُ من
الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ لم يَجُزْ قَضَاؤُهُ لِأَنَّ الْقِيَاسَ في
مُقَابَلَةِ النَّصِّ بَاطِلٌ سَوَاءٌ كان النَّصُّ قَطْعِيًّا أو ظَاهِرًا
وَأَمَّا فِيمَا لَا نَصَّ فيه يُخَالِفُهُ وَلَا إجْمَاعَ النُّقُولِ لَا يَخْلُو
إمَّا إن كان الْقَاضِي من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَإِمَّا إن لم يَكُنْ من أَهْلِ
الِاجْتِهَادِ فَإِنْ كان من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَأَفْضَى رَأْيُهُ إلَى شَيْءٍ
يَجِبُ عليه الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَ غَيْرِهِ مِمَّنْ هو من أَهْلِ
الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ وَلَا يَجُوزُ له أَنْ يَتْبَعَ رَأْيَ غَيْرِهِ
لِأَنَّ ما أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ هو الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل
ظَاهِرًا فَكَانَ غَيْرُهُ بَاطِلًا ظَاهِرًا لِأَنَّ الْحَقَّ في
الْمُجْتَهِدَاتِ وَاحِدٌ وَالْمُجْتَهِدُ يخطىء ( ( ( يخطئ ) ) ) وَيُصِيبُ
عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ في الْعَقْلِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ
جميعا
وَلَوْ أَفْضَى رَأْيُهُ إلَى شَيْءٍ وَهُنَاكَ مُجْتَهِدٌ آخَرُ أَفْقَهُ منه له
رَأْيٌ آخَرُ فَأَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ من غَيْرِ النَّظَرِ فيه
وَتَرَجَّحَ رَأْيُهُ بِكَوْنِهِ أَفْقَهَ منه هل يَسَعُهُ ذلك ذَكَرَ في كِتَابِ
الْحُدُودِ أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يَسَعُهُ ذلك وَعِنْدَهُمَا لَا يَسَعُهُ
إلَّا أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِ نَفْسِهِ
وَذَكَرَ في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ هذا الِاخْتِلَافَ على الْعَكْسِ فقال على
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لَا يَسَعُهُ وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَسَعُهُ وَهَذَا يَرْجِعُ
إلَى أَنَّ كَوْنَ أَحَدِ الْمُجْتَهِدَيْنِ أَفْقَهَ من غَيْرِ النَّظَرِ في
رَأْيِهِ هل يَصْلُحُ مُرَجِّحًا من قال يَصْلُحُ مُرَجِّحًا قال يَسَعُهُ وَمَنْ
قال
____________________
(7/4)
لَا
يَصْلُحُ قال لا يَسَعُهُ
وَجْهُ قَوْلِ من لَا يَرَى التَّرْجِيحَ بِكَوْنِهِ أَفْقَهَ أَنَّ التَّرْجِيحَ
يَكُونُ بِالدَّلِيلِ وَكَوْنُهُ أَفْقَهَ ليس من جِنْسِ الدَّلِيلِ فَلَا يَقَعُ
بِهِ التَّرْجِيحُ وَهَذَا لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ
وَجْهُ قَوْلِ من يَرَى بِهِ التَّرْجِيحَ أَنَّ هذا من جِنْسِ الدَّلِيلِ لِأَنَّ
كَوْنَهُ أَفْقَهَ يَدُلُّ على اجْتِهَادَهُ أقرب ( ( ( إقرار ) ) ) إلَى الصَّوَابِ
فَكَانَ من جِنْسِ الدَّلِيلِ فَيَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ إنْ لم يَصْلُحْ دَلِيلَ
الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ أبدا ( ( ( وأبدا ) ) ) يَكُونُ التَّرْجِيحُ بِمَا لَا
يَصْلُحُ دَلِيلَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ وَلِهَذَا قِيلَ في حَدِّهِ زِيَادَةٌ لَا
يَسْقُطُ بها التَّعَارُضُ حَقِيقَةً لِمَا عُلِمَ في أُصُولِ الْفِقْهِ
وَلِهَذَا أَوْجَبَ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ
الْكِرَامِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَرَجَّحَهُ على الْقِيَاسِ لِمَا أَنَّ
قَوْلَهُ أَقْرَبُ إلَى إصَابَةِ الْحَقِّ من قَوْلِ الْقَائِسِ كَذَا هذا وَإِنْ
أُشْكِلَ عليه حُكْمُ الْحَادِثَةِ اسْتَعْمَلَ رَأْيَهُ في ذلك وَعَمِلَ بِهِ
وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُشَاوِرَ أَهْلَ الْفِقْهِ في ذلك فَإِنْ اخْتَلَفُوا في
حُكْمِ الْحَادِثَةِ نَظَرَ في ذلك فَأَخَذَ بِمَا يُؤَدِّي إلَى الْحَقِّ
ظَاهِرًا وَإِنْ اتَّفَقُوا على رَأْيٍ يُخَالِفُ رَأْيَهُ عَمِلَ بِرَأْيِ
نَفْسِهِ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِالْعَمَلِ بِمَا يُؤَدِّي
إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَحَرُمَ عليه تَقْلِيدُ غَيْرِهِ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ
يُعَجِّلَ بِالْقَضَاءِ ما لم يَقْضِ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَالِاجْتِهَادِ
وَيَنْكَشِفْ له وَجْهُ الْحَقِّ فإذا ظَهَرَ له الْحَقُّ بِاجْتِهَادِهِ قَضَى
بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَلَا يَكُونَنَّ خَائِفًا في اجْتِهَادِهِ
بعدما بَذَلَ مَجْهُودَهُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ فَلَا يَقُولَنَّ إنِّي أَرَى
وَإِنِّي أَخَافُ لِأَنَّ الْخَوْفَ وَالشَّكَّ وَالظَّنَّ يَمْنَعُ من إصَابَةِ
الْحَقِّ وَيَمْنَعُ من الِاجْتِهَادِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَرِيئًا جُسُورًا
على الِاجْتِهَادِ بَعْدَ أَنْ لم يُقَصِّرْ في طَلَبِ الْحَقِّ حتى لو قَضَى مُجَازِفًا
لم يَصِحَّ قَضَاؤُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَإِنْ كان من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كان لَا يَدْرِي حاله
يُحْمَلُ على أَنَّهُ قَضَى بِرَأْيِهِ وَيُحْكَمُ بِالصِّحَّةِ حَمْلًا لِأَمْرِ
الْمُسْلِمِ على الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ ما أَمْكَنَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْقَاضِي من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ من
أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَإِنْ عَرَفَ أَقَاوِيلَ أَصْحَابِنَا وَحَفِظَهَا على
الِاخْتِلَافِ وَالِاتِّفَاقِ عَمِلَ بِقَوْلِ من يَعْتَقِدُ قَوْلَهُ حَقًّا على
التَّقْلِيدِ وَإِنْ لم يَحْفَظْ أَقَاوِيلَهُمْ عَمِلَ بِفَتْوَى أَهْلِ
الْفِقْهِ في بَلَدِهِ من أَصْحَابِنَا وَإِنْ لم يَكُنْ في الْبَلَدِ إلَّا
فَقِيهٌ وَاحِدٌ من قال يَسَعُهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ وَنَرْجُو أَنْ لَا
يَكُونَ عليه شَيْءٌ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ بِنَفْسِهِ
وَلَيْسَ هُنَاكَ سِوَاهُ من أَهْلِ الْفِقْهِ مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى
الْأَخْذِ بِقَوْلِهِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ
لَا تَعْلَمُونَ }
وَلَوْ قَضَى بِمَذْهَبِ خَصْمِهِ وهو يَعْلَمُ ذلك لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ
لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا هو بَاطِلٌ عِنْدَهُ في اعْتِقَادِهِ فَلَا يَنْفُذُ كما لو
كان مُجْتَهِدًا فَتَرَكَ رَأْيَ نَفْسِهِ وَقَضَى بِرَأْيِ مُجْتَهِدٍ يَرَى رَأْيَهُ
بَاطِلًا فإنه لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا هو بَاطِلٌ في
اجْتِهَادِهِ
كَذَا هذا
وَلَوْ نَسِيَ الْقَاضِي مَذْهَبَهُ فَقَضَى بِشَيْءٍ على ظَنِّ أَنَّهُ مَذْهَبُ
نَفْسِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَذْهَبُ خَصْمِهِ ذَكَرَ في شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ
أَنَّ له أَنْ يُبْطِلَهُ ولم يذكر الْخِلَافَ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ
مُجْتَهِدًا تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَضَى بِمَا لَا يَعْتَقِدُهُ حَقًّا فَتَبَيَّنَ
أَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا كما لو قَضَى وهو يَعْلَمُ أَنَّ ذلك مَذْهَبُ خَصْمِهِ
وَذَكَرَ في أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَصِحُّ قَضَاؤُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِحُّ لَهُمَا أَنَّ الْقَاضِيَ مُقَصِّرٌ لِأَنَّهُ
يُمْكِنُهُ حِفْظُ مَذْهَبِ نَفْسِهِ وإذا لم يَحْفَظْ فَقَدْ قَصَّرَ
وَالْمُقَصِّرُ غَيْرُ مَعْذُورٍ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النِّسْيَانَ غَالِبٌ خُصُوصًا عِنْدَ تَزَاحُمِ
الْحَوَادِثِ فَكَانَ مَعْذُورًا
هذا إذَا لم يَكُنْ الْقَاضِي من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَأَمَّا إذَا كان من
أَهْلِ الِاجْتِهَادِ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ قَضَاؤُهُ في الْحُكْمِ
بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يَكُونُ لِقَاضٍ آخَرَ أَنْ يُبْطِلَهُ لِأَنَّهُ لَا
يُصَدَّقُ على النِّسْيَانِ بَلْ يُحْمَلُ على أَنَّهُ اجْتَهَدَ فَأَدَّى
اجْتِهَادُهُ إلَى مَذْهَبِ خَصْمِهِ فَقَضَى بِهِ فَيَكُونُ قَضَاؤُهُ
بِاجْتِهَادِهِ فَيَصِحُّ
وَإِنْ قَضَى في حَادِثَةٍ وَهِيَ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ بِرَأْيِهِ ثُمَّ
رُفِعَتْ إلَيْهِ ثَانِيًا فَتَحَوَّلَ رَأْيُهُ يَعْمَلُ بِالرَّأْيِ الثَّانِي
وَلَا يُوجِبُ هذا نَقْضَ الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ
بِالرَّأْيِ الْأَوَّلِ قَضَاءٌ مُجْمَعٌ على جَوَازِهِ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ
على أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ في مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ وَبِمَا يُؤَدِّي
إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَكَانَ هذا قَضَاءً مُتَّفَقًا على صِحَّتِهِ وَلَا
اتِّفَاقَ على صِحَّةِ هذا الرَّأْيِ الثَّانِي فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ الْمُجْمَعِ
عليه بِالْمُخْتَلَفِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لِقَاضٍ آخَرَ أَنْ يُبْطِلَ هذا
القضاء ( ( ( الاجتهاد ) ) ) كَذَا هذا
وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قَضَى في حَادِثَةٍ
ثُمَّ قَضَى فيها بِخِلَافِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَسُئِلَ فقال تِلْكَ كما
قَضَيْنَا وَهَذِهِ كما نقضى
وَلَوْ رُفِعَتْ إلَيْهِ ثَالِثًا فَتَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى الْأَوَّلِ يُعْمَلُ
بِهِ وَلَا يُبْطَلُ قَضَاؤُهُ بِالرَّأْيِ الثَّانِي بِالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ
الْأَوَّلِ كما لَا يُبْطَلُ قَضَاؤُهُ الْأَوَّلُ بِالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ
الثَّانِي لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ أَنَّ فَقِيهًا قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ وَمِنْ
رَأْيِهِ أَنَّهُ بَائِنٌ فَأَمْضَى رَأْيَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
امْرَأَتِهِ وَعَزَمَ على
____________________
(7/5)
أنها
قد حَرُمَتْ عليه ثُمَّ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى أنها تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ
يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فإن ( ( ( فإنه ) ) ) يَعْمَلُ بِرَأْيِهِ الْأَوَّلِ في
حَقِّ هذه الْمَرْأَةِ تحرم ( ( ( وتحرم ) ) ) عليه وَإِنَّمَا يُعْمَلُ
بِرَأْيِهِ الثَّانِي في الْمُسْتَقْبَلِ في حَقِّهَا وفي حَقِّ غَيْرِهَا لِأَنَّ
الْأَوَّلَ رَأْيٌ أَمْضَاهُ بِالِاجْتِهَادِ وما أُمْضِيَ بِالِاجْتِهَادِ لَا
يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ
وَكَذَلِكَ لو كان رَأْيُهُ أنها وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فَعَزَمَ على
أنها مَنْكُوحَةٌ ثُمَّ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى أَنَّهُ بَائِنٌ فإنه يُعْمَلُ
بِرَأْيِهِ الْأَوَّلِ وَلَا تَحْرُمُ عليه لِمَا قُلْنَا وَلَوْ لم يَكُنْ عَزَمَ
على الْحُرْمَةِ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ حتى تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى الْحِلِّ
لَا تَحْرُمُ عليه وَكَذَا في الْفَصْلِ الثَّانِي لو لم يَكُنْ عَزَمَ على
الْحِلِّ حتى تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى الْحُرْمَةِ تَحْرُمُ عليه لِأَنَّ نَفْسَ
الِاجْتِهَادِ مَحِلُّ النَّقْضِ ما لم يَتَّصِلْ بِهِ الْإِمْضَاءُ وَاتِّصَالُ
الْإِمْضَاءِ بِمَنْزِلَةِ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ وَاتِّصَالُ الْقَضَاءِ يَمْنَعُ
من النَّقْضِ فَكَذَا اتِّصَالُ الْإِمْضَاءِ
وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إذَا لم يَكُنْ فَقِيهًا فَاسْتَفْتَى فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ
بِحَلَالٍ أو حَرَامٍ وَلَوْ لم يَكُنْ عَزَمَ على ذلك حتى أَفْتَاهُ فَقِيهٌ
آخَرُ بِخِلَافِهِ فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ وَأَمْضَاهُ في مَنْكُوحَتِهِ لم يَجُزْ له
أَنْ يَتْرُكَ ما أَمْضَاهُ فيه وَيَرْجِعُ إلَى ما أَفْتَاهُ بِهِ الْأَوَّلُ
لِأَنَّ الْعَمَلَ بِمَا أَمْضَى وَاجِبٌ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ مُجْتَهِدًا كان أو
مُقَلِّدًا لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ مُتَعَبِّدٌ بِالتَّقْلِيدِ كما أَنَّ
الْمُجْتَهِدَ مُتَعَبِّدٌ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ لم يَجُزْ لِلْمُجْتَهِدِ نَقْضُ
ما أَمْضَاهُ
فَكَذَا لَا يَجُوزُ ذلك لِلْمُقَلِّدِ
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من نَفَاذِ قَضَاءِ الْقَاضِي في مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ بِمَا
يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ إذَا لم يَكُنْ الْمَقْضِيُّ عليه وَالْمَقْضِيُّ
له من أَهْلِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ
أو كَانَا من أَهْلِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَلَكِنْ لم يُخَالِفْ رَأْيُهُمَا
رَأْيَ الْقَاضِي
فَأَمَّا إذَا كَانَا من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَخَالَفَ رَأْيُهُمَا رَأْيَ
الْقَاضِي فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي يَنْفُذُ على
الْمَقْضِيِّ عليه في مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ
سَوَاءٌ كان الْمَقْضِيُّ عليه عَامِّيًّا مُقَلِّدًا أو فَقِيهًا مُجْتَهِدًا
يُخَالِفُ رَأْيُهُ رَأْيَ الْقَاضِي بِلَا خِلَافٍ
أَمَّا إذَا كان مُقَلِّدًا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ
الْمُفْتِي فَتَقْلِيدُ الْقَاضِي أَوْلَى وَكَذَا إذَا كان مُجْتَهِدًا لِأَنَّ
الْقَضَاءَ في مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُ الْقَاضِي
قَضَاءٌ مُجْمَعٌ على صِحَّتِهِ على ما مَرَّ وَلَا مَعْنَى لِلصِّحَّةِ إلَّا
النَّفَاذُ على الْمَقْضِيِّ عليه
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قال الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ
أَلْبَتَّةَ وَرَأَى الزَّوْجُ أَنَّهُ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَرَأَى
الْقَاضِي أَنَّهُ بَائِنٌ فَرَافَعَتْهُ الْمَرْأَةُ إلَى الْقَاضِي فَقَضَى
بِالْبَيْنُونَةِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بِالِاتِّفَاقِ لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا قَضَاؤُهُ لِلْمَقْضِيِّ له بِمَا يُخَالِفُ رَأْيَهُ هل يَنْفُذُ قال
أبو يُوسُفَ لَا يَنْفُذُ وقال مُحَمَّدٌ يَنْفُذُ
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قال الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ
وَرَأَى الزَّوْجُ أَنَّهُ بَائِنٌ وَرَأَى الْقَاضِي أَنَّهُ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ
الرَّجْعَةَ فَرَافَعَتْهُ إلَى الْقَاضِي فَقَضَى بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ
يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ لَا يَحِلُّ له الْمَقَامُ مَعَهَا عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحِلُّ له
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ما ذَكَرْنَا أَنَّ هذا قَضَاءٌ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ على
جَوَازِهِ لِوُقُوعِهِ في فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فيه فَيَنْفُذُ على الْمَقْضِيِّ عليه
وَالْمَقْضِيِّ له لِأَنَّ الْقَضَاءَ له تَعَلُّقٌ بِهِمَا جميعا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْضِيِّ له
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ صِحَّةَ الْقَضَاءِ إنْفَاذُهُ في مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ
يَظْهَرُ أَثَرُهُ في حَقِّ الْمَقْضِيِّ عليه لَا في حَقِّ الْمَقْضِيِّ له
لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عليه مَجْبُورٌ في الْقَضَاءِ عليه فَأَمَّا المقضى له
فَمُخْتَارٌ في الْقَضَاءِ له فَلَوْ اتَّبَعَ رَأْيَ الْقَاضِي إنَّمَا
يَتْبَعُهُ تَقْلِيدًا وَكَوْنُهُ مُجْتَهِدًا يَمْنَعُ من التَّقْلِيدِ فَيَجِبْ
الْعَمَلُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ
وَعَلَى هذا كُلُّ تَحْلِيلٍ أو تَحْرِيمٍ أو إعْتَاقٍ أو أَخْذِ مَالٍ إذَا قَضَى
الْقَاضِي بِمَا يُخَالِفُ رَأْيَ الْمَقْضِيِّ عليه أو له فَهُوَ على ما
ذَكَرْنَا من الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ
وَكَذَلِكَ الْمُقَلِّدُ إذَا أَفْتَاهُ إنْسَانٌ في حَادِثَةٍ ثُمَّ رُفِعَتْ
إلَى الْقَاضِي فَقَضَى بِخِلَافِ رَأْيِ الْمُفْتِي فإنه يَأْخُذُ بِقَضَاءِ
الْقَاضِي وَيَتْرُكُ رَأْيَ الْمُفْتِي لِأَنَّ رَأْيَ الْمُفْتِي يَصِيرُ
مَتْرُوكًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فما ظَنُّكَ بِالْمُقَلِّدِ ولم يذكر
الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْخِلَافَ في هذا الْفَصْلِ وَذَكَرَهُ شَيْخُنَا
رَحِمَهُ اللَّهُ
وَسَنَنْظُرُ فيه فِيمَا يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الْقَضَاءُ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ
الْعَادِلَةَ مُظْهِرَةٌ للمدعى فَكَانَ الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الْقَضَاءُ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُقِرُّ
على نَفْسِهِ كَاذِبًا
هذا هو الظَّاهِرُ فَكَانَ الْقَضَاءُ بِهِ قَضَاءً بِالْحَقِّ وَكَذَا الْقَضَاءُ
بِالنُّكُولِ عِنْدَنَا فِيمَا يُقْضَى فيه بِالنُّكُولِ لِأَنَّ النُّكُولَ على
أَصْلِ أَصْحَابِنَا بَذْلٌ أو إقْرَارٌ وَكُلُّ ذلك دَلِيلُ صِدْقِ الْمُدَّعِي
في دَعْوَاهُ لِمَا عُلِمَ فَكَانَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ قَضَاءً بِالْحَقِّ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِعِلْمِ نَفْسِهِ في الْجُمْلَةِ
فَنَقُولُ تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فيه أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا إن قَضَى بِعِلْمٍ
اسْتَفَادَهُ في زَمَنِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ وهو الْمَوْضِعُ الذي قُلِّدَ
قَضَاءَهُ وَإِمَّا إن قَضَى بِعِلْمٍ اسْتَفَادَهُ قبل زَمَانِ الْقَضَاءِ وفي
غَيْرِ مَكَانِهِ وَإِمَّا إن قَضَى بِعِلْمٍ اسْتَفَادَهُ بَعْدَ زَمَانِ
الْقَضَاءِ في غَيْرِ مَكَانِهِ فَإِنْ قَضَى بِعِلْمٍ اسْتَفَادَهُ في زَمَنِ
الْقَضَاءِ وفي مَكَانِهِ بِأَنْ سمع رَجُلًا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمَالٍ أو
سَمِعَهُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ أو يُعْتِقُ عَبْدَهُ أو يَقْذِفُ
____________________
(7/6)
رَجُلًا
أو رَآهُ يَقْتُلُ إنْسَانًا وهو قَاضٍ في الْبَلَدِ الذي قُلِّدَ قَضَاءَهَا
جَازَ قَضَاؤُهُ عِنْدَنَا وَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِهِ في الْحُدُودِ
الْخَالِصَةِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا إلَّا أَنَّ في السَّرِقَةِ يَقْضِي
بِالْمَالِ لَا بِالْقَطْعِ
وَلِلشَّافِعِيِّ فيه قَوْلَانِ في قَوْلٍ لَا يَجُوزُ له أَنْ يَقْضِيَ بِهِ في
الْكُلِّ
وفي قَوْلٍ يَجُوزُ في الْكُلِّ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ
بِالْبَيِّنَةِ وَلَوْ جَازَ له الْقَضَاءُ بِعِلْمِهِ لم يَبْقَ مَأْمُورًا
بِالْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَفْصِلُ بين الْحُدُودِ
وَغَيْرِهَا
وَجْهُ قَوْلِهِ الثَّانِي أَنَّ الْمَقْصُودَ من الْبَيِّنَةِ الْعِلْمُ بِحُكْمِ
الْحَادِثَةِ وقد عُلِمَ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين الْحُدُودِ
وَغَيْرِهَا لِأَنَّ عِلْمَهُ لَا يَخْتَلِفُ
وَلَنَا أَنَّهُ جَازَ له الْقَضَاءُ بِالْبَيِّنَةِ فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ
بِعِلْمِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الْبَيِّنَةِ
ليس عَيْنُهَا بَلْ حُصُولُ الْعِلْمِ بِحُكْمِ الْحَادِثَةِ وَعِلْمُهُ
الْحَاصِلُ بِالْمُعَايَنَةِ أَقْوَى من عِلْمِهِ الْحَاصِلِ بِالشَّهَادَةِ
لِأَنَّ الْحَاصِلَ بِالشَّهَادَةِ عِلْمُ غَالِبِ الرَّأْيِ وَأَكْثَرُ الظَّنِّ
وَالْحَاصِلُ بِالْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ عِلْمُ الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ فَكَانَ
هذا أَقْوَى فَكَانَ الْقَضَاءُ بِهِ أَوْلَى إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْضِي بِهِ في
الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ
لِأَنَّ الْحُدُودَ يُحْتَاطُ في دَرْئِهَا وَلَيْسَ من الِاحْتِيَاطِ فيها
الِاكْتِفَاءُ بِعِلْمِ نَفْسِهِ
وَلِأَنَّ الْحُجَّةَ في وَضْعِ الشَّيْءِ هِيَ الْبَيِّنَةُ التي تَتَكَلَّمُ بها
وَمَعْنَى الْبَيِّنَةِ وَإِنْ وُجِدَ فَقَدْ فَاتَتْ صُورَتُهَا وَفَوَاتُ
الصُّورَةِ يُورِثُ شُبْهَةً وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ
الْقِصَاصِ فإنه حَقُّ الْعَبْدِ وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا يُحْتَاطُ في
إسْقَاطِهَا وَكَذَا حَدُّ الْقَذْفِ لِأَنَّ فيه حَقَّ الْعَبْدِ وَكِلَاهُمَا لَا
يَسْقُطَانِ بِشُبْهَةِ فَوَاتِ الصُّورَةِ
هذا إذَا قَضَى بِعِلْمٍ اسْتَفَادَهُ في زَمَنِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ فَأَمَّا
إذَا قَضَى بِعِلْمٍ اسْتَفَادَهُ في غَيْرِ زَمَنِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ أو في
زَمَانِ الْقَضَاءِ في غَيْرِ مَكَانِهِ وَذَلِكَ قبل أَنْ يَصِلَ إلَى الْبَلَدِ
الذي وَلِي قَضَاءَهُ فإنه لَا يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ أَصْلًا
وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ فَأَمَّا في
الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ فَلَا يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَقْضِيَ بِالْعِلْمِ
الْمُسْتَفَادِ في زَمَنِ الْقَضَاءِ جَازَ له أَنْ يَقْضِيَ بِالْعِلْمِ
الْمُسْتَفَادِ قبل زَمَنِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْعِلْمَ في الْحَالَيْنِ على
حَدٍّ وَاحِدٍ إلَّا أَنَّ هَهُنَا اسْتَدَامَ الْعِلْمُ الذي كان له قبل
الْقَضَاءِ بتجد ( ( ( بتجدد ) ) ) أَمْثَالِهِ وَهُنَاكَ حَدَثَ له عِلْمٌ لم
يَكُنْ وَهُمَا سَوَاءٌ في الْمَعْنَى إلَّا أَنَّهُ لم يَقْضِ بِهِ في الْحُدُودِ
الْخَالِصَةِ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فيه بِاعْتِبَارِ التُّهْمَةِ وَالشُّبْهَةُ
تُؤَثِّرُ في الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ وَلَا تُؤَثِّرُ في حُقُوقِ الْعِبَادِ على
ما مَرَّ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بين الْعِلْمَيْنِ وهو أَنَّ الْعِلْمَ الْحَادِثَ
له في زَمَنِ الْقَضَاءِ عِلْمٌ في وَقْتٍ هو مُكَلَّفٌ فيه بِالْقَضَاءِ
فَأَشْبَهَ الْبَيِّنَةَ الْقَائِمَةَ فيه وَالْعِلْمُ الْحَاصِلُ في غَيْرِ
زَمَانِ الْقَضَاءِ عِلْمٌ في وَقْتٍ هو غَيْرُ مُكَلَّفٍ فيه بِالْقَضَاءِ
فَأَشْبَهَ الْبَيِّنَةَ الْقَائِمَةَ فيه وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ في صِحَّةِ
الْقَضَاءِ هو الْبَيِّنَةُ إلَّا أَنَّ غَيْرَهَا قد يَلْحَقُ بها إذَا كان في
مَعْنَاهَا وَالْعِلْمُ الْحَادِثُ في زَمَانِ الْقَضَاءِ في مَعْنَى الْبَيِّنَةِ
يَكُونُ حَادِثًا في وَقْتٍ هو مُكَلَّفٌ بِالْقَضَاءِ فَكَانَ في مَعْنَى
الْبَيِّنَةِ وَالْحَاصِلُ قبل زَمَانِ الْقَضَاءِ أو قبل الْوُصُولِ إلَى
مَكَانِهِ حَاصِلٌ في وَقْتٍ هو غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِالْقَضَاءِ فلم يَكُنْ في
مَعْنَى الْبَيِّنَةِ فلم يَجُزْ الْقَضَاءُ بِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ بين
الْعِلْمَيْنِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الْقَضَاءُ بِكِتَابِ القضاء ( ( ( القاضي ) ) ) فَنَقُولُ
لِقَبُولِ الْكِتَابِ من الْقَاضِي شَرَائِطُ منها الْبَيِّنَةُ على أَنَّهُ
كِتَابُهُ فَتَشْهَدُ الشُّهُودُ على أَنَّ هذا كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي ويذكرون
( ( ( ويذكروا ) ) ) اسْمَهُ وَنَسَبَهُ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ كِتَابُهُ
بِدُونِهِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ مَخْتُومًا وَيَشْهَدُوا على أَنَّ هذا خَتْمُهُ
لِصِيَانَتِهِ عن الْخَلَلِ فيه
وَمِنْهَا أَنْ يَشْهَدُوا بِمَا في الْكِتَابِ بِأَنْ يَقُولُوا إنَّهُ قَرَأَهُ
عليهم مع الشَّهَادَةِ بِالْخَتْمِ
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا شَهِدُوا بِالْكِتَابِ وَالْخَاتَمِ
تُقْبَلُ وَإِنْ لم يَشْهَدُوا بِمَا في الْكِتَابِ
وَكَذَا إذَا شَهِدُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا في جَوْفِهِ تُقْبَلُ وَإِنْ لم
يَشْهَدُوا بِالْخَاتَمِ بِأَنْ قالوا لم يُشْهِدْنَا على الْخَاتَمِ أو لم يَكُنْ
الْكِتَابُ مَخْتُومًا أَصْلًا
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ من هذه الشَّهَادَةِ حُصُولُ الْعِلْمِ
لِلْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ بِأَنَّ هذا كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي وَهَذَا
يَحْصُلُ بِمَا ذَكَرْنَا
وَلَهُمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ لَا يَحْصُلُ إلَّا
بِالْعِلْمِ بِمَا فيه وَلَا بُدَّ من الشَّهَادَةِ بِمَا فيه لِتَكُونَ
شَهَادَتُهُمْ على عِلْمٍ بِالْمَشْهُودِ بِهِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بين الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَبَيْنَ الْقَاضِي
الْكَاتِبِ مَسِيرَةُ سَفَرٍ
فَإِنْ كان دُونَهُ لم تُقْبَلْ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِكِتَابِ الْقَاضِي أَمْرٌ
جُوِّزَ لِحَاجَةِ الناس بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ بِالشَّهَادَةِ
الْقَائِمَةِ على غَائِبٍ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ خَصْمٍ حَاضِرٍ لَكِنْ
جُوِّزَ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِيمَا دُونَ مَسِيرَةِ السَّفَرِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ في الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ التي لَا حَاجَةَ إلَى
الْإِشَارَةِ إلَيْهَا عِنْدَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ
وَأَمَّا في الْأَعْيَانِ التي تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهَا
كَالْمَنْقُولِ من الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
____________________
(7/7)
وهو
قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ رَحِمَهُ اللَّهُ ثُمَّ رَجَعَ وقال تُقْبَلُ في
الْعَبْدِ خَاصَّةً إذَا أَبَقَ وَأُخِذَ في بَلَدٍ فَأَقَامَ صَاحِبُهُ
الْبَيِّنَةَ عِنْدَ قَاضِي بَلَدِهِ أَنَّ عَبْدَهُ أَخَذَهُ فُلَانٌ في بَلَدِ
كَذَا فَشَهِدَ الشُّهُودُ على الْمِلْكِ أو على صِفَةِ الْعَبْدِ وَحِلْيَتِهِ
فإنه يَكْتُبُ إلَى قَاضِي الْبَلَدِ الذي الْعَبْدُ فيه أَنَّهُ قد شَهِدَ الشُّهُودُ
عِنْدِي أَنَّ عَبْدًا صِفَتُهُ وَحِلْيَتُهُ كَذَا وَكَذَا مِلْكُ فُلَانٍ
أَخَذَهُ فُلَانُ بن فُلَانٍ يَنْسِبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى إبيه وَإِلَى
جَدِّهِ على رَسْمِ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي
وإذا وَصَلَ إلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ كِتَابُهُ
بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ يُسَلِّمُ الْعَبْدَ إلَيْهِ وَيَخْتِمُ في عُنُقِهِ
وَيَأْخُذُ منه كَفِيلًا ثُمَّ يَبْعَثُ بِهِ إلَى الْقَاضِي الْكَاتِبِ حتى
يَشْهَدَ الشُّهُودُ عليه عِنْدَهُ بِعَيْنِهِ على الْإِشَارَةِ إلَيْهِ ثُمَّ يَكْتُبُ
الْقَاضِي الْكَاتِبُ له كِتَابًا آخَرَ إلَى ذلك الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ
أَوَّلَ مَرَّةٍ فإذا عَلِمَ أَنَّهُ كِتَابُهُ قَبِلَهُ وَقَضَى وسلم الْعَبْدَ
إلَى الذي جاء بِالْكِتَابِ وَأَبْرَأَ كَفِيلَهُ وَلَا يُقْبَلُ في الْجَارِيَةِ
بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى قَبُولِ
كِتَابِ الْقَاضِي في الْعَبْدِ مُتَحَقِّقَةٌ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ فَلَوْ
لم يُقْبَلْ لَضَاقَ الْأَمْرُ على الناس وَلَضَاعَتْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا حَاجَةَ
إلَيْهِ في الْأَمَةِ لِأَنَّهَا لَا تَهْرَبُ عَادَةً لِعَجْزِهَا وَضَعْفِ
بِنْيَتِهَا وَقَلْبِهَا
وَلَهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا على مَعْلُومٍ لِلْآيَةِ
الْكَرِيمَةِ { إلَّا من شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَالْمَنْقُولُ
لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ وَالْإِشَارَةُ إلَى
الْغَائِبِ مُحَالٌ فلم تَصِحَّ شَهَادَةُ الشُّهُودِ وَلَا دَعْوَى الْمُدَّعِي
لِجَهَالَةِ المدعى فَلَا يُقْبَلُ الْكِتَابُ فيه وَلِهَذَا لم يُقْبَلُ في
الْجَارِيَةِ وفي سَائِرِ الْمَنْقُولَاتِ بِخِلَافِ الْعَقَارِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ
مَعْلُومًا بِالتَّحْدِيدِ وَبِخِلَافِ الدَّيْنِ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَصِيرُ
مَعْلُومًا بِالْوَصْفِ
وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال ابن أبي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي
في الْكُلِّ وَقُضَاةُ زَمَانِنَا يَعْمَلُونَ بِمَذْهَبِهِ لِحَاجَةِ الناس
وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي الْمُرْسَلِ إلَيْهِ أَنْ لَا يَفُكَّ الْكِتَابَ إلَّا
بِمَحْضَرٍ من الْخَصْمِ لِيَكُونَ أَبْعَدَ من التُّهْمَةِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ في الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي
إلَى الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ وَأَنَّهُ لَا
تُقْبَلُ فِيهِمَا
كَذَا هذا
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْمَكْتُوبِ له وَعَلَيْهِ وَاسْمُ أبيه وَجَدِّهِ
وَفَخِذِهِ مَكْتُوبًا في الْكِتَابِ حتى لو نَسَبَهُ إلَى أبيه ولم يذكر اسْمَ
جَدِّهِ أو نَسَبَهُ إلَى قَبِيلَةٍ كَبَنِي تَمِيمٍ وَنَحْوِهِ لَا يَقْبَلُ
لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَا يَحْصُلُ بِهِ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ شيئا ظَاهِرًا
مَشْهُورًا أَشْهُرَ من الْقَبِيلَةِ فَيُقْبَلُ لِحُصُولِ التَّعْرِيفِ
وَمِنْهَا ذِكْرُ الْحُدُودِ في الدُّورِ وَالْعَقَارِ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ في
الْمَحْدُودِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِذِكْرِ الْحَدِّ
وَلَوْ ذَكَرَ في الْكِتَابِ ثَلَاثَةَ حُدُودٍ يُقْبَلُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُقْبَلُ ما لم يَشْهَدُوا على
الْحُدُودِ الْأَرْبَعَةِ
وَلَوْ شَهِدُوا على حَدَّيْنِ لَا تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ وإذا كانت الدَّارُ
مَشْهُورَةً كَدَارِ الْأَمِيرِ وَغَيْرِهِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
عليه الرَّحْمَةُ وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ
وَهَذِهِ من مَسَائِلِ الشُّرُوطِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي الْكَاتِبُ على قَضَائِهِ عِنْدَ وُصُولِ
كِتَابِهِ إلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ حتى لو مَاتَ أو عُزِلَ قبل
الْوُصُولِ إلَيْهِ لم يُعْمَلْ بِهِ وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ وُصُولِ الْكِتَابِ
إلَيْهِ جَازَ له أَنْ يَقْضِيَ بِهِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ على قَضَائِهِ حتى لو
مَاتَ أو عُزِلَ قبل وُصُولِ الْكِتَابِ إلَيْهِ ثُمَّ وَصَلَ إلَى الْقَاضِي الذي
وَلِيَ مَكَانَهُ لم يُعْمَلْ بِهِ لِأَنَّهُ لم يَكْتُبْ إلَيْهِ وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي الْكَاتِبُ من أَهْلِ الْعَدْلِ فَإِنْ كان من
أَهْلِ الْبَغْيِ لم يَعْمَلْ بِهِ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ بَلْ يَرُدُّهُ
كَبْتًا وَغَيْظًا لهم
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِصًا لِأَنَّ
الْقَضَاءَ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَةُ إخْلَاصُ الْعَمَلِ بِكُلِّيَّتِهِ لِلَّهِ
عز وجل فَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ
له لِأَنَّ الْقَضَاءَ له قَضَاءٌ لِنَفْسِهِ من وَجْهٍ فلم يَخْلُصْ لِلَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَكَذَا إذَا قَضَى في حَادِثَةٍ بِرِشْوَةٍ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ في تِلْكَ
الْحَادِثَةِ وَإِنْ قَضَى بِالْحَقِّ الثَّابِتِ عِنْدَ اللَّهِ جل ( ( ( جلا ) )
) وَعَلَا من حُكْمِ الْحَادِثَةِ لِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ على الْقَضَاءِ رِشْوَةً
فَقَدْ قَضَى لِنَفْسِهِ لَا لِلَّهِ عز اسْمُهُ فلم يَصِحَّ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْضِيِّ له فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ
مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِلْقَاضِي فَإِنْ كان مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُ له لَا يَجُوزُ قَضَاءُ الْقَاضِي له لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ
تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا وَقْتَ الْقَضَاءِ فَإِنْ كان غَائِبًا لم يَجُزْ
الْقَضَاءُ له إلَّا إذَا كان عنه خَصْمٌ حَاضِرٌ لِأَنَّ الْقَضَاءَ على
الْغَائِبِ كما لَا يَجُوزُ فَالْقَضَاءُ لِلْغَائِبِ أَيْضًا لَا يَجُوزُ
وَمِنْهَا طَلَبُ الْقَضَاءِ من الْقَاضِي في حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّ
الْقَضَاءَ وَسِيلَةٌ إلَى حَقِّهِ فَكَانَ حَقُّهُ وَحَقُّ الْإِنْسَانِ لَا
يُسْتَوْفَى إلَّا بِطَلَبِهِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْضِيِّ عليه فَحَضْرَتُهُ حتى لَا يَجُوزَ
الْقَضَاءُ على الْغَائِبِ إذَا لم يَكُنْ عنه خَصْمٌ حَاضِرٌ وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس
____________________
(7/8)
بِشَرْطٍ
وَالْمَسْأَلَةُ ذُكِرَتْ في كِتَابِ الدَّعْوَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا آدَابُ الْقَضَاءِ فَكَثِيرَةٌ وَالْأَصْلُ فيها كِتَابُ
سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه إلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ سَمَّاهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ كِتَابَ السِّيَاسَةِ وَفِيهِ أَمَّا
بَعْدُ فإن الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ فَافْهَمْ إذَا
أُدْلِيَ إلَيْكَ فإنه لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمُ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ له آسِ بين
الناس في وَجْهَكَ وَمَجْلِسِكَ وَعَدْلِكَ حتى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ في حَيْفِكَ
وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ من عَدْلِكَ وفي رِوَايَةٍ لا يَخَافُ ضَعِيفٌ جَوْرَكَ
الْبَيِّنَةُ على الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ على من أَنْكَرَ
الصُّلْحُ جَائِزٌ بين الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أو حَرَّمَ
حَلَالًا وَلَا يَمْنَعُكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ بِالْأَمْسِ رَاجَعْتَ فيه نَفْسَكَ
وَهُدِيتَ فيه لِرُشْدِكَ أَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ فإن الْحَقَّ قَدِيمٌ لَا
يَبْطُلُ وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ من التَّمَادِي في الْبَاطِلِ الْفَهْمَ
الْفَهْمَ فِيمَا يَخْتَلِجُ في صَدْرِكَ مِمَّا لم يَبْلُغْكَ في الْقُرْآنِ
الْعَظِيمِ وَالسُّنَّةِ ثُمَّ اعْرِفْ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ وَقِسْ
الْأُمُورَ عِنْدَ ذلك فَاعْمَدْ إلَى أَحَبِّهَا وَأَقْرَبِهَا إلَى اللَّهِ
تَبَارَكَ وتعالى وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ اجْعَلْ لِلْمُدَّعِي أَمَدًا
يَنْتَهِي إلَيْهِ فإذا أَحْضَرَ بَيِّنَةً أُخِذَ بِحَقِّهِ وَإِلَّا وَجَبَ الْقَضَاءُ
عليه
وفي رِوَايَةٍ وَإِنْ عَجَزَ عنها اسْتَحْلَلْتَ عليه الْقَضَاءَ فإن ذلك أَبْلَغُ
في الْعُذْرِ وَأَجْلَى لِلْعَمَى الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ
إلَّا مَحْدُودًا في قَذْفٍ أو ظَنِينًا في وَلَاءٍ أو قَرَابَةٍ أو مُجَرَّبًا
عليه شَهَادَةُ زُورٍ فإن اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى مِنْكُمْ السِّرَّ وفي
رِوَايَةٍ السَّرَائِرَ وَدَرَأَ عَنْكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ إيَّاكَ وَالْغَضَبَ
وَالْقَلَقَ وَالضَّجَرَ وَالتَّأَذِّي بِالنَّاسِ لِلْخُصُومِ في مَوَاطِنِ
الْحَقِّ الذي يُوجِبُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ الْأَجْرَ وَيُحْسِنُ
بِهِ الذُّخْرَ وَأَنَّ من يُخْلِصُ نِيَّتَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى وَلَوْ على نَفْسِهِ في الْحَقِّ يَكْفِهِ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الناس وَمَنْ يَتَزَيَّنْ لِلنَّاسِ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ منه
خِلَافَهُ شَانَهُ اللَّهُ عز وجل فإنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَقْبَلُ من
الْعِبَادَةِ إلَّا ما كان خَالِصًا فما ظَنُّكَ بِثَوَابٍ عن اللَّهِ سُبْحَانَهُ
من عَاجِلِ رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ وَالسَّلَامُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فَهِمًا عِنْدَ الْخُصُومَةِ فَيَجْعَلُ
فَهْمَهُ وَسَمْعَهُ وَقَلْبَهُ إلَى كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ لِقَوْلِ سَيِّدِنَا
عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه في كِتَابِ السياسية ( ( ( السياسة ) ) ) فَافْهَمْ إذَا
أُولِيَ إلَيْك
وَلِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مع أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فإذا لم
يَفْهَمْ الْقَاضِي كَلَامَهُمَا يَضِيعُ الْحَقُّ وَذَلِكَ قَوْلُهُ رضي اللَّهُ
تعالى عنه فإنه لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمُ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ له
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ قَلِقًا وَقْتَ الْقَضَاءِ لِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ
رضي اللَّهُ عنه إيَّاكَ وَالْقَلَقَ وَهَذَا نَدْبٌ إلَى السُّكُونِ
وَالتَّثْبِيتِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ ضَجِرًا عِنْدَ الْقَضَاءِ إذَا اجْتَمَعَ عليه
الْأُمُورُ فَضَاقَ صَدْرُهُ لِقَوْلِهِ رضي اللَّهُ عنه إيَّاكَ وَالضَّجَرَ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ غَضْبَانَ وَقْتَ الْقَضَاءِ لِقَوْلِ سَيِّدِنَا
عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه إيَّاكَ وَالْغَضَبَ وقال عليه الصلاة ( ( ( وسلم ) ) )
والسلام لَا يَقْضِي الْقَاضِي وهو غَضْبَانُ
وَلِأَنَّهُ يُدْهِشُهُ عن التَّأَمُّلِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ جَائِعًا وَلَا عَطْشَانَ وَلَا مُمْتَلِئًا لِأَنَّ
هذه الْعَوَارِضَ من الْقَلَقِ وَالضَّجَرِ وَالْغَضَبِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ
وَالِامْتِلَاءِ مِمَّا يَشْغَلُهُ عن الْحَقِّ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَقْضِيَ وهو يَمْشِي على الْأَرْضِ أو يَسِيرُ على
الدَّابَّةِ لِأَنَّ الْمَشْيَ وَالسَّيْرَ يَشْغَلَانِهِ عن النَّظَرِ
وَالتَّأَمُّلِ في كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ
وَلَا بَأْسَ بان يَقْضِيَ وهو متكىء ( ( ( متكئ ) ) ) لِأَنَّ الِاتِّكَاءَ لَا
يَقْدَحُ في التَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ
وَمِنْهَا أَنْ يُسَوِّيَ بين الْخَصْمَيْنِ في الْجُلُوسِ فَيُجْلِسُهُمَا بين
يَدَيْهِ لَا عن يَمِينِهِ وَلَا عن يَسَارِهِ لِأَنَّهُ لو فَعَلَ ذلك فَقَدْ
قَرَّبَ أَحَدَهُمَا في مَجْلِسِهِ
وَكَذَا ألا يُجْلِسُ أَحَدَهُمَا عن يَمِينِهِ وَالْآخَرَ عن يَسَارِهِ
لِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا على الْيَسَارِ
وقد رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ وَأُبَيُّ بن كَعْبٍ رضي اللَّهُ عنهما اخْتَصَمَا في
حَادِثَةٍ إلَى زَيْدِ بن ثَابِتٍ فَأَلْقَى لِسَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه
وِسَادَةً
فقال سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه هذا أَوَّلُ جَوْرِكَ
وَجَلَسَ بين يَدَيْهِ
وَمِنْهَا أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا في النَّظَرِ وَالنُّطْقِ وَالْخَلْوَةِ
فَلَا يَنْطَلِقُ بِوَجْهِهِ إلَى أَحَدِهِمَا
وَلَا يُسَارَّ أَحَدَهُمَا وَلَا يومىء إلَى أَحَدِهِمَا بِشَيْءٍ دُونَ خَصْمِهِ
وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ على أَحَدِهِمَا وَلَا يُكَلِّمُ أَحَدَهُمَا بِلِسَانٍ
لَا يَعْرِفُهُ الْآخَرُ وَلَا يَخْلُو بِأَحَدٍ في مَنْزِلِهِ وَلَا يُضَيِّفُ
أَحَدَهُمَا فَيَعْدِلُ بين الْخَصْمَيْنِ في هذا كُلِّهِ لِمَا في تَرْكِ
الْعَدْلِ فيه من كَسْرِ قَلْبِ الْآخَرِ وَيُتَّهَمُ الْقَاضِي بِهِ أَيْضًا
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَقْبَلَ الْهَدِيَّةَ من أَحَدِهِمَا إلَّا إذَا كان لَا
يَلْحَقُهُ بِهِ تُهْمَةٌ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمُهْدِي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ
رَجُلًا كان يهدى إلَيْهِ قبل تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ وَإِمَّا إن كان لَا يهدى
إلَيْهِ فأما إنْ كان قَرِيبًا له أو أَجْنَبِيًّا فَإِنْ كان قَرِيبًا له
يُنْظَرُ إنْ كان له خُصُومَةٌ في الْحَالِ فإنه لَا يَقْبَلُ لِأَنَّهُ
يَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ وَإِنْ كان لَا خُصُومَةَ له في الْحَالِ يَقْبَلُ
لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فيه وَإِنْ كان أَجْنَبِيًّا
____________________
(7/9)
لَا
يَقْبَلُ سَوَاءٌ كان له خُصُومَةٌ في الْحَالِ أو لَا لِأَنَّهُ إنْ كان له
خُصُومَةٌ في الْحَالِ كان بِمَعْنَى الرِّشْوَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ فَرُبَّمَا
يَكُونُ له خُصُومَةٌ في الْحَالِ يَأْتِي بَعْدَ ذلك فَلَا يَقْبَلُ وَلَوْ
قَبِلَ يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ
هذا إذَا كان الرَّجُلُ لَا يُهْدِي إلَيْهِ قبل تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ فَأَمَّا
إذَا كان يُهْدِي إلَيْهِ فَإِنْ كان له في الْحَالِ خُصُومَةٌ لَا تُقْبَلُ
لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فيه وَإِنْ كان لَا خُصُومَةَ له في الْحَالِ يُنْظَرُ إنْ
كان أَهْدَى مِثْلَ ما كان يُهْدِي أو أَقَلَّ يَقْبَلُ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ
فيه وَإِنْ كان أَكْثَرَ من ذلك يَرُدُّ الزِّيَادَةَ عليه وَإِنْ قَبِلَ كان
لِبَيْتِ الْمَالِ وَإِنْ لم يَقْبَلْ لِلْحَالِ حتى انْقَضَتْ الْخُصُومَةُ ثُمَّ
قَبِلَهَا لَا بَأْسَ بِهِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يُجِيبَ الدَّعْوَةَ الْخَاصَّةَ بِأَنْ كَانُوا خَمْسَةً أو
عَشَرَةً لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو من التُّهْمَةِ إلَّا إذَا كان صَاحِبُ
الدَّعْوَةِ مِمَّنْ كان يَتَّخِذُ له الدَّعْوَةَ قبل الْقَضَاءِ أو كان بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْقَاضِي قَرَابَةٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْضُرَ إذَا لم يَكُنْ له
خُصُومَةٌ لِانْعِدَامِ التُّهْمَةِ فَإِنْ عَرَفَ الْقَاضِي له خُصُومَةً لم
يَحْضُرْهَا
وَأَمَّا الدَّعْوَةُ الْعَامَّةُ فَإِنْ كانت بِدْعَةً كَدَعْوَةِ الْمُبَارَاةِ
وَنَحْوِهَا لَا يَحِلُّ له أَنْ يَحْضُرَهَا لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِ
الْقَاضِي إجَابَتُهَا فَالْقَاضِي أَوْلَى
وَإِنْ كانت سُنَّةً كَوَلِيمَةِ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ فإنه يُجِيبُهَا
لِأَنَّهُ إجَابَةُ السُّنَّةِ وَلَا تُهْمَةَ فيه
وَمِنْهَا أَنْ لَا يُلَقِّنَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ حُجَّتَهُ لِأَنَّ فيه
مَكْسَرَةَ قَلْبِ الْآخَرِ وَلِأَنَّ فيه إعَانَةَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ
فَيُوجِبُ التُّهْمَةَ غير أَنَّهُ إنْ تَكَلَّمَ أَحَدُهُمَا أَسْكَتَ الْآخَرَ
لِيَفْهَمَ كَلَامَهُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يُلَقِّنَ الشَّاهِدَ بَلْ يَتْرُكُهُ يَشْهَدُ بِمَا عِنْدَهُ
فَإِنْ أَوْجَبَ الشَّرْعُ قَبُولَهُ قَبِلَهُ وَإِلَّا رَدَّهُ
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ
ثُمَّ رَجَعَ وقال لَا بَأْسَ بِتَلْقِينِ الشَّاهِدِ بِأَنْ يَقُولَ أَتَشْهَدُ
بِكَذَا وَكَذَا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ من الْجَائِزِ أَنَّ الشَّاهِدَ يَلْحَقُهُ
الْحَصْرُ لِمَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَيُعْجِزُهُ عن إقَامَةِ الْحُجَّةِ
فَكَانَ التَّلْقِينُ تَقْوِيمًا لِحُجَّةٍ ثَابِتَةٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ
وَلَهُمَا أَنَّ الْقَاضِيَ يُتَّهَمُ بِتَلْقِينِ الشَّاهِدِ فَيَتَحَرَّجُ عنه
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَعْبَثَ بِالشُّهُودِ لِأَنَّ ذلك يُشَوِّشُ عليهم
عُقُولَهُمْ فَلَا يُمَكِّنُهُمْ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ على وَجْهِهَا وإذا
اتَّهَمَ الشُّهُودَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُفَرِّقَهُمْ عِنْدَ أَدَاءِ
الشَّهَادَةِ فَيَسْأَلَهُمْ أَيْنَ كان وَمَتَى كان فَإِنْ اخْتَلَفُوا
اخْتِلَافًا يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ رَدَّهَا وَإِلَّا فَلَا
وَيَشْهَدُ الْقَاضِي الْجِنَازَةَ لِأَنَّ ذلك حَقُّ الْمَيِّتِ على
الْمُسْلِمِينَ فلم يَكُنْ مُتَّهَمًا في أَدَاءِ سُنَّةٍ فَيَحْضُرُهَا إلَّا
إذَا اجْتَمَعَتْ الْجَنَائِزُ على وَجْهٍ لو حَضَرَهَا كُلَّهَا لَشَغَلَهُ ذلك
عن أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ أَنْ لَا يَشْهَدَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ
فَرْضُ عَيْنٍ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَكَانَ إقَامَةُ فَرْضِ
الْعَيْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَوْلَى
وَيَعُودُ الْمَرِيضَ أَيْضًا لِأَنَّ ذلك حَقُّ الْمُسْلِمِينَ على
الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ بِإِقَامَتِهِ وَيُسَلِّمُ على
الْخُصُومِ إذَا دَخَلُوا الْمَحْكَمَةَ لِأَنَّ السَّلَامَ من سُنَّةِ
الْإِسْلَامِ وكان شُرَيْحٌ يُسَلِّمُ على الْخُصُومِ لَكِنْ لَا يَخُصُّ أَحَدَ
الْخَصْمَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ عليه دُونَ الْآخَرِ وَهَذَا قبل جُلُوسِهِ في
مَجْلِسِ الْحُكْمِ
فَأَمَّا إذَا جَلَسَ لَا يُسَلِّمُ عليهم وَلَا هُمْ يُسَلِّمُونَ عليه أَمَّا هو
فَلَا يُسَلِّمُ عليهم لِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُسَلِّمَ الْقَائِمُ على
الْقَاعِدِ لَا الْقَاعِدُ على الْقَائِمِ وهو قَاعِدٌ وَهُمْ قِيَامٌ
وَأَمَّا هُمْ فَلَا يُسَلِّمُونَ عليه لِأَنَّهُمْ لو سَلَّمُوا عليه لَا
يَلْزَمُهُ الرَّدُّ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَ بِأَمْرٍ هو أَهَمُّ وَأَعْظَمُ من رَدِّ
السَّلَامِ فَلَا يَلْزَمُهُ الِاشْتِغَالُ
كَذَا ذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرِ الْهِنْدُوَانِيُّ في رَجُلٍ يَقْرَأُ
الْقُرْآنَ فَدَخَلَ عليه آخَرُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي له أَنْ يُسَلِّمَ عليه
وَلَوْ سَلَّمَ عليه لَا يَلْزَمُهُ الْجَوَابُ
وَكَذَا الْمُدَرِّسُ إذَا جَلَسَ لِلتَّدْرِيسِ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ
يُسَلِّمَ عليه
وَلَوْ سَلَّمَ لَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ لِمَا قُلْنَا بِخِلَافِ الْأَمِيرِ إذَا
جَلَسَ فَدَخَلَ عليه الناس أنهم يُسَلِّمُونَ عليه وهو السُّنَّةُ وَإِنْ كان
سَلَاطِينُ زَمَانِنَا يَكْرَهُونَ التَّسْلِيمَ عليهم وهو خَطَأٌ منهم
لِأَنَّهُمْ جَلَسُوا لِلزِّيَارَةِ وَمِنْ سُنَّةِ الزَّائِرِ التَّسْلِيمُ على
من دخل عليه
وَأَمَّا الْقَاضِي فَإِنَّمَا جَلَسَ لِلْعِبَادَةِ لَا لِلزِّيَارَةِ فَلَا
يُسَنُّ التَّسْلِيمُ عليه وَلَا يَلْزَمُهُ الْجَوَابُ إنْ سَلَّمُوا لَكِنْ لو
أَجَابَ جَازَ
وَمِنْهَا أَنْ يَسْأَلَ الْقَاضِي عن حَالِ الشُّهُودِ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ
وَالْقِصَاصِ وَإِنْ لم يَطْعَنْ الْخَصْمُ وهو من آدَابِ الْقَاضِي عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ وَإِنْ كان
جَائِزًا عِنْدَهُ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعَدَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ
أَفْضَلُ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَهُوَ من وَاجِبَاتِ الْقَضَاءِ
وَكَذَا إذَا طَعَنَ الْخَصْمُ عِنْدَهُ في غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وفي
الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ طَعَنَ أو لم يَطْعَنْ ثُمَّ الْقُضَاةُ من السَّلَفِ
كَانُوا يَسْأَلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ عن حَالِ الشُّهُودِ من أَهْلِ مَحَلَّتِهِمْ
وَأَهْلِ سُوقِهِمْ وَإِنْ كان الشَّاهِدُ سُوقِيًّا مِمَّنْ هو أَتْقَى الناس
وَأَوْرَعُهُمْ وَأَعْظَمُهُمْ أَمَانَةً وَأَعْرَفُهُمْ بِأَحْوَالِ الناس
ظَاهِرًا وباطنا وَالْقُضَاةُ في زَمَانِنَا نُصِبُوا لِلْعَدْلِ تَيْسِيرًا
لِلْأَمْرِ عليهم لِمَا يَتَعَذَّرُ على الْقَاضِي طَلَبُ الْمُعَدِّلِ في كل
شَاهِدٍ فَاسْتَحْسَنُوا نَصْبَ الْعَدْلِ
ثُمَّ نَقُولُ لِلتَّعْدِيلِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَدْلِ
وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى فِعْلِ
____________________
(7/10)
التَّعْدِيلِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَنْوَاعٌ منها الْعَقْلُ
وَمِنْهَا الْبُلُوغُ
وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ
فَلَا يَجُوزُ تَعْدِيلُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ
لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ إن كانت تَجْرِي مَجْرَى الشَّهَادَةِ فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا
من أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَلَا يَكُونُونَ من أَهْلِ التَّزْكِيَةِ
وَإِنْ كانت من بَابِ الْإِخْبَارِ عن الدِّيَانَاتِ فَخَبَرُهُمْ في الدِّيَانَاتِ
غَيْرُ مَقْبُولٍ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فيه من الْعَدَالَةِ وَلَا عَدَالَةَ
لِهَؤُلَاءِ
وَمِنْهَا الْعَدَالَةُ لِأَنَّ من لَا يَكُونُ عَدْلًا في نَفْسِهِ كَيْف
يَعْدِلُ غَيْرَهُ
وَأَمَّا الْعَدَدُ فَلَيْسَ بِشَرْطِ الْجَوَازِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ لَكِنَّهُ شَرَطُ الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ شَرْطُ
الْجَوَازِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ التَّزْكِيَةَ في مَعْنَى الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عن
أَمْرٍ غَابَ عن عِلْمِ الْقَاضِي وَهَذَا مَعْنَى الشَّهَادَةِ فَيُشْتَرَطُ لها
نِصَابُ الشَّهَادَةِ
وَلَهُمَا أَنَّ التَّزْكِيَةَ لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا
يُشْتَرَطُ فيه لَفْظُ الشَّهَادَةِ فَلَا يَلْزَمُ فيها الْعَدَدُ على أَنَّ
شَرْطَ الْعَدَدِ في الشَّهَادَاتِ ثَبَتَ نَصًّا غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى فِيمَا
يُشْتَرَطُ فيه لَفْظُ الشَّهَادَةِ فَلَا يَلْزَمُ مُرَاعَاةُ الْعَدَدِ فِيمَا
وَرَاءَهُ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الْعَدَدُ في التُّرْجُمَانِ وَحَامِلِ الْمَنْشُورِ
أَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ شَرْطٌ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ
حُرِّيَّةُ الْمُعَدِّلِ وَبَصَرُهُ وَسَلَامَتُهُ عن حَدِّ الْقَذْفِ أَنَّهُ ليس
بِشَرْطٍ عِنْدَهُمَا فَتَصِحُّ تَزْكِيَةُ الْأَعْمَى وَالْعَبْدِ وَالْمَحْدُودِ
في الْقَذْفِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ شَرْطٌ فَلَا تَصِحُّ تَزْكِيَتُهُمْ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ
شَهَادَةٌ عِنْدَهُ فَيُشْتَرَطُ لها ما يُشْتَرَطُ لِسَائِرِ الشَّهَادَاتِ
وَعِنْدَهُمَا لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ فَلَا يُرَاعَى فيها شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ
لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ التَّزْكِيَةِ فَتَجُوزُ
تَزْكِيَةُ الْمَرْأَةِ إذَا كانت امْرَأَةً تَخْرُجُ لِحَوَائِجِهَا وَتُخَالِطُ
الناس فَتَعْرِفُ أَحْوَالَهُمْ وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ على أَصْلِهَا
لِأَنَّ هذا من بَابِ الْإِخْبَارِ عن الدِّيَانَاتِ وَهِيَ من أَهْلِهِ
وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَتُقْبَلُ تَزْكِيَتُهَا فِيمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا
فَتَصِحُّ تَزْكِيَتُهَا فِيمَا يُقْبَلُ فيه شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ
وَتَجُوزُ تَزْكِيَةُ الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ وَالْوَالِدِ لِلْوَلَدِ وَكُلِّ ذِي
رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْعَدْلِ في التَّعْدِيلِ إنَّمَا هو
حَقُّ الْمُدَّعِي فَلَا يُوجِبُ تُهْمَةً فيه
وَهَذَا يُشْكِلُ على أَصْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ يُجْرِي التَّعْدِيلَ مَجْرَى
الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَعَكْسُهُ لَا تُقْبَلُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ المزكي مَشْهُودًا عليه فَإِنْ كان لم تُعْتَبَرْ
تَزْكِيَتُهُ وَيَجِبُ السُّؤَالُ وَهَذَا تَفْرِيعٌ على مَذْهَبِ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِنَاءً على أَنَّ
الْمَسْأَلَةَ ما وَجَبَتْ حَقًّا لِلْمَشْهُودِ عليه عِنْدَهُمَا وَإِنَّمَا
وَجَبَتْ حَقًّا لِلشَّرْعِ وَحَقُّ الشَّرْعِ لَا يَتَأَدَّى بِتَعْدِيلِهِ
لِأَنَّ في زَعْمِ الْمُدَّعِي وَالشُّهُودِ أَنَّهُ كَاذِبٌ في إنْكَارِهِ فَلَا
يَصِحُّ تَعْدِيلُهُ
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ السُّؤَالُ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ حَقُّ
الْمَشْهُودِ عليه وَحَقُّ الْإِنْسَانِ لَا يُطْلَبُ إلَّا بِطَلَبِهِ فما لم
يَطْعَنْ لَا يَتَحَقَّقُ الطَّلَبُ فَلَا تَجِبُ الْمَسْأَلَةُ
وَذَكَرَ في كِتَابِ التَّزْكِيَةِ أَنَّ الْمَشْهُودَ عليه إذَا قال لِلشَّاهِدِ
هو عَدْلٌ لَا يكتفي بِهِ ما لم يَنْضَمَّ إلَيْهِ آخَرُ على قَوْلِ مُحَمَّدٍ
فَصَارَ عن مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ لَا تُعْتَبَرُ أَصْلًا وفي
رِوَايَةٍ يُقْبَلُ تَعْدِيلُهُ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ
وَأَمَّا الثَّانِي الذي يَرْجِعُ إلَى فِعْلِ التَّعْدِيلِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ
الْمُعَدِّلُ في التَّعْدِيلِ هو عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ حتى لو قال هو
عَدْلٌ ولم يَقُلْ جَائِزُ الشَّهَادَةِ لَا يُقْبَلُ تَعْدِيلُهُ لِجَوَازِ أَنْ
يَكُونَ الْإِنْسَانُ عَدْلًا في نَفْسِهِ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ
كَالْمَحْدُودِ في الْقَذْفِ إذَا تَابَ وَصَلُحَ وَالْعَبْدُ الصَّالِحُ
وَكَذَلِكَ إذَا قال في الرَّدِّ هو ليس بِعَدْلٍ لَا يَرُدُّ ما لم يَقُلْ هو
غَيْرُ جَائِزِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ غير الْعَدْلِ وهو الْفَاسِقُ تَجُوزُ
شَهَادَتُهُ إذَا تَحَرَّى الْقَاضِي الصِّدْقَ في شَهَادَتِهِ وَلَوْ قَضَى بِهِ
الْقَاضِي يَنْفُذُ
وَمِنْهَا أَنْ يَسْأَلَ الْمُعَدِّلَ في السِّرِّ أَوَّلًا فَإِنْ وَجَدَهُ
عَدْلًا يَعْدِلُهُ في الْعَلَانِيَةِ أَيْضًا وَيَجْمَعُ بين المزكي وَالشُّهُودِ
وَبَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عليه في تَعْدِيلِ الْعَلَانِيَةِ وَإِنْ لم
يَجِدْهُ عَدْلًا يقول لِلْمُدَّعِي زِدْ في شُهُودِكَ وَلَا يَكْشِفُ عن حَالِ
الْمَجْرُوحِ سَتْرًا على الْمُسْلِمِ وَلَا يَكْتَفِي بِتَعْدِيلِ السِّرِّ
خَوْفًا من الِاحْتِيَالِ وَالتَّزْوِيرِ بِأَنْ يُسَمِّيَ غير الْعَدْلِ بِاسْمِ
الْعَدْلِ فَكَانَ الْأَدَبُ هو التَّزْكِيَةُ في الْعَلَانِيَةِ بَعْدَ التَّزْكِيَةِ
في السِّرِّ
وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمُعَدِّلَانِ فَعَدَّلَهُ أَحَدُهُمَا وَجَرَّحَهُ الْآخَرُ
سَأَلَ الْقَاضِي غَيْرَهُمَا فَإِنْ عَدَّلَهُ آخَرُ أَخَذَ بِالتَّزْكِيَةِ
وَإِنْ جَرَّحَهُ آخَرُ أَخَذَ بِالْجَرْحِ لِأَنَّ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ أَوْلَى
من خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْقَبُولِ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ وَإِنْ انْضَمَّ
إلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلٌ آخَرُ فَعَدَّلَهُ اثْنَانِ وَجَرَّحَهُ
اثْنَانِ عَمِلَ بِالْجَرْحِ لِأَنَّ الْجَارِحَ يَعْتَمِدُ حَقِيقَةَ الْحَالِ
وَالْمُعَدِّلُ يَبْنِي الْأَمْرَ على الظَّاهِرِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ من حَالِ
الْإِنْسَانِ أَنْ يُظْهِرَ الصَّلَاحَ وَيَكْتُمَ الْفِسْقَ
فَكَانَ قَبُولُ قَوْلِ الْجَارِحِ أَوْلَى
كَذَلِكَ لو جَرَّحَهُ اثْنَانِ وَعَدَّلَهُ ثَلَاثَةٌ أو أَرْبَعَةٌ أو أَكْثَرُ
يَعْمَلُ بِقَوْلِ الْجَارِحِ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ لَا يَقَعُ بِكَثْرَةِ
الْعَدَدِ في بَابِ الشَّهَادَةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَجْلِسَ معه جَمَاعَةٌ من أَهْلِ الْفِقْهِ يُشَاوِرُهُمْ
وَيَسْتَعِينُ بِرَأْيِهِمْ فِيمَا يَجْهَلُهُ =ج20=
ج20. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
من
الْأَحْكَامِ وقد نَدَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ إلَى الْمُشَاوِرَةِ بِقَوْلِهِ { وَشَاوِرْهُمْ في الْأَمْرِ } مع
انْفِتَاحِ بَابِ الْوَحْيِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ
عنه أَنَّهُ قال ما رأيت أَحَدًا بَعْدَ رسول اللَّهِ أَكْثَرَ مُشَاوَرَةً
لِأَصْحَابِهِ منه
وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه السلام كان يقول لِسَيِّدِنَا أبي بَكْرٍ وَسَيِّدِنَا
عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما قُولَا فَإِنِّي فِيمَا لم يُوحَ إلى
مِثْلُكُمَا وَلِأَنَّ الْمُشَاوَرَةَ في طَلَبِ الْحَقِّ من بَابِ الْمُجَاهَدَةِ
في اللَّهِ عز وجل فَيَكُونُ سَبَبًا لِلْوُصُولِ إلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ قال
اللَّهُ عز وجل { وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }
وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْلِسَ معه من يُوثَقُ بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ لِئَلَّا
يَضِنَّ بِمَا عِنْدَهُ من الْحَقِّ والثواب ( ( ( والصواب ) ) ) بَلْ يَهْدِيهِ
إلَى ذلك إذَا رُفِعَ إلَيْهِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشَاوِرَهُمْ بِحَضْرَةِ
الناس لِأَنَّ ذلك يُذْهِبُ بِمَهَابَةِ الْمَجْلِسِ وَالنَّاسُ يَتَّهِمُونَهُ
بِالْجَهْلِ وَلَكِنْ يُقِيمُ الناس عن الْمَجْلِسِ ثُمَّ يُشَاوِرُهُمْ أو
يَكْتُبُ في رُقْعَةٍ فَيَدْفَعُ إلَيْهِمْ أو يُكَلِّمُهُمْ بِلُغَةٍ لَا
يَفْهَمُهَا الْخَصْمَانِ
هذا إذَا كان الْقَاضِي لَا يَدْخُلُهُ حَصْرٌ بِإِجْلَاسِهِمْ عِنْدَهُ وَلَا
يَعْجِزُ عن الْكَلَامِ بين أَيْدِيهِمْ فَإِنْ كان لَا يُجْلِسُهُمْ فَإِنْ
أُشْكِلَ عليه شَيْءٌ من أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ بَعَثَ إلَيْهِمْ وَسَأَلَهُمْ
ومنها ( ( ( ومنه ) ) ) أَنْ يَكُونَ له جِلْوَازٌ وهو الْمُسَمَّى بِصَاحِبِ الْمَجْلِسِ
في عُرْفِ دِيَارِنَا يَقُومُ على رَأْسِ الْقَاضِي لِتَهْذِيبِ الْمَجْلِسِ
وَبِيَدِهِ سَوْطٌ يُؤَدِّبُ بِهِ الْمُنَافِقَ وَيُنْذِرُ بِهِ الْمُؤْمِنَ
وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان يَمْسِكُ بيده سَوْطًا يُنْذِرُ بِهِ
الْمُؤْمِنَ وَيُؤَدِّبُ بِهِ الْمُنَافِقَ
وكان سَيِّدُنَا أبو بَكْرٍ يَمْسِكُ سَوْطًا وَسَيِّدُنَا عُمَرُ اتَّخَذَ
دِرَّةً وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ له أَعْوَانٌ يَسْتَحْضِرُونَ الْخُصُومَ
وَيَقُومُونَ بين يَدَيْهِ إجْلَالًا له لِيَكُونَ مَجْلِسًا مَهِيبًا وَيُذْعِنُ
الْمُتَمَرِّدُ لِلْحَقِّ
وَهَذَا في زَمَانِنَا فَأَمَّا في زَمَانِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ فما كان تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى أَمْثَالِ ذلك لِأَنَّهُمْ
كَانُوا يَنْظُرُونَ إلَى الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ بِعَيْنِ التَّبْجِيلِ
وَالتَّعْظِيمِ وَيَخَافُونَهُمْ وَيَنْقَادُونَ لِلْحَقِّ بِدُونِ ذلك
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه كان يَقْضِي في
الْمَسْجِدِ فإذا فَرَغَ اسْتَلْقَى على قَفَاهُ وَتَوَسَّدَ بِالْحَصَى وما كان
يَنْقُصُ ذلك من حُرْمَتِهِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَبِسَ قَمِيصًا فَازْدَادَتْ أَكْمَامُهُ عن أَصَابِعِهِ
فَدَعَا بِالشَّفْرَةِ فَقَطَعَهُمَا وكان لَا يَكْفِهِمَا أَيَّامًا وَكَانَتْ
الْأَطْرَافُ مُتَعَلِّقَةً منها وَالنَّاسُ يَهَابُونَهُ غَايَةَ الْمَهَابَةِ
فَأَمَّا الْيَوْمُ فَقَدْ فَسَدَ الزَّمَانُ وَتَغَيَّرَ الناس فَهَانَ الْعِلْمُ
وَأَهْلُهُ فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى هذه التَّكْلِيفَاتِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى
إحْيَاءِ الْحَقِّ وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ من الظَّالِمِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ له تُرْجُمَانٌ لِجَوَازِ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ
الْقَضَاءِ من لَا يَعْرِفُ الْقَاضِي لُغَتَهُ من الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عليه
وَالشُّهُودِ وَالْكَلَامُ في عَدَدِ التُّرْجُمَانِ وَصِفَاتِهِ على الِاتِّفَاقِ
وَالِاخْتِلَافِ كَالْكَلَامِ في عَدَدِ المزكي وَصِفَاتِهِ كما تَقَدَّمَ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُحَافَظَةِ الدعاوي
وَالْبَيِّنَاتِ وَالْإِقْرَارَاتِ التي لَا يُمْكِنُهُ حِفْظُهَا فَلَا بُدَّ من
الْكِتَابَةِ وقد يَشُقُّ عليه أَنْ يَكْتُبَ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجَ إلَى كَاتِبٍ
يَسْتَعِينُ بِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَفِيفًا صَالِحًا من أَهْلِ
الشَّهَادَةِ وَلَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ
أَمَّا الْعِفَّةُ وَالصَّلَاحُ فَلِأَنَّ هذا من بَابِ الْأَمَانَةِ
وَالْأَمَانَةُ لَا يُؤَدِّيهَا إلَّا الْعَفِيفُ الصَّالِحُ
وَأَمَّا أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ فَلِأَنَّ الْقَاضِيَ قد يَحْتَاجُ إلَى
شَهَادَتِهِ
وَأَمَّا مَعْرِفَتُهُ بِالْفِقْهِ فَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الِاخْتِصَارِ
وَالْحَذْفِ من كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ وَالنَّقْلِ من لُغَةٍ وَلَا يَقْدِرُ على
ذلك إلَّا من له مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ فَإِنْ لم يَكُنْ فَقِيهًا كَتَبَ كَلَامَ
الْخَصْمَيْنِ كما سَمِعَهُ وَلَا يَتَصَرَّفُ فيه بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ
لِئَلَّا يُوجِبَ حَقًّا لم يَجِبْ وَلَا يُسْقِطَ حَقًّا وَاجِبًا
لِأَنَّ تَصَرُّفَ غَيْرِ الْفَقِيهِ بِتَفْسِيرِ الْكَلَامِ لَا يَخْلُو عن ذلك
وَيَنْبَغِي أَنْ يُقْعِدَ الْكَاتِبَ حَيْثُ يَرَى ما يَكْتُبُ وما يَصْنَعُ فإن
ذلك أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ ثُمَّ في عُرْفِ بِلَادِنَا يُقَدِّمُ كِتَابَةَ
الدَّعْوَى على الدَّعْوَى فَيَكْتُبُ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَيَتْرُكُ مَوْضِعَ
التَّارِيخِ بَيَاضًا لِجَوَازِ أَنْ تَتَخَلَّفَ الدَّعْوَى عن وَقْتِ
الْكِتَابَةِ وَيَتْرُكُ مَوْضِعَ الْجَوَابِ أَيْضًا بَيَاضًا لِأَنَّهُ لَا
يَدْرِي أَنَّ الْمُدَّعَى عليه يُقِرُّ أو يُنْكِرُ وَيَكْتُبُ أَسْمَاءَ
الشُّهُودِ إنْ كان لِلْمُدَّعِي شُهُودٌ وَيَتْرُكُ بين كل شَاهِدَيْنِ بَيَاضًا
لِيَكْتُبَ الْقَاضِي التَّارِيخَ وَجَوَابَ الْخَصْمِ وَشَهَادَةَ الشُّهُودِ
بِنَفْسِهِ ثُمَّ يَطْوِي الْكَاتِبُ الْكِتَابَ وَيَخْتِمُهُ ثُمَّ يَكْتُبُ على
ظَهْرِهِ خُصُومَةُ فُلَانِ ابن ( ( ( بن ) ) ) فُلَانٍ مع فُلَانِ ابن ( ( ( بن )
) ) فُلَانٍ في شَهْرِ كَذَا في سَنَةِ كَذَا وَيَجْعَلُهُ في قِمْطَرَةٍ
وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ لِخُصُومَاتِ كل شَهْرٍ قِمْطَرًا على حِدَةٍ لِيَكُونَ
أَبْصَرَ بِذَلِكَ ثُمَّ يَكْتُبُ الْقَاضِي في ذلك الشَّهْرِ أَسْمَاءَ
الشُّهُودِ بِنَفْسِهِ على بِطَاقَةٍ أو يَسْتَكْتِبُ الْكِتَابَ بين يَدَيْهِ
فَيَبْعَثُهَا إلَى الْمُعَدِّلِ سِرًّا وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْمَسْتُورَةِ في
عُرْفِ دِيَارِنَا وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَبْعَثَ
على يَدَيْ عَدْلَيْنِ وَإِنْ بَعَثَ على يَدَيْ عَدْلٍ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ
الذي ذَكَرْنَا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يُقَدِّمَ الْخُصُومَ على مَرَاتِبِهِمْ في الْحُضُورِ الْأَوَّلَ
فَالْأَوَّلَ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُبَاحُ لِمَنْ سَبَقَ
إلَيْهِ وَإِنْ اشْتَبَهَ عليه حَالُهُمْ اسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ فَقَدَّمَ من
خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ إلَّا الْغُرَبَاءَ إذَا خَاصَمُوا بَعْضَ أَهْلِ الْمِصْرِ
إلَيْهِ أو خَاصَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أو خَاصَمَهُمْ بَعْضُ أَهْلِ الْمِصْرِ
فإنه يُقَدِّمُهُمْ في الْخُصُومَةِ على أَهْلِ الْمِصْرِ لِمَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا
عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال قَدِّمْ الْغَرِيبَ فَإِنَّك إذَا لم تَرْفَعْ
بِهِ رَأْسًا ذَهَبَ وَضَاعَ حَقُّهُ فَتَكُونُ أنت الذي ضَيَّعْتَهُ
نَدَبَ رضي اللَّهُ عنه إلَى تَقْدِيمِ الْغَرِيبِ وَنَبَّهَ على الْمَعْنَى
لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِظَارُ فَكَانَ تَأْخِيرُهُ في الْخُصُومَةِ
تَضْيِيعًا لِحَقِّهِ إلَّا إذَا كَانُوا كَثِيرًا بِحَيْثُ يَشْتَغِلُ الْقَاضِي
عن أَهْلِ الْمِصْرِ فَيَخْلِطُهُمْ بِأَهْلِ الْمِصْرِ لِأَنَّ تَقْدِيمَهُمْ
يَضُرُّ بِأَهْلِ الْمِصْرِ
وَكَذَا تَقْدِيمُ صَاحِبِ الشُّهُودِ على غَيْرِهِ لِأَنَّ إكْرَامَ الشُّهُودِ
وَاجِبٌ
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَكْرِمُوا الشُّهُودَ فإن اللَّهَ يحيي ( ( (
يحي ) ) ) بِهِمْ الْحُقُوقَ وَلَيْسَ من الْإِكْرَامِ حَبْسُهُمْ على بَابِ
الْقَاضِي
وَهَذَا إذَا كان وَاحِدًا فَإِنْ كَانُوا كَثِيرًا أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ
وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ الرِّجَالَ على حِدَةٍ وَالنِّسَاءَ على حِدَةٍ لِمَا
في الْخَلْطِ من خَوْفِ الْفِتْنَةِ
وَلَوْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُنَّ يَوْمًا على حِدَةٍ لِكَثْرَةِ الْخُصُومِ
فَعَلَ لِأَنَّ إفْرَادَهُنَّ بِيَوْمٍ أَسْتَرُ لَهُنَّ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يُتْعِبَ نَفْسَهُ في طُولِ الْجُلُوسِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ
إلَى النَّظَرِ في الْحُجَجِ وَبِطُولِ الْجُلُوسِ يَخْتَلُّ النَّظَرُ فيها فَلَا
يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ ذلك وَيَكْفِي الْجُلُوسُ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَقَدْرَ
ما لَا يَفْتُرُ عن النَّظَرِ في الْحُجَجِ وإذا تَقَدَّمَ إلَيْهِ الْخَصْمَانِ
هل يَسْأَلُ الْمُدَّعِي عن دَعْوَاهُ ذَكَرَ في أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّهُ
يَسْأَلُ وَذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ
وَكَذَا إذَا ادَّعَى دَعْوَى صَحِيحَةً هل يَسْأَلُ الْمُدَّعَى عليه عن دَعْوَى
خَصْمِهِ ذَكَرَ في آدَابِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَسْأَلُ وَذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ
أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ حتى يَقُولَ له الْمُدَّعِي سَلْهُ عن جَوَابِ دَعْوَايَ
وَجْهُ ما ذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّ السُّؤَالَ عن الدَّعْوَى إنْشَاءُ
الْخُصُومَةِ وَالْقَاضِي لَا ينشىء ( ( ( ينشئ ) ) ) الْخُصُومَةَ
وَجْهُ ما ذَكَرَ في الْكِتَابِ أَنَّ من الْجَائِزِ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ
يَلْحَقُهُ مَهَابَةُ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَيَعْجِزُ عن الْبَيَانِ دُونَ سُؤَالِ
الْقَاضِي فَيَسْأَلُ عن دَعْوَاهُ
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَادَّعَى الْمُدَّعَى
عليه الدَّفْعَ وقال لين ( ( ( لي ) ) ) بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ أَمْهَلَهُ زَمَانًا
لِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه في كِتَابِ السِّيَاسَةِ اجْعَلْ
لِلْمُدَّعِي أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ وَأَرَادَ بِهِ مُدَّعِي الدَّفْعَ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قال وَإِنْ عَجَزَ اسْتَحْلَلْتَ عليه الْقَضَاءَ وَلِأَنَّهُ
لو لم يُمْهِلْهُ وَقَضَى بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي رُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى نَقْضِ
قَضَائِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَأْتِيَ بِالدَّفْعِ مُؤَخَّرًا فَهُوَ من صِيَانَةِ
الْقَضَاءِ عن النَّقْضِ
ثُمَّ ذلك مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي إنْ شَاءَ أَخَّرَ إلَى آخِرِ
الْمَجْلِسِ وَإِنْ شَاءَ إلَى الْغَدِ وَإِنْ شَاءَ إلَى بَعْدِ الْغَدِ وَلَا
يَزِيدُ عليه لِأَنَّ الْحَقَّ قد تَوَجَّهَ عليه فَلَا يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ
أَكْثَرَ من ذلك وَإِنْ أَدَّى بِبَيِّنَةٍ غَائِبَةٍ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ بَلْ
يَقْضِي لِلْمُدَّعِي
وَمِنْهَا أَنْ يَجْلِسَ لِلْقَضَاءِ في أَشْهَرِ الْمَجَالِسِ لِيَكُونَ أَرْفَقَ
بِالنَّاسِ وَهَلْ يَقْضِي في الْمَسْجِدِ قال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ
يَقْضِي وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَقْضِي بَلْ يَقْضِي في
بَيْتِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَأْتِيهِ الْمُشْرِكُ وَالْحَائِضُ
وَالنُّفَسَاءُ وَالْجُنُبُ وَيَجْرِي بين الْخَصْمَيْنِ كَلَامُ اللَّغْوِ
وَالرَّفَثُ وَالْكَذِبُ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ وَتَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عن
هذا كُلِّهِ وَاجِبٌ
وَلَنَا الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ وَالصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي اللَّهُ
تعالى عَنْهُمْ فإن رَسُولَ اللَّهِ كان يَقْضِي في الْمَسْجِدِ وَكَذَا
الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
كَانُوا يَجْلِسُونَ في الْمَسْجِدِ لِلْقَضَاءِ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ وَاجِبٌ
وَلَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَرُدَّ الْخُصُومَ إلَى الصُّلْحِ إنْ طَمَعَ منهم
ذلك قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فَكَانَ الرَّدُّ
إلَى الصُّلْحِ رَدًّا إلَى الْخَيْرِ
وقال سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه رُدُّوا الْخُصُومَ حتى يَصْطَلِحُوا فإن
فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورِثُ بَيْنَهُمْ الضَّغَائِنَ
فَنَدَبَ رضي اللَّهُ عنه الْقُضَاةَ إلَى رَدِّ الْخُصُومِ إلَى الصُّلْحِ
وَنَبَّهَ على الْمَعْنَى وهو حُصُولُ الْمَقْصُودِ من غَيْرِ ضَغِينَةٍ وَلَا
يَزِيدُ على مَرَّةٍ أو مَرَّتَيْنِ فَإِنْ اصْطَلَحَا وَإِلَّا قَضَى بَيْنَهُمَا
بِمَا يُوجِبُ الشَّرْعُ وَإِنْ لم يَطْمَعْ منهم الصُّلْحَ لَا يَرُدُّهُمْ
إلَيْهِ بَلْ يَنْفُذُ الْقَضِيَّةَ فِيهِمْ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ في الرَّدِّ
وَهَلْ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ الرِّزْقَ فَإِنْ كان فَقِيرًا له أَنْ يَأْخُذَ
لِأَنَّهُ يَعْمَلُ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بُدَّ له من الْكِفَايَةِ وَلَا كِفَايَةَ
له فَكَانَتْ كِفَايَتُهُ في بَيْتِ الْمَالِ إلَّا أَنْ يَكُونَ له ذلك أُجْرَةَ
عَمَلِهِ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُوَسِّعَ عليه وَعَلَى عِيَالِهِ كيلا
يَطْمَعَ في أَمْوَالِ الناس
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا بَعَثَ عَتَّابَ
بن أُسَيْدٍ رضي اللَّهُ عنه إلَى مَكَّةَ وَوَلَّاهُ أَمْرَهَا رَزَقَهُ
أَرْبَعَمِائَةَ دِرْهَمٍ في كل عَامٍ
وَرُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ الْكِرَامَ رضي اللَّهُ تعالى عَنْهُمْ أَجَرُوا
لِسَيِّدِنَا أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا
وَثُلُثًا أو ثُلُثَيْنِ من بَيْتِ الْمَالِ
وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ كان لِسَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه مِثْلُ ذلك من
بَيْتِ الْمَالِ وكان لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه كُلَّ يَوْمٍ قَصْعَةٌ
من ثَرِيدٍ وَرَزَقَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه شُرَيْحًا
وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا فَرَضَ له خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ في كل
شَهْرٍ وَإِنْ كان غَنِيًّا اخْتَلَفُوا فيه قال بَعْضُهُمْ لَا يَحِلُّ له أَنْ
يَأْخُذَ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِحُكْمِ الْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ له إلَى ذلك
وقال بَعْضُهُمْ يَحِلُّ له الْأَخْذُ وَالْأَفْضَلُ له أَنْ يَأْخُذَ
أَمَّا الْحِلُّ فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ
كِفَايَتُهُ عليهم لَا من طَرِيقِ الْأَجْرِ وَأَمَّا الْأَفْضَلِيَّةُ
فَلِأَنَّهُ وَإِنْ لم يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَى ذلك فَرُبَّمَا يَجِيءُ بَعْدَهُ
قَاضٍ مُحْتَاجٌ وقد صَارَ ذلك سُنَّةً وَرَسْمًا فَتَمْتَنِعُ السَّلَاطِينُ عن
إبْطَالِ رِزْقِ الْقُضَاةِ إلَيْهِمْ خُصُوصًا سَلَاطِينُ زَمَانِنَا فَكَانَ
الِامْتِنَاعُ من الْأَخْذِ شُحًّا بِحَقِّ الْغَيْرِ فَكَانَ الْأَفْضَلُ هو
الْأَخْذُ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ إلَّا إذَا أَذِنَ له الْإِمَامُ
بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِالتَّفْوِيضِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ ما فُوِّضَ
إلَيْهِ كَالْوَكِيلِ
وَلَوْ اسْتَخْلَفَ تَتَوَقَّفُ قَضَايَا خَلِيفَتِهِ على إجَازَتِهِ بِمَنْزِلَةِ
الْوَكِيلِ الْخَاصِّ إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ فَتَصَرَّفَ
وَلَوْ كان الْإِمَامُ أَذِنَ له بِذَلِكَ كان له ذلك كَالْوَكِيلِ الْعَامِّ وفي
آدَابِ الْقَضَاءِ وما نَدَبَ الْقَاضِي إلَى فِعْلِهِ كَثْرَةً لها كِتَابٌ
مُفْرَدٌ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَنْفُذُ من الْقَضَايَا وما يُنْقَضُ منها إذَا
رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ قَضَاءُ الْقَاضِي
الْأَوَّلِ لَا يَخْلُو أما إن وَقَعَ في فَصْلٍ فيه نَصٌّ مُفَسَّرٌ من
الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ وأما إن
وَقَعَ في فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فيه من ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَالْقِيَاسِ فَإِنْ
وَقَعَ في فَصْلٍ فيه نَصٌّ مُفَسَّرٌ من الْكِتَابِ أو الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ
أو الْإِجْمَاعِ فَإِنْ وَافَقَ قَضَاؤُهُ ذلك نَفَذَ وَلَا يَحِلُّ له النَّقْضُ
لِأَنَّهُ وَقَعَ صَحِيحًا قَطْعًا وَإِنْ خَالَفَ شيئا من ذلك يَرُدُّهُ
لِأَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا قَطْعًا وَإِنْ وَقَعَ في فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فيه فَلَا
يَخْلُو إمَّا إن كان مُجْمَعًا على كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فيه وَإِمَّا إن كان مُخْتَلَفًا
في كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فيه فَإِنْ كان ذلك مُجْمَعًا على كَوْنِهِ مَحِلَّ
الِاجْتِهَادِ فَإِمَّا إن كان الْمُجْتَهَدُ فيه هو الْمَقْضِيُّ بِهِ وَإِمَّا
إن كان نَفْسَ الْقَضَاءِ فَإِنْ كان الْمُجْتَهِدُ فيه هو الْمَقْضِيُّ بِهِ
فَرُفِعَ قَضَاؤُهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ لم يَرُدَّهُ الثَّانِي بَلْ يُنَفِّذُهُ
لِكَوْنِهِ قَضَاءً مُجْمَعًا على صِحَّته لِمَا عُلِمَ أَنَّ الناس على
اخْتِلَافِهِمْ في الْمَسْأَلَةِ اتَّفَقُوا على أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ
بِأَيِّ الْأَقْوَالِ الذي مَالَ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَكَانَ قضاء ( ( ( قضاؤه )
) ) مُجْمَعًا على صِحَّته فَلَوْ نَقَضَهُ إنَّمَا يَنْقُضُهُ بِقَوْلِهِ وفي
صِحَّتِهِ اخْتِلَافٌ بين الناس فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ ما صَحَّ بِالِاتِّفَاقِ
بِقَوْلٍ مُخْتَلَفٍ في صِحَّتِهِ وَلِأَنَّهُ ليس مع الثَّانِي دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ
بَلْ اجْتِهَادِيٌّ وَصِحَّةُ قَضَاءِ الْقَاضِي الْأَوَّلِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ
قَطْعِيٍّ وهو إجْمَاعُهُمْ على جَوَازِ الْقَضَاءِ بِأَيِّ وَجْهٍ اتَّضَحَ له
فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ ما مَضَى بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ بِمَا فيه شُبْهَةٌ وَلِأَنَّ
الضَّرُورَةَ تُوجِبُ الْقَوْلَ بِلُزُومِ الْقَضَاءِ الْمَبْنِيِّ على
الِاجْتِهَادِ وَأَنْ لَا يَجُوزَ نَقْضُهُ لِأَنَّهُ لو جَازَ نَقْضُهُ
يَرْفَعُهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَ رَأْيِ الْأَوَّلِ فَيَنْقُضُهُ ثُمَّ
يَرْفَعُهُ الْمُدَّعِي إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَ رَأْيِ الْقَاضِي
الثَّانِي فَيَنْقُضُ نَقْضَهُ وَيَقْضِي كما قَضَى الْأَوَّلُ فَيُؤَدِّي إلَى
أَنْ لَا تَنْدَفِعَ الْخُصُومَةُ وَالْمُنَازَعَةُ أَبَدًا وَالْمُنَازَعَةُ
سَبَبُ الْفَسَادِ وما أَدَّى إلَى الْفَسَادِ فَسَادٌ فَإِنْ كان رَدَّهُ
الْقَاضِي الثَّانِي فَرَفَعَهُ إلَى قَاضٍ ثَالِثٍ نَفَذَ قَضَاءُ الْقَاضِي
الْأَوَّلِ وَأُبْطِلَ قَضَاءُ الْقَاضِي الثَّانِي لِأَنَّ قَضَاءَ الْأَوَّلِ
صَحِيحٌ وَقَضَاءَ الثَّانِي بِالرَّدِّ بَاطِلٌ
هذا إذَا كان الْقَاضِي الْأَوَّلُ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ فَإِنْ كان قَاضِي أَهْلِ
الْبَغْيِ فَرُفِعَتْ قَضَايَاهُ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ بِأَنْ ظَهَرَ
أَهْلُ الْعَدْلِ على الْمِصْرِ الذي كان في يَدِ الْخَوَارِجِ فَرُفِعَتْ إلَى
قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ قَضَايَا قَاضِيهِمْ لم يَنْفُذْ شيئا منها بَلْ
يَنْقُضُهَا كُلَّهَا وَإِنْ كَانُوا من أَهْلِ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ في
الْجُمْلَةِ كَبْتًا وَغَيْظًا لهم لِيَنْزَجِرُوا عن الْبَغْيِ وَإِنْ كان نَفْسُ
الْقَضَاءِ مُجْتَهَدًا فيه إنه يَجُوزُ أَمْ لَا كما لو قَضَى بِالْحَجْرِ على
الْحُرِّ أو قَضَى على الْغَائِبِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي الثَّانِي أَنْ
يُنْقَضَ قَضَاءَ الْأَوَّلِ إذَا مَالَ اجْتِهَادُهُ إلَى خِلَافِ اجتهاد ( ( (
اجتهاده ) ) ) الْأَوَّلِ لِأَنَّ قَضَاءَهُ هُنَا لم يَجُزْ بِقَوْلِ الْكُلِّ
بَلْ بِقَوْلِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فلم يَكُنْ جَوَازُهُ مُتَّفَقًا عليه
فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْضِ بمثله بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ
جَوَازَ الْقَضَاءِ هُنَاكَ ثَبَتَ بِقَوْلِ الْكُلِّ فَكَانَ مُتَّفَقًا عليه
فَلَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بِقَوْلِ الْبَعْضِ وَلِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ إذَا كانت
مُخْتَلَفًا فيها فَالْقَاضِي بِالْقَضَاءِ يَقْطَعُ أخد ( ( ( أحد ) ) )
الِاخْتِلَافَيْنِ وَيَجْعَلُهُ مُتَّفَقًا عليه في الْحُكْمِ بِالْقَضَاءِ
الْمُتَّفَقِ على جَوَازِهِ وإذا كان نَفْسُ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفًا فيه يَرْفَعُ
الْخِلَافَ بِالْخِلَافِ
هذا إذَا كان الْقَضَاءُ في مَحِلٍّ أَجْمَعُوا على كَوْنِهِ
____________________
(7/14)
مَحِلَّ
الِاجْتِهَادِ فَأَمَّا إذَا كان في مَحِلٍّ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَحِلُّ
الِاجْتِهَادِ أَمْ لَا كَبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ هل يَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي
أَمْ لَا فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَنْفُذُ
لِأَنَّهُ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ عِنْدَهُمَا لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ في
جَوَازِ بيعها ( ( ( بيعهما ) ) )
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَنْفُذُ لِوُقُوعِ الِاتِّفَاقِ بَعْدَ ذلك من
الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ على أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فَخَرَجَ عن مَحِلِّ
الِاجْتِهَادِ وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ هل
يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ عِنْدَهُمَا لَا يُرْفَعُ وَعِنْدَهُ يُرْفَعُ
فَكَانَ هذا الْفَصْلُ مُخْتَلَفًا في كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فيه فَيُنْظَرُ إنْ
كان من رَأْيِ الْقَاضِي الثَّانِي أَنَّهُ يَجْتَهِدُ فيه يُنَفِّذُ قَضَاءَهُ
وَلَا يَرُدُّهُ لِمَا ذَكَرْنَا في سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ الْمُتَّفَقِ عليها
وَإِنْ كان من رَأْيِهِ أَنَّهُ خَرَجَ عن حَدِّ الِاجْتِهَادِ وَصَارَ مُتَّفَقًا
عليه لَا يُنَفِّذُ بَلْ يَرُدُّهُ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ قَضَاءَ الْأَوَّلِ
وَقَعَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ فَكَانَ بَاطِلًا
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من فَصَّلَ في الْمُجْتَهَدَاتِ تَفْصِيلًا آخَرَ فقال إنْ
كان الِاجْتِهَادُ شَنِيعًا مُسْتَنْكَرًا جَازَ لِلْقَاضِي الثَّانِي أَنْ
يَنْقُضَ قَضَاءَ الْأَوَّلِ وَهَذَا فيه نَظَرٌ لِأَنَّهُ إذَا صَحَّ كَوْنُهُ
مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ فَلَا مَعْنَى لِلْفَصْلِ بين مُجْتَهِدٍ وَمُجْتَهِدٍ
لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا
فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِلثَّانِي نَقْضُ قَضَاءِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ
قَضَاءَهُ صَادَفَ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُحِلُّهُ الْقَضَاءُ وما لَا يُحِلُّهُ فَالْأَصْلُ
أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِشَاهِدَيْ الزُّورِ فِيمَا له وِلَايَةُ إنْشَائِهِ في
الْجُمْلَةِ يُفِيدُ الْحِلَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَضَاؤُهُ
بِهِمَا فِيمَا ليس له وِلَايَةُ إنْشَائِهِ أَصْلًا لَا يُفِيدُ الْحِلَّ
بِالْإِجْمَاعِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ فِيهِمَا جميعا فَنَقُولُ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه
أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِشَاهِدَيْنِ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُمَا شَاهِدَا
زُورٍ فَلَا يَخْلُو إمَّا إن قَضَى بِعَقْدٍ أو بِفَسْخِ عَقْدٍ وَإِمَّا إن
قَضَى بِمِلْكٍ مُرْسَلٍ فَإِنْ قَضَى بِعَقْدٍ أو بِفَسْخِ عَقْدٍ فَقَضَاؤُهُ
يُفِيدُ الْحِلَّ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمْ لَا يُفِيدُ
وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ إن قَضَاءَ الْقَاضِي في الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ
بِشُهُودِ زُورٍ هل يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَهُوَ على الْخِلَافِ الذي
ذَكَرْنَا وَإِنْ قَضَى بِمِلْكٍ مُرْسَلٍ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا
بِالْإِجْمَاعِ
وَبَيَانُ هذه الجمل ( ( ( الجملة ) ) ) في مَسَائِلَ إذَا ادَّعَى رَجُلٌ على
امرأة ( ( ( امرأته ) ) ) أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فَأَنْكَرَتْ فَأَقَامَ على ذلك
شَاهِدَيْ زُورٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا وَهُمَا يَعْلَمَانِ
أَنَّهُ لَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا حَلَّ لِلرَّجُلِ وَطْؤُهَا وَحَلَّ لها
التَّمْكِينُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمْ لَا يَحِلُّ
وَكَذَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ على رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا
وهو مُنْكِرٌ فَقَضَى الْقَاضِي بالرفقة ( ( ( بالفرقة ) ) ) بَيْنَهُمَا ثُمَّ
تَزَوَّجَهَا أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ حَلَّ له وَطْؤُهَا وَإِنْ كان يَعْلَمُ أنه (
( ( أنهما ) ) ) شَهِدَا بِزُورٍ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمْ لَا يَحِلُّ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ دَعْوَى الْبَيْعِ وَالْإِعْتَاقِ
وفي الْهِبَةِ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَتَانِ وَأَجْمَعُوا على
أَنَّهُ لو ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَهِيَ تُنْكِرُ وَتَقُولُ أنا أُخْتُهُ من
الرَّضَاعِ أو أنا في عِدَّةٍ من زَوْجٍ آخَرَ فَشَهِدَ بِالنِّكَاحِ شَاهِدَانِ
وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا وَالْمَرْأَةُ تَعْلَمُ أنها كما أَخْبَرَتْ
لَا يَحِلُّ لها التَّمْكِينُ
وَأَجْمَعُوا أَيْضًا على أَنَّهُ لو ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ هذه جَارِيَتُهُ وَهِيَ
تُنْكِرُ فَأَقَامَ على ذلك شَاهِدَيْنِ وَقَضَى الْقَاضِي بِالْجَارِيَةِ أَنَّهُ
لَا يَحِلُّ له وَطْؤُهَا إذَا كان يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ في دَعْوَاهُ وَلَا
يَحِلُّ لِأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ أَيْضًا أَنْ يَشْتَرِيَهَا
احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ من
بَعْضٍ وَإِنَّمَا أنا بَشَرٌ فَمَنْ قَضَيْتُ له من مَالِ أَخِيهِ شيئا بِغَيْرِ
حَقٍّ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ له قِطْعَةً من النَّارِ
أَخْبَرَ الشَّارِعُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الْقَضَاءَ بِمَا ليس
لِلْمُدَّعِي قَضَاءٌ له بِقِطْعَةٍ من النَّارِ
وَلَوْ نَفَذَ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا لَمَا كان الْقَضَاءُ بِهِ قَضَاءً بِقِطْعَةٍ
من النَّارِ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَنْفُذُ بِالْحُجَّةِ وَهِيَ
الشَّهَادَةُ الصَّادِقَةُ وَهَذِهِ كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ فَلَا يَنْفُذُ حَقِيقَةً
وَلِهَذَا لم يَنْفُذْ بِالْمِلْكِ الْمُرْسَلِ
وَكَذَا إذَا كانت الْمَرْأَةُ مُحَرَّمَةً بِالْعِدَّةِ وَالرِّدَّةِ أو
الرَّضَاعِ أو الْقَرَابَةِ أو الْمُصَاهَرَةِ
كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِمَا يَحْتَمِلُ
الْإِنْشَاءَ إنْشَاءٌ له فَيَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كما لو أَنْشَأَ
صَرِيحًا
وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّ الْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ وَلَا
يَقَعُ قَضَاؤُهُ بِالْحَقِّ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ إلَّا بِالْحَمْلِ
على الْإِنْشَاءِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قد تَكُونُ صَادِقَةً وقد تَكُونُ
كَاذِبَةً فَيُجْعَلُ إنْشَاءً وَالْعُقُودُ وَالْفُسُوخُ مِمَّا تَحْتَمِلُ
الْإِنْشَاءَ من الْقَاضِي فإن لِلْقَاضِي وِلَايَةَ إنْشَائِهَا في الْجُمْلَةِ
بِخِلَافِ الْمِلْكِ الْمُرْسَلِ لِأَنَّ نَفْسَ الْمِلْكِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ
الْإِنْشَاءَ
وَلِهَذَا لو أَنْشَأَ الْقَاضِي أو غَيْرُهُ صَرِيحًا لَا يَصِحُّ وَبِخِلَافِ ما
إذَا كانت الْمَرْأَةُ مُحَرَّمَةً بِأَسْبَابٍ لِأَنَّ هُنَاكَ ليس لِلْقَاضِي
وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو أَنْشَأَ صَرِيحًا لَا يَنْفُذُ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ
____________________
(7/15)
قِيلَ
إنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال ذلك في أَخَوَيْنِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ في
مَوَارِيثَ دُرِسَتْ بَيْنَهُمَا فقال إلَى آخِرِهِ ولم يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ
إلَّا دَعْوَاهُمَا
كَذَا ذَكَرَهُ أبو دَاوُد عن أُمِّ سَلَمَةَ رضي اللَّهُ عنهما ( ( ( عنها ) ) )
وَالْمِيرَاثُ وَمُطْلَقُ الْمِلْكِ سَوَاءٌ في الدَّعْوَى وَبِهِ نَقُولُ مع
أَنَّهُ ليس فيه ذِكْرُ السَّبَبِ وَالْكَلَامُ في الْقَضَاءِ بِسَبَبٍ على أَنَّا
نَقُولُ بِمُوجِبِهِ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إنَّ الْقَضَاءَ بِسَبَبِ قَضَاءٍ له من
مَالٍ آخَرَ بِغَيْرِ حَقٍّ بَلْ هو قضاء ( ( ( قضا ) ) ) له من مَالِ نَفْسِهِ
وَبِحَقٍّ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِسَبَبِ الْمِلْكِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا فَقَدْ
قُلْنَا بِمُوجِبِ الحديث وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ خَطَأِ الْقَاضِي في الْقَضَاءِ فَنَقُولُ
الْأَصْلُ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْطَأَ في قَضَائِهِ بِأَنْ ظَهَرَ أَنَّ
الشُّهُودَ كَانُوا عَبِيدًا أو مَحْدُودِينَ في قَذْفٍ أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ
بِالضَّمَانِ لِأَنَّهُ بِالْقَضَاءِ لم يَعْمَلْ لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ
فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ فَلَا تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ
ثُمَّ يُنْظَرُ إمَّا إن كان الْمَقْضِيُّ بِهِ من حُقُوقِ الْعِبَادِ وَإِمَّا إن
كان من حُقُوقِ اللَّهِ عز وجل خَالِصًا كَالْقَطْعِ في السَّرِقَةِ وَالرَّجْمِ
في زِنَا الْمُحْصَنِ فَإِنْ كان في حُقُوقِ الْعِبَادِ فَإِنْ كان مَالًا وهو
قَائِمٌ رَدَّهُ على الْمَقْضِيِّ عليه لِأَنَّ قَضَاءَهُ وَقَعَ بَاطِلًا وَرَدُّ
عَيْنِ الْمَقْضِيِّ بِهِ مُمْكِنٌ فَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ لِقَوْلِ النبي عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ على الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تَرُدَّهُ وَلِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِ
الْمُدَّعَى عليه وَمَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ كان
هَالِكًا فَالضَّمَانُ على الْمَقْضِيِّ له لِأَنَّ الْقَاضِيَ عَمِلَ له فَكَانَ
خَطَؤُهُ عليه لِيَكُونَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَلِأَنَّهُ إذَا عَمِلَ له
فَكَانَ هو الذي فَعَلَ بِنَفْسِهِ
وَإِنْ كان حَقًّا ليس بِمَالٍ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بَطَلَ لِأَنَّهُ
تَبَيَّنَ أَنَّ قَضَاءَهُ كان بَاطِلًا وإنه أَمْرٌ شَرْعِيٌّ يَحْتَمِلُ
الرَّدَّ فَيُرَدُّ بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَالْمَالِ الْهَالِكِ لِأَنَّهُ لَا
يَحْتَمِلُ الرَّدَّ بِنَفْسِهِ فَيُرَدُّ بِالضَّمَانِ
هذا إذَا كان الْمَقْضِيُّ بِهِ من حُقُوقِ الْعِبَادِ وَأَمَّا إذَا كان من حَقِّ
اللَّهِ عز وجل خَالِصًا فَضَمَانُهُ في بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ عَمِلَ فيها
لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِعَوْدِ مَنْفَعَتِهَا إلَيْهِمْ وهو الزَّجْرُ
فَكَانَ خَطَؤُهُ عليهم لِمَا قُلْنَا فيؤدي من بَيْتِ مَالِهِمْ وَلَا يُضَمَّنُ
الْقَاضِي لِمَا قُلْنَا وَلَا الْجَلَّادُ أَيْضًا لِأَنَّهُ عَمِلَ بِأَمْرِ
الْقَاضِي
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَخْرُجُ بِهِ الْقَاضِي عن الْقَضَاءِ فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ كُلُّ ما يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عن الْوَكَالَةِ
يَخْرُجُ بِهِ الْقَاضِي عن الْقَضَاءِ
وما يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عن الْوَكَالَةِ أَشْيَاءَ ذَكَرْنَاهَا في كِتَابِ
الْوَكَالَةِ لَا يَخْتَلِفَانِ إلَّا في شَيْءٍ وَاحِدٍ وهو أَنَّ الْمُوَكِّلَ
إذَا مَاتَ أو خُلِعَ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ
وَالْخَلِيفَةُ إذَا مَاتَ أو خُلِعَ لَا تَنْعَزِلُ قُضَاتُهُ وَوُلَاتُهُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْوَكِيلَ يَعْمَلُ بِوِلَايَةِ الْمُوَكِّلِ وفي
خَالِصِ حَقِّهِ أَيْضًا
وقد بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ الْوِلَايَةِ فَيَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ
وَالْقَاضِي لَا يَعْمَلُ بِوِلَايَةِ الْخَلِيفَةِ وفي حَقِّهِ بَلْ بِوِلَايَةِ
الْمُسْلِمِينَ وفي حُقُوقِهِمْ
وَإِنَّمَا الْخَلِيفَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ عَنْهُمْ
لِهَذَا لم تَلْحَقْهُ الْعُهْدَةُ كَالرَّسُولِ في سَائِرِ الْعُقُودِ
وَالْوَكِيلِ في النِّكَاحِ
وإذا كان رَسُولًا كان فِعْلُهُ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ
وَوِلَايَتِهِمْ بَعْدَ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ بَاقِيَةٌ فَيَبْقَى الْقَاضِي على
وِلَايَتِهِ
وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَزْلِ فإن الْخَلِيفَةَ إذَا عَزَلَ الْقَاضِي أو الْوَالِي
يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ وَلَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ
لِأَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْخَلِيفَةِ أَيْضًا حَقِيقَةً بَلْ بِعَزْلِ
الْعَامَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَوْلِيَتَهُ بِتَوْلِيَةِ الْعَامَّةِ
وَالْعَامَّةُ وَلَّوْهُ الإستبدال دَلَالَةً لِتَعَلُّقِ مَصْلَحَتِهِمْ بِذَلِكَ
فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ منهم مَعْنًى في الْعَزْلِ أَيْضًا
فَهُوَ الْفَرْقُ بين الْعَزْلِ وَالْمَوْتِ
وَلَوْ اسْتَخْلَفَ الْقَاضِي بِإِذْنِ الْإِمَامِ ثُمَّ مَاتَ الْقَاضِي لَا
يَنْعَزِلُ خَلِيفَتُهُ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ في الْحَقِيقَةِ لَا نَائِبُ
الْقَاضِي
وَلَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْخَلِيفَةِ أَيْضًا كما لَا يَنْعَزِلُ الْقَاضِي
لِمَا قُلْنَا
وَلَا يَمْلِكُ الْقَاضِي عَزْلَ خَلِيفَتِهِ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ فَلَا
يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ كَالْوَكِيلِ إنه لَا يَمْلِكُ عَزْلَ الْوَكِيلِ الثَّانِي
لِأَنَّ الثَّانِيَ وَكِيلُ الْمُوَكِّلِ في الْحَقِيقَةِ لَا وَكِيلَهُ كَذَا
هَهُنَا
إلَّا إذَا أَذِنَ له الْخَلِيفَةُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ من شَاءَ فَيَمْلِكُ
عَزْلَهُ وَيَكُونُ ذلك أَيْضًا عَزْلًا من الْخَلِيفَةِ لَا من الْقَاضِي لِأَنَّ
الْقَاضِيَ كَالْوَكِيلِ إذَا قال له الْمُوَكِّلُ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ أَنَّهُ
يَمْلِكُ التَّوْكِيلَ وَالْعَزْلَ
وإذا عَزَلَ كان الْعَزْلُ في الْحَقِيقَةِ من الْمُوَكِّلِ كَذَا هذا وَعِلْمُ
الْمَعْزُولِ بِالْعَزْلِ شَرْطُ صِحَّةِ الْعَزْلِ كما ذَكَرَ في الْوَكَالَةِ
وَهَلْ يَنْعَزِلُ بِأَخْذِ الرِّشْوَةِ في الْحُكْمِ عِنْدَنَا لَا يَنْعَزِلُ
لَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ فَيَعْزِلُهُ الْإِمَامُ وَيُعَزِّرُهُ
كَذَا ذَكَرَ في كِتَابِ الْحُدُودِ
وقال مَشَايِخُ الْعِرَاقِ من أَصْحَابِنَا إنَّهُ يَنْعَزِلُ وَقَالُوا صَحَّتْ
الرِّوَايَةُ عن أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَنْعَزِلُ
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا ذَكَرَ في السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يَخْرُجُ من
الْقَضَاءِ لَكِنْ رِوَايَةُ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ من الْقَضَاءِ
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَوْلَى لِأَنَّ هذه الرِّوَايَةَ مُشْتَبِهَةٌ وَرِوَايَةُ
كِتَابِ الْحُدُودِ مُحْكَمَةٌ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْإِمَامَ يَعْزِلُهُ
وَيُعَزِّرُهُ فَكَانَ فِيمَا قُلْنَا حَمْلُ الْمُحْتَمَلِ على
____________________
(7/16)
الْمُحْكَمِ
فَكَانَ عَمَلًا بِالرِّوَايَتَيْنِ جميعا فَكَانَ أَوْلَى
وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ عليه الرَّحْمَةُ يَنْعَزِلُ وهو قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ
وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا فَسَقَ هل يَنْعَزِلُ أو لَا
فَعِنْدَنَا لَا يَنْعَزِلُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَنْعَزِلُ
وَبِهِ قالت الْمُعْتَزِلَةُ لَكِنْ بِنَاءً على أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ
فَأَصْلُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْفِسْقَ يُخْرِجُ صَاحِبَهُ عن الْإِيمَانِ
فَيَبْطُلُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ
وَأَصْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ
الْقَضَاءِ كما هِيَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ
لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْقَضَاءِ تَدُورُ مع أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وقد زَالَتْ
بِالْفِسْقِ فَتَبْطُلُ الْأَهْلِيَّةُ
وَالْأَصْلُ عِنْدَنَا أَنَّ الْكَبِيرَةَ لَا تُخْرِجُ صَاحِبَهَا من الْإِيمَانِ
وَالْعَدَالَةُ ليست ( ( ( ليس ) ) ) بِشَرْطِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ كما
لَيْسَتْ بِشَرْطِ لأهلية ( ( ( الأهلية ) ) ) الشَّهَادَةُ على ما ذَكَرْنَا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ الْقِسْمَةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ
أَنْوَاعِ الْقِسْمَةِ وفي بَيَانِ شَرْعِيَّةِ كل نَوْعٍ وفي بَيَانِ مَعْنَى
الْقِسْمَةِ لُغَةً وَشَرْعًا وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الْقِسْمَةِ وفي بَيَانِ
صِفَاتِ الْقِسْمَةِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْقِسْمَةِ وفي بَيَانِ ما يُوجِبُ
نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْقِسْمَةُ في الْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ نَوْعَانِ
أَحَدُهُمَا قِسْمَةُ الْأَعْيَانِ
وَالثَّانِي قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ وَقِسْمَةُ كل وَاحِدٍ من النَّوْعَيْنِ
مَشْرُوعَةٌ أَمَّا قِسْمَةُ الْأَعْيَانِ فَقَدْ عُرِفَتْ شَرْعِيَّتُهَا
بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله
عليه وسلم قَسَّمَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ بين الْغَانِمِينَ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ
فِعْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الشَّرْعِيَّةُ وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فإن
الناس اسْتَعْمَلُوا الْقِسْمَةَ من لَدُنْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
إلَى يَوْمِنَا هذا من غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَتْ شَرْعِيَّتُهُ مُتَوَارَثَةً
وَالْمَعْقُولُ يَقْتَضِيهِ تَوْفِيرًا على كل وَاحِدٍ مَصْلَحَتُهُ بِكَمَالِهَا
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مَعْنَى الْقِسْمَةِ لُغَةً وَشَرْعًا أَمَّا في
اللُّغَةِ فَهِيَ عِبَارَةٌ عن إفْرَازِ النَّصِيبِ
وفي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عن إفْرَازِ بَعْضِ الْأَنْصِبَاءِ عن بَعْضٍ
وَمُبَادَلَةِ بَعْضٍ بِبَعْضٍ لِأَنَّ ما من جُزْأَيْنِ من الْعَيْنِ
الْمُشْتَرَكَةِ لَا يَتَجَزَّآنِ قبل الْقِسْمَةِ إلَّا وَأَحَدُهُمَا مِلْكُ
أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَالْآخَرُ مِلْكُ صَاحِبِهِ غير عَيْنٍ فَكَانَ نِصْفُ
الْعَيْنِ مَمْلُوكًا لِهَذَا وَالنِّصْفُ مَمْلُوكًا لِذَاكَ على الشُّيُوعِ فإذا
قُسِّمَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَالْأَجْزَاءُ الْمَمْلُوكَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا شَائِعَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ فَتَجْتَمِعُ بِالْقِسْمَةِ في نَصِيبِهِ
دُونَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَجْتَمِعَ في نَصِيبِ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا أَجْزَاءٌ بَعْضُهَا مَمْلُوكَةٌ له وَبَعْضُهَا مَمْلُوكَةٌ
لِصَاحِبِهِ على الشُّيُوعِ فَلَوْ لم تَقَعْ الْقِسْمَةُ مُبَادَلَةً في بَعْضِ
أَجْزَاءِ الْمَقْسُومِ لم يَكُنْ الْمَقْسُومُ كُلُّهُ مِلْكًا لِلْمَقْسُومِ
عليه بَلْ يَكُونُ بَعْضُهُ مِلْكَ صَاحِبِهِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ مِنْهُمَا
بِالتَّرَاضِي أو بطلبهما ( ( ( بطلبها ) ) ) من الْقَاضِي رِضًا من كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِزَوَالِ مِلْكِهِ عن نِصْفِ نَصِيبِهِ بِعِوَضٍ وهو نِصْفُ نَصِيبِ
صَاحِبِهِ وهو تَفْسِيرُ الْمُبَادَلَةِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ في حَقِّ
الْأَجْزَاءِ الْمَمْلُوكَةِ له إفْرَازًا وَتَمْيِيزًا أو تَعْيِينًا لها في
الْمِلْكِ وفي حَقِّ الْأَجْزَاءِ الْمَمْلُوكَةِ لِصَاحِبِهِ مُعَاوَضَةً وَهِيَ
مُبَادَلَةُ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ الْمُجْتَمِعَةِ في نَصِيبِهِ بِبَعْضِ
الْأَجْزَاءِ الْمُجْتَمِعَةِ في نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَكَانَتْ إفْرَازَ بَعْضِ
الْأَنْصِبَاءِ وَمُعَاوَضَةَ الْبَعْضِ ضَرُورَةً وَهَذَا هو حَقِيقَةُ
الْقِسْمَةِ الْمَعْقُولَةِ في الْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ فَكَانَ مَعْنَى
الْمُعَاوَضَةِ لَازِمًا في كل قِسْمَةٍ شَرْعِيَّةٍ إلَّا أَنَّهُ أعطي لها
حُكْمَ الْإِفْرَازِ في ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ في بَعْضِ الْأَحْكَامِ لِأَنَّ
الْمَأْخُوذَ من الْعِوَضِ مِثْلُ الْمَتْرُوكِ من الْمُعَوَّضِ فَجُعِلَ
كَأَنَّهُ يَأْخُذُ عَيْنَ حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقْرِضِ حتى كان لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ من غَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ فَجُعِلَ
إفْرَازًا حكا ( ( ( حكما ) ) )
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ في غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ إنه يُجْبَرُ على الْقِسْمَةِ وَالْمُعَاوَضَاتُ مِمَّا لَا
يجري فيها الْجَبْرُ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ
فَالْجَوَابُ إن الْمُعَاوَضَةَ قد يجري فيها الْجَبْرُ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَرِيمَ يُجْبَرُ على قَضَاءِ الدَّيْنِ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ
لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ على ما بَيَّنَّا في كِتَابِ
الْوَكَالَةِ دَلَّ أَنَّ الْجَبْرَ لَا يَنْفِي الْمُعَاوَضَةَ فَجَازَ أَنْ
يُجْبَرَ على الْقِسْمَةِ وَإِنْ كانت مُعَاوَضَةً مع ما أَنَّ الْجَبْرَ لَا
يَجْرِي في الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ
وَالْقِسْمَةُ لَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ مُطْلَقَةٍ بَلْ هِيَ إفْرَازٌ من وَجْهٍ
وَمُعَاوَضَةٌ من وَجْهٍ فَجَازَ أَنْ يَجْرِيَ فيها الْجَبْرُ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ تَخْرُجُ قِسْمَةُ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ
وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ إنها لَا تَجُوزُ مُجَازَفَةً
كما لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مُجَازَفَةً لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ
وَذَكَرَ في الْكِتَابِ في كُرِّ حِنْطَةٍ مُشْتَرَكٍ بين
____________________
(7/17)
رَجُلَيْنِ
ثَلَاثُونَ منه رَدِيئَةً وَعَشَرَةٌ منه جَيِّدَةً قِيمَتُهَا سَوَاءٌ فَأَرَادَا
أَنْ يَقْتَسِمَاهُ فَيَأْخُذُ أَحَدُهُمَا ثَلَاثِينَ وَالْآخَرُ عَشَرَةً
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِتَمَكُّنِ الرِّبَا فيه لَتَحَقُّقِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ
وَلَوْ زَادَ صَاحِبُ الزِّيَادَةِ ثَوْبًا أو شيئا آخَرَ جَازَ لِأَنَّ الزياة (
( ( الزيادة ) ) ) صَارَتْ مُقَابِلَةً بِالثَّوْبِ فَزَالَ مَعْنَى الرَّبَّا
وقال في زَرْعٍ مُشْتَرَكٍ بين رَجُلَيْنِ في أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُمَا
فَأَرَادَا قِسْمَةَ الزَّرْعِ دُونَ الْأَرْضِ وقد سَنْبَلَ الزَّرْعُ إنَّهُ لَا
تَجُوزُ قِسْمَتُهُ لِأَنَّ قِسْمَتَهُ بِطَرِيقِ الْمُجَازَفَةِ وَلَا تَجُوزُ
الْمُعَاوَضَةُ بِطَرِيقِ الْمُجَازَفَةِ في الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ
وَكَذَا لو أَوْصَى بِصُوفٍ على ظَهْرِ غَنَمٍ لِرَجُلَيْنِ أو أَوْصَى
بِاللَّبَنِ في الضَّرْعِ لَهُمَا لم تَجُزْ قِسْمَتُهُ قبل الْجَزِّ وَالْحَلْبِ
لِأَنَّ الصُّوفَ وَاللَّبَنَ من الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فَلَا يَحْتَمِلَانِ
الْقِسْمَةَ مُجَازَفَةً كما لَا يَحْتَمِلَانِ الْبَيْعَ مُجَازَفَةً وَكَذَا
خِيَارُ الْعَيْبِ يَدْخُلُ في نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ كما يَدْخُلُ في الْبَيْعِ
وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ يَدْخُلُ في أَحَدِ النَّوْعَيْنِ دُونَ
الْآخَرِ لَا لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ
نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ
وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلَانِ من رَجُلٍ كُرَّ حِنْطَةٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ
فَاقْتَسَمَاهُ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً
على خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَلَوْ اشْتَرَيَا دَارًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ
فَاقْتَسَمَاهَا ليس لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً على
خَمْسِينَ وَإِنَّمَا افْتَرَقَ النَّوْعَانِ في هذا الْحُكْمِ لَا لِاعْتِبَارِ
مَعْنَى الْإِفْرَازِ في أَحَدِهِمَا وَالْمُبَادَلَةُ في الْآخَرِ بَلْ لِمَعْنًى
آخَرَ وهو أَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِمِثْلِ الْمَذْكُورِ ثَمَنًا في
الْأَوَّلِ مع زِيَادَةِ شَيْءٍ وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِمِثْلِ
الْمَذْكُورِ ثَمَنًا في الْأَوَّلِ مع زِيَادَةِ شَيْءٍ فِيمَا يَحْتَمِلُ
الزِّيَادَةَ
وَأَمَّا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ فَلَا كما إذَا اشْتَرَى كُرَّ
حِنْطَةٍ بِكُرِّ حِنْطَةٍ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على الْكُرِّ
كَذَا هُنَا بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ ذلك مُعَاوَضَةٌ مَقْصُودَةٌ وَالْمُعَاوَضَةُ
في الْقِسْمَةِ لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ وإذا كان كَذَلِكَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ هذا
الثَّمَنِ شَرْعًا في هذا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ
فَكَانَ له أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً على أَوَّلِ ثَمَنٍ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ
وهو الْخَمْسُونَ بِخِلَافِ قِسْمَةِ الدَّارِ لِأَنَّ هُنَاكَ يُمْكِنُ الْبَيْعُ
بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وهو ثَمَنُ الْقِسْمَةِ وَزِيَادَةُ شَيْءٍ بِأَنْ يَبِيعَ
نِصْفَهُ من شَرِيكِهِ بِالنِّصْفِ الذي في يَدِهِ وَرِبْحُ دِرْهَمٍ مَثَلًا كما
إذَا اشْتَرَى دَارًا بِدَارٍ أو اشْتَرَى كُرَّ حِنْطَةٍ بِثَوْبٍ فَأَمْكَنَ
بَيْعُهُ مُرَابَحَةً على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ في الْجُمْلَةِ فلم يَجُزْ
بَيْعُهُ مُرَابَحَةً على خَمْسِينَ إلَّا أَنَّهُ إذَا بَاعَهُ مُرَابَحَةً أو
بَاعَهُ من بَائِعِهِ بِالنِّصْفِ الذي في يَدِهِ بِرِبْحِ ( دَهٍ يازده ) لَا
يَجُوزُ لِمَعْنًى عُرِفَ في كِتَابِ الْبُيُوعِ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ
إلَى الْقَاسِمِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْسُومِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ
إلَى الْمَقْسُومِ له
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْقَاسِمِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ هو شَرْطُ الْجَوَازِ
وَنَوْعٌ هو شَرْطُ الِاسْتِحْبَابِ
أَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ فَأَنْوَاعٌ منها الْعَقْلُ فَلَا تَجُوزُ قِسْمَةُ
الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ الْعَقْلَ من شَرَائِطِ
أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ
بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْقِسْمَةِ حتى تَجُوزَ قِسْمَةُ الصَّبِيِّ الذي يَعْقِلُ
الْقِسْمَةَ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ
وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ وَالذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ
لِجَوَازِ الْقِسْمَةِ فَتَجُوزُ قِسْمَةُ الذِّمِّيِّ وَالْمَرْأَةِ
وَالْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ من أَهْلِ الْبَيْعِ فَكَانُوا
من أَهْلِ الْقِسْمَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْمِلْكُ وَالْوِلَايَةُ فَلَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ بِدُونِهِمَا
أَمَّا الْمِلْكُ فَالْمَعْنِيُّ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْقَاسِمُ مَالِكًا
فَيَقْسِمُ الشُّرَكَاءُ بِالتَّرَاضِي
وَأَمَّا الْوِلَايَةُ فَنَوْعَانِ وِلَايَةُ قَضَاءٍ وَوِلَايَةُ قَرَابَةٍ إلَّا
أَنَّ شَرْطَ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ الطَّلَبُ فَيَقْسِمُ الْقَاضِي وَأَمِينُهُ
على الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْمُسْلِمِ
وَالذِّمِّيِّ وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ عِنْدَ
طَلَبِ الشُّرَكَاءِ كُلِّهِمْ أو بَعْضِهِمْ على ما نَذْكُرُهُ وَلَا يُشْتَرَطُ
ذلك في وِلَايَةِ الْقَرَابَةِ فَيَقْسِمُ الْأَبُ وَوَصِيُّهُ وَالْجَدُّ
وَوَصِيُّهُ على الصَّغِيرِ وَالْمَعْتُوهِ من غَيْرِ طَلَبِ أَحَدٍ
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ كُلَّ من له وِلَايَةُ الْبَيْعِ فَلَهُ وِلَايَةُ الْقِسْمَةِ
وَمَنْ لَا فَلَا وَلِهَؤُلَاءِ وِلَايَةُ الْبَيْعِ فَكَانَتْ لهم وِلَايَةُ
الْقِسْمَةِ
وَكَذَا الْقَاضِي له وِلَايَةُ بَيْعِ مَالِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ في
الْجُمْلَةِ فَكَانَ له وِلَايَةُ الْقِسْمَةِ في الْجُمْلَةِ
وَأَمَّا وَصِيُّ الْأُمِّ وَوَصِيُّ الْأَخِ وَالْعَمِّ فَيَقْسِمُ الْمَنْقُولَ
دُونَ الْعَقَارِ لِأَنَّ له وِلَايَةَ بَيْعِ الْمَنْقُولِ دُونَ الْعَقَارِ
وفي وَصِيِّ الْمُكَاتَبِ إذَا مَاتَ عن وَفَاءٍ أَنَّهُ هل يَقْسِمُ فيه
رِوَايَتَانِ
وَهَذَا كُلُّهُ يُقَرِّرُ ما قُلْنَا إنَّ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ لَازِمٌ في
الْقِسْمَةِ حَيْثُ جَعَلَ سَبِيلَهُ سَبِيلَ الْبَيْعِ في الْوِلَايَةِ وَلَا
يَقْسِمُ وَصِيُّ الْمَيِّتِ على الْمُوصَى له لِانْعِدَامِ وِلَايَتِهِ عليه
وَكَذَا لَا يَقْسِمُ الْوَرَثَةُ عليه لِانْعِدَامِ وِلَايَتِهِمْ عليه لِأَنَّ
الْمُوصَى له كَوَاحِدٍ من الْوَرَثَةِ وَلَا يَقْسِمُ بَعْضُ الْوَرَثَةِ على
بَعْضٍ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ فَلَا يَقْسِمُونَ على الموصي له وَلَوْ
اقْتَسَمُوا وهو غَائِبٌ نُقِضَتْ قِسْمَتُهُمْ لَكِنْ هذا إذَا كانت الْقِسْمَةُ
بِالتَّرَاضِي فَإِنْ
____________________
(7/18)
كانت
بقضاءالقاضي تَنْفُذُ وَلَا تُنْقَضُ لِمَا نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا شَرَائِطُ الِاسْتِحْبَابِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ عَدْلًا
أَمِينًا عَالِمًا بِالْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ لو كان غير عَدْلٍ خَائِنًا أو
جَاهِلًا بِأُمُورِ الْقِسْمَةِ يُخَافُ منه الْجَوْرُ في الْقِسْمَةِ لَا يَجُوزُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبَ الْقَاضِي لِأَنَّ قِسْمَةَ غَيْرِهِ لَا
تَنْفُذُ على الصَّغِيرِ وَالْغَائِبِ وَلِأَنَّهُ أَجْمَعُ لِشَرَائِطِ
الْأَمَانَةِ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَرْزُقَهُ من بَيْتِ الْمَالِ لِيَقْسِمَ لناس (
( ( للناس ) ) ) من غَيْرِ أَجْرٍ عليهم لِأَنَّ ذلك أَرْفَقُ بِالْمُسْلِمِينَ
فَإِنْ لم يُمْكِنْهُ أَنْ يَرْزُقَهُ من بَيْتِ الْمَالِ يَقْسِمُ لهم بِأَجْرٍ
عليهم وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُقَدِّرَ له أُجْرَةً مَعْلُومَةً كيلا
يَتَحَكَّمَ على الناس
وَلَوْ أَرَادَ الناس أَنْ يَسْتَأْجِرُوا قَسَّامًا آخَرَ غير الذي نَصَبَهُ
الْقَاضِي لَا يَمْنَعُهُمْ الْقَاضِي عن ذلك وَلَا يَجْبُرُهُمْ أَنْ
يَسْتَأْجِرُوا قَسَّامًا لِأَنَّهُ لو فَعَلَ ذلك لَعَلَّهُ لَا يَرْضَى إلَّا
بِأُجْرَةٍ كَثِيرَةٍ فَيَتَضَرَّرُ الناس
وَكَذَا لَا يَتْرُكُ الْقَسَّامِينَ يَشْتَرِكُونَ في الْقِسْمِ لِمَا قُلْنَا
وَمِنْهَا الْمُبَالَغَةُ في تَعْدِيلِ الْأَنْصِبَاءِ وَالتَّسْوِيَةُ بين
السِّهَامِ بِأَقْصَى الْإِمْكَانِ لِئَلَّا يَدْخُلَ قُصُورٌ في سَهْمٍ
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَدَعَ حَقًّا بين شَرِيكَيْنِ غير مَقْسُومٍ من الطَّرِيقِ
وَالْمَسِيلِ وَالشُّرْبِ إلَّا إذَا لم يُمْكِنْ
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضُمَّ نَصِيبَ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ إلَى بَعْضٍ إلَّا إذَا
رَضَوْا بِالضَّمِّ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْقِسْمَةِ ثَانِيًا
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُدْخِلَ في قِسْمَةِ الدَّارِ وَنَحْوِهَا الدَّرَاهِمَ
إلَّا إذَا كان لَا يُمْكِنُ الْقِسْمَةُ إلَّا كَذَلِكَ لِأَنَّ مَحِلَّ
الْقِسْمَةِ الْمِلْكُ الْمُشْتَرَكُ وَلَا شِرْكَةَ في الدَّرَاهِمِ فَلَا
يُدْخِلُهَا في الْقِسْمَةِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ
وَمِنْهَا أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْقِسْمَةِ
وَيَشْتَرِطُ عليهم قَبُولَ من خَرَجَ سَهْمُهُ أَوَّلًا فَلَهُ هذا السَّهْمُ من
هذا الْجَانِبِ من الدَّارِ
وَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ بَعْدَهُ فَلَهُ السَّهْمُ الذي يَلِيهِ هَكَذَا
ثُمَّ يُقْرِعُ بَيْنَهُمْ لَا لِأَنَّ الْقُرْعَةَ يَتَعَلَّقُ بها حُكْمٌ بَلْ
لِتَطْيِيبِ النُّفُوسِ وَلِوُرُودِ السُّنَّةِ بها
وَلِأَنَّ ذلك أَنْفَى لِلتُّهْمَةِ فَكَانَ سُنَّةً
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وإذا قَسَمَ بأجر ( ( ( بأجرة ) ) ) فَأُجْرَةُ الْقِسْمَةِ على عَدَدِ الرؤوس
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا رَحِمَهُمَا اللَّهُ على
قَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أُجْرَةَ الْقِسْمَةِ من مُؤْنَاتِ الْمِلْكِ
فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ كَالنَّفَقَةِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ الْأُجْرَةَ بِمُقَابِلَةِ
الْعَمَلِ وَعَمَلُهُ في حَقِّ الْكُلِّ على السَّوَاءِ فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ
عليهم على السَّوَاءِ وَهَذَا لِأَنَّ عَمَلَهُ تَمْيِيزُ الْأَنْصِبَاءِ
وَالتَّمْيِيزُ عَمَلٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ تَمْيِيزَ الْقَلِيلِ من الْكَثِيرِ هو
بِعَيْنِهِ تَمْيِيزُ الْكَثِيرِ من الْقَلِيلِ
وَالتَّفَاوُتُ في شَيْءٍ وَاحِدٍ مُحَالٌ وإذا لم يَتَفَاوَتْ الْعَمَلُ لَا
تَتَفَاوَتُ الْأُجْرَةُ
بِخِلَافِ النَّفَقَةِ لِأَنَّهَا بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ
يَتَفَاوَتُ فَهُوَ الْفَرْقُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْسُومِ له فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ لَا
يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ في أَحَدِ نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ دُونَ النَّوْعِ الْآخَرِ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ الْقِسْمَةَ نَوْعَانِ قِسْمَةُ جَبْرٍ
وَهِيَ التي يَتَوَلَّاهَا الْقَاضِي وَقِسْمَةُ رِضًا وَهِيَ التي يَفْعَلُهَا
الشُّرَكَاءُ بِالتَّرَاضِي وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على نَوْعَيْنِ قِسْمَةُ
تَفْرِيقٍ وَقِسْمَةُ جَمْعٍ
أَمَّا قِسْمَةُ التَّفْرِيقِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ إنَّ
الذي تُصَادِفُهُ الْقِسْمَةُ لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ
يَكُونَ مِمَّا لَا ضَرَرَ في تَبْعِيضِهِ بِالشَّرِيكَيْنِ أَصْلًا بَلْ لَهُمَا
فيه مَنْفَعَةٌ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا في تَبْعِيضِهِ مَضَرَّةٌ فَإِنْ كان مِمَّا لَا
مَضَرَّةُ في تَبْعِيضِهِ أَصْلًا بَلْ فيه مَنْفَعَةٌ لِلشَّرِيكَيْنِ
كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ فَتَجُوزُ قِسْمَةُ
التَّفْرِيقِ فيها قِسْمَةُ جَبْرٍ كما تَجُوزُ فيها قِسْمَةُ الرِّضَا
لِتُحَقِّقَ ما شُرِعَ له الْقِسْمَةُ وهو تَكْمِيلُ مَنَافِعِ الْمِلْكِ وَإِنْ
كان مِمَّا في تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ فَلَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ
يَكُونَ فيه ضَرَرٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فيه ضَرَرٌ
بِأَحَدِهِمَا نَفْعٌ في حَقِّ الْآخَرِ فَإِنْ كان في تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الْجَبْرِ فيه وَذَلِكَ نَحْوُ
اللُّؤْلُؤَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْيَاقُوتَةِ وَالزُّمُرُّدَةِ وَالثَّوْبِ
الْوَاحِدِ وَالسَّرْجِ وَالْقَوْسِ وَالْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ وَالْقَبَاءِ
وَالْجُبَّةِ وَالْخَيْمَةِ وَالْحَائِطِ وَالْحَمَّامِ والبيع ( ( ( والبيت ) ) )
الصَّغِيرِ وَالْحَانُوتِ الصَّغِيرِ وَالرَّحَى وَالْفَرَسِ وَالْجَمَلِ
وَالْبَقَرَةِ وَالشَّاةِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ في هذه الْأَشْيَاءِ قِسْمَةُ
إضْرَارٍ بِالشَّرِيكَيْنِ جميعا وَالْقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْجَبْرَ على
الْإِضْرَارِ
وَكَذَلِكَ النَّهْرُ وَالْقَنَاةُ وَالْعَيْنُ وَالْبِئْرُ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ
كان مع ذلك أَرْضٌ قُسِمَتْ الْأَرْضُ وَتُرِكَتْ الْبِئْرُ وَالْقَنَاةُ على
الشِّرْكَةِ فَأَمَّا إذَا كانت أَنْهَارُ الْأَرَضِينَ مُتَفَرِّقَةً أو عُيُونًا
أو آبَارًا قُسِمَتْ الْآبَارُ وَالْعُيُونُ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ في الْقِسْمَةِ
وَكَذَا الْبَابُ وَالسَّاحَةُ وَالْخَشَبَةُ إذَا كان في قَطْعِهِمَا ضَرَرٌ
فَإِنْ كانت الْخَشَبَةُ كَبِيرَةً يُمْكِنُ تَعْدِيلُ الْقِسْمَةِ فيها من غَيْرِ
ضَرَرٍ جَازَتْ وَتَجُوزُ قِسْمَةُ الرِّضَا في هذه الْأَشْيَاءِ بِأَنْ
يَقْتَسِمَاهَا بِأَنْفُسِهِمَا بِتَرَاضِيهِمَا لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ
الْإِضْرَارَ بِأَنْفُسِهِمَا مع ما أَنَّ ذلك لَا يَخْلُو عن نَوْعِ نَفْعٍ وما
لَا تَجْرِي
____________________
(7/19)
فيه
القسم ( ( ( القسمة ) ) ) لَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا على بَيْعِ حِصَّتِهِ من
صَاحِبِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا اخْتَصَمَا فيه بَاعَ الْقَاضِي وَقَسَمَ
الثَّمَنَ بَيْنَهُمَا وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ الْجَبْرَ على
إزَالَةِ الْمِلْكِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ
وَعَلَى هذا طَرِيقٌ بين رَجُلَيْنِ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ وَأَبَى
الْآخَرُ فَإِنْ كان يَسْتَقِيمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَرِيقٌ نَافِذٌ
بَعْدَ الْقِسْمَةِ يُجْبَرُ على الْقِسْمَةِ
لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَقَعُ تَحْصِيلًا لِمَا شُرِعَتْ له وهو تَكْمِيلُ مَنَافِعِ
الْمِلْكِ فَيُجْبَرُ عليها
وَإِنْ كان لَا يَسْتَقِيمُ لَا يُجْبَرُ على الْقِسْمَةِ لِأَنَّهَا قِسْمَةُ
إضْرَارٍ بِالشَّرِيكَيْنِ فَلَا يَلِيهَا الْقَاضِي إلَّا إذَا كان لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا في نَصِيبِهِ من الدَّارِ مَفْتَحٌ من وَجْهٍ آخَرَ فَيَقْسِمُ
أَيْضًا لِأَنَّ الْقِسْمَةَ في هذه الصُّورَةِ لَا تَقَعُ إضْرَارًا
وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا جَازَتْ لِتَرَاضِيهِمَا بِالضَّرَرِ
وَكَذَلِكَ الْمَسِيلُ الْمُشْتَرَكُ إذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ وَأَبَى
الْآخَرُ
وَإِنْ كان بِحَالٍ لو قُسِمَ يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ
قَدْرُ ما يَسِيلُ مَاؤُهُ
أو كان له مَوْضِعٌ آخَرُ يُمْكِنُهُ التَّسْيِيلُ فيه يَقْسِمُ
وَإِنْ لم يُمْكِنْ لم يَقْسِمْ لِمَا ذَكَرْنَا في الطَّرِيقِ
وَعَلَى هذا إذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا مَفْتَحَ الدَّارِ من غَيْرِ رَفْعِ
الطَّرِيقِ وَأَبَى الْآخَرُ إلابرفع الطَّرِيقِ أَنَّهُ إنْ كان لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مَفْتَحٌ آخَرُ يَفْتَحُهُ في نَصِيبِهِ قَسَمَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ
رَفْعِ الطَّرِيقِ لِأَنَّ ما هو الْمَطْلُوبُ من الْقِسْمَةِ وهو تَكْمِيلُ
مَنَافِعِ الْمِلْكِ في هذه الْقِسْمَةِ أَوْفَرُ وَإِنْ لم يَكُنْ رَفَعَ
بَيْنَهُمَا طَرِيقًا وَقَسَمَ الْبَاقِي لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ بَيْنَهُمَا
مَفْتَحٌ كانت الْقِسْمَةُ بِغَيْرِ طَرِيقٍ تَفْوِيتًا لِلْمَنْفَعَةِ لَا
تَكْمِيلًا لها فَكَانَتْ إضْرَارًا بِهِمَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا
اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا بِغَيْرِ طَرِيقٍ فَيَجُوزُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ اخْتَلَفَا في سَعَةِ الطَّرِيقِ وَضِيقِهِ جُعِلَ الطَّرِيقُ على قَدْرِ
عَرْضِ بَابِ الدَّارِ وَطُولِهِ على أَدْنَى ما يَكْفِيهَا لِأَنَّ الطَّرِيقَ
وُضِعَ لِلِاسْتِطْرَاقِ وَالْبَابُ هو الْمَوْضُوعُ مَدْخَلًا إلَى أَدْنَى ما
يَكْفِي لِلِاسْتِطْرَاقِ فَيَحْكُمُ فيه
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا إذَا بَنَى رَجُلَانِ في أَرْضِ رَجُلٍ بِإِذْنِهِ وَطَلَبَ
أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الْبِنَاءِ وَأَبَى الْآخَرُ وَصَاحِبُ الْأَرْضِ غَائِبٌ لم
تُقْسَمْ
لِأَنَّ الْأَرْضَ الْمَبْنِيَّ عليها بَيْنَهُمَا شَائِعٌ بِالْإِعَارَةِ أو
بِالْإِجَارَةِ فَلَوْ قَسَمَ الْبِنَاءَ بَيْنَهُمَا لَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا سَبِيلٌ في بَعْضِ نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَفِيهِ ضَرَرٌ فَلَا يُجْبَرُ على
القسم ( ( ( القسمة ) ) ) وَلَوْ اقْتَسَمَا بِالتَّرَاضِي جَازَتْ وَكَذَا لو
هَدَمَهَا وَكَانَتْ الْآلَةُ بَيْنَهُمَا
وَعَلَى هذا زَرْعٌ بين رَجُلَيْنِ في أَرْضٍ مملكة ( ( ( مملوكة ) ) ) لَهُمَا
طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الزَّرْعِ دُونَ الْأَرْضِ فَإِنْ كان الزَّرْعُ قد
بَلَغَ وَسَنْبَلَ لَا يَقْسِمُ لِمَا ذَكَرْنَا من قَبْلُ
وَلَوْ طَلَبَا جميعا لَا يَقْسِمُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَانِعَ هو الرِّبَا
وَحُرْمَةُ الرَّبَّا لَا تَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ بِالرِّضَا
وَإِنْ كان الزَّرْعُ بَقْلًا فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا لَا يَقْسِمُ أَيْضًا لِأَنَّ
الْأَرْضَ مَمْلُوكَةٌ لَهُمَا على الشِّرْكَةِ فَلَوْ قَسَمَ لَكَانَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبِيلٍ من الْقَطْعِ وَفِيهِ ضَرَرٌ وَلَا جَبْرَ على
الضَّرَرِ
وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا وَشَرَطَا الْقَطْعَ جَازَتْ لِأَنَّهُمَا
رَضِيَا بِالضَّرَرِ وَلَوْ شَرَطَا التَّرْكَ لم يَجُزْ لِأَنَّ رَقَبَةَ
الْأَرْضِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا فَكَانَ شَرْطُ التَّرْكِ مِنْهُمَا في
الْقِسْمَةِ شَرْطًا لِانْتِفَاعِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِلْكِ شَرِيكِهِ
وَمِثْلُ هذا الشَّرْطِ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ فَكَانَ فسدا ( ( ( مفسدا ) ) )
لِلْقِسْمَةِ لِأَنَّ فيها مَعْنَى الْبَيْعِ
وَكَذَلِكَ لو لم تَكُنْ الْأَرْضُ مَمْلُوكَةً لَهُمَا وَكَانَتْ في أَيْدِيهِمَا
بِالْإِعَارَةِ أو بِالْإِجَارَةِ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ لَا تُقْسَمُ لِمَا
ذَكَرْنَا وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا جَازَتْ بِشَرْطِ الْقَطْعِ وَلَا
تَجُوزُ بِشَرْطِ التَّرْكِ كَالْبَيْعِ على ما ذِكْرِنَا
وَكَذَلِكَ طَلْعٌ بين رَجُلَيْنِ طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الطَّلْعِ دُونَ
النَّخْلِ وَالْأَرْضِ لم يَقْسِمْ لِمَا ذَكَرْنَا في الزَّرْعِ وَلَوْ
اقْتَسَمَا بِالتَّرَاضِي فَإِنْ شَرَطَا الْقَطْعَ جَازَ وَإِنْ شَرَطَا
التَّرْكَ لم يَجُزْ لِمَا ذَكَرْنَا في الزَّرْعِ
وَلَوْ تَرَكَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَأَدْرَكَ وَقَلَعَ
فَالْفَضْلُ له طَيِّبٌ لِأَنَّهُ وَإِنْ حَصَلَ في مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ لَكِنَّهُ
حَصَلَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فَلَا يَكُونُ خَبِيثًا وَإِنْ لم يَأْذَنْ له
يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ لِتَمَكُّنِ الْخُبْثِ فيه فَكَانَ سَبِيلُهُ
التَّصَدُّقَ
هذا إذَا كان شيئا في تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ من الشَّرِيكَيْنِ
فَأَمَّا إذَا كان شيئا في تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ
كَالدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ بين رَجُلَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا فيها شِقْصٌ قَلِيلٌ
فَإِنْ طَلَبَ الْكَثِيرِ الْقِسْمَةَ قُسِمَتَا إجْمَاعًا لِأَنَّ الْقِسْمَةَ في
حَقِّهِ مُفِيدَةٌ لِوُقُوعِهَا مُحَصَّلَةٌ لِمَا شُرِعَتْ له من تَكْمِيلِ
مَنَافِعِ الْمِلْكِ وفي حَقِّ صَاحِبِ الْقَلِيلِ تَقَعُ مَنْعًا له من
الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ إذْ لَا يَقْدِرُ صَاحِبُ الْقَلِيلِ على الِانْتِفَاعِ
بِنَصِيبِهِ إلَّا بِالِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِ صَاحِبِ الْكَثِيرِ لِقِلَّةِ
نَصِيبِهِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ في حَقِّهِ مَنْعًا له من الِانْتِفَاعِ
بِنَصِيبِ شَرِيكِهِ فَجَازَتْ
وَإِنْ طَلَبَ صَاحِبُ الْقَلِيلِ الْقِسْمَةَ فَقَدْ ذَكَرَ الْحَاكِمُ
الْجَلِيلُ في مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يُقْسَمُ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ في هذه الْقِسْمَةِ في حَقِّ
صَاحِبِ الْكَثِيرِ بَلْ له فيه مُنَفِّعَةٌ فَكَانَ في الْإِبَاءِ مُتَعَنِّتًا
فَلَا يُعْتَبَرُ إبَاؤُهُ وَصَاحِبُ الْقَلِيلِ قد
____________________
(7/20)
رضي
بِالضَّرَرِ حَيْثُ طَلَبَ الْقِسْمَةَ فَيُجْبَرُ على الْقِسْمَةِ كما إذَا لم
يَكُنْ في تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِأَحَدِهِمَا أَصْلًا بِخِلَافِ الْفَصْلِ
الْأَوَّلِ لِأَنَّ هُنَاكَ تَقَعُ الْقِسْمَةُ إضْرَارًا بِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا ولم يُوجَدْ الرِّضَا بِالضَّرَرِ وَالْقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْجَبْرَ
على الْإِضْرَارِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ
مُتَعَنِّتٌ في طَلَبِ الْقِسْمَةِ لتكون ( ( ( لكون ) ) ) الْقِسْمَةِ ضَرَرًا
مَحْضًا في حَقِّهِ فَلَا يُعْتَبَرُ طَلَبُهُ وَقِسْمَةُ الْجَبْرِ لم تُشْرَعْ
بِدُونِ الطَّلَبِ وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا جَازَتْ لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ قد رضي بِالضَّرَرِ بِنَفْسِهِ وَلَا ضَرَرَ فيه
لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ أَصْلًا فَجَازَتْ قِسْمَتُهَا
وَعَلَى هذا دَارٌ بين شَرِيكَيْنِ قُسِمَتْ بَيْنَهُمَا فَأَصَابَ أَحَدَهُمَا
مَوْضِعٌ بِغَيْرِ طَرِيقٍ شُرِطَ له في الْقِسْمَةِ فَإِنْ كان له فِيمَا
أَصَابَهُ مَفْتَحٌ إلَى الطَّرِيقِ جَازَتْ الْقِسْمَةُ لِأَنَّهُ لَا مَضَرَّةَ
له فيها إذْ يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ بِفَتْحِ طَرِيقٍ آخَرَ وَإِنْ
لم يَكُنْ له فِيمَا أَصَابَهُ مَفْتَحٌ أَصْلًا فَإِنْ ذَكَرَ الْحُقُوقَ في
الْقِسْمَةِ فَلَهُ حَقُّ الِاخْتِيَارِ في نَصِيبِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ الطَّرِيقَ
من الْحُقُوقِ فَصَارَ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ وَإِنْ لم يُذْكَرْ لم
تَجُزْ الْقِسْمَةُ لِأَنَّهَا قِسْمَةُ إضْرَارٍ في حَقِّ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ
وَكَذَلِكَ إذَا قُسِمَتْ بِغَيْرِ مَسِيلٍ شُرِطَ لأحدها ( ( ( لأحدهما ) ) )
وَوَقَعَ الْمَسِيلُ في نَصِيب الْآخَرِ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا
في الطَّرِيقِ
وَلَوْ اقْتَسَمَا على أَنْ لَا طَرِيقَ له وَلَا مَسِيلَ جَازَتْ لِأَنَّهُ رضي
بِالضَّرَرِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ تَخْرُجُ قِسْمَةُ الْجَمْعِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عليها في
جِنْسَيْنِ لِأَنَّهَا في الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ تَقَعُ إضْرَارًا في حَقِّ
أَحَدِهِمَا فَلَا يُجْبَرُ عليها على ما سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
هذا الذي ذَكَرْنَا قِسْمَةُ التَّفْرِيقِ وَأَمَّا قِسْمَةُ الْجَمْعِ فَهِيَ
أَنْ يَجْمَعَ نَصِيبَ كل وَاحِدٍ من الشَّرِيكَيْنِ في عَيْنٍ على حِدَةٍ
وَأَنَّهَا جَائِزَةٌ في جِنْسٍ وَاحِدٍ وَلَا تَجُوزُ في جِنْسَيْنِ لِأَنَّهَا
عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ تَقَعُ وَسِيلَةً إلَى ما شُرِعَتْ له وهو تَكْمِيلُ
مَنَافِعِ الْمِلْكِ وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ تَقَعُ تَفْوِيتًا
لِلْمَنْفَعَةِ لَا تَكْمِيلًا لها
إذَا عَرَفْتَ هذا فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في الْأَمْثَالِ الْمُتَسَاوِيَةِ وَهِيَ
الْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ وَالْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَقَارِبَةُ من جِنْسٍ
وَاحِدٍ تُقْسَمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ ما شُرِعَتْ له
الْقِسْمَةُ فيها من غَيْرِ ضَرَرٍ لإنعدام التَّفَاوُتِ وَكَذَلِكَ تِبْرُ
الذَّهَبِ وَتِبْرُ النُّحَاسِ وَتِبْرُ الْحَدِيدِ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ الثِّيَابُ إذَا كانت من جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْهَرَوِيَّةِ
وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ عِنْدَ
اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَالْمَطْلُوبِ لَا يَتَفَاحَشُ بَلْ يَقِلُّ وَالتَّفَاوُتُ
الْقَلِيلُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ أو يُجْبَرُ بِالْقِيمَةِ فَيُمْكِنُ تَعْدِيلُ
الْقِسْمَةِ فيه
وَكَذَلِكَ اللآلىء ( ( ( اللآلئ ) ) ) الْمُنْفَرِدَةُ
وَكَذَا الْيَوَاقِيتُ المنفرد ( ( ( المنفردة ) ) ) لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لَا
خِلَافَ في أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ في جِنْسَيْنِ من الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ
والمذروع ( ( ( والمزروع ) ) ) وَالْعَدَدِيِّ قِسْمَةُ جَمْعٍ كَالْحِنْطَةِ
وَالشَّعِيرِ وَالْقُطْنِ وَالْحَدِيدِ وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالثِّيَابِ
الْبَرْدِيَّةِ وَالْمَرْوِيَّةِ
وَكَذَلِكَ اللآلىء ( ( ( اللآلئ ) ) ) وَالْيَوَاقِيتُ وَكَذَا الْخَيْلُ
وَالْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ
وَكَذَا إذَا كان من كل جِنْسٍ فَرْدٌ كَبِرْذَوْنٍ وَجَمَلٍ وَبَقَرَةٍ وَشَاةٍ
وَثَوْبٍ وَقَبَاءٍ وَجُبَّةٍ وَقَمِيصٍ وَوِسَادَةٍ وَبِسَاطٍ لِأَنَّ هذه
الْأَشْيَاءَ لو قُسِمَتْ على الْجَمْعِ كان لَا يَخْلُو من أَحَدِ وجهين ( ( (
الوجهين ) ) ) إمَّا أَنْ تُقْسَمُ بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا وأما أَنْ تُقْسَمُ
بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهَا بأن يَضُمَّ إلَى بَعْضِهَا دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ
لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ فيه ضَرَرًا بِأَحَدِهِمَا لِكَثْرَةِ
التَّفَاوُتِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَالْقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْجَبْرَ على
الضَّرَرِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ ذلك قِسْمَةٌ في غَيْرِ
مَحِلِّهَا لِأَنَّ مَحِلَّهَا الْمِلْكُ الْمُشْتَرَكُ ولم يُوجَدْ في
الدَّرَاهِمِ
وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا أو تَرَاضَيَا على ذلك جَازَتْ الْقِسْمَةُ حتى
لو اقْتَسَمَا ثَوْبَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الْقِيمَةِ وزاد مع الْأَوْكَسِ دَرَاهِمَ
مُسَمَّاةً جَازَ
وَكَذَا في سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وَيَكُونُ ذلك قِسْمَةَ الرِّضَا لَا قِسْمَةَ
الْقَضَاءِ
وَكَذَا الْأَوَانِي سَوَاءٌ اخْتَلَفَتْ أُصُولُهَا أو اتَّحَدَتْ لِأَنَّهَا
بِالصِّنَاعَةِ أَخَذَتْ حُكْمَ جِنْسَيْنِ حتى جَازَ بَيْعُ الْأَوَانِي
الصِّغَارِ وَاحِدًا بِاثْنَيْنِ
وَأَمَّا الرَّقِيقُ فَلَا يُقْسَمُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
قِسْمَةُ جَمْعٍ وَعِنْدَهُمَا يُقْسَمُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الرَّقِيقَ على اخْتِلَافِ أَوْصَافِهَا وَقِيمَتِهَا
جِنْسٌ وَاحِدٌ فَاحْتَمَلَ الْقِسْمَةَ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ من الْإِبِلِ
وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وما فيها من التَّفَاوُتِ يُمْكِنُ تَعْدِيلُهُ
بِالْقِيمَةِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لم يُوجَدْ شَرْطُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ
وَجَوَازُ التَّصَرُّفِ بِدُونِ شَرْطِ جَوَازِهِ مُحَالٌ
وَبَيَانُ ذلك على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا أَنَّا لو قَسَمْنَاهَا رِقًّا
بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا فَقَدْ أَضْرَرْنَا بِأَحَدِهِمَا لِتَفَاحُشِ
التَّفَاوُتِ بين عَبْدٍ وَعَبْدٍ في الْمَعَانِي الْمَطْلُوبَةِ من هذا الْجِنْسِ
فَكَانَا في حُكْمِ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ
وَمِنْ شَرْطِ جَوَازِ هذه الْقِسْمَةِ أَنْ لَا تَتَضَمَّنَ ضَرَرًا
بِالْمَقْسُومِ عليه
وَلَوْ قَسَمْنَاهَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ لَوَقَعَتْ الْقِسْمَةُ في غَيْرِ
مَحِلِّهَا
لِأَنَّ مَحِلَّهَا الْمِلْكُ الْمُشْتَرَكُ وَلَا شِرْكَةَ في الْقِيمَةِ
وَالْمَحَلِّيَّةُ من شَرَائِطِ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ فَصَحَّ ما ذَكَرْنَا
وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا جَازَ
____________________
(7/21)
لِتَرَاضِيهِمَا
بِالضَّرَرِ وَكَذَا لو كان مع الرَّقِيقِ غَيْرُهُ قُسِمَ
كَذَا ذَكَرَهُ في كِتَابِ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ إنْ كان لَا يَحْتَمِلُ
الْقِسْمَةَ مَقْصُودًا فَيُجْعَلُ تَبَعًا لِمَا يَحْتَمِلُهَا فَيُقْسَمُ
بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ كَالشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
بَيْعُهُمَا مَقْصُودًا ثُمَّ يَدْخُلَانِ في الْبَيْعِ تَبَعًا لِلنَّهْرِ
وَالْأَرْضِ
كَذَا هذا
وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ الْمَذْكُورَ في الْأَصْلِ مَحْمُولٌ على قِسْمَةِ
الرِّضَا
وَأَمَّا قِسْمَةُ الْقَضَاءِ فَلَا تَجُوزُ وَإِنْ كان مع غَيْرِهِ لِأَنَّ غير
الْمَقْسُومِ ليس تَبَعًا لِلْمَقْسُومِ بَلْ هو أَصْلٌ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ
الشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ
وَكَذَلِكَ الدُّورُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا تُقْسَمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ حتى لو
كان بين رَجُلَيْنِ دَارَانِ تُقْسَمُ كُلُّ وَاحِدَةٍ على حِدَتِهَا سَوَاءٌ
كَانَتَا مُنْفَصِلَتَيْنِ أو مُتَلَاصِقَتَيْنِ وَعِنْدَهُمَا يَنْظُرُ الْقَاضِي
في ذلك إنْ كان الْأَعْدَلُ في الْجَمْعِ جَمَعَ وَإِنْ كان الْأَعْدَلُ في
التَّفْرِيقِ فَرَّقَ
وَكَذَا لو كان بَيْنَهُمَا أَرْضَانِ أو كَرْمَانِ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ
وَأَمَّا الْبَيْتَانِ فَيُقْسَمَانِ قِسْمَةَ جَمْعٍ إجْمَاعًا مُتَّصِلَيْنِ
كَانَا أو مُنْفَصِلَيْنِ
وَكَذَا الْمَنْزِلَانِ الْمُتَّصِلَانِ وَأَمَّا الْمُنْفَصِلَانِ في دَارٍ
وَاحِدَةٍ فَعَلَى الْخِلَافِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الدُّورَ كلهاجنس وَاحِدٌ وَالتَّفَاوُتُ الذي بين
الدَّارَيْنِ يُمْكِنُ تَعْدِيلُهُ بِالْقِيمَةِ فَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ
الْقَاضِي إنْ رَأَى الْأَعْدَلَ في التَّفْرِيقِ فَرَّقَ وَإِنْ رَأَى
الْأَعْدَلَ في الْجَمْعِ جَمَعَ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في الرَّقِيقِ إن
الْقِسْمَةَ فيها بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا وَيَقَعُ ضَرَرُ التَّفَاوُتِ
مُتَفَاحِشًا بين دَارٍ وَدَارٍ لِاخْتِلَافِ الدُّورِ في أَنْفُسِهَا
وَاخْتِلَافُهَا بِاخْتِلَافِ الْبِنَاءِ وَالْبِقَاعِ فَكَانَا في حُكْمِ
جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَالْقِسْمَةُ فيها بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ تَقَعُ تَصَرُّفًا
في غَيْرِ مَحِلِّهِ فَلَا يَصِحُّ
وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا أو بِالْقَاضِي بِتَرَاضِيهِمَا جَازَ لِمَا
مَرَّ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَأَمَّا دَارٌ وَضِيعَةٌ أو دَارٌ وَحَانُوتٌ فَلَا تُجْمَعُ بِالْإِجْمَاعِ بَلْ
يَقْسِمُ كُلَّ واحد ( ( ( واحدة ) ) ) على حِدَةٍ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ
وَمِنْهَا الطَّلَبُ في أَحَدِ نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ وهو قِسْمَةُ الْجَبْرِ حتى
إنه لو لم يُوجَدْ الطَّلَبُ من أَحَدِ من الشُّرَكَاءِ أَصْلًا لم تَجُزْ
الْقِسْمَةُ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ من الْقَاضِي تَصَرُّفٌ في مِلْكِ الْغَيْرِ
وَالتَّصَرُّفُ في مِلْكِ الْغَيْرِ من غَيْرِ إذْنِهِ مَحْظُورٌ في الْأَصْلِ
إلَّا أَنَّهُ عِنْدَ طَلَبِ الْبَعْضِ يَرْتَفِعُ الْحَظْرُ لِأَنَّهُ إذَا
طَلَبَ عُلِمَ أَنَّهُ له في اسْتِيفَاءِ هذه الشَّرِكَةِ ضَرَرًا إذْ لو كان
الطَّلَبُ لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ لِطَلَبِ صَاحِبِهِ وكان عليه أَنْ
يَمْتَنِعَ من الْإِضْرَارِ دِيَانَةً فإذا أَبَى الْقِسْمَةَ عُلِمَ أَنَّهُ لَا
يَمْتَنِعُ فَيَدْفَعُ الْقَاضِي ضَرَرَهُ بِالْقِسْمَةِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ في
هذه الصُّورَةِ من بَابِ دَفْعِ الضَّرَرِ وَالْقَاضِي نُصِبَ له
وَنَظِيرُهُ الشُّفْعَةُ فإن الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ الدَّارَ على الْمُشْتَرِي
بِالشُّفْعَةِ من غَيْرِ رضى ( ( ( رضا ) ) ) دَفْعًا لِضَرَرِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا
طَلَبَ الشُّفْعَةَ عُلِمَ أَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِجِوَارِهِ فَالشَّرْعُ دَفَعَ
ضَرَرَهُ عنه بِإِثْبَاتِ حَقِّ التَّمْلِيكِ بِالشُّفْعَةِ جَبْرًا عليه
كَذَا هذا
وَمِنْهَا الرِّضَا في أَحَدِ نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ وهو رِضَا الشُّرَكَاءِ فِيمَا
يَقْسِمُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ إذَا كَانُوا من أَهْلِ الرِّضَا أو رِضَا من
يَقُومُ مَقَامَهُمْ إذَا لم يَكُونُوا من أَهْلِ الرِّضَا فَإِنْ لم يُوجَدْ لَا
يَصِحُّ حتى لو كان في الْوَرَثَةِ صَغِيرٌ لَا وَصِيَّ له أو كَبِيرٌ غَائِبٌ
فَاقْتَسَمُوا فَالْقِسْمَةُ بَاطِلَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِسْمَةَ فيها
مَعْنَى الْبَيْعِ وَقِسْمَةُ الرِّضَا أَشْبَهُ بِالْبَيْعِ ثُمَّ لَا
يَمْلِكُونَ الْبَيْعَ إلَّا بِالتَّرَاضِي فَكَذَا الْقِسْمَةُ إلَّا إذَا لم
يَكُونُوا من أَهْلِ الرِّضَا كَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينَ فَيَقْسِمُ
الْوَلِيُّ أو الْوَصِيُّ إذَا كان في الْقِسْمَةِ مَنْفَعَةٌ لهم لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ
الْبَيْعَ فَيَمْلِكَانِ الْقِسْمَةَ
وَكَذَا إذَا كان فِيهِمْ صَغِيرٌ وَلَهُ وَلِيٌّ أو وَصِيٌّ يَقْتَسِمُونَ
بِرِضَا الْوَلِيِّ أو الْوَصِيِّ
فَإِنْ لم يَكُنْ نَصَبَ الْقَاضِي عن الصَّغِيرِ وَصِيًّا وَاقْتَسَمُوا
بِرِضَاهُ فَإِنْ أَبَى تَرَافَعُوا إلَى الْقَاضِي حتى يَقْسِمَ بَيْنَهُمْ
وَمِنْهَا حَضْرَةُ الشُّرَكَاءِ أو من يَقُومُ مَقَامَهُمْ في نَوْعَيْ
الْقِسْمَةِ حتى لو كان فِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ أَصْلًا
وَلَا يَقْسِمُ الْقَاضِي أَيْضًا إذَا لم يَكُنْ عنه خَصْمٌ حَاضِرٌ وَلَكِنَّهُ
لو قَسَمَ لَا تنقض ( ( ( تنقص ) ) ) قِسْمَتُهُ لِأَنَّهُ صَادَفَ مَحِلَّ
الِاجْتِهَادِ فَلَا يُنْقَضُ
وَمِنْهَا الْبَيِّنَةُ في قِسْمَةِ الْقَضَاءِ في الْإِقْرَارِ بِمِيرَاثِ
الْإِقْرَارِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَتْ
بِشَرْطٍ
وَيَقْسِمُ بِإِقْرَارِهِمْ فَنَقُولُ جُمْلَةُ الْكَلَامِ في بَيَانِ هَذَيْنِ
الشَّرْطَيْنِ أن جَمَاعَةً إذَا جاؤوا إلَى الْقَاضِي وَهُمْ عُقَلَاءُ
بَالِغُونَ أَصِحَّاءُ في أَيْدِيهِمْ مَالٌ فَأَقَرُّوا أَنَّهُ مِلْكُهُمْ
وَطَلَبُوا الْقِسْمَةَ من الْقَاضِي فَهَذَا لَا يَخْلُو في الْأَصْلِ من أَحَدِ
وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يُقِرُّوا بِالْمِلْكِ مُطْلَقًا عن ذَكَرِ سَبَبٍ وَإِمَّا
أَنْ يُقِرُّوا بِالْمِلْكِ بِسَبَبٍ ادَّعَوْا انْتِقَالَ الْمِلْكِ بِهِ من
أَحَدٍ وَكُلُّ وَجْهٍ على وَجْهَيْنِ
إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الذي في أَيْدِيهِمْ مَنْقُولًا وَإِمَّا أَنْ
يَكُونَ عَقَارًا فَإِنْ أَقَرُّوا بِالْمِلْكِ مُطْلَقًا عن سَبَبِ الِانْتِقَالِ
قَسَمَ بِإِقْرَارِهِمْ وَيَذْكُرُ في الْإِشْهَادِ في كِتَابِ الصَّكِّ أَنِّي
قَسَمْتُ بِإِقْرَارِهِمْ ولم أَقْضِ فيه على أَحَدٍ وَلَا يَطْلُبُ منهم
الْبَيِّنَةَ على أَصْلِ الْمِلْكِ مَنْقُولًا
____________________
(7/22)
كان
الْمَالُ أو عَقَارًا إذَا لم يَكُنْ فِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ لِأَنَّهُ وُجِدَ
دَلِيلُ الْمِلْكِ وهو الْيَدُ وَالْإِقْرَارُ من غَيْرِ مُنَازِعٍ وَلَا دَعْوَى
انْتِقَالِ الْمِلْكِ من أَحَدٍ إلَيْهِ فَإِنْ كان فِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ لم
يَقْسِمْ لِمَا ذَكَرْنَا إن حَضْرَةَ الشُّرَكَاءِ أو من يَقُومُ مَقَامَهُمْ
شَرْطٌ ولم يُوجَدْ لِأَنَّ الْخُصُومَ في هذا الْمَوْضِعِ لَا يَصْلُحُونَ خَصْمًا
عن الْغَائِبِ
وَإِنْ أَقَرُّوا بِالْمِلْكِ بِسَبَبِ الْمِيرَاثِ بِأَنْ قالوا هو بَيْنَنَا
مِيرَاثٌ عن فُلَانٍ فَإِنْ كان الْمَالُ مَنْقُولًا قُسِمَ بَيْنَهُمْ
بِإِقْرَارِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا تُطْلَبُ منهم الْبَيِّنَةُ وَإِنْ كان
فِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ بَعْدَ أَنْ كان الْحَاضِرَانِ اثْنَيْنِ كَبِيرَيْنِ أو
أَحَدُهُمَا صَغِيرٌ قد نُصِبَ عنه وَصِيٌّ وَإِنْ كان الْمَالُ عَقَارًا فَلَا
يُقْسَمُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حتى يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ على
مَوْتِ فُلَانٍ وَعَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ وَيُشْهِدُ على ذلك في
الصَّكِّ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ مَحِلَّ قِسْمَةِ الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ وقد وُجِدَ
لِوُجُودِ دَلِيلِ الْمِلْكِ وهو الْيَدُ وَالْإِقْرَارُ بِالْإِرْثِ من غَيْرِ
مُنَازِعٍ فَصَادَفَتْ الْقِسْمَةُ مَحِلَّهَا فَيَقْسِمُ وَيَكْتُبُ أَنَّهُ
قَسَمَ بِإِقْرَارِهِمْ كما في الْمَنْقُولِ وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا
تُقَامُ على مُنْكِرٍ وَالْكُلُّ مُقِرُّونَ فَعَلَى من تُقَامُ الْبَيِّنَةُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ هذه قِسْمَةٌ صَادَفَتْ حَقَّ الْمَيِّتِ
بِالْإِبْطَالِ فَلَا تَصِحُّ إلَّا بِبَيِّنَةٍ كَدَعْوَى الِاسْتِحْقَاقِ على
الْمَيِّتِ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ الدَّارَ قبل الْقِسْمَةِ مُبْقَاةٌ على حُكْمِ مِلْكِ
الْمَيِّتِ بِدَلِيلِ أَنَّ الزَّوَائِدَ الْحَادِثَةَ قبل الْقِسْمَةِ تَحْدُثُ
على مِلْكِهِ حتى لو كانت التَّرِكَةُ شَجَرَةً فَأَثْمَرَتْ كان الثَّمَرُ له حتى
تُقْضَى منه دُيُونُهُ وَتَنْفُذُ منه وَصَايَاهُ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ
تَصَرُّفًا على مِلْكِهِ بِالْإِبْطَالِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ
بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ ليس قَطْعًا لِحَقِّ الْمَيِّتِ بَلْ
هِيَ حِفْظُ حَقِّ الْمَيِّتِ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ مُحْتَاجٌ إلَى الْحِفْظِ
وَالْقِسْمَةُ نَوْعُ حِفْظٍ له
وَأَمَّا الْعَقَارُ فَمُسْتَغْنٍ عن الْحِفْظِ فَبَقِيَتْ قِسْمَتُهُ قَطْعًا
لِحَقِّهِ فَلَا يَمْلِكُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا لَا مُنْكَرٌ هَهُنَا فَعَلَى من تُقَامُ الْبَيِّنَةُ
قُلْنَا تُقَامُ على بَعْضِ الْوَرَثَةِ من الْبَعْض وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينَ
وَذَلِكَ جَائِزٌ كَالْأَبِ أو الْوَصِيِّ إذَا أَقَرَّا على الصَّغِيرِ لَا
يَصِحُّ إقْرَارُهُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ وَلَا مُنْكِرَ هَهُنَا
كَذَا هذا
هذا إذَا أَقَرُّوا بِالْمِلْكِ بِسَبَبِ الْإِرْثِ فَإِنْ أَقَرُّوا بِهِ
بِسَبَبِ الشِّرَاءِ من فُلَانٍ الْغَائِبِ فَإِنْ كان الْمَالُ مَنْقُولًا قُسِمَ
بَيْنَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كان عَقَارًا ذَكَرَ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَقْسِمُ بِإِقْرَارِهِمْ ولاتطلب منهم الْبَيِّنَةُ على
الشِّرَاءِ من فُلَانٍ وَفَرَّقَ بين الشِّرَاءِ وَبَيْنَ الْمِيرَاثِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَا يَقْسِمُ إلَّا
بِالْبَيِّنَةِ كَالْمِيرَاثِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّهُمْ لَمَّا أَقَرُّوا أَنَّهُمْ مَلَكُوهُ
بِالشِّرَاءِ من فُلَانٍ فَقَدْ أَقَرُّوا بِالْمِلْكِ له وَادَّعَوْا
الِانْتِقَالَ إلَيْهِمْ من جِهَتِهِ فَإِقْرَارُهُمْ مُسَلَّمٌ وَدَعْوَاهُمْ
مَمْنُوعَةٌ وَمُحْتَاجَةٌ إلَى الدَّلِيلِ وهو الْبَيِّنَةُ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وهو الْفَرْقُ بين الشِّرَاءِ وَبَيْنَ الْمِيرَاثِ
أَنَّ امْتِنَاعَ الْقِسْمَةِ في الْمَوَارِيثِ بِنَفْسِ الْإِقْرَارِ لِمَا
يَتَضَمَّنُ من إبْطَالِ حَقِّ الْمَيِّتِ وَذَلِكَ مُنْعَدِمٌ في بَابِ الْبَيْعِ
إذْ لَا حَقَّ بَاقٍ لِلْبَائِعِ في الْمَبِيعِ بَعْدَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ
فَصَادَفَتْ مَحِلَّهَا فَصَحَّتْ
هذا إذَا لم يَكُنْ في الْوَرَثَةِ كَبِيرٌ غَائِبٌ أو صَغِيرٌ حَاضِرٌ فَإِنْ كان
فَأَقَرُّوا بِالْمِيرَاثِ فَلَا يُشْكِلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
أَنَّهُ لَا يَقْسِمُ بِإِقْرَارِهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَقْسِمُ بين الْكِبَارِ
الْحُضُورِ فَكَيْفَ يَقْسِمُ هَهُنَا وَأَمَّا عندهما ( ( ( عندهم ) ) )
فَيَنْظُرُ إنْ كانت الدَّارُ في يَدِ الْكِبَارِ الْحُضُورِ يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ
لِمَا بَيَّنَّا وَيَضَعُ حِصَّةَ الْغَائِبِ على يَدِ عَدْلٍ يَحْفَظُهُ لِأَنَّ
بَعْضَ الْوَرَثَةِ خَصْمٌ من الْبَعْضِ وَيَنْصِبُ عن الصَّغِيرِ وَصِيًّا وَإِنْ
كانت الدَّارُ في يَدِ الْغَائِبِ الْكَبِيرِ أو في يَدِ الْحَاضِرِ الصَّغِيرِ أو
في أَيْدِيهِمَا منها شَيْءٌ لَا يَقْسِمُ حتى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ على
الْمِيرَاثِ وَعَدَدِ الْوَرَثَةِ بِالْإِجْمَاعِ لا إذَا كان في يَدِهِ من
الدَّارِ شَيْءٌ فَالْحَاجَةُ إلَى اسْتِحْقَاقِ ذلك من يَدِهِ فَلَا يَصِحُّ
إلَّا بِبَيِّنَةٍ
هذا إذَا لم تَقُمْ الْبَيِّنَةُ على مِيرَاثِ الْعَقَارِ فَأَمَّا إذَا قَامَتْ
الْبَيِّنَةُ عليه وَطَلَبُوا الْقِسْمَةَ فإنه يَنْظُرُ إنْ كان الْحَاضِرُ
اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا وَالْغَائِبُ وَاحِدًا أو أَكْثَرَ وَفِيهِمْ صَغِيرٌ
حَاضِرٌ فإنه يَقْسِمُ وَيَعْزِلُ نَصِيبَ كل كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ فَيُوَكِّلُ
وَكِيلًا بحفظه ( ( ( يحفظه ) ) ) بِخِلَافِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إذَا حَضَرَ
شَرِيكَانِ وَشَرِيكٌ غَائِبٌ أَنَّهُ لَا يَقْسِمُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ قِسْمَةَ الْعَقَارِ تَصَرُّفٌ على الْمَيِّتِ
وَقَضَاءٌ عليه بِقَطْعِ حَقِّهِ عن التَّرِكَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ من الْوَرَثَةِ
قَائِمٌ مَقَامَ الْمَيِّتِ فِيمَا له وَعَلَيْهِ وَلِهَذَا يَرُدُّ كُلَّ وَاحِدٍ
منهم بِالْعَيْبِ وَيَرُدُّ عليه فإذا كان الْحَاضِرُ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا
أَمْكَنَ أَنْ يَجْعَلَ أَحَدَهُمَا خَصْمًا عن الْمَيِّتِ في الْقَضَاءِ عليه
وَالْآخَرَ مَقْضِيًّا له فَتَصِحُّ الْقِسْمَةُ
وَإِنْ كان الْحَاضِرُ وَاحِدًا وَالْبَاقُونَ غَيْبًا لم يَقْسِمْ لِأَنَّهُ لَا
يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هو خَصْمًا عن الْمَيِّتِ حتى تُسْمَعَ الْبَيِّنَةُ عليه
لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ في زَمَانٍ وَاحِدٍ بِجِهَةٍ
وَاحِدَةٍ مَقْضِيًّا له وَعَلَيْهِ
وَإِنْ كان مع الْحَاضِرِ وَارِثٌ
____________________
(7/23)
صَغِيرٌ
نَصَبَ الْقَاضِي عنه وَصِيًّا وَقَسَمَ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ هَهُنَا مُمْكِنَةٌ
لِوُجُودِ مُتَقَاسِمَيْنِ حَاضِرَيْنِ
وإذا قَسَمَ الْمَنْقُولَ بين الْوَرَثَةِ بِإِقْرَارِهِمْ أو الْعَقَارَ
بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ
فَعَزَلَ نَصِيبَهُ وَوَضَعَهُ على يَدَيْ عَدْلٍ ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ
فَإِنْ أَقَرَّ كما أَقَرُّوا أُولَئِكَ فَقَدْ مَضَى الْأَمْرُ وَإِنْ أَنْكَرَ
تُرَدُّ الْقِسْمَةُ في الْمَنْقُولِ بِالْإِجْمَاعِ
وَكَذَلِكَ في الْعَقَارِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
عليه الرَّحْمَةُ في الْعَقَارِ لَا تُرَدُّ الْقِسْمَةُ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ
الْمَبْنِيَّةَ على الْبَيِّنَةِ قد تَقَدَّمَتْ على الْغَائِبِ فَلَا يُعْتَبَرُ
إنْكَارُهُ
وَلَوْ كانت الدَّارُ مِيرَاثًا وفيها ( ( ( وفيه ) ) ) وَصِيَّةٌ بِالثُّلُثِ
وَبَعْضُ الْوَرَثَةِ غَائِبٌ فَطَلَبَ الْمُوصَى له بِالثُّلُثِ الْقِسْمَةَ
بعدما أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على الْمِيرَاثِ وَالثُّلُثِ قَسَمَ لِأَنَّ الْمُوصَى
له بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ من الْوَرَثَةِ فإذا كان معه وَارِثٌ حَاضِرٌ
فَكَأَنَّهُ حَضَرَ اثْنَانِ من الْوَرَثَةِ وَلَوْ كان كَذَلِكَ قَسَمَ وَإِنْ كان
الْبَاقُونَ غَيْبًا
كَذَا هذا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَقْسُومُ عليه مَالِكًا لِلْمَقْسُومِ وَقْتَ
الْقِسْمَةِ وهو أَنْ يَكُونَ له فيه مِلْكٌ
فَإِنْ لم يَكُنْ لم تَجُزْ الْقِسْمَةُ لِمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْسُومِ فَوَاحِدٌ وهو أَنْ يَكُونَ
الْمَقْسُومُ مَمْلُوكًا لِلْمَقْسُومِ له وَقْتَ الْقِسْمَةِ فَإِنْ لم يَكُنْ
لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازُ بَعْضِ الْأَنْصِبَاءِ وَمُبَادَلَةُ
الْبَعْضِ وَكُلُّ ذلك لَا يَصِحُّ إلَّا في الْمَمْلُوكِ
وَعَلَى هذا إذَا اُسْتُحِقَّتْ الْعَيْنُ الْمَقْسُومَةُ تُبْطَلُ الْقِسْمَةُ في
الظَّاهِرِ وفي الْحَقِيقَةِ تَبَيَّنَ أنها لم تَصِحَّ وَلَوْ اُسْتُحِقَّ شَيْءٌ
منها تُبْطَلُ في الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ ثُمَّ قد تُسْتَأْنَفُ الْقِسْمَةُ وقد
لَا تُسْتَأْنَفُ وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ وقد لَا يَثْبُتُ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ أَنَّهُ إذَا وَرَدَ الِاسْتِحْقَاقُ على الْمَقْسُومِ
لَا يَخْلُو الْأَمْرُ فيه من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إن وَرَدَ على كُلِّهِ
وَإِمَّا إن وَرَدَ على جُزْءٍ فَإِنْ وَرَدَ على كل الْمَقْسُومِ تَبْطُلُ
الْقِسْمَةُ وفي الْحَقِيقَةِ لم تَصِحَّ من الْأَصْلِ لإنعدام شَرْطِ الصِّحَّةِ
وهو الْمِلْكُ الْمُشْتَرَكُ فَتُسْتَأْنَفُ الْقِسْمَةُ
وَإِنْ وَرَدَ على جُزْءٍ من الْمَقْسُومِ لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ
أَيْضًا إمَّا إن وَرَدَ على جُزْءٍ شَائِعٍ منه وَإِمَّا إن وَرَدَ على جُزْءٍ
مُعَيَّنٍ من أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ فَإِنْ وَرَدَ على جُزْءٍ شَائِعٍ لَا يَخْلُو
من أَحَدِ وَجْهَيْنِ أَيْضًا إمَّا إن وَرَدَ على جُزْءٍ شَائِعٍ من
النَّصِيبَيْنِ جميعا وَإِمَّا إن وَرَدَ على جُزْءٍ شَائِعٍ من أَحَدِ
النَّصِيبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَإِنْ وَرَدَ على جُزْءٍ شَائِعٍ من
النَّصِيبَيْنِ جميعا كَالدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ بين رَجُلَيْنِ نِصْفَيْنِ
اقْتَسَمَاهَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا ثُلُثًا من مُقَدَّمِهَا وَأَخَذَ الْآخَرُ
ثُلُثَيْنِ من مُؤَخَّرِهَا وقيمتهما ( ( ( وقيمتها ) ) ) سَوَاءٌ بِأَنْ كانت
قِيمَةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتّمِائَةِ دِرْهَمٍ مَثَلًا فَاسْتَحَقَّ نِصْفَ
الدَّارِ فَاسْتَأْنَفَ الْقِسْمَةَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ
تَبَيَّنَ أَنَّ نِصْفَ الدَّارِ شَائِعًا مِلْكُ الْمُسْتَحَقِّ فَتَبَيَّنَ
أَنَّ الْقِسْمَةَ لم تَصِحَّ في النِّصْفِ الشَّائِعِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ
فَبَطَلَتْ الْقِسْمَةُ أَصْلًا وَإِنْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ نَصِيبِ صَاحِبِ
الْمُقَدَّمِ شَائِعًا تُسْتَأْنَفُ الْقِسْمَةُ أَيْضًا عِنْدَ أبي يُوسُفَ
لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ شَرِيكُهُمَا في الدَّارِ فَظَهَرَ أَنَّ
قِسْمَتَهُمَا لم تَصِحَّ دُونَهُ فَتُسْتَأْنَفُ الْقِسْمَةُ كما إذَا وَرَدَ
الِاسْتِحْقَاقُ على نِصْفِ الدَّارِ شَائِعًا وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
عليهم ( ( ( عليهما ) ) ) الرَّحْمَة له الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ ما في بيده
( ( ( يده ) ) ) وَرَجَعَ بِبَاقِي حِصَّتِهِ وهو مِثْلُ ما اسْتَحَقَّ في نَصِيبِ
الْآخَرِ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْقِسْمَةَ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ ظَهَرَ أَنَّ
الْقِسْمَةَ لم تَصِحَّ في الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ لَا فِيمَا وَرَاءَهُ لِأَنَّ
الْمَانِعَ من الصِّحَّةِ انْعِدَامُ الْمِلْكِ وَذَلِكَ في الْقَدْرِ
الْمُسْتَحَقِّ لَا فيما وَرَاءَهُ وَلَيْسَ من ضَرُورَةِ انْعِدَامِ الصِّحَّةِ
في الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ انْعِدَامُهَا في الْبَاقِي لِأَنَّ مَعْنَى
الْقِسْمَةِ وهو الْإِفْرَازُ وَالْمُبَادَلَةُ لم يَنْعَدِمْ بِاسْتِحْقَاقِ هذا
الْقَدْرِ في الْبَاقِي فَلَا تُبْطَلُ الْقِسْمَةُ في الْبَاقِي بِخِلَافِ ما
إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الدَّارِ شَائِعًا لِأَنَّ هُنَاكَ وَإِنْ وَرَدَ
الِاسْتِحْقَاقُ على النِّصْفِ فَأَوْجَبَ بُطْلَانَ الْقِسْمَةِ فيه مَقْصُودًا
لَكِنْ من ضَرُورَتِهِ بُطْلَانُ الْقِسْمَةِ في الْبَاقِي لإنعدام مَعْنَى
الْقِسْمَةِ في الْبَاقِي أَصْلًا وَهَهُنَا لم يَنْعَدِمْ فَلَا تُبْطَلُ لَكِنْ يَثْبُتُ
الْخِيَارُ إنْ شَاءَ رَجَعَ بِبَاقِي حِصَّتِهِ في نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَذَلِكَ
مِثْلُ نِصْفِ الْمُسْتَحَقِّ لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُسْتَحَقَّ من النَّصِيبَيْنِ
جميعا فَيَرْجِعُ عليه بِذَلِكَ وهو رُبْعُ نَصِيبِهِ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ
فَسَخَ الْقِسْمَةَ لِاخْتِلَافِ مَعْنَاهَا وَلِدُخُولِ عَيْبِ الشَّرِكَةِ إذْ
الشَّرِكَةُ في الْأَعْيَانِ الْمُجْتَمَعَةِ عَيْبٌ وَالْعَيْبُ يُثْبِتُ
الْخِيَارَ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْخِلَافَ في الْمَسْأَلَةِ بين أبي
حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ
وَلَوْ كان صَاحِبُ الْمُقَدَّمِ بَاعَ نِصْفَ ما في يَدِهِ وَاسْتَحَقَّ
النِّصْفَ الْبَاقِي فإنه يَرْجِعُ على صَاحِبِهِ بِرُبْعِ ما في يَدِهِ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَغْرَمُ نِصْفَ قِيمَةِ ما بَاعَ
لِشَرِيكِهِ وَيَضُمُّهُ إلَى ما في يَدِ شَرِيكِهِ وَيَقْتَسِمَانِ نِصْفَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ ما بَيَّنَّا أَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ ظَهَرَ أَنَّ
الْقِسْمَةَ لم تَصِحَّ أَصْلًا
____________________
(7/24)
وَأَنَّ
الْبَيْعَ كان فَاسِدًا فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ ما بَاعَ شَرِيكُهُ ثُمَّ
يَقْتَسِمَانِ الْبَاقِي نِصْفَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا ما ذَكَرْنَا في الْمَسْأَلَةِ الْمُقَدَّمَةِ إلَّا أَنَّ
ههنا ( ( ( هنا ) ) ) لَا يَثْبُتُ خِيَارُ الْفَسْخِ لِمَانِعٍ وهو الْبَيْعُ
فَيَرْجِعُ على صَاحِبِهِ بِرُبْعِ ما في يَدِهِ
وَلَوْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ مُعَيَّنٍ من أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ لَا تَبْطُلُ
الْقِسْمَةُ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ
بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ هَهُنَا وَرَدَ على جُزْءٍ مُعَيَّنٍ فَلَا
يَظْهَرُ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ كان شَرِيكًا لَهُمَا فَلَا تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ
لَكِنْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ وَالْمُسْتَحَقُّ عليه إنْ شَاءَ نَقَضَ الْقِسْمَةَ
لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ أَوْجَبَ انْتِقَاضَ الْمَعْقُودِ عليه وَالِانْتِقَاضُ
في الْأَعْيَانِ الْمُجْتَمَعَةِ عَيْبٌ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ وَإِنْ شَاءَ
رَجَعَ على صَاحِبِهِ بِرُبْعِ ما في يَدِهِ لمابينا أَنَّ الْقَدْرَ
الْمُسْتَحَقَّ من النَّصِيبَيْنِ جميعا
وَلَوْ اسْتَحَقَّ كُلَّ ما في يَدِهِ لَرَجَعَ عليه بِالنِّصْفِ فإذا اسْتَحَقَّ
النِّصْفَ يَرْجِعُ بِالرُّبْعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا مِائَةُ شَاةٍ بين رَجُلَيْنِ اقْتَسَمَاهَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا
أَرْبَعِينَ تُسَاوِي خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَخَذَ الْآخَرُ سِتِّينَ تُسَاوِي
خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَاسْتُحِقَّتْ شَاةٌ من الْأَرْبَعِينَ تَسَاوِي عَشَرَةَ
دَرَاهِمَ لم تَبْطُلْ الْقِسْمَةُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ
الْقِسْمَةَ صَادَفَتْ الْمَمْلُوكَ فِيمَا وَرَاءَ الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ
وَالْمُسْتَحَقُّ مُعَيَّنٌ فَلَا تَظْهَرُ الشَّرِكَةُ هُنَا أَصْلًا فَلَا
تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ وَلَكِنْ يَرْجِعُ على شَرِيكِهِ بِحَقِّهِ وهو خَمْسَةُ
دَرَاهِمَ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ من النَّصِيبَيْنِ جميعا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
كُرُّ حِنْطَةٍ بين رَجُلَيْنِ نِصْفَانِ عَشَرَةٌ منه طَعَامٌ جَيِّدٌ
وَثَلَاثُونَ رَدِيءٌ فَاقْتَسَمَاهُ فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ
جَيِّدَةً وَثَوْبًا وَأَخَذَ الْآخَرُ ثَلَاثِينَ رَدِيئًا حتى جَازَتْ
الْقِسْمَةُ فَاسْتَحَقَّ من الثَّلَاثِينَ عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ يَرْجِعُ على
صَاحِبِهِ بِنِصْفِ الثَّوْبِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ ما ذَكَرَهُ في
الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يَرْجِعُ عليه بِثُلُثِ الثَّوْبِ وَثُلُثِ الطَّعَامِ
الْجَيِّدِ
وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ وَرَدَ على عَشَرَةٍ شَائِعَةٍ في الثَّلَاثِينَ
فَكَانَ الْمُسْتَحَقُّ في الْحَقِيقَةِ من كل عَشَرَةٍ ثُلُثَهَا وَذَلِكَ
يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِثُلُثِ الطَّعَامِ الْجَيِّدِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ طَرِيقَ جَوَازِ هذه الْقِسْمَةِ أَنْ تَكُونَ
الْعَشَرَةُ بِمُقَابَلَةِ الْعَشَرَةِ وَالْعِشْرُونَ بِمُقَابَلَةِ الثَّوْبِ
فإذا اسْتَحَقَّ منه عَشَرَةً وإنه بِمُقَابِلَةِ نِصْفِ الثَّوْبِ فَيَرْجِعُ
عليه بِنِصْفِ الثَّوْبِ
وَقَوْلُهُ لِلْمُسْتَحِقِّ عَشَرَةٌ شَائِعَةٌ في الثَّلَاثِينَ لَا الْعَشَرَةِ
الْمُعَيَّنَةِ وَهِيَ التي من حِصَّةِ الثَّوْبِ
فَنَعَمْ هذا هو الْحَقِيقَةُ إلَّا أَنَّا لو عَمِلْنَا بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ
لَاحْتَجْنَا إلَى نَقْضِ الْقِسْمَةِ وَإِعَادَتِهَا
وَلَوْ صَرَفْنَا الِاسْتِحْقَاقَ إلَى عَشَرَةٍ هِيَ من حِصَّةِ الثَّوْبِ لم
نَحْتَجْ إلَى ذلك
وَتَصَرُّفُ الْعَاقِلِ تَجِبُ صِيَانَتُهُ عن النَّقْضِ وَالْإِبْطَالِ ما
أَمْكَنَ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَاهُ
وَعَلَى هذا أَرْضٌ بين رَجُلَيْنِ نِصْفَيْنِ قُسِمَتْ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَحَدُ
النَّصِيبَيْنِ وقد بَنَى صَاحِبُهُ فيه بِنَاءً أو غَرَسَ غَرْسًا فَنَقَضَ
الْبِنَاءَ وَقَلَعَ الْغَرْسَ لم يَرْجِعْ الْمُسْتَحَقُّ عليه على صَاحِبِهِ
بِشَيْءٍ من قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ كُلَّ قِسْمَةٍ وَقَعَتْ بِإِجْبَارِ الْقَاضِي أو
بِاخْتِيَارِ الشَّرِيكَيْنِ على الْوَجْهِ الذي يَجْبُرُهُمَا الْقَاضِي لو
تَرَافَعَا إلَيْهِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ وقد بَنَى صَاحِبُهُ
فيه بِنَاءً أو غَرَسَ غَرْسًا فَنَقَضَ وَقَلَعَ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ من ذلك
على صَاحِبِهِ لِأَنَّ صَاحِبَهُ مَجْبُورٌ على الْقِسْمَةِ من جِهَةِ الْقَاضِي
فَيَكُونُ مُضَافًا إلَى الْقَاضِي أَمَّا إذَا وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ بِإِجْبَارِ
الْقَاضِي فَلَا شَكَّ فيه
وَكَذَا إذَا اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا لِأَنَّ ذلك قِسْمَةُ جَبْرٍ من حَيْثُ
الْمَعْنَى لدخولها ( ( ( لدخولهما ) ) ) تَحْتَ جَبْرِ الْقَاضِي عِنْدَ
الْمُرَافَعَةِ إلَيْهِ وإذا كان مَجْبُورًا عليه فلم يُوجَدْ منه ضَمَانُ السلام
( ( ( السلامة ) ) ) فَلَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ إذْ هو ضَمَانُ
السَّلَامَةِ
وَنَظِيرُ هذا الشَّفِيعُ إذَا أَخَذَ الْعَقَارَ من الْمُشْتَرِي بِالشُّفْعَةِ
وَبَنَى فيه أو غَرَسَ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ وَقُلِعَ الْبِنَاءُ لَا يَرْجِعُ
بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ على الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ ما مَلَكَهُ بِاخْتِيَارِهِ بَلْ
أُخِذَ منه جَبْرًا
وَكَذَلِكَ قال مُحَمَّدٌ في الْجَارِيَةِ الْمَأْسُورَةِ إذَا اشْتَرَاهَا رَجُلٌ
من أَهْلِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَخَذهَا الْمَالِكُ الْقَدِيمُ فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ
اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ على الذي أَخَذَهَا من
يَدِهِ لِأَنَّهُ لم يَأْخُذْهَا منه بِاخْتِيَارِهِ بَلْ كُرْهًا وَجَبْرًا
وَكَذَلِكَ الْأَبُ إذَا وطىء جَارِيَةَ ابْنِهِ فَأَعْلَقَهَا ثُمَّ
اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ على الِابْنِ لِأَنَّهُ
تَمَلَّكَهَا من غَيْرِ اخْتِيَارِ الِابْنِ
وقال أبو يُوسُفَ إذَا غَصَبَ جَارِيَةً فَأَبَقَتْ من يَدِهِ فَأَدَّى ضَمَانَهَا
ثُمَّ عَادَتْ الْجَارِيَةُ فَاسْتَوْلَدَهَا الْغَاصِبُ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ له
أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ على الْمَوْلَى لِأَنَّهُ كان مُخْتَارًا في
أَخْذِ الْقِيمَةِ من الْغَاصِبِ فَكَانَ ضَامِنًا السَّلَامَةَ فَيَرْجِعُ عليه
بِحُكْمِ الضَّمَانِ
وَعَلَى هذا دَارَانِ أو أَرْضَانِ بين رَجُلَيْنِ اقْتَسَمَا فَأَخَذَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا إحْدَاهُمَا وَبَنَى فيها ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ بِنِصْفِ قِيمَةِ
الْبِنَاءِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُجْبَرُ على قِسْمَةِ
الْجَمْعِ في الدُّورِ العقارات ( ( ( والعقارات ) ) ) عِنْدَهُ فإذا اقْتَسَمَا
بِأَنْفُسِهِمَا كانت الْقِسْمَةُ مِنْهُمَا مُبَادَلَةً
____________________
(7/25)
فَأَشْبَهَتْ
الْبَيْعَ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنًا سَلَامَةَ النِّصْفِ
لِصَاحِبِهِ فإذا لم يَسْلَمْ يَرْجِعُ عليه بِحُكْمِ الضَّمَانِ كما في الْبَيْعِ
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ لَا يَرْجِعُ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يُجْبَرُ على هذه الْقِسْمَةِ
عِنْدَهُمَا فَأَشْبَهَ اسْتِحْقَاقَ النِّصْفِ من دَارٍ وَاحِدَةٍ
وقال بَعْضُهُمْ يَرْجِعُ وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الْقُدُورِيُّ عليه الرَّحْمَةُ
وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يُجْبَرُ على قِسْمَةِ الْجَمْعِ
هَهُنَا عِنْدَهُمَا إذَا رَأَى الْجَمْعَ أَعْدَلَ وَلَا يُعْرَفُ ذلك من رَأْيِ
الْقَاضِي إذَا فَعَلَا بِأَنْفُسِهِمَا
وَلَوْ كَانَتَا جَارِيَتَيْنِ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَارِيَةً
فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ على شَرِيكِهِ بِالنِّصْفِ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُجْبَرُ على قِسْمَةِ الرَّقِيقِ عِنْدَهُ
فإذا اقْتَسَمَا بِتَرَاضِيهِمَا أَشْبَهَ الْبَيْعَ على ما ذَكَرْنَا
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْجِعَ
كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ عليه الرَّحْمَةُ وَفَرَّقَ بين الرَّقِيقِ وَبَيْنَ
الدُّورِ
وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ لِأَنَّ الْقَاضِيَ هُنَاكَ لَا يُجْبَرُ على الْجَمْعِ
عَيْنًا وَلَكِنَّهُ يُرَاعِي الْأَعْدَلَ في ذلك من التَّفْرِيقِ وَالْجَمْعِ
وَهَهُنَا يُجْبَرُ على الْجَمْعِ لَتَعَذُّرِ التَّفْرِيقِ فلم يُوجَدْ ضَمَانُ
السلام ( ( ( السلامة ) ) ) من صَاحِبِهِ فَلَا يَرْجِعُ عليه
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ إذَا اقْتَسَمَ قَوْمٌ دَارًا وَفِيهَا كَنِيفٌ شَارِعٌ على
الطَّرِيقِ أو ظلة فَإِنْ كان على طَرِيقِ الْعَامَّةِ لَا يُحْسَبُ ذَرْعُ
الْكَنِيفِ وَالظِّلِّ من ذَرْعِ الدَّارِ لِأَنَّ رَقَبَةَ الْأَرْضِ لَيْسَتْ
بِمَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ بَلْ هِيَ حَقُّ الْعَامَّةِ وَإِنْ كان على طَرِيقٍ
غَيْرِ نَافِذٍ يُحْسَبُ ذلك من ذَرْعِ الدَّارِ لِأَنَّ له في السِّكَّةِ
مَسْلَكًا فَأَشْبَهَ عُلُوَّ الْبَيْتِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَاتُ الْقِسْمَةِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ تَكُونَ عَادِلَةً غير
جَائِرَةٍ
وَهِيَ أَنْ تَقَعَ تَعْدِيلًا لِلْأَنْصِبَاءِ من غَيْرِ زِيَادَةٍ على الْقَدْرِ
الْمُسْتَحَقِّ من النَّصِيبِ وَلَا نُقْصَانَ عنه لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازُ
بَعْضِ الْأَنْصِبَاءِ وَمُبَادَلَةُ الْبَعْضِ وَمَبْنَى الْمُبَادَلَاتِ على
الْمُرَاضَاةِ فإذا وَقَعَتْ جَائِرَةً لم يُوجَدْ التَّرَاضِي وَلَا إفْرَازُ
نَصِيبِهِ بِكَمَالِهِ لِبَقَاءِ الشَّرِكَةِ في الْبَعْضِ فلم تَجُزْ وَتُعَادُ
وَعَلَى هذا إذَا ظَهَرَ الْغَلَطُ في الْقِسْمَةِ الْمُبَادَلَةِ بِالْبَيِّنَةِ
أو بِالْإِقْرَارِ تُسْتَأْنَفُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لم يَسْتَوْفِ حَقَّهُ
فَظَهَرَ أَنَّ مَعْنَى الْقِسْمَةِ لم يَتَحَقَّقْ بِكَمَالِهِ وَلَوْ ادَّعَى
أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْغَلَطَ في الْقِسْمَةِ فَهَذَا لَا يَخْلُو من أَحَدِ
وَجْهَيْنِ إمَّا إن كان الْمُدَّعِي أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ وَإِمَّا إن
كان لم يُقِرَّ بِذَلِكَ فَإِنْ كان قد أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ لَا
يُسْمَعُ منه دَعْوَى الْغَلَطِ لِكَوْنِهِ مُنَاقِضًا في دَعْوَاهُ لِأَنَّ
الْإِقْرَارَ بِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ إقْرَارٌ بِوُصُولِ حَقِّهِ إلَيْهِ
بِكَمَالِهِ وَدَعْوَى الْغَلَطِ إخْبَارٌ أَنَّهُ لم يَصِلْ إلَيْهِ حَقُّهُ
بِكَمَالِهِ فَيَتَنَاقَضُ وَإِنْ كان لم يُقِرَّ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ لَا
تُعَادُ الْقِسْمَةُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لِأَنَّ الْقِسْمَةَ قد صَحَّتْ من
حَيْثُ الظَّاهِرُ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُهَا إلَّا بِحُجَّةٍ
فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أُعِيدَتْ الْقِسْمَةُ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ لم
تُقَمْ له بَيِّنَةٌ وَأَنْكَرَ شَرِيكُهُ فَأَرَادَ اسْتِحْلَافَهُ حَلَّفَهُ على
ما ادَّعَى من الْغَلَطِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عليه حَقًّا هو جَائِزُ الْوُجُودِ
وَالْعَدَمِ وهو يُنْكِرُ فَيَحْلِفُ
وَبَيَانُ ذلك دَارٌ بين رَجُلَيْنِ اقْتَسَمَا وَاسْتَوْفَى كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا حَقَّهُ ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا غَلَطًا في الْقِسْمَةِ لَا تُعَادُ
الْقِسْمَةُ وَلَكِنْ يُسْأَلُ الْبَيِّنَةَ على الْغَلَطِ فَإِنْ أَقَامَ
الْبَيِّنَةَ وَإِلَّا فَيَحْلِفُ شَرِيكُهُ إنْ شَاءَ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ
حَلَفَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَنَكَلَ الْآخَرُ فَإِنْ كان الشُّرَكَاءُ
ثَلَاثَةً يَجْمَعُ بين نَصِيبِ الْمُدَّعِي وَبَيْنَ نَصِيبِ النَّاكِلِ
فَيَقْسِمُ بَيْنَهُمَا على قَدْرِ نَصِيبِهِمَا لِأَنَّ نُكُولَهُ دَلِيلُ كَوْنِ
الْمُدَّعِي صَادِقًا في دَعْوَاهُ في حَقِّهِ فَكَانَ حُجَّةً في حَقِّهِ لَا في
حَقِّ الشَّرِيكِ الْحَالِفِ فلم تَصِحَّ الْقِسْمَةُ في حَقِّهِمَا فَتُعَادُ في
قَدْرِ نَصِيبِهِمَا
وَكَذَلِكَ لو ادَّعَى الْغَلَطَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَالْقَبْضِ في الْمَكِيلَاتِ
وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَذْرُوعَاتِ وَلَوْ كان بين رَجُلَيْنِ دَارَانِ اقتسماها
( ( ( اقتسماهما ) ) ) فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَارًا ثُمَّ ادَّعَى
أَحَدُهُمَا الْغَلَطَ في الْقِسْمَةِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ على ذلك
فَالْقِسْمَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ وَعِنْدَهُمَا لَا
تَبْطُلُ وَلَكِنْ يقضي لِلْمُدَّعِي بِذَلِكَ الذَّرْعِ من الدَّارِ الْأُخْرَى
وَبَنَوْا هذه الْمَسْأَلَةَ على بَيْعِ ذِرَاعٍ من دَارٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ قِسْمَةَ الْجَمْعِ في الدُّورِ بِالتَّرَاضِي
جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ وَإِنْ كان لَازِمًا في
نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ لَكِنْ هذا النَّوْعُ بِالْمُبَادَلَاتِ أَشْبَهُ
وإذا تَحَقَّقَتْ الْمُبَادَلَةُ صَحَّ الْبِنَاءُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ اقْتَسَمَا دَارًا بَيْنَهُمَا فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً
ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا بَيْتًا في يَدِ صَاحِبِهِ أَنَّهُ وَقَعَ في
قِسْمَتِهِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ وَإِنْ أَقَامَا جميعا
الْبَيِّنَةَ أُخِذَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ خَارِجٌ وَإِنْ كان قبل الْإِشْهَادِ
وَالْقَبْضِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا
وَكَذَا لو اخْتَلَفَا في الْحُدُودِ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدًّا في
يَدِ صَاحِبِهِ أَنَّهُ أَصَابَهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قضى لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِالْحَدِّ الذي في يَدِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ كُلَّ
____________________
(7/26)
وَاحِدٍ
مِنْهُمَا عَمَّا في يَدِ صَاحِبِهِ خَارِجٌ
وَإِنْ قَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ يقضي بِبَيِّنَتِهِ وَإِنْ لم تُقَمْ
لَهُمَا بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا
وَهَلْ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِنَفْسِ التحالف ( ( ( التالف ) ) ) أَمْ يَحْتَاجُ
فيه إلَى فَسْخِ الْقَاضِي اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه على ما عُرِفَ في
الْبُيُوعِ
ولن اقْتَسَمَ رَجُلَانِ أَقْرِحَةً فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا قَرَاحَيْنِ وَالْآخَرُ
أَرْبَعَةً ثُمَّ ادَّعَى صَاحِبُ الْقَرَاحَيْنِ أَنَّ أَحَدَ الْأَقْرِحَةِ
الْأَرْبَعَةِ أَصَابَهُ في قِسْمَتِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ له بِهِ
لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ هذا في أَثْوَابٍ اقْتَسَمَاهَا فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ بعضها ( ( (
بعضهما ) ) ) ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ أَحَدَ الْأَثْوَابِ الذي في يَدِ
صَاحِبِهِ أَصَابَهُ في قِسْمَتِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ له بِهِ
وَلَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على صَاحِبِهِ ثَوْبًا مِمَّا في يَدِهِ
أَنَّهُ أَصَابَهُ في قِسْمَتِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قضى لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِمَا في يَدِ الْآخَرِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَّا في يَدِ
صَاحِبِهِ خَارِجٌ
وَلَوْ اقْتَسَمَا مِائَةَ شَاةٍ فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا خَمْسَةً وَخَمْسِينَ
وَأَصَابَ الْآخَرُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ ادَّعَى صَاحِبُ الْأَوْكَسِ
الْغَلَطَ في الْقِسْمَةِ أو الْخَطَأَ في التَّقْوِيمِ لم تُقْبَلْ منه إلَّا
بِبَيِّنَةٍ
وَلَوْ قال أَخْطَأْنَا في الْعَدَدِ وَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا خَمْسِينَ
وَهَذِهِ الْخَمْسَةُ في قِسْمَتِهِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ تَحَالَفَا وَإِنْ
أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ رُدَّتْ الْقِسْمَةُ
وَلَوْ قال أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَخَذْتَ أنت إحْدَى وَخَمْسِينَ غَلَطًا
وَأَخَذْتُ أنا تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ وقال الْآخَرُ ما أَخَذْتُ إلَّا خَمْسِينَ
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مع يَمِينِهِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِاسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ
على حَقِّهِ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ تَخْرُجُ قِسْمَةُ عَرْصَةِ الدَّارِ بِالذِّرَاعِ أَنَّهُ
يُحْسَبُ في الْقِسْمَةِ كُلُّ ذِرَاعَيْنِ من الْعُلْوِ بِذِرَاعٍ من السُّفْلِ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُحْسَبُ ذِرَاعٌ من السُّفْلِ بِذِرَاعٍ من الْعُلْوِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُحْسَبُ على الْقِيمَةِ دُونَ الذَّرْعِ
زَعَمَ كُلُّ وَاحِدٍ منهم أَنَّ التَّعْدِيلَ فِيمَا يَقُولُهُ وَالْخِلَافُ في
هذه الْمَسْأَلَةِ بين أبي حَنِيفَةَ وَبَيْنَ أبي يُوسُفَ مَبْنِيٌّ على
الْخِلَافِ في مَسْأَلَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ صَاحِبَ الْعُلْوِ ليس له أَنْ
يَبْنِيَ على الْعُلْوِ من غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ السُّفْلِ وَإِنْ لم يَضُرَّ
بِصَاحِبِ السُّفْلِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ له أَنْ يَبْنِيَ إنْ لم يَضُرَّ الْبِنَاءُ بِهِ وَوَجْهُ
الْبِنَاءِ أَنَّ صَاحِبَ الْعُلْوِ إذَا لم يَمْلِكْ الْبِنَاءَ على عُلُوِّهِ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كان لِلْعُلُوِّ مَنْفَعَةٌ وَاحِدَةٌ
وَهِيَ مَنْفَعَةُ السُّكْنَى فَحَسْبُ وَلِلسُّفْلِ مَنْفَعَتَانِ مَنْفَعَةُ
السُّكْنَى وَمَنْفَعَةُ الْبِنَاءِ عليه
وَكَذَا السُّفْلُ كما يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى يَصْلُحُ لِجَعْلِ الدَّوَابِّ فيه
فَأَمَّا الْعُلْوُ فَلَا يَصْلُحُ إلَّا لِلسُّكْنَى خَاصَّةً فَكَانَ لِلسُّفْلِ
مَنْفَعَتَانِ وَلِلْعُلْوِ مَنْفَعَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ عِنْدَهُ
على الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَمَّا مَلَكَ صَاحِبُ
الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ على عُلُوِّهِ كانت له مَنْفَعَتَانِ أَيْضًا فَاسْتَوَى
الْعُلْوُ وَالسُّفْلُ في الْمَنْفَعَةِ فَوَجَبَ التَّعْدِيلُ بِالسَّوِيَّةِ
بَيْنَهُمَا في الذَّرْعِ
وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَإِنَّمَا اعْتَبَرَ الْقِيمَةَ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْبِلَادِ
وَأَهْلَهَا في ذلك مُخْتَلِفَةٌ فَمِنْهُمْ من يَخْتَارُ السُّفْلَ على الْعُلْوِ
وَمِنْهُمْ من يَخْتَارُ الْعُلْوَ على السُّفْلِ فَكَانَ التَّعْدِيلُ في
اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَالْعَمَلُ في الْمَسْأَلَةِ على قَوْلِ مُحَمَّدٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ وهو اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا فَضَّلَ السُّفْلَ على الْعُلْوِ
بِنَاءً على عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ من اخْتِيَارِهِمْ السُّفْلَ على الْعُلْوِ
وأبو يُوسُفَ إنَّمَا سَوَّى بَيْنَهُمَا على عَادَةِ أَهْلِ بَغْدَادَ
لِاسْتِوَاءِ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ عِنْدَهُمْ فَأَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا الْفَتْوَى على عَادَةِ أَهْلِ زَمَانِهِ
وَمُحَمَّدٌ بَنَى الْفَتْوَى على الْمَعْلُومِ من اخْتِلَافِ الْعَادَاتِ
بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ فَكَانَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ من حَيْثُ الصُّورَةُ
لَا من حَيْثُ الْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَبَيَانُ ذلك في سُفْلٍ بين رَجُلَيْنِ وَعُلُوٍّ من بَيْتٍ آخَرَ بَيْنَهُمَا
أراد ( ( ( أرادا ) ) ) قِسْمَتَهُمَا يُقْسَمُ الْبِنَاءُ على الْقِيمَةِ بِلَا
خِلَافٍ
وَأَمَّا الْعَرْصَةُ فَتُقْسَمُ بِالذَّرْعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِالْقِيمَةِ
ثُمَّ اخْتَلَفَ أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ فِيمَا بَيْنَهُمَا في كَيْفِيَّةِ
الْقِسْمَةِ بِالذَّرْعِ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ ذِرَاعٌ بِذِرَاعَيْنِ على
الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ ذِرَاعٌ بِذِرَاعٍ
وَلَوْ كان بَيْنَهُمَا بَيْتٌ تَامٌّ عُلُوٌّ وَسُفْلٌ وَعُلُوٌّ من بَيْتٍ آخَرَ
فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يُحْسَبُ في الْقِسْمَةِ كُلُّ ذِرَاعٍ من الْعُلْوِ
وَالسُّفْلِ بِثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ من الْعُلْوِ أَرْبَاعًا عِنْدَهُ لِمَا
ذَكَرْنَا من الْأَصْلِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ أَرْبَاعًا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ ذِرَاعٌ من السُّفْلِ وَالْعُلْوِ بِذِرَاعَيْنِ من
الْعُلْوِ لِاسْتِوَاءِ السُّفْلِ وَالْعُلْوِ عِنْدَهُ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ
أَثْلَاثًا
وَلَوْ كان بَيْنَهُمَا بَيْتٌ تَامٌّ سُفْلٌ وَعُلُوٌّ وَسُفْلٌ آخَرُ فَعِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ يُحْسَبُ في الْقِسْمَةِ كُلُّ ذِرَاعٍ من السُّفْلِ وَالْعُلْوِ
بِذِرَاعٍ وَنِصْفٍ من السُّفْلِ وَذِرَاعٍ من سُفْلِ الْبَيْتِ بِذِرَاعٍ من
السُّفْلِ الْآخَرِ وَذِرَاعٍ من عُلُوِّهِ بِنِصْفِ ذِرَاعٍ من السُّفْلِ
الْآخَرِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ ذِرَاعٌ من التَّامِّ بِذِرَاعَيْنِ من السُّفْلِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَخْرُجُ ما إذَا اقْتَسَمَا دَارًا وَفَضَّلَا بَعْضَهَا
على بَعْضٍ بِالدَّرَاهِمِ أو الدَّنَانِيرِ
____________________
(7/27)
لِفَضْلِ
قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْمَوْضِعِ أَنَّ الْقِسْمَةَ جَائِزَةٌ لِأَنَّهَا
وَقَعَتْ عَادِلَةً من حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ الدَّارَ قد يُفَضَّلُ بَعْضُهَا
على بَعْضٍ بِالْبِنَاءِ وَالْمَوْضِعِ فَكَانَ ذلك تفضيلا ( ( ( تفصيلا ) ) ) من
حَيْثُ الصُّورَةُ تَعْدِيلًا من حَيْثُ الْمَعْنَى وَلَوْ لم يُسَمِّيَا قِيمَةَ
فَضْلِ الْبِنَاءِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ جَازَتْ الْقِسْمَةُ اسْتِحْسَانًا وَتَجِبُ
قِيمَةُ فَضْلِ الْبِنَاءِ وَإِنْ لم يُسَمِّيَاهَا في الْقِسْمَةِ
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ الْقِسْمَةُ لِأَنَّ هذه قِسْمَةُ بَعْضِ الدَّارِ
دُونَ بَعْضٍ لِأَنَّ الْعَرْصَةَ مع الْبِنَاءِ بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ
وَقِسْمَةُ الْبِنَاءِ بِالْقِيمَةِ فإذا وُجِدَتْ الْقِسْمَةُ مَجْهُولَةً
فَوَقَعَتْ الْقِسْمَةُ لِلْعَرْصَةِ دُونَ الْبِنَاءِ بَقِيَتْ وَإِنَّهَا غَيْرُ
جَائِزَةٍ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قِسْمَةَ الْعَرْصَةِ قد صَحَّتْ بِوُقُوعِهَا في
مَحِلِّهَا وهو الْمِلْكُ وَلَا صِحَّةَ لها إلَّا بِقِسْمَةِ الْبِنَاءِ وَذَلِكَ
بِالْقِيمَةِ فَتَجِبُ على صَاحِبِ الْفَضْلِ قِيمَةُ فَضْلِ الْبِنَاءِ وَإِنْ لم
يُسَمَّ ضَرُورَةً صِحَّةَ الْقِسْمَةِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ تَخْرُجُ أَيْضًا قِسْمَةُ الْجَمْعِ في الْأَجْنَاسِ
الْمُخْتَلِفَةِ إنها غَيْرُ جَائِزَةٍ جَبْرًا بِالْإِجْمَاعِ لِتَعَذُّرِ
تَعْدِيلِ الْأَنْصِبَاءِ إلَّا بِالْقِيمَةِ وَإِنَّهَا لَيْسَتْ مَحِلَّ
الْقِسْمَةِ على ما مَرَّ وَلَا يَجُوزُ في الرَّقِيقِ وَالدُّورِ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهَا في حُكْمِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ
وَلَا تَقَعُ الْقِسْمَةُ فيها عَادِلَةً أو جائزة ( ( ( جائرة ) ) ) وَلَا
تُقْسَمُ الْأَوْلَادُ في بُطُونِ الْغَنَمِ لِتَعَذُّرِ التَّعْدِيلِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ رَدُّ الْمَقْسُومِ بِالْعَيْبِ في نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ
إذَا ظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ فَقَدْ ظَهَرَ أنها وَقَعَتْ جَائِرَةً لَا عَادِلَةً
فَكَانَ له حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ كما في الْبَيْعِ وَلَوْ امْتَنَعَ
الرَّدُّ بِالْعَيْبِ لِوُجُودِ الْمَانِعِ منه يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ كما في
الْبَيْعِ إلَّا أَنَّ في الْبَيْعِ يَرْجِعُ بِتَمَامِ النُّقْصَانِ وفي
الْقِسْمَةِ يَرْجِعُ بِالنِّصْفِ لِأَنَّ النُّقْصَانَ في الْقِسْمَةِ يَرْجِعُ
بِالنَّصِيبَيْنِ جميعا فَيَرْجِعُ بِنِصْفِ النُّقْصَانِ من نَصِيبِ شَرِيكِهِ
وَأَمَّا الرَّدُّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ فَيَثْبُتُ في قِسْمَةِ
الرِّضَا لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فيها مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ وَهَذَا النَّوْعُ
أَشْبَهُ بِالْمُبَادَلَاتِ لِوُجُودِ الْمُرَاضَاةِ من الْجَانِبَيْنِ فَيَثْبُتُ
فيه خِيَارُ الرُّؤْيَةِ كما في الْبَيْعِ وَلَا يَثْبُتُ في قِسْمَةِ الْقَضَاءِ لَا
لِخُلُوِّهَا عن الْمُبَادَلَةِ بَلْ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ
لِأَنَّهُ لو رَدَّهَا بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ لَأَجْبَرَهُ الْقَاضِي
ثَانِيًا فَلَا يُفِيدُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ في الْقِسْمَةِ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ يَتْبَعُ
الْمُبَادَلَةَ الْمَحْضَةَ لِثُبُوتِهَا على مُخَالِفَةِ الْقِيَاسِ
وَالْقِسْمَةُ مُبَادَلَةٌ من وَجْهٍ فَلَا تَحْتَمِلُ الشُّفْعَةَ
وَلِأَنَّهَا لو وَجَبَتْ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَجِبَ لِلشَّرِيكِ أو لِلْجَارِ
لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ لِغَيْرِ الْبَائِعِ
وَالْمُشْتَرِي وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ الشَّرِيكَ أَوْلَى من
الْجَارِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْوُجُوبُ عِنْدَ الطَّلَبِ حتى يُجْبَرَ على الْقِسْمَةِ فِيمَا
يَنْتَفِعُ كُلُّ وَاحِدٍ من الشَّرِيكَيْنِ بِقِسْمَتِهِ وَكَذَا فِيمَا
يَنْتَفِعُ بها أَحَدُهُمَا وَيَسْتَضِرُّ الْآخَرُ عِنْدَ طَلَبِ الْمُنْتَفِعِ
بِالْإِجْمَاعِ وَعِنْدَ طَلَبِ الْمُسْتَضِرِّ اخْتِلَافُ رِوَايَتَيْ الْحَاكِمِ
وَالْقُدُورِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وقد ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا اللُّزُومُ بَعْدَ تَمَامِهَا في النَّوْعَيْنِ جميعا حتى لَا
يَحْتَمِلَ الرُّجُوعُ عنها إذَا تَمَّتْ
وَأَمَّا قبل التَّمَامِ فَكَذَلِكَ في أَحَدِ نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ وهو قِسْمَةُ
الْقَضَاءِ دُونَ النَّوْعِ الْآخَرِ وهو قِسْمَةُ الشُّرَكَاءِ
بَيَانُ ذلك أَنَّ الدَّارَ إذَا كانت مُشْتَرَكَةً بين قَوْمٍ فَقَسَمَهَا
الْقَاضِي أو الشُّرَكَاءُ بِالتَّرَاضِي فَخَرَجَتْ السِّهَامُ كُلُّهَا
بِالْقُرْعَةِ لَا يَجُوزُ لهم الرُّجُوعُ
وَكَذَا إذَا خَرَجَ الْكُلُّ إلَّا سَهْمٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ ذلك خُرُوجُ
السِّهَامِ كُلِّهَا لِكَوْنِ ذلك السَّهْمُ مُتَعَيَّنًا بِمَنْ بَقِيَ من
الشُّرَكَاءِ وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُ السِّهَامِ دُونَ الْبَعْضِ فَكَذَلِكَ في
قِسْمَةِ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ لو رَجَعَ أَحَدُهُمْ لَأَجْبَرَهُ الْقَاضِي على
الْقِسْمَةِ ثَانِيًا فَلَا يُفِيدُ رُجُوعُهُ
وَأَمَّا في قِسْمَةِ التَّرَاضِي فَيَجُوزُ الرُّجُوعُ لِأَنَّ قِسْمَةَ
التَّرَاضِي لَا تَتِمُّ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ السِّهَامِ كُلِّهَا وَكُلُّ
عَاقِدٍ بِسَبِيلٍ من الرُّجُوعِ عن الْعَقْدِ قبل تَمَامِهِ كما في الْبَيْعِ
وَنَحْوِهِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْقِسْمَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
حُكْمُ الْقِسْمَةِ ثُبُوتُ اخْتِصَاصٍ بِالْمَقْسُومِ عَيْنًا تَصَرُّفًا فيه
فَيَمْلِكُ الْمَقْسُومُ له في الْمَقْسُومِ جَمِيعَ التَّصَرُّفَاتِ
الْمُخْتَصَّةِ بِالْمِلْكِ حتى لو وَقَعَ في نَصِيبِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ
سَاحَةٌ لَا بِنَاءَ فيها وَوَقَعَ الْبِنَاءُ في نَصِيبِ الْآخَرِ فَلِصَاحِبِ
السَّاحَةِ أَنْ يَبْنِيَ في سَاحَتِهِ وَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ بِنَاءَهُ وَلَيْسَ
لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ أَنْ يَمْنَعَهُ وَإِنْ كان يُفْسِدُ عليه الرِّيحَ
وَالشَّمْسَ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ في مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا يَمْنَعُ عنه
وَكَذَا له أَنْ يَبْنِيَ في سَاحَتِهِ مَخْرَجًا أو تَنُّورًا أو حَمَّامًا أو
رَحًى لِمَا قُلْنَا
وَكَذَا له أَنْ يُقْعِدَ في بِنَائِهِ حَدَّادًا أو قَصَّارًا وَإِنْ كان
يَتَأَذَّى بِهِ جَارُهُ لِمَا قُلْنَا
وَلَهُ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا أو كُوَّةً لِمَا ذَكَرْنَا
أَلَا تَرَى أَنَّ له أَنْ يَرْفَعَ الْجِدَارَ أَصْلًا فَفَتْحُ الْبَابِ
وَالْكُوَّةِ أَوْلَى وَلَهُ أَنْ يَحْفِرَ في مِلْكِهِ بِئْرًا أو بَالُوعَةً أو
كِرْبَاسًا وَإِنْ كان بهى ( ( ( يهي ) ) ) بِذَلِكَ حَائِطَ جَارِهِ وَلَوْ
طَلَبَ جَارُهُ تَحْوِيلَ ذلك لم يُجْبَرْ على التَّحْوِيلِ وَلَوْ سَقَطَ
الْحَائِطُ من ذلك
____________________
(7/28)
لَا
يُضْمَنُ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ منه في مِلْكِ الْغَيْرِ وَالْأَصْلُ أَنْ لَا
يُمْنَعَ الْإِنْسَانُ من التَّصَرُّفِ في مِلْكِ نَفْسِهِ إلَّا أَنَّ الْكَفَّ
عَمَّا يُؤْذِي الْجَارَ أَحْسَنُ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ
شيئا وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } إلَى قَوْله تَعَالَى { وَالْجَارِ الْجُنُبِ
} خَصَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِ فَلَئِنْ
لَا يُحْسِنُ إلَيْهِ فَلَا أَقَلَّ من أَنْ يَكُفَّ عنه أَذَاهُ
وَعَلَى هذا دَارٌ بين رَجُلَيْنِ وَلِرَجُلٍ فيها طَرِيقٌ فَأَرَادَا أَنْ
يَقْتَسِمَاهَا ليس لِصَاحِبِ الطَّرِيقِ مَنْعُهُمَا عن الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُمَا
بِالْقِسْمَةِ مُتَصَرِّفَانِ في مِلْكِ أَنْفُسِهِمَا فَلَا يُمْنَعَانِ عنه
فَيَقْتَسِمَانِ ما وَرَاءَ الطَّرِيقِ وَيَتْرُكَانِ الطَّرِيقَ على حَالِهِ على
سَعَةِ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ لِمَا ذَكَرْنَا من قَبْلُ
وَلَوْ بَاعُوا الدَّارَ وَالطَّرِيقَ فَإِنْ كانت رَقَبَةُ الطَّرِيقِ
مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمْ قَسَمُوا مَمَرَّ الطَّرِيقِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا
وَإِنْ كانت الرَّقَبَةُ لِشَرِيكَيْ الدَّارِ وَلِصَاحِبِ الطَّرِيقِ حَقُّ
الْمُرُورِ حَكَى الْقُدُورِيُّ عن الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنْ لَا
شَيْءَ لِصَاحِبِ الطَّرِيقِ من الثَّمَنِ وَيَكُونُ الثَّمَنُ كُلُّهُ
لِلشَّرِيكَيْنِ
وَرَوَى مُحَمَّدٌ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الشَّرِيكَيْنِ يَضْرِبُ بِحَقِّهِ من
الْمَنْفَعَةِ وَيَضْرِبُ صَاحِبُ الطَّرِيقِ بِحَقِّ الْمُرُورِ وَطَرِيقُ
مَعْرِفَةِ ذلك أَنْ يَنْظُرَ إلَى قِيمَةِ الْعَرْصَةِ بِغَيْرِ طَرِيقٍ
وَيَنْظُرَ إلَى قِيمَتِهَا وَفِيهَا طَرِيقٌ فَيَكُونَ لِصَاحِبِ الطَّرِيقِ
فَضْلُ ما بَيْنَهُمَا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ من الشَّرِيكَيْنِ نِصْفُ قِيمَةِ
الْمَنْفَعَةِ إذَا كان فيها طَرِيقٌ
وَجْهُ ما حُكِيَ عن الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ لَا
يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ مَقْصُودًا بَلْ يَحْتَمِلُهُ تَبَعًا لِلرَّقَبَةِ أَلَا
تَرَى أَنَّهُ لو بَاعَهُ وَحْدَهُ لم يَجُزْ فإذا بِيعَ الطَّرِيقُ بِإِذْنِهِ
فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ أَصْلًا فَلَا يُقَابِلُهُ ثَمَنٌ وج ( ( ( وجه ) ) ) ما
رُوِيَ عن محم ( ( ( محمد ) ) ) أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ
مَقْصُودًا بَلْ يَحْتَمِلُهُ تَبَعًا لِلرَّقَبَةِ وَهَهُنَا ما بِيعَ مَقْصُودًا
بَلْ تَبَعًا لِلرَّقَبَةِ فَيُقَابِلُهُ الثَّمَنُ لَكِنْ ثَمَنُ الْحَقِّ لَا
ثَمَنُ الْمِلْكِ على ما ذَكَرْنَا
وَكَذَلِكَ دَارٌ بين رَجُلَيْنِ فيها مَسِيلُ الْمَاءِ فَأَرَادَا أَنْ
يَقْتَسِمَاهَا ليس لِصَاحِبِ الْمَسِيلِ مَنْعُهُمَا من الْقِسْمَةِ لِمَا
قُلْنَا بَلْ يَقْسِمُ الدَّارَ وَيَتْرُكُ الْمَسِيلَ على حَالِهِ كما في
الطَّرِيقِ
وَكَذَلِكَ لو كان في الدَّارِ مَنْزِلٌ لِرَجُلٍ وَطَرِيقُهُ في الدَّارِ فَأَرَادَا
أَنْ يَقْتَسِمَا الدَّارَ لَا يُمْنَعَانِ من الْقِسْمَةِ وَلَكِنْ يَتْرُكَانِ
طَرِيقَ الْمَنْزِلِ على حَالِهِ على سَعَةِ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ لَا على سَعَةِ
بَابِ الْمَنْزِلِ على ما ذَكَرْنَا
وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ أَنْ يَفْتَحَ إلَى هذا الطَّرِيقِ بَابًا
آخَرَ له ذلك لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ في مِلْكِ نَفْسِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّ له أَنْ يَرْفَعَ الْحَائِطَ كُلَّهُ فَهَذَا أَوْلَى
وَلَوْ اشْتَرَى صَاحِبُ الْمَنْزِلِ دَارًا من وَرَاءِ الْمَنْزِلِ وَفَتَحَ
بَابَهُ إلَى الْمَنْزِلِ فَإِنْ كان سَاكِنُ الدَّارِ وَالْمَنْزِلِ وَاحِدًا
فَلَهُ أَنْ يَمُرَّ من الدَّارِ إلَى الْمَنْزِلِ وَمِنْ الْمَنْزِلِ إلَى
الطَّرِيقِ الذي في الدَّارِ الْأُولَى لِأَنَّ له حَقَّ الْمُرُورِ في هذا
الطَّرِيقِ
وَإِنْ كان سَاكِنُ الدَّارِ غير سَاكِنِ الْمَنْزِلِ فَلَيْسَ لِسَاكِنِ الدَّارِ
أَنْ يَمُرَّ في الطَّرِيقِ الذي في الدَّارِ الْأُولَى لِأَنَّهُ لَا حَقَّ له في
هذا الطَّرِيقِ فَيُمْنَعُ من الْمُرُورِ فيه
دَارٌ بين رَجُلَيْنِ في سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ اقْتَسَمَاهَا وَأَخَذَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً منها فَأَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ
يَفْتَحَ بَابًا أو كُوَّةً إلَى السِّكَّةِ له ذلك وَلَا يَسَعُ لِأَهْلِ
السِّكَّةِ مَنْعُهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَصَرِّفٌ في مِلْكِ
نَفْسِهِ فَيَمْلِكُهُ
أَلَا تَرَى أَنَّ له رَفْعَ الْحَائِطِ أَصْلًا فَالْبَابُ وَالْكُوَّةُ أَوْلَى
وَعَلَى هذا حَائِطٌ بين قَسِيمَيْنِ وَلِأَحَدِ الْقَسِيمَيْنِ عليه جُذُوعُ
الْحَائِطِ الْآخَرِ فَإِنْ شَرَطُوا قَطْعَ الْجُذُوعِ في الْقِسْمَةِ قطعت ( ( (
قطعه ) ) ) لِقَوْلِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ
شُرُوطِهِمْ وَإِنْ لم يَشْتَرِطُوا تُرِكَ على حَالِهَا لِأَنَّ التَّرْكَ وَإِنْ
كان ضَرَرًا لَكِنَّهُمْ لَمَّا لم يَشْتَرِطُوا الْقَطْعَ في الْقِسْمَةِ فَقَدْ
اُلْتُزِمَ الضَّرَرُ
وَكَذَلِكَ لو كان وَقَعَ على هذا الْحَائِطِ دَرَجَةٌ أو أُسْطُوَانَةٌ جُمِعَ
عليها جُذُوعٌ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ رَوْشَنًا وَقَعَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ
شَرَفًا على نَصِيبِ الْآخَرِ لم يَكُنْ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يُقْلِعَ
الرَّوْشَنَ من غَيْرِ شَرْطِ الْقَلْعِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كان لِأَحَدِهِمَا أَطْرَافُ خَشَبٍ على حَائِطِ صَاحِبِهِ فَإِنْ كان
مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عليها سَقْفٌ لم يُكَلَّفْ قَلْعُهَا وَإِنْ كان
لَا يُمْكِنُ كُلِّفَ الْقَلْعَ لِأَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ عليها
سَقْفٌ أَمْكَنَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فَيَلْتَحِقُ بِالْحُقُوقِ فَأَشْبَهَ
الرَّوْشَنَ وإذا لم يُمْكِنْ تَعَذُّرُ إلْحَاقِهَا بِالْحُقُوقِ فَبَقِيَ
شَاغِلًا هو لِصَاحِبِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيُكَلَّفُ قَطْعَهَا
وَلَوْ كان لِأَحَدِهِمَا شَجَرَةٌ أَغْصَانُهَا مُظِلَّةٌ على نَصِيبِ الْآخَرِ
فَهَلْ تُقْطَعُ ذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ
لِأَنَّ في الْقَطْعِ ضَرَرًا لِصَاحِبِهَا
وَذَكَرَ ابن رُسْتُمَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ تُقْطَعُ كما يُقْطَعُ أَطْرَافُ
الْخَشَبِ الذي لَا يُمْكِنُ تَسْقِيفُهَا
وَلَوْ اخْتَلَفَ أَهْلُ طَرِيقٍ في الطَّرِيقِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ منهم
أَنَّهُ له فَهُوَ بَيْنَهُمْ بِالتَّسْوِيَةِ على عَدَدِ الرؤوس لَا على
ذُرْعَانِ الدُّورِ وَالْمَنَازِلِ لِأَنَّهُمْ اسْتَوَوْا في الْيَدِ
لِاسْتِوَائِهِمْ في الْمُرُورِ فيه إلَّا أَنْ يَقُومَ لِأَحَدِهِمْ بَيِّنَةٌ
فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْيَدِ بِالْبَيِّنَةِ
دَارٌ لِرَجُلٍ وَفِيهَا طَرِيقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
____________________
(7/29)
رَجُلٍ
فَمَاتَ صَاحِبُ الدَّارِ فَاقْتَسَمَتْ الْوَرَثَةُ الدَّارَ بَيْنَهُمْ
وَتَرَكُوا الطَّرِيقَ كان الطَّرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّجُلِ نِصْفَيْنِ لَا
على عَدَدِ الرؤوس حتى لو بَاعُوا الدَّارَ يُقْسَمُ الثَّمَنُ بين الْوَرَثَةِ
وَبَيْنَهُ نِصْفَيْنِ لَا على عَدَدِ الرؤوس لِأَنَّ الْوَرَثَةَ قَامُوا مَقَامَ
الْمُوَرِّثِ وقد كان الطَّرِيقُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَكَذَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُمْ
وَلَوْ لم يَعْرِفْ أَنَّ الدَّارَ مِيرَاثٌ بَيْنَهُمْ وَجَحَدُوا ذلك
فَالطَّرِيقُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ على عَدَدِ الرؤوس لِاسْتِوَائِهِمْ في
الْيَدِ على ما مَرَّ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُوجِبُ نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الذي يُوجِبُ نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ
وُجُودِهَا أَنْوَاعٌ منها ظُهُورُ دَيْنٍ على الْمَيِّتِ إذَا طَلَبَ
الْغُرَمَاءُ دُيُونَهُمْ وَلَا مَالَ لِلْمَيِّتِ سِوَاهُ وَلَا قَضَاهُ
الْوَرَثَةُ من مَالِ أَنْفُسِهِمْ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ الْوَرَثَةَ إذَا اقْتَسَمُوا التَّرِكَةَ ثُمَّ ظَهَرَ على
الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَهَذَا لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ
لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ وَإِمَّا إن لم يَكُنْ فَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ
سِوَاهُ وَلَا قَضَاهُ الْوَرَثَةُ من مَالِ أَنْفُسِهِمْ تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ
سَوَاءً كان الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ أو لم يَكُنْ لِأَنَّ الدَّيْنَ
مُقَدَّمٌ على الْإِرْثِ قَلِيلًا كان أو كَثِيرًا قال اللَّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى { من بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصي بها أو دَيْنٍ } قَدَّمَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى الدَّيْنَ على الْوَصِيَّةِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْقَلِيلِ
وَالْكَثِيرِ لِأَنَّ الدَّيْنَ إذَا كان مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ تَبَيَّنَ
أَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْوَرَثَةِ فيها إلَّا من حَيْثُ الصُّورَةُ بَلْ هِيَ
مِلْكٌ لِلْمَيِّتِ يَتَعَلَّقُ بها بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَقِيَامُ مِلْكِ
الْغَيْرِ في الْمَحِلِّ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقِسْمَةِ فَقِيَامُ الْمِلْكِ
وَالْحَقِّ أَوْلَى وإذا لم يَكُنْ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ فَمِلْكُ الْمَيِّتِ
وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ وهو حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ ثَابِتٌ في قَدْرِ الدَّيْنِ من
التَّرِكَةِ على الشُّيُوعِ فَيَمْنَعُ جَوَازَ الْقِسْمَةِ فَإِنْ لم يَكُنْ
لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ يُجْعَلُ الدَّيْنُ فيه وَتَمْضِي الْقِسْمَةُ
لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تُصَانُ عن النَّقْضِ ما أَمْكَنَ وقد أَمْكَنَ صِيَانَتُهَا
بِجَعْلِ الدَّيْنِ فيه
وَكَذَا الْوَرَثَةُ إذَا قَضَوْا الدَّيْنَ من مَالِ أَنْفُسِهِمْ لَا تُنْقَضُ
لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ كان مُتَعَلِّقًا بِصُورَةِ التَّرِكَةِ وَحَقُّ
الْغُرَمَاءِ بِمَعْنَاهَا وهو الْمَالِيَّةُ فإذا قَضَوْا الدَّيْنَ من مَالِ أَنْفُسِهِمْ
فَقَدْ اسْتَخْلَصُوا التَّرِكَةَ لِأَنْفُسِهِمْ صُورَةً وَمَعْنًى فَتَبَيَّنَ
أَنَّهُمْ في الْحَقِيقَةِ اقْتَسَمُوا مَالَ أَنْفُسِهِمْ صُورَةً وَمَعْنًى
فَتَبَيَّنَ أنها وَقَعَتْ صَحِيحَةً فَلَا تُنْقَضُ
وَكَذَلِكَ إذَا أَبْرَأَهُ الْغُرَمَاءُ من دُيُونِهِمْ لَا تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ
لِأَنَّ النَّقْضَ لِحَقِّهِمْ وقد أَسْقَطُوهُ بِالْإِبْرَاءِ
وَكَذَلِكَ إذَا ظَهَرَ لِبَعْضِ الْمُقْتَسِمِينَ دَيْنٌ على الْمَيِّتِ بِأَنْ
ادَّعَى دَيْنًا على الْمَيِّتِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عليه فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ
الْقِسْمَةَ لِمَا قُلْنَا وَلَا تَكُونُ قِسْمَتُهُ إبْرَاءً من الدَّيْنِ
لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ يَتَعَلَّقُ بِمَعْنَى التَّرِكَةِ وهو مَالِيَّتُهَا
لَا بِالصُّورَةِ وَلِهَذَا كان لِلْوَرَثَةِ حَقُّ الِاسْتِخْلَاصِ
وإذا كان كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ إقْدَامُهُ على الْقِسْمَةِ إقْرَارًا منه
لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ له على الْمَيِّتِ فلم يَكُنْ مُنَاقِضًا في دَعْوَاهُ
فَسُمِعَتْ
وَمِنْهَا ظُهُورُ الْوَصِيَّةِ حتى لو اقْتَسَمُوا ثُمَّ ظَهَرَ ثَمَّ مُوصًى له
بِالثُّلُثِ نُقِضَتْ قِسْمَتُهُمْ لِأَنَّ الْمُوصَى له شَرِيكُ الْوَرَثَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو هَلَكَ من التَّرِكَةِ شَيْءٌ قبل الْقِسْمَةِ يُهْلَكُ من
الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى له جميعا وَالْبَاقِي على الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ
وَلَوْ اقْتَسَمُوا وَثَمَّةَ وَارِثٌ آخَرُ غَائِبٌ تُنْقَضُ فَكَذَا هذا
وَهَذَا إذَا كانت الْقِسْمَةُ بِالتَّرَاضِي فَإِنْ كانت بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا
تُنْقَضُ لِأَنَّ الْمُوصَى له وَإِنْ كان كَوَاحِدٍ من الْوَرَثَةِ لَكِنَّ
الْقَاضِيَ إذَا قَسَمَ عِنْدَ غَيْبَةِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ لَا تُنْقَضُ
قِسْمَتُهُ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ في هذا الموضع ( ( ( الموضوع ) ) ) مَحِلُّ
الِاجْتِهَادِ
وَقَضَاءُ الْقَاضِي إذَا صَادَفَ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ يَنْفُذُ وَلَا يُنْقَضُ
وَمِنْهَا ظُهُورُ الْوَارِثِ حتى لو اقْتَسَمُوا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ ثَمَّةَ
وَارِثٌ آخَرُ نُقِضَتْ قِسْمَتُهُمْ
وَلَوْ كانت الْقِسْمَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا تُنْقَضُ لِمَا ذَكَرْنَا
وَلَوْ ادَّعَى وَارِثٌ وَصِيَّةً لِابْنٍ له صَغِيرٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لَا
تَصِحُّ دَعْوَاهُ حتى لَا تُسْمَعَ منه الْبَيِّنَةُ لِكَوْنِهِ مُنَاقِضًا في
الدَّعْوَى إذْ لَا تَصِحُّ قِسْمَتُهُمْ الْمِيرَاثَ وَثَمَّ مُوصًى له فَكَانَ
إقْدَامُهُ على الْقِسْمَةِ إقْرَارًا منه بِانْعِدَامِ الْوَصِيَّةِ فَكَانَ
دَعْوَى وُجُودِ الْوَصِيَّةِ مُنَاقِضَةً فَلَا تُسْمَعُ وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ
حَقُّ الصَّغِيرِ بِقِسْمَةِ الْأَبِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ
وَكَذَلِكَ لو ادَّعَى بَعْضُ الْوَرَثَةِ أَنَّ أَخًا له من أبيه وَأُمِّهِ
وَرِثَ أَبَاهُ مَعَهُمْ وَأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ وَوَرِثَهُ هذا
الْمُدَّعِي وَجَحَدَ الْبَاقُونَ ذلك فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ لَا
تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهُ هُنَا قضى في دَعْوَاهُ لِدَلَالَةِ إقْرَارِهِ
بِانْعِدَامِ وَارِثٍ آخَرَ بإقدامهم ( ( ( بإقدامه ) ) ) على الْقِسْمَةِ
وَكَذَلِكَ كُلُّ مِيرَاثٍ يَدَّعِيهِ أو شِرَاءٍ أو هِبَةٍ أو صَدَقَةٍ أو
وَصِيَّةٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لِلتَّنَاقُضِ بِدَلَالَةِ الْإِقْدَامِ على
الْقِسْمَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
دَارٌ بين رَجُلَيْنِ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِبَيْتٍ منها لِرَجُلٍ وَأَنْكَرَ
الْآخَرُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ حُجَّةٌ على نَفْسِهِ
لِأَنَّ هذا الْإِقْرَارَ لم يُوجِبْ تَعَلُّقَ الْحَقِّ بِالْعَيْنِ لِحَقِّ
الشَّرِيكِ الْآخَرِ بَلْ هو مَوْقُوفٌ وإذا لم يَتَعَلَّقْ بِالْعَيْنِ
____________________
(7/30)
لَا
يَمْنَعُ جَوَازَ الْقِسْمَةِ فَتُقْسَمُ الدَّارُ وَيُجْبَرُ على الْقِسْمَةِ
وَمَتَى قُسِمَتْ فَإِنْ وَقَعَ الْبَيْتُ الْمُقَرُّ بِهِ في نَصِيبِ الْمُقِرِّ
دَفَعَهُ إلَى الْمُقَرِّ له لِأَنَّ الْإِقْرَارَ قد صَحَّ وَتَسْلِيمُ عَيْنِ
الْمُقَرِّ بِهِ مُمْكِنٌ فَيُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ وَإِنْ وَقَعَ في نَصِيبِ
شَرِيكِهِ يَدْفَعُ إلَيْهِ قَدْرَ ذَرْعِ الْمُقَرِّ بِهِ من نَصِيبِ نَفْسِهِ
فَيَقْسِمُ ما أَصَابَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ له فَيَضْرِبُ الْمُقَرُّ
له بِذَرْعِ الْبَيْتِ وَيَضْرِبُ الْمُقِرُّ بِنِصْفِ ذَرْعِ الدَّارِ بَعْدَ
الْبَيْتِ
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَضْرِبُ الْمُقِرُّ بِنِصْفِ ذراع ( ( ( ذرع ) )
) الدَّارِ كما قَالَا وَلَكِنَّ الْمُقَرَّ له يَضْرِبُ بِنِصْفِ ذَرْعِ
الْبَيْتِ لَا بِكُلِّهِ حتى لو كان ذَرْعُ الدَّارِ مِائَةً وَذَرْعُ الْبَيْتِ
عَشَرَةً فَتُقْسَمُ الدَّارُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ يَكُونُ لِلْمُقَرِّ له
عَشَرَةُ أَذْرُعٍ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ جَمِيعُ ذَرْعِ الْبَيْتِ وَالْبَاقِي
وهو خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ لِلْمُقِرِّ لِأَنَّهُ نِصْفُ ذَرْعِ الدَّارِ بَعْدَ
ذَرْعِ الْبَيْتِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَكُونُ لِلْمُقَرِّ له خَمْسَةُ أَذْرُعٍ
إذْ هو نِصْفُ ذَرْعِ الْبَيْتِ الْمُقَرِّ بِهِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ صَادَفَ مَحِلًّا
مُعَيَّنًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لِأَنَّ كُلَّ جُزْأَيْنِ من
الدَّارِ أَحَدُهُمَا له وَالْآخَرُ لِصَاحِبِهِ على الشُّيُوعِ فَيَبْطُلُ في
نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَيَصِحُّ في نَصِيبِهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ لِلْمُقَرِّ له نِصْفُ
ذَرْعِ الْبَيْتِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمُشْتَرَكِ لَا يَتَعَلَّقُ
بِالْعَيْنِ قبل الْقِسْمَةِ بَلْ هو مَوْقُوفٌ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بها ( ( (
بهما ) ) ) بَعْدَ الْقِسْمَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لم يَمْنَعْ صِحَّةَ الْقِسْمَةِ وَلَوْ تَعَلَّقَ
بِالْعَيْنِ لَمَنَعَ فإذا قُسِمَتْ الدَّارُ الْآنَ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ
فَإِنْ وَقَعَ الْمُقَرُّ بِهِ في نَصِيبِ الْمُقِرِّ يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ
لِأَنَّهُ قَادِرٌ على تَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَإِنْ وَقَعَ في نَصِيبِ صَاحِبِهِ
فَقَدْ عَجَزَ عن تَسْلِيمِ عَيْنِهِ فَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ بَدَلِهِ من
نَصِيبِهِ وهو تَمَامُ ذَرْعِ الْمُقَرِّ بِهِ
هذا إذَا كان الْمُقَرُّ بِهِ شيئا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَإِنْ كان مِمَّا لَا
يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَبَيْتٍ من حَمَّامٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
غَيْرِهِ أَقَرَّ أَنَّهُ لِرَجُلٍ وَأَنْكَرَ صَاحِبُهُ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ
وَلَكِنْ يُجْبَرُ على قِسْمَتِهِ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْإِضْرَارِ فِيمَا لَا
يَحْتَمِلُ الْجَبْرَ على ما ذَكَرْنَاهُ في مَوْضِعِهِ وَيَلْزَمُهُ نِصْفُ
قِيمَةِ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ عَجَزَ عن تَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَالْإِقْرَارُ
بِعَيْنٍ مَعْجُوزِ التَّسْلِيمِ يَكُونُ إقْرَارًا بِبَدَلِهِ تَصْحِيحًا
لِتَصَرُّفِهِ وَصِيَانَةً لِحَقِّ الْغَيْرِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ
كَالْإِقْرَارِ بِجِذْعٍ في الدَّارِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ هذا الذي ذَكَرْنَا قِسْمَةُ الْأَعْيَانِ وَأَمَّا قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ
فَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْمُهَايَئَاتِ وَالْكَلَامُ فيها في مَوَاضِعَ في
بَيَانِ أَنْوَاعِ الْمُهَايَئَاتِ وما يَجُوزُ منها وما لَا يَجُوزُ وفي بَيَانِ
مَحِلِّ الْمُهَايَئَاتِ وفي بيات ( ( ( بيان ) ) ) صِفَةِ الْمُهَايَئَاتِ وفي
بَيَانِ ما يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ من الشَّرِيكَيْنِ من التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْمُهَايَئَاتِ
وما لَا يَمْلِكُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُهَايَئَاتُ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمَكَانِ
وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الزَّمَانِ أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ
يتهايئا ( ( ( يتهايآ ) ) ) في دَارٍ وَاحِدَةٍ على أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا طَائِفَةً منها يَسْكُنُهَا وإنه جَائِزٌ لِأَنَّ الْمُهَايَئَاتِ
قِسْمَةٌ فَتُعْتَبَرُ بِقِسْمَةِ الْعَيْنِ وَقِسْمَةُ الْعَيْنِ على الْوَجْهِ
جَائِزَةٌ فَكَذَا قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ
وَكَذَا لو تَهَايَئَا على أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا السُّفْلَ وَالْآخَرُ
الْعُلْوَ جَازَ ذلك لِمَا قُلْنَا وَلَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْمُدَّةِ في هذا
النَّوْعِ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمَنَافِعِ لَيْسَتْ بِمُبَادَلَةِ الْمَنْفَعَةِ
لِأَنَّ مُبَادَلَةَ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَنَا
كَإِجَازَةِ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ بِالْخِدْمَةِ
وَكَذَلِكَ لو تَهَايَئَا في دَارَيْنِ وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَارًا
يَسْكُنُهَا أو يَسْتَغِلُّهَا فَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ
أَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّ قِسْمَةَ
الْجَمْعِ في عَيْنِ الدُّورِ جَائِزَةٌ فَكَذَا في الْمَنَافِعِ
وَأَمَّا أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بين
الْعَيْنِ وَبَيْنَ الْمَنْفَعَةِ
وَجْهُ الْفَرْقِ له أَنَّ الدُّورَ في حُكْمِ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ لِتَفَاحُشِ
التَّفَاوُتِ بين دَارٍ وَدَارٍ وفي نَفْسِهَا وَبِنَائِهَا وَمَوْضِعِهَا وَلَا
تَجُوزُ قِسْمَةُ الْجَمْعِ في جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ على ما مَرَّ وَأَمَّا
التَّفَاوُتُ في الْمَنَافِعِ فَقَلَّ ما يَتَفَاحَشُ بَلْ يَتَقَارَبُ فلم
تَلْتَحِقُ مَنَافِعُ الدَّارَيْنِ بِالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فَجَازَتْ
الْقِسْمَةُ
وَكَذَلِكَ لو تَهَايَئَا في عَبْدَيْنِ على الْخِدْمَةِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ
أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ قِسْمَةَ الْجَمْعِ في أَعْيَانِ الرَّقِيقِ
جَائِزَةٌ وَكَذَا في مَنَافِعِهَا
وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا
في الدَّارَيْنِ
وَلَوْ تَهَايَئَا في عَبْدَيْنِ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا
يَخْدُمُهُ وَشَرَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على نَفْسِهِ طَعَامَ الْعَبْدِ الذي
يَخْدُمُهُ جَازَ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ
ووجه ( ( ( ووجهه ) ) ) أَنَّ طَعَامَ كل وَاحِدٍ من الْعَبْدَيْنِ على
الشَّرِيكَيْنِ جميعا على الْمُنَاصَفَةِ فَاشْتِرَاطُ كل الطَّعَامِ من كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا على نَفْسِهِ يَخْرُجُ مَخْرَجَ مُعَاوَضَةِ بَعْضِ الطَّعَامِ
بِالْبَعْضِ وأنها غَيْرُ جَائِزَةٍ لِلْجَهَالَةِ
ووجهه ( ( ( ووجه ) ) ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هذا النَّوْعَ من الْجَهَالَةِ لَا
يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ مَبْنَى الطَّعَامِ على الْمُسَامَحَةِ في
الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ دُونَ الْمُضَايِقَةِ بِخِلَافِ ما إذَا شَرَطَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا على نَفْسِهِ كِسْوَةَ
____________________
(7/31)
الْعَبْدِ
الذي يَخْدُمُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَجْرِي في الْكِسْوَةِ من
الْمُضَايِقَةِ ما لَا يَجْرِي في الطَّعَامِ في الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَكَانَتْ
الْجَهَالَةُ في الْكِسْوَةِ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ مع ما أن
الْجَهَالَةَ في الْكِسْوَةِ تَتَفَاحَشُ بِخِلَافِ الطَّعَامِ لِذَلِكَ
افْتَرَقَا
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا التَّهَايُؤُ في الدَّوَابِّ بِأَنْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا
وَالْآخَرُ دَابَّةً أُخْرَى من جِنْسِهَا يَسْتَغِلُّهَا وَشَرَطَ
الِاسْتِغْلَالَ فَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْجَمْعِ في أَعْيَانِ الدَّوَابِّ
من جِنْسٍ وَاحِدٍ جَائِزَةٌ فَكَذَا قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بين الْمَنْفَعَةِ وَبَيْنَ الْمَنْفَعَةِ أَنَّهُ
جَوَّزَ قِسْمَةَ الْجَمْعِ في أَعْيَانِهَا ولم يُجَوِّزْ في مَنَافِعِهَا
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أنها بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ لَكِنَّهَا في
مَنْفَعَةِ الرُّكُوبِ في حُكْمِ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّ من
اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا لم يَمْلِكْ أَنْ يُؤَاجِرَهَا لِلرُّكُوبِ
وَلَوْ فَعَلَ لَضَمِنَ فَأَشْبَهَ اخْتِلَافُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ اخْتِلَافَ
جِنْسِ الْعَيْنِ وَاخْتِلَافُ جِنْسِ الْعَيْنِ عِنْدَهُ مَانِعٌ جَوَازَ
قِسْمَةِ الْجَمْعِ كَذَا في الْمَنْفَعَةِ بِخِلَافِ الْمُهَايَئَاتِ في
الدَّارَيْنِ وَالْعَبْدَيْنِ إنها جَائِزَةٌ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَنَافِعَ
مُتَقَارِبَةٌ غَيْرُ مُتَفَاحِشَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ فيها
يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ من غَيْرِهِ فلم يَخْتَلِفْ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ فَجَازَتْ
الْمُهَايَئَاتُ
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وهو الْمُهَايَئَاتُ بِالزَّمَانِ فَهُوَ أَنْ
يتهايئا ( ( ( يتهايآ ) ) ) في بَيْتٍ صَغِيرٍ على أَنْ يَسْكُنَهُ هذا يَوْمًا
وَهَذَا يَوْمًا أو في عَبْدٍ وَاحِدٍ على أَنْ يَخْدُمَ هذا يَوْمًا وَهَذَا
يَوْمًا وَهَذَا جَائِزٌ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { قال هذه نَاقَةٌ لها
شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن
نبينه ( ( ( نبيه ) ) ) سَيِّدِنَا صَالِحٍ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
الْمُهَايَئَاتُ في الشِّرْبِ ولم يُنْكِرْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْحَكِيمُ
إذَا حَكَى عن مُنْكَرٍ غَيَّرَهُ فَدَلَّ على جَوَازِ الْمُهَايَئَاتِ
بِالزَّمَانِ بِظَاهِرِ النَّصِّ وَثَبَتَ جَوَازُ النَّوْعِ الْآخَرِ من طَرِيقِ
الدَّلَالَةِ لِأَنَّهَا أَشْبَهُ بِالْمُقَاسَمَةِ من النَّوْعِ الْأَوَّلِ
وَلِأَنَّ جَوَازَ الْمُهَايَئَاتِ بِالزَّمَانِ لِمَكَانِ حَاجَاتِ الناس
وَحَاجَتُهُمْ إلَى الْمُهَايَئَاتِ بِالْمَكَانِ أَشَدُّ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ كُلَّهَا
في احْتِمَالِ الْمُهَايَئَاتِ بِالزَّمَانِ شَرْعٌ سَوَاءٌ من الْأَعْيَانِ ما
لَا يَحْتَمِلُ الْمُهَايَئَاتِ بِالْمَكَانِ كَالْعَبْدِ وَالْبَيْتِ الصَّغِيرِ
وَنَحْوِهِمَا فلما جَازَتْ تِلْكَ فَلَأَنْ تَجُوزَ هذه أَوْلَى
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مَحِلِّ الْمُهَايَئَاتِ فَنَقُولُ وَلَا قُوَّةَ إلَّا
بِاَللَّهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ إنَّ مَحِلَّهَا الْمَنَافِعُ دُونَ
الْأَعْيَانِ لِأَنَّهَا قِسْمَةُ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الْعَيْنِ فَكَانَ
مَحِلُّهَا الْمَنْفَعَةَ دُونَ الْعَيْنِ حتى إنهما لو تَهَايَئَا في نَخْلٍ أو
شَجَرٍ بين شَرِيكَيْنِ على أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً
يَسْتَثْمِرُهَا لَا يَجُوزُ
وَكَذَلِكَ إذَا تَهَايَئَا في الْغَنَمِ الْمُشْتَرَكَةِ على أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ
وَاحِدٍ منهم قَطِيعًا وَيَنْتَفِعُ بِأَلْبَانِهَا لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّ هذا عَقْدُ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ والثمن ( ( ( والثمر ) ) ) وَاللَّبَنُ
عَيْنُ مَالٍ فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ عَقْدِ الْمُهَايَئَاتِ
وَلَوْ تَهَايَئَا في الْأَرَاضِي الْمُشْتَرَكَةِ على أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا نِصْفَهَا وَيَذْرَعُ جَازَ لِأَنَّ ذلك قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ وهو
مَعْنَى الْمُهَايَئَاتِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الْمُهَايَئَاتِ فَهِيَ أنها عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ حتى لو
طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الْعَيْنِ بَعْدَ الْمُهَايَئَاتِ قَسَمَ الْحَاكِمُ
بَيْنَهُمَا وَفَسَخَ الْمُهَايَئَاتِ لِأَنَّهَا كَالْخُلْفِ عن قِسْمَةِ
الْعَيْنِ وَقِسْمَةُ الْعَيْنِ كَالْأَصْلِ فِيمَا شُرِعَتْ له الْقِسْمَةُ
لِأَنَّ الْقِسْمَةَ شُرِعَتْ لِتَكْمِيلِ مَنَافِعِ الْمِلْكِ وَهَذَا الْمَعْنَى
في قِسْمَةِ الْعَيْنِ أَكْمَلُ ولهاذ ( ( ( ولهذا ) ) ) لو طَلَبَ أَحَدُهُمَا
الْقِسْمَةَ قبل الْمُهَايَئَاتِ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ على الْقِسْمَةِ فَكَانَ
عَقْدًا جَائِزًا فَاحْتَمَلَ الْفَسْخَ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ وَلَا
يَبْطُلُ بموتأحد الشَّرِيكَيْنِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا لو بَطَلَتْ
لَأَعَادَهَا الْقَاضِي لِلْحَالِ ثَانِيًا فَلَا يُفِيدُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا من التَّصَرُّفِ
بَعْدَ الْمُهَايَئَاتِ أَمَّا في الْمُهَايَئَاتِ بِالْمَكَانِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا أَنْ يَسْتَغِلَّ ما أَصَابَهُ بِالْمُهَايَئَاتِ سَوَاءٌ شَرَطَ
الِاسْتِغْلَالَ في الْعَقْدِ أو لَا وَسَوَاءٌ تَهَايَئَا في دَارٍ وَاحِدَةٍ أو
دَارَيْنِ لِأَنَّ المنفاع ( ( ( المنافع ) ) ) بَعْدَ الْمُهَايَئَاتِ تَحْدُثُ
على مِلْكِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا أَخَذَهُ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيه
بِالتَّمْلِيكِ من غَيْرِهِ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُهَايَئَاتِ في هذا النَّوْعِ لَيْسَتْ بِإِعَارَةٍ
لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ لَا تُؤَاجَرُ
وَأَمَّا الْمُهَايَئَاتُ بِالزَّمَانِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسْكِنَ أو
يَسْتَخْدِمَ لِمَا ذَكَرْنَا لَكِنْ لَا بُدَّ من ذِكْرِ الْوَقْتِ من الْيَوْمِ
وَالشَّهْرِ وَنَحْوِ ذلك بِخِلَافِ الْمُهَايَأَةِ بِالْمَكَانِ أَنَّ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةَ السُّكْنَى وَالِاسْتِغْلَالِ مُطْلَقًا لِأَنَّ
الْحَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الْوَقْتِ لِتَصِيرَ الْمَنَافِعُ مَعْلُومَةً
وَالْمُهَايَئَاتُ بِالْمَكَانِ قِسْمَةُ مَنَافِعَ مَقْدِرَةٍ مَجْمُوعَةٍ
بِالْمَكَانِ
وَمَكَانُ الْمَنْفَعَةِ مَعْلُومٌ فَصَارَتْ الْمَنَافِعُ مَعْلُومَةً بِالْعِلْمِ
بِمَكَانِهَا فَجَازَتْ الْمُهَايَأَةُ
وَأَمَّا الْمُهَايَأَةُ بِالزَّمَانِ فَقِسْمَةٌ مُقَدَّرَةٌ
____________________
(7/32)
بِالزَّمَانِ
فَلَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً إلَّا بِذِكْرِ زَمَانٍ مَعْلُومٍ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَهَلْ يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِاسْتِغْلَالَ في نَوْبَتِهِ لَا
خِلَافَ في أَنَّهُمَا إذَا لم يَشْتَرِطَا لم يَمْلِكْ
فَأَمَّا إذَا شَرَطَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّهُ لَا
يَمْلِكُ لِأَنَّ هذا النَّوْعَ من الْمُهَايَأَةِ في مَعْنَى الْإِعَارَةِ
وَالْعَارِيَّةُ لَا تُؤْجَرُ
وَذَكَرَ الْأَصْلُ أَنَّ التَّهَايُؤَ في الدَّارِ الْوَاحِدَةِ على السُّكْنَى
وَالْغَلَّةِ جَائِزَةٌ
منهم من قال الْمَذْكُورُ في الْأَصْلِ ليس بِمُهَايَئَاتٍ حَقِيقَةً لِوَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَضَافَ التَّهَايُؤَ إلَى الْغَلَّةِ دُونَ الِاسْتِغْلَالِ
وَالْغَلَّةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّهَايُؤَ حَقِيقَةً إذْ هِيَ عَيْنٌ
وَالتَّهَايُؤُ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ دُونَ الْأَعْيَانِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ ذَكَرَ فيه أَنَّ غَلَّةَ الدَّارِ إذَا أوصلت ( ( ( وصلت ) )
) في يَدِ أَحَدِهِمَا شَارَكَهُ فيه صَاحِبُهُ وَلَيْسَ ذلك حُكْمُ جَوَازِ
الْمُهَايَئَاتِ وَكَمَا أَنَّ الْمُهَايَأَةَ بِالْمَكَانِ في الدَّارَيْنِ إذَا
تَهَايَئَا أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَخْذُهُ يَسْتَغِلُّهَا
فَاسْتَغَلَّهَا فَفَضَلَ من الْغَلَّةِ في يَدِ أَحَدِهِمَا أَنَّ الْفَاضِلَ
يَكُونُ له خَاصَّةً وَيَكُونُ الْمَذْكُورُ في الْأَصْلِ مَحْمُولًا على ما إذَا
اصْطَلَحَا على أَنْ يَأْخُذَ هذا غَلَّةَ شَهْرٍ وَذَلِكَ غَلَّةَ شَهْرٍ
وَسُمِّيَ ذلك مهايأة مُهَايَأَةً مَجَازًا وَإِنْ لم يَكُنْ ذلك مُهَايَأَةً
حَقِيقَةً في هذه الصُّورَةِ يَكُونُ فَضْلُ الْغَلَّةِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا
وَعَلَى هذا يَرْتَفِعُ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ
الْمَذْكُورُ في الْأَصْلِ دَلِيلًا على شَرْطِ جَوَازِ الِاسْتِغْلَالِ إذْ
الْغَلَّةُ يَجُوزُ أَنْ تُذْكَرَ بِمَعْنَى الِاسْتِغْلَالِ في الْجُمْلَةِ وقد
قام دَلِيلُ إرَادَةِ الِاسْتِغْلَالِ هَهُنَا وهو قَرِينَةُ التَّهَايُؤِ إذْ
هِيَ عِبَارَةٌ عن قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ دُونَ الْغَلَّةِ التي هِيَ عَيْنُ
مَالِهِ
وَكَذَا التَّهَايُؤُ يَكُونُ على شَيْءٍ هو مَقْدُورُ التَّهَايُؤِ وهو فِعْلُ
الِاسْتِغْلَالِ دُونَ عَيْنِ الْغَلَّةِ وَلِهَذَا قَرَنَ بها السُّكْنَى الذي هو
فِعْلُ السَّاكِنِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ ما فَضَلَ من الْغَلَّةِ في يَدِهِ
يُشَارِكُهُ فيه صَاحِبُهُ مَحْمُولًا على ما إذَا تَهَايَئَا بِشَرْطِ
الِاسْتِغْلَالِ ابْتِدَاءً ثُمَّ اصْطَلَحَا على أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا غَلَّةَ شَهْرٍ وفي هذه الصُّورَةِ يَكُونُ فَضْلُ الْغَلَّةِ
بَيْنَهُمَا كما في الدَّارَيْنِ فَعَلَى هذا ثَبَتَ اخْتِلَافُ رِوَايَتَيْ
الْحَاكِمِ وَأَحْمَدَ بن الْحُسَيْنِ الْقُدُورِيِّ عليهم الرَّحْمَةُ وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ الْحُدُودِ جَمَعَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بين مَسَائِلِ الْحُدُودِ
وَبَيْنَ مَسَائِلِ التَّعْزِيرِ وَبَدَأَ بِمَسَائِلِ الْحُدُودِ فَبَدَأَ بِمَا
بَدَأَ بِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التَّوْفِيقُ
الْكَلَامُ في الْحُدُودِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ مَعْنَى الْحَدِّ لُغَةً
وَشَرْعًا
وفي بَيَانِ أَسْبَابِ وُجُوبِ الْحُدُودِ وَشَرَائِطِ وُجُوبِهَا
وفي بَيَانِ ما يَظْهَرُ بِهِ وُجُوبُهَا عِنْدَ الْقَاضِي وفي بَيَانِ صِفَاتِهَا
وفي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ منها وفي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ إقَامَتِهَا
وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ إقَامَتِهَا وَمَوْضِعِ الْإِقَامَةِ وفي بَيَانِ ما
يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا اجْتَمَعَتْ وفي
بَيَانِ حُكْمِ الْمَحْدُودِ
أَمَّا الْأَوَّلُ الْحَدُّ في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن الْمَنْعِ وَمِنْهُ سُمِّيَ
الْبَوَّابُ حَدَّادًا لِمَنْعِهِ الناس عن الدُّخُولِ وفي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عن
عُقُوبَةٍ مُقَدَّرَةٍ وَاجِبَةٍ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ بِخِلَافِ
التَّعْزِيرِ فإنه ليس بِمُقَدَّرٍ قد يَكُونُ بِالضَّرْبِ وقد يَكُونُ
بِالْحَبْسِ وقد يَكُونُ بِغَيْرِهِمَا وَبِخِلَافِ الْقِصَاصِ فإنه وَإِنْ كان
عُقُوبَةً مُقَدَّرَةً لَكِنَّهُ يَجِبُ حَقًّا لِلْعَبْدِ حتى يَجْرِيَ فيه
الْعَفْوُ وَالصُّلْحُ
سُمِّيَ هذا النَّوْعُ من الْعُقُوبَةِ حَدًّا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ إذَا
لم يَكُنْ مُتْلِفًا وَغَيْرَهُ بِالْمُشَاهَدَةِ وَيَمْنَعُ من يُشَاهِدُ ذلك
وَيُعَايِنُهُ إذَا لم يَكُنْ مُتْلِفًا لِأَنَّهُ يَتَصَوَّرُ حُلُولَ تِلْكَ
الْعُقُوبَةِ بِنَفْسِهِ لو بَاشَرَ تِلْكَ الْجِنَايَةَ فَيَمْنَعُهُ ذلك من
الْمُبَاشَرَةِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ أَسْبَابِ وُجُوبِهَا فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ
إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِهَا لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ كل نَوْعٍ
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّوْعِ فَنَقُولُ الْحُدُودُ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ حَدُّ
السَّرِقَةِ وَحَدُّ الزِّنَا وَحَدُّ الشُّرْبِ وَحَدُّ السُّكْرِ وَحَدُّ
الْقَذْفِ
أَمَّا حَدُّ السَّرِقَةِ فَسَبَبُ وُجُوبِهِ السَّرِقَةُ وَسَنَذْكُرُ رُكْنَ
السَّرِقَةِ وَشَرَائِطَ الرُّكْنِ في كِتَابِ السَّرِقَةِ
وَأَمَّا حَدُّ الزِّنَا فَنَوْعَانِ جَلْدٌ وَرَجْمٌ وَسَبَبُ وُجُوبِ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا وهو الزِّنَا وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ في الشَّرْطِ وهو الْإِحْصَانُ
فَالْإِحْصَانُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْجَلْدِ
فَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ الزِّنَا وَالْإِحْصَانِ في عُرْفِ الشَّرْعِ
أَمَّا الزِّنَا فَهُوَ اسْمٌ لِلْوَطْءِ الْحَرَامِ في قُبُلِ الْمَرْأَةِ
الْحَيَّةِ في حَالَةِ الِاخْتِيَارِ في دَارِ الْعَدْلِ مِمَّنْ الْتَزَمَ
أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ الْعَارِي عن حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَعَنْ شُبْهَتِهِ
وَعَنْ حَقِّ الْمِلْكِ وَعَنْ حَقِيقَةِ النِّكَاحِ وَشُبْهَتِهِ وَعَنْ شُبْهَةِ
الِاشْتِبَاهِ في مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ في الْمِلْكِ وَالنِّكَاحِ
____________________
(7/33)
جميعا
وَالْأَصْلُ في اعْتِبَارِ الشُّبْهَةِ في هذا الْبَابِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ
وهو قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ
وَلِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مُتَكَامِلَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً
مُتَكَامِلَةً وَالْوَطْءُ في الْقُبُلِ في غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا نِكَاحٍ لَا
يَتَكَامَلُ جِنَايَةً إلَّا عِنْدَ انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ كُلِّهَا
إذَا عُرِفَ الزِّنَا في عُرْفِ الشَّرْعِ فَنُخَرِّجُ عليه بَعْضَ الْمَسَائِلِ
فَنَقُولُ الصَّبِيُّ أو الْمَجْنُونُ إذَا وطىء امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً لَا
حَدَّ عليه لِأَنَّ فِعْلَهُمَا لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ فَلَا يَكُونُ
الْوَطْءُ مِنْهُمَا زِنًا فَلَا حَدَّ على الْمَرْأَةِ إذَا طَاوَعَتْهُ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ عليها الْحَدُّ وَلَا خِلَافَ
في أَنَّ الْعَاقِلَ الْبَالِغَ إذَا زنا بِصَبِيَّةٍ أو مَجْنُونَةٍ أَنَّهُ
يَجِبُ عليه الْحَدُّ وَلَا حَدَّ عليها
لَهُمَا أَنَّ الْمَانِعَ من وُقُوعِ الْفِعْلِ زِنًا خَصَّ أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ
فَيَخْتَصُّ بِهِ الْمَنْعُ كَالْعَاقِلِ الْبَالِغِ إذَا زنا بِصَبِيَّةٍ أو
مَجْنُونَةٍ أَنَّهُ يَجِبُ عليه الْحَدُّ وَإِنْ كان لَا يَجِبُ عليها لِمَا
قُلْنَا
كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ على الْمَرْأَةِ في بَابِ الزِّنَا ليس
لِكَوْنِهَا زَانِيَةً لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ منها وهو
الْوَطْءُ لِأَنَّهَا مَوْطُوءَةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاطِئَةٍ وَتَسْمِيَتُهَا في
الْكِتَابِ الْعَزِيزِ زَانِيَةً مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ وَإِنَّمَا وَجَبَ عليها
لِكَوْنِهَا مَزْنِيًّا بها وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ليس بِزِنًا فَلَا
تَكُونُ هِيَ مَزْنِيًّا بها فَلَا يَجِبُ عليها الْحَدُّ وَفِعْلُ الزِّنَا
يَتَحَقَّقُ من الْعَاقِلِ الْبَالِغِ فَكَانَتْ الصَّبِيَّةُ أو الْمَجْنُونَةُ
مَزْنِيًّا بها إلَّا أَنَّ الْحَدَّ لم يَجِبْ عليها لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ
وَالْأَهْلِيَّةُ ثَابِتَةٌ في جَانِبِ الرَّجُلِ فَيَجِبُ
وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ في الدُّبُرِ في الْأُنْثَى أو الذَّكَرِ لَا يُوجِبُ
الْحَدَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ كان حَرَامًا لِعَدَمِ الْوَطْءِ في
الْقُبُلِ فلم يَكُنْ زِنًا
وَعِنْدَهُمَا وَالشَّافِعِيُّ يُوجِبُ الْحَدَّ وهو الرَّجْمُ إنْ كان مُحْصَنًا
وَالْجَلْدُ إنْ كان غير مُحْصَنٍ
لَا لِأَنَّهُ زِنًا بَلْ لِأَنَّهُ في مَعْنَى الزِّنَا لِمُشَارَكَةِ الزِّنَا
في الْمَعْنَى الْمُسْتَدْعِي لِوُجُوبِ الْحَدِّ وهو الْوَطْءُ الْحَرَامُ على
وَجْهِ التَّمَحُّضِ فَكَانَ في مَعْنَى الزِّنَا فَوُرُودُ النَّصِّ بِإِيجَابِ
الْحَدِّ هُنَاكَ يَكُونُ وُرُودًا هَهُنَا دَلَالَةً
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما ذَكَرْنَا أَنَّ اللِّوَاطَةُ لَيْسَتْ بِزِنًا لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّ الزِّنَا اسْمٌ لِلْوَطْءِ في قُبُلِ الْمَرْأَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ لَاطَ وما زنا وزنا ( ( ( وزنى ) )
) وما لَاطَ وَيُقَالُ فُلَانٌ لُوطِيٌّ وَفُلَانٌ زَانِي
فَكَذَا يَخْتَلِفَانِ اسْمًا
وَاخْتِلَافُ الْأَسَامِي دَلِيلُ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي في الْأَصْلِ
وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في حَدِّ هذا الْفِعْلِ
وَلَوْ كان هذا زِنًا لم يَكُنْ لِاخْتِلَافِهِمْ مَعْنًى
لِأَنَّ مُوجِبَ الزِّنَا كان مَعْلُومًا لهم بِالنَّصِّ فَثَبَتَ أَنَّهُ ليس
بِزِنًا وَلَا في مَعْنَى الزِّنَا أَيْضًا لِمَا في الزِّنَا من اشْتِبَاهِ
الْأَنْسَابِ وَتَضْيِيعِ الْوَلَدِ
ولم يُوجَدْ ذلك في هذا الْفِعْلِ
إنَّمَا فيه تَضْيِيعُ الْمَاءِ الْمَهِينِ الذي يُبَاحُ مِثْلُهُ بِالْعَزْلِ
وَكَذَا ليس في مَعْنَاهُ فِيمَا شُرِعَ له الْحَدُّ وهو الزَّجْرُ
لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ
وَلَا يَغْلِبُ وُجُودُ هذا الْفِعْلِ
لِأَنَّ وُجُودَهُ يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِ شَخْصَيْنِ
وَلَا اخْتِيَارَ إلَّا لِدَاعٍ يَدْعُو إلَيْهِ وَلَا دَاعِي في جَانِبِ
الْمَحِلِّ أَصْلًا
وفي الزِّنَا وُجِدَ الدَّاعِي من الْجَانِبَيْنِ جميعا وهو الشَّهْوَةُ
الْمُرَكَّبَةُ فِيهِمَا جميعا فلم يَكُنْ في مَعْنَى الزِّنَا فَوُرُودُ النَّصِّ
هُنَاكَ ليس وُرُودًا هَهُنَا وَكَذَا اخْتِلَافُ اجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ دَلِيلٌ على أَنَّ الْوَاجِبَ بهذا الْفِعْلِ هو التَّعْزِيرُ
لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّعْزِيرَ هو الذي يَحْتَمِلُ الِاخْتِلَافَ في
الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ لَا الْحَدِّ
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ في الْحَدِّ بَلْ لَا يُعْرَفُ
إلَّا بِالتَّوْقِيفِ وَلِلِاجْتِهَادِ مَجَالٌ في التَّعْزِيرِ
وَكَذَا وَطْءُ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَيُوجِبُ
التَّعْزِيرَ لِعَدَمِ وَطْءِ الْمَرْأَةِ الْحَيَّةِ
وَكَذَا وَطْءُ الْبَهِيمَةِ وَإِنْ كان حَرَامًا لِانْعِدَامِ الْوَطْءِ في
قُبُلِ الْمَرْأَةِ فلم يَكُنْ زِنًا ثُمَّ إنْ كانت الْبَهِيمَةُ مِلْكَ الواطىء
قِيلَ إنَّهَا تُذْبَحُ وَلَا تُؤْكَلُ وَلَا رِوَايَةَ فيه عن أَصْحَابِنَا
رَحِمَهُمُ اللَّهُ
لَكِنْ رَوَى مُحَمَّدٌ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لم يَحُدَّ
واطىء ( ( ( واطئ ) ) ) الْبَهِيمَةِ وَأَمَرَ بِالْبَهِيمَةِ حتى أُحْرِقَتْ
بِالنَّارِ
وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ عن إكْرَاهٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ في
دَارِ الْحَرْبِ وفي دَارِ الْبَغْيِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ حتى إنَّ من زنا في
دَارِ الْحَرْبِ أو دَارِ الْبَغْيِ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا لَا يُقَامُ عليه
الْحَدُّ لِأَنَّ الزِّنَا لم يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْحَدِّ حين
وُجُودِهِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ فَلَا يُسْتَوْفَى بَعْدَ ذلك
وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ إذَا زنا بِمُسْلِمَةٍ أو ذِمِّيَّةٍ أو
ذِمِّيٌّ زنا بِحَرْبِيَّةٍ مُسْتَأْمَنَةٍ لَا حَدَّ على الْحَرْبِيِّ
وَالْحَرْبِيَّةِ عِنْدَهُمَا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُحَدَّانِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا دخل دَارَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ الْتَزَمَ
أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ مُدَّةَ إقَامَتِهِ فيها فَصَارَ كَالذِّمِّيِّ وَلِهَذَا
يُقَامُ عليه حَدُّ الْقَذْفِ كما يُقَامُ على الذِّمِّيِّ
وَلَهُمَا أَنَّهُ لم يَدْخُلْ دَارَ الْإِسْلَامِ على سَبِيلِ الْإِقَامَةِ
وَالتَّوَطُّنِ بَلْ على سَبِيلِ الْعَارِيَّةِ لِيُعَامِلَنَا وَنُعَامِلَهُ
ثُمَّ يَعُودَ فلم يَكُنْ دُخُولُهُ دَارَ الْإِسْلَامِ دَلَالَةَ الْتِزَامِهِ
حَقَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِصًا بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ
لِأَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ الْأَمَانَ من الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ
____________________
(7/34)
الْتَزَمَ
أَمَانَهُمْ عن الْإِيذَاءِ بِنَفْسِهِ وَظَهَرَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ في حَقِّهِ
ثُمَّ يُحَدُّ الْمُسْلِمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُحَدُّ وَيُحَدُّ الذِّمِّيُّ
بِلَا خِلَافٍ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِعْلُ الرَّجُلِ
وَفِعْلُهَا يَقَعُ تَبَعًا فلما لم يَجِبْ على الْأَصْلِ لَا يَجِبْ على
التَّبَعِ كَالْمُطَاوَعَةِ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ فِعْلَ الْحَرْبِيِّ حَرَامٌ
مَحْضٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤَاخَذُ فَكَانَ زِنًا فَكَانَتْ هِيَ مَزْنِيًّا بها إلَّا
أَنَّ الْحَدَّ لم يَجِبْ على الرَّجُلِ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَنَا
وَهَذَا أَمْرٌ يَخُصُّهُ
وَيُحَدُّ الذِّمِّيُّ لِأَنَّهُ بِالذِّمَّةِ وَالْعَهْدِ الْتَزَمَ أَحْكَامَ
الْإِسْلَامِ مُطْلَقًا إلَّا في قَدْرِ ما وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فيه ولم
يُوجَدْ هَهُنَا
وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالصَّائِمَةِ وَالْمُحْرِمَةِ
وَالْمَجْنُونَةِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ وَاَلَّتِي ظَاهَرَ منها أو آلَى
منها لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَإِنْ كان حَرَامًا لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَالنِّكَاحِ
فلم يَكُنْ زِنًا
وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ
وَالْمُرْتَدَّةِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُحْرِمَةِ بِرَضَاعٍ أو صِهْرِيَّةٍ أو
جَمْعٍ لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَإِنْ كان حَرَامًا وَعُلِمَ بِالْحُرْمَةِ
وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْأَبِ جَارِيَةَ الِابْنِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَإِنْ عُلِمَ
بِالْحُرْمَةِ لِأَنَّ له في مَالِ ابْنِهِ شُبْهَةَ الْمِلْكِ وهو الْمِلْكُ من
وَجْهٍ أو حَقُّ الْمِلْكِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أنت وَمَالُكَ
لابيك فَظَاهِرُ إضَافَةِ مَالِ الِابْنِ إلَى الْأَبِ بِحَرْفِ اللَّامِ
يَقْتَضِي حَقِيقَةَ الْمِلْكِ فَلَئِنْ تَقَاعَدَ عن إفَادَةِ الْحَقِيقَةِ فَلَا
يَتَقَاعَدُ على إيرَاثِ الشُّبْهَةِ أو حَقِّ الْمِلْكِ
وَكَذَلِكَ وَطْءُ جَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عِنْدَنَا عَبْدٌ
ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ فَكَانَ مَمْلُوكُ الْمَوْلَى رَقَبَةً
وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي مِلْكَ الْكَسْبِ فَإِنْ لم يَثْبُتْ مُقْتَضَاهُ
حَقِيقَةً فَلَا أَقَلَّ من الشُّبْهَةِ
وَكَذَلِكَ وَطْءُ جَارِيَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ سَوَاءٌ كان عليه دَيْنٌ أو
لم يَكُنْ
أَمَّا إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهَا مِلْكُ الْمَوْلَى
وَكَذَلِكَ إنْ كان عليه دَيْنٌ لِأَنَّ رَقَبَةَ الْمَأْذُونِ مِلْكُ الْمَوْلَى
وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي مِلْكَ الْكَسْبِ كما في جَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ
بل ( ( ( وبل ) ) ) أَوْلَى
لِأَنَّ كَسْبَ الْمَأْذُونِ أَقْرَبُ إلَى الْمَوْلَى من كَسْبِ الْمُكَاتَبِ
فلما لم يَجِبْ الْحَدُّ هُنَاكَ فَهَهُنَا أَوْلَى
وَلِأَنَّ هذا الْمِلْكَ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ
لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فيه وَاخْتِلَافُهُمْ يُورِثُ شُبْهَةً فَأَشْبَهَ
وطأ حَصَلَ في نِكَاحٍ وهو مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ وَذَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ
كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْجَدِّ أَبَ الْأَبِ وَإِنْ عَلَا عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ
بِمَنْزِلَةِ وَطْءِ الْأَبِ لِأَنَّ له وِلَادًا فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْأَبِ
وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ من الْغَانِمِينَ إذَا وطىء جَارِيَةً من الْمَغْنَمِ قبل
الْقِسْمَةِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أو قَبْلَهُ لَا حَدَّ عليه
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ وَطْأَهَا عليه حَرَامٌ لِثُبُوتِ الْحَقِّ له
بِالِاسْتِيلَاءِ لِانْعِقَادِ سَبَبِ الثُّبُوتِ فَإِنْ لم يَثْبُتْ فَلَا
أَقَلَّ من ثُبُوتِ الْحَقِّ فَيُورِثُ شُبْهَةً
وَلَوْ جَاءَتْ هذه الْجَارِيَةُ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ منه
لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ في الْمَحِلِّ إما من كل وَجْهٍ
أو من وَجْهٍ ولم يُوجَدْ قبل الْقِسْمَةِ بَلْ الْمَوْجُودُ حَقٌّ عَامٌّ
وَأَنَّهُ يَكْفِي لِسُقُوطِ الْحَدِّ وَلَا يَكْفِي لِثُبُوتِ النَّسَبِ
وَكَذَلِكَ وَطْءُ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ أو بِغَيْرِ وَلِيٍّ
عِنْدَ من لَا يُجِيزُهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا
منهم من قال يَجُوزُ النِّكَاحُ بِدُونِ الشَّهَادَةِ وَالْوِلَايَةِ
فَاخْتِلَافُهُمْ يُورِثُ شُبْهَةً
وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ الْغَيْرِ أو مَجُوسِيَّةً أو مُدَبَّرَةً أو أَمَةً
على حُرَّةٍ أو أَمَةً بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا أو الْعَبْدُ تَزَوَّجَ
امْرَأَةً بِغَيْرِ إذْنِ مولاها ( ( ( مولاه ) ) ) فَوَطِئَهَا لَا حَدَّ عليه
لِوُجُودِ لَفْظِ النِّكَاحِ من الْأَهْلِ في الْمَحِلِّ وَأَنَّهُ يُوجِبُ
شُبْهَةً
وَكَذَلِكَ إذَا نَكَحَ مَحَارِمَهُ أو الْخَامِسَةَ أو أُخْتَ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا
لَا حَدَّ عليه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ عَلِمَ بِالْحُرْمَةِ وَعَلَيْهِ
التَّعْزِيرُ
وَعِنْدَهُمَا وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عليه الْحَدُّ
وَالْأَصْلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ النِّكَاحَ إذَا وُجِدَ
من الْأَهْلِ مُضَافًا إلَى مَحِلٍّ قَابِلٍ لِمَقَاصِدِ النِّكَاحِ يَمْنَعُ
وُجُوبَ الْحَدِّ سَوَاءٌ كان حَلَالًا أو حَرَامًا وَسَوَاءٌ كان التَّحْرِيمُ
مُخْتَلَفًا فيه أو مُجْمَعًا عليه وَسَوَاءٌ ظَنَّ الْحِلَّ فَادَّعَى
الِاشْتِبَاهَ أو عَلِمَ بِالْحُرْمَةِ
وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ النِّكَاحَ إذَا كان مُحَرَّمًا على التَّأْبِيدِ
أو كان تَحْرِيمُهُ مُجْمَعًا عليه يَجِبُ الْحَدُّ وَإِنْ لم يَكُنْ مُحَرَّمًا
على التَّأْبِيدِ أو كان تَحْرِيمُهُ مُخْتَلَفًا فيه لَا يَجِبُ عليه
وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ هذا نِكَاحٌ أُضِيفَ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهِ فَيَلْغُو
وَدَلِيلُ عَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ أَنَّ مَحِلَّ النِّكَاحِ هِيَ الْمَرْأَةُ
الْمُحَلَّلَةُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ
ذَلِكُمْ } وَالْمَحَارِمُ مُحَرَّمَاتٌ على التَّأْبِيدِ لِقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } الْآيَةَ إلَّا
أَنَّهُ إذَا ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ وقال ظَنَنْتُ أنها تَحِلُّ لي سَقَطَ
الْحَدُّ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ صِيغَةَ لَفْظِ النِّكَاحِ من الْأَهْلِ في
الْمَحِلِّ دَلِيلُ الْحِلِّ فَاعْتُبِرَ هذا الظَّنُّ في حَقِّهِ وَإِنْ لم
يَكُنْ مُعْتَبَرًا حَقِيقَةً إسْقَاطًا لِمَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وإذا لم
يَدَّعِ خَلَا الْوَطْءَ عن الشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الْحَدُّ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ صَدَرَ من
أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ كَالنِّكَاحِ
بِغَيْرِ شُهُودٍ وَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَنَحْوِ ذلك وَلَا شَكَّ في وُجُودِ
لَفْظِ النِّكَاحِ وَالْأَهْلِيَّةِ وَالدَّلِيلُ على الْمَحَلِّيَّةِ أَنَّ
مَحِلَّ النِّكَاحِ هو الْأُنْثَى من بَنَاتِ سَيِّدِنَا آدَمَ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ النُّصُوصُ وَالْمَعْقُولُ
أَمَّا النُّصُوصُ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ من
النِّسَاءِ } وَقَوْلُهُ
____________________
(7/35)
سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ من أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا } وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَأَنَّهُ خَلَقَ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } جَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى النِّسَاءَ
على الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ مَحِلَّ النِّكَاحِ وَالزَّوْجِيَّةِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الْأُنْثَى من بَنَاتِ سَيِّدِنَا آدَمَ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَحِلٌّ صَالِحٌ لِمَقَاصِدِ النِّكَاحِ من السُّكْنَى
وَالْوَلَدِ وَالتَّحْصِينِ وَغَيْرِهَا فَكَانَتْ مَحِلًّا لِحُكْمِ النِّكَاحِ لِأَنَّ
حُكْمَ التَّصَرُّفِ وَسِيلَةٌ إلَى ما هو الْمَقْصُودُ من التَّصَرُّفِ فَلَوْ لم
يَجْعَلْ مَحِلَّ الْمَقْصُودِ مَحِلَّ الْوَسِيلَةِ لم يَثْبُتْ مَعْنَى
التَّوَسُّلِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَخْرَجَهَا من أَنْ تَكُونَ مَحِلًّا
لِلنِّكَاحِ شَرْعًا مع قِيَامِ الْمَحَلِّيَّةِ حَقِيقَةً فَقِيَامُ صُورَةِ
الْعَقْدِ وَالْمَحَلِّيَّةِ يُورِثُ شُبْهَةً إذْ الشُّبْهَةُ اسْمٌ لِمَا
يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ أو نَقُولُ وُجِدَ رُكْنُ النِّكَاحِ
وَالْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ على ما بَيَّنَّا إلَّا أَنَّهُ فَاتَ شَرْطُ
الصِّحَّةِ فَكَانَ نِكَاحًا فَاسِدًا وَالْوَطْءُ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا
يَكُونُ زِنًا بِالْإِجْمَاعِ وَعَلَى هذا يَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّلَ فَيُقَالُ هذا
الْوَطْءُ ليس بِزِنًا فَلَا يُوجِبُ حَدَّ الزِّنَا قِيَاسًا على النِّكَاحِ بِغَيْرِ
شُهُودٍ وَسَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ
وَلَوْ وطىء جَارِيَةَ الْأَبِ أو الْأُمِّ فَإِنْ ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ بِأَنْ
قال ظَنَنْتُ أنها تَحِلُّ لي لم يَجِبْ الْحَدُّ وَإِنْ لم يَدَّعِ يَجِبُ وهو
تَفْسِيرُ شُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ وَأَنَّهَا تُعْتَبَرُ في سَبْعَةِ مَوَاضِعَ في
جَارِيَةِ الْأَبِ وَجَارِيَةِ الْأُمِّ وَجَارِيَةِ الْمَنْكُوحَةِ وَجَارِيَةِ
الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا ما دَامَتْ في الْعِدَّةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ما دَامَتْ
تَعْتَدُّ منه وَالْعَبْدُ إذَا وطىء جَارِيَةَ مَوْلَاهُ وَالْجَارِيَةِ
الْمَرْهُونَةِ إذَا وَطِئَهَا الْمُرْتَهِنُ في رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ وفي
رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ يَجِبُ الْحَدُّ وَلَا يُعْتَبَرُ ظَنُّهُ
أَمَّا إذَا وطىء جَارِيَةَ أبيه أو أُمِّهِ أو زَوْجَتِهِ فَلِأَنَّ الرَّجُلَ
يَنْبَسِطُ في مَالِ أَبَوَيْهِ وَزَوْجَتِهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ من غَيْرِ
اسْتِئْذَانٍ وَحِشْمَةٍ عَادَةً
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَخْدِمُ جَارِيَةَ أَبَوَيْهِ وَمَنْكُوحَتِهِ من غَيْرِ
اسْتِئْذَانٍ فَظَنَّ أَنَّ هذا النَّوْعَ من الِانْتِفَاعِ مُطْلَقٌ له شَرْعًا
أَيْضًا
وَهَذَا وَإِنْ لم يَصْلُحْ دَلِيلًا على الْحَقِيقَةِ لَكِنَّهُ لَمَّا ظَنَّهُ
دَلِيلًا اُعْتُبِرَ في حَقِّهِ لِإِسْقَاطِ ما يندرىء ( ( ( يندرئ ) ) )
بِالشُّبُهَاتِ وإذا لم يَدَّعِ ذلك فَقَدْ عري الْوَطْءَ عن الشُّبْهَةِ
فَتَمَحَّضَ حَرَامًا فَيَجِبُ الْحَدُّ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ سَوَاءٌ
ادَّعَى الاشتباه ( ( ( بالاشتباه ) ) ) أو لَا لِأَنَّ ثَبَاتَ النَّسَبِ
يَعْتَمِدُ قِيَامَ مَعْنًى في الْمَحِلِّ وهو الْمِلْكُ من كل وَجْهٍ أو من
وَجْهٍ ولم يُوجَدْ
وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الظَّنَّ ولم يَدَّعِ الْآخَرُ لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا
ما لم يقر ( ( ( يقرا ) ) ) جميعا أَنَّهُمَا قد عَلِمَا بِالْحُرْمَةِ لِأَنَّ
الْوَطْءَ يَقُومُ بِهِمَا جميعا فإذا تَمَكَّنَتْ فيه الشُّبْهَةُ من أَحَدِ
الْجَانِبَيْنِ فَقَدْ تَمَكَّنَتْ من الْجَانِبِ الْآخَرِ ضَرُورَةً
وَأَمَّا من سِوَى الْأَبِ وَالْأُمِّ من سَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ
كَالْأَخِ وَالْأُخْتِ وَنَحْوِهِمَا إذَا وطىء جَارِيَتَهُ يَجِبُ الْحَدُّ
وَإِنْ قال ظَنَنْتُ أنها تَحِلُّ لي لِأَنَّ هذا دَعْوَى الِاشْتِبَاهِ في غَيْرِ
مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَسِطُ بِالِانْتِفَاعِ
بِمَالِ أَخِيهِ وَأُخْتِهِ عَادَةً فلم يَكُنْ هذا ظَنًّا مُسْتَنِدًا إلَى
دَلِيلٍ فَلَا يُعْتَبَرُ
وَكَذَلِكَ إذَا وطىء جَارِيَةً ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ من امْرَأَتِهِ لِمَا
قُلْنَا
أَمَّا إذَا وطىء الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا في الْعِدَّةِ فَلِأَنَّ النِّكَاحَ قد
زَالَ في حَقِّ الْحِلِّ أَصْلًا لِوُجُودِ الْمُبْطِلِ لِحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ
وهو الطَّلَقَاتُ الثَّلَاثُ وَإِنَّمَا بَقِيَ في حَقِّ الْفِرَاشِ وَالْحُرْمَةِ
على الْأَزْوَاجِ فَقَطْ فَتَمَحَّضَ الْوَطْءُ حَرَامًا فَكَانَ زِنًا فَيُوجِبُ
الْحَدَّ إلَّا إذَا ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ وَظَنَّ الْحِلَّ لِأَنَّهُ بَنَى
ظَنَّهُ على نَوْعِ دَلِيلٍ وهو بَقَاءُ النِّكَاحِ في حَقِّ الْفِرَاشِ
وَحُرْمَةِ الْأَزْوَاجِ فَظَنَّ أَنَّهُ بَقِيَ في حَقِّ الْحِلِّ أَيْضًا
وَهَذَا وَإِنْ لم يَصْلُحْ دَلِيلًا على الْحَقِيقَةِ لَكِنَّهُ لَمَّا ظَنَّهُ
دَلِيلًا اُعْتُبِرَ في حَقِّهِ درءا ( ( ( درأ ) ) ) لِمَا يندرىء ( ( ( يندرئ )
) ) بِالشُّبُهَاتِ وَإِنْ كان طَلَاقُهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً لم يَجِبْ الْحَدُّ
وَإِنْ قال عَلِمْتَ أنها عَلَيَّ حَرَامٌ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ
بِالْإِبَانَةِ وَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ مُجْتَهَدٌ فيه لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ
رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإن مِثْلَ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه يقول في
الْكِنَايَاتِ إنَّهَا رَوَاجِعُ وَطَلَاقُ الرجعى لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ
فَاخْتِلَافُهُمْ يُورِثُ شُبْهَةً
وَلَوْ خَالَعَهَا أو طَلَّقَهَا على مَالٍ فَوَطِئَهَا في الْعِدَّةِ ذَكَرَ
الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فيه كَالْحُكْمِ في
الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ بِالْخُلْعِ
وَالطَّلَاقِ على مَالٍ مُجْمَعٌ عليه فلم تَتَحَقَّقْ الشُّبْهَةُ فَيَجِبُ
الْحَدُّ إلَّا إذَا ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ لِمَا ذَكَرْنَا في الْمُطَلَّقَةِ
الثَّلَاثِ
وَكَذَلِكَ إذَا وطىء أُمَّ وَلَدِهِ وَهِيَ تَعْتَدُّ منه بِأَنْ أَعْتَقَهَا
لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ بِالْإِعْتَاقِ مُجْمَعٌ عليه فلم تَثْبُتْ الشُّبْهَةُ
وَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا وطىء جَارِيَةَ مَوْلَاهُ فإن الْعَبْدَ يَنْبَسِطُ في
مَالِ مَوْلَاهُ عَادَةً بِالِانْتِفَاعِ فَكَانَ وَطْؤُهُ مُسْتَنِدًا إلَى ما هو
دَلِيلٌ في حَقِّهِ فَاعْتُبِرَ في حَقِّهِ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ وإذا لم يَدَّعِ
يُحَدُّ لِعَرَاءِ الْوَطْءِ عن
____________________
(7/36)
الشُّبْهَةِ
وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ إذَا وطىء الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ فَوَجْهُ رِوَايَةِ
كِتَابِ الرَّهْنِ أَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ يَدُ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ فَصَارَ
الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا الدَّيْنَ من الْجَارِيَةِ يَدًا فَقَدْ وطىء
جَارِيَةً هِيَ مَمْلُوكَةٌ له يَدًا فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ كَالْجَارِيَةِ
الْمَبِيعَةِ إذَا وَطِئَهَا الْبَائِعُ قبل التَّسْلِيمِ إلَّا إذَا ادَّعَى
الِاشْتِبَاهَ وقال ظَنَنْتُ أنها تَحِلُّ لي لِأَنَّهُ اسْتَنَدَ ظَنُّهُ إلَى
نَوْعِ دَلِيلٍ وهو مِلْكُ الْيَدِ فَيُعْتَبَرُ في حَقِّهِ درءا ( ( ( درأ ) ) )
لِلْحَدِّ
وإذا لم يَدَّعِ فَلَا شُبْهَةَ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ
وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ في بَابِ الرَّهْنِ
إنَّمَا يَتَحَقَّقُ من مَالِيَّةِ الرَّهْنِ لَا من عَيْنِهِ لِأَنَّ
الِاسْتِيفَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا في الْجِنْسِ وَلَا مُجَانَسَةَ بين
التَّوْثِيقِ وَبَيْنَ عَيْنِ الْجَارِيَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الِاسْتِيفَاءُ من
عَيْنِهَا فَلَا يُعْتَبَرُ ظَنُّهُ
وَلَوْ وطىء الْبَائِعُ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ قبل التَّسْلِيمِ لَا حَدَّ
عليه
وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ إذَا وطىء الْجَارِيَةَ التي تَزَوَّجَ عليها قبل
التَّسْلِيمِ
لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَإِنْ زَالَ بِالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ فَمِلْكُ
الْيَدِ قَائِمٌ فَيُورِثُ شُبْهَةً
وَلَوْ وطىء الْمُسْتَأْجِرُ جَارِيَةَ الْإِجَارَةِ وَالْمُسْتَعِيرُ جَارِيَةَ
الْإِعَارَةِ وَالْمُسْتَوْدِعُ جَارِيَةَ الْوَدِيعَةِ يُحَدُّ وَإِنْ قال
ظَنَنْتُ أنها تَحِلُّ لي لِأَنَّ هذا ظَنٌّ عُرِّيَ عن دَلِيلٍ فَكَانَ في غَيْرِ
مَوْضِعِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ
وَلَوْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ وَقُلْنَ النِّسَاءُ إنَّ هذه
امْرَأَتُكَ فَوَطِئَهَا لَا حَدَّ عليه منهم من قال إنَّمَا لم يَجِبْ الْحَدُّ
لِشُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٌ فَإِنَّهَا إذَا جَاءَتْ
بِوَلَدٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ
وَلَوْ كان امْتِنَاعُ الْوُجُوبِ لِشُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا
يَثْبُتَ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ في شُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ كما فِيمَا
ذَكَرْنَا من الْمَسَائِلِ وَهَهُنَا يَثْبُتُ النَّسَبُ دَلَّ أَنَّ
الِامْتِنَاعَ ليس لِشُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ وهو أن وطأها (
( ( وطئها ) ) ) بِنَاءً على دَلِيلٍ ظَاهِرٍ يَجُوزُ بِنَاءُ الْوَطْءِ عليه وهو
الْإِخْبَارُ بِأَنَّهَا امْرَأَتُهُ بَلْ لَا دَلِيلَ هَهُنَا سِوَاهُ فَلَئِنْ
تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَقِيَامُ الدَّلِيلِ الْمُبِيحِ من حَيْثُ
الظَّاهِرُ يُورِثُ شُبْهَةً
وَلَوْ وطىء أَجْنَبِيَّةً وقال ظَنَنْتُ أنها امْرَأَتِي أو جَارِيَتِي أو
شَبَّهْتُهَا بِامْرَأَتِي أو جَارِيَتِي يَجِبُ الْحَدُّ لِأَنَّ هذا الظَّنَّ
غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِعَدَمِ اسْتِنَادِهِ إلَى دَلِيلٍ فَكَانَ مُلْحَقًا
بِالْعَدَمِ فَلَا يَحِلُّ الْوَطْءُ بِنَاءً على هذا الظَّنِّ ما لم يَعْرِفْ
أنها امْرَأَتُهُ بِدَلِيلٍ إمَّا بِكَلَامِهَا أو بِإِخْبَارِ مُخْبِرٍ ولم
يُوجَدْ مع ما أَنَّا لو اعْتَبَرْنَا هذا الظَّنَّ في إسْقَاطِ الْحَدِّ لم
يَقُمْ حَدُّ الزِّنَا في مَوْضِعٍ ما إذْ الزَّانِي لَا يَعْجِزُ عن هذا
الْقَدْرِ فَيُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ
وَهَكَذَا رُوِيَ عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال لو
قِيلَ هذا لَمَا أُقِيمَ الْحَدُّ على أَحَدٍ وَكَذَلِكَ لو كان الرَّجُلُ أَعْمَى
فَوَجَدَ امْرَأَةً في بَيْتِهِ فَوَقَعَ عليها وقال ظَنَنْتهَا امْرَأَتِي عليه
الْحَدُّ لِأَنَّ هذا ظَنٌّ لم يَسْتَنِدْ إلَى دَلِيلٍ إذْ قد يَكُونُ في
الْبَيْتِ من لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا من الْمَحَارِمِ وَالْأَجْنَبِيَّاتِ فَلَا
يَحِلُّ الْوَطْءُ بِنَاءً على هذا الظَّنِّ فلم تَثْبُتْ الشُّبْهَةُ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ أَعْمَى دعى ( ( ( دعا ) ) ) امْرَأَتَهُ فقال يا
فُلَانَةُ فَأَجَابَتْ غَيْرُهَا فَوَقَعَ عليها أَنَّهُ يُحَدُّ وَلَوْ
أَجَابَتْهُ غَيْرُهَا وَقَالَتْ أنا فُلَانَةُ فَوَقَعَ عليها لم يُحَدَّ
وَيَثْبُتُ النَّسَبُ وَهِيَ كَالْمَرْأَةِ الْمَزْفُوفَةِ إلَى غَيْرِ زَوْجِهَا
لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ له وَطْؤُهَا بِنَفْسِ الْإِجَابَةِ ما لم تَقُلْ أنا
فُلَانَةُ لِأَنَّ الْإِجَابَةَ قد تَكُونُ من التي نَادَاهَا وقد تَكُونُ من
غَيْرِهَا فَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْوَطْءِ على نَفْسِ الْإِجَابَةِ فإذا فَعَلَ
لم يُعَذَّرْ بِخِلَافِ ما إذَا قالت أنا فُلَانَةُ فَوَطِئَهَا لِأَنَّهُ لَا
سَبِيلَ لِلْأَعْمَى إلَى أَنْ يَعْرِفَ أنها امْرَأَتُهُ إلَّا بِذَلِكَ الطَّرِيقِ
فَكَانَ مَعْذُورًا فَأَشْبَهَ الْمَرْأَةَ الْمَزْفُوفَةَ حتى لو كان الرَّجُلُ
بَصِيرًا لَا يُصَدَّقُ على ذلك لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى أنها امْرَأَتُهُ
بِالرُّؤْيَةِ
وَرُوِيَ عن زُفَرَ في رَجُلٍ أَعْمَى وَجَدَ على فِرَاشِهِ أو مَجْلِسِهِ
امْرَأَةً نَائِمَةً فَوَقَعَ عليها وقال ظَنَنْتُ أنها امْرَأَتِي يُدْرَأُ عنه
الْحَدُّ وَعَلَيْهِ الْعُقْرُ
وقال أبو يُوسُفَ لَا يُدْرَأُ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ ظَنَّ في مَوْضِعِ الظَّنِّ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ
لَا يَنَامُ على فِرَاشِهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَكَانَ ظَنُّهُ مُسْتَنِدًا إلَى
دَلِيلٍ ظَاهِرٍ فَيُوجِبُ دَرْأَ الْحَدِّ كما لو زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ
امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ النَّوْمَ على الْفِرَاشِ لَا يَدُلُّ على أنها
امْرَأَتُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَنَامَ على فِرَاشِهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَلَا
يَجُوزُ اسْتِحْلَالُ الْوَطْءِ بهذا الْقَدْرِ فإذا اسْتَحَلَّ وَظَهَرَ
الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ لم يَكُنْ مَعْذُورًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْإِحْصَانُ فَالْإِحْصَانُ نَوْعَانِ إحْصَانُ الرَّجْمِ وَإِحْصَانُ
الْقَذْفِ
أَمَّا إحْصَانُ الرَّجْمِ فَهُوَ عِبَارَةٌ في الشَّرْعِ عن اجْتِمَاعِ صِفَاتٍ
اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ وَهِيَ سَبْعَةٌ الْعَقْلُ
وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ وَكَوْنُ
الزَّوْجَيْنِ جميعا على هذه الصِّفَاتِ وهو أَنْ يَكُونَا جميعا عَاقِلَيْنِ
بَالِغَيْنِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ فَوُجُودُ هذه الصِّفَاتِ جميعا فِيهِمَا
شَرْطٌ لِكَوْنِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْصَنًا وَالدُّخُولُ في النِّكَاحِ
الصَّحِيحِ بَعْدَ سَائِرِ الشَّرَائِطِ مُتَأَخِّرًا عنها فَإِنْ تَقَدَّمَهَا لم
يُعْتَبَرْ ما لم يُوجَدْ دُخُولٌ آخَرُ بَعْدَهَا فَلَا إحْصَانَ الصبي ( ( (
للصبي ) ) ) وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ وَالْكَافِرِ وَلَا بِالنِّكَاحِ
الْفَاسِدِ
____________________
(7/37)
وَلَا
بِنَفْسِ النِّكَاحِ ما لم يُوجَدْ الدُّخُولُ وما لم يَكُنْ الزَّوْجَانِ جميعا
وَقْتَ الدُّخُولِ على صِفَةِ الْإِحْصَانِ حتى إن الزَّوْجَ الْعَاقِلَ
الْبَالِغَ الْحُرَّ الْمُسْلِمَ إذَا دخل بِزَوْجَتِهِ وَهِيَ صَبِيَّةٌ أو
مَجْنُونَةٌ أو أَمَةٌ أو كِتَابِيَّةٌ ثُمَّ أَدْرَكَتْ الصَّبِيَّةُ وَأَفَاقَتْ
الْمَجْنُونَةُ وَأُعْتِقَتْ الْأَمَةُ وَأَسْلَمَتْ الْكَافِرَةُ لَا يَصِيرُ
مُحْصَنًا ما لم يُوجَدْ دُخُولٌ آخَرُ بَعْدَ زَوَالِ هذه الْعَوَارِضِ حتى لو
زَنَى قبل دُخُولٍ آخَرَ لَا يُرْجَمُ فإذا وُجِدَتْ هذه الصِّفَاتُ صَارَ
الشَّخْصُ مُحْصَنًا لِأَنَّ الْإِحْصَانَ في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن الدُّخُولِ
في الْحِصْنِ
يُقَالُ أَحْصَنَ أَيْ دخل الْحِصْنَ كما يُقَالُ أَعْرَقَ أَيْ دخل الْعِرَاقَ
وَأَشْأَمَ أَيْ دخل الشَّامَ وَأَحْصَنَ أَيْ دخل في الْحِصْنِ وَمَعْنَاهُ دخل
حِصْنًا عن الزِّنَا إذَا دخل فيه وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْإِنْسَانُ دَاخِلًا في
الْحِصْنِ عن الزِّنَا عِنْدَ تَوَفُّرِ الْمَوَانِعِ وَكُلُّ وَاحِدٍ من هذه
الْجُمْلَةِ مَانِعٌ عن الزِّنَا فَعِنْدَ اجْتِمَاعِهَا تَتَوَفَّرُ الْمَوَانِعُ
أَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ لِلزِّنَا عَاقِبَةً ذَمِيمَةً وَالْعَقْلُ يَمْنَعُ
عن ارْتِكَابِ ماله عَاقِبَةٌ ذَمِيمَةٌ
وَأَمَّا الْبُلُوغُ فإن الصَّبِيَّ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِ وَلِقِلَّةِ تَأَمُّلِهِ
لِاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ لَا يَقِفُ على عَوَاقِبِ الْأُمُورِ
فَلَا يَعْرِفُ الْحَمِيدَةَ منها وَالذَّمِيمَةَ
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِأَنَّ الْحُرَّ يَسْتَنْكِفُ عن الزِّنَا وَكَذَا
الْحُرَّةُ وَلِهَذَا لَمَّا قَرَأَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم آيَةَ
الْمُبَايَعَةِ على النِّسَاءِ وَبَلَغَ إلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَلَا
يَزْنِينَ } قالت هِنْدُ امْرَأَةُ أبي سُفْيَانَ أو تزني الْحُرَّةُ يا رَسُولَ
اللَّهِ
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلِأَنَّهُ نِعْمَةٌ كَامِلَةٌ مُوجِبَةٌ لِلشُّكْرِ
فَيَمْنَعُ من الزِّنَا الذي هو وَضْعُ الْكُفْرِ في مَوْضِعِ الشُّكْرِ
وَأَمَّا اعْتِبَارُ اجْتِمَاعِ هذه الصِّفَاتِ في الزَّوْجَيْنِ جميعا فَلِأَنَّ
اجْتِمَاعَهَا فِيهِمَا يُشْعِرُ بِكَمَالِ حَالِهِمَا وَذَا يُشْعِرُ بِكَمَالِ
اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ من الْجَانِبَيْنِ لِأَنَّ اقْتِضَاءَ الشَّهْوَةِ
بِالصَّبِيَّةِ وَالْمَجْنُونَةِ قَاصِرٌ وَكَذَا بِالرَّقِيقِ لِكَوْنِ الرِّقِّ
من نَتَائِجِ الْكُفْرِ فَيَنْفِرُ عنه الطَّبْعُ وَكَذَا بِالْكَافِرَةِ لِأَنَّ
طَبْعَ الْمُسْلِمِ يَنْفِرُ عن الِاسْتِمْتَاعِ بِالْكَافِرَةِ وَلِهَذَا قال
النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِحُذَيْفَةَ رضي اللَّهُ عنه حين أَرَادَ أَنْ
يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً دَعْهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُكَ
وَأَمَّا الدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَلِأَنَّهُ اقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ
بِطَرِيقٍ حَلَالٍ فَيَقَعُ بِهِ الِاسْتِغْنَاءُ عن الْحَرَامِ وَالنِّكَاحُ
الْفَاسِدُ لَا يُفِيدُ فَلَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِغْنَاءُ
وَأَمَّا كَوْنُ الدُّخُولِ آخِرَ الشَّرَائِطِ فَلِأَنَّ الدُّخُولَ قبل
اسْتِيفَاءِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ لَا يَقَعُ اقْتِضَاءَ الشَّهْوَةِ على سَبِيلِ
الْكَمَالِ فَلَا تَقَعُ الْغُنْيَةُ بِهِ عن الْحَرَامِ على التَّمَامِ وَبَعْدَ
اسْتِيفَائِهَا تَقَعُ بِهِ الْغُنْيَةُ على الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ فَثَبَتَ
أَنَّ هذه الْجُمْلَةَ مَوَانِعُ عن الزِّنَا فَيَحْصُلُ بها مَعْنَى الْإِحْصَانِ
وهو الدُّخُولُ في الْحِصْنِ عن الزِّنَا
وَلَا خِلَافَ في هذه الْجُمْلَةِ إلَّا في الْإِسْلَامِ فإنه رُوِيَ عن أبي
يُوسُفَ أَنَّهُ ليس من شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ حتى لَا يَصِيرَ الْمُسْلِمُ
مُحْصَنًا بِنِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ وَالدُّخُولِ بها في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ الْحُرُّ الثَّيِّبُ إذَا زنا لَا
يُرْجَمُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَلْ يُجْلَدُ
وَعَلَى ما رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ يَصِيرُ الْمُسْلِمُ مُحْصَنًا بِنِكَاحِ
الْكِتَابِيَّةِ
وَيُرْجَمُ الذِّمِّيُّ بِهِ
وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ
أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ
وَلَوْ كان الْإِسْلَامُ شَرْطًا لَمَا رَجَمَ وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْإِسْلَامِ
لِلزَّجْرِ عن الزِّنَا وَالدِّينُ الْمُطْلَقُ يَصْلُحُ لِلزَّجْرِ عن الزِّنَا
لِأَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ في الْأَدْيَانِ كُلِّهَا
وَلَنَا في زِنَا الذِّمِّيِّ قَوْله تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى الْجَلْدَ على كل زَانٍ وَزَانِيَةٍ أو على مُطْلَقِ الزَّانِي
وَالزَّانِيَةِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَمَتَى وَجَبَ
الْجَلْدُ انْتَفَى وُجُوبُ الرَّجْمِ ضَرُورَةً وَلِأَنَّ زِنَا الْكَافِرِ لَا
يُسَاوِي زِنَا الْمُسْلِمِ في كَوْنِهِ جِنَايَةً فَلَا يُسَاوِيهِ في
اسْتِدْعَاءِ الْعُقُوبَةِ كَزِنَا الْبِكْرِ مع زِنَا الثَّيِّبِ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ زِنَا الْمُسْلِمِ اُخْتُصَّ بِمَزِيدِ قُبْحٍ انْتَفَى ذلك
في زِنَا الْكَافِرِ وهو كَوْنُ زِنَاهُ وَضْعَ الْكُفْرَانِ في مَوْضِعِ
الشُّكْرِ لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ نِعْمَةٌ وَدِينَ الْكُفْرِ ليس بِنِعْمَةٍ
وفي زِنَا الْمُسْلِمِ بِالْكِتَابِيَّةِ قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لِحُذَيْفَةَ رضي اللَّهُ عنه حين أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً دَعْهَا
فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُكَ وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من أَشْرَكَ
بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ وَالذِّمِّيُّ مُشْرِكٌ على الْحَقِيقَةِ فلم
يَكُنْ مُحْصَنًا وما ذَكَرْنَا أَنَّ في اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ بِالْكَافِرَةِ
قُصُورًا فَلَا يَتَكَامَلُ مَعْنَى النِّعْمَةِ فَلَا يَتَكَامَلُ الزَّاجِرُ
وَقَوْلُهُ الزَّجْرُ يَحْصُلُ بِأَصْلِ الدِّينِ قُلْنَا نعم لَكِنَّهُ لَا
يَتَكَامَلُ إلَّا بِدِينِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ نِعْمَةٌ فَيَكُونُ الزِّنَا من
الْمُسْلِمِ وَضْعَ الْكُفْرَانِ في مَوْضِعِ الشُّكْرِ وَدِينُ الْكُفْرِ ليس
بِنِعْمَةٍ فَلَا يَكُونُ في كَوْنِهِ زَاجِرًا مِثْلُهُ
وَأَمَّا حَدِيثُ رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان قبل نُزُولِ
آيَةِ الْجَلْدِ فَانْتَسَخَ بها وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان بَعْدَ نُزُولِهَا
وَنَسْخُ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَهْوَنُ من نَسْخِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ
وَإِحْصَانُ كل وَاحِدٍ من الزَّانِيَيْنِ ليس بِشَرْطٍ
____________________
(7/38)
لِوُجُوبِ
الرَّجْمِ على أَحَدِهِمَا حتى لو كان أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا وَالْآخَرُ غير
مُحْصَنٍ فَالْمُحْصَنُ مِنْهُمَا يُرْجَمُ وَغَيْرُ الْمُحْصَنِ يُجْلَدُ ثُمَّ
إذَا ظَهَرَ إحْصَانُ الزَّانِي بِالْبَيِّنَةِ أو بِالْإِقْرَارِ يُرْجَمُ
بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ
أَمَّا النَّصُّ فَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وهو قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لَا يَحِلُّ دَمُ امرىء مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى مَعَانٍ ثَلَاثٍ
كُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ وَزِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَمَ مَاعِزًا وكان مُحْصَنًا
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فهوأن الْمُحْصَنَ إذَا تَوَفَّرَتْ عليه الْمَوَانِعُ من
الزِّنَا فإذا أَقْدَمَ عليه مع تَوَفُّرِ الْمَوَانِعِ صَارَ زِنَاهُ غَايَةً في
الْقُبْحِ فَيُجَازَى بِمَا هو غَايَةٌ في الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وهو
الرَّجْمُ لِأَنَّ الْجَزَاءَ على قَدْرِ الْجِنَايَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَوَعَّدَ نِسَاءَ النبي عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ إذَا أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ
لِعِظَمِ جِنَايَتِهِنَّ لِحُصُولِهَا مع تَوَفُّرِ الْمَوَانِعِ فِيهِنَّ
لِعِظَمِ نِعَمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِنَّ لِنَيْلِهِنَّ
صُحْبَةَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَمُضَاجَعَتَهُ فَكَانَتْ
جِنَايَتُهُنَّ على تَقْدِيرِ الْإِتْيَانِ غَايَةً في الْقُبْحِ فَأُوعِدْنَ بِالْغَايَةِ
من الْجَزَاءِ
كَذَا هَهُنَا
وَلَا يُجْمَعُ بين الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال بَعْضُ الناس يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ
وَلَنَا أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَمَ مَاعِزًا ولم يَجْلِدْهُ
وَلَوْ وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَجَمَعَ
وَلِأَنَّ الزِّنَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا يُوجِبُ إلَّا عُقُوبَةً وَاحِدَةً
وَالْجَلْدُ وَالرَّجْمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُقُوبَةٌ على حِدَةٍ فَلَا
يَجِبَانِ لِجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا في الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ
لَكِنْ في حَالَيْنِ فَيَكُونُ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ
وإذا فُقِدَ شَرْطٌ من شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ لَا يُرْجَمُ بَلْ يُجْلَدُ
لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِنَفْسِ الزِّنَا هو الْجَلْدُ بِآيَةِ الْجَلْدِ
وَلِأَنَّ زِنَا غير الْمُحْصَنِ لَا يَبْلُغُ غَايَةً في الْقُبْحِ فَلَا
تَبْلُغُ عُقُوبَتُهُ النِّهَايَةَ فيكتفي بِالْجَلْدِ وَهَلْ يُجْمَعُ بين
الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ اُخْتُلِفَ فيه قال أَصْحَابُنَا لَا يُجْمَعُ إلَّا
إذَا رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ في الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَيَجْمَعُ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا
احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال الْبِكْرُ
بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ جَلَدَ وَغَرَّبَ وَكَذَا
رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ فَعَلَ كَذَا ولم يُنْكِرْ
عَلَيْهِمَا أَحَدٌ من الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلَنَا قَوْلُهُ عز وجل
{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ
} وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عز وجل أَمَرَ
بِجَلْدِ الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي ولم يذكر التَّغْرِيبَ فَمَنْ أَوْجَبَهُ
فَقَدْ زَادَ على كِتَابِ اللَّهِ عز وجل وَالزِّيَادَةُ عليه نَسْخٌ وَلَا
يَجُوزُ نَسْخُ النَّصِّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الْجَلْدَ جَزَاءً
وَالْجَزَاءُ اسْمٌ لِمَا تَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ مَأْخُوذٌ من الِاجْتِزَاءِ
وهو الِاكْتِفَاءُ فَلَوْ أَوْجَبْنَا التَّغْرِيبَ لَا تَقَعُ الْكِفَايَةُ
بِالْجَلْدِ
وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ ولأن التَّغْرِيبَ تَعْرِيضٌ لِلْمُغَرَّبِ على الزِّنَا
لِأَنَّهُ ما دَامَ في بَلَدِهِ يَمْتَنِعُ عن الْعَشَائِرِ وَالْمَعَارِفِ
حَيَاءً منهم وَبِالتَّغْرِيبِ يَزُولُ هذا الْمَعْنَى فَيُعَرَّى الدَّاعِي عن
الْمَوَانِعِ فَيُقَدَّمُ عليه وَالزِّنَا قَبِيحٌ فما أَفْضَى إلَيْهِ مِثْلُهُ
وَفِعْلُ الصَّحَابَةِ مَحْمُولٌ على أَنَّهُمْ رَأَوْا ذلك مَصْلَحَةً على
طَرِيقِ التَّعْزِيرِ
أَلَا يُرَى أَنَّهُ رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ نَفَى
رَجُلًا فَلَحِقَ بِالرُّومِ فقال لَا أَنْفِي بَعْدَهَا أَبَدًا
وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كَفَى بِالنَّفْيِ
فِتْنَةً فَدَلَّ أَنَّ فِعْلَهُمْ كان على طَرِيقِ التَّعْزِيرِ وَنَحْنُ بِهِ
نَقُولُ إنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفِيَ إنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ في التَّغْرِيبِ
وَيَكُونُ النَّفْيُ تَعْزِيرًا لَا حَدًّا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا إحْصَانُ الْقَذْفِ فَنَذْكُرُهُ في حَدِّ الْقَذْفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا حَدُّ الشُّرْبِ فَسَبَبُ وُجُوبِهِ الشُّرْبُ وهو شُرْبُ
الْخَمْرِ خَاصَّةً حتى يَجِبَ الْحَدُّ بِشُرْبِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا وَلَا
يَتَوَقَّفُ الْوُجُوبُ على حُصُولِ السُّكْرِ منها
وَحَدُّ السُّكْرِ سَبَبُ وُجُوبِهِ السُّكْرُ الْحَاصِلُ بِشُرْبِ ما سِوَى
الْخَمْرِ من الْأَشْرِبَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُسْكِرَةِ كَالسُّكَّرِ وَنَقِيعِ
الزَّبِيبِ وَالْمَطْبُوخِ أَدْنَى طَبْخَةٍ من عَصِيرِ الْعِنَبِ أو التَّمْرِ
وَالْمُثَلَّثِ وَنَحْوِ ذلك
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِهَا فَمِنْهَا الْعَقْلُ وَمِنْهَا الْبُلُوغُ
فَلَا حَدَّ على الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ
وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ
فَلَا حَدَّ على الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ بِالشُّرْبِ وَلَا
بِالسُّكْرِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَمِنْهَا عَدَمُ الضَّرُورَةِ في شُرْبِ الْخَمْرِ فَلَا حَدَّ على من أُكْرِهَ
على شُرْبِ خَمْرٍ وَلَا على من أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ
لِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً وَفِعْلُ
الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِالْجِنَايَةِ
وَكَذَا الشُّرْبُ لِضَرُورَةِ الْمَخْمَصَةِ وَالْإِكْرَاهُ حَلَالٌ فلم
____________________
(7/39)
يَكُنْ
جِنَايَةً وَشُرْبُ الْخَمْرِ مُبَاحٌ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ أَكْثَرِ
مَشَايِخِنَا فَلَا يَكُونُ جِنَايَةً وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ وَإِنْ كان حَرَامًا
لَكِنَّا نُهِينَا عن التعرض ( ( ( التعريض ) ) ) لهم وما يَدِينُونَ وفي إقَامَةِ
الْحَدِّ عليهم تَعَرُّضٌ لهم من حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّهَا تَمْنَعُهُمْ من
الشُّرْبِ
وَعَنْ الْحَسَنِ بن زِيَادٍ أَنَّهُمْ إذَا شَرِبُوا وَسَكِرُوا يُحَدُّونَ
لِأَجْلِ السُّكْرِ لَا لِأَجْلِ الشُّرْبِ لِأَنَّ السُّكْرَ حَرَامٌ في
الْأَدْيَانِ كُلِّهَا
وما قَالَهُ الْحَسَنُ حَسَنٌ
وَمِنْهَا بَقَاءُ اسْمِ الْخَمْرِ لِلْمَشْرُوبِ وَقْتَ الشُّرْبِ في حَدِّ
الشُّرْبِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالشُّرْبِ تَعَلُّقٌ بِهِ حتى لو خُلِطَ
الْخَمْرُ بِالْمَاءِ ثُمَّ شُرِبَ نُظِرَ فيه إنْ كانت الْغَلَبَةُ لِلْمَاءِ لَا
حَدَّ عليه لِأَنَّ اسْمَ الْخَمْرِيَّةِ يَزُولُ عِنْدَ غَلَبَةِ الْمَاءِ وَإِنْ
كانت الْغَلَبَةُ لِلْخَمْرِ أو كَانَا سَوَاءً يُحَدُّ
لِأَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ بَاقٍ وَهِيَ عَادَةُ بَعْضِ الشَّرَبَةِ أَنَّهُمْ
يَشْرَبُونَهَا مَمْزُوجَةً بِالْمَاءِ
وَكَذَلِكَ من شَرِبَ دُرْدِيَّ الْخَمْرِ لَا حَدَّ عليه لِأَنَّ دُرْدِيَّ
الْخَمْرِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا وَإِنْ كان لَا يَخْلُو عن أَجْزَاءِ الْخَمْرِ
فَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ حتى يَجِبَ الْحَدُّ على الذَّكَرِ
وَالْأُنْثَى
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَكَذَلِكَ إلَّا أَنَّ حق ( ( ( حد ) ) ) الرَّقِيقِ
يَكُونُ على النِّصْفِ من حَدِّ الْحُرِّ وَلَا حق ( ( ( حد ) ) ) على من تُوجَدُ
منه رَائِحَةُ الْخَمْرِ
لِأَنَّ وُجُودَ رَائِحَةِ الْخَمْرِ لَا يَدُلُّ على شُرْبِ الْخَمْرِ لِجَوَازِ
أَنَّهُ تَمَضْمَضَ بها ولم يَشْرَبْهَا أو شَرِبَهَا عن إكْرَاهٍ أو مَخْمَصَةٍ
وَكَذَلِكَ من تَقَيَّأَ خَمْرًا لَا حَدَّ عليه لِمَا قُلْنَا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْأَشْرِبَةُ التي تُتَّخَذُ من الْأَطْعِمَةِ كَالْحِنْطَةِ
وَالشَّعِيرِ وَالدُّخْنِ وَالذُّرَةِ وَالْعَسَلِ وَالتِّينِ وَالسُّكَّرِ
وَنَحْوِهَا فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِهَا لِأَنَّ شُرْبَهَا حَلَالٌ
عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كان حَرَامًا لَكِنْ هِيَ حُرْمَةُ مَحَلِّ
الِاجْتِهَادِ فلم يَكُنْ شُرْبُهَا جِنَايَةً مَحْضَةً فَلَا تَتَعَلَّقُ بها
عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ وَلَا بِالسُّكْرِ منها وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الشُّرْبَ إذَا
لم يَكُنْ حَرَامًا أَصْلًا فَلَا عِبْرَةَ بِنَفْسِ السُّكْرِ كَشُرْبِ الْبَنْجِ
وَنَحْوِهِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَسَبَبُ وُجُوبِهِ الْقَذْفُ بِالزِّنَا
لِأَنَّهُ نَسَبَهُ إلَى الزِّنَا وَفِيهَا إلْحَاقُ الْعَارِ بِالْمَقْذُوفِ
فَيَجِبُ الْحَدُّ دَفْعًا لِلْعَارِ عنه
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِهِ فأنوع ( ( ( فأنواع ) ) ) بَعْضُهَا يَرْجِعُ
إلَى الْقَاذِفِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ
إلَيْهِمَا جميعا وَبَعْضُهَا يرجع إلَى الْمَقْذُوفِ بِهِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ
إلَى الْمَقْذُوفِ فيه وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَذْفِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْقَاذِفِ فَأَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا الْعَقْلُ
وَالثَّانِي الْبُلُوغُ حتى لو كان الْقَاذِفُ صَبِيًّا أو مَجْنُونًا لَا حَدَّ
عليه لِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ فَيَسْتَدْعِي كَوْنَ الْقَذْفِ جِنَايَةً
وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً
وَالثَّالِثُ عَدَمُ إثْبَاتِهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِنْ أتى بِهِمْ لَا
حَدَّ عليه لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لم يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً } عَلَّقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وُجُوبَ إقَامَةِ الْحَدِّ
بَعْدَ الْإِثْبَاتِ بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ
وَلَيْسَ الْمُرَادُ منه عَدَمَ الْإِتْيَانِ في جَمِيعِ الْعُمْرِ بَلْ عِنْدَ
الْقَذْفِ وَالْخُصُومَةِ إذْ لو حُمِلَ على الْأَبَدِ لَمَا أُقِيمَ حَدٌّ
أَصْلًا إذْ لَا يُقَامُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا وَجَبَ
لِدَفْعِ عَارِ الزِّنَا عن الْمَقْذُوفِ وإذا ظَهَرَ زِنَاهُ بِشَهَادَةِ
الْأَرْبَعَةِ لَا يَحْتَمِلُ الِانْدِفَاعَ بِالْحَدِّ وَلِأَنَّ هذا شَرْطٌ
يَزْجُرُ عن قَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ
وَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْقَاذِفِ وَإِسْلَامُهُ وَعِفَّتُهُ عن فِعْلِ الزِّنَا
فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَيُحَدُّ الرَّقِيقُ وَالْكَافِرُ وَمَنْ لَا عِفَّةَ له عن
الزِّنَا وَالشَّرْطُ إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ لَا إحْصَانَ الْقَاذِفِ وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ فَشَيْئَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ
يَكُونَ مُحْصَنًا رَجُلًا كان أو امْرَأَةً وَشَرَائِطُ إحْصَانِ الْقَذْفِ
خَمْسَةٌ الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْعِفَّةُ عن
الزِّنَا فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالرَّقِيقِ
وَالْكَافِرِ وَمَنْ لَا عِفَّةَ له عن الزِّنَا
أَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَلِأَنَّ الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ من الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ فَكَانَ قَذْفُهُمَا بِالزِّنَا كَذِبًا مَحْضًا فَيُوجِبُ
التَّعْزِيرَ لَا الْحَدَّ
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَرَطَ
الْإِحْصَانَ في آيَةِ الْقَذْفِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {
وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } وَالْمُرَادُ من الْمُحْصَنَاتِ هَهُنَا
الْحَرَائِرُ لَا الْعَفَائِفُ عن الزِّنَا فَدَلَّ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ شَرْطٌ
وَلِأَنَّا لو أَوْجَبْنَا على قَاذِفِ الْمَمْلُوكِ الْجَلْدَ لَأَوْجَبْنَا
ثَمَانِينَ وهو لو أتى بِحَقِيقَةِ الزِّنَا لَا يُجْلَدُ إلَّا خَمْسِينَ
وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْقَذْفَ نِسْبَةٌ إلَى الزِّنَا وَأَنَّهُ دُونَ
حَقِيقَةِ الزِّنَا
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ وَالْعِفَّةُ عن الزِّنَا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {
الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ }
وَالْمُحْصَنَاتُ الْحَرَائِرُ وَالْغَافِلَاتُ والعفائف ( ( ( العفائف ) ) ) عن
الزِّنَا وَالْمُؤْمِنَاتُ مَعْلُومَةٌ فَدَلَّ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعِفَّةَ
____________________
(7/40)
عن
الزِّنَا وَالْحُرِّيَّةِ شَرْطٌ وَدَلَّتْ هذه الْآيَةُ على أَنَّ الْمُرَادَ من
الْمُحْصَنَاتِ في هذه الْآيَةِ الْحَرَائِرُ لَا الْعَفَائِفُ لِأَنَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَمَعَ في هذه الْآيَةِ بين الْمُحْصَنَاتِ وَالْغَافِلَاتِ
في الذِّكْرِ وَالْغَافِلَاتُ الْعَفَائِفُ فَلَوْ أُرِيدَ بِالْمُحْصَنَاتِ
الْعَفَائِفُ لَكَانَ تَكْرَارًا وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَجِبُ لِدَفْعِ
الْعَارِ عن الْمَقْذُوفِ وَمَنْ لَا عِفَّةَ له عن الزِّنَا لَا يَلْحَقُهُ
الْعَارُ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا وَكَذَا قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
من أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ يَدُلُّ على أَنَّ الْإِسْلَامَ
شَرْطٌ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا وَجَبَ بِالْقَذْفِ دَفْعًا لِعَارِ الزِّنَا
عن الْمَقْذُوفِ وما في الْكَافِرِ من عَارِ الْكُفْرِ أَعْظَمُ وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
ثُمَّ تَفْسِيرُ الْعِفَّةِ عن الزِّنَا هو إنْ لم يَكُنْ الْمَقْذُوفُ وطىء في
عُمْرِهِ وطأ حَرَامًا في غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا نِكَاحٍ أَصْلًا وَلَا في نِكَاحٍ
فَاسِدٍ فَسَادًا مُجْمَعًا عليه في السَّلَفِ فَإِنْ كان فَعَلَ سَقَطَتْ
عِفَّتُهُ سَوَاءٌ كان الْوَطْءُ زِنًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ أو لم يَكُنْ بَعْدَ
أَنْ يَكُونَ على الْوَصْفِ الذي ذَكَرْنَا
وَإِنْ كان وطىء وطأ حَرَامًا لَكِنْ في الْمِلْكِ أو النِّكَاحِ حَقِيقَةً أو في
نِكَاحٍ فَاسِدٍ لَكِنْ فَسَادًا هو مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ لَا تَسْقُطُ عِفَّتُهُ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ في مَسَائِلَ إذَا وطىء امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ بِأَنْ
زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا سَقَطَتْ عِفَّتُهُ لِوُجُودِ
الْوَطْءِ الْحَرَامِ في غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا نِكَاحٍ أَصْلًا إلَّا أَنَّهُ لم
يَجِبْ الْحَدُّ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُبِيحِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ على ما
ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَكَذَلِكَ إذَا وطىء جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ
وَبَيْنَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُصَادِفُ كُلَّ الْجَارِيَةِ وَكُلُّهَا ليس
مِلْكَهُ فَيُصَادِفُ مِلْكَ الْغَيْرِ لَا مَحَالَةَ فَكَانَ الْفِعْلُ زِنًا من
وَجْهٍ لَكِنْ درىء ( ( ( درئ ) ) ) الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ
وَكَذَلِكَ إذَا وطىء جَارِيَةَ أَبَوَيْهِ أو زَوْجَتِهِ أو جَارِيَةً
اشْتَرَاهَا وهو يَعْلَمُ أنها لِغَيْرِ الْبَائِعِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ لِمَا
قُلْنَا
وَكَذَلِكَ لو وطىء جَارِيَةَ ابْنِهِ فَأَعْلَقَهَا أو لم يُعْلِقْهَا لِوُجُودِ
الْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ في غَيْرِ مِلْكٍ حَقِيقَةً
وَلَوْ وطىء الْحَائِضَ أو النُّفَسَاءَ أو الصَّائِمَةَ أو الْمُحْرِمَةَ أو
الْحُرَّةَ التي ظَاهَرَ منها أو الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَةَ لم تَسْقُطْ عِفَّتُهُ
لِقِيَامِ الْمِلْكِ أو النِّكَاحِ حَقِيقَةً وَأَنَّهُ مُحَلَّلٌ إلَّا أَنَّهُ
مُنِعَ من الْوَطْءِ لِغَيْرِهِ
وَكَذَا إذَا وطىء مُكَاتَبَتَهُ في قَوْلِهِمَا وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن
أبي يُوسُفَ وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى عنه وهو قَوْلُ زُفَرَ تَسْقُطُ عِفَّتُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذا وَطْءٌ حَصَلَ في غَيْرِ الْمِلْكِ لِأَنَّ عَقْدَ
الْكِتَابَةِ أَوْجَبَ زَوَالَ الْمِلْكِ في حَقِّ الْوَطْءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ
لَا يُبَاحُ له أَنْ يَطَأَهَا وَكَذَا الْمَهْرُ يَكُونُ لها لَا لِلْمَوْلَى
وَهَذَا دَلِيلُ زَوَالِ الْمِلْكِ في حَقِّ الْوَطْءِ
وَلَنَا أَنَّ الْوَطْءَ يُصَادِفُ الذَّاتَ وَمِلْكُ الذَّاتِ قَائِمٌ بَعْدَ
الْكِتَابَةِ فَكَانَ الْمِلْكُ الْمُحَلِّلُ قَائِمًا وَإِنَّمَا الزَّائِلُ
مِلْكُ الْيَدِ فَمُنِعَ من الْوَطْءِ لِمَا فيه من اسْتِرْدَادِ يَدِهَا على
نَفْسِهَا فَأَشْبَهَتْ الْجَارِيَةَ الْمُزَوَّجَةَ وَلَوْ تَزَوَّجَ مُعْتَدَّةَ
الْغَيْرِ أو مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ أو مَجُوسِيَّةً أو أُخْتَهُ من الرَّضَاعِ
سَقَطَتْ عِفَّتُهُ سَوَاءٌ عَلِمَ أو لم يَعْلَمْ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي
اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا إذَا كان لَا يَعْلَمُ لَا تَسْقُطُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ إذَا لم يَعْلَمْ لَا يَكُونُ الْوَطْءُ حَرَامًا
بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ وَلَوْ كان حَرَامًا لَأَثِمَ وإذا لم يَكُنْ
حَرَامًا لم تَسْقُطْ الْعِفَّةُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حُرْمَةَ الْوَطْءِ هَهُنَا ثَابِتَةٌ
بِالْإِجْمَاعِ إلَّا أَنَّ الْإِثْمَ مُنْتَفٍ وَالْإِثْمُ ليس من لَوَازِمِ
الْحُرْمَةِ على ما عُرِفَ
وإذا كانت الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً بِيَقِينٍ سَقَطَتْ الْعِفَّةُ
وَلَوْ قَبَّلَ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ أو نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ ثُمَّ
تَزَوَّجَ بِابْنَتِهَا فَوَطِئَهَا أو تَزَوَّجَ بِأُمِّهَا فَوَطِئَهَا لَا
تَسْقُطُ عِفَّتُهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا
تَسْقُطُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّقْبِيلَ أو النَّظَرَ أَوْجَبَ حُرْمَةَ
الْمُصَاهَرَةِ وأنها حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ فَتَسْقُطُ الْعِصْمَةُ كَحُرْمَةِ
الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هذه الْحُرْمَةَ لَيْسَتْ مُجْمَعًا
عليها بَلْ هِيَ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ في السَّلَفِ فَلَا تَسْقُطُ الْعِفَّةُ
فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ ابْنَتَهَا أو
أُمَّهَا فَوَطِئَهَا سَقَطَتْ عِفَّتُهُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ هذا النِّكَاحَ
مُجْمَعٌ على فَسَادِهِ فلم يَكُنْ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ
وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ شُهُودٍ فَوَطِئَهَا سَقَطَتْ عِفَّتُهُ
لِأَنَّ فَسَادَ هذا النِّكَاحَ مُجْمَعٌ عليه لَا اخْتِلَافَ فيه في السَّلَفِ
إذْ لَا يُعْرَفُ الْخِلَافُ فيه بين الصَّحَابَةِ فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ
مَالِكٍ فيه
وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً وَحُرَّةً في عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فوطئهما ( ( ( فوطئها )
) ) أو تَزَوَّجَ أَمَةً على حُرَّةٍ فَوَطِئَهُمَا لم تَسْقُطْ عِفَّتُهُ لِأَنَّ
فَسَادَ هذا النِّكَاحِ ليس مُجْمَعًا عليه في السَّلَفِ بَلْ هو مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ
فَالْوَطْءُ فيه لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْعِفَّةِ
وَلَوْ تَزَوَّجَ ذِمِّيٌّ امْرَأَةً ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه ثُمَّ أَسْلَمَ
فَقَذَفَهُ رَجُلٌ
إنْ كان قد دخل بها بَعْدَ الْإِسْلَامِ سَقَطَتْ عِفَّتُهُ بِالْإِجْمَاعِ
وَإِنْ كان الدُّخُولُ في حَالِ الْكُفْرِ لم تَسْقُطْ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا تَسْقُطُ
هَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْأَصْلِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ إحْصَانُهُ
ولم يذكر الْخِلَافَ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ هذا النِّكَاحَ مُجْمَعٌ على فَسَادِهِ
وَإِنَّمَا سَقَطَ الْحَدُّ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ لِنَوْعِ
شُبْهَةٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَا حَدَّ على من قَذَفَ امْرَأَةً مَحْدُودَةً
____________________
(7/41)
في
الزِّنَا أو مَعَهَا وَلَدٌ لَا يُعْرَفُ له أَبٌ أو لَاعَنَتْ بِوَلَدٍ لِأَنَّ
إمارة الزِّنَا مَعَهَا ظَاهِرَةٌ فلم تَكُنْ عَفِيفَةً
فَإِنْ لَاعَنَتْ بِغَيْرِ الْوَلَدِ أو مع الْوَلَدِ لَكِنَّهُ لم يَقْطَعْ
النَّسَبَ
أو قَطَعَ لَكِنَّ الزَّوْجَ عَادَ وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ وَأُلْحِقَ النَّسَبُ
بِالْأَبِ حُدَّ لِأَنَّهُ لم يَظْهَرْ منها عَلَامَةُ الزِّنَا فَكَانَتْ
عَفِيفَةً
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ مَعْلُومًا فَإِنْ كان مَجْهُولًا لَا
يَجِبُ الْحَدُّ
كما إذَا قال لِجَمَاعَةٍ كُلُّكُمْ زَانٍ إلَّا وَاحِدًا
أو قال ليس فِيكُمْ زَانٍ إلَّا وَاحِدٌ
أو قال لِرَجُلَيْنِ أَحَدُكُمَا زَانٍ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ مَجْهُولٌ
وَلَوْ قال لِرَجُلَيْنِ أَحَدُكُمَا زَانٍ فقال له رَجُلٌ أَحَدُهُمَا هذا فقال
لَا لَا
حَدَّ لِلْآخَرِ
لِأَنَّهُ لم يَقْذِفْ بِصَرِيحِ الزِّنَا وَلَا بِمَا هو في مَعْنَى الصَّرِيحِ
وَلَوْ قال لِرَجُلٍ جَدُّكَ زَانٍ لَا حَدَّ عليه لِأَنَّ اسْمَ الْجَدِّ
يَنْطَلِقُ على الْأَسْفَلِ وَعَلَى الْأَعْلَى فَكَانَ الْمَقْذُوفُ مَجْهُولًا
وَلَوْ قال لِرَجُلٍ أَخُوكَ زَانٍ فَإِنْ كان له إخْوَةٌ أو أَخَوَانِ سِوَاهُ
لَا حَدَّ على الْقَاذِفِ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ مَجْهُولٌ
وَإِنْ لم يَكُنْ له إلَّا أَخٌ وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا حَضَرَ
وَطَالَبَ
لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ مَعْلُومٌ وَلَيْسَ لِهَذَا الْأَخِ وِلَايَةُ
الْمُطَالَبَةِ لِمَا نَذْكُرُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا حَيَاةُ الْمَقْذُوفِ وَقْتَ الْقَذْفِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ
الْحَدِّ على الْقَاذِفِ حتى يَجِبَ الْحَدُّ بِقَذْفِ الْمَيِّتِ لِمَا نَذْكُرُ
في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فصل وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جميعا فَوَاحِدٌ وهو أَنْ لَا يَكُونَ
الْقَاذِفُ أَبِ الْمَقْذُوفِ وَلَا جَدَّهُ وَإِنْ عَلَا وَلَا أُمَّهُ وَلَا
جَدَّتَهُ وَإِنْ عَلَتْ فَإِنْ كان لَا حَدَّ عليه لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {
فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } وَالنَّهْيُ عن التَّأْفِيفِ نَصًّا نَهْيٌ عن الضَّرْبِ
دَلَالَةً
وَلِهَذَا لَا يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا
وَلِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا }
وَالْمُطَالَبُ بِالْقَذْفِ ليس من الْإِحْسَانِ في شَيْءٍ فَكَانَ مَنْفِيًّا
بِالنَّصِّ وَلِأَنَّ تَوْقِيرَ الْأَبِ وَاحْتِرَامَهُ وَاجِبٌ شَرْعًا وَعَقْلًا
وَالْمُطَالَبَةُ بِالْقَذْفِ لِلْجَدِّ تَرْكُ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ
فَكَانَ حَرَامًا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ بِهِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا
أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ بِصَرِيحِ الزِّنَا وما يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ وهو
نَفْيُ النَّسَبِ فَإِنْ كان بالكنابة ( ( ( بالكناية ) ) ) لَا يُوجِبُ الْحَدَّ
لِأَنَّ الْكِنَايَةَ مُحْتَمَلَةٌ وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ مع الشُّبْهَةِ فَمَعَ
الِاحْتِمَالِ أَوْلَى
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ في مَسَائِلَ إذَا قال لِرَجُلٍ يا زَانِي أو قال
زَنَيْتَ أو قال أنت زان ( ( ( زاني ) ) ) يُحَدُّ لِأَنَّهُ أتى بِصَرِيحِ
الْقَذْفِ بِالزِّنَا
وَلَوْ قال يا زانيء ( ( ( زانئ ) ) ) بِالْهَمْزِ أو زَنَأْتَ بِالْهَمْزِ
يُحَدُّ
وَلَوْ قال عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ في الْجَبَلِ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّ
الْعَامَّةَ لَا تُفَرِّقُ بين الْمَهْمُوزِ وَالْمُلَيَّنِ
وَكَذَا من الْعَرَبِ من يَهْمِزُ الْمُلَيَّنَ فَبَقِيَ مُجَرَّدُ النِّيَّةِ
فَلَا يُعْتَبَرُ
وَلَوْ قال زَنَأْتَ في الْجَبَلِ يُحَدُّ وَلَوْ قال عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ في
الْجَبَلِ لَا يُصَدَّقُ في قَوْلِهِمَا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُصَدَّقُ
وَلَوْ قال زَنَأْتَ على الْجَبَلِ وقال عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ لَا يُصَدَّقُ
بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الزِّنَا الذي هو فَاحِشَةٌ
مُلَيَّنٌ
يُقَالُ زنا يَزْنِي زنا وَالزِّنَا الذي هو صُعُودٌ مَهْمُوزٌ يُقَالُ زَنَأَ
يَزْنَأُ زنأ ( ( ( زنئا ) ) )
وقال الشَّاعِرُ وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زنا ( ( ( زنئا ) ) ) في الْجَبَلْ
وَأَرَادَ بِهِ الصُّعُودَ إلَّا أَنَّهُ إذَا لم يَقُلْ عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ
حُمِلَ على الزِّنَا الْمَعْرُوفِ لِأَنَّ اسْمَ الزِّنَا يُسْتَعْمَلُ في
الْفُجُورِ عُرْفًا وَعَادَةً وإذا قال عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ فَقَدْ عَنَى
بِهِ ما هو مُوجِبُ اللَّفْظِ لُغَةً فَلَزِمَ اعْتِبَارُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ اسْمَ الزِّنَا يُسْتَعْمَلُ في الْفُجُورِ عُرْفًا
وَعَادَةً وَالْعَامَّةُ لَا تَفْصِلُ بين الْمَهْمُوزِ وَالْمُلَيَّنِ بَلْ
تَسْتَعْمِلُ الْمَهْمُوزَ مُلَيَّنًا وَالْمُلَيَّنَ مَهْمُوزًا فَلَا يُصَدَّقُ
في الصَّرْفِ عن الْمُتَعَارَفِ كما إذَا قال زَنَيْتَ في الْجَبَلِ وقال عَنَيْتُ
بِهِ الصُّعُودَ
أو زَنَأْتَ ولم يذكر الْجَبَلَ إلَّا أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ كَلِمَة { في } مَكَانَ
كَلِمَةِ على وَأَنَّهُ جَائِزٌ قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {
وَلِأَصْلُبَنكُمْ في جُذُوعِ النَّخْلِ } أَيْ على جُذُوعِ النَّخْلِ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من عَلَّلَ لَهُمَا بِأَنَّ الْمَهْمُوزَ منه يَحْتَمِلُ
مَعْنَى الْمُلَيَّنِ وهو الزِّنَا الْمَعْرُوفُ لِأَنَّ من الْعَرَبِ من يَهْمِزُ
الْمُلَيَّنَ فَيَتَعَيَّنُ مَعْنَى الْمُلَيَّنِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهِيَ
حَالُ الْغَضَبِ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَقْصُورَةٌ فيها
وإذا قال زَنَأْتَ على الْجَبَلِ وقال عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ لم يُصَدَّقْ
لِأَنَّهُ لَا تُسْتَعْمَلُ كَلِمَةُ على في الصُّعُودِ فَلَا يُقَالُ صَعِدَ على
الْجَبَلِ وَإِنَّمَا يُقَالُ صَعِدَ في الْجَبَلِ
وَلَوْ قال لِرَجُلٍ يا ابْنَ الزَّانِي فَهُوَ قَاذِفٌ لِأَبِيهِ كَأَنَّهُ قال
أَبُوكَ زَانِي
وَلَوْ قال يا ابْنَ الزَّانِيَةِ فَهُوَ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ كَأَنَّهُ قال أُمُّكَ
زَانِيَةٌ وَلَوْ قال يا ابْنَ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ فَهُوَ قَاذِفٌ لِأَبِيهِ
وَأُمِّهِ كَأَنَّهُ قال أَبَوَاكَ زَانِيَانِ
وَلَوْ قال يا ابْنَ الزِّنَا أو يا وَلَدَ الزِّنَا كان قَذْفًا لِأَنَّ
مَعْنَاهُ في عُرْفِ الناس وَعَادَتِهِمْ إنك مَخْلُوقٌ من مَاءِ الزِّنَا
وَلَوْ قال يا ابْنَ الزَّانِيَتَيْنِ يَكُونُ قَذْفًا وَيُعْتَبَرُ إحْصَانُ
أُمِّهِ التي وَلَدَتْهُ لَا إحْصَانَ جَدَّتِهِ حتى لو كانت أُمُّهُ مُسْلِمَةً
فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَإِنْ كانت
____________________
(7/42)
جَدَّتُهُ
كَافِرَةً وَإِنْ كانت أُمُّهُ كَافِرَةً فَلَا حَدَّ عليه وَإِنْ كانت جَدَّتُهُ
مُسْلِمَةً لِأَنَّ أُمَّهُ في الْحَقِيقَةِ وَالِدَتُهُ وَالْجَدَّةُ تُسَمَّى
أُمًّا مَجَازًا وَكَذَلِكَ لو قال يا ابْنَ مِائَةِ زَانِيَةٍ أو يا ابْنَ أَلْفِ
زَانِيَةٍ يَكُونُ قَاذِفًا لِأُمِّهِ وَيُعْتَبَرُ في الْإِحْصَانِ حَالُ
الْأُمِّ لِمَا قُلْنَا وَيَكُونُ الْمُرَادُ من الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ عَدَدَ
الْمَرَّاتِ لَا عَدَدَ الْأَشْخَاصِ
أَيْ أُمُّكَ زَنَتْ مِائَةَ مَرَّةٍ أو أَلْفَ مَرَّةٍ
وَلَوْ قال يا ابْنَ الْقَحْبَةِ لم يَكُنْ قَاذِفًا لِأَنَّ هذا الِاسْمَ كما
يُطْلَقُ على الزَّانِيَةِ يُسْتَعْمَلُ على الْمُهَيَّأَةِ الْمُسْتَعِدَّةِ
لِلزِّنَا وَإِنْ لم تَزْنِ فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مع الِاحْتِمَالِ
وَكَذَلِكَ لو قال يا ابْنَ الدَّعِيَّةِ لِأَنَّ الدَّعِيَّةَ هِيَ الْمَرْأَةُ
الْمَنْسُوبَةُ إلَى قَبِيلَةٍ لَا نَسَبَ لها منهم
وَهَذَا لَا يَدُلُّ على كَوْنِهَا زَانِيَةً لِجَوَازِ ثُبُوتِ نَسَبِهَا من
غَيْرِهِمْ
وَلَوْ قال لِرَجُلٍ يا زَانِي فقال الرَّجُلُ لَا بَلْ أنت الزَّانِي أو قال لَا
بَلْ أنت يُحَدَّانِ جميعا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَذَفَ صَاحِبَهُ
صَرِيحًا
وَلَوْ قال لِامْرَأَةٍ يا زَانِيَةُ فقالت زَنَيْتُ بِكَ لَا حَدَّ على الرَّجُلِ
لِأَنَّ الْمَرْأَةَ صَدَّقَتْهُ في الْقَذْفِ فَخَرَجَ قَذْفُهُ من أَنْ يَكُونَ
مُوجِبًا لِلْحَدِّ وَتُحَدُّ الْمَرْأَةُ لِأَنَّهَا قَذَفَتْهُ بِالزِّنَا
نَصًّا ولم يُوجَدْ منه التَّصْدِيقُ وَلَوْ قال لِامْرَأَةٍ يا زَانِيَةُ فقالت
زَنَيْتُ مَعَكَ لَا حَدَّ على الرَّجُلِ وَلَا على الْمَرْأَةِ أَمَّا على
الرَّجُلِ فَلِوُجُودِ التَّصْدِيقِ منها إيَّاهُ وَأَمَّا على الْمَرْأَةِ
فَلِأَنَّ قَوْلَهَا زَنَيْتُ مَعَكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ منه
زَنَيْتُ بِكَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ زَنَيْتُ بِحَضْرَتِكَ فَلَا
يُجْعَلُ قَذْفًا مع الِاحْتِمَالِ وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ يا زَانِيَةُ فقالت
لَا بَلْ أنت حُدَّتْ الْمَرْأَةُ حَدَّ الْقَذْفِ وَلَا لِعَانَ على الرَّجُلِ
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الزَّوْجَيْنِ قَذَفَ صَاحِبَهُ وَقَذْفُ الْمَرْأَةِ
يُوجِبُ حَدَّ الْقَذْفِ وَقَذْفُ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُدَّ
وفي الْبِدَايَةِ بِحَدِّ الْمَرْأَةِ إسْقَاطُ الْحَدِّ عن الرَّجُلِ لِأَنَّ
اللِّعَانَ شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْأَيْمَانِ وَالْمَحْدُودُ في الْقَذْفِ
لَا شَهَادَةَ له
وَنَظِيرُ هذا ما قالوا فِيمَنْ قال لِامْرَأَتِهِ يا زاينة ( ( ( زانية ) ) )
بِنْتُ الزَّانِيَةِ فَخَاصَمَتْ الْأُمُّ أَوَّلًا فَحُدَّ الزَّوْجُ حَدَّ
الْقَذْفِ سَقَطَ اللِّعَانُ لِأَنَّهُ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ
وَلَوْ خَاصَمَتْ الْمَرْأَةُ أَوَّلًا فَلَاعَنَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ثُمَّ
خَاصَمَتْ الْأُمُّ يُحَدُّ الرَّجُلُ حَدَّ الْقَذْفِ
وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ يا زَانِيَةُ فقالت زَنَيْتُ بِكَ لَا حَدَّ وَلَا
لِعَانَ
لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أنها أَرَادَتْ بِقَوْلِهَا زَنَيْتُ بِكَ أَيْ قبل
النِّكَاحِ وَيُحْتَمَلُ أنها أَرَادَتْ أَيْ ما مَكَّنْتُ من الْوَطْءِ غَيْرَكَ
فَإِنْ كان ذلك زِنًا فَهُوَ زِنًا لِأَنَّ هذا مُتَعَارَفٌ فَإِنْ أَرَادَتْ
الْأَوَّلَ لَا يَجِبُ اللِّعَانُ وَيَجِبُ الْحَدُّ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ
بِالزِّنَا وَإِنْ أَرَادَتْ بِهِ الثَّانِي يَجِبُ اللِّعَانُ لِأَنَّ الزَّوْجَ
قَذَفَهَا بِالزِّنَا وَهِيَ لم تُصَدِّقْهُ فِيمَا قَذَفَهَا بِهِ وَلَا حَدَّ
عليها فَوَقَعَ الِاحْتِمَالُ في ثُبُوتِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَثْبُتُ
وَلَوْ قال لِامْرَأَةٍ أَنْتِ زَانِيَةٌ فقالت الْمَرْأَةُ أنت أَزْنَى مِنِّي
يُحَدُّ الرَّجُلُ وَلَا تُحَدُّ الْمَرْأَةُ
أَمَّا الرَّجُلُ فَلِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِصَرِيحِ الزِّنَا ولم يُوجَدْ منها
التَّصْدِيقُ
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلِأَنَّ قَوْلَهَا أنت أَزْنَى مِنِّي يُحْتَمَلُ أنها
أَرَادَتْ بِهِ النِّسْبَةَ إلَى الزِّنَا على التَّرْجِيحِ وَيُحْتَمَلُ أنها
أَرَادَتْ أنت أَقْدَرُ على الزِّنَا وَأَعْلَمُ بِهِ مِنِّي فَلَا يُحْمَلُ على
الْقَذْفِ مع الِاحْتِمَالِ
وَكَذَلِكَ إذَا قال الإنسان ( ( ( لإنسان ) ) ) أنت أَزْنَى الناس أو أَزْنَى
الزُّنَاةِ أو أَزْنَى من فُلَانٍ لَا حَدَّ عليه لِمَا قُلْنَا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ فَرَّقَ بين قَوْلِهِ أَزْنَى الناس وَبَيْنَ
قَوْلِهِ أَزْنَى مِنِّي أو من فُلَانٍ فقال في الْأَوَّلِ يُحَدُّ وفي الثَّانِي
لَا يُحَدُّ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ له أَنَّ قَوْلَهُ أنت أَزْنَى الناس أَمْكَنَ حَمْلُهُ على ما
يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الصِّيغَةِ وهو التَّرْجِيحُ في وُجُودِ فِعْلِ الزِّنَا منه
لِتَحَقُّقِ الزِّنَا من الناس في الْجُمْلَةِ فَيُحْمَلُ عليه
وَقَوْلُهُ أنت أَزْنَى مِنِّي أو من فُلَانٍ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ على
التَّرْجِيحِ في وُجُودِ الزِّنَا لِجَوَازِ أَنَّهُ لم يُوجَدْ الزِّنَا منه أو
من فُلَانٍ فَيُحْمَلُ على التَّرْجِيحِ في الْقُدْرَةِ أو الْعِلْمِ فَلَا
يَكُونُ قَذْفًا بِالزِّنَا
وَلَوْ قال لِرَجُلٍ زَنَيْتَ وَفُلَانٌ مَعَكَ كان قَاذِفًا لَهُمَا لِأَنَّهُ
قَذَفَ أَحَدَهُمَا وَعَطَفَ الْآخَرَ عليه بِحَرْفِ الْوَاوِ وَأَنَّهَا
لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَكَانَ مُخْبِرًا عن وُجُودِ الزِّنَا من كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا
رَجُلَانِ اسْتَبَّا فقال أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ ما أبي بِزَانٍ وَلَا أُمِّي
بِزَانِيَةٍ لم يَكُنْ هذا قَذْفًا لِأَنَّ ظَاهِرَهُ نَفْيُ الزِّنَا عن أبيه
وَعَنْ أُمِّهِ إلَّا أَنَّهُ قد يكنى بهذا الْكَلَامِ عن نِسْبَةِ أَبُ صَاحِبِهِ
وَأُمِّهِ إلَى الزِّنَا لَكِنَّ الْقَذْفَ على سَبِيلِ الْكِنَايَةِ
وَالتَّعْرِيضِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ
وَلَوْ قال لِرَجُلٍ أنت تَزْنِي لَا حَدَّ عليه لِأَنَّ هذا اللَّفْظَ
يُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِقْبَالِ وَيُسْتَعْمَلُ لِلْحَالِ فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا
مع الِاحْتِمَالِ
وَكَذَلِكَ لو قال أنت تَزْنِي وأنا أُضْرَبُ الْحَدَّ لِأَنَّ مِثْلَ هذا
الْكَلَامِ في عُرْفِ الناس لَا يَدُلُّ على قَصْدِ الْقَذْفِ وَإِنَّمَا يَدُلُّ
على طَرِيقِ ضَرْبِ الْمَثَلِ على الِاسْتِعْجَابِ أَنْ كَيْفَ تَكُونُ
الْعُقُوبَةُ على إنْسَانٍ وَالْجِنَايَةُ من غَيْرِهِ كما قال اللَّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }
وَلَوْ قال لِامْرَأَةٍ ما رأيت زَانِيَةً خَيْرًا مِنْكِ أو قال لِرَجُلٍ ما رأيت
زَانِيًا خَيْرًا مِنْكَ لم يَكُنْ قَذْفًا لِأَنَّهُ ما جَعَلَ
____________________
(7/43)
هذا
الْمَذْكُورَ خَيْرَ الزُّنَاةِ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ خَيْرًا من الزُّنَاةِ
وَهَذَا لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الزِّنَا منه
وَلَوْ قال لِامْرَأَةٍ زنا بِكِ زَوْجُكِ قبل أَنْ يَتَزَوَّجَكِ فَهُوَ قَاذِفٌ
فإنه نَسَبَ زَوْجَهَا إلَى زِنًا حَصَلَ منه قبل التَّزَوُّجِ في كَلَامٍ
مَوْصُولٍ فَيَكُونُ قَذْفًا
وَلَوْ قال لِامْرَأَةٍ وَطِئَكِ فُلَانٌ وطأ حَرَامًا أو جَامَعَكِ حَرَامًا أو
فَجَرَ بِكِ أو قال لِرَجُلٍ وَطِئْتَ فُلَانَةَ حَرَامًا أو بَاضَعْتَهَا أو
جَامَعْتَهَا حَرَامًا فَلَا حَدَّ عليه لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه الْقَذْفُ
بِالزِّنَا بَلْ بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ
حَرَامًا وَلَا يَكُونُ زِنًا كَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ وَنَحْوِ ذلك
وَلَوْ قال لِغَيْرِهِ اذْهَبْ إلَى فُلَانٍ فَقُلْ له يا زَانِي أو يا ابْنَ
الزَّانِيَةِ لم يَكُنْ الْمُرْسِلُ قَاذِفًا لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْقَذْفِ ولم
يَقْذِفْ وَأَمَّا الرَّسُولُ فَإِنْ ابْتَدَأَ فقال لَا على وَجْهِ الرِّسَالَةِ
يا زَانِي أو يا ابْنَ الزَّانِيَةِ فَهُوَ قَاذِفٌ وَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَإِنْ
بَلَّغَهُ على وَجْهِ الرِّسَالَةِ بِأَنْ قال أَرْسَلَنِي فُلَانٌ إلَيْكَ
وَأَمَرَنِي أَنْ أقول ( ( ( أقل ) ) ) لك يا زَانِي أو يا ابْنَ الزَّانِيَةِ لَا
حَدَّ عليه لِأَنَّهُ لم يَقْذِفْ بَلْ أَخْبَرَ عن قَذْفِ غَيْرِهِ وَلَوْ قال
لِآخَرَ أُخْبِرْتُ أَنَّكَ زَانٍ أو أُشْهِدْتُ على ذلك لم يَكُنْ قَاذِفًا
لِأَنَّهُ حَكَى خَبَرَ غَيْرِهِ بِالْقَذْفِ وَإِشْهَادَ غَيْرِهِ بِذَلِكَ فلم
يَكُنْ قَاذِفًا
وَلَوْ قال لِرَجُلٍ يا لُوطِيُّ لم يَكُنْ قَاذِفًا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ هذا
نسبة إلَى قَوْمِ لُوطٍ فَقَطْ وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ
وهو اللِّوَاطُ
وَلَوْ أَفْصَحَ وقال أنت تَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ وَسَمَّى ذلك لم يَكُنْ
قَاذِفًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ أَيْضًا وَعِنْدَهُمَا هو قَاذِفٌ بِنَاءً على
أَنَّ هذا الْفِعْلَ ليس بِزِنًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا هو في
مَعْنَى الزِّنَا
وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ في مَوْضِعِهَا
وَلَوْ قال لِرَجُلٍ يا زَانِي فقال له آخَرُ صَدَقْتَ يُحَدُّ الْقَاذِفُ وَلَا
حَدَّ على الْمُصَدِّقِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِوُجُودِ الْقَذْفِ الصَّرِيحِ منه
وَأَمَّا الْمُصَدِّقُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ صَدَقْتَ قَذْفٌ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ
وَلَوْ قال صَدَقْتَ هو كما قُلْتَ يُحَدُّ لِأَنَّ هذا في مَعْنَى الصَّرِيحِ
وَلَوْ قال لِرَجُلٍ أَخُوك زَانٍ فقال الرَّجُلُ لَا بَلْ أنت يُحَدُّ الرَّجُلُ
لِأَنَّ كَلِمَةَ لَا بَلْ لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ فَقَدْ قَذَفَ الْأَوَّلَ
بِالزِّنَا على سَبِيلِ التَّأْكِيدِ
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيُنْظَرُ إنْ كان لِلرَّجُلِ إخْوَةٌ أو أَخَوَانِ سِوَاهُ
فَلَا حَدَّ عليه وَإِنْ لم يَكُنْ له إلَّا أَخٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ
بِالْحَدِّ وَلَيْسَ لِهَذَا الْأَخِ الْمُخَاطَبِ أَنْ يُطَالِبَهُ لِمَا
ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَوْ قال لَسْتَ لِأَبِيكَ فَهُوَ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ سَوَاءٌ قال في غَضَبٍ أو
رِضًا لِأَنَّ هذا الْكَلَامَ لَا يُذْكَرُ إلَّا لِنَفْيِ النَّسَبِ عن الْأَبِ
فَكَانَ قَذْفًا لِأُمِّهِ
وَلَوْ قال ليس هذا أَبُوكَ أو قال لَسْتَ أنت ابْنَ فُلَانٍ لِأَبِيهِ أو قال أنت
ابن فُلَانٍ لِأَجْنَبِيٍّ إنْ كان في حَالِ الْغَضَبِ فَهُوَ قَذْفٌ وَإِنْ كان
في غَيْرِ حَالِ الْغَضَبِ فَلَيْسَ بِقَذْفٍ لِأَنَّ هذا الْكَلَامَ قد يُذْكَرُ
لِنَفْيِ النَّسَبِ وقد يُذْكَرُ لِنَفْيِ التَّشَبُّهِ في الْأَخْلَاقِ أَيْ
أَخْلَاقُكَ لَا تُشْبِهُ أَخْلَاقَ أَبِيكَ أو أَخْلَاقُكَ تُشْبِهُ أَخْلَاقَ
فُلَانٍ الْأَجْنَبِيِّ فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مع الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ
وَكَذَلِكَ إذَا قال لِرَجُلٍ يا ابْنَ مُزَيْقِيَا أو يا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ
أَنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا في حَالَةِ الْغَضَبِ لَا في حَالَةِ الرِّضَا لِأَنَّهُ
يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ نَفْيَ النَّسَبِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ
بِهِ الْمَدْحَ بِالتَّشْبِيهِ بِرَجُلَيْنِ من سَادَاتِ الْعَرَبِ فَعَامِرُ بن
حَارِثَةَ كان يُسَمَّى مَاءَ السَّمَاءِ لِصَفَائِهِ وَسَخَائِهِ وَعَمْرُو بن
عَامِرٍ كان يُسَمَّى الْمُزَيْقِيَا لِمَزْقِهِ الثِّيَابَ إذْ كان ذَا ثَرْوَةٍ
وَنَخْوَةٍ كان يَلْبَسُ كُلَّ يَوْمٍ ثَوْبًا جَدِيدًا فإذا أَمْسَى خَلَعَهُ
وَمَزَّقَهُ لِئَلَّا يَلْبَسَهُ غَيْرُهُ فَيُسَاوِيهِ فَيُحَكَّمُ الْحَالُ في
ذلك فَإِنْ كان في حَالِ الْغَضَبِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ نَفْيَ
النَّسَبِ فَيَكُونُ قَذْفًا وَإِنْ كان في حَالِ الرِّضَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ
أَرَادَ بِهِ الْمَدْحَ فلم يَكُنْ قَذْفًا
وَلَوْ قال لِرَجُلٍ أنت ابن فُلَانٍ لِعَمِّهِ أو لِخَالِهِ أو لِزَوْجِ أُمِّهِ
لم يَكُنْ قَذْفًا لِأَنَّ الْعَمَّ يُسَمَّى أَبًا وَكَذَلِكَ الْخَالُ وَزَوْجُ
الْأُمِّ
قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { قالوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ
إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } وَإِسْمَاعِيلُ كان عَمَّ يَعْقُوبَ عليه السلام وقد
سَمَّاهُ أَبَاهُ
وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ على الْعَرْشِ } وَقِيلَ
إنَّهُمَا أَبُوهُ وَخَالَتُهُ وإذا كانت الْخَالَةُ أُمًّا كان الْخَالُ أَبًا
وقال اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ ابْنِي من أَهْلِي } قِيلَ في التَّفْسِيرِ إنَّهُ
كان ابْنَ امْرَأَتِهِ من غَيْرِهِ
وَلَوْ قال لَسْتَ بِابْنٍ فلان ( ( ( لفلان ) ) ) لِجَدِّهِ لم يَكُنْ قَاذِفًا
لِأَنَّهُ صَادِقٌ في كَلَامِهِ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْجَدَّ لَا يُسَمَّى أَبًا
حَقِيقَةً بَلْ مَجَازًا
وَلَوْ قال لِلْعَرَبِيِّ يا نَبَطِيُّ لم يَكُنْ قَذْفًا
وَكَذَلِكَ إذَا قال لَسْتَ من بَنِي فُلَانٍ لِلْقَبِيلَةِ التي هو منها لم
يَكُنْ قَاذِفًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال ابن أبي لَيْلَى يَكُونُ
قَذْفًا
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ يا نَبَطِيُّ لم يَقْذِفْهُ
وَلَكِنَّهُ نَسَبَهُ إلَى غَيْرِ بَلَدِهِ كَمَنْ قال لِلْبَلَدِيِّ يا
رُسْتَاقِيُّ
وَكَذَلِكَ إذَا قال يا ابْنَ الْخَيَّاطِ أو يا ابْنَ الْأَصْفَرِ أو الْأَسْوَدِ
وَأَبُوهُ ليس كَذَلِكَ لم يَكُنْ قَاذِفًا بَلْ يَكُونُ كَاذِبًا
وَكَذَلِكَ إذَا قال يا ابْنَ الْأَقْطَعِ أو يا ابْنَ الْأَعْوَرِ وَأَبُوهُ ليس
كَذَلِكَ يَكُونُ كَاذِبًا لَا قَاذِفًا كما إذَا قال لِلْبَصِيرِ يا أَعْمَى
ثُمَّ الْقَذْفُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ وَيَجِبُ الْحَدُّ
لِأَنَّ مَعْنَى الْقَذْفِ هو النِّسْبَةُ إلَى الزِّنَا وَهَذَا يَتَحَقَّقُ
بِكُلِّ لِسَانٍ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَالثَّانِي
____________________
(7/44)
أَنْ
يَكُونَ الْمَقْذُوفُ بِهِ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ من الْمَقْذُوفِ فَإِنْ كان لَا
يُتَصَوَّرُ لم يَكُنْ قَاذِفًا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قال لِآخَرَ زَنَى فخدك ( ( ( فخذك ) ) ) أو ظَهْرُكَ
أَنَّهُ لَا حَدَّ عليه
لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ من هذه الْأَعْضَاءِ حَقِيقَةً فَكَانَ
الْمُرَادُ منه الْمَجَازَ من طَرِيقِ النَّسَبِ كما قال عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَالرِّجْلَانِ
تَزْنِيَانِ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلك كُلَّهُ أو يُكَذِّبُهُ
وَكَذَلِكَ لو قال زَنَيْتَ بِأُصْبُعِكَ لِأَنَّ الزِّنَا بالإصبع لَا
يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً
وَلَوْ قال زَنَى فَرْجُكَ يُحَدُّ لِأَنَّ الزِّنَا بِالْفَرْجِ يَتَحَقَّقُ
كَأَنَّهُ قال زَنَيْتُ بِفَرْجِكَ
وَلَوْ قال لِامْرَأَةٍ زَنَيْتِ بِفَرَسٍ أو حِمَارٍ أو بَعِيرٍ أو ثَوْرٍ لَا
حَدَّ عليه لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تَمْكِينَهَا من هذه
الْحَيَوَانَاتِ لِأَنَّ ذلك مُتَصَوَّرٌ حَقِيقَةً
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ جَعْلَ هذه الْحَيَوَانَاتِ عِوَضًا وَأُجْرَةً
على الزِّنَا
فَإِنْ أَرَادَ به الْأَوَّلَ لَا يَكُونُ قَذْفًا لِأَنَّهَا بِالتَّمْكِينِ منها
لَا تَصِيرُ مَزْنِيًّا بها لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الزِّنَا من الْبَهِيمَةِ وَإِنْ
أَرَادَ بِهِ الثَّانِي يَكُونُ قَذْفًا
كما إذَا قال زَنَيْتِ بِالدَّرَاهِمِ أو بِالدَّنَانِيرِ أو بِشَيْءٍ من
الْأَمْتِعَةِ فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مع الِاحْتِمَالِ
وَلَوْ قال لها زَنَيْتِ بِنَاقَةٍ أو بِبَقَرَةٍ أو أَتَانٍ أو رَمَكَةٍ
فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ حَمْلُهُ على التَّمْكِينِ فَيُحْمَلُ
على الْعِوَضِ
لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ قد يُسْتَعْمَلُ في الْأَعْوَاضِ وَلَوْ قال ذلك لِرَجُلٍ
لم يَكُنْ قَذْفًا في جَمِيعِ ذلك
سَوَاءٌ كان ذَكَرًا أو أُنْثَى لِأَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ على حَقِيقَةِ
الْوَطْءِ وَوَطْؤُهَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ زِنًا فَلَا يَكُونُ قَذْفًا
وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ على الْعِوَضِ فَيَكُونُ قَذْفًا فَوَقَعَ الِاحْتِمَالُ في
كَوْنِهِ قَذْفًا فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مع الِاحْتِمَالِ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من فَصَلَ بين الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فقال يَكُونُ قَذْفًا
في الذَّكَرِ لَا في الْأُنْثَى لِأَنَّ فِعْلَ الْوَطْءِ من الرَّجُلِ يُوجَدُ في
الْأُنْثَى فَلَا يُحْمَلُ على الْعِوَضِ وَلَا يُوجَدُ في الذَّكَرِ فَيُحْمَلُ
على الْعِوَضِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بين الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى
لِأَنَّ الْوَطْءَ يُتَصَوَّرُ في الصِّنْفَيْنِ في الْجُمْلَةِ
وَلَوْ قال لِامْرَأَةٍ زَنَيْتِ وَأَنْتِ مُكْرَهَةٌ أو مَعْتُوهَةٌ أو
مَجْنُونَةٌ أو نَائِمَةٌ لم يَكُنْ قَذْفًا لِأَنَّهُ نَسَبَهَا إلَى الزِّنَا في
حَالٍ لَا يُتَصَوَّرُ منها وُجُودُ الزِّنَا فيها فَكَانَ كَلَامُهُ كَذِبًا لَا
قَذْفًا
وَبِمِثْلِهِ لو قال لِأَمَةٍ أُعْتِقَتْ زَنَيْتِ وَأَنْتِ أَمَةٌ أو قال
لِكَافِرَةٍ أَسْلَمَتْ زَنَيْتِ وَأَنْتِ كَافِرَةٌ يَكُونُ قَذْفًا وَعَلَيْهِ
الْحَدُّ لِأَنَّ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى قَذَفَهَا لِلْحَالِ بِالزِّنَا في
حَالٍ لَا يُتَصَوَّرُ منها وُجُودُ الزِّنَا فيها فَكَانَ كَلَامُهُ كَذِبًا لَا
قَذْفًا
وفي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ قَذَفَهَا لِلْحَالِ لِوُجُودِ الزِّنَا منها في
حَالٍ يُتَصَوَّرُ منها الزِّنَا وَهِيَ حَالُ الرِّقِّ وَالْكُفْرِ لِأَنَّهُمَا
لَا يَمْنَعَانِ وُقُوعَ الْفِعْلِ زِنًا وَإِنَّمَا يَمْنَعَانِ الْإِحْصَانَ
وَالْإِحْصَانُ يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ وَقْتَ الْقَذْفِ لِأَنَّهُ السَّبَبُ
الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ وقد وُجِدَ
وَلَوْ قال لِإِنْسَانٍ لَسْتَ لِأُمِّكَ لَا حَدَّ عليه لِأَنَّهُ كَذِبٌ مَحْضٌ
لِأَنَّهُ نفى النَّسَبِ من الْأُمِّ وَنَفْيُ النَّسَبِ من الْأُمِّ لَا
يُتَصَوَّرُ
أَلَا تَرَى أَنَّ أُمَّهُ وَلَدَتْهُ حَقِيقَةً
وَكَذَلِكَ لو قال له لَسْتَ لِأَبَوَيْكَ لِأَنَّهُ نفى نَسَبِهِ عنهما وَلَا
يَنْتَفِي عن الْأُمِّ لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ فَيَكُونُ كَذِبًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ
لَسْتَ لِأَبِيكَ لِأَنَّ ذلك ليس بِنَفْيٍ لِوِلَادَةِ الْأُمِّ بَلْ هو نَفْيُ
النَّسَبِ عن الْأَبِ وَنَفْيُ النَّسَبِ عن الْأَبِ يَكُونُ قَذْفًا لِلْأُمِّ
وَكَذَلِكَ لو قال له لَسْتَ لِأَبِيكَ وَلَسْتَ لِأُمِّكَ في كَلَامٍ مَوْصُولٍ
لم يَكُنْ قَذْفًا لِأَنَّ هذا وَقَوْلَهُ لَسْتَ لِأَبَوَيْكَ سَوَاءٌ
وَلَوْ قال له لَسْتَ لِآدَمَ أو لَسْتَ لِرَجُلٍ أو لَسْت لِإِنْسَانٍ لَا حَدَّ
عليه لِأَنَّهُ كَذِبٌ مَحْضٌ لِأَنَّ نَسَبَهُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْقِطَاعَ عن
هَؤُلَاءِ فَكَانَ كَذِبًا مَحْضًا لَا قَذْفًا فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قال لِرَجُلٍ يا زَانِيَةُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ
قَذْفًا عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ قَذْفًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْهَاءَ قد تَدْخُلُ صِلَةً زَائِدَةً في الْكَلَامِ
قال اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ خَبَرًا عن الْكُفَّارِ { ما أَغْنَى عَنِّي
مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } وَمَعْنَاهُ مَالِي وَسُلْطَانِي
وَالْهَاءُ زَائِدَةٌ فَيُحْذَفُ الزَّائِدُ فَيَبْقَى قَوْلُهُ يا زَانِي وقد
تَدْخُلُ في الْكَلَامِ لِلْمُبَالَغَةِ في الصِّفَةِ كما يُقَالُ عَلَّامَةُ
وَنَسَّابَةُ وَنَحْوُ ذلك فَلَا يَخْتَلُّ بِهِ مَعْنَى الْقَذْفِ يَدُلُّ عليه
أن حَذَفَهُ في نَعْتِ الْمَرْأَةِ لَا يُخِلُّ بِمَعْنَى الْقَذْفِ حتى لو قال
لِامْرَأَةٍ يا زَانِي يَجِبُ الْحَدُّ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ في
نَعْتِ الرَّجُلِ
وَلَهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهُ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ فَيَلْغُو
وَدَلِيلُ عَدَمِ التَّصَوُّرِ أَنَّهُ قَذَفَهُ بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ وهو
التَّمْكِينُ لِأَنَّ الْهَاءَ في الزَّانِيَةِ هَاءُ التَّأْنِيثِ كَالضَّارِبَةِ
وَالْقَاتِلَةِ وَالسَّارِقَةِ وَنَحْوِهَا وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ من الرَّجُلِ
بِخِلَافِ ما إذَا قال لِامْرَأَةٍ يا زَانِي لِأَنَّهُ أتى بِمَعْنَى الِاسْمِ
وَحَذَفَ الْهَاءَ وَهَاءُ التَّأْنِيثِ قد تُحْذَفُ في الْجُمْلَةِ كَالْحَائِضِ
وَالطَّالِقِ وَالْحَامِلِ وَنَحْوِ ذلك وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ فيه وهو الْمَكَانُ فَهُوَ أَنْ
يَكُونَ الْقَذْفُ في دَارِ الْعَدْلِ فَإِنْ كان في دَارِ الْحَرْبِ أو في دَارِ
الْبَغْيِ فَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ لِأَنَّ الْمُقِيمَ لِلْحُدُودِ هُمْ
الْأَئِمَّةُ وَلَا وِلَايَةَ لِإِمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ على دَارِ الْحَرْبِ
وَلَا على دَارِ الْبَغْيِ
____________________
(7/45)
فَلَا
يَقْدِرُ على الْإِقَامَةِ فِيهِمَا فَالْقَذْفُ فِيهِمَا لَا يَنْعَقِدُ مُوجِبًا
لِلْحَدِّ حين وُجُودِهِ فَلَا يُحْتَمَلُ الِاسْتِيفَاءَ بَعْدَ ذلك لِأَنَّ
الِاسْتِيفَاءَ لِلْوَاجِبِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَذْفِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ
مُطْلَقًا عن الشَّرْطِ وَالْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ فَإِنْ كان مُعَلَّقًا
بِشَرْطٍ أو مُضَافًا إلَى وَقْتٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ لِأَنَّ ذِكْرَ الشَّرْطِ
أو الْوَقْتِ يَمْنَعُ وُقُوعَهُ قَذْفًا لِلْحَالِ وَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ أو
الْوَقْتِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ نَجَّزَ الْقَذْفَ كما في سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ
وَالْإِضَافَاتِ فَكَانَ قَاذِفًا تَقْدِيرًا مع انْعِدَامِ الْقَذْفِ حَقِيقَةً
فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قال رَجُلٌ من قال كَذَا وَكَذَا فَهُوَ زَانٍ أو
ابن الزَّانِيَةِ فقال رَجُلٌ أنا قلت أَنَّهُ لَا حَدَّ على المبتدىء ( ( (
المبتدئ ) ) ) لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْقَذْفَ بِشَرْطِ الْقَوْلِ وَكَذَلِكَ إذَا
قال لِرَجُلٍ إنْ دَخَلْتَ هذه الدَّارَ فَأَنْتَ زَانٍ أو ابن الزَّانِيَةِ
فَدَخَلَ لَا حَدَّ على الْقَائِلِ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَا من قال لِغَيْرِهِ أنت زَانٍ أو ابن الزَّانِيَةِ غَدًا أو رَأْسَ شَهْرِ
كَذَا
فَجَاءَ الْغَدُ وَالشَّهْرُ لَا حَدَّ عليه لِأَنَّ إضَافَةَ الْقَذْفِ إلَى
وَقْتٍ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْقَذْفِ في الْحَالِ وفي الْمَآلِ على مابينا
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فصل وَأَمَّا بَيَانُ ما تَظْهَرُ بِهِ الْحُدُودُ عِنْدَ الْقَاضِي فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْحُدُودُ كُلُّهَا تَظْهَرُ بِالْبَيِّنَةِ
وَالْإِقْرَارِ لَكِنْ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهَا
أَمَّا شَرَائِطُ الْبَيِّنَةِ الْقَائِمَةِ على الْحَدِّ فَمِنْهَا ما يَعُمُّ
الْحُدُودَ كُلَّهَا وَمِنْهَا ما يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ
أَمَّا الذي يَعُمُّ الْكُلَّ فَالذُّكُورَةُ وَالْأَصَالَةُ فَلَا تُقْبَلُ
شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَلَا الشَّهَادَةُ على الشَّهَادَةِ وَلَا كِتَابُ
الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي في الْحُدُودِ كُلِّهَا لِتَمَكُّنِ زِيَادَةِ شُبْهَةٍ
فيها ذَكَرْنَاهَا في كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَالْحُدُودُ لَا تَثْبُتُ مع
الشُّبُهَاتِ
وَلَوْ ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّ الْمَقْذُوفَ صَدَّقَهُ وَأَقَامَ على ذلك
رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ جَازَ وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ على الشَّهَادَةِ
وَكِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لِأَنَّ الشَّهَادَةَ هَهُنَا قَامَتْ على
إسْقَاطِ الْحَدِّ لَا على إثْبَاتِهِ وَالشُّبْهَةُ تَمْنَعُ من إثْبَاتِ
الْحَدِّ لَا من إسْقَاطِهِ
وَأَمَّا الذي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَمِنْهَا عَدَمُ التَّقَادُمِ
وَأَنَّهُ شَرْطٌ في حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَلَيْسَ
بِشَرْطٍ في حَدِّ الْقَذْفِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الشَّاهِدَ إذَا عَايَنَ
الْجَرِيمَةَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بين أَدَاءِ الشَّهَادَةِ حسبه لِلَّهِ تَعَالَى
لِقَوْلِهِ تَعَالَى عز وجل { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } وَبَيْنَ
التَّسَتُّرِ على أَخِيهِ الْمُسْلِمِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من
سَتَرَ على أَخِيهِ الْمُسْلِمِ سَتَرَ اللَّهُ عليه في الْآخِرَةِ فلما لم
يَشْهَدْ على فَوْرِ الْمُعَايَنَةِ حتى تَقَادَمَ الْعَهْدُ دَلَّ ذلك على
اخْتِيَارِ جِهَةِ السِّتْرِ فإذا شَهِدَ بَعْدَ ذلك دَلَّ على أَنَّ الضَّغِينَةَ
حَمَلَتْهُ على ذلك فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ
لِمَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال أَيُّمَا قَوْمٍ
شَهِدُوا على حَدٍّ لم يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَتِهِ فَإِنَّمَا شَهِدُوا عن
ضَغَنٍ وَلَا شَهَادَةَ لهم
ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا
فَدَلَّ قَوْلُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه على أَنَّ مِثْلَ هذه
الشَّهَادَةِ شَهَادَةُ ضَغِينَةٍ وَأَنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَلِأَنَّ
التَّأْخِيرَ وَالْحَالَةَ هذه يُوَرِّثُ تُهْمَةً وَلَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ
على لِسَانِ رسول اللَّهِ بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ ثَمَّةَ
لَا يَدُلُّ على الضَّغِينَةِ وَالتُّهْمَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَى هُنَاكَ شَرْطٌ
فَاحْتُمِلَ أَنَّ التَّأْخِيرَ كان لِتَأْخِيرِ الدَّعْوَى من الْمُدَّعِي
وَالدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ في الْحُدُودِ الثَّلَاثَةِ فَكَانَ التَّأْخِيرُ
لِمَا قُلْنَا
وَيُشْكِلُ على هذا فَصْلُ السَّرِقَةِ فإن الدَّعْوَى هُنَاكَ شَرْطٌ وَمَعَ هذا
التَّقَادُمِ مَانِعٌ
وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ مَشَايِخِنَا في الْجَوَابِ عن هذا الْإِشْكَالِ
فقال بَعْضُهُمْ إنَّ مَعْنَى الضَّغِينَةِ وَالتُّهْمَةِ حِكْمَةُ الْمَنْعِ من
قَبُولِ الشَّهَادَةِ
وَالسَّبَبُ الظَّاهِرُ هو كَوْنُ الْحَدِّ خَالِصَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى
وَالْحُكْمُ يُدَارُ على السَّبَبِ الظَّاهِرِ لَا على الْحِكْمَةِ وقد وُجِدَ
السَّبَبُ الظَّاهِرُ في السَّرِقَةِ فَيُوجِبُ الْمَنْعَ من قَبُولِ الشَّهَادَةِ
وَهَذَا ليس بِسَدِيدٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْحِكْمَةِ
إلَّا إذَا كان وَجْهُ الْحِكْمَةِ خَفِيًّا لَا يُوقَفُ عليه إلَّا بِحَرَجٍ
فَيُقَامُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مَقَامَهُ وَتُجْعَلُ الْحِكْمَةُ مَوْجُودَةً
تَقْدِيرًا وَهَهُنَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عليه من غَيْرِ حَرَجٍ ولم تُوجَدْ في
السَّرِقَةِ لِمَا بَيَّنَّا فَيَجِبُ أَنْ تُقْبَلَ الشَّهَادَةُ بَعْدَ
التَّقَادُمِ
وقال بَعْضُهُمْ إنَّمَا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ في السَّرِقَةِ لِأَنَّ
دَعْوَى السَّرِقَةِ بَعْدَ التَّقَادُمِ لم تَصِحَّ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ في
الِابْتِدَاءِ مُخَيَّرٌ بين أَنْ يَدَّعِيَ السَّرِقَةَ وَيَقْطَعَ طَمَعَهُ عن
مَالِهِ احْتِسَابًا لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَبَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ أَخْذَ
الْمَالِ سَتْرًا على أَخِيهِ الْمُسْلِمِ
فلما أَخَّرَ دَلَّ تَأْخِيرُهُ على اخْتِيَارِ جِهَةِ السَّتْرِ وَالْإِعْرَاضِ
عن جِهَةِ الْحِسْبَةِ فلما شَهِدَ بَعْدَ ذلك فَقَدْ قَصَدَ الْإِعْرَاضَ عن
جِهَةِ السَّتْرِ فَلَا يَصِحُّ إعْرَاضُهُ ولم يُجْعَلْ قَاصِدًا جِهَةَ
الْحِسْبَةِ لِأَنَّهُ قد كان أَعْرَضَ عنها عِنْدَ اخْتِيَارِهِ جِهَةَ السَّتْرِ
فلم تَصِحَّ دَعْوَاهُ السَّرِقَةَ فلم تُقْبَلْ
____________________
(7/46)
الشَّهَادَةُ
على السَّرِقَةِ لِأَنَّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ يَقِفُ على دَعْوَى صَحِيحَةٍ
فِيمَا تُشْتَرَطُ فيه الدَّعْوَى فَبَقِيَ مُدَّعِيًا أَخْذَ الْمَالِ لَا غير
فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ حِسْبَةً إذْ التَّقَادُمُ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ
الشَّهَادَةِ على الْأَمْوَالِ بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ
ليس بِمُخَيَّرٍ بين بَدَلِ النَّفْسِ وَبَيْنَ إقَامَةِ الْحَدِّ بِالدَّعْوَى
بَلْ الْوَاجِبُ عليه دَفْعُ الْعَارِ عن نَفْسِهِ وَدَعْوَى الْقَذْفِ فَلَا
يُتَّهَمُ بِالتَّأْخِيرِ فَكَانَتْ الدَّعْوَى صَحِيحَةً منه
وَالشَّيْخُ مَنْصُورُ الْمَاتُرِيدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَشَارَ إلَى مَعْنًى
آخَرَ في شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَكَيْتُهُ بِلَفْظِهِ وهو أَنَّ عَادَةَ
السُّرَّاقِ الْإِقْدَامُ على السَّرِقَةِ في حال ( ( ( حالة ) ) ) الْغَفْلَةِ
وَانْتِهَازِ الْفُرْصَةِ في مَوْضِعِ الْخُفْيَةِ وَصَاحِبُ الْحَقِّ لَا
يَطَّلِعُ على من شَهِدَ ذلك وَلَا يَعْرِفُهُمْ إلَّا بِهِمْ وَبِخَبَرِهِمْ فإذا
كَتَمُوا أَثِمُوا وقد يَعْلَمُ الْمُدَّعِي شُهُودَهُ في غَيْرِ ذلك من
الْحُقُوقِ وَيَطْلُبُهَا إذَا احْتَاجَ إلَيْهَا فَكَانُوا في سَعَةٍ من
تَأْخِيرِهَا وإذا بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ على السَّرِقَةِ بِالتَّقَادُمِ قُبِلَتْ
في حَقِّ الْمَالِ لِأَنَّ بُطْلَانَهَا في حَقِّ الْحَدِّ لِتَمَكُّنِ
الشُّبْهَةِ فيها وَالْحَدُّ لَا يَثْبُتُ مع الشُّبْهَةِ وَأَمَّا الْمَالُ
فَيَثْبُتُ مَعَهَا ثُمَّ التَّقَادُمُ إنَّمَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ في
الْحُدُودِ الثَّلَاثَةِ إذَا كان التَّقَادُمُ في التَّأْخِيرِ من غَيْرِ عُذْرٍ
ظَاهِرٍ فَأَمَّا إذَا كان لِعُذْرٍ ظَاهِرٍ بِأَنْ كان الْمَشْهُودُ عليه في
مَوْضِعٍ ليس فيه حَاكِمٌ فَحُمِلَ إلَى بَلَدٍ فيه حَاكِمٌ فَشَهِدُوا عليه
جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ وَإِنْ تَأَخَّرَتْ لِأَنَّ هذا مَوْضِعُ الْعُذْرِ فَلَا
يَكُونُ التَّقَادُمُ فيه مَانِعًا
ثُمَّ لم يُقَدِّرْ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلتَّقَادُمِ تَقْدِيرًا
وَفَوَّضَ ذلك إلَى اجْتِهَادِ كل حَاكِمٍ في زَمَانِهِ فإنه رُوِيَ عن أبي
يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال كان أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا
يُوَقِّتُ في التَّقَادُمِ شيئا وَجَهِدْنَا بِهِ أَنْ يُوَقِّتَ فَأَبَى
وأبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَدَّرَاهُ بِشَهْرٍ فَإِنْ كان
شَهْرًا أو أَكْثَرَ فَهُوَ مُتَقَادِمٌ وَإِنْ كان دُونَ شَهْرٍ فَلَيْسَ
بِمُتَقَادِمٍ لِأَنَّ الشَّهْرَ أَدْنَى الْأَجَلِ فَكَانَ ما دُونَهُ في حُكْمِ
الْعَاجِلِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّأْخِيرَ قد يَكُونُ لِعُذْرٍ
وَالْأَعْذَارُ في اقْتِضَاءِ التَّأْخِيرِ مُخْتَلِفَةٌ فَتَعَذَّرَ التَّوْقِيتُ
فيه مفوض ( ( ( ففوض ) ) ) إلَى اجْتِهَادِ الْقَاضِي فِيمَا يُعَدُّ إبْطَاءً وما
لَا يُعَدُّ
وإذا لم تُقْبَلْ شَهَادَةُ الشُّهُودِ بِزِنًا مُتَقَادِمٍ هل يُحَدُّونَ حَدَّ
الْقَذْفِ حَكَى الْحَسَنُ بن زِيَادٍ أَنَّهُمْ يُحَدُّونَ وَتَأْخِيرُهُمْ
مَحْمُولٌ على اخْتِيَارِ جِهَةِ السَّتْرِ فَخَرَجَ كَلَامُهُمْ عن كَوْنِهِ
شَهَادَةً فَبَقِيَ قَذْفًا فَيُوجِبُ الْحَدَّ
وقال الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليهم الْحَدُّ
وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ أَنَّهُ لَا حَدَّ عليهم لِأَنَّ
تَأْخِيرَهُمْ وَإِنْ أَوْرَثَ تُهْمَةً وَشُبْهَةً في الشَّهَادَةِ فَأَصْلُ
الشَّهَادَةِ بَاقٍ فلما اُعْتُبِرَتْ الشُّبْهَةُ في إسْقَاطِ حَدِّ الزِّنَا عن
الْمَشْهُودِ عليه فَلَأَنْ تُعْتَبَرَ حَقِيقَةُ الشَّهَادَةِ لِإِسْقَاطِ حَدِّ
الْقَذْفِ عن الشُّهُودِ أَوْلَى
وَمِنْهَا قِيَامُ الرَّائِحَةِ وَقْتَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ في حَدِّ الشُّرْبِ
في قَوْلِهِمَا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ليس بِشَرْطٍ وَالْحُجَجُ سَتَأْتِي في مَوْضِعِهَا
وَمِنْهَا عَدَدُ الْأَرْبَعِ في الشُّهُودِ في حَدِّ الزِّنَا لِقَوْلِهِ عز
اسْمُهُ { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ من نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا
عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {
وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لم يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
} وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { لَوْلَا جاؤوا عليه بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ }
وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْحُجَّةِ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ
الْآخَرِ وهو الْإِقْرَارُ وَهُنَاكَ عَدَدُ الْأَرْبَعِ شَرْطٌ
كَذَا هَهُنَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ فإن عَدَدَ الْأَقَارِيرِ الْأَرْبَعِ
لم يُشْتَرَطْ فيها فَكَذَا عَدَدُ الْأَرْبَعِ من الشُّهُودِ وَلِأَنَّ
اشْتِرَاطَ عَدَدِ الْأَرْبَعِ في الشَّهَادَةِ يَثْبُتُ مَعْدُولًا بِهِ عن
الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ في الزِّنَا خَاصَّةً فَإِنْ شَهِدَ على
الزِّنَا أَقَلُّ من أَرْبَعَةٍ لم تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ لِنُقْصَانِ الْعَدَدِ
الْمَشْرُوطِ وَهَلْ يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ قال أَصْحَابُنَا يُحَدُّونَ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا جَاءُوا مَجِيءَ الشُّهُودِ لم
يُحَدُّوا
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا شَهِدَ ثَلَاثَةٌ وقال الرَّابِعُ رَأَيْتُهُمَا في
لِحَافٍ وَاحِدٍ ولم يَزِدْ عليه أَنَّهُ يُحَدُّ الثَّلَاثَةُ عِنْدَنَا وَلَا
حَدَّ على الرَّابِعِ لِأَنَّهُ لم يَقْذِفْ إلَّا إذَا كان قال في الِابْتِدَاءِ
أَشْهَدُ أَنَّهُ قد زَنَى ثُمَّ فَسَّرَ الزِّنَا بِمَا ذَكَرَ فَحِينَئِذٍ
يُحَدُّ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ إذَا جَاءُوا مَجِيءَ
الشُّهُودِ كان قَصْدُهُمْ إقَامَةَ الشَّهَادَةِ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى لَا
الْقَذْفَ فلم يَكُنْ جِنَايَةً فلم يَكُنْ قَذْفًا
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ ثَلَاثَةً شَهِدُوا على مُغِيرَةَ بِالزِّنَا فَقَامَ
الرَّابِعُ وقال رأيت أَقْدَامًا بَادِيَةً وَنَفَسًا عَالِيًا وَأَمْرًا
مُنْكَرًا وَلَا أَعْلَمُ ما وَرَاءَ ذلك
فقال سيدنا ( ( ( سي ) ) ) عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي لم
يَفْضَحْ رَجُلًا من أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ وَحَدَّ الثَّلَاثَةَ وكان ذلك
بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ
أَنْكَرَ عليه مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ الْمَوْجُودَ من الشُّهُودِ
كَلَامُ قَذْفٍ حَقِيقَةً إذْ الْقَذْفُ هو النِّسْبَةُ إلَى الزِّنَا وقد وُجِدَ
من الشُّهُودِ حَقِيقَةً فَيَدْخُلُونَ تَحْتَ آيَةِ الْقَذْفِ إلَّا أَنَّا
اعْتَبَرْنَا تَمَامَ عَدَدِ الْأَرْبَعِ إذَا جَاءُوا مَجِيءَ الشُّهُودِ فَقَدْ
قَصَدُوا إقَامَةَ الْحِسْبَةِ وَاجِبًا حَقًّا لِلَّهِ
____________________
(7/47)
تَعَالَى
فَخَرَجَ كَلَامُهُمْ عن كَوْنِهِ قَذْفًا وَصَارَ شَهَادَةً شَرْعًا فَعِنْدَ
النُّقْصَانِ بَقِيَ قَذْفًا حَقِيقَةً فَيُوجِبُ الْحَدَّ
وَلَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ على الزِّنَا وَشَهِدَ رَابِعٌ على شَهَادَةِ غَيْرِهِ
تُحَدُّ الثَّلَاثَةُ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ صَارَتْ قَذْفًا لِنُقْصَانِ
الْعَدَدِ وَلَا حَدَّ على الرَّابِعِ لِأَنَّهُ لم يَقْذِفْ بَلْ حَكَى قَذْفَ
غَيْرِهِ
وَلَوْ عُلِمَ أَنَّ أَحَدَ الْأَرْبَعِ عَبْدٌ أو مُكَاتَبٌ أو صَبِيٌّ أو
أَعْمَى أو مَحْدُودٌ في قَذْفٍ حُدُّوا جميعا لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْعَبْدَ
لَيْسَتْ لَهُمَا أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ أَصْلًا وَرَأْسًا فَانْتُقِصَ
الْعَدَدُ فَصَارَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا وَالْأَعْمَى وَالْمَحْدُودُ في الْقَذْفِ
لَيْسَتْ لهم أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ أو إنْ كانت لهم أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ
تَحَمُّلًا وَسَمَاعًا فَقَصُرَتْ أَهْلِيَّتُهُمَا لِلشَّهَادَةِ فَانْتُقِصَ
الْعَدَدُ فَصَارَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا
وَسَوَاءٌ عُلِمَ ذلك قبل الْقَضَاءِ أو بَعْدَ الْقَضَاءِ قبل الْإِمْضَاءِ
وَإِنْ عُلِمَ ذلك بَعْدَ الْإِمْضَاءِ فَإِنْ كان الْحَدُّ جَلْدًا فَكَذَلِكَ
يُحَدُّونَ وَلَا يَضْمَنُونَ أَرْشَ الضَّرْبِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ في بَيْتِ الْمَالِ على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الرُّجُوعِ
عن الشَّهَادَاتِ وَإِنْ كان رَجْمًا لَا يُحَدُّونَ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ
كَلَامَهُمْ وَقَعَ قَذْفًا وَمَنْ قَذَفَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ الْمَقْذُوفُ سَقَطَ
الْحَدُّ وَتَكُونُ الدِّيَةُ في بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ الْخَطَأَ حَصَلَ من
الْقَاضِي وَخَطَأُ الْقَاضِي على بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِعَامَّةِ
الْمُسْلِمِينَ وَبَيْتُ الْمَالِ مَالُ الْمُسْلِمِينَ
وَلَوْ شَهِدَ الزَّوْجُ وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ حُدَّ الثَّلَاثَةُ ولا عن الزَّوْجُ
امْرَأَتَهُ لِأَنَّ قَذْفَ الزَّوْجِ يُوجِبُ اللِّعَانَ لَا الْحَدَّ
فَانْتُقِصَ الْعَدَدُ في حَقِّ الْبَاقِينَ فَصَارَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا
فَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ
وَلَوْ عُلِمَ أَنَّ الشُّهُودَ الْأَرْبَعَةَ عَبِيدٌ أو كُفَّارٌ أو
مَحْدُودُونَ في قَذْفٍ أو عُمْيَانٌ يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ وَإِنْ عُلِمَ
أَنَّهُمْ فُسَّاقٌ لَا يُحَدُّونَ وَالْفَرْقُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَبْدَ
وَالْكَافِرَ لَا شَهَادَةَ لَهُمَا أَصْلًا وَالْأَعْمَى وَالْمَحْدُودُ في
الْقَذْفِ لَهُمَا شَهَادَةٌ سَمَاعًا وَتَحَمُّلًا لَا أَدَاءً فَكَانَ
كَلَامُهُمْ قَذْفًا
وَالْفَاسِقُ له شَهَادَةٌ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا سَمَاعًا وإذا كان كَلَامُ
الْفَاسِقِ شَهَادَةً لَا قَذْفًا
فَلَا يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عليه أَنَّ أَحَدَ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ عَبْدٌ
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ حتى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ حُرٌّ لِمَا رُوِيَ عن
سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال الناس أَحْرَارٌ إلَّا في أَرْبَعٍ
الشَّهَادَةِ وَالْقِصَاصِ وَالْعَقْلِ وَالْحُدُودِ وَالْمَعْنَى فيه ما
ذَكَرْنَا في غَيْرِ مَوْضِعٍ
وَمِنْهَا اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ وهو أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ مُجْتَمِعِينَ في
مَجْلِسٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَإِنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ
يَشْهَدُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَيُحَدُّونَ
وَإِنْ كَثُرُوا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كَلَامَهُمْ قَذْفٌ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا
يَخْرُجُ عن كَوْنِهِ قَذْفًا شَرْعًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ في
مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَقْتَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فإذا انْعَدَمَتْ هذه الشَّرِيطَةُ
بَقِيَ قَذْفًا فَيُوجِبُ الْحَدَّ حتى لو جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ أو
مُتَفَرِّقِينَ وَقَعَدُوا في مَوْضِعِ الشُّهُودِ في نَاحِيَةٍ من الْمَسْجِدِ
ثُمَّ جَاءُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَشَهِدُوا جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ
لِوُجُودِ اجْتِمَاعِهِمْ في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَقْتَ الشَّهَادَةِ إذْ
الْمَسْجِدُ كُلُّهُ مَجْلِسٌ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانُوا خَارِجِينَ من الْمَسْجِدِ
فَجَاءَ وَاحِدٌ منهم وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَشَهِدَ ثُمَّ جاء الثَّانِي
وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ يُضْرَبُونَ الْحَدَّ وَإِنْ كَانُوا مِثْلَ رَبِيعَةَ
وَمُضَرَ
هَكَذَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لو جاء
رَبِيعَةُ وَمُضَرُ فُرَادَى لَحَدَدْتُهُمْ عن آخِرِهِمْ وَإِنَّمَا قال ذلك
بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ
عليه أَحَدٌ منهم فَيَكُونُ إجْمَاعًا منهم
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ عليه بِالزِّنَا مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ منه
الْوَطْءُ فَإِنْ كان مِمَّنْ لَا يُتَصَوَّرُ منه كَالْمَجْبُوبِ لَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُمْ وَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ
وَلَوْ كان الْمَشْهُودُ عليه خَصِيًّا أو عِنِّينًا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ
وَيُحَدُّ لِتَصَوُّرِ الزِّنَا مِنْهُمَا لِقِيَامِ الْآلَةِ بِخِلَافِ
الْمَجْبُوبِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ عليه بِالزِّنَا مِمَّنْ يَقْدِرُ على
دَعْوَى الشُّبْهَةِ فَإِنْ كان مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ كَالْأَخْرَسِ لَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنَّهُ لو كان قَادِرًا لَادَّعَى شُبْهَةً
وَلَوْ كان الْمَشْهُودُ عليه بِالزِّنَا أَعْمَى قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّ
الْأَعْمَى قَادِرٌ على دَعْوَى الشُّبْهَةِ لو كانت عِنْدَهُ شُبْهَةٌ
وَلَوْ شَهِدُوا بِالزِّنَا ثُمَّ قالوا تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ إلَى فَرْجِهَا
لَا تُبْطَلُ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ لَا بُدَّ له من التَّحَمُّلِ
وَلَا بُدَّ لِلتَّحَمُّلِ من النَّظَرِ إلَى عَيْنِ الْفَرْجِ وَيُبَاحُ لهم
النَّظَرُ إلَيْهَا لِقَصْدِ إقَامَةِ الْحِسْبَةِ كما يُبَاحُ لِلطَّبِيبِ
لِقَصْدِ الْمُعَالَجَةِ
وَلَوْ قالوا نَظَرْنَا مُكَرَّرًا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّهُ سَقَطَتْ
عَدَالَتُهُمْ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا اتِّحَادُ المشهود ( ( ( الشهود ) ) ) وهو أَنْ يُجْمِعَ الشُّهُودُ
الْأَرْبَعَةُ على فِعْلٍ وَاحِدٍ فَإِنْ اخْتَلَفُوا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى في مَكَانِ كَذَا
وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى في مَكَان آخَرَ وَالْمَكَانَانِ مُتَبَايِنَانِ
بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ فيها ( ( ( فيهما ) ) ) فِعْلٌ وَاحِدٌ عَادَةً
كَالْبَلَدَيْنِ وَالدَّارَيْنِ وَالْبَيْتَيْنِ لَا تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ وَلَا
حَدَّ على الْمَشْهُودِ عليه لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِفِعْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ
لِاخْتِلَافِ الْمَكَانَيْنِ وَلَيْسَ
____________________
(7/48)
على
أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ الْأَرْبَعِ وَلَا حَدَّ على الشُّهُودِ أَيْضًا عِنْدَ
أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ زُفَرَ يُحَدُّونَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ عَدَدَ الشُّهُودِ قد اُنْتُقِصَ لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ
شَهِدَ بِفِعْلٍ غَيْرِ الذي شَهِدَ بِهِ الْفَرِيقُ الْآخَرُ وَنُقْصَانُ عَدَدِ
الشُّهُودِ يُوجِبُ صَيْرُورَةَ الشَّهَادَةِ قَذْفًا كما لو شَهِدَ ثَلَاثَةٌ
بِالزِّنَا
وَلَنَا أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ لم يَخْتَلِفْ عِنْدَ الشُّهُودِ لِأَنَّ
عِنْدَهُمْ أَنَّ هذا زِنًا وَاحِدٌ وَإِنَّمَا وَقَعَ اخْتِلَافُهُمْ في
الْمَكَانِ فَثَبَتَ بِشَهَادَتِهِمْ شُبْهَةُ اتِّحَادِ الْفِعْلِ فَيَسْقُطُ
الْحَدُّ
وَعَلَى هذا إذَا اخْتَلَفُوا في الزَّمَانِ فَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بها
في يَوْمِ كَذَا وَاثْنَانِ في يَوْمٍ آخَرَ
وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى في هذه الزَّاوِيَةِ من الْبَيْتِ وَشَهِدَ
اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى في هذه الزَّاوِيَةِ الْأُخْرَى منه يُحَدُّ الْمَشْهُودُ
عليه لِجَوَازِ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْفِعْلِ وَقَعَ في هذه الزَّاوِيَةِ من
الْبَيْتِ وَانْتِهَاؤُهُ في زَاوِيَةٍ أُخْرَى منه لِانْتِقَالِهِمَا منه
وَاضْطِرَابِهِمَا فلم يَخْتَلِفْ الْمَشْهُودُ بِهِ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ حتى
لو كان الْبَيْتُ كَبِيرًا لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ
الْبَيْتَيْنِ
وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ فَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ
اسْتَكْرَهَهَا وَاثْنَانِ أنها طَاوَعَتْهُ لَا حَدَّ على الْمَرْأَةِ
بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إلَّا بِالزِّنَا طَوْعًا ولم
تَثْبُتْ الطَّوَاعِيَةُ في حَقِّهَا
وَأَمَّا الرَّجُلُ فَلَا حَدَّ عليه أَيْضًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يُحَدُّ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ زِنَا الرَّجُلِ عن طَوْعٍ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ
الْأَرْبَعِ إلَّا أَنَّهُ تَفَرَّدَ اثْنَانِ منهم بِإِثْبَاتِ زِيَادَةِ
الْإِكْرَاهِ منه وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ كما لو زنا بها
مُسْتَكْرَهَةً وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ الْمَشْهُودَ قد
اخْتَلَفَ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُكْرَهِ غَيْرُ فِعْلِ من ليس بِمُكْرَهٍ فَقَدْ
شَهِدُوا بِفِعْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَيْسَ على أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ
الْأَرْبَعِ فَلَا يُحَدُّ الْمَشْهُودُ عليه وَلَا الشُّهُودُ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ
وقد مَرَّ الْكَلَامُ فيه في اخْتِلَافِهِمْ في الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
ثُمَّ الشُّهُودُ إذَا اسْتَجْمَعُوا شَرَائِطَ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ وَشَهِدُوا
عِنْدَ الْقَاضِي سَأَلَهُمْ الْقَاضِي عن الزِّنَا ما هو وَكَيْف هو وَمَتَى زنا
وَأَيْنَ زنا وَبِمَنْ زنا أَمَّا السُّؤَالُ عن مَاهِيَّةِ الزِّنَا فَلِأَنَّهُ
يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ غير الزِّنَا الْمَعْرُوفِ لِأَنَّ اسْمَ
الزِّنَا يَقَعُ على أَنْوَاعٍ لَا تُوجِبُ الْحَدَّ
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالْيَدَانِ
تَزْنِيَانِ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلك كُلَّهُ أو
يُكَذِّبُهُ
وَأَمَّا السُّؤَالُ عن الْكَيْفِيَّةِ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ
أَرَادُوا بِهِ الْجِمَاعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لِأَنَّ ذلك يُسَمَّى جِمَاعًا
حَقِيقَةً أو مَجَازًا فإنه لَا يُوجِبُ الْحَدَّ
وَأَمَّا السُّؤَالُ عن الزَّمَانِ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ شَهِدُوا
بِزِنًا مُتَقَادِمٍ وَالتَّقَادُمُ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا
وَأَمَّا السُّؤَالُ عن الْمَكَانِ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ زنا في دَارِ
الْحَرْبِ أو في دَارِ الْبَغْيِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ
وَأَمَّا السُّؤَالُ عن الْمَزْنِيِّ بها فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ
الْمَوْطُوءَةُ مِمَّنْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِوَطْئِهَا كَجَارِيَةِ الِابْنِ
وَغَيْرِ ذلك فإذا سَأَلَهُمْ الْقَاضِي عن هذه الْجُمْلَةِ فَوَصَفُوا سَأَلَ
الْمَشْهُودَ عليه أَهُوَ مُحْصَنٌ أَمْ لَا فَإِنْ أَنْكَرَ الْإِحْصَانَ
وَشَهِدَ على الْإِحْصَانِ رَجُلَانِ أو رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ على الِاخْتِلَافِ
سَأَلَ الشُّهُودَ عن الْإِحْصَانِ ما هو لِأَنَّ له شَرَائِطَ يَجُوزُ أَنْ
تَخْفَى على الشُّهُودِ فإذا وَصَفُوا قُضِيَ بِالرَّجْمِ
وَلَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ الْإِحْصَانِ أَنَّهُ جَامَعَهَا أو بَاضَعَهَا صَارَ
مُحْصَنًا لِأَنَّ هذه اللَّفْظَ في الْعُرْفِ مُسْتَعْمَلٌ في الْوَطْءِ في
الْفَرْجِ
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ دخل بها صَارَ مُحْصَنًا وَهَذَا وَقَوْلُهُ جَامَعَهَا
سَوَاءٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْصَنًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ في الْوَطْءِ وَيُسْتَعْمَلُ في
الزِّفَافِ فَلَا يَثْبُتُ الْإِحْصَانُ مع الِاحْتِمَالِ
وَلَهُمَا أَنَّ الدُّخُولَ بِالْمَرْأَةِ في عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ
يُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ
قال اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ { وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي في حُجُورِكُمْ من
نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } حَرَّمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
الرَّبِيبَةَ بِشَرْطِ الدُّخُولِ بِأُمِّهَا فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ من
الدُّخُولِ هو الْوَطْءُ لِأَنَّهَا تُحَرَّمُ بِمُجَرَّدِ نِكَاحِ الْأُمِّ من
غَيْرِ وَطْءٍ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ الِاخْتِلَافَ على الْقَلْبِ فقال على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْصَنًا ما لم يُصَرِّحْ بِالْوَطْءِ
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِيرُ مُحْصَنًا
وَلَوْ شَهِدُوا على الدُّخُولِ وكان له منها وَلَدٌ هو مُحْصَنٌ بِالْإِجْمَاعِ
وَكَفَى بِالْوَلَدِ شَاهِدًا
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمْ
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْإِقْرَارِ بِالْحَدِّ فَمِنْهَا مايعم الْحُدُودَ كُلَّهَا
وَمِنْهَا ما يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ
أَمَّا الذي يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا فَمِنْهَا الْبُلُوغُ فَلَا يَصِحُّ
إقْرَارُ الصَّبِيِّ في شَيْءٍ من الْحُدُودِ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْحَدِّ لَا
بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ جِنَايَةً وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ
جِنَايَةً فَكَانَ إقْرَارُهُ كَذِبًا مَحْضًا
وَمِنْهَا النُّطْقُ وهو أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ بِالْخِطَابِ وَالْعِبَارَةِ
دُونَ الْكِتَابِ وَالْإِشَارَةِ حتى إنَّ الْأَخْرَسَ لو كَتَبَ الْإِقْرَارَ في
كِتَابٍ أو أَشَارَ إلَيْهِ إشَارَةً مَعْلُومَةً لَا حَدَّ عليه لِأَنَّ
الشَّرْعَ عَلَّقَ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالْبَيَانِ الْمُتَنَاهِي
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو أَقَرَّ
____________________
(7/49)
بِالْوَطْءِ
الْحَرَامِ لَا يُقَامُ عليه الْحَدُّ ما لم يُصَرِّحْ بِالزِّنَا وَالْبَيَانُ
لَا يَتَنَاهَى إلَّا بِالصَّرِيحِ وَالْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةُ بِمَنْزِلَةِ
الْكِتَابَةِ فَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ
وَأَمَّا الْبَصَرُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ فَيَصِحُّ إقْرَارُ
الْأَعْمَى في الْحُدُودِ كُلِّهَا كَالْبَصِيرِ لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يَمْنَعُ
مُبَاشَرَةَ سَبَبِ وُجُوبِهَا
وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالذُّكُورَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ حتى
يَصِحَّ إقْرَارُ الرَّقِيقِ وَالذِّمِّيِّ وَالْمَرْأَةِ في جَمِيعِ الْحُدُودِ
وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ بِشَيْءٍ من
أَسْبَابِ الْحُدُودِ من غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى
وَالْكَلَامُ في التَّصْدِيقِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ السَّرِقَةِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَمِنْهَا عَدَدُ الْأَرْبَعِ في
حَدِّ الزِّنَا خَاصَّةً وهو أَنْ يُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عليه الرَّحْمَةُ ليس بِشَرْطٍ ويكتفي بِإِقْرَارِهِ
مَرَّةً وَاحِدَةً
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً في الشَّرْعِ
لِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ فيه على جَانِبِ الْكَذِبِ
وهذا الْمَعْنَى عِنْدَ التَّكْرَارِ وَالتَّوَحُّدِ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ
إخْبَارٌ وَالْخَبَرُ لَا يَزِيدُ رُجْحَانًا بِالتَّكْرَارِ وَلِهَذَا لم
يُشْتَرَطْ في سَائِرِ الْحُدُودِ بِخِلَافِ عَدَدِ الْمُثَنَّى في الشَّهَادَةِ
لِأَنَّ ذلك يُوجِبُ زِيَادَةَ ظَنٍّ عليه فيها إلَّا أَنَّ شَرْطَ الْعَدَدِ
الْأَرْبَعِ في بَابِ الزِّنَا تعبدا ( ( ( تعبد ) ) ) فَيَقْتَصِرُ على مَوْضِعِ
التَّعَبُّدِ
وَلَنَا أَنَّ الْقِيَاسَ ما قَالَهُ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ
بِالنَّصِّ وهو ما رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا جاء إلَى رسول اللَّهِ فَأَقَرَّ
بِالزِّنَا فَأَعْرَضَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ
هَكَذَا إلَى الْأَرْبَعِ
فَلَوْ كان الْإِقْرَارُ مَرَّةً مُظْهِرًا لِلْحَدِّ لَمَا أَخَّرَهُ رسول
اللَّهِ إلَى الْأَرْبَعِ لِأَنَّ الْحَدَّ بَعْدَ ما ظَهَرَ وُجُوبُهُ
لِلْإِمَامِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ
وَأَمَّا الْعَدَدُ في الْإِقْرَارِ بِالْقَذْفِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ بِالْإِجْمَاعِ
وَهَلْ يُشْتَرَطُ في الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ قال أبو
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس بِشَرْطٍ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إن ( ( ( إنه ) ) ) كل ما يَسْقُطُ
بِالرُّجُوعِ فَعَدَدُ الْإِقْرَارِ فيه كَعَدَدِ الشُّهُودِ
وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ أن عِنْدَ أبي يُوسُفَ
يُشْتَرَطُ الْإِقْرَارُ مَرَّتَيْنِ في مَكَانَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ خَالِصُ حَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَا فَتَلْزَمُ مُرَاعَاةُ الِاحْتِيَاطِ فيه
بِاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ كما في الزِّنَا إلَّا أَنَّهُ يكتفي هَهُنَا
بِالْمَرَّتَيْنِ وَيُشْتَرَطُ الْأَرْبَعُ هُنَاكَ اسْتِدْلَالًا بِالْبَيِّنَةِ
لِأَنَّ السَّرِقَةَ وَالشُّرْبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ بِنِصْفِ ما
يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَا وهو شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ
وَلَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ التَّكْرَارُ في الْإِقْرَارِ
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ إخْبَارٌ وَالْمُخْبَرُ لَا يَزْدَادُ بِتَكْرَارِ
الْخَبَرِ وَإِنَّمَا عَرَفْنَا عَدَدَ الْأَرْبَعِ في بَابِ الزِّنَا بِنَصٍّ
غَيْرِ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَيَقْتَصِرُ على مَوْرِدِ النَّصِّ
وَمِنْهَا عَدَدُ الْمَجَالِسِ فيه وهو أَنْ يُقِرَّ أَرْبَعَ مَجَالِسَ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَجَالِسُ الْقَاضِي أو مَجَالِسُ
الْمُقِرِّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَجَالِسُ الْمُقِرِّ
وَهَكَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَجَالِسُ الْمُقِرِّ
لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اعْتَبَرَ اخْتِلَافَ مَجَالِسِ مَاعِزٍ
حَيْثُ كان يَخْرُجُ من الْمَسْجِدِ في كل مَرَّةٍ ثُمَّ يَعُودُ وَمَجْلِسُهُ
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لم يَخْتَلِفْ وقد رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ في
تَفْسِيرِ اخْتِلَافِ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ هو أَنْ يُقِرَّ مَرَّةً ثُمَّ
يَذْهَبُ حتى يَتَوَارَى عن بَصَرِ الْقَاضِي ثُمَّ يَجِيءُ فَيُقِرُّ ثُمَّ
يَذْهَبُ هَكَذَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ إقْرَارُهُ بين يَدَيْ الْإِمَامِ فَإِنْ كان عِنْدَ
غَيْرِهِ لم يَجُزْ إقْرَارُهُ لِأَنَّ إقْرَارَ مَاعِزٍ كان عِنْدَ رسول اللَّهِ
وَلَوْ أَقَرَّ في غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَشَهِدَ الشُّهُودُ على إقْرَارِهِ
لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّهُ إنْ كان مُقِرًّا فَالشَّهَادَةُ لَغْوٌ
لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْإِقْرَارِ لَا لِلشَّهَادَةِ وَإِنْ كان مُنْكِرًا
فَالْإِنْكَارُ منه رُجُوعٌ
وَالرُّجُوعُ عن الْإِقْرَارِ في الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ عز وجل
صَحِيحٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الصِّحَّةُ في الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ
وَالسُّكْرِ حتى لو كان سَكْرَانَ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ
أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّ السَّكْرَانَ من
صَارَ بِالشُّرْبِ إلَى حَالٍ لَا يَعْقِلُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا فَكَانَ
عَقْلُهُ زَائِلًا مَسْتُورًا حَقِيقَةً وَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّهُ
إذَا غَلَبَ الْهَذَيَانُ على كَلَامِهِ فَقَدْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَةُ الْعَقْلِ
وَلِهَذَا لم تَصِحَّ رِدَّتُهُ فَيُورِثُ ذلك شُبْهَةً في وُجُوبِ الْحَدِّ
وَلَيْسَ بِشَرْطٍ في الْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ
خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ وَلِلْعَبْدِ حَقٌّ في حَدِّ الْقَذْفِ فَيَصِحُّ مع
السُّكْرِ كَالْإِقْرَارِ بِالْمَالِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ
وإذا صَحَّا فَإِنْ دَامَ على إقْرَارِهِ تُقَامُ عليه الْحُدُودُ كُلُّهَا وَإِنْ
أنكر ( ( ( أنكره ) ) ) فَالْإِنْكَارُ منه رُجُوعٌ فَيَصِحُّ في الْحُدُودِ
الْخَالِصَةِ وهو حَدُّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ في حد ( ( ( حق ) ) )
الْقَطْعِ وَلَا يَصِحُّ في الْقَذْفِ وَالْقَتْلِ الْعَمْدِ وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ بِالزِّنَا مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ
الزِّنَا منه فَإِنْ كان لَا يُتَصَوَّرُ كَالْمَجْبُوبِ لم يَصِحَّ إقْرَارُهُ لِأَنَّ
الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ منه لِانْعِدَامِ
____________________
(7/50)
الْآلَةِ
وَيَصِحُّ إقْرَارُ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ لِتَصَوُّرِ الزِّنَا مِنْهُمَا
لِتَحَقُّقِ الْآلَةِ وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ إذَا أَقَرَّ في حَالِ
إفَاقَتِهِ فَهُوَ مِثْلُ الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ في حَالِ إفَاقَتِهِ صَحِيحٌ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَزْنِيُّ بِهِ في الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا مِمَّنْ
يَقْدِرُ على دَعْوَى الشُّبْهَةِ فَإِنْ لم يَكُنْ بِأَنْ أَقَرَّ رَجُلٌ أَنَّهُ
زَنَى بِامْرَأَةٍ خَرْسَاءَ أو أَقَرَّتْ امْرَأَةٌ أنها زَنَتْ بِأَخْرَسَ لم
يَصِحَّ إقْرَارُهُ لِأَنَّ من الْجَائِزِ أن لو كان يَقْدِرُ على النُّطْقِ
لَادَّعَى النِّكَاحَ أو أَنْكَرَ الزِّنَا ولم يَدَّعِ شيئا فيندرىء ( ( ( فيندرئ
) ) ) عنه الْحَدُّ لِمَا ذكر ( ( ( نذكر ) ) ) في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
وَأَمَّا حَضْرَةُ الْمَزْنِيِّ بها في الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالشَّهَادَةِ
عليه فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ حتى لو أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ أو
شَهِدَ عليه الشُّهُودُ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ صَحَّ الْإِقْرَارُ
وَقُبِلَتْ الشَّهَادَةُ وَيُقَامُ الْحَدُّ على الرَّجُلِ لِأَنَّ الْغَائِبَ
بِالْغَيْبَةِ ليس إلَّا الدَّعْوَى وأنها لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَلِهَذَا رُجِمَ
مَاعِزٌ من غَيْرِ شَرْطِ حُضُورِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ
وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِالْمَزْنِيِّ بها
ثُمَّ إذَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ يَعْرِفُهَا
فَحَضَرَتْ الْمَرْأَةُ فَلَا يَخْلُو إمَّا إن حَضَرَتْ قبل إقَامَةِ الْحَدِّ
على الرَّجُلِ وَإِمَّا إن حَضَرَتْ بَعْدَ الْإِقَامَةِ فَإِنْ حَضَرَتْ بَعْدَ
الْإِقَامَةِ فَإِنْ أَقَرَّتْ بِمِثْلِ ما أَقَرَّ بِهِ الرَّجُلُ تُحَدُّ
أَيْضًا كما حُدَّ الرَّجُلُ وَإِنْ أَنْكَرَتْ وَادَّعَتْ على الرَّجُلِ حَدَّ
الْقَذْفِ لَا يُحَدُّ الرَّجُلُ حَدَّ الْقَذْفِ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه
حَدَّانِ وقد أُقِيمَ أَحَدُهُمَا فَلَا يُقَامُ الْآخَرُ
وَإِنْ حَضَرَتْ قبل إقَامَةِ الْحَدِّ على الرَّجُلِ فَإِنْ أَنْكَرَتْ الزِّنَا
وَادَّعَتْ النِّكَاحَ أو لم تَدَّعِ وَادَّعَتْ حَدَّ الْقَذْفِ على الرَّجُلِ أو
لم تَدَّعِ فَحُكْمُهُ نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَالْعِلْمُ بِالْمَزْنِيِّ بها ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ حتى لو قال
زَنَيْتُ بِامْرَأَةٍ وَلَا أَعْرِفُهَا صَحَّ إقْرَارُهُ وَيُحَدُّ وَالْعِلْمُ
بِالْمَشْهُودِ بِهِ شَرْطُ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ حتى لو شَهِدَ الشُّهُودُ على
رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ وَقَالُوا لَا نَعْرِفُهَا لَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُمْ وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ على الْمَشْهُودِ عليه
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُقِرَّ في الْإِقْرَارِ على نَفْسِهِ يَبْنِي الْأَمْرَ على
حَقِيقَةِ الْحَالِ خُصُوصًا في الزِّنَا فَكَانَ إقْرَارُهُ إخْبَارًا عن وُجُودِ
الزِّنَا منه حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ لم يَعْرِفْ اسْمَ الْمَرْأَةِ وَنَسَبَهَا
وَذَا لَا يُورِثُ شُبْهَةً
فَأَمَّا الشَّاهِدُ فإنه بِشَهَادَتِهِ بَنَى الْأَمْرَ على الظَّاهِرِ لَا على
الْحَقِيقَةِ لِقُصُورِ عِلْمِهِ عن الْوُصُولِ إلَى الْحَقِيقَةِ
فَقَوْلُهُمْ لَا نَعْرِفُ تِلْكَ الْمَرْأَةِ يُورِثُ شُبْهَةً لِجَوَازِ أنها
امْرَأَتُهُ أو امْرَأَةٌ له فيها شُبْهَةُ حِلٍّ أو مِلْكٍ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا عَدَمُ التَّقَادُمِ فَهَلْ هو شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالْحَدِّ
أَمَّا في حَدِّ الْقَذْفِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِأَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ لِقَبُولِ
الشَّهَادَةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ
وَكَذَلِكَ في حَدِّ الزِّنَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ
رَحِمَهُ اللَّهُ كما في الشَّهَادَةِ
وَلَنَا الْفَرْقُ بين الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ وهو أَنَّ الْمَانِعَ في
الشَّهَادَةِ تَمَكُّنُ التُّهْمَةِ وَالضَّغِينَةِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ في
الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ في الْإِقْرَارِ على نَفْسِهِ
وَكَذَا في حَدِّ السَّرِقَةِ لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا في حَدِّ الشُّرْبِ فَشَرْطٌ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ ليس بِشَرْطٍ بِنَاءً على أَنَّ قِيَامَ الرَّائِحَةِ شَرْطُ صِحَّةِ
الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ عِنْدَهُمَا وَلِهَذَا لَا يَبْقَى مع التَّقَادُمِ
وَعِنْدَهُ ليس بِشَرْطٍ وَلَوْ لم يَتَقَادَمْ الْعَهْدُ وَلَكِنَّ رِيحَهَا لَا
يُوجَدُ منه لم يَصِحَّ الْإِقْرَارُ عِنْدَهُمَا خِلَافًا له
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ ليس بِمَنْصُوصٍ
عليه في الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِنَّمَا عُرِفَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ
وَإِجْمَاعُهُمْ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه
ولم تثبت ( ( ( يثبت ) ) ) فَتْوَاهُ عِنْدَ زَوَالِ الرَّائِحَةِ فإنه رُوِيَ
أَنَّ رَجُلًا جاء بِابْنِ أَخٍ له إلَى عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه
فَاعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ فقال له عبد اللَّهِ بِئْسَ وَلِيُّ
الْيَتِيمِ أنت لَا أَدَّبْتَهُ صَغِيرًا وَلَا سَتَرْت عليه كَبِيرًا
ثُمَّ قال رضي اللَّهُ عنه تَلْتِلُوهُ وَمَزْمِزُوهُ وَاسْتَنْكِهُوهُ فَإِنْ
وَجَدْتُمْ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَاجْلِدُوهُ وَأَفْتَى رضي اللَّهُ عنه
بِالْحَدِّ عِنْدَ وُجُودِ الرَّائِحَةِ ولم يَثْبُتْ فَتْوَاهُ عِنْدَ عَدَمِهَا
وإذا لم يَثْبُتْ فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ فَلَا يَجِبُ بِدُونِهِ
لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا إجْمَاعَ ثُمَّ إنَّمَا تُعْتَبَرُ الرَّائِحَةُ
إذَا لم يَكُنْ سَكْرَانَ فَأَمَّا إذَا كان سكران ( ( ( سكرانا ) ) ) فَلَا
لِأَنَّ السُّكْرَ أَدُلُّ على الشُّرْبِ من الرَّائِحَةِ وَلِذَلِكَ لو جِيءَ
بِهِ من مَكَان بَعِيدٍ لَا تَبْقَى الرَّائِحَةُ بِالْمَجِيءِ من مِثْلِهِ
عَادَةً يُحَدُّ وَإِنْ لم تُوجَدْ الرَّائِحَةُ لِلْحَالِ لِأَنَّ هذا مَوْضِعُ
الْعُذْرِ فَلَا يُعْتَبَرُ قِيَامُ الرَّائِحَةِ فيه وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ
وإذا أَقَرَّ إنْسَانٌ بِالزِّنَا عِنْدَ الْقَاضِي يَنْبَغِي أَنْ يُظْهِرَ
الْكَرَاهَةَ أو يَطْرُدَهُ
وَكَذَا في الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ
هَكَذَا فُعِلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَاعِزٍ
وَكَذَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال اُطْرُدُوا
الْمُعْتَرِفِينَ أَيْ بِالزِّنَا فإذا أَقَرَّ أَرْبَعًا نُظِرَ في حَالِهِ
أَهُوَ صَحِيحُ الْعَقْلِ أَمْ بِهِ آفَةٌ
هَكَذَا قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَاعِزٍ أَبِكَ خَبَلٌ أَمْ بِكَ
جُنُونٌ وَبَعَثَ إلَى قَوْمِهِ فَسَأَلَهُمْ عن حَالِهِ فإذا عُرِفَ أَنَّهُ
صَحِيحُ الْعَقْلِ سَأَلَهُ عن مَاهِيَّةِ الزِّنَا وَعَنْ كَيْفِيَّتِهِ وَعَنْ
مَكَانِهِ وَعَنْ الْمَزْنِيِّ بها لِمَا ذَكَرْنَا في الشَّهَادَةِ
____________________
(7/51)
وَلَا
يَسْأَلُهُ عن الزَّمَانِ لِأَنَّ السُّؤَالَ عن الزَّمَانِ لِمَكَانِ احْتِمَالِ
التَّقَادُمِ وَالتَّقَادُمُ في الْإِقْرَارِ وَإِنَّمَا يَقْدَحُ في الشَّهَادَةِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ عن الزَّمَانِ أَيْضًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ زَنَى في
حَالِ الصِّغَرِ فإذا بَيَّنَ ذلك كُلَّهُ سَأَلَهُ عن حَالِهِ أَهُوَ مُحْصَنٌ
أَمْ لَا لِأَنَّ حُكْمَ الزِّنَا يَخْتَلِفُ بِالْإِحْصَانِ وَعَدَمِهِ
فَإِنْ قال أنا مُحْصَنٌ سَأَلَهُ عن مَاهِيَّةِ الْإِحْصَانِ أَنَّهُ ما هو
لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عن اجْتِمَاعِ شَرَائِطِ لَا يَقْدِرُ عليها كُلُّ أَحَدٍ
فإذا بَيَّنَ رَجَمَهُ
وَأَمَّا عِلْمُ الْقَاضِي فَلَا يَظْهَرُ بِهِ حَدُّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ
وَالسُّكْرِ وَالسَّرِقَةِ حتى لَا يَقْضِيَ بِشَيْءٍ من ذلك بِعِلْمِهِ لَكِنَّهُ
يَقْضِي بِالْمَالِ في السَّرِقَةِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ في
الْأَمْوَالِ سَوَاءٌ عَلِمَ بِذَلِكَ قبل زَمَانِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ أو
بَعْدَهُمَا بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِذَلِكَ
مُعَايَنَةً بِأَنْ رَأَى إنْسَانًا يَزْنِي وَيَشْرَبُ وَيَسْرِقُ أو بِسَمَاعِ
الْإِقْرَارِ بِهِ في غَيْرِ مَجْلِسِهِ الذي يَقْضِي فيه بين الناس فَإِنْ كان
إقْرَارُهُ في مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لَزِمَهُ مُوجِبُ إقْرَارِهِ إذْ لو لم
يُقْبَلْ إقْرَارُهُ لَاحْتَاجَ الْقَاضِي إلَى أَنْ يَكُونَ معه جَمَاعَةٌ على
الْإِقْرَارِ في كل حَادِثَةٍ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ بِخِلَافِهِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَيَظْهَرُ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ في زَمَانِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ كَالْقِصَاصِ
وَسَائِرِ الْحُقُوقِ وَالْأَمْوَالِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وَإِنَّمَا
اخْتَلَفُوا في ظُهُورِ ذلك بِعِلْمِهِ في غَيْرِ زَمَانِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ
وقد ذَكَرْنَا جُمْلَةَ ذلك بِدَلَائِلِهِ في كِتَابِ آدَابِ الْقَاضِي
وَلَا يَظْهَرُ حَدُّ السَّرِقَةِ بِالنُّكُولِ لَكِنَّهُ يَقْضِي بِالْمَالِ
لِأَنَّ النُّكُولَ إمَّا بَدَلٌ وَإِمَّا إقْرَارٌ فيه شُبْهَةُ الْعَدَمِ
وَالْحَدُّ لَا يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ وَلَا يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ وَالْمَالُ
يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ وَالثُّبُوتَ بِالشُّبْهَةِ
وَأَمَّا الْخُصُومَةُ فَهَلْ هِيَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْحَدِّ بِالشَّهَادَةِ
وَالْإِقْرَارِ فَلَا خِلَافَ في أنها لَيْسَتْ بِشَرْطٍ في حَدِّ الزِّنَا
وَالشُّرْبِ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ عز وجل وَالْخُصُومَةُ لَيْسَتْ
بِشَرْطٍ في الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا تُقَامُ حِسْبَةً
لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَتَوَقَّفُ ظُهُورُهَا على دَعْوَى الْعَبْدِ وَلَا
خِلَافَ في حَدِّ السَّرِقَةِ أَنَّ الْخُصُومَةَ فيها شَرْطُ الظُّهُورِ
بِالشَّهَادَةِ لِأَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ وَإِنْ كان حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى
خَالِصًا لَكِنْ هذا الْحَقُّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ كَوْنِ الْمَسْرُوقِ
مِلْكًا لِلْمَسْرُوقِ منه وَلَا يَظْهَرُ ذلك إلَّا بِالْخُصُومَةِ وفي كَوْنِهَا
شَرْطَ الظُّهُورِ بِالْإِقْرَارِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ السَّرِقَةِ
وَلَا خِلَافَ أَيْضًا في أنها شَرْطُ الظُّهُورِ بِالشَّهَادَةِ على الْقَذْفِ
وَالْإِقْرَارِ بِهِ
أَمَّا على أَصْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ
الْعَبْدِ فَيُشْتَرَطُ فيه الدَّعْوَى كما في سَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ
وَعِنْدَنَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ وَإِنْ كان هو الْمُغَلَّبُ فيه
لَكِنْ لِلْعَبْدِ فيه حَقٌّ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ بِصِيَانَةِ عِرْضِهِ عن
الْهَتْكِ فَيُشْتَرَطُ فيه الدَّعْوَى عن هذه الْجِهَةِ
وإذا عُرِفَ أَنَّ الْخُصُومَةَ في حَدِّ الْقَذْفِ شَرْطُ كَوْنِ النِّيَّةِ
وَالْإِقْرَارِ مُظْهِرَيْنِ فيه فَيَقَعُ الْكَلَامُ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا
في بَيَانِ الْأَحْكَامِ التي تَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ من يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَمَنْ لَا يَمْلِكُهَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى الْأَفْضَلُ
لِلْمَقْذُوفِ أَنْ يَتْرُكَ الْخُصُومَةَ لِأَنَّ فيها إشَاعَةَ الْفَاحِشَةِ وهو
مَنْدُوبٌ إلَى تَرْكِهَا
وَكَذَا الْعَفْوُ عن الْخُصُومَةِ وَالْمُطَالَبَةِ التي هِيَ حَقُّهَا من بَابِ
الْفَضْلِ وَالْكَرَامَةِ
وقد قال اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْ تعفوا ( ( ( تعفو ) ) ) أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى }
وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ }
وإذا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي يُسْتَحْسَنُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ قبل
الْإِتْيَانِ بِالْبَيِّنَةِ أَعْرِضْ عن هذا لِأَنَّهُ نَدْبٌ إلَى السَّتْرِ
وَالْعَفْوِ
وَكُلُّ ذلك حَسَنٌ
فإذا لم يَتْرُكْ الْخُصُومَةَ وَادَّعَى الْقَذْفَ على الْقَاذِفِ فَأَنْكَرَ
وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي فَأَرَادَ اسْتِحْلَافَهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ما
قَذَفَهُ هل يَحْلِفُ
ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا
خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
وَذَكَرَ في أدب ( ( ( آداب ) ) ) الْقَاضِي أَنَّهُ يَحْلِفُ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ عِنْدَهُمْ
وإذا نَكِلَ يقضى عليه بِالْحَدِّ
وقال بَعْضُهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْلِفَ فإذا نَكِلَ يقضى عليه بِالتَّعْزِيرِ
لَا بِالْحَدِّ
وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ تَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ وهو أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ حَدُّ الْقَذْفِ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ فَيَجْرِي فيه
الِاسْتِحْلَافُ كما في سَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ
وَأَمَّا على أَصْلِ أَصْحَابِنَا فَفِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عز وجل وَحَقُّ
الْعَبْدِ فَمَنْ قال منهم إنَّهُ يَحْلِفُ وَيَقْضِي بِالْحَدِّ عِنْدَ
النُّكُولِ اعْتَبَرَ ما فيه من حَقِّ الْعَبْدِ فَأَلْحَقَهُ في التَّحْلِيفِ
بِالتَّعْزِيرِ
وَمَنْ قال منهم إنَّهُ لَا يَحْلِفُ أَصْلًا اعْتَبَرَ حَقَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى فيه لِأَنَّهُ الْمُغَلَّبُ فَأَلْحَقَهُ بِسَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْخَالِصَةِ وَالْجَامِعُ أَنَّ الْمَقْصُودَ من
الِاسْتِحْلَافِ هو النُّكُولُ وَأَنَّهُ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه
الرَّحْمَةُ بَدَلٌ وَالْحَدُّ لَا يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ
وَعَلَى أَصْلِهِمَا إقْرَارٌ فيه شُبْهَةُ الْعَدَمِ لِأَنَّهُ ليس بِصَرِيحِ
إقْرَارٍ بَلْ هو إقْرَارٌ بِطَرِيقِ السُّكُوتِ فَكَانَ فيه شُبْهَةُ الْعَدَمِ
وَالْحَدُّ لَا يَثْبُتُ بِدَلِيلٍ فيه شُبْهَةُ الْعَدَمِ
وَمَنْ قال منهم إنَّهُ يَحْلِفَ ويقضى عليه بِالتَّعْزِيرِ عِنْدَ النُّكُولِ
____________________
(7/52)
دُونَ
الْحَدِّ اعْتَبَرَ حَقَّ الْعَبْدِ فيه لِلِاسْتِحْلَافِ كَالتَّعْزِيرِ
وَاعْتَبَرَ حَقَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْمَنْعِ من إقَامَةِ
الْحَدِّ عِنْدَ النُّكُولِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ
وَمِثْلُ هذا جَائِزٌ كَحَدِّ السَّرِقَةِ إنه يَجْرِي فيه الِاسْتِحْلَافُ وَلَا
يَقْضِي عِنْدَ النُّكُولِ بِالْحَدِّ وَلَكِنْ يَقْضِي بِالْمَالِ وَكَمَا قال
أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ في الْقِصَاصِ في الطَّرَفِ
وَالنَّفْسِ إنَّهُ يَحْلِفُ وَعِنْدَ النُّكُولِ لَا يقضى بِالْقِصَاصِ بَلْ
بِالدِّيَةِ على ما عُرِفَ
وَإِنْ قال الْمُدَّعِي لي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ في الْمِصْرِ على قَذْفِهِ
يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عليه الْقَذْفُ إلَى قِيَامِ الْحَاكِمِ من مَجْلِسِهِ
وَالْمُرَادُ من الْحَبْسِ الْمُلَازَمَةُ
أَيْ يُقَالُ لِلْمُدَّعِي لَازِمْهُ إلَى هذا الْوَقْتِ فَإِنْ أَحْضَرَ
الْبَيِّنَةَ فيه وَإِلَّا خُلِّيَ سَبِيلُهُ
وَلَا يُؤْخَذُ منه كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ
هذا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يُؤْخَذُ منه الْكَفِيلُ
وَهَذَا بِنَاءً على أَنَّ الْكَفَالَةَ في الْحُدُودِ غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ قال في الْكِتَابِ وَلَا كَفَالَةَ في
حَدٍّ وَلَا قِصَاصٍ
وَعِنْدَهُمَا يُكْفَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ في تَفْسِيرِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ
مَعْنَاهُ لَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ في الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ جَبْرًا
فَأَمَّا إذَا بَذَلَ من نَفْسِهِ وَأَعْطَى الْكَفِيلَ فَهُوَ جَائِزٌ
بِالْإِجْمَاعِ وَظَاهِرُ إطْلَاقِ الْكِتَابِ يَدُلُّ على عَدَمِ الْجَوَازِ
عِنْدَهُ لِأَنَّ كَلِمَةَ النَّفْيِ إذَا دَخَلَتْ على الْأَفْعَالِ
الشَّرْعِيَّةِ يُرَادُ بها نَفْيُ الْجَوَازِ من الْأَصْلِ كما في قَوْلِهِ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ وَلَا نِكَاحَ إلَّا
بِشُهُودٍ وَنَحْوِ ذلك
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحَبْسَ جَائِزٌ في الْحُدُودِ فَالْكَفَالَةُ أَوْلَى
لِأَنَّ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ في الْحَبْسِ أَبْلَغُ منه في الْكَفَالَةِ فلما
جَازَ الْحَبْسُ فَالْكَفَالَةُ أَحَقُّ بِالْجَوَازِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْكَفَالَةَ شُرِعَتْ
لِلِاسْتِيثَاقِ وَالْحُدُودُ مَبْنَاهَا على الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ادْرَءُوا الْحُدُودَ ما اسْتَطَعْتُمْ فَلَا
يُنَاسِبُهَا الِاسْتِيثَاقُ بِالْكَفَالَةِ بِخِلَافِ الْحَبْسِ فإن الْحَبْسَ
لِلتُّهْمَةِ مَشْرُوعٌ
رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ
وقد ثَبَتَتْ التُّهْمَةُ في هذه الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ لي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ
في الْمِصْرِ فَجَازَ الْحَبْسُ فإذا أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدَيْنِ لَا
يَعْرِفُهُمَا الْقَاضِي أَيْ لم تَظْهَرْ عَدَالَتُهُمَا بَعْدَ الْحَبْسِ فَلَا
خِلَافَ وَلَا يُؤْخَذُ منه كَفِيلٌ
وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا عَدْلًا حُبِسَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يُحْبَسُ وَيُؤْخَذُ منه كَفِيلٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحَقَّ لَا يَظْهَرُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كان
عَدْلًا فَالْحَبْسُ من أَيْنَ بِخِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فإن سَبَبَ ظُهُورِ
الْحَقِّ قد وُجِدَ وهو كَمَالُ عَدَدِ الْحُجَّةِ إلَّا أَنَّ تَوَقُّفَ الظُّهُورِ
لِتَوَقُّفِ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ فَثَبَتَتْ الشُّبْهَةُ فَيُحْبَسُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ قَوْلَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ
وَإِنْ كان لَا يُوجِبُ الْحَقَّ فإنه يُوجِبُ التُّهْمَةَ وَحَبْسُ الْمُتَّهَمِ
جَائِزٌ
وَلَوْ قال الْمُدَّعِي لَا بَيِّنَةَ لي أو بَيِّنَتِي غَائِبَةٌ أو خَارِجُ
الْمِصْرِ لَا يُحْبَسُ بِالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ فَإِنْ قَامَتْ
الْبَيِّنَةُ لِلْمَقْذُوفِ على الْقَذْفِ أو أَقَرَّ الْقَاذِفُ بِهِ فإن
الْقَاضِيَ يقول له أَقِمْ الْبَيِّنَةَ على صِحَّةِ قَذْفِكَ فَإِنْ أَقَامَ
أَرْبَعَةً من الشُّهُودِ على مُعَايَنَةِ الزِّنَا من الْمَقْذُوفِ أو على
إقْرَارِهِ بِالزِّنَا سَقَطَ الْحَدُّ عن الْقَاذِفِ وَيُقَامُ حَدُّ الزِّنَا
على الْمَقْذُوفِ وَإِنْ عَجَزَ عن إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يُقِيمُ حَدَّ الْقَذْفِ
على الْقَاذِفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
ثُمَّ لم يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً }
وَإِنْ طَلَبَ التَّأْجِيلَ من الْقَاضِي وقال شُهُودِي غُيَّبٌ أو خَارِجُ
الْمِصْرِ لم يُؤَجِّلْهُ
وَلَوْ قال شُهُودِي في الْمِصْرِ أَجَّلَهُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ وَلَازَمَهُ
الْمَقْذُوفُ وَيُقَالُ له ابْعَثْ أَحَدًا إلَى شُهُودِكَ فَأَحْضِرْهُمْ وَلَا
يُؤْخَذُ منه كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
وَعِنْدَهُمَا يُؤَجَّلُ يَوْمَيْنِ أو ثَلَاثَةً وَيُؤْخَذُ منه الْكَفِيلُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا في إخْبَارِهِ أَنَّ
له بَيِّنَةٌ في الْمِصْرِ وَرُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ الْإِحْضَارُ في ذلك
الْوَقْتِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّأْخِيرِ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي وَأَخْذِ
الْكَفِيلِ لِئَلَّا يُفَوِّتَ حَقَّهُ عَسَى
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ في التَّأْجِيلِ إلَى آخِرِ
الْمَجْلِسِ الثَّانِي مَنْعًا من اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ وَهَذَا
لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ التَّأْخِيرِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ لِأَنَّ ذلك الْقَدْرَ
لَا يُعَدُّ تَأْجِيلًا وَلَا مَنْعًا من اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا ادَّعَى أَنَّ له بَيِّنَةً
حَاضِرَةً في الْمِصْرِ ولم يَجِدْ أَحَدًا يَبْعَثُهُ إلَى الشُّهُودِ فإن
الْقَاضِيَ يَبْعَثُ معه من الشُّرَطِ من يَحْفَظْهُ وَلَا يَتْرُكْهُ حتى يُقِرَّ
فَإِنْ لم يَجِدْ ضُرِبَ الْحَدُّ
وَلَوْ ضُرِبَ بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ أَقَامَ الْقَاذِفُ الْبَيِّنَةَ على صِدْقِ
مَقَالَتِهِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَسَقَطَتْ بَيِّنَةُ الْجَلَدَاتِ وَلَا
تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ وَيُقَامُ حَدُّ الزِّنَا على الْمَقْذُوفِ كما لو
أَقَامَهَا قبل أَنْ يُضْرَبَ الْحَدَّ أَصْلًا وَلَوْ ضُرِبَ الْحَدَّ
بِتَمَامِهِ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على زِنَا الْمَقْذُوفِ قُبِلَتْ
بَيِّنَتُهُ وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْقَبُولِ في جَوَازِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ وَأَنْ
لَا يَصِيرَ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَكُنْ
____________________
(7/53)
مَحْدُودًا
في الْقَذْفِ حَقِيقَةً حَيْثُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْذُوفَ لم يَكُنْ مُحْصَنًا
لِأَنَّ من شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ الْعِفَّةُ عن الزِّنَا وقد ظَهَرَ زِنَاهُ
بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ فلم يَصِرْ الْقَاذِفُ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ وَلَا
يَظْهَرُ أَثَرُ قَبُولِ هذه الشَّهَادَةِ في إقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا على
الْمَقْذُوفِ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَذْفِ قد تَقَرَّرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ على
الْقَاذِفِ
وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا فقال يا ابْنَ الزَّانِيَةِ ثُمَّ ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّ
أُمَّ الْمَقْذُوفِ أَمَةٌ أو نَصْرَانِيَّةٌ وَالْمَقْذُوفُ يقول هِيَ حُرَّةٌ
مُسْلِمَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ وَعَلَى الْمَقْذُوفِ إقَامَةُ
الْبَيِّنَةِ على الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ
وَكَذَلِكَ لو قَذَفَ إنْسَانًا في نَفْسِهِ ثُمَّ ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّ
الْمَقْذُوفَ عَبْدٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ
وَكَذَلِكَ لو قال الْقَاذِفُ أنا عَبْدٌ وَعَلَيَّ حَدُّ الْعَبْدِ وقال الْمَقْذُوفُ
أَنْت حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ وَإِنْ كان هو
الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ دَارُ الْأَحْرَارِ
لَكِنَّ الظَّاهِرَ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ على الْغَيْرِ فَلَا بُدَّ من
الْإِتْيَانِ بِالْبَيِّنَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ قَذَفَ أُمَّ رَجُلٍ فَإِنْ كان الْقَاضِي
يَعْرِفُ أُمَّهُ حُرَّةً مُسْلِمَةً جَلَدَ الْقَاذِفَ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ
وَالْإِسْلَامَ يَثْبُتَانِ بِالْبَيِّنَةِ فَعِلْمُ الْقَاضِي أَوْلَى لِأَنَّهُ
فَوْقَ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ من شَرَائِطِ
الْإِحْصَانِ وَالْإِحْصَانُ شَرْطُ الْوُجُوبِ وَالْقَاضِي يَقْضِي بِعِلْمِهِ
بِسَبَبِ وُجُوبِ هذا الْحَدِّ فَلَأَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ بِشَرْطِ الْوُجُوبِ
أَوْلَى
فَإِنْ لم يَعْلَمْ الْقَاضِي حَبَسَهُ في السِّجْنِ حتى يَأْتِيَ بِالْبَيِّنَةِ
لِأَنَّهُ ظَهَرَ منه الْقَذْفُ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ سَوَاءٌ كان
الْمَقْذُوفُ أُمَّهُ حُرَّةً أو أَمَةً فَجَازَ أَنْ يَسْتَوْثِقَ منه
بِالْحَبْسِ وَإِنْ لم تُقَمْ بَيِّنَتُهُ أَخَذَ منه كَفِيلًا أو أَخْرَجَهُ
وَأَخَذَ الْكَفِيلَ على مَذْهَبِهِ
فَأَمَّا على مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَلَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ
على ما بَيَّنَّا وَلَا يُعَزِّرُهُ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ من الْقَاضِي حُكْمٌ
بِإِبْطَالِ إحْصَانِ الْمَقْذُوفِ لِأَنَّ قَذْفَ الْمُحْصَنِ يُوجِبُ الْحَدَّ
لَا التَّعْزِيرَ وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِإِبْطَالِ الْإِحْصَانِ
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ على الْقَذْفِ وَاخْتَلَفَا في مَكَانِ الْقَذْفِ أو
زَمَانِهِ بِأَنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قُذِفَ في مَكَانِ كَذَا وَشَهِدَ
الْآخَرُ أَنَّهُ قُذِفَ في مَكَان آخَرَ أو شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قُذِفَ
يوم الْخَمِيسِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قُذِفَ يوم الْجُمُعَةِ قُبِلَتْ
شَهَادَتُهُمَا وَوَجَبَ الْحَدُّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
وَعِنْدَهُمَا لَا تُقْبَلُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُمَا شَهِدَا بِقَذْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِأَنَّ
الْقَذْفَ في هذا الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ يُخَالِفُ الْقَذْفَ في مَكَان آخَرَ
وَزَمَانٍ آخَرَ فَقَدْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَذْفٍ غَيْرِ الْقَذْفِ
الذي شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ وَلَيْسَ على أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ فَلَا
يَثْبُتُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ اخْتِلَافَ مَكَانِ الْقَذْفِ
وَزَمَانِهِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْقَذْفِ لِجَوَازِ أَنَّهُ كَرَّرَ
الْقَذْفَ الْوَاحِدَ في مَكَانَيْنِ وَزَمَانَيْنِ
لِأَنَّ الْقَذْفَ من بَابِ الْكَلَامِ وَالْكَلَامُ مِمَّا يَحْتَمِلُ
التَّكْرَارَ وَالْإِعَادَةَ وَالْمُعَادُ عَيْنُ الْأَوَّلِ حُكْمًا وَإِنْ كان
غَيْرَهُ حَقِيقَةً فَكَانَ الْقَذْفُ وَاحِدًا فَقَدْ اجْتَمَعَ عليه شَهَادَةُ
شَاهِدَيْنِ
وَإِنْ اتَّفَقَا في الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَاخْتَلَفَا في الْإِنْشَاءِ
وَالْإِقْرَارِ بِأَنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهُ في هذا الْمَكَانِ يوم
الْجُمُعَةِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهُ في هذا الْمَكَانِ يوم
الْجُمُعَةِ لَا تُقْبَلُ وَلَا حَدَّ عليه في قَوْلِهِمْ جميعا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ
أَنْ تَقْبَلَ وَيُحَدُّ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ اخْتِلَافَ كَلَامِهِمَا في الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ
لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْقَذْفِ كما إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِإِنْشَاءِ
الْبَيْعِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا
كَذَا هذا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِنْشَاءَ مع الْإِقْرَارِ أَمْرَانِ
مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْإِنْشَاءَ إثْبَاتُ أَمْرٍ لم يَكُنْ
وَالْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عن أَمْرٍ كان فَكَانَا مُخْتَلِفَيْنِ حَقِيقَةً فَكَانَ
الْمَشْهُودُ بِهِ مُخْتَلِفًا وَلَيْسَ على أَحَدِهِمَا شاهدين ( ( ( شاهدان ) )
) فَلَا تُقْبَلُ
وَنَظِيرُهُ من قال لِامْرَأَتِهِ زَنَيْتِ قبل أَنْ أَتَزَوَّجَكِ فَعَلَيْهِ
اللِّعَانُ لَا الْحَدُّ
وَلَوْ قال لها قَذَفْتُكِ بِالزِّنَا قبل أَنْ أَتَزَوَّجَكِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ
لَا اللِّعَانُ لِأَنَّ قَوْلَهُ زَنَيْتُ إنْشَاءُ الْقَذْفِ فَكَانَ قَاذِفًا
لها لِلْحَالِ وَهِيَ لِلْحَالِ زَوْجَتُهُ وَقَذْفُ الزَّوْجِ يُوجِبُ اللِّعَانَ
لَا الْحَدَّ
وَقَوْلُهُ قَذَفْتُكِ بِالزِّنَا إقْرَارٌ منه بِقَذْفٍ كان منه قبل التَّزَوُّجِ
وَهِيَ كانت أَجْنَبِيَّةً قبل التَّزَوُّجِ وَقَذْفُ الْأَجْنَبِيَّةِ يُوجِبُ
الْحَدَّ لَا اللِّعَانَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَمَنْ لَا يَمْلِكُهَا
فَنَقُولُ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى الْمَقْذُوفُ لَا يَخْلُو
إمَّا أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا
فَإِنْ كان حَيًّا فَلَا خُصُومَةَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ وَإِنْ كان وَلَدَهُ أو
وَالِدَهُ وَسَوَاءٌ كان حَاضِرًا أو غَائِبًا لِأَنَّهُ إذَا كان حَيًّا وَقْتَ
الْقَذْفِ كان هو الْمَقْذُوفُ صُورَةً وَمَعْنًى بِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِ
فَكَانَ حَقُّ الْخُصُومَةِ له وَهَلْ تَجُوزُ الْإِنَابَةُ في هذه الْخُصُومَةِ
وهو التَّوْكِيلُ بِالْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه عِنْدَهُمَا يَجُوزُ وقال أبو يُوسُفَ
____________________
(7/54)
لَا
يَجُوزُ وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ في كِتَابِ الْوَكَالَةِ
وَلَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فيه بِالِاسْتِيفَاءِ عِنْدَنَا خِلَافًا
لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ حَضْرَةَ
الْمَقْذُوفِ بِنَفْسِهِ شَرْطُ جَوَازِ الِاسْتِيفَاءِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ ليس
بِشَرْطٍ وَتَقُومُ حَضْرَةُ الْوَكِيلِ مَقَامَ حَضْرَتِهِ على أَنَّ هذا
الْحَدَّ عِنْدَهُ حَدُّ الْمَقْذُوفِ على الْخُلُوصِ فَتَجْرِي فيه النِّيَابَةُ
في الْإِثْبَاتِ وَالِاسْتِيفَاءِ جميعا
وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ عِنْدَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ
اسْتِيفَاءٌ مع الشُّبْهَةِ لِجَوَازِ أَنَّهُ لو كان حَاضِرًا لَصَدَّقَ
الْقَاذِفَ في قَذْفِهِ وَالْحُدُودُ لَا تُسْتَوْفَى مع الشُّبُهَاتِ
وَلَوْ كان الْمَقْذُوفُ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ ثُمَّ مَاتَ قبل الْخُصُومَةِ أو
بَعْدَهَا سَقَطَ الْحَدُّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ بِنَاءً على أَنَّ
حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُورَثُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُورَثُ وَسَتَأْتِي
الْمَسْأَلَةُ في مَوْضِعِهَا
هذا إذَا كان حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ
وَأَمَّا إذَا كان مَيِّتًا فَلَا خِلَافَ في أَنَّ لِوَلَدِهِ ذَكَرًا كان أو
أُنْثَى وَلِابْنِ ابْنِهِ وَبِنْتِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلُوا وَلِوَالِدِهِ وَإِنْ
عَلَا أَنْ يُخَاصِمَ الْقَاذِفَ في الْقَذْفِ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَذْفِ هو
إلْحَاقُ الْعَارِ بِالْمَقْذُوفِ وَالْمَيِّتُ ليس بِمَحِلٍّ لِإِلْحَاقِ
الْعَارِ بِهِ فلم يَكُنْ مَعْنَى الْقَذْفِ رَاجِعًا إلَيْهِ بَلْ إلَى فُرُوعِهِ
وَأُصُولِهِ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمْ الْعَارُ بِقَذْفِ الْمَيِّتِ لِوُجُودِ
الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ وَقَذْفُ الْإِنْسَانِ يَكُونُ قَذْفًا
لِأَجْزَائِهِ فَكَانَ الْقَذْفُ بِهِمْ من حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَثْبُتُ لهم
حَقُّ الْخُصُومَةِ لِدَفْعِ الْعَارِ عن أَنْفُسِهِمْ بِخِلَافِ ما إذَا كان
الْمَقْذُوفُ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ ثُمَّ مَاتَ إنه ليس لِلْوَلَدِ
وَالْوَالِدِ حَقُّ الْخُصُومَةِ بَلْ يَسْقُطُ لِأَنَّ الْقَذْفَ أُضِيفَ إلَيْهِ
وهو كان مَحِلًّا قَابِلًا لِلْقَذْفِ صُورَةً وَمَعْنًى بِإِلْحَاقِ الْعَارِ
بِهِ فَانْعَقَدَ الْقَذْفُ مُوجِبًا حَقَّ الْخُصُومَةِ له خَاصَّةً فَلَوْ
انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهِ لَانْتَقَلَ إلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ
وَهَذَا الْحَدُّ لَا يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ لِمَا نَذْكُرُ فَسَقَطَ ضَرُورَةً
وَلَا خِلَافَ في أَنَّ الأخوة وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامَ وَالْعَمَّاتِ
وَالْأَخْوَالَ وَالْخَالَاتِ لَا يَمْلِكُونَ الْخُصُومَةَ
لِأَنَّ الْعَارَ لَا يَلْحَقُهُمْ لِانْعِدَامِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ
فَالْقَذْفُ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى وَكَذَا ليس لِمَوْلَى
الْعَتَاقَةِ وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ لِأَنَّ الْقَذْفَ لم يَتَنَاوَلْهُ صُورَةً
وَمَعْنًى بِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِ
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في أَوْلَادِ الْبَنَاتِ أَنَّهُمْ
هل يَمْلِكُونَ الْخُصُومَةَ عِنْدَهُمَا يَمْلِكُونَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا
يَمْلِكُونَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ وَلَدَ الْبِنْتِ يُنْسَبُ إلَى أبيه لَا إلَى جَدِّهِ فلم
يَكُنْ مَقْذُوفًا مَعْنًى بِقَذْفِ جَدِّهِ
وَلَهُمَا أَنَّ مَعْنَى الْوِلَادِ مَوْجُودٌ وَالنِّسْبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ
ثَابِتَةٌ بِوَاسِطَةِ أُمِّهِ فَصَارَ مَقْذُوفًا مَعْنًى فَيَمْلِكُ
الْخُصُومَةَ وَهَلْ يُرَاعَى فيه التَّرْتِيبُ بِتَقْدِيمِ الْأَقْرَبِ على
الْأَبْعَدِ قال أَصْحَابُنَا رضي الله عنهم الثَّلَاثَةُ لَا يُرَاعَى
وَالْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ سَوَاءٌ فيه حتى كان لِابْنِ الِابْنِ أَنْ يُخَاصِمَ
فيه مع قِيَامِ الِابْنِ الصُّلْبِيِّ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُرَاعَى
فيه التَّرْتِيبُ وَتَثْبُتُ لِلْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ وَلَيْسَ لِلْأَبْعَدِ
حَقُّ الْخُصُومَةِ وَالْمُطَالَبَةِ بِالْقَذْفِ لِإِلْحَاقِ الْعَارِ
بِالْمُخَاصِمِ وَلَا شَكَّ أَنَّ عَارَ الْأَقْرَبِ يَزِيدُ على الْأَبْعَدِ
فَكَانَ أَوْلَى بِالْخُصُومَةِ
وَلَنَا أَنَّ هذا الْحَقَّ ليس يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ على مَعْنَى أَنَّهُ
يَثْبُتُ الْحَقُّ لِلْمَيِّتِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَرَثَةِ بَلْ يَثْبُتُ
لهم ابْتِدَاءً لَا بِطَرِيقِ الِانْتِقَالِ من الْمَيِّتِ إلَيْهِمْ لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَيِّتَ بِالْمَوْتِ خَرَجَ عن احْتِمَالِ لُحُوقِ الْعَارِ بِهِ
فلم يَكُنْ ثُبُوتُ الْحَقِّ لهم بِطَرِيقِ الْإِرْثِ فَلَا يُرَاعَى فيه
الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ وَكَذَا لَا يُرَاعَى فيه إحْصَانُ الْمُخَاصِمِ بَلْ
الشَّرْطُ إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ حتى لو كان
الْوَلَدُ أو الْوَالِدُ عَبْدًا أو ذِمِّيًّا فَلَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ إحْصَانُ الْمُخَاصِمِ شَرْطٌ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ
وَلَا الْكَافِرِ أَنْ يُخَاصِمَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ إثْبَاتَ حَقِّ الْخُصُومَةِ له لِصَيْرُورَتِهِ مَقْذُوفًا
مَعْنًى بِإِضَافَةِ الْقَذْفِ إلَى الْمَيِّتِ وَلَوْ أُضِيفَ إلَيْهِ الْقَذْفُ
ابْتِدَاءً لَا يَجِبُ الْحَدُّ فَهَهُنَا أَوْلَى
وَلَنَا أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ لَعَيْنِ الْقَذْفِ بَلْ لِلُحُوقِ عَارٍ
كَامِلٍ بِالْمَقْذُوفِ وَإِنْ كان الْمَيِّتُ مُحْصَنًا فَقَدْ لَحِقَ الْوَلَدَ
عَارٌ كَامِلٌ فَلَا يُشْتَرَطُ إحْصَانُهُ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ لِلُحُوقِ عَارٍ
كَامِلٍ بِهِ وقد لَحِقَهُ بِدُونِهِ
وَلَوْ كان الْوَارِثُ قَتَلَهُ حتى حُرِمَ الْمِيرَاثَ فَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَ
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هذا الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ
وَلَوْ قَذَفَ رَجُلٌ أُمَّ ابْنِهِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ فَلَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ
يُخَاصِمَ أَبَاهُ لِأَنَّ الْأَبَ لو قَذَفَ وَلَدَهُ وهو حَيٌّ مُحْصَنٌ ليس
لِلْوَلَدِ أَنْ يُخَاصِمَ أَبَاهُ تَعْظِيمًا له فَفِي قَذْفِ الْأُمِّ
الْمَيِّتَةِ أَوْلَى
وَكَذَلِكَ الْمَوْلَى إذَا قَذَفَ أُمَّ عَبْدِهِ وَهِيَ حُرَّةٌ مَيِّتَةٌ
فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُخَاصِمَ مَوْلَاهُ في الْقَذْفِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ
مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ على شَيْءٍ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَاتُ الْحُدُودِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ لَا
خِلَافَ في حَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ وَالسَّرِقَةِ أَنَّهُ لَا
يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ وَالصُّلْحَ وَالْإِبْرَاءَ بعدما ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ
لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا لَا حَقَّ لِلْعَبْدِ فيه فَلَا يَمْلِكُ
إسْقَاطَهُ
وَكَذَا يَجْرِي
____________________
(7/55)
فيه
التَّدَاخُلُ حتى لو زنا مِرَارًا أو شَرِبَ الْخَمْرَ مِرَارًا أو سَكِرَ
مِرَارًا لَا يَجِبُ عليه إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من إقَامَةِ
الْحَدِّ هو الزَّجْرُ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِحَدٍّ وَاحِدٍ فَكَانَ في الثَّانِي
وَالثَّالِثِ احْتِمَالُ عَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ فَكَانَ فيه احْتِمَالُ
عَدَمِ الْفَائِدَةِ وَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحَدِّ مع احْتِمَالِ عَدَمِ
الْفَائِدَةِ
وَلَوْ زنا أو شَرِبَ أو سَكِرَ أو سَرَقَ فَحُدَّ ثُمَّ زنا أو شَرِبَ أو سَرَقَ
يُحَدُّ ثَانِيًا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ لم يَحْصُلْ
وَكَذَا إذَا سَرَقَ سَرِقَاتٍ من أُنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ فَخَاصَمُوا جميعا
فَقُطِعَ لهم كان الْقَطْعُ عن السَّرِقَاتِ كُلِّهَا وَالْكَلَامُ في الضَّمَانِ
نَذْكُرُهُ في كِتَابِ السَّرِقَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ إذَا ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا لَا
يَجُوزُ الْعَفْوُ عنه وَالْإِبْرَاءُ وَالصُّلْحُ
وَكَذَلِكَ إذَا عَفَا الْمَقْذُوفُ قبل الْمُرَافَعَةِ أو صَالَحَ على مَالٍ
فَذَلِكَ بَاطِلٌ وَيُرَدُّ بدل ( ( ( به ) ) ) الصُّلْحُ وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ
بَعْدَ ذلك
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِحُّ ذلك كُلُّهُ وهو إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَكَذَا يَجْرِي فيه التَّدَاخُلُ عِنْدَنَا حتى لو قَذَفَ إنْسَانًا بِالزِّنَا
بِكَلِمَةٍ أو قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ بِكَلَامٍ على حِدَةٍ لَا يَجِبُ عليه إلَّا
حَدٌّ وَاحِدٌ سَوَاءٌ حَضَرُوا جميعا أو حَضَرَ وَاحِدٌ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ بِكَلَامٍ على
حِدَةٍ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ على حِدَةٍ وَلَوْ ضُرِبَ الْقَاذِفُ
تِسْعَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا ثُمَّ قَذَفَ آخَرَ ضُرِبَ السَّوْطَ الْأَخِيرَ
فَقَطْ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُضْرَبُ السَّوْطَ الْأَخِيرَ لِلْأَوَّلِ
وَثَمَانِينَ سَوْطًا آخر لِلثَّانِي
وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا فَحُدَّ ثُمَّ قَذَفَ آخَرَ يُحَدُّ لِلثَّانِي بِلَا
خِلَافٍ
وَكَذَا هذا الْحَدُّ لَا يُورَثُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَعِنْدَهُمْ يُورَثُ وَيُقْسَمُ بين الْوَرَثَةِ على فَرَائِضِ اللَّهِ عز
شَأْنُهُ في قَوْلٍ وفي قَوْلٍ يُقْسَمُ بين الْوَرَثَةِ إلَّا الزَّوْجَ
وَالزَّوْجَةَ
وَالْكَلَامُ في هذا الْفَرْعِ بِنَاءً على أَصْلٍ مُخْتَلِفٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُ وهو أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أو الْمُغَلَّبُ فيه حَقُّهُ وَحَقُّ الْعَبْدِ مَغْلُوبٌ عِنْدَنَا
وَعِنْدَهُ هو حَقُّ الْعَبْدِ أو الْمُغَلَّبُ حَقُّ الْعَبْدِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ هذا الْحَدِّ هو الْقَذْفُ وَالْقَذْفُ
جِنَايَةٌ على عِرْضِ الْمَقْذُوفِ بِالتَّعَرُّضِ وَعِرْضُهُ حَقُّهُ بِدَلِيلِ
أَنَّ بَدَلَ نَفْسِهِ حَقُّهُ وهو الْقِصَاصُ في الْعَمْدِ أو الدِّيَةُ في
الْخَطَأِ فَكَانَ الْبَدَلُ حَقَّهُ وَالْجَزَاءُ الْوَاجِبُ على حَقِّ
الْإِنْسَانِ حَقُّهُ كَالْقِصَاصِ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فيه
الدَّعْوَى وَالدَّعْوَى لَا تُشْتَرَطُ في حُقُوقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
كَسَائِرِ الْحُقُوقِ إلَّا أَنَّهُ لم يُفَوَّضْ اسْتِيفَاؤُهُ إلَى الْمَقْذُوفِ
لِأَجْلِ التُّهْمَةِ لِأَنَّ ضَرْبَ الْقَذْفِ أَخَفُّ الضَّرَبَاتِ في الشَّرْعِ
فَلَوْ فُوِّضَ إلَيْهِ إقَامَةُ هذا الْحَدِّ فَرُبَّمَا يُقِيمُهُ على وَجْهِ
الشِّدَّةِ لِمَا لَحِقَهُ من الْغَيْظِ بِسَبَبِ الْقَذْفِ فَفُوِّضَ
اسْتِيفَاؤُهُ إلَى الْإِمَامِ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ لَا لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ
تَعَالَى عز شَأْنُهُ
وَلَنَا أَنَّ سَائِرَ الْحُدُودِ إنَّمَا كانت حُقُوقَ اللَّهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى على الْخُلُوصِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ لِمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَهِيَ
دَفْعُ فَسَادٍ يَرْجِعُ إلَيْهِمْ وَيَقَعُ حُصُولُ الصِّيَانَةِ لهم فَحَدُّ
الزِّنَا وَجَبَ لِصِيَانَةِ الإبضاع عن التَّعَرُّضِ وَحَدُّ السَّرِقَةِ
وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَجَبَ لِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ عن
الْقَاصِدِينَ وَحَدُّ الشُّرْبِ وَجَبَ لِصِيَانَةِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ
وَالْأَبْضَاعِ في الْحَقِيقَةِ بِوَاسِطَةِ صِيَانَةِ الْعُقُولِ عن الزَّوَالِ
وَالِاسْتِتَارِ بِالسُّكْرِ وَكُلُّ جِنَايَةٍ يَرْجِعُ فَسَادُهَا إلَى
الْعَامَّةِ وَمَنْفَعَةُ جَزَائِهَا يَعُودُ إلَى الْعَامَّةِ كان الْجَزَاءُ
الْوَاجِبُ بها حَقَّ اللَّهِ عز شَأْنُهُ على الْخُلُوصِ تَأْكِيدًا لِلنَّفْعِ
وَالدَّفْعِ كيلا يَسْقُطَ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ وهو مَعْنَى نِسْبَةِ هذه
الْحُقُوقِ إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ في
حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الصِّيَانَةِ وَدَفْعَ الْفَسَادِ يَحْصُلُ
لِلْعَامَّةِ بِإِقَامَةِ هذا الْحَدِّ فَكَانَ حَقَّ اللَّهِ عز شَأْنُهُ على
الْخُلُوصِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ شَرَطَ فيه الدَّعْوَى من
الْمَقْذُوفِ وَهَذَا لَا يَنْفِي كَوْنَهُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ
على الْخُلُوصِ كَحَدِّ السَّرِقَةِ أَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ عز شَأْنُهُ
وَإِنْ كانت الدَّعْوَى من الْمَسْرُوقِ منه شَرْطًا ثُمَّ نَقُولُ إنَّمَا شُرِطَ
فيه الدَّعْوَى وَإِنْ كان خَالِصَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عز اسْمُهُ لِأَنَّ
الْمَقْذُوفَ يُطَالِبُ الْقَاذِفَ ظَاهِرًا وغالبا دَفْعًا لِلْعَارِ عن نَفْسِهِ
فَيَحْصُلُ ما هو الْمَقْصُودُ من شَرْعِ الْحَدِّ كما في السَّرِقَةِ وَلِأَنَّ
حُقُوقَ الْعِبَادِ تَجِبُ بِطَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ إمَّا صُورَةً وَمَعْنًى
وَإِمَّا مَعْنًى لَا صُورَةً لِأَنَّهَا تَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْمَحِلِّ جَبْرًا
وَالْجَبْرُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْمِثْلِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بين الْحَدِّ
وَالْقَذْفِ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى فَلَا يَكُونُ حَقَّهُ
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَا يُعْتَبَرُ فيها
الْمُمَاثَلَةُ لِأَنَّهَا تَجِبُ جَزَاءً لِلْفِعْلِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ
وَلَنَا أَيْضًا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ
وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ لِلْإِمَامِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كان حَقَّ
الْمَقْذُوفِ لَكَانَ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ له كما في الْقِصَاصِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ يَتَنَصَّفُ بِرِقِّ الْقَاذِفِ
____________________
(7/56)
وَحَقُّ
اللَّهِ تَعَالَى هو الذي يَحْتَمِلُ التَّنْصِيفَ بِالرِّقِّ لَا حَقَّ الْعَبْدِ
لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى تَجِبُ جَزَاءً لِلْفِعْلِ وَالْجَزَاءُ
يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الْجِنَايَةِ وَيُنْتَقَصُ بِنُقْصَانِهَا وَالْجِنَايَةُ
تَتَكَامَلُ بِكَمَالِ حَالِ الْجَانِي وَتُنْتَقَصُ بِنُقْصَانِ حَالِهِ
فَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فإنه يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْمَحِلِّ وَلَا يَخْتَلِفُ
بِاخْتِلَافِ حَالِ الْجَانِي
وإذا ثَبَتَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا أو
الْمُغَلَّبُ فيه حَقُّهُ فَنَقُولُ لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عنه لِأَنَّ الْعَفْوَ
إنَّمَا يَكُونُ من صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ وَالِاعْتِيَاضُ
لِأَنَّ الِاعْتِيَاضَ عن حَقِّ الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ وَلَا يَجْرِي فيه
الْإِرْثُ لِأَنَّ الْإِرْثَ إنَّمَا يَجْرِي في الْمَتْرُوكِ من مِلْكٍ أو حَقٍّ
لِلْمُوَرَّثِ على ما قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من تَرَكَ مَالًا أو
حَقًّا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ ولم يُوجَدْ شَيْءٌ من ذلك فَلَا يُوَرَّثُ وَلَا
يَجْرِي فيه التَّدَاخُلُ لِمَا ذَكَرْنَا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ منها فَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ في
حَدِّ الزِّنَا إذَا لم يَكُنْ الزَّانِي مُحْصَنًا مِائَةُ جَلْدَةٍ إنْ كان
حُرًّا وَإِنْ كان مَمْلُوكًا فَخَمْسُونَ لِقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { فإذا
أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما على
الْمُحْصَنَاتِ من الْعَذَابِ } وَلِأَنَّ الْعُقُوبَةَ على قَدْرِ الْجِنَايَةِ
وَالْجِنَايَةُ تَزْدَادُ بِكَمَالِ حَالِ الْجَانِي وَتَنْتَقِصُ بِنُقْصَانِ
حَالِهِ وَالْعَبْدُ أَنْقَصُ حَالًا من الْحُرِّ لِاخْتِصَاصِ الْحُرِّ
بِنِعْمَةِ الْحُرِّيَّةِ فَكَانَتْ جِنَايَتُهُ أَنْقَصَ وَنُقْصَانُ
الْجِنَايَةِ يُوجِبُ نُقْصَانَ الْعُقُوبَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ على
قَدْرِ الْعِلَّةِ
هذا أَمْرٌ مَعْقُولٌ إلَّا أَنَّ التَّنْقِيصَ بِالتَّنْصِيفِ في غَيْرِهِ من
الْمَقَادِيرِ ثَبَتَ شَرْعًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ ما على الْمُحْصَنَاتِ من الْعَذَابِ } وفي حَدِّ الشُّرْبِ وَالسُّكْرِ
وَالْقَذْفِ ثَمَانُونَ في الْحُرِّ وَأَرْبَعُونَ في الْعَبْدِ لِمَا قُلْنَا وفي
حَدِّ السَّرِقَةِ لَا يَخْتَلِفُ قَدْرُ الْوَاجِبِ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ
لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَلَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ في
شَيْءٍ من الْحُدُودِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ إقَامَتِهَا فَمِنْهَا ما يَعُمُّ الْحُدُودَ
كُلَّهَا وَمِنْهَا ما يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ
أَمَّا الذي يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا فَهُوَ الْإِمَامَةُ وهو أَنْ يَكُونَ
الْمُقِيمُ لِلْحَدِّ هو الْإِمَامُ أو من وَلَّاهُ الْإِمَامُ وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هذا ليس بِشَرْطٍ وَلِلرَّجُلِ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ على
مَمْلُوكِهِ إذَا ظَهَرَ الْحَدُّ عِنْدَهُ بِالْإِقْرَارِ أَرْبَعًا عِنْدَنَا
وَمَرَّةً عِنْدَهُ وَبِالْمُعَايَنَةِ بِأَنْ رَأَى عَبْدَهُ زَنَى
بِأَجْنَبِيَّةٍ
وَلَوْ ظَهَرَ عِنْدَهُ بِالشُّهُودِ بِأَنْ شَهِدُوا عِنْدَهُ وَالْمَوْلَى من
أَهْلِ الْقَضَاءِ فَلَهُ فيه قَوْلَانِ
وَكَذَا في إقَامَةِ الْمَرْأَةِ الْحَدَّ على مَمْلُوكِهَا وَإِقَامَةِ
الْمُكَاتَبِ الْحَدَّ على عَبْدٍ من أَكْسَابِهِ له فيه قَوْلَانِ
احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ
أَنَّهُ قال أَقِيمُوا الْحُدُودَ على ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَهَذَا نَصٌّ
وَرُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال إذَا زَنَتْ أَمَةُ
أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا فَإِنْ عَادَتْ فَلْيَجْلِدْهَا فَإِنْ عَادَتْ
فَلْيَجْلِدْهَا فَإِنْ عَادَتْ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ أَيْ بِحَبْلٍ
وَهَذَا أَيْضًا نَصٌّ في الْبَابِ وَلِأَنَّ السُّلْطَانَ إنَّمَا مَلَكَ
الْإِقَامَةَ لِتَسَلُّطِهِ على الرَّعِيَّةِ وَتَسَلُّطُ الْمَوْلَى على
مَمْلُوكِهِ فَوْقَ تَسَلُّطِ السُّلْطَانِ على رَعِيَّتِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عليه بِالدَّيْنِ وَيَمْلِكُ عليه التَّصَرُّفَاتِ
وَالْإِمَامُ لَا يَمْلِكُ شيئا من ذلك فلما ثَبَتَ الْجَوَازُ لِلسُّلْطَانِ
فَالْمَوْلَى أَوْلَى وَلِهَذَا مَلَكَ إقَامَةَ التَّعْزِيرِ عليه كَذَا الْحَدُّ
وَلَنَا أَنَّ وِلَايَةَ إقَامَةِ الْحُدُودِ ثَابِتَةٌ لِلْإِمَامِ بِطَرِيقِ
التَّعْيِينِ وَالْمَوْلَى لَا يُسَاوِيهِ فِيمَا شُرِعَ له بِهَذِهِ الْوِلَايَةِ
فَلَا يَثْبُتُ له وِلَايَةُ الْإِقَامَةِ اسْتِدْلَالًا بِوِلَايَةِ إنْكَاحِ
الصِّغَارِ وَالصَّغَائِرِ لِأَنَّهَا لَمَّا ثَبَتَتْ لِلْأَقْرَبِ لم تَثْبُتْ
لِمَنْ لَا يُسَاوِيهِ فِيمَا شُرِعَ له الْوِلَايَةُ وهو الْأَبْعَدُ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ وِلَايَةَ إقَامَةِ الْحَدِّ إنَّمَا ثَبَتَتْ لِلْإِمَامِ
لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ وَهِيَ صِيَانَةُ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
وَأَعْرَاضِهِمْ لِأَنَّ الْقُضَاةَ يَمْتَنِعُونَ من التَّعَرُّضِ خَوْفًا من
إقَامَةِ الْحَدِّ عليهم وَالْمَوْلَى لَا يُسَاوِي الْإِمَامَ في هذا الْمَعْنَى
لِأَنَّ ذلك يَقِفُ على الْإِمَامَةِ وَالْإِمَامُ قَادِرٌ على الْإِقَامَةِ
لِشَوْكَتِهِ وَمَنَعَتِهِ وَانْقِيَادِ الرَّعِيَّةِ له قَهْرًا وَجَبْرًا وَلَا
يَخَافُ تَبِعَةَ الْجُنَاةِ وَأَتْبَاعِهِمْ لِانْعِدَامِ الْمُعَارَضَةِ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ وَتُهْمَةُ الْمَيْلِ وَالْمُحَابَاةِ
وَالْتَوَانِي عن الْإِقَامَةِ مُنْتَفِيَةٌ في حَقِّهِ فَيُقِيمُ على وَجْهِهَا
فَيَحْصُلُ الْغَرَضُ الْمَشْرُوعُ له الْوِلَايَةُ بِيَقِينٍ
وَأَمَّا الْمَوْلَى فَرُبَّمَا يَقْدِرُ على الْإِقَامَةِ نَفْسِهَا وَرُبَّمَا
لَا يَقْدِرُ لِمُعَارَضَةِ الْعَبْدِ إيَّاهُ وَلِأَنَّهُ رَقَبَانِيٌّ مِثْلُهُ
يُعَارِضُهُ فَيَمْنَعُهُ عن الْإِقَامَةِ خُصُوصًا عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ على
نَفْسِهِ فَلَا يَقْدِرُ على الْإِقَامَةِ
وَكَذَا الْمَوْلَى يَخَافُ على نَفْسِهِ وَمَالِهِ من الْعَبْدِ الشِّرِّيرِ لو
قَصَدَ إقَامَةَ الْحَدِّ عليه أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ أَمْوَالِهِ وَيَقْصِدَ
إهْلَاكَهُ وَيَهْرُبَ منه فَيَمْتَنِعُ عن الْإِقَامَةِ
وَلَوْ قَدَرَ على الْإِقَامَةِ فَقَدْ يُقِيمُ
____________________
(7/57)
وقد
لَا يُقِيمُ لِمَا في الْإِقَامَةِ من نُقْصَانِ قِيمَتِهِ بِسَبَبِ عَيْبِ
الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ أو يَخَافُ سِرَايَةَ الْجَلَدَاتِ إلَى الْهَلَاكِ
وَالْمَرْءُ مَجْبُولٌ على حُبِّ الْمَالِ
وَلَوْ أَقَامَ فَقَدْ يُقِيمُ على الْوَجْهِ وقد لَا يُقِيمُ على الْوَجْهِ بَلْ
من حَيْثُ الصُّورَةُ فَلَا يَحْصُلُ الزَّجْرُ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَوْلَى لَا
يُسَاوِي الْإِمَامَ في تَحْصِيلِ ما شُرِعَ له إقَامَةُ الْحَدِّ فَلَا
يُزَاحِمُهُ في الْوِلَايَةِ بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا
أَنَّ التَّعْزِيرَ هو التعيير ( ( ( التغيير ) ) ) وَالتَّوْبِيخُ وَذَلِكَ
غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَقَدْ يَكُونُ بِالْحَبْسِ وقد يَكُونُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ
وَتَعْبِيسِ الْوَجْهِ وقد يَكُونُ بِضَرْبِ أَسْوَاطٍ على حَسَبِ الْجِنَايَةِ
وَحَالِ الْجَانِي لِمَا نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ وَالْمَوْلَى يُسَاوِي
الْإِمَامَ في هذا لِأَنَّهُ من بَابِ التَّأْدِيبِ فَلَهُ قُدْرَةُ التَّأْدِيبِ
وَالْعَبْدُ يَنْقَادُ لِمِثْلِهِ لِلْمَوْلَى وَلَا يُعَارِضُهُ فَالْمَوْلَى
أَيْضًا لَا يَمْتَنِعُ عن هذا الْقَدْرِ من الْإِيلَامِ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ
نُقْصَانًا في مَالِيَّةِ الْعَبْدِ وَلَا تعيينا ( ( ( تعييبا ) ) ) فيه
بِخِلَافِ الْحَدِّ
وَالثَّانِي أَنَّ في التَّعْزِيرِ ضَرُورَةً لَيْسَتْ في الْحَدِّ لِأَنَّ
أَسْبَابَ التَّعْزِيرِ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهَا فَيَحْتَاجُ الْمَوْلَى إلَى
أَنْ يُعَزِّرَ مَمْلُوكَهُ في كل يَوْمٍ وفي كل سَاعَةٍ
وفي الرَّفْعِ إلَى الْإِمَامِ في كل حِينٍ وَزَمَانٍ حَرَجٌ عَظِيمٌ على
الْمَوَالِي فَفُوِّضَتْ إقَامَةُ الْحَدِّ إلَى الْمَوَالِي شَرْعًا أو صَارَ
الْمَوْلَى مَأْذُونًا في ذلك من جِهَةِ الْإِمَامِ دَلَالَةً وَصَارَ نَائِبًا عن
الْإِمَامِ فيه وَلَا حَرَجَ في الْحَدِّ لِأَنَّهُ لَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ
لِانْعِدَامِ كَثْرَةِ أَسْبَابِ وُجُوبِهِ
وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِقَوْمٍ مَعْلُومِينَ
عُلِمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ منهم من طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّهُمْ
يُقِيمُونَ الْحُدُودَ من غَيْرِ تَقْصِيرٍ مِثْلُ الْأَمِيرِ وَالسُّلْطَانِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذلك خِطَابًا لِلْأَئِمَّةِ في حَقِّ عَبِيدِهِمْ
وَالتَّخْصِيصُ لِلتَّرْغِيبِ في إقَامَةِ الْحَدِّ لِمَا أَنَّ الْأَئِمَّةَ
وَالسَّلَاطِينَ لَا يُبَاشِرُونَ الْإِقَامَةَ بِأَنْفُسِهِمْ عَادَةً بَلْ
يُفَوِّضُونَهَا إلَى الْحُكَّامِ وَالْمُحْتَسَبِينَ وقد يَجِيءُ منهم في ذلك
تَقْصِيرٌ وَيُحْتَمَلُ الْإِقَامَةُ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ بِالسَّعْيِ لِرَفْعِ
ذلك إلَى الْإِمَامِ بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ وَتَخْصِيصُ الْمَوْلَى لِلتَّرْغِيبِ
لهم في الْإِقَامَةِ لِاحْتِمَالِ الْمَيْلِ وَالتَّقْصِيرِ في ذلك
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ من الْحَدِّ الْمَذْكُورِ في الحديث
التَّعْزِيرَ لِوُجُودِ مَعْنَى الْحَدِّ فيه وهو الْمَنْعُ فَلَا يَصِحُّ
الِاحْتِجَاجُ بِهِمَا مع الِاحْتِمَالِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ على إقَامَةِ الْحُدُودِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ
على اسْتِيفَاءِ الْجَمِيعِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ أَسْبَابَ وُجُوبِهَا تُوجَدُ في
أَقْطَارِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ إلَيْهَا وفي
الْإِحْضَارِ إلَى مَكَانِ الْإِمَامِ حَرَجٌ عَظِيمٌ فَلَوْ لم يَجُزْ
الِاسْتِخْلَافُ لَتَعَطَّلَتْ الْحُدُودُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِهَذَا كان عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَجْعَلُ إلَى الْخُلَفَاءِ تَنْفِيذَ الْأَحْكَامِ
وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ ثُمَّ الِاسْتِخْلَافُ نَوْعَانِ تَنْصِيصٌ وَتَوْلِيَةٌ
أَمَّا التَّنْصِيصُ فَهُوَ أَنْ يَنُصَّ على إقَامَةِ الْحُدُودِ فَيَجُوزُ
لِلْخَلِيفَةِ إقَامَتُهَا بِلَا شَكٍّ
وَأَمَّا التَّوْلِيَةُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ فَالْعَامَّةُ
هِيَ أَنْ يُوَلِّيَ رَجُلًا وِلَايَةً عَامَّةً مِثْلَ إمَارَةِ إقْلِيمٍ أو
بَلَدٍ عَظِيمٍ فَيَمْلِكُ الْمَوْلَى إقَامَةَ الْحُدُودِ وَإِنْ لم يَنُصَّ
عليها لِأَنَّهُ لَمَّا قَلَّدَهُ إمَارَةَ ذلك الْبَلَدِ فَقَدْ فَوَّضَ إلَيْهِ
الْقِيَامَ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ مُعْظَمُ
مَصَالِحِهِمْ فَيَمْلِكُهَا
وَالْخَاصَّةُ هِيَ أَنْ يُوَلِّيَ رَجُلًا وِلَايَةً خَاصَّةً مِثْلَ جِبَايَةِ
الْخَرَاجِ وَنَحْوَ ذلك فَلَا يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحُدُودِ لِأَنَّ هذه
التَّوْلِيَةَ لم تَتَنَاوَلْ إقَامَةَ الْحُدُودِ
وَلَوْ اُسْتُعْمِلَ أَمِيرٌ على الْجَيْشِ الْكَبِيرِ فَإِنْ كان أَمِيرَ مِصْرٍ
أو مَدِينَةٍ فَغَزَا بِجُنْدِهِ فإنه يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحُدُودِ في
مُعَسْكَرِهِ لِأَنَّهُ كان يَمْلِكُ الْإِقَامَةَ في بَلَدِهِ فإذا خَرَجَ
بِأَهْلِهِ أو بِبَعْضِهِمْ مَلَكَ عليهم ما كان يَمْلِكُ فِيهِمْ قبل الْخُرُوجِ
وَأَمَّا من أَخْرَجَهُ أَمِيرُ الْبَلَدِ غَازِيًا فما كان يَمْلِكُ إقَامَةَ
الْحَدِّ عليهم قبل الْخُرُوجِ وَبَعْدَ الْخُرُوجِ لم يُفَوِّضْ إلَيْهِ
الْإِقَامَةَ فَلَا يَمْلِكُ الْإِقَامَةَ وَالْإِمَامُ الْعَدْلُ له أَنْ يُقِيمَ
الْحُدُودَ وَيُنْفِذَ الْقَضَاءَ في مُعَسْكَرِهِ كما له أَنْ يَفْعَلَ ذلك في
الْمِصْرِ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً على جَمِيعِ دَارِ الْإِسْلَامِ ثَابِتَةً
وَكَذَا إذَا اُسْتُعْمِلَ قَاضِيًا له أَنْ يَفْعَلَ ذلك في الْمُعَسْكَرِ
لِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَمِنْهَا الْبِدَايَةُ من
الشُّهُودِ في حَدِّ الرَّجْمِ إذَا ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ حتى لو امْتَنَعَ
الشُّهُودُ عن الْبِدَايَةِ أو مَاتُوا أو غَابُوا كلهم أو بَعْضُهُمْ لَا يُقَامُ
الرَّجْمُ على الْمَشْهُودِ عليه
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي
يُوسُفَ اسْتِحْسَانًا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أنها لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَيُقَامُ
الرَّجْمُ على الْمَشْهُودِ عليه وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وهو
الْقِيَاسُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الشُّهُودَ فِيمَا وَرَاءَ الشَّهَادَةِ وَسَائِرَ الناس
سَوَاءٌ ثُمَّ لَا تُشْتَرَطُ الْبِدَايَةُ من أَحَدٍ منهم فَكَذَا من الشُّهُودِ
وَلِأَنَّ الرَّجْمَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْحَدِّ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ
وهو الْجَلْدُ وَالْبِدَايَةُ من الشُّهُودِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فيه
كَذَا في الرَّجْمِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال يَرْجُمُ
الشُّهُودُ أَوَّلًا ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ الناس وَكَلِمَةُ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ
وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي
____________________
(7/58)
اللَّهُ
عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا
وَلِأَنَّ في اعْتِبَارِ الشَّرْطِ احْتِيَاطًا في درىء ( ( ( درء ) ) ) الْحَدِّ
لِأَنَّ الشُّهُودَ إذَا بدؤا ( ( ( بدءوا ) ) ) بِالرَّجْمِ رُبَّمَا
اسْتَعْظَمُوا فِعْلَهُ فَيَحْمِلُهُمْ ذلك على الرُّجُوعِ عن الشَّهَادَةِ
فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عن الْمَشْهُودِ عليه بِخِلَافِ الْجَلْدِ لِأَنَّا إنَّمَا
عَرَفْنَا الْبِدَايَةَ شَرْطًا اسْتِحْسَانًا بِالْأَثَرِ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ
عليه وَالْأَثَرُ وَرَدَ في الرَّجْمِ خَاصَّةً فَيَبْقَى أَمْرُ الْجَلْدِ على
أَصْلِ الْقِيَاسِ وَلِأَنَّ الْجَلْدَ لَا يُحْسِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ فَفُوِّضَ
اسْتِيفَاؤُهُ إلَى الْأَئِمَّةِ بِخِلَافِ الرَّجْمِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَهْلِيَّةُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِلشُّهُودِ عِنْدَ الْإِقَامَةِ في
الْحُدُودِ كُلِّهَا حتى لو بَطَلَتْ الْأَهْلِيَّةُ بِالْفِسْقِ أو الرِّدَّةِ أو
الْجُنُونِ أو الْعَمَى أو الْخَرَسِ أو حَدِّ الْقَذْفِ بِأَنْ فَسَقَ الشُّهُودُ
أو ارْتَدُّوا أو جُنُّوا أو عَمُوا أو خَرِسُوا أو ضُرِبُوا حَدَّ الْقَذْفِ كلهم
أو بَعْضُهُمْ لَا يُقَامُ الْحَدُّ على الْمَشْهُودِ عليه لِأَنَّ اعْتِرَاضَ
أَسْبَابِ الْجَرْحِ على الشَّهَادَةِ عِنْدَ إمْضَاءِ الْحَدِّ بِمَنْزِلَةِ
اعْتِرَاضِهَا عِنْدَ الْقَضَاءِ بِهِ وَاعْتِرَاضُهَا عِنْدَ الْقَضَاءِ يُبْطِلُ
الشَّهَادَةَ فَكَذَا عِنْدَ الْإِمْضَاءِ في بَابِ الْحُدُودِ عن الْقَضَاءِ
وَأَمَّا مَوْتُ الشُّهُودِ وَغِيبَتُهُمْ عِنْدَ الْإِقَامَةِ فَلَا يَمْنَعَانِ
من الْإِقَامَةِ في سَائِرِ الْحُدُودِ إلَّا الرَّجْمُ حتى لو مَاتُوا كلهم أو
غَابُوا كلهم أو بَعْضُهُمْ يُقَامُ الْحَدُّ على الْمَشْهُودِ عليه إلَّا
الرَّجْمَ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا من أَسْبَابِ الْجَرْحِ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ
الشَّهَادَةِ لَا تُبْطَلُ بِالْمَوْتِ وَالْغَيْبَةِ بَلْ تَتَنَاهَى
وَتَتَقَرَّرُ وَتُخْتَمُ بها الْعَدَالَةُ على وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْجَرْحَ
وفي حَدِّ الرَّجْمِ إنَّمَا يَمْنَعَانِ الْإِقَامَةَ لَا لِأَنَّهُمَا
يُجَرِّحَانِ في الشَّهَادَةِ بَلْ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ من الشُّهُودِ شَرْطُ
جَوَازِ الْإِقَامَةِ ولم تُوجَدْ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في الشُّهُودِ إذَا كَانُوا مَقْطُوعِي الْأَيْدِي أو
بِهِمْ مَرَضٌ لَا يَسْتَطِيعُونَ الرَّمْيَ أَنَّ الْإِمَامَ يَرْمِي ثُمَّ الناس
وَجَعَلَ قَطْعَ الْيَدِ أو الْمَرَضَ عُذْرًا في فَوَاتِ الْبِدَايَةِ ولم
يَجْعَلْ الْمَوْتَ عُذْرًا فيه وَإِنْ ثَبَتَ الرَّجْمُ بِالْإِقْرَارِ يَبْدَأُ
بِهِ الْإِمَامُ ثُمَّ الناس وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ في إقَامَةِ الْجَلَدَاتِ خَوْفُ الْهَلَاكِ لِأَنَّ
هذا الْحَدَّ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا فَلَا يَجُوزُ الْإِقَامَةُ في
الْحَرِّ الشَّدِيدِ وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ لِمَا في الْإِقَامَةِ فِيهِمَا من
خَوْفِ الْهَلَاكِ وَلَا يُقَامُ على مَرِيضٍ حتى يَبْرَأَ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ
عليه وَجَعُ الْمَرَضِ وَأَلَمُ الضَّرْبِ فَيُخَافُ الْهَلَاكُ وَلَا يُقَامُ على
النُّفَسَاءِ حتى يَنْقَضِيَ النِّفَاسُ لِأَنَّ النِّفَاسَ نَوْعُ مَرَضٍ
وَيُقَامُ على الْحَائِضِ لِأَنَّ الْحَيْضَ ليس بِمَرَضٍ وَلَا يُقَامُ على
الْحَامِلِ حتى تَضَعَ وَتَطْهُرَ من النِّفَاسِ لِأَنَّ فيه خَوْفَ هَلَاكِ
الْوَلَدِ وَالْوَالِدَةِ
وَيُقَامُ الرَّجْمُ في هذا كُلِّهِ إلَّا على الْحَامِلِ لِأَنَّ تَرْكَ
الْإِقَامَةِ في هذه الْأَحْوَالِ لِلِاحْتِرَازِ عن الْهَلَاكِ وَالرَّجْمُ حَدٌّ
مُهْلِكٌ فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِرَازِ عن الْهَلَاكِ فيه إلَّا أَنَّهُ لَا
يُقَامُ على الْحَامِلِ لِأَنَّ فيه إهْلَاكَ الْوَلَدِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا
يُجْمَعُ الضَّرْبُ في عُضْوٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَلَفِ ذلك
الْعُضْوِ أو إلَى تَمْزِيقِ جِلْدِهِ وَكُلُّ ذلك لَا يَجُوزُ بَلْ يُفَرَّقُ
الضَّرْبُ على جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ من الْكَتِفَيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ
وَالْعَضُدَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ إلَّا الْوَجْهَ وَالْفَرْجَ
وَالرَّأْسَ لِأَنَّ الضَّرْبَ على الْفَرْجِ مُهْلِكٌ عَادَةً
وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه مَوْقُوفًا عليه وَمَرْفُوعًا
إلَى رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال اتَّقِ وَجْهَهُ وَمَذَاكِيرَهُ وَالضَّرْبُ على
الْوَجْهِ يُوجِبُ الْمُثْلَةَ وقد نهى رسول اللَّهِ عن الْمُثْلَةِ وَالرَّأْسُ
مَجْمَعُ الْحَوَاسِّ وَفِيهِ الْعَقْلُ فَيُخَافُ من الضَّرْبِ عليه فَوَاتُ
الْعَقْلِ أو فَوَاتُ بَعْضِ الْحَوَاسِّ وَفِيهِ إهْلَاكُ الذَّاتِ من وَجْهٍ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا لَا يُضْرَبُ الصَّدْرُ وَالْبَطْنُ
وَيُضْرَبُ الرَّأْسُ سَوْطًا أو سَوْطَيْنِ
أَمَّا الصَّدْرُ وَالْبَطْنُ فَلِأَنَّ فيه خَوْفَ الْهَلَاكِ وَأَمَّا الرَّأْسُ
فَلِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه اضْرِبُوا الرَّأْسَ فإن فيه
شَيْطَانًا
وَالْجَوَابُ أَنَّ الحديث وَرَدَ في قَتْلِ أَهْلِ الْحَرْبِ خُصُوصًا قَوْمًا
كَانُوا بالشأم يَحْلِقُونَ أَوْسَاطَ رؤوسهم ثُمَّ تَفْرِيقُ الضَّرْبِ على
الْأَعْضَاءِ مَذْهَبُنَا
وقال الشَّافِعِيُّ عليه الرَّحْمَةُ يُضْرَبُ كُلُّهُ على الظَّهْرِ
وَهَذَا ليس بِسَدِيدٍ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هو الْجَلْدُ وَأَنَّهُ
مَأْخُوذٌ من ضَرْبِ الْجِلْدِ وَالضَّرْبُ على عُضْوٍ وَاحِدٍ مُمَزِّقٌ
لِلْجِلْدِ وَبَعْدَ تَمْزِيقِ الْجِلْدِ لَا يُمْكِنُ الضَّرْبُ على الْجِلْدِ
بَعْدَ ذلك وَلِأَنَّ في الْجَمْعِ على عُضْوٍ وَاحِدٍ خَوْفَ الْهَلَاكِ وَهَذَا
الْحَدُّ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ إقَامَةِ الْحُدُودِ فَأَمَّا حَدُّ الرَّجْمِ فَلَا
يَنْبَغِي أَنْ يُرْبَطَ الْمَرْجُومُ بِشَيْءٍ وَلَا أَنْ يُمْسَكَ وَلَا أَنْ
يُحْفَرَ له إذَا كان رَجُلًا بَلْ يُقَامُ قَائِمًا لِأَنَّ مَاعِزًا لم يُرْبَطْ
ولم يُمْسَكْ وَلَا حُفِرَ له
أَلَا يُرَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ هَرَبَ من أَرْضٍ قَلِيلَةِ الْحِجَارَةِ إلَى
أَرْضٍ كَثِيرَةِ الْحِجَارَةِ
وَلَوْ رُبِطَ أو مُسِكَ أو حُفِرَ له لَمَا قَدَرَ على الْهَرَبِ
وَإِنْ كان الْمَرْجُومُ امْرَأَةً فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ حَفَرَ لها وَإِنْ
شَاءَ لم يَحْفِرْ
أَمَّا الْحَفْرُ فَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لها
وقد رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَفَرَ لِلْمَرْأَةِ
الْغَامِدِيَّةِ
____________________
(7/59)
إلَى
ثَنْدُوَتِهَا وَأَخَذَ حَصَاةً مِثْلَ الْحِمَّصَةِ وَرَمَاهَا بها وَحَفَرَ
سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه لسراحة ( ( ( لشراحة ) ) ) الْهَمْذَانِيَّةِ
إلَى سُرَّتِهَا
وَأَمَّا تَرْكُ الْحَفْرِ فَلِأَنَّ الْحَفْرَ لِلسَّتْرِ وَهِيَ مَسْتُورَةٌ
بِثِيَابِهَا لِأَنَّهَا لَا تُجَرَّدُ عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَلَا بَأْسَ
لِكُلِّ من رَمَى أَنْ يَتَعَمَّدَ مَقْتَلَهُ لِأَنَّ الرَّجْمَ حَدٌّ مُهْلِكٌ
فما كان أَسْرَعُ إلَى الْهَلَاكِ كان أَوْلَى إلَّا إذَا كان الرَّامِي ذَا
رَحِمٍ مَحْرَمٍ من الْمَرْجُومِ فَلَا يُسْتَحَبُّ له أَنْ يَتَعَمَّدَ
مَقْتَلَهُ لِأَنَّهُ قَطْعُ الرَّحِمِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِأَنَّ غَيْرَهُ
يَكْفِيهِ وَيُغْنِيهِ
وقد رُوِيَ أَنَّ حَنْظَلَةَ غَسِيلَ الْمَلَائِكَةِ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ
في قَتْلِ أبيه أبي عَامِرٍ وكان مُشْرِكًا فَنَهَاهُ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ عن ذلك وقال دَعْهُ يَكْفِيكَ غَيْرُكَ
وَأَمَّا حَدُّ الْجَلْدِ فَأَشَدُّ الْحُدُودِ ضَرْبًا حَدُّ الزِّنَا ثُمَّ
حَدُّ الشُّرْبِ ثُمَّ حَدُّ الْقَذْفِ لِأَنَّ جِنَايَةَ الزِّنَا أَعْظَمُ من
جِنَايَةِ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ
أَمَّا من جِنَايَةِ الْقَذْفِ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّ الْقَذْفَ نِسْبَةٌ إلَى
الزِّنَا فَكَانَتْ دُونَ حَقِيقَةِ الزِّنَا
وَأَمَّا من جِنَايَةِ الشُّرْبِ فَلِأَنَّ قُبْحَ الزِّنَا ثَبَتَ شَرْعًا
وَعَقْلًا وَحُرْمَةُ نَفْسِ الشُّرْبِ ثَبَتَتْ شَرْعًا لَا عَقْلًا وَلِهَذَا
كان الزِّنَا حَرَامًا في الْأَدْيَانِ كُلِّهَا بِخِلَافِ الشُّرْبِ
وَكَذَا الْخَمْرُ يُبَاحُ عِنْدَ ضَرُورَةِ الْمَخْمَصَةِ وَالْإِكْرَاهِ
وَلَا يُبَاحُ الزِّنَا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ وَغَلَبَةِ الشَّبَقِ
وَكَذَا وُجُوبُ الْجَلْدِ في الزِّنَا ثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ
الْمَكْنُونِ
وَلَا نَصَّ في الشُّرْبِ وَإِنَّمَا اسْتَخْرَجَهُ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ بِالِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْقَذْفِ فَقَالُوا إذَا
سَكِرَ هذي وإذا هذي افْتَرَى وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ
وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ في حَدِّ الزِّنَا { وَلَا
تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ في دِينِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاَللَّهِ } قِيلَ في التَّأْوِيلِ أَيْ بِتَخْفِيفِ الْجَلَدَاتِ وَإِنَّمَا كان
ضَرْبُ الْقَذْفِ أَخَفَّ الضَّرْبَيْنِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ وُجُودَهُ
ثَبَتَ بِسَبَبٍ مُتَرَدِّدٍ
لِأَنَّ الْقَاذِفَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا في قَذْفِهِ وَلَا حَدَّ
عليه
وَالثَّانِي أَنَّهُ انْضَافَ إلَيْهِ رَدُّ الشَّهَادَةِ على التَّأْبِيدِ
فَجَرَى فيه نَوْعُ تَخْفِيفٍ
وَيُضْرَبُ قَائِمًا وَلَا يُمَدُّ على الْعِقَابَيْنِ وَلَا على الْأَرْضِ كما
يُفْعَلُ في زَمَانِنَا لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ بَلْ يُضْرَبُ قَائِمًا وَلَا يُمَدُّ
السَّوْطَ بَعْدَ الضَّرْبِ بَلْ يُرْفَعُ لِأَنَّ الْمَدَّ بَعْدَ الضَّرْبِ
بِمَنْزِلَةِ ضَرْبَةٍ أُخْرَى فَيَكُونُ زِيَادَةً على الْحَدِّ
وَلَا يَمُدُّ الْجَلَّادُ يَدَهُ إلَى ما فَوْقَ رَأْسِهِ لِأَنَّهُ يُخَافُ فيه
الْهَلَاكُ أو تَمْزِيقُ الْجِلْدِ
وَلَا يَضْرِبُ بِسَوْطٍ له ثَمَرَةٌ لِأَنَّ اتِّصَالَ الثَّمَرَةِ بِمَنْزِلَةِ
ضَرْبَةٍ أُخْرَى فَيَصِيرُ كُلُّ ضَرْبَةٍ بِضَرْبَتَيْنِ فَيَكُونُ زِيَادَةً
على الْقَدْرِ الْمَشْرُوعِ
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَلَّادُ عَاقِلًا بَصِيرًا بِأَمْرِ الضَّرْبِ
فَيَضْرِبُ ضَرْبَةً بين ضَرْبَتَيْنِ ليس بِالْمُبَرِّحِ وَلَا بِاَلَّذِي لَا
يُوجَدُ فيه مَسٌّ
وَيُجَرَّدُ الرَّجُلُ في حَدِّ الزِّنَا وَيُضْرَبُ على إزَارٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ
أَشَدُّ الْحُدُودِ ضَرْبًا
وَمَعْنَى الشِّدَّةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالتَّجْرِيدِ
وفي حَدِّ الشُّرْبِ يُجَرَّدُ أَيْضًا في الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ وَرُوِيَ
عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُجَرَّدُ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ ضَرْبَ الشُّرْبِ أَخَفُّ من ضَرْبِ الزِّنَا فَلَا
بُدَّ من إظْهَارِ آيَةِ التَّخْفِيفِ وَذَلِكَ بِتَرْكِ التَّجْرِيدِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ قد جَرَى التَّخْفِيفُ فيه مَرَّةً في
الضَّرْبِ فَلَوْ خَفَّفَ فيه ثَانِيًا بِتَرْكِ التَّجْرِيدِ لَا يَحْصُلُ
الْمَقْصُودُ من الْحَدِّ وهو الزَّجْرُ
وَلَا يُجَرَّدُ في حَدِّ الْقَذْفِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِسَبَبٍ
مُتَرَدِّدٍ مُحْتَمَلٌ فَيُرَاعَى فيه التَّخْفِيفُ بِتَرْكِ التَّجْرِيدِ كما
رُوعِيَ في أَصْلِ الضَّرْبِ بِخِلَافِ حَدِّ الشُّرْبِ لِأَنَّ وُجُوبَهُ ثَبَتَ بِسَبَبٍ
لَا تَرَدُّدَ فيه
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يُنْزَعُ عنها ثِيَابُهَا إلَّا الْحَشْوُ وَالْفَرْوُ
في الْحُدُودِ كُلِّهَا لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ وَتُضْرَبُ قَاعِدَةً لِأَنَّ ذلك
أَسْتَرُ لها وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ في الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا لِمَا ذَكَرْنَا
لِأَنَّ الْجَمْعَ في عُضْوٍ وَاحِدٍ يَقَعُ إهْلَاكًا لِلْعُضْوِ أو تَمْزِيقًا
أو تَخْرِيقًا لِلْجِلْدِ وَكُلُّ ذلك ليس بِمَشْرُوعٍ فَيُفَرَّقُ على
الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا إلَّا الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ وَالرَّأْسَ وقد ذَكَرْنَا
ذلك فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَا يُقَامُ شَيْءٌ من ذلك في الْمَسْجِدِ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي
اللَّهُ عنهما عن رسول اللَّهِ قال لَا تُقَامُ الْحُدُودُ في الْمَسَاجِدِ
وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ وَلِأَنَّ تَعْظِيمَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ وفي إقَامَةِ
الْحُدُودِ فيه تَرْكُ تَعْظِيمِهِ
يُؤَيِّدُهُ أَنَّا نُهِينَا عن سَلِّ السُّيُوفِ في الْمَسَاجِدِ
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ
وَمَجَانِينَكُمْ وَبِيَاعَاتِكُمْ وَأَشْرِيَتِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ
تَعْظِيمًا لِلْمَسْجِدِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَلَّ السَّيْفِ في تَرْكِ
التَّعْظِيمِ دُونَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فلما كُرِهَ ذلك فَلَأَنْ يُكْرَهَ هذا
أَوْلَى
وَلِأَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ في الْمَسْجِدِ لَا تَخْلُو عن تَلْوِيثِهِ
فَتَجِبُ صِيَانَةُ الْمَسْجِدِ عن ذلك وَيَنْبَغِي أَنْ تُقَامَ الْحُدُودُ
كُلُّهَا في ملأ من الناس لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عز اسْمُهُ {
وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ من الْمُؤْمِنِينَ } وَالنَّصُّ وَإِنْ
وَرَدَ في حَدِّ الزِّنَا لَكِنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فيه يَكُونُ وَارِدًا في
سَائِرِ الْحُدُودِ دَلَالَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الْحُدُودِ كُلِّهَا
وَاحِدٌ وهو زَجْرُ الْعَامَّةِ وَذَلِكَ
____________________
(7/60)
لَا
يَحْصُلُ إلَّا وَأَنْ تَكُونَ الْإِقَامَةُ على رَأْسِ الْعَامَّةِ لِأَنَّ
الْحُضُورَ يَنْزَجِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ بِالْمُعَايَنَةِ وَالْغُيَّبَ
يَنْزَجِرُونَ بِإِخْبَارِ الْحُضُورِ فَيَحْصُلُ الزَّجْرُ لِلْكُلِّ
وَكَذَا فيه مَنْعُ الْجَلَّادِ من الْمُجَاوَزَةِ عن الْحَدِّ الذي جُعِلَ له
لِأَنَّهُ لو جَاوَزَ لَمَنَعَهُ الناس عن الْمُجَاوَزَةِ وَفِيهِ أَيْضًا دَفْعُ
التُّهْمَةِ وَالْمَيْلِ فَلَا يَتَّهِمُهُ الناس أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ عليه
بِلَا جُرْمٍ سَبَقَ منه
وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسْقِطُ الْحَدَّ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَالْمُسْقِطُ له
أَنْوَاعٌ منها الرُّجُوعُ عن الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ
وَالسُّكْرِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا في الرُّجُوعِ وهو
الْإِنْكَارُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فيه فَإِنْ كان صَادِقًا في
الْإِنْكَارِ يَكُونُ كَاذِبًا في الْإِقْرَارِ وَإِنْ كان كَاذِبًا في
الْإِنْكَارِ يَكُونُ صَادِقًا في الْإِقْرَارِ فَيُورِثُ شُبْهَةً في ظُهُورِ
الْحَدِّ
وَالْحُدُودُ لَا تُسْتَوْفَى مع الشهبات ( ( ( الشبهات ) ) )
وقد رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا أَقَرَّ بين يَدَيْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم بِالزِّنَا لَقَّنَهُ الرُّجُوعَ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لَعَلَّك قَبَّلْتَهَا لَعَلَّك مَسَسْتَهَا وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ أَسَرَقْتِ قُولِي لَا ما أخالك سَرَقْتِ
وكان ذلك منه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَلْقِينًا لِلرُّجُوعِ فَلَوْ لم
يَكُنْ مُحْتَمَلًا لِلسُّقُوطِ بِالرُّجُوعِ ما كان لِلتَّلْقِينِ مَعْنًى
وَهَذَا هو السُّنَّةُ لِلْإِمَامِ إذَا أَقَرَّ إنْسَانٌ عِنْدَهُ بِشَيْءٍ من
أَسْبَابِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ أَنْ يُلَقِّنَهُ الرُّجُوعَ درءا ( ( ( درأ )
) ) لِلْحَدِّ كما فَعَلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ
وَسَوَاءٌ رَجَعَ قبل الْقَضَاءِ أو بَعْدَهُ قبل الْإِمْضَاءِ أو بَعْدَ إمْضَاءِ
بَعْضِ الْجَلَدَاتِ أو بَعْضِ الرَّجْمِ وهو حَيٌّ بَعْدُ لِمَا قُلْنَا
ثُمَّ الرُّجُوعُ عن الْإِقْرَارِ قد يَكُونُ نَصًّا وقد يَكُونُ دَلَالَةً بِأَنْ
أَخَذَ الناس في رَجْمِهِ فَهَرَبَ ولم يَرْجِعْ أو أَخَذَ الْجَلَّادُ في
الْجَلْدِ فَهَرَبَ ولم يَرْجِعْ حتى لَا يُتَّبَعَ وَلَا يُتَعَرَّضَ له لِأَنَّ
الْهَرَبَ في هذه الْحَالَةِ دَلَالَةُ الرُّجُوعِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا هَرَبَ مَاعِزٌ ذُكِرَ ذلك لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم فقال هَلَّا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ دَلَّ أَنَّ الْهَرَبَ دَلِيلُ
الرُّجُوعِ وَأَنَّ الرُّجُوعَ مُسْقِطٌ لِلْحَدِّ وَكَمَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عن
الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا يَصِحُّ عن الْإِقْرَارِ بِالْإِحْصَانِ حتى لو ثَبَتَ على
الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَرَجَعَ عن الْإِقْرَارِ بِالْإِحْصَانِ يَسْقُطُ عنه
الرَّجْمُ وَيُجْلَدُ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطُ صَيْرُورَةِ الزِّنَا عِلَّةً
لِوُجُوبِ الرَّجْمِ فَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عنه كما يَصِحُّ عن الزِّنَا فَيَبْطُلُ
الْإِحْصَانُ وَيَبْقَى الزِّنَا فَيَجِبُ الْجَلْدُ
وَأَمَّا الرُّجُوعُ عن الْإِقْرَارِ بِالْقَذْفِ فَلَا يُسْقِطُ الْحَدَّ لِأَنَّ
هذا الْحَدَّ حَقُّ الْعَبْدِ من وَجْهٍ وَحَقُّ الْعَبْدِ بعدما ثَبَتَ لَا
يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالرُّجُوعِ كَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ
وَمِنْهَا تَصْدِيقُ الْمَقْذُوفِ القاذف ( ( ( والقاذف ) ) ) في الْقَذْفِ
لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُ فَقَدْ ظَهَرَ صِدْقُهُ في الْقَذْفِ وَمِنْ
الْمُحَالِ أَنْ يُحَدَّ الصَّادِقُ على الصِّدْقِ وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ
إنَّمَا وَجَبَ لِدَفْعِ عَارِ الزِّنَا وَشَيْنِهِ عن الْمَقْذُوفِ وَلَمَّا
صَدَّقَهُ في الْقَذْفِ فَقَدْ الْتَزَمَ الْعَارَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَنْدَفِعُ
عنه بِالْحَدِّ فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً
وَمِنْهَا تَكْذِيبُ الْمَقْذُوفِ الْمُقِرَّ في إقْرَارِهِ بِالْقَذْفِ بِأَنْ
يَقُولَ له إنَّكَ لم تَقْذِفْنِي بِالزِّنَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَذَّبَهُ بالقذف
فَقَدْ كَذَّبَ نَفْسَهُ في الدَّعْوَى وَالدَّعْوَى شَرْطُ ظُهُورِ هذا الْحَدِّ
وَمِنْهَا تَكْذِيبُ الْمَقْذُوفِ حُجَّتَهُ على الْقَذْفِ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ
بِأَنْ يَقُولَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْحَدِّ قبل الْإِمْضَاءِ شُهُودِي شَهِدُوا
بِزُورٍ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا في التَّكْذِيبِ فَثَبَتَ
الشُّبْهَةُ وَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ مع الشُّبْهَةِ
وَمِنْهَا تَكْذِيبُ الْمَزْنِيِّ بها الْمُقِرَّ بِالزِّنَا قبل إقَامَةِ
الْحَدِّ عليه بِأَنْ قال رَجُلٌ زَنَيْتُ بِفُلَانَةَ فَكَذَّبَتْهُ وَأَنْكَرَتْ
الزِّنَا وَقَالَتْ لَا أَعْرِفُكَ وَيَسْقُطُ الْحَدُّ عن الرَّجُلِ وَهَذَا
قَوْلُهُمَا
وقال مُحَمَّدٌ لَا يَسْقُطُ
كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاخْتِلَافَ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ قَوْلَ أبي يُوسُفَ مع قَوْلِ مُحَمَّدٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ زِنَا الرَّجُلِ قد ظَهَرَ بِإِقْرَارِهِ وَامْتِنَاعُ
الظُّهُورِ في جَانِبِ الْمَرْأَةِ لِمَعْنًى يَخُصُّهَا وهو إنْكَارُهَا فَلَا
يَمْنَعُ الظُّهُورَ في جَانِبِ الرَّجُلِ
وَلَهُمَا أَنَّ الزِّنَا لَا يَقُومُ إلَّا بِالْفَاعِلِ وَالْمَحِلِّ فإذا لم
يَظْهَرْ في جَانِبِهَا امْتَنَعَ الظُّهُورُ في جَانِبِهِ
هذا إذَا أَنْكَرَتْ ولم تدع ( ( ( تدعي ) ) ) على الرَّجُلِ حَدَّ الْقَذْفِ
فَإِنْ ادَّعَتْ على الرَّجُلِ حَدَّ الْقَذْفِ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ
وَيَسْقُطُ حَدُّ الزِّنَا لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه حَدَّانِ
هذا إذَا كَذَّبَتْهُ ولم تدع ( ( ( تدعي ) ) ) النِّكَاحَ
فَأَمَّا إذَا ادَّعَتْ النِّكَاحَ وَالْمَهْرَ قبل إقَامَةِ الْحَدِّ عليه
يَسْقُطُ الْحَدُّ عن الرَّجُلِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لم يَجِبْ عليها
لِلشُّبْهَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ صَادِقَةً في دَعْوَى النِّكَاحِ
فَتَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ في وُجُوبِ الْحَدِّ عليها
وإذا لم يَجِبْ عليها الْحَدُّ تَعَدَّى إلَى جَانِبِ الرَّجُلِ فَسَقَطَ عنه
وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَخْلُو عن عُقُوبَةٍ أو غَرَامَةٍ
وَإِنْ كان دَعْوَى النِّكَاحِ منها بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ على الرَّجُلِ لَا
مَهْرَ لها عليه لِأَنَّ الْوُجُوبَ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِضَرُورَةِ إقَامَةِ
الْحَدِّ ولم تُوجَدْ
وَعَلَى هذا أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ
____________________
(7/61)
بِالزِّنَا
مع فُلَانٍ فَأَنْكَرَ الرَّجُلُ وَكَذَّبَهَا أو ادَّعَى النِّكَاحَ على
الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ
وَلَوْ أَقَرَّ الرَّجُلُ بِالزِّنَا بِفُلَانَةَ فَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ
الِاسْتِكْرَاهَ يُحَدُّ الرَّجُلُ بِالِاتِّفَاقِ فُرِّقَ بين هذا وَبَيْنَ
الْأَوَّلِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَرْأَةَ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنْكَرَتْ وُجُودَ
الزِّنَا فلم يَثْبُتْ الزِّنَا من جَانِبِهَا فَتَعَدَّى إلَى جَانِبِ الْآخَرِ
وَهَهُنَا أَقَرَّتْ بالزناد ( ( ( بالزنا ) ) ) لَكِنَّهَا ادَّعَتْ الشُّبْهَةَ
لِمَعْنًى يَخُصُّهَا وهو كَوْنُهَا مُكْرَهَةً فَلَا يَتَعَدَّى إلَى جَانِبِ
الرَّجُلِ
وَالدَّلِيلُ على التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّا لو تَيَقَّنَّا بِالْإِكْرَاهِ
يُقَامُ الْحَدُّ على الرَّجُلِ بِالْإِجْمَاعِ
وَلَوْ تَيَقَّنَّا بِالنِّكَاحِ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لَا يُقَامُ الْحَدُّ
على الرَّجُلِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا رُجُوعُ الشُّهُودِ بَعْدَ الْقَضَاءِ قبل الْإِمْضَاءِ لِأَنَّ
رُجُوعَهُمْ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَيُورِثُ شُبْهَةً وَالْحُدُودُ
لَا تُسْتَوْفَى مع الشُّبُهَاتِ
وقد ذَكَرْنَا الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِرُجُوعِ الشُّهُودِ في بَابِ
الْحُدُودِ كُلِّهِمْ أو بَعْضِهِمْ قبل الْقَضَاءِ أو بَعْدَهُ قبل الْإِمْضَاءِ
أو بعده بِمَا فيه من الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ في كِتَابِ الرُّجُوعِ عن الشَّهَادَاتِ
وَمِنْهَا بُطْلَانُ أَهْلِيَّةِ شَهَادَتِهِمْ بَعْدَ الْقَضَاءِ قبل
الْإِمْضَاءِ بِالْفِسْقِ وَالرِّدَّةِ وَالْجُنُونِ وَالْعَمَى وَالْخَرَسِ
وَحَدِّ الْقَذْفِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَمِنْهَا مَوْتُهُمْ في حَدِّ الرَّجْمِ خَاصَّةً في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّ الْبِدَايَةَ بِالشُّهُودِ شَرْطُ جَوَازِ الْإِقَامَةِ وقد فَاتَ
بِالْمَوْتِ على وَجْهٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ فَسَقَطَ الْحَدُّ ضَرُورَةً
وَأَمَّا اعْتِرَاضُ مِلْكِ النِّكَاحِ أو مِلْكِ الْيَمِينِ فَهَلْ يُسْقِطُ
الْحَدَّ بِأَنْ زنا بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أو بِجَارِيَةٍ ثُمَّ
اشْتَرَاهَا عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فيه ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ رَوَى
مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ
وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
وَرَوَى أبو يُوسُفَ عنه أَنَّهُ يَسْقُطُ
وَرَوَى الْحَسَنُ عنه أَنَّ اعْتِرَاضَ الشِّرَاءِ يَسْقُطُ وَاعْتِرَاضَ
النِّكَاحِ لَا يَسْقُطُ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْبُضْعَ لَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلزَّوْجِ
بِالنِّكَاحِ بِدَلِيلِ أنها إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كان الْعُقْرُ لها
وَالْعُقْرُ بَدَلُ الْبُضْعِ
وَالْبَدَلُ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ كان له الْمُبْدَلُ فلم يَحْصُلْ اسْتِيفَاءُ
مَنَافِعِ الْبُضْعِ من مَحِلٍّ مَمْلُوكٍ له فَلَا يُورِثُ شُبْهَةً وَبُضْعُ
الْأَمَةِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى بِالشِّرَاءِ
أَلَا تَرَى أنها لو وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كان الْعُقْرُ لِلْمَوْلَى فَحَصَلَ
الِاسْتِيفَاءُ من مَحِلٍّ مَمْلُوكٍ له فَيُورِثُ شُبْهَةً فَصَارَ كَالسَّارِقِ
إذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قبل الْإِمْضَاءِ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِلزَّوْجِ
بِالنِّكَاحِ في حَقِّ الِاسْتِمْتَاعِ فَحَصَلَ الِاسْتِيفَاءُ من مَحِلٍّ
مَمْلُوكٍ فَيَصِيرُ شُبْهَةً كَالسَّارِقِ إذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ
وَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْوَطْءَ حَصَلَ زِنًا مَحْضًا
لِمُصَادِفَتِهِ مَحِلًّا غير مَمْلُوكٍ له فَحَصَلَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ
وَالْعَارِضِ وهو الْمِلْكُ لَا يَصْلُحُ مُسْقِطًا لِاقْتِصَارِهِ على حَالَةِ
ثُبُوتِهِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ وَالشِّرَاءِ وَكُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا وُجِدَ لِلْحَالِ فَلَا يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِهِ إلَى
وَقْتِ وُجُودِ الْوَطْءِ فَبَقِيَ الْوَطْءُ خَالِيًا عن الْمِلْكِ فَبَقِيَ
زِنًا مَحْضًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ بِخِلَافِ السَّارِقِ إذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ
لِأَنَّ هُنَاكَ وُجِدَ الْمُسْقِطُ وهو بُطْلَانُ وِلَايَةِ الْخُصُومَةِ لِأَنَّ
الْخُصُومَةَ هُنَاكَ شَرْطٌ وقد خَرَجَ الْمَسْرُوقُ منه من أَنْ يَكُونَ خَصْمًا
بِمِلْكِ الْمَسْرُوقِ لذلك ( ( ( ولذلك ) ) ) افْتَرَقَا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ غَصَبَ جَارِيَةً فزنا ( ( ( فزنى ) ) ) بها فَمَاتَتْ رَوَى أبو يُوسُفَ
عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ عليه الْحَدَّ وَقِيمَةَ الْجَارِيَةِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عنهما أَنَّ عليه الْقِيمَةَ وَلَا حَدَّ عليه
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هذا أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ هَلَاكِ
الْجَارِيَةِ وَهِيَ بَعْدَ الْهَلَاكِ لَا تَحْتَمِلُ الْمِلْكَ فَلَا
يَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ بِالضَّمَانِ فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْحَدِّ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَجِبُ بَعْدَ الْهَلَاكِ وَإِنَّمَا
يَجِبُ في آخِرِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الْحَيَاةِ وَهِيَ مُحْتَمَلَةٌ لملك ( ( (
للملك ) ) ) في ذلك الْوَقْتِ فَيَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ
وَلِأَنَّ حَيَاةَ الْمَحِلِّ تُشْتَرَطُ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فيه مَقْصُودًا
بِمُبَادَلَةٍ مَقْصُودَةٍ وَالْمِلْكُ هَهُنَا يُثْبِتُ ضَرُورَةَ اسْتِحَالَةِ
اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ في مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ في عَقْدِ
الْمُبَادَلَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ له حَيَاةُ الْمَحِلِّ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ في
الْمَيِّتِ وأن ( ( ( وأنه ) ) ) يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ
وَلَوْ غَصَبَ حُرَّةً فزنا ( ( ( فزنى ) ) ) بها فَمَاتَتْ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ
وَالدِّيَةُ لِأَنَّ مِلْكَ الضَّمَانِ في الْحُرَّةِ لَا يُوجِبُ مِلْكَ
الْمَضْمُونِ لِأَنَّ الْمَحِلَّ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ فَلَا يَمْتَنِعُ
وُجُوبُ الْحَدِّ بِخِلَافِ الْأَمَةِ
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْحُدُودِ إذَا اجْتَمَعَتْ فَالْأَصْلُ في أَسْبَابِ
الْحُدُودِ إذَا اجْتَمَعَتْ أَنْ يُقَدَّمَ حَقُّ الْعَبْدِ في الِاسْتِيفَاءِ
على حَقِّ اللَّهِ عز وجل لِحَاجَةِ الْعَبْدِ إلَى الِانْتِفَاعِ بِحَقِّهِ
وَتَعَالَى اللَّهُ تَعَالَى عن الْحَاجَاتِ
ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ لم يُمْكِنْ اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى تَسْقُطُ
ضَرُورَةً وَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا فَإِنْ كان في إقَامَةِ شَيْءٍ منها
إسْقَاطُ الْبَوَاقِي يُقَامُ ذلك دَرْءًا لِلْبَوَاقِي
____________________
(7/62)
لِقَوْلِهِ
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ادْرَءُوا الْحُدُودَ ما اسْتَطَعْتُمْ وَإِنْ لم
يَكُنْ في إقَامَةِ شَيْءٍ منها إسْقَاطُ الْبَوَاقِي يُقَامُ الْكُلُّ جَمْعًا
بين الْحَقَّيْنِ في الِاسْتِيفَاءِ
وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُولُ إذَا اجْتَمَعَ الْقَذْفُ وَالشُّرْبُ وَالسُّكْرُ
وَالزِّنَا من غَيْرِ إحْصَانٍ وَالسَّرِقَةُ بِأَنْ قَذَفَ إنْسَانًا بِالزِّنَا
وَشَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ من غَيْرِ الْخَمْرِ من الْأَشْرِبَةِ الْمَعْهُودَةِ
وَزَنَى وهو غَيْرُ مُحْصَنٍ وَسَرَقَ مَالَ إنْسَانٍ ثُمَّ أتى بِهِ إلَى
الْإِمَامِ بَدَأَ الْإِمَامُ بِحَدِّ الْقَذْفِ فَيَضْرِبُهُ لِأَنَّهُ حَقُّ
اللَّهِ عز وجل ( ( ( شأنه ) ) ) من وَجْهٍ وما سِوَاهُ حُقُوقُ الْعِبَادِ على
الْخُلُوصِ فَيُقَدَّمُ اسْتِيفَاؤُهُ ثُمَّ يَسْتَوْفِي حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى
لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا وَلَيْسَ في إقَامَةِ شَيْءٍ منها إسْقَاطُ
الْبَوَاقِي فَلَا يَسْقُطُ
ثُمَّ إذَا ضُرِبَ حَدَّ الْقَذْفِ يُحْبَسُ حتى يَبْرَأَ من الضَّرْبِ ثُمَّ
الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ في الْبِدَايَةِ إنْ شَاءَ بَدَأَ بِحَدِّ الزِّنَا
وَإِنْ شَاءَ بِحَدِّ السَّرِقَةِ وَيُؤَخِّرُ حَدَّ الشُّرْبِ عنهما لِأَنَّهُمَا
ثَبَتَا بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَحَدُّ الشُّرْبِ لم يَثْبُتْ بِنَصِّ
الْكِتَابِ الْكَرِيمِ إنَّمَا ثَبَتَ بِإِجْمَاعٍ مَبْنِيٍّ على الِاجْتِهَادِ أو
على خَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الثَّابِتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ آكَدُ
ثُبُوتًا وَلَا يَجْمَعُ ذلك كُلَّهُ في وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ يُقَامُ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ ما بَرَأَ من الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْجَمْعَ بين الْكُلِّ
في وَقْتٍ وَاحِدٍ يُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ
وَلَوْ كان من جُمْلَةِ هذه الْحُدُودِ حَدُّ الرَّجْمِ بِأَنْ زَنَى وهو مُحْصَنٌ
يُبْدَأُ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَيَضْمَنُ السَّرِقَةَ وَيُرْجَمُ وَيُدْرَأُ عنه ما
سِوَى ذلك لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُقَدَّمُ في الِاسْتِيفَاءِ
وفي إقَامَةِ حَدِّ الرَّجْمِ إسْقَاطُ الْبَوَاقِي فَيُقَامُ دَرْءًا
لِلْبَوَاقِي لِأَنَّ الْحُدُودَ وَاجِبَةُ الدَّرْءِ ما أَمْكَنَ فَيُدْرَأُ
إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ السَّرِقَةَ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَحْتَمِلُ الدَّرْءَ
وَكَذَا لو كان مع هذه الْحُدُودِ قِصَاصٌ في النَّفْسِ يُبْدَأُ بِحَدِّ
الْقَذْفِ وَيَضْمَنُ السَّرِقَةَ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا وَيُدْرَأُ ما سِوَى ذلك
وَإِنَّمَا بدىء بِحَدِّ الْقَذْفِ دُونَ الْقِصَاصِ الذي هو خَالِصُ حَقِّ
الْعَبْدِ لِأَنَّ في الْبِدَايَةِ بِالْقِصَاصِ إسْقَاطَ حَدِّ الْقَذْفِ وَلَا سَبِيلَ
إلَيْهِ لِذَلِكَ يُبْدَأُ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا وَيَبْطُلُ ما
سِوَى ذلك لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ الْقَتْلِ إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ
السَّرِقَةَ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كان مع الْقِصَاصِ في النَّفْسِ قِصَاصٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يُحَدُّ
حَدَّ الْقَذْفِ يقتص ( ( ( ويقتص ) ) ) فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَيُقْتَصُّ في
النَّفْسِ وَيُلْغَى ما سِوَى ذلك
وَلَوْ لم يَكُنْ في الْحُدُودِ حَدُّ الْقَذْفِ وَيُقْتَصُّ فِيمَا دُونَ
النَّفْسِ ثُمَّ يُقْتَصُّ في النَّفْسِ ويلغي ما سِوَى ذلك وَلَوْ اجْتَمَعَتْ
الْحُدُودُ الْخَالِصَةُ وَالْقَتْلُ يُقْتَصُّ وَيُلْغَى ما سِوَى ذلك لِأَنَّ
تَقْدِيمَ الْقِصَاصِ على الْحُدُودِ في الِاسْتِيفَاءِ وَاجِبٌ
وَمَتَى قُدِّمَ اسْتِيفَاؤُهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْحُدُودِ فَتَسْقُطُ
ضَرُورَةً
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْمَحْدُودِ فَالْحَدُّ إنْ كان رَجْمًا فإذا قُتِلَ
يُدْفَعُ إلَى أَهْلِهِ فَيَصْنَعُونَ بِهِ ما يُصْنَعُ بِسَائِرِ الْمَوْتَى
فَيُغَسِّلُونَهُ وَيُكَفِّنُونَهُ وَيُصَلُّونَ عليه وَيَدْفِنُونَهُ
بهذا أَمَرَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا رُجِمَ مَاعِزًا
فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اصْنَعُوا بِهِ ما تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ
وَإِنْ كان جَلْدًا فَحُكْمُ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ في سَائِرِ
الْأَحْكَامِ من الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا إلَّا الْمَحْدُودَ في الْقَذْفِ
خَاصَّةً في أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فإنه تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ على التَّأْبِيدِ حتى
لَا تُقْبَلَ وَإِنْ تَابَ إلَّا في الدِّيَانَاتِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ وقد
ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ وَفُرُوعَهَا في كِتَابِ الشَّهَادَاتِ
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا التَّعْزِيرُ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ سَبَبِ
وُجُوبِ التَّعْزِيرِ وفي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ قَدْرِهِ وفي
بَيَانِ وَصْفِهِ وفي بَيَانِ ما يَظْهَرُ بِهِ
أَمَّا سَبَبُ وُجُوبِهِ فَارْتِكَابُ جِنَايَةٍ ليس لها حَدٌّ مُقَدَّرٌ في
الشَّرْعِ سَوَاءٌ كانت الْجِنَايَةُ على حَقِّ اللَّهِ كَتَرْكِ الصَّلَاةِ
وَالصَّوْمِ وَنَحْوِ ذلك أو على حَقِّ الْعَبْدِ بِأَنْ آذَى مُسْلِمًا بِغَيْرِ
حَقٍّ بِفِعْلٍ أو بِقَوْلٍ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ بِأَنْ قال له يا
خَبِيثُ يا فَاسِقُ يا سَارِقُ يا فَاجِرُ يا كَافِرُ يا آكِلَ الرِّبَا يا
شَارِبَ الْخَمْرِ وَنَحْوُ ذلك
فَإِنْ قال له يا كَلْبُ يا خِنْزِيرُ يا حِمَارُ يا ثَوْرُ وَنَحْوُ ذلك لَا يَجِبُ
عليه التَّعْزِيرُ لِأَنَّ في النَّوْعِ الْأَوَّلِ إنَّمَا وَجَبَ التَّعْزِيرُ
لِأَنَّهُ أَلْحَقَ الْعَارَ بِالْمَقْذُوفِ إذْ الناس بين مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ
فَعُزِّرَ دَفْعًا لِلْعَارِ عنه وَالْقَاذِفُ في النَّوْعِ الثَّانِي أَلْحَقَ
الْعَارَ بِنَفْسِهِ بِقَذْفِهِ غَيْرَهُ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ فَيَرْجِعُ عَارُ
الْكَذِبِ إلَيْهِ لَا إلَى الْمَقْذُوفِ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِهِ فَالْعَقْلُ فَقَطْ فَيُعَزَّرُ كُلُّ عَاقِلٍ
ارْتَكَبَ جِنَايَةً ليس لها حَدٌّ مُقَدَّرٌ سَوَاءٌ كان حُرًّا أو عَبْدًا ذَكَرًا
أو أُنْثَى مُسْلِمًا أو كَافِرًا بَالِغًا أو صَبِيًّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ
عَاقِلًا لِأَنَّ هَؤُلَاءِ من أَهْلِ الْعُقُوبَةِ إلَّا الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ
فإنه
____________________
(7/63)
يُعَزَّرُ
تَأْدِيبًا لَا عُقُوبَةً لِأَنَّهُ من أَهْلِ التَّأْدِيبِ
أَلَا تَرَى إلَى ما رُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال مُرُوا
صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغُوا سَبْعًا وَاضْرِبُوهُمْ عليها إذَا
بَلَغُوا عَشْرًا وَذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ وَالتَّهْذِيبِ لَا بِطَرِيقِ
الْعُقُوبَةِ لِأَنَّهَا تَسْتَدْعِي الْجِنَايَةَ وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا
يُوصَفُ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا
يَعْقِلُ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ الْعُقُوبَةِ وَلَا من أَهْلِ
التَّأْدِيبِ
فَصْلٌ وَأَمَّا قَدْرُ التَّعْزِيرِ فإنه إنْ وَجَبَ بِجِنَايَةٍ ليس من
جِنْسِهَا ما يُوجِبُ الْحَدَّ كما إذَا قال لِغَيْرِهِ يا فَاسِقُ يا خَبِيثُ يا
سَارِقُ وَنَحْوُ ذلك فَالْإِمَامُ فيه بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ عَزَّرَهُ
بِالضَّرْبِ وَإِنْ شَاءَ بِالْحَبْسِ وَإِنْ شَاءَ بِالْكَهْرِ وَالِاسْتِخْفَافِ
بِالْكَلَامِ
وَعَلَى هذا يُحْمَلُ قَوْلُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه لِعُبَادَةَ بن
الصَّامِتِ يا أَحْمَقُ إن ذلك كان على سَبِيلِ التَّعْزِيرِ منه إيَّاهُ لَا على
سَبِيلِ الشَّتْمِ إذْ لَا يُظَنُّ ذلك من مِثْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ
عنه لَا بِأَحَدٍ فَضْلًا عن الصَّحَابِيِّ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من رَتَّبَ التَّعْزِيرَ على مَرَاتِبِ الناس فقال
التَّعَازِيرُ على أَرْبَعَةِ مَرَاتِبَ تَعْزِيرُ الْأَشْرَافِ وَهُمْ
الدَّهَّاقُونَ وَالْقُوَّادُ وَتَعْزِيرُ أَشْرَافِ الْأَشْرَافِ وَهُمْ
الْعَلَوِيَّةُ وَالْفُقَهَاءُ وَتَعْزِيرُ الْأَوْسَاطِ وَهُمْ السُّوقَةُ
وَتَعْزِيرُ الْأَخِسَّاءِ وَهُمْ السِّفْلَةُ فَتَعْزِيرُ أَشْرَافِ الْأَشْرَافِ
بِالْإِعْلَامِ الْمُجَرَّدِ وهو أَنْ يَبْعَثَ الْقَاضِي أَمِينَهُ إلَيْهِ فيقول
له بَلَغَنِي أَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا وَتَعْزِيرُ الْأَشْرَافِ
بِالْإِعْلَامِ وَالْجَرِّ إلَى بَابِ الْقَاضِي وَالْخِطَابِ بِالْمُوَاجَهَةِ
وَتَعْزِيرُ الْأَوْسَاطِ الإعلام ( ( ( بالإعلام ) ) ) وَالْجَرِّ وَالْحَبْسِ
وَتَعْزِيرُ السَّفَلَةِ الإعلام ( ( ( بالإعلام ) ) ) وَالْجَرِّ وَالضَّرْبِ
وَالْحَبْسِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من التَّعْزِيرِ هو الزَّجْرُ وَأَحْوَالُ الناس
في الِانْزِجَارِ على هذه الْمَرَاتِبِ وَإِنْ وَجَبَ بِجِنَايَةٍ في جِنْسِهَا
الْحَدُّ لَكِنَّهُ لم يَجِبْ لِفَقْدِ شَرْطِهِ كما إذَا قال لِصَبِيٍّ أو
مَجْنُونٍ يا زَانِي أو لِذِمِّيَّةٍ أو أُمِّ وَلَدٍ يا زَانِيَةُ فَالتَّعْزِيرُ
فيه بِالضَّرْبِ وَيَبْلُغُ أَقْصَى غَايَاتِهِ وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ
وفي رِوَايَةِ النَّوَادِرِ عنه تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ
وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ عليه الرَّحْمَةُ مُضْطَرِبٌ
ذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ
لَا يَبْلُغُ التَّعْزِيرُ الْحَدَّ لِمَا رُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال من بَلَغَ حَدًّا في غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ من
الْمُعْتَدِينَ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ صَرَفَ الْحَدَّ
الْمَذْكُورَ في الحديث على الْأَحْرَارِ وَزَعَمَ أَنَّهُ الْحَدُّ الْكَامِلُ
لَا حَدَّ الْمَمَالِيكِ لِأَنَّ ذلك بَعْضُ الْحَدِّ وَلَيْسَ بِحَدٍّ كَامِلٍ
وَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ في كل بَابٍ وَلِأَنَّ
الْأَحْرَارَ هُمْ الْمَقْصُودُونَ في الْخِطَابِ وَغَيْرُهُمْ مُلْحَقٌ بِهِمْ
فيه
ثُمَّ قال في رِوَايَةٍ يُنْقَصُ منها سَوْطٌ وهو الْأَقْيَسُ لِأَنَّ تَرْكَ
التَّبْلِيغِ يَحْصُلُ بِهِ
وفي رِوَايَةٍ قال يُنْتَقَصُ منها خَمْسَةٌ
وَرُوِيَ ذلك أَثَرًا عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال
يُعَزَّرُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ
قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَلَّدْتُهُ في نُقْصَانِ الْخَمْسَةِ
وَاعْتُبِرَتْ عنه أَدْنَى الْحُدُودِ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال أَخَذْتُ كُلَّ
فرع ( ( ( نوع ) ) ) من بَابِهِ وَأَخَذْتُ التَّعْزِيرَ في اللَّمْسِ
وَالْقُبْلَةِ من حَدِّ الزِّنَا وَالْقَذْفَ بِغَيْرِ الزِّنَا من حَدِّ
الْقَذْفِ لِيَكُونَ إلْحَاقَ كل نَوْعٍ بِبَابِهِ وأبو حَنِيفَةَ صَرَفَهُ إلَى
حَدِّ الْمَمَالِيكِ وهو أَرْبَعُونَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ حَدًّا مُنَكَّرًا
فَيَتَنَاوَلُ حَدًّا ما وَأَرْبَعُونَ حَدٌّ كَامِلٌ في الْمَمَالِيكِ
فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَلِأَنَّ في الْحَمْلِ على هذا الْحَدِّ أَخْذًا
بِالثِّقَةِ وَالِاحْتِيَاطِ لِأَنَّ اسْمَ الْحَدِّ يَقَعُ على النَّوْعَيْنِ
فَلَوْ حَمَلْنَاهُ على ما قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ يَقَعُ الْأَمْنُ عن وَعِيدِ
التَّبْلِيغِ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُ وَلَوْ حَمَلْنَاهُ على ما قَالَهُ أبو
يُوسُفَ لَا يَقَعُ الْأَمْنُ عنه لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ حَدَّ
الْمَمَالِيكِ فَيَصِيرُ مُبَلِّغًا غير الْحَدَّ فَيَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ فَكَانَ
الِاحْتِيَاطُ فِيمَا قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَتُهُ فَلَهُ صِفَاتٌ منها أَنَّهُ أَشَدُّ الضَّرْبِ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في الْمُرَادِ بِالشِّدَّةِ الْمَذْكُورَةِ
قال بَعْضُهُمْ أُرِيدَ بها الشِّدَّةُ من حَيْثُ الْجَمْعِ وَهِيَ أَنْ يَجْمَعَ
الضَّرَبَاتِ فيه على عُضْوٍ وَاحِدٍ وَلَا يُفَرِّقُ بِخِلَافِ الْحُدُودِ
وقال بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ منها الشِّدَّةُ في نَفْسِ الضَّرْبِ وهو الْإِيلَامُ
ثُمَّ إنَّمَا كان أَشَدَّ الضَّرْبِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ شُرِعَ
لِلزَّجْرِ الْمَحْضِ ليس فيه مَعْنَى تَكْفِيرِ الذَّنْبِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ
فإن مَعْنَى الزَّجْرِ فيها يَشُوبُهُ مَعْنَى التَّكْفِيرِ لِلذَّنْبِ
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا فإذا
تَمَحَّضَ التَّعْزِيرُ لِلزَّجْرِ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَشَدَّ أَزْجَرُ فَكَانَ
في تَحْصِيلِ ما شُرِعَ له أَبْلَغُ
وَالثَّانِي أَنَّهُ قد نَقَصَ عن عَدَدِ الضَّرَبَاتِ فيه فَلَوْ لم يُشَدِّدْ في
الضَّرْبِ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ منه وهو الزَّجْرُ
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ
____________________
(7/64)
وَالصُّلْحَ
وَالْإِبْرَاءَ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ خَالِصًا فَتَجْرِي فيه هذه
الْأَحْكَامُ كما تَجْرِي في سَائِرِ الْحُقُوقِ لِلْعِبَادِ من الْقِصَاصِ
وَغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُوَرَّثُ كَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ لِمَا قُلْنَا
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَتَدَاخَلُ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَبْدِ لَا تَحْتَمِلُ
التَّدَاخُلَ بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَيُؤْخَذُ فيه الْكَفِيلُ إلَّا أَنَّهُ لَا
يُحْبَسُ لِتَعْدِيلِ الشُّهُودِ
أَمَّا التَّكْفِيلُ فَلِأَنَّ التَّكْفِيلَ لِلتَّوْثِيقِ
وَالتَّعْزِيرُ حَقٌّ العبد ( ( ( للعبد ) ) ) فَكَانَ التَّوْثِيقُ مُلَائِمًا له
بِخِلَافِ الْحُدُودِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَأَمَّا عَدَمُ الْحَبْسِ فَلِأَنَّ الْحَبْسَ يَصْلُحُ تَعْزِيرًا في نَفْسِهِ
فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا قبل تَعْدِيلِ الشُّهُودِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ أَنَّهُ
يُحْبَسُ فيها لِتَعْدِيلِ الشُّهُودِ لِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يَصْلُحُ حَدًّا
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَظْهَرُ بِهِ فَنَقُولُ إنَّهُ يَظْهَرُ بِهِ سَائِرُ
حُقُوقِ الْعِبَادِ من الْإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَةِ وَالنُّكُولِ وَعِلْمِ
الْقَاضِي وَيُقْبَلُ فيه شَهَادَةُ النِّسَاءِ مع الرِّجَالِ وَالشَّهَادَةُ على
الشَّهَادَةِ وَكِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي كما في سَائِرِ حُقُوقِ
الْعِبَادِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُقْبَلُ فيه
شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَالصَّحِيحُ هو الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ على
الْخُلُوصِ فَيَظْهَرُ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ حُقُوقُ الْعِبَادِ وَلَا يُعْمَلُ فيه
الرُّجُوعُ كما لَا يُعْمَلُ في الْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ
الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَاَللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ
كِتَابُ السَّرِقَةِ يُحْتَاجُ لِمَعْرِفَةِ مَسَائِلِ السَّرِقَةِ إلَى
مَعْرِفَةِ رُكْنِ السَّرِقَةِ وَإِلَى مَعْرِفَةِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَإِلَى
مَعْرِفَةِ ما يَظْهَرُ بِهِ السَّرِقَةُ عِنْدَ الْقَاضِي وَإِلَى مَعْرِفَةِ
حُكْمِ السَّرِقَةِ
فَصْلٌ أَمَّا رُكْنِ السَّرِقَةِ فَهُوَ الْأَخْذُ على سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إلَّا من اسْتَرَقَ السَّمْعَ } سَمَّى
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْذَ الْمَسْمُوعِ على وَجْهِ الِاسْتِخْفَاءِ
اسْتِرَاقًا وَلِهَذَا يُسَمَّى الْأَخْذُ على سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ مُغَالَبَةً
أو نُهْبَةً أو خِلْسَةً أو غَصْبًا أو انْتِهَابًا وَاخْتِلَاسًا لَا سَرِقَةً
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ سُئِلَ عن الْمُخْتَلِسِ
وَالْمُنْتَهِبِ فقال تِلْكَ الدُّعَابَةُ لَا شَيْءَ فيها
وَرُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا قَطْعَ على
نَبَّاشٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا خَائِنٍ ثُمَّ الْأَخْذُ على وَجْهِ
الِاسْتِخْفَاءِ نَوْعَانِ مُبَاشَرَةٌ وَتَسَبُّبٌ
أَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فَهُوَ أَنْ يَتَوَلَّى السَّارِقُ أَخْذَ الْمَتَاعِ
وَإِخْرَاجَهُ من الْحِرْزِ بِنَفْسِهِ حتى لو دخل الْحِرْزَ وَأَخَذَ مَتَاعًا
فَحَمَلَهُ أو لم يَحْمِلْهُ حتى ظَهَرَ عليه وهو في الْحِرْزِ قبل أَنْ
يُخْرِجَهُ فَلَا قَطْعَ عليه لِأَنَّ الْأَخْذَ إثْبَاتُ الْيَدِ وَلَا يَتِمُّ
ذلك إلَّا بِالْإِخْرَاجِ من الْحِرْزِ ولم يُوجَدْ
وَإِنْ رَمَى بِهِ خَارِجَ الْحِرْزِ ثُمَّ ظَهَرَ عليه قبل أَنْ يَخْرُجَ هو من
الْحِرْزِ فَلَا قَطْعَ عليه لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ عليه عِنْدَ
الْخُرُوجِ من الْحِرْزِ فَإِنْ لم يَظْهَرْ عليه حتى خَرَجَ وَأَخَذَ ما كان
رَمَى بِهِ خَارِجَ الْحِرْزِ يُقْطَعُ
وَرُوِيَ عن زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَخْذَ من الْحِرْزِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ
منه وَالرَّمْيُ ليس بِإِخْرَاجٍ وَالْأَخْذُ من الْخَارِجِ ليس أَخْذًا من
الْحِرْزِ فَلَا يَكُونُ سَرِقَةً
وَلَنَا أَنَّ الْمَالَ في حُكْمِ يَدِهِ ما لم تَثْبُتْ عليه يَدُ غَيْرِهِ
فَقَدْ وُجِدَ منه الْأَخْذُ وَالْإِخْرَاجُ من الْحِرْزِ
وَلَوْ رَمَى بِهِ إلَى صَاحِبٍ له خَارِجَ الْحِرْزِ فَأَخَذَهُ الْمَرْمِيُّ
إلَيْهِ فَلَا قَطْعَ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَمَّا الْخَارِجُ فَلِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه الْأَخْذُ من الْحِرْزِ
وَأَمَّا الدَّاخِلُ فَلِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه الْإِخْرَاجُ من الْحِرْزِ
لِثُبُوتِ يَدِ الْخَارِجِ عليه
وَلَوْ نَاوَلَ صَاحِبًا له مُنَاوَلَةً من وَرَاءِ الْجِدَارِ ولم يَخْرُجَ هو
فَلَا قَطْعَ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَعِنْدَهُمَا يُقْطَعُ الدَّاخِلُ وَلَا يُقْطَعُ الْخَارِجُ إذَا كان الْخَارِجُ
لم يُدْخِلْ يَدَهُ إلَى الْحِرْزِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الدَّاخِلَ لَمَّا نَاوَلَ صَاحِبَهُ فَقَدْ أَقَامَ
يَدَ صَاحِبِهِ مُقَامَ يَدِهِ فَكَأَنَّهُ خَرَجَ وَالْمَالُ في يَدِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ
أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الْقَطْعِ على الْخَارِجِ لِانْعِدَامِ فِعْلِ
السَّرِقَةِ منه وهو الْأَخْذُ من الْحِرْزِ وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِهِ على
الدَّاخِلِ لِانْعِدَامِ ثُبُوتِ يَدِهِ عليه حَالَةَ الْخُرُوجِ من الْحِرْزِ
لِثُبُوتِ يَدِ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ ما إذَا رَمَى بِهِ إلَى السِّكَّةِ ثُمَّ
خَرَجَ وَأَخَذَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا لم تَثْبُتْ عليه يَدُ غَيْرِهِ فَهُوَ في
حُكْمِ يَدِهِ فَكَأَنَّهُ خَرَجَ بِهِ حَقِيقَةً
وَإِنْ كان الْخَارِجُ أَدْخَلَ يَدَهُ في الْحِرْزِ فَأَخَذَهُ من يَدِ
الدَّاخِلِ فَلَا قَطْعَ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقال
____________________
(7/65)
أبو
يُوسُفَ أَقْطَعُهُمَا جميعا
أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْقَطْعِ على الدَّاخِلِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِعَدَمِ الْإِخْرَاجِ من الْحِرْزِ
يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لو أَخْرَجَ يَدَهُ وَنَاوَلَ صَاحِبًا له لم يُقْطَعْ
فَعِنْدَ عَدَمِ الْإِخْرَاجِ أَوْلَى وَالْوُجُوبُ عليه على أَصْلِ أبي يُوسُفَ
رَحِمَهُ اللَّهُ لِمَا ذَكَرْنَا في الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ في الْخَارِجِ فَمَبْنِيٌّ على مَسْأَلَةٍ أُخْرَى وَهِيَ
أَنَّ السَّارِقَ إذَا نَقَبَ مَنْزِلًا وَأَدْخَلَ يَدَهُ فيه وَأَخْرَجَ
الْمَتَاعَ ولم يَدْخُلْ فيه هل يُقْطَعُ ذَكَرَ في الْأَصْلِ وفي الْجَامِعِ
الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ ولم يَحْكِ خِلَافًا
وقال أبو يُوسُفَ في الْإِمْلَاءِ أَقْطَعُ وَلَا أُبَالِي دخل الحرلإ ( ( ( الحرز
) ) ) أو لم يَدْخُلْ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا نَقَبَ وَدَخَلَ وَجَمَعَ
الْمَتَاعَ عِنْدَ النَّقْبِ ثُمَّ خَرَجَ وَأَدْخَلَ يَدَهُ فَرَفَعَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الرُّكْنَ في السَّرِقَةِ هو الْأَخْذُ من الْحِرْزِ
فَأَمَّا الدُّخُولُ في الْحِرْزِ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو
أَدْخَلَ يَدَهُ في الصُّنْدُوقِ أو في الْجَوَالِقِ وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ
يُقْطَعُ وَإِنْ لم يُوجَدْ الدُّخُولُ
وَلَهُمَا ما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال إذَا كان
اللِّصُّ ظَرِيفًا لم يُقْطَعْ
قِيلَ وَكَيْفَ يَكُونُ ظَرِيفًا قال يُدْخِلُ يَدَهُ إلَى الدَّارِ وَيُمْكِنُهُ
دُخُولُهَا ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه مُنْكِرٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا
وَلِأَنَّ هَتْكَ الْحِرْزِ على سَبِيلِ الْكَمَالِ شَرْطٌ لِأَنَّ بِهِ
تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ وَلَا يَتَكَامَلُ الْهَتْكُ فِيمَا يُتَصَوَّرُ فيه
الدُّخُولُ إلَّا بِالدُّخُولِ ولم يُوجَدْ بِخِلَافِ الْأَخْذِ من الصُّنْدُوقِ
وَالْجَوَالِقِ لِأَنَّ هَتْكَهُمَا بِالدُّخُولِ مُتَعَذَّرٌ فَكَانَ الْأَخْذُ
بِإِدْخَالِ الْيَدِ فيها هَتْكًا مُتَكَامِلًا فَيُقْطَعُ
وَلَوْ أَخْرَجَ السَّارِقُ الْمَتَاعَ من بَعْضِ بُيُوتِ الدَّارِ إلَى
السَّاحَةِ لَا يُقْطَعُ ما لم يَخْرُجْ من الدَّارِ لِأَنَّ الدَّارَ مع
اخْتِلَافِ بُيُوتِهَا حِرْزٌ وَاحِدٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قِيلَ لِصَاحِبِ الدَّارِ احْفَظْ هذه الْوَدِيعَةَ في
هذا الْبَيْتِ فَحَفِظَ في بَيْتٍ آخَرَ فَضَاعَتْ لم يَضْمَنْ
وَكَذَا إذَا أَذِنَ لِإِنْسَانٍ في دُخُولِ الدَّارِ فَدَخَلَهَا فَسَرَقَ من
الْبَيْتِ لَا يُقْطَعُ وَإِنْ لم يَأْذَنْ له بِدُخُولِ الْبَيْتِ
دَلَّ أَنَّ الدَّارَ مع اخْتِلَافِ بُيُوتِهَا حِرْزٌ وَاحِدٌ فلم يَكُنْ
الْإِخْرَاجُ إلَى صَحْنِ الدَّارِ إخْرَاجًا من الْحِرْزِ بَلْ هو نَقْلٌ من
بَعْضِ الْحِرْزِ إلَى الْبَعْضِ بِمَنْزِلَةِ النَّقْلِ من زَاوِيَةٍ إلَى
زَاوِيَةٍ أُخْرَى
هذا إذَا كانت الدَّارُ مع بُيُوتِهَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَمَّا إذَا كان كُلُّ
مَنْزِلٍ فيها لِرَجُلٍ فَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ من الْبَيْتِ إلَى السَّاحَةِ
يُقْطَعُ لِأَنَّ كُلَّ بَيْتٍ حِرْزٌ على حِدَةٍ فَكَانَ الْإِخْرَاجُ منه
إخْرَاجًا من الْحِرْزِ
وَكَذَلِكَ إذَا كان في الدَّارِ حُجَرٌ وَمَقَاصِيرُ فَسَرَقَ من مقصورة ( ( (
مقصور ) ) ) منها وَخَرَجَ بِهِ إلَى صَحْنِ الدَّارِ قُطِعَ لِأَنَّ كُلَّ
مَقْصُورَةٍ منها حِرْزٌ على حِدَةٍ فَكَانَ الْإِخْرَاجُ منها إخْرَاجًا من
الْحِرْزِ بِمَنْزِلَةِ الدَّارِ الْمُخْتَلِفَةِ في مَحَلَّةٍ وَاحِدَةٍ
وَلَوْ نَقَبَ رَجُلَانِ وَدَخَلَ أَحَدُهُمَا فَاسْتَخْرَجَ الْمَتَاعَ فلما
خَرَجَ بِهِ إلَى السِّكَّةِ حَمَلَاهُ جميعا يُنْظَرُ إنْ عُرِفَ الدَّاخِلُ
مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ قُطِعَ لِأَنَّهُ هو السَّارِقُ لِوُجُودِ الْأَخْذِ
وَالْإِخْرَاجِ منه وَيُعَزَّرُ الْخَارِجُ لِأَنَّهُ أَعَانَهُ على الْمَعْصِيَةِ
وَهَذِهِ مَعْصِيَةٌ ليس فيها حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ
وَإِنْ لم يُعْرَفْ الدَّاخِلُ مِنْهُمَا لم يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِأَنَّ
من عليه الْقَطْعُ مَجْهُولٌ وَيُعَزَّرَانِ
أَمَّا الْخَارِجُ فَلِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا الدَّاخِلُ فَلِارْتِكَابِهِ
جِنَايَةً لم يُسْتَوْفَ فيها الْحَدُّ لِعُذْرٍ فَتَعَيَّنَ التَّعْزِيرُ
وَلَوْ نَقَبَ بَيْتَ رَجُلٍ وَدَخَلَ عليه مُكَابَرَةً لَيْلًا حتى سَرَقَ منه
مَتَاعَهُ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ إنْ لم يُوجَدَ الْأَخْذُ على سَبِيلِ
الِاسْتِخْفَاءِ من الْمَالِكِ فَقَدْ وُجِدَ من الناس لِأَنَّ الْغَوْثَ لَا
يَلْحَقُ بِاللَّيْلِ لِكَوْنِهِ وَقْتَ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ فَتَحَقَّقَتْ
السَّرِقَةُ
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
وَأَمَّا التَّسَبُّبُ فَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ جَمَاعَةٌ من اللُّصُوصِ مَنْزِلَ
رَجُلٍ وَيَأْخُذُوا مَتَاعًا وَيَحْمِلُوهُ على ظَهْرِ وَاحِدٍ وَيُخْرِجُوهُ من
الْمَنْزِلِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُقْطَعَ إلَّا الْحَامِلُ خَاصَّةً وهو قَوْلُ
زُفَرَ
وفي الِاسْتِحْسَانِ يُقْطَعُونَ جميعا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ رُكْنَ السَّرِقَةِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ من
الْحِرْزِ وَذَلِكَ وُجِدَ منه مُبَاشَرَةً فَأَمَّا غَيْرُهُ فَمُعِينٌ له
وَالْحَدُّ يَجِبُ على الْمُبَاشِرِ لَا على الْمُعِينِ كَحَدِّ الزِّنَا
وَالشُّرْبِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِخْرَاجَ حَصَلَ من الْكُلِّ مَعْنًى لِأَنَّ
الْحَامِلَ لَا يَقْدِرُ على الْإِخْرَاجِ إلَّا بِإِعَانَةِ الْبَاقِينَ
وَتَرَصُّدِهِمْ لِلدَّفْعِ فَكَانَ الْإِخْرَاجُ من الْكُلِّ من حَيْثُ
الْمَعْنَى
وَلِهَذَا أُلْحِقَ الْمُعِينُ بِالْمُبَاشِرِ في قَطْعِ الطَّرِيقِ وفي
الْغَنِيمَةِ
كَذَا هذا وَلِأَنَّ الْحَامِلَ عَامِلٌ لهم فَكَأَنَّهُمْ حَمَلُوا الْمَتَاعَ
على حِمَارٍ وَسَاقُوهُ حتى أَخْرَجُوهُ من الْحِرْزِ وَلِأَنَّ السَّارِقَ لَا
يَسْرِقُ وَحْدَهُ عَادَةً بَلْ مع أَصْحَابِهِ
وَمِنْ عَادَةِ السُّرَّاقِ أَنَّهُمْ كلهم لَا يَشْتَغِلُونَ بِالْجَمْعِ وَالْإِخْرَاجِ
بَلْ يَرْصُدُ الْبَعْضُ فَلَوْ جُعِلَ ذلك مَانِعًا من وُجُوبِ الْقَطْعِ
لَانْسَدَّ بَابُ الْقَطْعِ وَانْفَتَحَ بَابُ السَّرِقَةِ
وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِهَذَا أُلْحِقَتْ الْإِعَانَةُ بِالْمُبَاشَرَةِ في بَابِ
قَطْعِ الطَّرِيقِ
كَذَا هذا
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى السَّارِقِ
وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ
منه
____________________
(7/66)
وَبَعْضُهَا
يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ فيه وهو الْمَكَانُ
أَمَّا ما يَرْجِعُ إلَى السَّارِقِ فَأَهْلِيَّةُ وُجُوبِ الْقَطْعِ وَهِيَ
الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَلَا يُقْطَعُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لِمَا رُوِيَ عن
النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال رُفِعَ الْقَلَمُ عن ثَلَاثَةٍ عن
الصَّبِيِّ حتى يَحْتَلِمَ
وَعَنْ الْمَجْنُونِ حتى يُفِيقَ وَعَنْ النَّائِمِ حتى يَسْتَيْقِظَ أَخْبَرَ
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عنهما وفي إيجَابِ
الْقَطْعِ إجْرَاءُ الْقَلَمِ عَلَيْهِمَا
وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَلِأَنَّ الْقَطْعَ عُقُوبَةٌ فَيَسْتَدْعِي جِنَايَةً
وَفِعْلُهُمَا لَا يُوصَفُ بِالْجِنَايَاتِ وَلِهَذَا لم يَجِبْ عَلَيْهِمَا
سَائِرُ الْحُدُودِ
كَذَا هذا
وَيَضْمَنَانِ السَّرِقَةَ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ
ضَمَانِ الْمَالِ
وَإِنْ كان السَّارِقُ يُجَنُّ مُدَّةً وَيُفِيقُ أُخْرَى فَإِنْ سَرَقَ في حَالِ
جُنُونِهِ لم يُقْطَعْ وَإِنْ سَرَقَ في حَالِ الْإِفَاقَةِ يُقْطَعْ
وَلَوْ سَرَقَ جَمَاعَةٌ فِيهِمْ صَبِيٌّ أو مَجْنُونٌ يَدْرَأُ عَنْهُمْ
الْقَطْعَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كان الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ هو الذي
تَوَلَّى إخْرَاجَ الْمَتَاعِ درىء ( ( ( درئ ) ) ) عَنْهُمْ جميعا وَإِنْ كان
وَلِيَهُ غَيْرُهُمَا قُطِعُوا جميعا إلَّا الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِخْرَاجَ من الْحِرْزِ هو الْأَصْلُ في السَّرِقَةِ
وَالْإِعَانَةُ كَالتَّابِعِ فإذا وَلِيَهُ الصَّبِيُّ أو الْمَجْنُونُ فَقَدْ أتى
بِالْأَصْلِ فإذا لم يَجِبْ الْقَطْعُ بِالْأَصْلِ كَيْفَ يَجِبُ بِالتَّابِعِ
فإذا وَلِيَهُ بَالِغٌ عَاقِلٌ فَقَدْ حُصِلَ الْأَصْلُ منه فَسُقُوطُهُ عن
التَّبَعِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ عن الْأَصْلِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رحمهم ( ( ( رحمهما ) ) ) اللَّهُ أَنَّ
السَّرِقَةَ وَاحِدَةٌ وقد حَصَلَتْ مِمَّنْ يَجِبُ عليه الْقَطْعُ وَمِمَّنْ لَا
يَجِبُ عليه الْقَطْعُ فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ على أَحَدٍ كَالْعَامِدِ مع الخاطىء
إذَا اشْتَرَكَا في الْقَطْعِ أو في الْقَتْلِ
وَقَوْلُهُ الْإِخْرَاجُ أَصْلٌ في السَّرِقَةِ مُسَلَّمٌ لَكِنَّهُ حَصَلَ من
الْكُلِّ مَعْنًى لِاتِّحَادِ الْكُلِّ في مَعْنَى التَّعَاوُنِ على ما بَيَّنَّا
فِيمَا تَقَدَّمَ فَكَانَ إخْرَاجُ غَيْرِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَإِخْرَاجِ
الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ضَرُورَةَ الِاتِّحَادِ
وعلى هذا الْخِلَافِ إذَا كان فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ من الْمَسْرُوقُ منه
أَنَّهُ لَا قَطْعَ على أَحَدٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
يُدْرَأُ عن ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَيَجِبُ على الْأَجْنَبِيِّ وَلَا خِلَافَ
في أَنَّهُ إذَا كان فِيهِمْ شَرِيكُ الْمَسْرُوقِ منه أَنَّهُ لَا قَطْعَ على
أَحَدٍ
فَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ الْأَهْلِيَّةِ فَتُقْطَعُ
الْأُنْثَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَكَذَلِكَ الْحُرِّيَّةُ فَيُقْطَعُ الْعَبْدُ
وَالْأَمَةُ وَالْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ وَأُمُّ الْوَلَدِ لِعُمُومِ الْآيَةِ
الشَّرِيفَةِ
وَيَسْتَوِي الْآبِقُ وَغَيْرُهُ لِمَا قُلْنَا
وَذُكِرَ في الْمُوَطَّأِ أَنَّ عَبْدًا لِعَبْدِ اللَّهِ بن سَيِّدِنَا عُمَرَ
رضي اللَّهُ عنهما سَرَقَ وهو آبِقٌ فَبَعَثَ بِهِ عبد اللَّهِ إلَى سَعِيدِ بن
الْعَاصِ رضي اللَّهُ عنه لِيَقْطَعَ يَدَهُ فَأَبَى سَعِيدٌ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ
وقال لَا تقطع ( ( ( نقطع ) ) ) يَدَ الْآبِقِ إذَا سَرَقَ فقال عبد اللَّهِ في
أَيِّمَا كِتَابِ اللَّهِ تعالى عز شَأْنُهُ وَجَدْتَ هذا إن الْعَبْدَ الْآبِقَ
إذَا سَرَقَ لَا تُقْطَعُ يَدُهُ فَأَمَرَ بِهِ عبد اللَّهِ رضي اللَّهُ عنه
فَقُطِعَتْ يَدُهُ
وَلِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْحُرِّيَّةَ لَيْسَتْ من شَرَائِطِ سَائِرِ الْحُدُودِ
فَكَذَا هذا الْحَدُّ وَكَذَا الْإِسْلَامُ ليس بِشَرْطٍ فَيُقْطَعُ الْمُسْلِمُ
وَالْكَافِرُ لِعُمُومِ آيَةِ السَّرِقَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا ما يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ
مَالًا مُطْلَقًا لَا قُصُورَ في مَالِيَّتِهِ وَلَا شُبْهَةَ وهو أَنْ يَكُونَ
مِمَّا يَتَمَوَّلُهُ الناس وَيَعُدُّونَهُ مَالًا لِأَنَّ ذلك يُشْعِرُ
بِعِزَّتِهِ وَخَطَرِهِ عِنْدَهُمْ وما لَا يَتَمَوَّلُونَهُ فَهُوَ تَافِهٌ
حَقِيرٌ وقد رُوِيَ عن سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت لم
تَكُنِ الْيَدُ تُقْطَعُ على عَهْدِ رسول اللَّهِ في الشَّيْءِ التَّافِهِ
وَهَذَا منها بَيَانُ شَرْعٍ مُتَقَرِّرٍ وَلِأَنَّ التَّفَاهَةَ تُخَلُّ في
الْحِرْزِ لِأَنَّ التَّافِهَ لَا يُحْرَزُ عَادَةً أو لَا يُحْرَزُ إحْرَازَ
الْخَطَرِ وَالْحِرْزُ الْمُطْلَقُ شَرْطٌ على ما نَذْكُرُ
وَكَذَا تُخَلُّ في الرُّكْنِ وهو الْأَخْذُ على سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ لِأَنَّ
أَخْذَ التَّافِهِ مِمَّا لَا يستخفى منه فَيَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ وَالشُّبْهَةُ
في الرُّكْنِ وَالشُّبْهَةُ في بَابِ الْحُدُودِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ
وَيَخْرُجُ على هذا مَسَائِلُ إذَا سَرَقَ صَبِيًّا حُرًّا لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ
الْحُرَّ ليس بِمَالٍ
وَلَوْ سَرَقَ صَبِيًّا عَبْدًا لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَعْقِلُ يُقْطَعُ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُقْطَعُ
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعَبْدَ ليس بِمَالٍ مَحْضٍ بَلْ هو مَالٌ من وَجْهٍ آدَمِيٌّ
من وَجْهٍ فَكَانَ مَحَلُّ السَّرِقَةِ من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا تَثْبُتُ
الْمَحَلِّيَّةُ بِالشَّكِّ فَلَا يُقْطَعُ كَالصَّبِيِّ الْعَاقِلِ
وَلَنَا أَنَّهُ مَالٌ من كل وَجْهٍ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ فيه على
الْكَمَالِ وَلَا يَدَ له على نَفْسِهِ فَيَتَحَقَّقُ رُكْنُ السَّرِقَةِ
كَالْبَهِيمَةِ وَكَوْنُهُ آدَمِيًّا لَا يَنْفِي كَوْنَهُ مَالًا فَهُوَ آدَمِيٌّ
من كل وَجْهٍ وَمَالٌ من كل وَجْهٍ لِعَدَمِ التَّنَافِي فَيَتَعَلَّقُ الْقَطْعُ
بِسَرِقَتِهِ من حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ لَا من حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ بِخِلَافِ
الْعَاقِلِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كان مَالًا من كل وَجْهٍ لَكِنَّهُ في يَدِ نَفْسِهِ
فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ يَدِ غَيْرِهِ عليه لِلتَّنَافِي فَلَا يَتَحَقَّقُ فيه
رُكْنُ السَّرِقَةِ وهو الْأَخْذُ
وَلَوْ سَرَقَ مَيْتَةً أو جِلْدَ مَيْتَةٍ لم يُقْطَعْ لِانْعِدَامِ الْمَالِ
____________________
(7/67)
وَلَا
يُقْطَعُ في التِّبْنِ وَالْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ وَالْحَطَبِ لِأَنَّ الناس لَا
يَتَمَوَّلُونَ هذه الْأَشْيَاءَ وَلَا يضنون ( ( ( يظنون ) ) ) بها لِعَدَمِ
عِزَّتِهَا وَقِلَّةِ خَطَرِهَا عِنْدَهُمْ بَلْ يَعُدُّونَ الضنة ( ( ( الظنة ) )
) بها من بَابِ الْخُسَاسَةِ فَكَانَتْ تَافِهَةً
وَلَا قَطْعَ في التُّرَابِ وَالطِّينِ وَالْجَصِّ وَاللَّبِنِ وَالنُّورَةِ
وَالْآجُرِّ وَالْفَخَّارِ وَالزُّجَاجِ لِتَفَاهَتِهَا
فَرَّقَ بين التُّرَابِ وَبَيْنَ الْخَشَبِ حَيْثُ سَوَّى في التُّرَابِ بين
الْمَعْمُولِ منه وَغَيْرِ الْمَعْمُولِ
وَفَرَّقَ في الْخَشَبِ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ في الْخَشَبِ أَخْرَجَتْهُ عن حَدِّ
التَّفَاهَةِ وَالصَّنْعَةَ في التُّرَابِ لم تُخْرِجْهُ عن كَوْنِهِ تَافِهًا
يُعْرَفُ ذلك بِالرُّجُوعِ إلَى عُرْفِ الناس وَعَادَاتِهِمْ
وَمِنْ أَصْحَابِنَا من فَصَّلَ في الْجَوَابِ في الزُّجَاجِ بين الْمَعْمُولِ
وَغَيْرِ الْمَعْمُولِ كما في الْخَشَبِ
وَمِنْهُمْ من سَوَّى بَيْنَهُمَا وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الزُّجَاجَ بِالْعَمَلِ
لم يَخْرُجْ عن حَدِّ التَّفَاهَةِ لِأَنَّهُ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْكَسْرُ
بِخِلَافِ الْخَشَبِ وَلَا يُقْطَعُ في الْخَشَبِ إلَّا إذَا كان مَعْمُولًا
بِأَنْ صَنَعَ منه أَبْوَابًا أو آنِيَةً وَنَحْوَ ذلك ما خَلَا السَّاجَ
وَالْقَنَا وَالْأَبَنُوسَ وَالصَّنْدَلَ لِأَنَّ غير الْمَصْنُوعِ من الْخَشَبِ
لَا يَتَمَوَّلُ عَادَةً فَكَانَ تَافِهًا وَبِالصَّنْعَةِ يَخْرُجُ عن
التَّفَاهَةِ فَيَتَمَوَّلُ
وَأَمَّا السَّاجُ وَالْأَبَنُوسُ وَالصَّنْدَلُ فَأَمْوَالٌ لها عِزَّةٌ وَخَطَرٌ
عِنْدَ الناس فَكَانَتْ أَمْوَالًا مُطْلَقَةً
وَأَمَّا الْعَاجُ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ إلَّا في
الْمَعْمُولِ منه
وَقِيلَ هذا الْجَوَابُ في الْعَاجِ الذي هو من عَظْمِ الْجَمَلِ فَلَا يُقْطَعُ
إلَّا في الْمَعْمُولِ منه
لِأَنَّهُ لَا يَتَمَوَّلُ لِتَفَاهَتِهِ وَيُقْطَعُ في الْمَعْمُولِ لِخُرُوجِهِ
عن حَدِّ التَّفَاهَةِ بِالصَّنْعَةِ كَالْخَشَبِ الْمَعْمُولِ
فَأَمَّا ما هو من عَظْمِ الْفِيلِ فَلَا يُقْطَعُ فيه أَصْلًا سَوَاءٌ كان مَعْمُولًا
أو غير مَعْمُولٍ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا في مَالِيَّتِهِ حتى حَرَّمَ
بَعْضُهُمْ بَيْعَهُ وَالِانْتِفَاعَ بِهِ فَأَوْجَبَ ذلك قُصُورًا في
الْمَالِيَّةِ
وَلَا قَطْعَ في قَصَبِ النُّشَّابِ فَإِنْ كان اتَّخَذَ منه نُشَّابًا قُطِعَ
لِمَا قُلْنَا في الْخَشَبِ وَلَا قَطْعَ في الْقُرُونِ مَعْمُولَةً كانت أو غير
مَعْمُولَةٍ
وقال أبو يُوسُفَ إنْ كانت مَعْمُولَةً وَهِيَ تُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ قُطِعَ
قِيلَ إنَّ اخْتِلَافَ الْجَوَابِ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ فَمَوْضُوعُ
الْمَسْأَلَةِ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في قُرُونِ الْمَيْتَةِ
لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ مُطْلَقٍ لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ في مَالِيَّتِهَا
وَجَوَابُ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ في قُرُونِ الْمُذَكَّى فلم يُوجِبْ
الْقَطْعَ في غَيْرِ الْمَعْمُولِ منها لِأَنَّهَا من أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ
وَأَوْجَبَ في الْمَعْمُولِ كما في الْخَشَبِ الْمَعْمُولِ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ في جُلُودِ السِّبَاعِ الْمَدْبُوغَةِ أَنَّهُ لَا قَطْعَ فيها
فَإِنْ جُعِلَتْ مُصَلَّاةً أو بِسَاطًا قُطِعَ لِأَنَّ غير الْمَعْمُولِ منها من
أَجْزَاءِ الصَّيْدِ وَلَا قَطْعَ في الصَّيْدِ فَكَذَا في أَجْزَائِهِ
وَبِالصَّنْعَةِ صَارَتْ شيئا آخَرَ فَأَشْبَهَ الْخَشَبَ الْمَصْنُوعَ
وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ مُحَمَّدًا لم يَعْتَدَّ بِخِلَافِ من يقول من
الْفُقَهَاءِ إنَّ جُلُودَ السِّبَاعِ لَا تَطْهُرُ بالذكاة ( ( ( بالزكاة ) ) )
وَلَا بِالدِّبَاغِ
وَلَا قَطْعَ في الْبَوَارِي لِأَنَّهَا تَافِهَةٌ لِتَفَاهَةِ أَصْلِهَا وهو
الْقَصَبُ وَلَا قَطْعَ في سَرِقَةِ كَلْبٍ وَلَا فَهْدٍ وَلَا في سَرِقَةِ
الْمَلَاهِي من الطَّبْلِ وَالدُّفِّ وَالْمِزْمَارِ وَنَحْوِهَا
لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ مِمَّا لَا يَتَمَوَّلُ أو في مَالِيَّتِهَا قُصُورٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا ضَمَانَ على كَاسِرِ الْمَلَاهِي عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ وَلَا على قَاتِلِ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ
وَلَوْ سَرَقَ مُصْحَفًا أو صَحِيفَةً فيها حَدِيثٌ أو عَرَبِيَّةٌ أو شِعْرٌ
فَلَا قَطْعَ
وقال أبو يُوسُفَ يُقْطَعُ إذَا كان يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الناس
يَدَّخِرُونَهَا وَيَعُدُّونَهَا من نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ
وَلَنَا أَنَّ الْمُصْحَفَ الْكَرِيمَ يُدَّخَرُ لَا لِلتَّمَوُّلِ بَلْ
لِلْقِرَاءَةِ وَالْوُقُوفِ على ما يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةُ الدِّينِ
وَالدُّنْيَا وَالْعَمَلِ بِهِ
وَكَذَلِكَ صَحِيفَةُ الحديث وَصَحِيفَةُ الْعَرَبِيَّةِ وَالشِّعْرِ يُقْصَدُ بها
مَعْرِفَةُ الْأَمْثَالِ وَالْحِكَمِ لَا التَّمَوُّلِ
وَأَمَّا دَفَاتِرُ الْحِسَابِ فَفِيهَا الْقَطْعُ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهَا
نِصَابًا لِأَنَّ ما فيها لَا يَصْلُحُ مَقْصُودًا بِالْأَخْذِ فَكَانَ
الْمَقْصُودُ هو قَدْرُ الْبَيَاضِ من الْكَاغَدِ
وَكَذَلِكَ للدفاتر ( ( ( الدفاتر ) ) ) الْبِيضُ إذَا بَلَغَتْ نِصَابًا لِمَا
قُلْنَا
وعلى هذا يَخْرُجُ ما قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنَّ
كُلَّ ما يُوجَدُ جِنْسُهُ تَافِهًا مُبَاحًا في دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا قَطْعَ
فيه لِأَنَّ كُلَّ ما كان كَذَلِكَ فَلَا عِزَّ له وَلَا خَطَرَ فَلَا يتموله ( (
( يتمول ) ) ) الناس فَكَانَ تَافِهًا وَالِاعْتِمَادُ على مَعْنَى التَّفَاهَةِ
دُونَ الْإِبَاحَةِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا قَطْعَ في عَفْصٍ وَلَا إهْلِيلَجَ وَلَا
أُشْنَانٍ وَلَا فَحْمٍ لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ مُبَاحَةُ الْجِنْسِ في دَارِ
الْإِسْلَامِ وَهِيَ تَافِهَةٌ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ في الْعَفْصِ وَالْإِهْلِيلَجِ
وَالْأَدْوِيَةِ الْيَابِسَةِ
وَلَا قَطْعَ في طَيْرٍ وَلَا صَيْدٍ وَحْشِيًّا كان أو غَيْرَهُ لِأَنَّ
الطَّيْرَ لَا يَتَمَوَّلُ عَادَةً
وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنهما
أَنَّهُمَا قَالَا لَا قَطْعَ في الطَّيْرِ ولم يُنْقَلْ عن غَيْرِهِمَا خِلَافَ
ذلك فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَكَذَلِكَ ما عُلِمَ من الْجَوَارِحِ فَصَارَ صَيُودًا
فَلَا قَطْعَ على سراقة لِأَنَّهُ وَإِنْ عُلِمَ فَلَا يُعَدُّ مَالًا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ
____________________
(7/68)
النَّبَّاشُ
أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِيمَا أَخَذَ من الْقُبُورِ في قَوْلِهِمَا
وقال أبو يُوسُفَ يُقْطَعُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَخَذَ مَالًا من حِرْزٍ مِثْلِهِ فَيُقْطَعُ كما لو
أَخَذَ من الْبَيْتِ وَلَهُمَا أَنَّ الْكَفَنَ ليس بِمَالٍ لِأَنَّهُ لَا
يُتَمَوَّلُ بِحَالٍ لِأَنَّ الطِّبَاعَ السَّلِيمَةَ تَنْفِرُ عنه أَشَدَّ
النِّفَارِ فَكَانَ تَافِهًا وَلَئِنْ كان مَالًا فَفِي مَالِيَّتِهِ قُصُورٌ
لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِثْلَ ما يُنْتَفَعُ بِلِبَاسِ الْحَيِّ
وَالْقُصُورُ فَوْقَ الشبه ( ( ( الشبهة ) ) ) ثُمَّ الشُّبْهَةُ تَنْفِي وُجُوبَ
الْحَدِّ فَالْقُصُورُ أَوْلَى رَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ قال أُخِذَ نَبَّاشٌ في
زَمَنِ مَرْوَانَ بِالْمَدِينَةِ فَأَجْمَعَ أَصْحَابُ رسول اللَّهِ وَهُمْ
مُتَوَافِرُونَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ سَرِقَةُ ما لَا يَحْتَمِلُ الِادِّخَارَ وَلَا يَبْقَى من
سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ بَلْ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ فيه
لِأَنَّ ما لَا يَحْتَمِلُ الِادِّخَارَ لَا يُعَدُّ مَالًا فَلَا قَطْعَ في
سَرِقَةِ الطَّعَامِ الرَّطْبِ وَالْبُقُولِ وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ في
قَوْلِهِمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُقْطَعُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ مَالٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً مُبَاحُ الِانْتِفَاعِ
بِهِ شَرْعًا على الْإِطْلَاقِ فَكَانَ مَالًا فَيُقْطَعُ كما في سَائِرِ
الْأَمْوَالِ
وَلَهُمَا أَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ مِمَّا لَا يُتَمَوَّلُ عَادَةً وَإِنْ كانت
صَالِحَةً لِلِانْتِفَاعِ بها في الْحَالِ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الِادِّخَارَ
وَالْإِمْسَاكَ إلَى زَمَانِ حُدُوثِ الْحَوَائِجِ في الْمُسْتَقْبَلِ فَقَلَّ
خَطَرُهَا عِنْدَ الناس فَكَانَتْ تَافِهَةً وَلَوْ سَرَقَ تَمْرًا من نَخْلٍ أو
شَجَرٍ آخَرَ مُعَلَّقًا فيه فَلَا قَطْعَ عليه وَإِنْ كان عليه حَائِطٌ
اسْتَوْثَقُوا منه وَأَحْرَزُوهُ أو هُنَاكَ حَائِطٌ لِأَنَّ ما على رَأْسِ
النَّخْلِ لَا يُعَدُّ مَالًا وَلِأَنَّهُ ما دَامَ على رَأْسِ الشَّجَرِ لَا
يَسْتَحْكِمُ جَفَافُهُ فَيَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ
وقد رُوِيَ عن النبي عليه السلام ( ( ( وسلم ) ) ) أَنَّهُ قال لَا قَطْعَ في
ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ قال مُحَمَّدٌ الثَّمَرُ ما كان في الشَّجَرِ
وَالْكَثَرُ الْجُمَّارُ فَإِنْ كان قد جَذَّ الثَّمَرَ وَجَعَلَهُ في جرين ( ( (
الجرين ) ) ) ثُمَّ سُرِقَ فَإِنْ كان قد اسْتَحْكَمَ جَفَافُهُ قُطِعَ لِأَنَّهُ
صَارَ مَالًا مُطْلَقًا قَابِلًا لِلِادِّخَارِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رسول اللَّهِ
حَيْثُ قال لَا قَطْعَ في ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ حتى يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ فإذا
آوَاهُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ الْقَطْعُ لِأَنَّهُ لَا يُؤْوِيهِ
الْجَرِينُ ما لم يَسْتَحْكِمْ جَفَافُهُ عَادَةً فإذا اسْتَحْكَمَ جَفَافُهُ لَا
يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ فَكَانَ مَالًا مُطْلَقًا
وَكَذَلِكَ الْحِنْطَةُ إذَا كانت في سُنْبُلِهَا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَرِ
الْمُعَلَّقِ في الشَّجَرِ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ ما دَامَتْ في السُّنْبُلِ لَا
تُعَدُّ مَالًا وَلَا يَسْتَحْكِمُ جَفَافُهَا أَيْضًا
وَأَمَّا الْفَاكِهَةُ الْيَابِسَةُ التي تَبْقَى من سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ
فَالصَّحِيحُ من الرِّوَايَةِ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُقْطَعُ
فِيمَا يَتَمَوَّلُ الناس إيَّاهَا لِقَبُولِهَا الِادِّخَارَ فَانْعَدَمَ مَعْنَى
التَّفَاهَةِ الْمَانِعَةِ من وُجُوبِ الْقَطْعِ
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ سَوَّى بين رَطْبِ الْفَاكِهَةِ وَيَابِسِهَا وَلَيْسَتْ
بِصَحِيحَةٍ
وَلَوْ سَرَقَ من الْحَائِطِ نَخْلَةً بِأَصْلِهَا لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ أَصْلَ
النَّخْلَةِ مِمَّا لَا يُتَمَوَّلُ فَكَانَ تَافِهًا
وَرَوَيْنَا عن النبي أَنَّهُ قال لَا قَطْعَ في ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ وَقِيلَ في
تَفْسِيرِ الكثر ( ( ( ذلك ) ) ) إنَّهُ النَّخْلُ الصِّغَارُ
وَيُقْطَعُ في الْحِنَّاءِ وَالْوَسْمَةِ لِأَنَّهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ
الْفَسَادُ فلم يَخْتَلَّ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ وَلَا قَطْعَ في اللَّحْمِ
الطَّرِيِّ وَالصَّفِيقِ لِأَنَّهُ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ
وَكَذَلِكَ لَا قَطْعَ في السَّمَكِ طَرِيًّا كان أو مَالِحًا لِأَنَّ الناس لَا
يَعُدُّونَهُ مَالًا لِتَفَاهَتِهِ وَلِتَسَارُعِ الْفَسَادِ إلَى الطَّرِيِّ منه
وَلِمَا أَنَّهُ يُوجَدُ جِنْسُهُ مُبَاحًا في دَارِ الْإِسْلَامِ
وَلَا قَطْعَ في اللَّبَنِ لِأَنَّهُ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ فَكَانَ
تَافِهًا
وَيُقْطَعُ في الْخَلِّ وَالدِّبْسِ لِعَدَمِ التَّفَاهَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِمَا الْفَسَادُ وَلَا قَطْعَ في
عَصِيرِ الْعِنَبِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ وَنَبِيذِ التَّمْرِ لِأَنَّهُ
يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ فَكَانَ تَافِهًا كَاللَّبَنِ وَلَا قَطْعَ في
الطِّلَاءِ وهو الْمُثَلَّثُ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ في إبَاحَتِهِ وفي كَوْنِهِ
مَالًا فَكَانَ قَاصِرًا في مَعْنَى الْمَالِيَّةِ وَكَذَلِكَ الْمَطْبُوخُ
أَدْنَى طَبْخَةً من نَقِيعِ الزَّبِيبِ وَنَبِيذِ التَّمْرِ لِاخْتِلَافِ
الْفُقَهَاءِ في إبَاحَةِ شُرْبِهِ
وَأَمَّا الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةً من عَصِيرِ الْعِنَبِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ
لَا قَطْعَ فيه لِأَنَّهُ حَرَامٌ فلم يَكُنْ مَالًا
وَيُقْطَعُ في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَنَّهُمَا من أَعَزِّ الْأَمْوَالِ وَلَا
تَفَاهَةَ فِيهِمَا بِوَجْهٍ
وَكَذَلِكَ الْجَوَاهِرُ واللآلىء ( ( ( واللآلئ ) ) ) لِمَا قُلْنَا
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ التَّعْوِيلَ في هذا الْبَابِ في مَنْعِ وُجُوبِ
الْقَطْعِ على مَعْنَى التَّفَاهَةِ وَعَدَمِ الْمَالِيَّةِ لَا على إبَاحَةِ
الْجِنْسِ لِأَنَّ ذلك مَوْجُودٌ في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْجَوَاهِرِ
واللآلىء ( ( ( واللآلئ ) ) ) وَغَيْرِهَا
وَيُقْطَعُ في الْحُبُوبِ كُلِّهَا وفي الْأَدْهَانِ وَالطِّيبِ كَالْعُودِ
وَالْمِسْكِ وما أَشْبَهَ ذلك لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّفَاهَةِ وَيُقْطَعُ في
الْكَتَّانِ وَالصُّوفِ وَالْخَزِّ وَنَحْوِ ذلك وَيُقْطَعُ في جَمِيعِ
الْأَوَانِي من الصُّفْرِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ لو سَرَقَ النُّحَاسَ نَفْسَهُ أو الْحَدِيدَ نَفْسَهُ أو الرَّصَاصَ
لِعِزَّةِ هذه الْأَشْيَاءِ وَخَطَرِهَا في أَنْفُسِهَا كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا مُطْلَقًا فَلَا يُقْطَعُ في سَرِقَةِ
الْخَمْرِ من مُسْلِمٍ مُسْلِمًا كان السَّارِقُ أو ذِمِّيًّا لِأَنَّهُ لَا
قِيمَةَ لِلْخَمْرِ في حَقِّ الْمُسْلِمِ وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا سَرَقَ من
ذِمِّيٍّ خَمْرًا أو خِنْزِيرًا لَا يُقْطَعُ
____________________
(7/69)
لِأَنَّهُ
وَإِنْ كان مُتَقَوِّمًا عِنْدَهُمْ فَلَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ عِنْدَنَا فلم يَكُنْ
مُتَقَوِّمًا على الْإِطْلَاقِ وَلَا يُقْطَعُ في الْمُبَاحِ الذي ليس بِمَمْلُوكٍ
وَإِنْ كان مَالًا لِانْعِدَامِ تَقَوُّمِهِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا في نَفْسِهِ فَلَا يُقْطَعُ في سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ
التي لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ وَإِنْ كانت من نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ من الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالْجَوَاهِرِ الْمُسْتَخْرَجَةِ من مَعَادِنِهَا لِعَدَمِ
الْمَالِكِ
وَعَلَى هذا أَيْضًا يَخْرُجُ النَّبَّاشُ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
أَنَّهُ لَا يُقْطَع لِأَنَّ الْكَفَنَ ليس بِمَمْلُوكٍ
لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ على مِلْكِ الْمَيِّتِ وَإِمَّا أَنْ
يَكُونَ على مِلْكِ الْوَرَثَةِ
لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ ليس من أَهْلِ الْمِلْكِ وَلَا
وَجْهَ لِلثَّانِي لِأَنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ مُؤَخَّرٌ عن حَاجَةِ الْمَيِّتِ
إلَى الْكَفَنِ كما هو مُؤَخَّرٌ عن الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ فلم يَكُنْ
مَمْلُوكًا أَصْلًا
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلسَّارِقِ فيه مِلْكٌ وَلَا تَأْوِيلُ الْمِلْكِ أو
شُبْهَتُهُ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ أو ما فيه تَأْوِيلُ الْمِلْكِ أو الشُّبْهَةَ
لَا يُحْتَاجُ فيه إلَى مُسَارَقَةِ الْأَعْيُنِ فَلَا يَتَحَقَّقُ رُكْنُ
السَّرِقَةِ وهو الْأَخْذُ على سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ وَالِاسْتِسْرَارِ على
الْإِطْلَاقِ وَلِأَنَّ الْقَطْعَ عُقُوبَةُ السَّرِقَةِ قال اللَّهُ في آيَةِ
السَّرِقَةِ { جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا من اللَّهِ } فَيَسْتَدْعِي كَوْنَ
الْفِعْلِ جِنَايَةً مَحْضَةً
وَأَخْذُ الْمَمْلُوكِ لِلسَّارِقِ لَا يَقَعُ جِنَايَةً أَصْلًا فَالْأَخْذُ
بِتَأْوِيلِ الْمِلْكِ أو الشُّبْهَةِ لَا يَتَمَحَّضُ جِنَايَةً فَلَا يُوجِبُ
الْقَطْعَ
إذَا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ لَا قَطْعَ على من سَرَقَ ما أَعَارَهُ من إنْسَانٍ أو
آجَرَهُ منه لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ قَائِمٌ وَلَا على من سَرَقَ رَهْنَهُ من
بَيْتِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ مِلْكَ الْعَيْنِ له وَإِنَّمَا الثَّابِتُ لِلْمُرْتَهِنِ
حَقُّ الْحَبْسِ لَا غَيْرُ
وَلَوْ كان الرَّهْنُ في يَدِ الْعَدْلِ فَسَرَقَهُ الْمُرْتَهِنُ أو الرَّاهِنُ
فَلَا قَطْعَ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَمَّا الرَّاهِنُ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِلْكُهُ فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ
بِأَخْذِهِ وَإِنْ مُنِعَ من الْأَخْذِ كما لَا يَجِبُ الْحَدُّ عليه بِوَطْئِهِ
الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ وَإِنْ مُنِعَ من الْوَطْءِ
وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلِأَنَّ يَدَ الْعَدْلِ يَدُهُ من وَجْهٍ لِأَنَّ
مَنْفَعَةَ يَدِهِ عَائِدَةٌ إلَيْهِ لِأَنَّهُ يُمْسِكُهُ لِحَقِّهِ فَأَشْبَهَ
يَدَ الْمُودَعِ
وَلَا على من سَرَقَ مَالًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْرُوقِ منه
لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِلْكُهُمَا على الشُّيُوعِ فَكَانَ بَعْضُ الْمَأْخُوذِ
مِلْكُهُ فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَخْذِهِ فَلَا يَجِبُ بِأَخْذِ الْبَاقِي
لِأَنَّ السَّرِقَةَ سَرِقَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَا على من سَرَقَ من بَيْتِ الْمَالِ
الْخُمُسَ لِأَنَّ له فيه مِلْكًا وَحَقًّا
وَلَوْ سَرَقَ من عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ فَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَلَا
قَطْعَ لِأَنَّ كَسْبَهُ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى
وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ يُحِيطُ بِهِ وَبِمَا في يَدِهِ لَا يُقْطَعُ أَيْضًا
أَمَّا على أَصْلِهِمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ كَسْبَهُ مِلْكُ الْمَوْلَى وَعَلَى
أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ لم يَكُنْ مِلْكَهُ فَلَهُ فيه ضَرْبُ
اخْتِصَاصٍ يُشْبِهُ الْمِلْكَ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِخْلَاصَهُ لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ من
مَالٍ آخَرَ فَكَانَ في مَعْنَى الْمِلْكِ
وَلِهَذَا لو كان الْكَسْبُ جَارِيَةً لم يَجُزْ له أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَيُورِثَ
شُبْهَةً أو نَقُولُ إذَا لم يَمْلِكْهُ الْمَوْلَى وَلَا الْمَأْذُونُ يَمْلِكُهُ
أَيْضًا لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ على شَيْءٍ وَالْغُرَمَاءُ لَا
يَمْلِكُونَ أَيْضًا فَهَذَا مَالُ مَمْلُوكٍ لَا مَالِكٍ له مُعِينٌ فَلَا يَجِبُ
الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ كَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَكَمَالِ الْغَنِيمَةِ
وَلَوْ سَرَقَ من مُكَاتَبِهِ لم يُقْطَعْ لِأَنَّ كَسْبَ مكاتبته ( ( ( مكاتبه )
) ) مِلْكُهُ من وَجْهٍ أو فيه شُبْهَةُ الْمِلْكِ له
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو كان جَارِيَةً لَا يَحِلُّ له أَنْ يَتَزَوَّجَهَا
وَالْمِلْكُ من وَجْهٍ أو شُبْهَةُ الْمِلْكِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ مع ما
أَنَّ هذا مِلْكٌ مَوْقُوفٌ على الْمُكَاتَبِ وَعَلَى مَوْلَاهُ في الْحَقِيقَةِ
لِأَنَّهُ إنْ أَدَّى تَبَيَّنَ أَنَّهُ كان مِلْكَ الْمَوْلَى فَتَبَيَّنَ
أَنَّهُ أَخَذَ مَالَ نَفْسِهِ وَإِنْ عَجَزَ فَرُدَّ في الرِّقِّ تَبَيَّنَ
أَنَّهُ كان مِلْكَ الْمُكَاتَبِ فَكَانَ الْمِلْكُ مَوْقُوفًا لِلْحَالِ
فَيُوجِبُ شُبْهَةً فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ كَأَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا
سَرَقَ ما شَرَطَ فيه الْخِيَارَ وَلَا قَطْعَ على من سَرَقَ من وَلَدِهِ لِأَنَّ
له في مَالِ وَلَدِهِ تَأْوِيلَ الْمِلْكِ أو شُبْهَةَ الْمِلْكِ لِقَوْلِهِ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أنت وَمَالُك لِأَبِيك فَظَاهِرُ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ
بلام التَّمْلِيكِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ له من كل وَجْهٍ إلَّا أَنَّهُ لم
يَثْبُتْ لِدَلِيلٍ وَلَا دَلِيلَ في الْمِلْكِ من وَجْهٍ فَيَثْبُتُ أو يَثْبُتُ
لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ وَكُلُّ ذلك يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ لِأَنَّهُ يُورِثُ
شُبْهَةً في وُجُوبِهِ
وَأَمَّا السَّرِقَةُ من سَائِرِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلَا تُوجِبُ
الْقَطْعَ أَيْضًا لَكِنْ لِفَقْدِ شَرْطٍ آخَرَ نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ دخل لِصٌّ دَارَ رَجُلٍ فَأَخَذَ ثَوْبًا فَشَقَّهُ في
الدَّارِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ وهو يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَشْقُوقًا
يُقْطَعُ في قَوْلِهِمَا وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُقْطَعُ وَلَوْ
أَخَذَ شَاةً فَذَبَحَهَا ثُمَّ أَخْرَجَهَا مَذْبُوحَةً لَا يُقْطَعُ
بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ السَّارِقَ وُجِدَ منه سَبَبُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ قبل
الْإِخْرَاجِ وهو الشَّقُّ لِأَنَّ ذلك سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَوُجُوبُ
الضَّمَانِ يُوجِبُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ من وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ على أَصْلِ
أَصْحَابِنَا وَذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ وَلِهَذَا لم يُقْطَعْ إذَا كان
الْمَسْرُوقُ شَاةً فَذَبَحَهَا ثُمَّ أَخْرَجَهَا كَذَا هذا
وَلَهُمَا أَنَّ السَّرِقَةَ تَمَّتْ في مِلْكِ
____________________
(7/70)
الْمَسْرُوقِ
منه فَيُوجِبُ الْقَطْعَ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذلك لِأَنَّ الثَّوْبَ الْمَشْقُوقَ
لَا يَزُولُ عن مِلْكِهِ ما دام مُخْتَارًا لِلْعَيْنِ وَإِنَّمَا يَزُولُ عِنْدَ
اخْتِيَارِ الضَّمَانِ فَقَبْلَ الِاخْتِيَارِ كان الثَّوْبُ على مِلْكِهِ فَصَارَ
سَارِقًا ثَوْبَيْنِ قِيمَتُهُمَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَيُقْطَعُ وَهَكَذَا
نَقُولُ في الشَّاةِ أن السَّرِقَةَ تَمَّتْ في مِلْكِ الْمَسْرُوقِ منه إلَّا
أنها تَمَّتْ في اللَّحْمِ وَلَا قَطْعَ في اللَّحْمِ
وَقَوْلُهُ وَجَبَ الضَّمَانُ عليه بِالشَّقِّ قُلْنَا قبل الِاخْتِيَارِ
مَمْنُوعٌ فإذا اخْتَارَ تَضْمِينَ السَّارِقِ وسلم الثَّوْبَ إلَيْهِ لَا
يُقْطَعُ لِأَنَّهُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ مَلَكَهُ من حِينِ وُجُودِ
الشَّقِّ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْرَجَ مِلْكَ نَفْسِهِ عن الْحِرْزِ فَلَا قَطْعَ
عليه
وَحُكِيَ عن الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ
قال مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ شَقَّ الثَّوْبَ عَرْضًا فَأَمَّا لو شَقَّهُ
طُولًا فَلَا قَطْعَ لِأَنَّهُ بِالشَّقِّ طُولًا خَرَقَهُ خَرْقًا مُتَفَاحِشًا
فَيَمْلِكُهُ بِالضَّمَانِ
وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ أَنَّ السَّارِقَ إذَا خَرَقَ الثَّوْبَ تَخْرِيقًا
مُسْتَهْلَكًا وَقِيمَتُهُ بَعْدَ تَخْرِيقِهِ عَشَرَةٌ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عليه
في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رحمه ( ( ( رحمهما ) ) ) اللَّهُ وَهَذَا
يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
لِأَنَّ التَّخْرِيقَ إذَا وَقَعَ اسْتِهْلَاكًا أَوْجَبَ اسْتِقْرَارَ الضَّمَانِ
وَذَلِكَ يُوجِبُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ وإذا لم يَقَعْ اسْتِهْلَاكًا كان وُجُوبُ
الضَّمَانِ فيه مَوْقُوفًا على اخْتِيَارِ الْمَالِكِ فَلَا يَجِبُ قبل
الِاخْتِيَارِ فَلَا يَمْلِكُ الْمَضْمُونَ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ من غَرِيمٍ له عليه
عَشَرَةٌ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَأْخُوذَ بِنَفْسِ الْأَخْذِ
فَصَارَ قِصَاصًا بِحَقِّهِ فلم يَبْقَ في حَقِّ هذا الْمَالِ سَارِقًا فَلَا
يُقْطَعُ
وَلَوْ كان الْمَسْرُوقُ من خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ لَا
يَمْلِكُهُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ بَلْ بِالِاسْتِبْدَالِ وَالْبَيْعِ فَكَانَ
سَارِقًا مِلْكَ غَيْرِهِ فَيُقْطَعُ كَالْأَجْنَبِيِّ إلَّا إذَا قال أَخَذْتُهُ
لِأَجْلِ حَقِّي على ما نَذْكُرُ
وَهَهُنَا جِنْسٌ من الْمَسَائِلِ يُمْكِنُ تَخْرِيجُهَا إلَى أَصْلٍ آخَرَ هو
أُولَى بِالتَّخْرِيجِ عليه وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدُ
منها أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا ليس لِلسَّارِقِ فيه حَقُّ الْأَخْذِ وَلَا
تَأْوِيلُ الْأَخْذِ وَلَا شُبْهَةُ التَّنَاوُلِ لِأَنَّ الْقَطْعَ عُقُوبَةٌ
مَحْضَةٌ فَيَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً وَأَخْذُ غَيْرِ الْمَعْصُومِ لَا
يَكُونُ جِنَايَةً أَصْلًا وما فيه تَأْوِيلُ التَّنَاوُلِ أو شُبْهَةُ التَّنَاوُلِ
لَا يَكُونُ جِنَايَةً مَحْضَةً فَلَا تُنَاسِبُهُ الْعُقُوبَةُ الْمَحْضَةُ
وَلِأَنَّ ما ليس بِمَعْصُومٍ يُؤْخَذُ مُجَاهَرَةً لَا مُخَافَتَةً فَيَتَمَكَّنُ
الْخَلَلُ في رُكْنِ السَّرِقَةِ
وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ لَا قَطْعَ في سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ التي لَا
يَمْلِكُهَا أَحَدٌ وَلَا في الْمُبَاحِ الْمَمْلُوكِ وهو مَالُ الْحَرْبِيِّ في
دَارِ الْحَرْبِ
وَأَمَّا مَالُ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ في دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا قَطْعَ
فيه اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مَعْصُومًا لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ
اسْتَفَادَ الْعِصْمَةَ بِالْأَمَانِ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ وَلِهَذَا كان
مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ كَمَالِ الذِّمِّيِّ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هذا مَالٌ فيه شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ
الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ من أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَإِنَّمَا دخل دَارَ
الْإِسْلَامِ لِيَقْضِيَ بَعْضَ حَوَائِجِهِ ثُمَّ يَعُودَ عن قَرِيبٍ فَكَوْنُهُ
من أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ يُورِثُ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ في مَالِهِ وَلِهَذَا
أَوْرَثَ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ في دَمِهِ حتى لَا يُقْتَلَ بِهِ الْمُؤْمِنُ
قِصَاصًا وَلِأَنَّهُ كان مُبَاحًا وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ بِعَارِضِ
أَمَانٍ هو على شَرَفِ الزَّوَالِ فَعِنْدَ الزَّوَالِ يَظْهَرُ أَنَّ الْعِصْمَةَ
لم تَكُنْ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ إنَّ كُلَّ عَارِضٍ على أَصْلٍ إذَا زَالَ
يُلْحَقُ بِالْعَدَمِ من الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ فَيُجْعَلَ كَأَنَّ
الْعِصْمَةَ لم تَكُنْ ثَابِتَةً بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ من أَهْلِ دَارِ
الْإِسْلَامِ وقد اسْتَفَادَ الْعِصْمَةَ بِأَمَانٍ مُؤَبَّدٍ فَكَانَ مَعْصُومَ
الدَّمِ وَالْمَالِ عِصْمَةً مُطْلَقَةً ليس فيها شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ
وَبِخِلَافِ ضَمَانِ الْمَالِ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ ضَمَانِ
الْمَالِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا تَسْقُطُ
بِالشُّبُهَاتِ
وَكَذَا لَا قَطْعَ على الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ في سَرِقَةِ مَالِ
الْمُسْلِمِ أو الذِّمِّيِّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
لِأَنَّهُ أَخَذَهُ على اعتقاد ( ( ( اعتقاده ) ) ) الْإِبَاحَةَ وَلِذَا لم
يَلْتَزِمْ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُقْطَعُ وَالْخِلَافُ فيه كَالْخِلَافِ في حَدِّ الزِّنَا
وَلَا يُقْطَعُ الْعَادِلُ في سَرِقَةِ مَالِ الْبَاغِي لِأَنَّ مَالَهُ ليس
بِمَعْصُومٍ في حَقِّهِ كَنَفْسِهِ وَلَا الْبَاغِي في سَرِقَةِ مَالِ الْعَادِلِ
لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عن تَأْوِيلٍ وَتَأْوِيلُهُ وَإِنْ كان فَاسِدًا لَكِنَّ
التَّأْوِيلَ الْفَاسِدَ عِنْدَ انْضِمَامِ الْمَنَعَةِ إلَيْهِ مُلْحَقٌ
بِالتَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ في مَنْعِ وُجُوبِ الْقَطْعِ
وَلِهَذَا أُلْحِقَ بِهِ في حَقِّ مَنْعِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَالْحَدِّ
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا تُخَرَّجُ السَّرِقَةُ من الْغَرِيمِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا إن كان سَرَقَ منه
من جِنْسِ حَقِّهِ وَإِمَّا إنْ كان سَرَقَ منه خِلَافَ جِنْسِ حَقِّهِ فَإِنْ
سَرَقَ جِنْسَ حَقِّهِ بِأَنْ سَرَقَ منه عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَلَهُ عليه عَشَرَةٌ
فَإِنْ كان دَيْنُهُ عليه حَالًا لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْأَخْذَ مُبَاحٌ له
لِأَنَّهُ ظَفَرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ وَمَنْ له الْحَقُّ إذَا ظَفَرَ بِجِنْسِ
حَقِّهِ يُبَاحُ له أَخْذُهُ وإذا أَخَذَهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ
وَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ منه أَكْثَرَ من مِقْدَارِ حَقِّهِ لِأَنَّ
____________________
(7/71)
بَعْضَ
الْمَأْخُوذِ حَقُّهُ علي للشيوع ( ( ( الشيوع ) ) ) وَلَا قَطْعَ فيه فَكَذَا في
الْبَاقِي كما إذَا سَرَقَ مَالًا مُشْتَرَكًا وَإِنْ كان دَيْنُهُ مُؤَجَّلًا
فَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُقْطَعُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الدَّيْنَ إذَا كان مُؤَجَّلًا فَلَيْسَ له حَقُّ
الْأَخْذِ قبل حُلُولِ الْأَجَلِ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْغَرِيمِ أَنْ
يَسْتَرِدَّهُ منه فَصَارَ كما لو سَرَقَهُ أَجْنَبِيٌّ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ إنْ لم يَثْبُتْ قبل حِلِّ
الْأَجَلِ فَسَبَبُ ثُبُوتِ حَقِّ الْأَخْذِ قَائِمٌ وهو الدَّيْنُ لِأَنَّ
تَأْثِيرَ التَّأْجِيلِ تَأْخِيرِ في الْمُطَالَبَةِ لَا في سُقُوطِ الدَّيْنِ
فَقِيَامُ سَبَبِ ثُبُوتِهِ يُورِثُ الشُّبْهَةَ
وَإِنْ سَرَقَ خِلَافَ جِنْسِ حَقِّهِ بِأَنْ كان عليه دَرَاهِمُ فَسَرَقَ منه
دَنَانِيرَ أو عُرُوضًا قُطِعَ
هَكَذَا أَطْلَقَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَذَكَرَ في كِتَابِ السَّرِقَةِ أَنَّهُ إذَا سَرَقَ الْعَرُوضَ ثُمَّ قال
أَخَذْتُ لِأَجْلِ حَقِّي لَا يَقْطَعُ فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ
على الْمُطْلَقِ
وهو ما إذَا سَرَقَ ولم يَقُلْ أَخَذْتُ لِأَجْلِ حَقِّي لِأَنَّهُ إذَا لم يَقُلْ
فَقَدْ أَخَذَ مَالًا ليس له حَقُّ أَخْذِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ قِصَاصًا إلَّا بِالِاسْتِبْدَالِ وَالتَّرَاضِي
ولم يَتَأَوَّلْ الْأَخْذَ أَيْضًا فَكَانَ أَخْذُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا
شُبْهَةِ حَقٍّ
وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ لَا يُعِيدُ بِخِلَافِ قَوْلِ من يقول من
الْفُقَهَاءِ إنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ إذَا ظَفَرَ بِخِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ أَنْ
يَأْخُذَهُ لِأَنَّهُ قَوْلٌ لم يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ من السَّلَفِ فَلَا يُعْتَبَرُ
خِلَافًا مُؤْذِنًا لِلشُّبْهَةِ
وإذا قال أَخَذْتُ لِأَجْلِ حَقِّي فَقَدْ أَخَذَهُ مُتَأَوِّلًا لِأَنَّهُ
اعْتَبَرَ الْمَعْنَى وَهِيَ الْمَالِيَّةُ لَا الصُّورَةُ وَالْأَمْوَالُ كُلُّهَا
في مَعْنَى الْمَالِيَّةِ مُتَجَانِسَةٌ فَكَانَ أَخْذًا عن تَأْوِيلٍ فَلَا
يُقْطَعُ
وَلَوْ أَخَذَ صِنْفًا من الدَّرَاهِمِ أَجْوَدَ من حَقِّهِ أو أَرْدَأَ لم
يُقْطَعْ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ من جِنْسِ حَقِّهِ من حَيْثُ الْأَصْلُ وَإِنَّمَا
خَالَفَهُ من حَيْثُ الْوَصْفُ
أَلَا يرى أَنَّهُ لو رضي بِهِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ وَلَا يَكُونُ
مُسْتَبْدِلًا حتى يَجُوزَ في الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ مع أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ
بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ لَا يَجُوزُ وإذا كان الْمَأْخُوذُ من جِنْسِ
حَقِّهِ من حَيْثُ الْأَصْلُ تَثْبُتُ شُبْهَةُ حَقِّ الْأَخْذِ فَيَلْحَقُ
بِالْحَقِيقَةِ في بَابِ الْحَدِّ كما في الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ
وَلَوْ سَرَقَ حُلِيًّا من فِضَّةٍ وَعَلَيْهِ دَرَاهِمُ أو حُلِيًّا من ذَهَبٍ
وَعَلَيْهِ دَنَانِيرُ يُقْطَعُ لِأَنَّ هذا لَا يَصِيرُ قِصَاصًا من حَقِّهِ
إلَّا بِالْمُرَاضَاةِ وَيَكُونُ ذلك بَيْعًا وَاسْتِبْدَالًا فَأَشْبَهَ
الْعُرُوضَ وَإِنْ كان السَّارِقُ قد اسْتَهْلَكَ الْعُرُوضَ أو الْحُلِيَّ ووجب (
( ( ووجبت ) ) ) عليه قِيمَتُهُ
وهو مِثْلُ الذي عليه من الْعَيْنِ فإن هذا يُقْطَعُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَقَاصِدَ
إنَّمَا تَقَعُ بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ فَلَا يُوجِبُ سِوَى الْقَطْعِ
وَلَوْ سَرَقَ مُكَاتَبٌ أو عَبْدٌ من غَرِيمِ مَوْلَاهُ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ ليس
له حَقُّ قَبْضِ دَيْنِ الْمَوْلَى من غَيْرِ أَمْرِهِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ
حتى لو كان الْمَوْلَى وَكَّلَهُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لَا يُقْطَعُ لِثُبُوتِ حَقِّ
الْقَبْضِ له بِالْوَكَالَةِ فَصَارَ كَصَاحِبِ الدَّيْنِ وَلَوْ سَرَقَ من
غَرِيمِ مُكَاتَبِهِ أو من غَرِيمِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ فَإِنْ لم يَكُنْ على
الْعَبْدِ دَيْنٌ لم يُقْطَعْ لِأَنَّ ذلك مِلْكُ مَوْلَاهُ فَكَانَ له حَقُّ
أَخْذِهِ وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ قُطِعَ لِأَنَّهُ ليس له حَقُّ الْقَبْضِ فَصَارَ
كَالْأَجْنَبِيِّ
وَلَوْ سَرَقَ من غَرِيمِ أبيه أو وَلَدِهِ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ له فيه
وَلَا في قَبْضِهِ إلَّا إذَا كان غَرِيمُ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَلَا يُقْطَعُ
لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ له كما في دَيْنِ نَفْسِهِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا أَيْضًا يُخَرَّجُ سَرِقَةُ الْمُصْحَفِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ
أَنَّهُ لَا قَطْعَ فيه لِأَنَّ له تَأْوِيلُ الْأَخْذِ إذْ الناس لَا يَضِنُّونَ
بِبَذْلِ الْمَصَاحِفِ الشَّرِيفَةِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَادَةً
فَأَخَذَهُ الْآخِذُ مُتَأَوِّلًا وَكَذَلِكَ سَرِقَةُ الْبَرْبَطِ وَالطَّبْلِ
وَالْمِزْمَارِ وَجَمِيعِ آلَاتِ الْمَلَاهِي لِأَنَّ آخِذَهَا يَتَأَوَّلُ أَنَّهُ
بأخذها ( ( ( يأخذها ) ) ) منع ( ( ( لمنع ) ) ) الْمَالِكِ عن الْمَعْصِيَةِ
وَنَهْيِهِ عن الْمُنْكَرِ
وَذَلِكَ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا
وَكَذَلِكَ سَرِقَةُ شِطْرَنْجٍ ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ سَرِقَةُ صَلِيبٍ أو صَنَمٍ من فِضَّةٍ من حِرْزٍ لِأَنَّهُ
يَتَأَوَّلُ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِلْكَسْرِ
وَأَمَّا الدَّرَاهِمُ التي عليها التَّمَاثِيلُ فَيُقْطَعُ فيها لِأَنَّهَا لَا
تُعْبَدُ عَادَةً فَلَا تَأْوِيلَ له في الْأَخْذِ لِلْمَنْعِ من الْعِبَادَةِ
فَيُقْطَعُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا قُطِعَ سَارِقٌ في مَالٍ ثُمَّ سَرَقَهُ منه
سَارِقٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ ليس بِمَعْصُومٍ في
حَقِّ الْمَسْرُوقِ منه وَلَا مُتَقَوِّمٍ في حَقِّهِ لِسُقُوطِ عِصْمَتِهِ
وَتَقَوُّمُهُ في حَقِّهِ بِالْقَطْعِ وَلِأَنَّ كَوْنَ يَدِ الْمَسْرُوقِ منه
يَدًا صَحِيحَةً شُرِطَ وُجُوبُ الْقَطْعِ وَيَدُ السَّارِقِ لَيْسَتْ يَدًا
صَحِيحَةً لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ سَرَقَ مَالًا فَقُطِعَ فيه فَرَدَّهُ إلَى الْمَالِكِ ثُمَّ عَادَ
فَسَرَقَهُ منه ثَانِيًا فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمَرْدُودَ لَا
يَخْلُو إمَّا إن كان على حَالِهِ لم يَتَغَيَّرْ وَإِمَّا إنْ أَحْدَثَ
الْمَالِكُ فيه ما يُوجِبُ تَغَيُّرَهُ فَإِنْ كان على حَالِهِ لم يُقْطَعْ
اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ وهو رِوَايَةُ الْحَسَنِ عن أبي يُوسُفَ
وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
أَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَمَبْنِيٌّ على أَنَّ
الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ لِلْمَسْرُوقِ حَقًّا لِلْعَبْدِ قد سَقَطَتْ عِنْدَ
السَّرِقَةِ الْأُولَى لِضَرُورَةِ وُجُوبِ الْقَطْعِ على أَصْلِنَا وَعَلَى
أَصْلِهِ لم تَسْقُطْ بَلْ بَقِيَتْ على ما كانت وَسَنَذْكُرُ
____________________
(7/72)
تَقْرِيرَ
هذا الْأَصْلِ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع أبي يُوسُفَ وَجْهُ ما روي أَنَّ الْمَحَلَّ وَإِنْ
سَقَطَتْ قِيمَتُهُ الثَّابِتَةُ حَقًّا لِلْمَالِكِيَّةِ في السَّرِقَةِ
الْأُولَى فَقَدْ عَادَتْ بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ أَلَا تَرَى أنها عَادَتْ في
حَقِّ الضَّمَانِ حتى لو أَتْلَفَهُ السَّارِقُ يَضْمَنُ فَكَذَا في حَقِّ
الْقَطْعِ
وَلَنَا أَنَّ الْعِصْمَةَ وَإِنْ عَادَتْ بِالرَّدِّ لَكِنْ مع شُبْهَةِ
الْعَدَمِ لِأَنَّ السُّقُوطَ لِضَرُورَةِ وُجُوبِ الْقَطْعِ وَأَثَرُ الْقَطْعِ
قَائِمٌ بَعْدَ الرَّدِّ فَيُورِثُ شُبْهَةً في الْعِصْمَةِ وَلِأَنَّهُ سَقَطَ
تَقَوُّمُ الْمَسْرُوقِ في حَقِّ السَّارِقِ بِالْقَطْعِ في السَّرِقَةِ الْأُولَى
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو أَتْلَفَهُ لَا يَضْمَنُ وَأَثَرُ الْقَطْعِ بَعْدَ
الرَّدِّ قَائِمٌ فَيُورِثُ شُبْهَةَ عَدَمِ التَّقَوُّمِ في حَقِّهِ فَيَمْنَعُ
وُجُوبَ الْقَطْعِ وَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا
يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ لِمَا بَيَّنَّا
هذا إذَا كان الْمَرْدُودُ على حَالِهِ لم يَتَغَيَّرْ
فَأَمَّا إذَا أَحْدَثَ الْمَالِكُ فيه حَدَثًا يُوجِبُ تَغَيُّرَهُ عن حَالِهِ
ثُمَّ سَرَقَهُ السَّارِقُ الْأَوَّلُ
فَالْأَصْلُ فيه أَنَّهُ لو فَعَلَ فيه ما لو فَعَلَهُ الْغَاصِبُ في الْمَغْصُوبِ
لَأَوْجَبَ انْقِطَاعَ حَقِّ الْمَالِكِ يُقْطَعُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ إذَا
فَعَلَ ذلك فَقَدْ تَبَدَّلَتْ الْعَيْنُ وَتَصِيرُ في حُكْمِ عَيْنٍ أُخْرَى وإذا
لم يَفْعَلْ لم تَتَبَدَّلْ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا سَرَقَ غَزْلًا فَقُطِعَ فيه وَرُدَّ إلَى
الْمَالِكِ فَنَسَجَهُ ثَوْبًا فَعَادَ فَسَرَقَهُ أَنَّهُ يُقْطَعُ
لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ قد تَبَدَّلَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو كان مَغْصُوبًا لَا
يُقْطَعُ حَقُّ الْمَالِكِ وَلَوْ سَرَقَ ثَوْبَ خَزٍّ فَقُطِعَ فيه وَرُدَّ إلَى
الْمَالِكِ فَنَقَضَهُ فَسَرَقَ النَّقْضَ لم يُقْطَعْ لِأَنَّ الْعَيْنَ لم
تَتَبَدَّلْ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو فَعَلَهُ الْغَاصِبُ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ
وَلَوْ نَقَضَهُ الْمَالِكُ ثُمَّ غَزَلَهُ غَزْلًا ثُمَّ سَرَقَهُ السَّارِقُ لم
يُقْطَعْ لِأَنَّ هذا لو وُجِدَ من الْغَاصِبِ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَغْصُوبِ
منه فَيَدُلُّ على تَبَدُّلِ الْعَيْنِ
وَلَوْ سَرَقَ بَقَرَةً فَقُطِعَ فيها وَرَدَّهَا على الْمَالِكِ فَوَلَدَتْ
وَلَدًا ثُمَّ سَرَقَ الْوَلَدَ يُقْطَعُ لِأَنَّ الْوَلَدَ عَيْنٌ أُخْرَى لم
يُقْطَعْ فيها فَيُقْطَعُ بِسَرِقَتِهَا وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ جِنْسُ هذه
الْمَسَائِلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُحْرَزًا مُطْلَقًا خَالِيًا عن شُبْهَةِ الْعَدَمِ
مَقْصُودًا بِالْحِرْزِ وَالْأَصْلُ في اعْتِبَارِ شَرْطِ الْحِرْزِ ما رُوِيَ في الموطأ
عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا قَطْعَ في ثَمَرٍ
مُعَلَّقٍ وَلَا في حَرِيسَةِ جَبَلٍ فإذا آوَاهُ الْمُرَاحُ أو الْجَرِينُ
فَالْقَطْعُ فِيمَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ وَرُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا قَطْعَ في ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ حتى يُؤْوِيَهُ
الْجَرِينُ فإذا أواه الْجَرِينُ فَفِيهِ الْقَطْعُ عَلَّقَ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ الْقَطْعَ بِإِيوَاءِ الْمُرَاحِ
وَالْمُرَاحُ حِرْزُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْجَرِينُ حِرْزُ
الثَّمَرِ فَدَلَّ أَنَّ الْحِرْزَ شَرْطٌ وَلِأَنَّ رُكْنَ السَّرِقَةِ هو
الْأَخْذُ على سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ وَالْأَخْذُ من غَيْرِ حِرْزٍ لَا
يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِخْفَاءِ فَلَا يَتَحَقَّقُ رُكْنُ السَّرِقَةِ ولأن
الْقَطْعَ وَجَبَ لِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ على أَرْبَابِهَا قَطْعًا لِأَطْمَاعِ
السُّرَّاقِ عن أَمْوَالِ الناس وَالْأَطْمَاعُ إنَّمَا تَمِيلُ إلَى ما له خَطَرٌ
في الْقُلُوبِ وَغَيْرُ الْمُحَرَّزِ لَا خَطَرَ له في الْقُلُوبِ عَادَةً فَلَا
تَمِيلُ الْأَطْمَاعُ إلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الصِّيَانَةِ بِالْقَطْعِ وَبِهَذَا
لم يُقْطَعْ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ وما ليس بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَمَلِ
الِادِّخَارَ ثُمَّ الْحِرْزُ نَوْعَانِ حِرْزٌ بِنَفْسِهِ وَحِرْزٌ بِغَيْرِهِ
أَمَّا الْحِرْزُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ كُلُّ بُقْعَةٍ مُعَدَّةٍ لِلْإِحْرَازِ
مَمْنُوعَةِ الدُّخُولِ فيها إلَّا بِالْإِذْنِ كَالدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ
وَالْخِيَمِ وَالْفَسَاطِيطِ وَالْخَزَائِنِ وَالصَّنَادِيقِ
وَأَمَّا الْحِرْزُ بِغَيْرِهِ فَكُلُّ مَكَان غَيْرُ مُعَدٍّ لِلْإِحْرَازِ
يُدْخَلُ إلَيْهِ بِلَا إذْنٍ وَلَا يُمْنَعُ منه كَالْمَسَاجِدِ وَالطُّرُقِ
وَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحْرَاءِ إنْ لم يَكُنْ هُنَاكَ حَافِظٌ وَإِنْ كان هُنَاكَ
حَافِظٌ فَهُوَ حِرْزٌ لِهَذَا سُمِّيَ حِرْزًا بِغَيْرِهِ حَيْثُ وَقَفَ
صَيْرُورَتُهُ حِرْزًا على وُجُودِ غَيْرِهِ وهو الْحَافِظُ
وما كان حِرْزًا بِنَفْسِهِ لَا يُشْتَرَطُ فيه وُجُودُ الْحَافِظِ
لِصَيْرُورَتِهِ حِرْزًا وَلَوْ وُجِدَ فَلَا عِبْرَةَ بِوُجُودِهِ بَلْ وُجُودُهُ
وَالْعَدَمُ سَوَاءٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ من الْحِرْزَيْنِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ على
حِيَالِهِ بِدُونِ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ عليه السلام عَلَّقَ الْقَطْعَ بِإِيوَاءِ
الْمُرَاحِ وَالْجَرِينِ من غَيْرِ شَرْطِ وُجُودِ الْحَافِظِ
وَرُوِيَ أَنَّ صَفْوَانَ رضي اللَّهُ عنه كان نَائِمًا في الْمَسْجِدِ
مُتَوَسِّدًا بِرِدَائِهِ فَسَرَقَهُ سَارِقٌ من تَحْتِ رَأْسِهِ فَقَطَعَهُ رسول
اللَّهِ ولم يَعْتَبِرْ الْحِرْزَ بِنَفْسِهِ فَدَلَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من
نَوْعَيْ الْحِرْزِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ فإذا سَرَقَ من النَّوْعِ الْأَوَّلِ
يُقْطَعُ سَوَاءٌ كان ثَمَّةَ حَافِظٌ أو لَا لِوُجُودِ الْأَخْذِ من الْحِرْزِ
وَسَوَاءٌ كان مُغْلَقَ الْبَابِ أو لَا بَابَ له بَعْدَ أَنْ كان مَحْجُوزًا
بِالْبِنَاءِ لِأَنَّ الْبِنَاءَ يُقْصَدُ بِهِ الْإِحْرَازُ كَيْفَ ما كان وإذا
سَرَقَ من النَّوْعِ الثَّانِي يُقْطَعُ إذَا كان الْحَافِظُ قَرِيبًا منه في
مَكَان يُمْكِنُهُ حِفْظُهُ وَيُحْفَظُ في مِثْلِهِ الْمَسْرُوقُ عَادَةً
وَسَوَاءٌ كان الْحَافِظُ مُسْتَيْقِظًا في ذلك الْمَكَانِ أو نَائِمًا لِأَنَّ
الْإِنْسَانَ يَقْصِدُ الْحِفْظَ في الْحَالَيْنِ جميعا وَلَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ
إلَّا بِفِعْلِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ عليه الصلاة ( ( ( وسلم ) ) ) والسلام قَطَعَ سَارِقَ
صَفْوَانَ وَصَفْوَانُ كان نَائِمًا وَلَوْ أُذِنَ لِإِنْسَانٍ بِالدُّخُولِ في
دَارِهِ فَسَرَقَ الْمَأْذُونُ له بِالدُّخُولِ شيئا منها لم يُقْطَعْ
____________________
(7/73)
وَإِنْ
كان فيها حَافِظٌ أو كان صَاحِبُ الْمَنْزِلِ نَائِمًا عليه لِأَنَّ الدَّارَ
حِرْزٌ بِنَفْسِهَا لَا بِالْحَافِظِ وقد خَرَجَتْ من أَنْ تَكُونَ حِرْزًا
بِالْإِذْنِ فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْحَافِظِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا أُذِنَ له
بِالدُّخُولِ فَقَدْ صَارَ في حُكْمِ أَهْلِ الدَّارِ فإذا أَخَذَ شيئا فَهُوَ
خَائِنٌ
وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا قَطْعَ على خَائِنٍ وَكَذَلِكَ لو
سَرَقَ من بَعْضِ بُيُوتِ الدَّارِ الْمَأْذُونِ في دُخُولِهَا وهو مُقْفَلٌ أو من
صُنْدُوقٍ في الدَّارِ أو من صُنْدُوقٍ في بَعْضِ الْبُيُوتِ وهو مُقْفَلٌ عليه
إذَا كان الْبَيْتُ من جُمْلَةِ الدَّارِ الْمَأْذُونِ في دُخُولِهَا لِأَنَّ الدَّارَ
الْوَاحِدَةَ حِرْزٌ وَاحِدٌ وقد خَرَجَتْ بِالْإِذْنِ له من أَنْ تَكُونَ حِرْزًا
في حَقِّهِ فَكَذَلِكَ بُيُوتُهَا
وما رُوِيَ أَنَّ أَسْوَدَ بَاتَ عِنْدَ سَيِّدِنَا أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي
اللَّهُ عنه فَسَرَقَ حُلِيًّا لهم فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَسْرُوقًا من دَارِ
النِّسَاءِ لَا من دَارِ الرِّجَالِ وَالدَّارَانِ الْمُخْتَلِفَانِ إذَا أُذِنَ
بِالدُّخُولِ في إحْدَاهُمَا لَا تَصِيرُ الْأُخْرَى مَأْذُونًا بِالدُّخُولِ فيها
وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال في رَجُلٍ كان في حَمَّامٍ أو خَانٍ
وَثِيَابُهُ تَحْتَ رَأْسِهِ فَسَرَقَهَا سَارِقٌ أنه لَا قَطْعَ عليه سَوَاءٌ كان
نَائِمًا أو يَقْظَانًا وَإِنْ كان في صَحْرَاءَ وَثَوْبُهُ تَحْتَ رَأْسِهِ
قُطِعَ
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ سَرَقَ من رَجُلٍ وهو معه في
الْحَمَّامِ أو سَرَقَ من رَجُلٍ وهو معه في سَفِينَةٍ أو نَزَلَ قَوْمٌ في خَانٍ
فَسَرَقَ بَعْضُهُمْ من بَعْضٍ أَنَّهُ لَا قَطْعَ على السَّارِقِ وَكَذَلِكَ
الْحَانُوتُ لِأَنَّ الْحَمَّامَ وَالْخَانَ وَالْحَانُوتَ كُلُّ وَاحِدٍ حِرْزٌ
بِنَفْسِهِ فإذا أُذِنَ لِلنَّاسِ في دُخُولِهِ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ حِرْزًا
فَلَا يُعْتَبَرُ فيه الْحَافِظُ فَلَا يَصِيرُ حِرْزًا بِالْحَافِظِ
وَلِهَذَا قالوا إذَا سَرَقَ من الْحَمَّامِ لَيْلًا يُقْطَعُ
لِأَنَّ الناس لم يُؤْذَنُوا بِالدُّخُولِ فيه لَيْلًا
فَأَمَّا الصَّحْرَاءُ أو الْمَسْجِدُ وَإِنْ كان مَأْذُونَ الدُّخُولِ إلَيْهِ
فَلَيْسَ حِرْزًا بِنَفْسِهِ بَلْ بِالْحَافِظِ ولم يُوجَدْ الْإِذْنُ من
الْحَافِظِ فَلَا يَبْطُلُ مَعْنَى الْحِرْزِ فيه
وَقَالُوا في السَّارِقِ من الْمَسْجِدِ إذَا كان ثَمَّةَ حَافِظٌ يُقْطَعُ وَإِنْ
لم يَخْرُجْ من الْمَسْجِدِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ ليس بِحِرْزٍ بِنَفْسِهِ بَلْ
بِالْحَافِظِ فَكَانَتْ الْبُقْعَةُ التي فيها الْحَافِظُ هِيَ الْحِرْزُ لَا
كُلُّ الْمَسْجِدِ فإذا انْفَصَلَ منها فَقَدْ انْفَصَلَ من الْحِرْزِ فَيُقْطَعُ
فَأَمَّا الدَّارُ فَإِنَّمَا صَارَتْ حِرْزًا بِالْبِنَاءِ فما لم يَخْرُجْ منها
لم يُوجَدْ الِانْفِصَالُ من الْحِرْزِ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ سَرَقَ في
السُّوقِ من حَانُوتٍ فَتَخَرَّبَ الْحَانُوتُ وَقَعَدَ لِلْبَيْعِ وَأُذِنَ
لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فيه أَنَّهُ لم يُقْطَعْ
وَكَذَلِكَ لو سُرِقَ منه وهو مُغْلَقٌ على شَيْءٍ لم يُقْطَعْ لِأَنَّهُ لَمَّا
أُذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فيه فَقَدْ أُخْرِجَ الْحَانُوتُ من أَنْ يَكُونَ
حِرْزًا في حَقِّهِمْ
وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَ من بَيْتِ قُبَّةٍ أو صُنْدُوقٍ فيه مُقْفَلٌ لِأَنَّ الْحَانُوتَ
كُلَّهُ حِرْزٌ وَاحِدٌ كَالدَّارِ على ما مَرَّ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال في رَجُلٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ
وَمَعَهُ جُوَالِقُ وَضَعَهُ وَنَامَ عِنْدَهُ يَحْفَظُهُ فَسَرَقَ منه رَجُلٌ
شيئا أو سَرَقَ الْجُوَالِقَ فَإِنِّي أَقْطَعُهُ لِأَنَّ الْجَوَالِقَ بِمَا فيها
مُحْرَزٌ بِالْحَافِظِ فَيَسْتَوِي أَخْذُ جَمِيعِهِ وَأَخْذُ بَعْضِهِ
وَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ فُسْطَاطًا مَلْفُوفًا قد وَضَعَهُ وَنَامَ عِنْدَهُ
يَحْفَظُهُ أَنَّهُ يُقْطَعُ وَإِنْ كان مَضْرُوبًا لم يُقْطَعْ لِأَنَّهُ إذَا
كان مَلْفُوفًا كان مُحْرَزًا بِالْحَافِظِ كَالْبَابِ الْمَقْلُوعِ إذَا كان في
الدَّارِ فَسَرَقَهُ سَارِقٌ
وإذا كان الْفُسْطَاطُ مَضْرُوبًا كان حِرْزًا بِنَفْسِهِ فإذا سَرَقَهُ فَقَدْ
سَرَقَ نَفْسَ الْحِرْزِ وَنَفْسُ الْحِرْزِ ليس في الْحِرْزِ فَلَا يُقْطَعُ
كَسَارِقِ بَابِ الدَّارِ
وَلَوْ كان الْجَوَالِقُ على ظَهْرِ دَابَّةٍ فَشَقَّ الْجَوَالِقَ وَأَخْرَجَ
الْمَتَاعَ يُقْطَعُ لِأَنَّ الْجُوَالِقَ حِرْزٌ لِمَا فيه وَإِنْ أَخَذَ
الْجَوَالِقَ كما هو ( ( ( هي ) ) ) لم يُقْطَعْ لِأَنَّهُ أَخَذَ نَفْسَ الْحِرْزِ
وَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ الْجَمَلَ مع الْجَوَالِقِ لِأَنَّ الْحِمْلَ لَا يُوضَعُ
على الْجَمَلِ لِلْحِفْظِ بَلْ لِلْحَمْلِ لِأَنَّ الْجَمَلَ ليس بِمُحْرِزٍ
وَإِنْ رَكِبَهُ صَاحِبُهُ فلم يَكُنْ الْجَمَلُ حِرْزًا لِلْجَوَالِقِ فإذا
أَخَذَ الْجَوَالِقَ فَقَدْ أَخَذَ نَفْسَ الْحِرْزِ
وَلَوْ سَرَقَ من الْمَرَاعِي بَعِيرًا أو بَقَرَةً أو شاتا ( ( ( شاة ) ) ) لم
يُقْطَعْ سَوَاءٌ كان الرَّاعِي مَعَهَا أو لم يَكُنْ
وَإِنْ سَرَقَ من الْعَطَنِ أو الْمُرَاحِ الذي يَأْوِي إلَيْهِ يُقْطَعُ إذَا كان
مَعَهَا حَافِظٌ أو ليس مَعَهَا حَافِظٌ غير أَنَّ الْبَابَ مُغْلَقٌ فَكَسَرَ
الْبَابَ ثُمَّ دخل فَسَرَقَ بَقَرَةً قَادَهَا قَوْدًا حتى أَخْرَجَهَا أو
سَاقَهَا سَوْقًا حتى أَخْرَجَهَا أو رَكِبَهَا حتى أَخْرَجَهَا لِأَنَّ
الْمَرَاعِيَ لَيْسَتْ بِحِرْزٍ لِلْمَوَاشِي وَإِنْ كان الرَّاعِي مَعَهَا
لِأَنَّ الْحِفْظَ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا من الرَّعْيِ وَإِنْ كان قد يَحْصُلُ
بِهِ لِأَنَّ الْمَوَاشِيَ لَا تُجْعَلُ في مَرَاعِيهَا لِلْحِفْظِ بَلْ
لِلرَّعْيِ فلم يُوجَدْ الْأَخْذُ من حِرْزٍ بِخِلَافِ الْعَطَنِ أو الْمُرَاحِ
فإن ذلك يُقْصَدُ بِهِ الْحِفْظُ وَوُضِعَ له فَكَانَ حِرْزًا
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في حَرِيسَةِ الْجَبَلِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهَا
وَجَلَدَاتٌ نَكَالًا فإذا أَوَاهَا الْمُرَاحُ وَبَلَغَتْ قِيمَتُهَا ثَمَنَ
الْمِجَنِّ فَفِيهَا الْقَطْعُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَا يُقْطَعُ عَبْدٌ في سَرِقَةٍ من مَوْلَاهُ مُكَاتَبًا كان الْعَبْدُ أو
مُدَبَّرًا أو تَاجِرًا عليه دَيْنٌ أو أُمُّ وَلَدٍ سَرَقَتْ من مَالِ مَوْلَاهَا
لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَأْذُونُونَ بِالدُّخُولِ في بُيُوتِ سَادَاتِهِمْ
لِلْخِدْمَةِ فلم
____________________
(7/74)
يَكُنْ
بَيْتُ مَوْلَاهُمْ حِرْزًا في حَقِّهِمْ
وَذَكَرَ في الْمُوَطَّأِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن سَيِّدِنَا عُمَرَ
وَالْحَضْرَمِيَّ جَاءَا إلَى عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه بِعَبْدٍ له فقال اقْطَعْ
هذا فإنه سَرَقَ فقال وما سَرَقَ قال مِرْآةً لِامْرَأَتِي ثَمَنُهَا سِتُّونَ
دِرْهَمًا فقال سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه أَرْسِلْهُ ليس عليه قَطْعٌ
خَادِمُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه مُنْكِرٌ
فَيَكُونَ إجْمَاعًا
وَلَا قَطْعَ على خَادِمِ قَوْمٍ سَرَقَ مَتَاعَهُمْ وَلَا على ضَيْفٍ سَرَقَ
متاعا ( ( ( متاع ) ) ) من أَضَافَهُ وَلَا على أَجِيرٍ سَرَقَ من مَوْضِعٍ أُذِنَ
له في دُخُولِهِ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالدُّخُولِ أَخْرَجَ الْمَوْضِعَ من أَنْ
يَكُونَ حِرْزًا في حَقِّهِ وَكَذَا الْأَجِيرُ إذَا أَخَذَ الْمَتَاعَ
الْمَأْذُونَ له في أَخْذِهِ من مَوْضِعٍ لم يَأْذَنْ له بِالدُّخُولِ فيه لم
يُقْطَعْ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِأَخْذِ الْمَتَاعِ يُورِثُ شُبْهَةَ الدُّخُولِ في
الْحِرْزِ وَلِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْأَخْذِ فَوْقَ الْإِذْنِ بِالدُّخُولِ وَذَا
يَمْنَعُ الْقَطْعَ فَهَذَا أَوْلَى
وَلَوْ سَرَقَ الْمُسْتَأْجِرُ من الْمُؤَاجِرِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في
مَنْزِلٍ على حِدَةٍ يُقْطَعُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ في الْحِرْزِ
وَأَمَّا الْمُؤَاجِرُ إذَا سَرَقَ من الْمُسْتَأْجِرِ فَكَذَلِكَ يُقْطَعُ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ وَعِنْدَهُمَا لَا يُقْطَعُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحِرْزَ مِلْكُ السَّارِقِ فَيُورِثُ شُبْهَةً في
دَرْءِ الْحَدِّ لِأَنَّهُ يُورِثُ شُبْهَةً في إبَاحَةِ الدُّخُولِ فَيَخْتَلُّ
الْحِرْزُ فَلَا قَطْعَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ مَعْنَى الْحِرْزِ لَا تَعَلُّقَ له
بِالْمِلْكِ إذْ هو اسْمٌ لِمَكَانٍ مُعَدٍّ لِلْإِحْرَازِ يُمْنَعُ من الدُّخُولِ
فيه إلَّا بِالْإِذْنِ وقد وُجِدَ لِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ مَمْنُوعٌ عن الدُّخُولِ
في الْمَنْزِلِ الْمُسْتَأْجَرِ من غَيْرِ إذْنٍ فَأَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ
وَلَا قَطْعَ على من سَرَقَ من ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كان
بَيْنَهُمَا وِلَادٌ أو لَا
وقال الشَّافِعِيُّ في الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودَيْنِ كَذَلِكَ فَأَمَّا في
غَيْرِهِمْ فَيُقْطَعُ وهو على اخْتِلَافِ الْعِتْقِ وَالنَّفَقَةِ وقد ذَكَرْنَا
الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ الْعَتَاقِ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْخُلُ في مَنْزِلِ
صَاحِبِهِ بِغَيْرِ إذْنٍ عَادَةً وَذَلِكَ دَلَالَةُ الْإِذْنِ من صَاحِبِهِ
فَاخْتَلَّ مَعْنَى الْحِرْزِ وَلِأَنَّ الْقَطْعَ بِسَبَبِ السَّرِقَةِ فِعْلٌ
يُفْضِي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ وَذَلِكَ حَرَامٌ وَالْمُفْضِي إلَى الْحَرَامِ
حَرَامٌ
وَلَوْ سَرَقَ جَمَاعَةٌ فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ من الْمَسْرُوقِ لَا
يُقْطَعُ وَاحِدٌ منهم عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يُقْطَعُ
ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَيُقْطَعُ سِوَاهُ وَالْكَلَامُ على نَحْوِ الْكَلَامِ
فِيمَا تَقَدَّمَ فِيمَا إذَا كان فِيهِمْ صَبِيٌّ أو مَجْنُونٌ وقد ذَكَرْنَاهُ
فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَوْ سَرَقَ من ذِي رَحِمٍ غَيْرِ مَحْرَمٍ يُقْطَعُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ
الْمُبَاسَطَةَ بِالدُّخُولِ من غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ غَيْرُ ثَابِتَةٍ في هذه
الْقَرَابَةِ عَادَةً
وَكَذَا هذه الْقَرَابَةُ لَا تَجِبُ صِيَانَتُهَا عن الْقَطِيعَةِ وَلِهَذَا لم
يَجِبْ في الْعِتْقِ وَالنَّفَقَةِ وَغَيْرِ ذلك
وَلَوْ سَرَقَ من ذِي رحم مَحْرَمٍ لَا رَحِمَ له بِسَبَبِ الرَّضَاعِ فَقَدْ قال
أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُقْطَعُ الذي سَرَقَ مِمَّنْ
يَحْرُمُ عليه من الرَّضَاعِ كَائِنًا من كان
وقال أبو يُوسُفَ إذَا سَرَقَ من أُمِّهِ من الرَّضَاعِ لَا يُقْطَعُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُبَاسَطَةَ بَيْنَهُمَا في الدُّخُولِ ثَابِتَةٌ
عُرْفًا وَعَادَةً فإن الْإِنْسَانَ يَدْخُلُ في مَنْزِلِ أُمِّهِ من الرَّضَاعِ
من غَيْرِ إذْنٍ كما يَدْخُلُ في مَنْزِلِ أُمِّهِ من النَّسَبِ بِخِلَافِ
الْأُخْتِ من الرَّضَاعِ
وَلَهُمَا أَنَّ الثَّابِتَ بِالرَّضَاعِ ليس إلَّا الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ
وإنها لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ كما لو سَرَقَ من أُمِّ مَوْطُوءَتِهِ
وَلِهَذَا يُقْطَعُ في الْأُخْتِ من الرَّضَاعِ
وَلَوْ سَرَقَ من امْرَأَةِ أبيه أو من زَوْجِ أُمِّهِ أو من حَلِيلَةِ ابْنِهِ أو
من ابْنِ امْرَأَتِهِ أو بِنْتِهَا أو أُمِّهَا يُنْظَرُ إنْ سَرَقَ مَالَهُمْ من
مَنْزِلِ من يُضَافُ السَّارِقُ إلَيْهِ من أبيه وَأُمِّهِ وَابْنِهِ
وَامْرَأَتِهِ لَا يُقْطَعُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ بِالدُّخُولِ في
مَنْزِلِ هَؤُلَاءِ فلم يَكُنْ الْمَنْزِلُ حِرْزًا في حَقِّهِ
وَإِنْ سَرَقَ من مَنْزِلٍ آخَرَ فَإِنْ كَانَا فيه لم يُقْطَعْ بِالْإِجْمَاعِ
وَإِنْ كان لِكُلِّ وَاحِدٍ منها ( ( ( منهما ) ) ) مَنْزِلٌ على حِدَةٍ
اُخْتُلِفَ فيه
قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ لَا يُقْطَعُ
وقال أبو يُوسُفَ يُقْطَعُ إذَا سَرَقَ من غَيْرِ مَنْزِلِ السَّارِقِ أو مَنْزِلِ
أبيه أو ابْنِهِ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مع
قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تعالى
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَانِعَ هو الْقَرَابَةُ وَلَا قَرَابَةَ بين السَّارِقِ
وَبَيْنَ الْمَسْرُوقِ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْنَبِيٌّ عن صَاحِبِهِ
فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ كما لو سَرَقَ من أَجْنَبِيٍّ آخَرَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ في الْحِرْزِ شُبْهَةً لِأَنَّ حَقَّ
التَّزَاوُرِ ثَابِتٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَرِيبِهِ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَنْزِلِ
لِغَيْرِ قَرِيبِهِ لَا يَقْطَعُ التَّزَاوُرَ وَهَذَا يُورِثُ شُبْهَةَ إبَاحَةِ
الدُّخُولِ لِلزِّيَارَةِ فَيَخْتَلُّ مَعْنَى الْحِرْزِ
وَلَا قَطْعَ على أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إذَا سَرَقَ من مَالِ صَاحِبِهِ سَوَاءٌ سَرَقَ
من الْبَيْتِ الذي هُمَا فيه أو من بَيْتٍ آخَرَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
يَدْخُلُ في مَنْزِلِ صَاحِبِهِ وَيَنْتَفِعُ بِمَالِهِ عَادَةً وَذَلِكَ يُوجِبُ
خَلَلًا في الْحِرْزِ وفي الْمِلْكِ أَيْضًا
وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا سَرَقَ من الْبَيْتِ الذي هُمَا فيه لَا
يُقْطَعُ وَإِنْ سَرَقَ من بَيْتٍ آخَرَ يُقْطَعُ وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ في
كِتَابِ الشَّهَادَةِ
وَكَذَلِكَ لو سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ من عبد صَاحِبِهِ أو أَمَتِهِ أو
مُكَاتَبِهِ أو سَرَقَ عبد أَحَدِهِمَا أو أَمَتُهُ أو مُكَاتَبُهُ من صَاحِبِهِ
____________________
(7/75)
أو
سَرَقَ خَادِمُ أَحَدِهِمَا من صَاحِبِهِ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ في
الدُّخُولِ في الْحِرْزِ
وَلَوْ سَرَقَتْ امْرَأَةٌ من زَوْجِهَا أو سَرَقَ رَجُلٌ من امْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا
قبل الدُّخُولِ بها فَبَانَتْ بِغَيْرِ عِدَّةٍ لم يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا
لِأَنَّ الْأَخْذَ حين وُجُودِهِ لم يَنْعَقِدْ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ لِقِيَامِ
الزَّوْجِيَّةِ فَلَا يَنْعَقِدُ عِنْدَ الْإِبَانَةِ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ
طَارِئَةٌ وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ الطارىء مُقَارَنًا في الْحُكْمِ لِمَا
فيه من مُخَالَفَةِ الْحَقِيقَةِ إلَّا إذَا كان في الِاعْتِبَارِ إسْقَاطُ
الْحَدِّ وَقْتَ الِاعْتِبَارِ
وفي الِاعْتِبَارِ هَهُنَا إيجَابُ الْحَدِّ فَلَا يُعْتَبَرُ
وَلَوْ سَرَقَ من مُطَلَّقَتِهِ وَهِيَ في الْعِدَّةِ أو سَرَقَتْ مُطَلَّقَتُهُ
وَهِيَ في الْعِدَّةِ لم يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا سَوَاءٌ كان الطَّلَاقُ
رَجْعِيًّا أو بَائِنًا أو ثَلَاثًا لِأَنَّ النِّكَاحَ في حَالِ قِيَامِ
الْعِدَّةِ قَائِمٌ من وَجْهٍ أو أَثَرُهُ قَائِمٌ وهو الْعِدَّةُ وَقِيَامُ
النِّكَاحِ من كل وَجْهٍ يَمْنَعُ الْقَطْعَ فَقِيَامُهُ من وَجْهٍ أو قِيَامُ
أَثَرِهِ يُورِثُ شُبْهَةً
وَلَوْ سَرَقَ رَجُلٌ من امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَهَذَا لَا
يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إن تَزَوَّجَهَا قبل أَنْ يقضي عليه
بِالْقَطْعِ وَإِمَّا إن تَزَوَّجَهَا بَعْدَمَا قُضِيَ عليه بِالْقَطْعِ فَإِنْ
تَزَوَّجَهَا قبل أَنْ يُقْضَى عليه بِالْقَطْعِ لم يُقْطَعْ بِلَا خِلَافٍ
لِأَنَّ هذا مَانِعٌ طَرَأَ على الْحَدِّ وَالْمَانِعُ الطارىء في الْحَدِّ
كَالْمُقَارَنِ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَيَصِيرُ طَرَيَان
الزَّوْجِيَّةِ شُبْهَةً مَانِعَةً من الْقَطْعِ كَقِرَانِهَا
وَإِنْ تَزَوَّجَهَا بعدما قُضِيَ بِالْقَطْعِ لم يُقْطَعْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
وقال أبو يُوسُفَ يُقْطَعُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ الْقَائِمَةَ عِنْدَ السَّرِقَةِ إنَّمَا
تَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ بِاعْتِبَارِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ شُبْهَةُ عَدَمِ
الْحِرْزِ أو شُبْهَةُ الْمِلْكِ فَالطَّارِئَةُ لو اُعْتُبِرَتْ مَانِعَةً
لَكَانَ ذلك اعْتِبَارَ الشُّبْهَةِ وَإِنَّهَا سَاقِطَةٌ في بَابِ الْحُدُودِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِمْضَاءَ في بَابِ الْحُدُودِ من
الْقَضَاءِ فَكَانَتْ الشُّبْهَةُ الْمُعْتَرِضَةُ على الْإِمْضَاءِ
كَالْمُعْتَرِضَةِ على الْقَضَاءِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو قَذَفَ رَجُلًا بِالزِّنَا وَقُضِيَ عليه بِالْحَدِّ
ثُمَّ إنَّ الْمَقْذُوفَ زَنَى قبل إقَامَةِ الْحَدِّ على الْقَاذِفِ سَقَطَ
الْحَدُّ عن الْقَاذِفِ وَجَعَلَ الزِّنَا الْمُعْتَرِضَ على الْحَدِّ
كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْقَذْفِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الطارىء على الْحُدُودِ قبل
الْإِمْضَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ قبل الْقَضَاءِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ في الطَّرَّارِ إذَا طَرَّ الصُّرَّةَ من
خَارِجِ الْكُمِّ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
فَإِنْ أَدْخَلَ يَدَهُ في الْكُمِّ فَطَرَّهَا يُقْطَعُ
وقال أبو يُوسُفَ هذا كُلُّهُ سَوَاءٌ وَيُقْطَع
وَبِتَفْصِيلِ الْكَلَامِ فيه يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ وَيَتَّفِقُ الْجَوَابُ
وهو أَنَّ الطَّرَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقَطْعِ وَإِمَّا أَنْ
يَكُونَ بِحَلِّ الرِّبَاطِ
وَالدَّرَاهِمُ لَا تَخْلُو إمَّا إن كانت مَصْرُورَةً على ظَاهِرِ الْكُمِّ
وَإِمَّا إن كانت مَصْرُورَةً في بَاطِنِهِ فَإِنْ كان الطَّرُّ بِالْقَطْعِ
وَالدَّرَاهِمُ مَصْرُورَةٌ على ظَاهِرِ الْكُمِّ لم يُقْطَعْ لِأَنَّ الْحِرْزَ
هو الْكُمُّ وَالدَّرَاهِمُ بَعْدَ الْقَطْعِ تَقَعُ على ظَاهِرِ الْكُمِّ فلم
يُوجَدْ الْأَخْذُ من الْحِرْزِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ
وَإِنْ كانت مَصْرُورَةً في دَاخِلِ الْكُمِّ يُقْطَعُ لِأَنَّهَا بَعْدَ
الْقَطْعِ تَقَعُ في دَاخِلِ الْكُمِّ فَكَانَ الطَّرُّ أَخْذًا من الْحِرْزِ وهو
الْكُمُّ فَيُقْطَعُ
وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ أبي يُوسُفَ
وَإِنْ كان الطَّرُّ بِحَلِّ الرِّبَاطِ يُنْظَرُ إنْ كان بِحَالٍ لو حَلَّ
الرِّبَاطَ تَقَعُ الدَّرَاهِمُ على ظَاهِرِ الْكُمِّ بِأَنْ كانت الْعُقْدَةُ
مَشْدُودَةً من دَاخِلِ الْكُمِّ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا من غَيْرِ
حِرْزٍ وهو تَفْسِيرُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنْ كان إذَا
حَلَّ تَقَعُ الدَّرَاهِمُ في دَاخِلِ الْكُمِّ وهو يَحْتَاجُ إلَى إدْخَالِ
يَدِهِ في الْكُمِّ لِلْأَخْذِ يُقْطَعُ لِوُجُودِ الْأَخْذِ من الْحِرْزِ وهو
تَفْسِيرُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَخْرُجُ النَّبَّاشُ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْقَبْرَ ليس بِحِرْزٍ
بِنَفْسِهِ أَصْلًا إذْ لَا تُحْفَظُ الْأَمْوَالُ فيه عَادَةً
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو سَرَقَ منه الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يُقْطَعُ
وَلَا حَافِظَ لِلْكَفَنِ لِيُجْعَلَ حِرْزًا بِالْحَافِظِ فلم يَكُنْ الْقَبْرُ
حِرْزًا بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ أو فيه شُبْهَةُ عَدَمِ الْحِرْزِ لِأَنَّهُ
إنْ كان حِرْزَ مِثْلِهِ فَلَيْسَ حِرْزًا لِسَائِرِ الْأَمْوَالِ فَتَمَكَّنَتْ
الشُّبْهَةُ في كَوْنِهِ حِرْزًا فَلَا يُقْطَعُ
ثُمَّ اُخْتُلِفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ في كل شَيْءٍ حِرْزُ مِثْلِهِ أو حِرْزُ
نَوْعِهِ
قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّهُ يُعْتَبَرُ في كل شَيْءٍ حِرْزُ مِثْلِهِ
كَالْإِصْطَبْلِ لِلدَّابَّةِ وَالْحَظِيرَةِ لِلشَّاةِ حتى ( ( ( حق ) ) ) لو
سَرَقَ اللُّؤْلُؤَةَ من هذه الْمَوَاضِعِ لَا يُقْطَعُ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في مُخْتَصَرِهِ عن أَصْحَابِنَا أَنَّ ما كان حرزا ( ( (
حرز ) ) ) لنوع ( ( ( النوع ) ) ) يَكُونُ حِرْزًا لِلْأَنْوَاعِ كُلِّهَا
وَجَعَلُوا سُرَيْجَةَ الْبَقَّالِ حِرْزًا لِلْجَوَاهِرِ فَالطَّحَاوِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَبَرَ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ
وقال حِرْزُ الشَّيْءِ هو الْمَكَانُ الذي يُحْفَظُ فيه عَادَةً وَالنَّاسُ في
الْعَادَاتِ لَا يُحْرِزُونَ الْجَوَاهِرَ في الْإِصْطَبْلِ وَالْكَرْخِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَبَرَ الْحَقِيقَةَ لِأَنَّ حِرْزَ الشَّيْءِ ما يَحْرُزُ
ذلك الشَّيْءَ حَقِيقَةً وَسُرَيْجَةُ الْبَقَّالِ تَحْرُزُ الدَّرَاهِمَ
وَالدَّنَانِيرَ وَالْجَوَاهِرَ حَقِيقَةً فَكَانَتْ حِرْزًا لها
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ نِصَابًا وَالْكَلَامُ في هذا الشَّرْطِ يَقَعُ في
ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في أَصْلِ النِّصَابِ أَنَّهُ شَرْطٌ أَمْ لَا
وَالثَّانِي في بَيَانِ
____________________
(7/76)
قَدْرِهِ
وَالثَّالِثُ في بَيَانِ صِفَاتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إنَّهُ شَرْطٌ
فَلَا قَطْعَ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ
وحكى عن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ وَيُقْطَعُ
في الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وهو قَوْلُ الْخَوَارِجِ
وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } من غَيْرِ شَرْطِ النِّصَابِ
وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْحَبْلَ
فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحِبَالِ ما لَا يُسَاوِي دَانَقًا وَالْبَيْضَةُ لَا
تُسَاوِي حَبَّةً
وَلَنَا دَلَالَةُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ من الصَّحَابَةِ أَمَّا دَلَالَةُ
النَّصِّ فَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْجَبَ الْقَطْعَ على
السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ وَالسَّارِقُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ من مَعْنًى وهو
السَّرِقَةُ وَالسَّرِقَةُ اسْمٌ لِلْأَخْذِ على سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ
وَمُسَارَقَةِ الْأَعْيُنِ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْحَاجَةُ في الِاسْتِخْفَاءِ
فِيمَا له خَطَرٌ وَالْحَبَّةُ لَا خَطَرَ لها فلم يَكُنْ أَخْذُهَا سَرِقَةً
فَكَانَ إيجَابُ الْقَطْعِ على السَّارِقِ اشْتِرَاطًا لِلنِّصَابِ دَلَالَةً
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فإن الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عليهم أَجْمَعُوا على
اعْتِبَارِ النِّصَابِ وَإِنَّمَا جَرَى الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ في التَّقْدِيرِ
وَاخْتِلَافُهُمْ في التَّقْدِيرِ إجْمَاعٌ منهم على أَنَّ أَصْلَ النِّصَابِ
شَرْطٌ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ما رَوَوْا من الحديث غَيْرُ ثَابِتٍ أو مَنْسُوخٌ
أو يُحْمَلُ الْمَذْكُورُ على حَبْلٍ له خَطَرٌ كَحَبْلِ السَّفِينَةِ وَبَيْضَةٍ
خَطِيرَةٍ كَبَيْضَةِ الْحَدِيدِ تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْكَلَامُ في قَدْرِ النِّصَابِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه أَيْضًا
قال أَصْحَابُنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّهُ مُقَدَّرٌ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَلَا
قَطْعَ في أَقَلِّ من عَشَرَةِ دَرَاهِمَ
وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وابن أبي لَيْلَى بِخَمْسَةٍ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
بِثَلَاثِينَ
وقال الشَّافِعِيُّ بِرُبْعِ دِينَارٍ حتى لو سَرَقَ رُبْعَ دِينَارٍ إلَّا
حَبَّةً وهو مع نُقْصَانِهِ يُسَاوِي عَشَرَةً لَا يُقْطَعُ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا
يُقْطَعُ
وَلَوْ سَرَقَ رُبُعَ دِينَارٍ لَا يُسَاوِي عَشَرَةً لم يُقْطَعْ عِنْدَنَا
وَعِنْدَهُ يُقْطَعُ وَقِيمَةُ الدِّينَارِ عِنْدَنَا عَشَرَةٌ وَعِنْدَهُ اثْنَا
عَشَرَ على ما نُبَيِّنُ في كِتَابِ الدِّيَاتِ
احْتَجَّ من اعْتَبَرَ الْخَمْسَةَ بِمَا رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا تُقْطَعُ الْخَمْسَةُ إلَّا بِخَمْسَةٍ
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عن سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ
عنها عن النبي أَنَّهُ قال تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ في رُبُعِ دِينَارٍ
فَصَاعِدًا
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ قَطَعَ في مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَهِيَ قِيمَةُ
رُبُعِ دِينَارٍ عِنْدَهُ لِأَنَّ الدِّينَارَ على أَصْلِهِ مُقَوَّمٌ بِاثْنَيْ
عَشَرَ دِرْهَمًا
وَلَنَا ما رَوَى مُحَمَّدٌ في الْكِتَابِ بِإِسْنَادِهِ عن عَمْرِو بن شُعَيْبٍ
عن أبيه عن جَدِّهِ عبد اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ عنه عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كان لَا يَقْطَعُ إلَّا في ثَمَنِ مِجَنٍّ وهو يَوْمَئِذٍ
يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ
وفي رِوَايَةٍ عن عَمْرِو بن شُعَيْبٍ عن أبيه عن جَدِّهِ قال قال رسول اللَّهِ
لَا تقطع ( ( ( قطع ) ) ) فِيمَا دُونَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
أَنَّهُ قال لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا في دِينَارٍ أو في عَشَرَةِ دَرَاهِمَ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا يُقْطَعُ السَّارِقُ إلَّا في ثَمَنِ الْمِجَنِّ
وكان يُقَوَّمُ يَوْمَئِذٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ
وَعَنْ ابْنِ أُمِّ أَيْمَنَ أَنَّهُ قال ما قُطِعَتْ يَدٌ على عَهْدِ رسول
اللَّهِ إلَّا في ثَمَنِ الْمِجَنِّ وكان يُسَاوِي يَوْمَئِذٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَمَرَ
بِقَطْعِ يَدِ سَارِقِ ثَوْبٍ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَمَرَّ بِهِ
سَيِّدُنَا عُثْمَانُ رضي اللَّهُ عنه فقال إنَّ هذا لَا يُسَاوِي إلَّا
ثَمَانِيَةً فَدَرَأَ سَيِّدُنَا عُمَرُ الْقَطْعَ عنه
وَعَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَابْنِ
مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهم مِثْلُ مَذْهَبِنَا وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ
انقعد ( ( ( انعقد ) ) ) على وُجُوبِ الْقَطْعِ في الْعَشَرَةِ وَفِيمَا دُونَ
الْعَشَرَةِ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ لِاخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ فَوَقَعَ الِاحْتِمَالُ في
وُجُوبِ الْقَطْعِ فَلَا يَجِبُ مع الِاحْتِمَالِ
وإذا عُرِفَ أَنَّ النِّصَابَ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ فَإِنْ
وُجِدَ ذلك الْقَدْرُ في أَخْذِ سَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ قُطِعَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ
وهو كَمَالُ النِّصَابِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ السَّرِقَةُ لم يُقْطَعْ لِفَقْدِ
الشَّرْطِ
وَعَلَى هذا مَسَائِلُ إذَا دخل رَجُلٌ دَارَ الرَّجُلِ فَسَرَقَ من بَيْتٍ فيها
دِرْهَمًا فَأَخْرَجَهُ إلَى صَحْنِهَا ثُمَّ عَادَ فَأَخَذَ دِرْهَمًا من
الْبَيْتِ فَأَخْرَجَهُ ثُمَّ عَادَ فَأَخَذَ دِرْهَمًا من الْبَيْتِ فَأَخْرَجَهُ
فلم يَزَلْ بفعل ( ( ( يفعل ) ) ) ذلك حتى أَخَذَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ
أَخْرَجَ الْعَشَرَةَ من الدَّارِ قُطِعَ لِأَنَّ هذه سَرِقَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ
الدَّارَ مع صَحْنِهَا وَبُيُوتِهَا حِرْزٌ وَاحِدٌ فما دَامَ في الدَّارِ لم
يُوجَدْ الْإِخْرَاجُ من الْحِرْزِ فإذا أَخْرَجَ من الدَّارِ جُمْلَةً فَقَدْ
وُجِدَ إخْرَاجُ نِصَابٍ من الْحِرْزِ فَيَجِبُ الْقَطْعُ
وَلَوْ كان خَرَجَ في كل مَرَّةٍ من الدَّارِ ثُمَّ عَادَ حتى فَعَلَ ذلك عَشْرَ
مَرَّاتٍ لم يُقْطَعْ لِأَنَّ هذه سَرِقَاتٌ إذْ كُلُّ فِعْلٍ منه إخْرَاجٌ من
الْحِرْزِ فَكَانَ
____________________
(7/77)
كُلُّ
فِعْلٍ منه مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ وإنه سَرِقَةُ ما دُونَ النِّصَابِ فَلَا
يُوجِبُ الْقَطْعَ
وَكَذَلِكَ جَمَاعَةٌ دَخَلُوا دَارًا وَأَخْرَجُوا من بَيْتٍ من بُيُوتِهَا
الْمَتَاعَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إلَى صَحْنِ الدَّارِ ثُمَّ أَخْرَجُوهُ من
الصَّحْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً يُقْطَعُونَ إذَا كان ما أَخْرَجُوا يَخُصُّ كُلَّ
وَاحِدٍ منهم عَشَرَةَ دَرَاهِمَ
وَإِنْ تَفَرَّقَ الْإِخْرَاجُ يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ
الْإِخْرَاجَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَهُوَ سَرِقَةٌ وَاحِدَةٌ فإذا تَفَرَّقَ فَهُوَ
سَرِقَاتٌ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ
وَلَوْ سَرَقَ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ من مَنْزِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ
بِأَنْ سَرَقَ منه دِرْهَمًا أو تِسْعَةً لم يُقْطَعْ لِأَنَّهُمَا سَرِقَتَانِ
مُخْتَلِفَتَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الْمَنْزِلَيْنِ حِرْزٌ بِانْفِرَادِهِ
فَهَتْكُ أَحَدِهِمَا بِمَا دُونَ النِّصَابِ لَا يُعْتَبَرُ في هَتْكِ الْآخَرِ
فَيَبْقَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَبَرًا في نَفْسِهِ
وَلَوْ سَرَقَ رَجُلٌ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لِعَشْرَةِ أَنْفُسٍ في مَوْضِعٍ وَاحِدٍ
قُطِعَ
وَإِنْ تَفَرَّقَ مُلَّاكُهَا يُعْتَبَرُ في ذلك حَالُ السَّارِقِ
وَالسَّارِقُ وَاحِدٌ فَكَانَ النِّصَابُ كَامِلًا وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ حَالُ
السَّارِقِ دُونَ الْمَسْرُوقِ منه لِأَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ شَرْطُ وُجُوبِ
الْقَطْعِ وَالْقَطْعُ عليه
فَيُعْتَبَرُ جَانِبُ من عليه وَلَا يُعْتَبَرُ جَانِبُ الْمَسْرُوقِ منه لِأَنَّ
الْحُكْمَ لم يَجِبْ له بَلْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَإِنْ كان عَشْرَةُ أَنْفُسٍ في دَارِ كُلُّ وَاحِدٍ في بَيْتٍ على حِدَةٍ
فَسَرَقَ من كل وَاحِدٍ منهم دِرْهَمًا يُقْطَعُ إذَا خَرَجَ بِالْجَمِيعِ من
الدَّارِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الدَّارَ حِرْزٌ وَاحِدٌ وقد أَخْرَجَ منها
نِصَابًا كَامِلًا فَكَانَتْ السَّرِقَةُ وَاحِدَةً وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَسْرُوقُ
منه
وَلَوْ كانت الدَّارُ عَظِيمَةً فيها حُجُرٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ حُجْرَةٌ فَسَرَقَ من
كل حُجْرَةٍ أَقَلَّ من عَشَرَةٍ لم يُقْطَعْ لِأَنَّ ذلك سَرِقَاتٌ إذْ كُلُّ
حُجْرَةٍ حِرْزٌ بِانْفِرَادِهَا وَالسَّرِقَاتُ إذَا اخْتَلَفَتْ يُعْتَبَرُ في
كل وَاحِدٍ منهما كَمَالُ النِّصَابِ ولم يُوجَدْ
وَلَوْ سَرَقَ عَشْرَةُ أَنْفُسٍ من رَجُلٍ وَاحِدٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لم
يُقْطَعُوا بِخِلَافِ الْوَاحِدِ إذَا سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ من عَشْرَةِ
أَنْفُسٍ أَنَّهُ يُقْطَعُ إذَا كانت الدَّرَاهِمُ في حِرْزٍ وَاحِدٍ لِمَا
بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ جَانِبُ السَّارِقِ لَا جَانِبُ الْمَسْرُوقِ منه
فَكَانَتْ السَّرِقَةُ وَاحِدَةً فَيُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ في حَقِّ
السَّارِقِ لَا في حَقِّ الْمَسْرُوقِ منه وَسَوَاءٌ كانت الدَّرَاهِمُ
مُجْتَمَعَةً أو مُتَفَرِّقَةً بَعْدَ أَنْ كان الْحِرْزُ وَاحِدًا حتى لو سَرَقَ
عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مُتَفَرِّقًا من كل كِيسٍ دِرْهَمًا من عَشْرَةِ أَنْفُسٍ من
مَنْزِلٍ وَاحِدٍ يُقْطَعُ لِأَنَّ الْحِرْزَ وَاحِدٌ فإذا أَخْرَجَهَا منه فَقَدْ
خَرَجَ بِنِصَابٍ كَامِلٍ من السَّرِقَةِ فَيُقْطَعُ
وَلَوْ سَرَقَ ثَوْبًا قِيمَتُهُ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ فَوَضَعَهُ على بَابِ
الدَّارِ ثُمَّ دخل فَأَخَذَ ثَوْبًا آخَرَ يُسَاوِي تِسْعَةً فَأَخْرَجَهُ لم
يُقْطَعْ لِأَنَّهُ لم يَبْلُغْ الْمَأْخُوذُ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا
فَلَا يُقْطَعُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا صِفَاتُ النِّصَابِ فَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الدَّرَاهِمُ الْمَسْرُوقَةُ
جِيَادًا حتى لو سَرَقَ عَشَرَةً زُيُوفًا أو نَبَهْرَجَةً أو سَتُّوقَةً لَا
يُقْطَعُ إلَّا أَنْ تَكُونَ كَثِيرَةً تَبْلُغُ قِيمَةَ عَشَرَةٍ جِيَادٍ وَكَذَلِكَ
الْمَسْرُوقُ من غَيْرِ الدَّرَاهِمِ إذَا كان لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ
عَشَرَةِ دَرَاهِمَ جيادا ( ( ( جياد ) ) ) لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ
الدَّرَاهِمِ في الْأَحَادِيثِ يَنْصَرِفُ إلَى الْجِيَادِ
وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَبِرَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَزْنَ سَبْعَةٍ كَذَا قالوا
لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَقَعُ على ذلك أَلَا تَرَى
أَنَّهُ قُدِّرَ بِهِ النِّصَابُ في الزَّكَوَاتِ وَالدِّيَاتِ وَكَذَا الناس
أَجْمَعُوا على هذا في وَزْنِ الدَّرَاهِمِ وَلِأَنَّ هذا أَوْسَطُ الْمَقَادِيرِ
لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ على عَهْدِ رسول اللَّهِ كانت صِغَارًا وَكِبَارًا فإذا
جُمِعَ صَغِيرٌ وَكَبِيرٌ كَانَا دِرْهَمَيْنِ من وَزْنِ سَبْعَةٍ فَكَانَ هذا
الْوَزْنُ هو أَوْسَطُ الْمَقَادِيرِ فَاعْتُبِرَ بِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا وَهَلْ يُعْتَبَرُ أَنْ تَكُونَ
مَضْرُوبَةً ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ عَشَرَةَ
دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً وَهَكَذَا رَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ وابن سِمَاعَةَ عن
مُحَمَّدٍ حتى لو كان تِبْرًا قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً لَا
يُقْطَعُ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ عليهم الرَّحْمَةُ أَنَّ السَّارِقَ إذَا
سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِمَّا يَجُوزُ بين الناس وَيَرُوجُ في
مُعَامَلَاتِهِمْ قُطِعَ
وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ كَوْنَهَا مَضْرُوبَةً ليس بِشَرْطٍ بَلْ يُقْطَعُ في
الْمَضْرُوبَةِ وَغَيْرِهَا إذَا كان مِمَّا يَجُوزُ بين الناس وَيَرُوجُ في
مُعَامَلَاتِهِمْ
لَهُمَا أَنَّ تَقْدِيرَ نِصَابِ السَّرِقَةِ وَقَعَ بِالدَّرَاهِمِ أو تَقْوِيمَ
الْمِجَنِّ وَقَعَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّرَاهِمُ اسْمٌ لِلْمَضْرُوبَةِ
وَالتِّبْرُ ليس بِمَضْرُوبٍ وَلَا في مَعْنَى الْمَضْرُوبِ في الْمَالِيَّةِ
أَيْضًا لِأَنَّهُ يَنْقُصُ عنه في الْقِيمَةِ فَأَشْبَهَ نُقْصَانَ الْوَزْنِ
وأبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَبَرَ الْجَوَازَ وَالرَّوَاجَ في
مُعَامَلَاتِ الناس فَأَجْرَى بِهِ التَّعَامُلَ بين الناس يَسْتَوِي في نِصَابِهِ
الْمَضْرُوبُ وَالصَّحِيحُ وَالْمُكَسَّرُ كما في نِصَابِ الزَّكَاةِ فما قَالَهُ
أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ وما قَالَهُ أبو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ في بَابِ الْحُدُودِ
ثُمَّ كَمَالُ النِّصَابِ في قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ يُعْتَبَرُ وَقْتَ السَّرِقَةِ
لَا غَيْرُ أَمْ وَقْتَ السَّرِقَةِ وَالْقَطْعِ جميعا وَفَائِدَةُ هذا تَظْهَرُ
فِيمَا
____________________
(7/78)
إذَا
كانت قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ كَامِلَةً وَقْتَ السَّرِقَةِ ثُمَّ نَقَصَتْ أَنَّهُ
هل يَسْقُطُ الْقَطْعُ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ نُقْصَانَ الْمَسْرُوقِ
لَا يَخْلُو إمَّا إن كان نُقْصَانُ الْعَيْنِ بِأَنْ دخل الْمَسْرُوقَ عَيْبٌ أو
ذَهَبَ بَعْضُهُ
وَإِمَّا إن كان نُقْصَانُ السِّعْرِ فَإِنْ كان نُقْصَانُ الْعَيْنِ يُقْطَعُ
السَّارِقُ وَلَا يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ وَقْتَ الْقَطْعِ بَلْ وَقْتَ
السَّرِقَةِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ نُقْصَانَ عَيْنِهِ هَلَاكُ بَعْضِهِ وَهَلَاكُ
الْكُلِّ لَا يُسْقِطُ الْقَطْعَ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى وَإِنْ كان
نُقْصَانُ السِّعْرِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُقْطَعُ في
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ في الْوَقْتَيْنِ جميعا
وَرَوَى مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُقْطَعُ وَهَكَذَا ذَكَرَ
الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْإِخْرَاجِ
من الْحِرْزِ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ نُقْصَانَ السِّعْرِ دُونَ نُقْصَانِ الْعَيْنِ
لِأَنَّ ذلك لَا يُؤَثِّرُ في الْمَحِلِّ وَهَذَا يُؤَثِّرُ فيه ثُمَّ نُقْصَانُ
الْعَيْنِ لم يُؤَثِّرْ في إسْقَاطِ الْقَطْعِ فَنُقْصَانُ السِّعْرِ أَوْلَى
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ على ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الْفَرْقُ بين النُّقْصَانَيْنِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ نُقْصَانَ السِّعْرِ يُورِثُ شُبْهَةَ نُقْصَانٍ
في الْمَسْرُوقِ وَقْتَ السَّرِقَةِ لِأَنَّ الْعَيْنَ بِحَالِهَا قَائِمَةٌ لم
تَتَغَيَّرْ وَتَغَيُّرُ السِّعْرِ ليس بِمَضْمُونٍ على السَّارِقِ أَصْلًا
فَيُجْعَلَ النُّقْصَانُ الطارىء كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ السَّرِقَةِ بِخِلَافِ
نُقْصَانِ الْعَيْنِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَغَيُّرَ الْعَيْنِ إذْ هو هَلَاكُ بَعْضِ
الْعَيْنِ وهومضمون عليه في الْجُمْلَةِ فَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ وُجُودِهِ
وَقْتَ السَّرِقَةِ
وَكَذَا إذَا سَرَقَ في بَلَدٍ فَأَخَذَ في بَلَدٍ آخَرَ وَالْقِيمَةُ فيه
أَنْقَصُ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ حتى تَكُونَ
الْقِيمَةُ جميعا في السِّعْرِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَعَلَى رِوَايَةِ
الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ السَّرِقَةِ لَا
غَيْرُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ الذي يُقْطَعُ فيه في الْجُمْلَةِ مَقْصُودًا
بِالسَّرِقَةِ لَا تَبَعًا لِمَقْصُودٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ
في قَوْلِهِمَا
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هذا ليس بِشَرْطٍ
وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالسَّرِقَةِ إذَا كان مِمَّا يُقْطَعُ
فيه لو انْفَرَدَ وَبَلَغَ نِصَابًا بِنَفْسِهِ يُقْطَعُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ لم
يَبْلُغْ بِنَفْسِهِ نِصَابًا إلَّا بِالتَّابِعِ يَكْمُلُ النِّصَابُ بِهِ
فَيُقْطَعُ
وَكَذَلِكَ إذَا كان واحد ( ( ( واحدا ) ) ) مِنْهُمَا مَقْصُودًا وَلَا يَبْلُغُ
بِنَفْسِهِ نِصَابًا يَكْمُلُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَيُقْطَعُ وَإِنْ كان
الْمَقْصُودُ بِالسَّرِقَةِ مِمَّا لَا يُقْطَعُ فيه لو انْفَرَدَ لَا يُقْطَعُ
وَإِنْ كان معه غَيْرُهُ مِمَّا يَبْلُغُ نِصَابًا إذَا لم يَكُنْ الْغَيْرُ
مَقْصُودًا بِالسَّرِقَةِ بَلْ يَكُونُ تَابِعًا في قَوْلِهِمَا وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْطَعُ إذَا كان ذلك الْغَيْرُ نِصَابًا كَامِلًا
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ في مَسَائِلَ إذَا سَرَقَ إنَاءً من ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ
فيه شَرَابٌ أو مَاءٌ أو لَبَنٌ أو مَاءُ وَرْدٍ أو ثَرِيدٌ أو نَبِيذٌ أو غَيْرُ
ذلك مِمَّا لَا يُقْطَعُ فيه لو انْفَرَدَ لم يُقْطَعْ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ يُقْطَعُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ ما في الْإِنَاءِ إذَا كان مِمَّا لَا يُقْطَعُ فيه
الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَيُعْتَبَرُ أَخَذُ الْإِنَاءِ على الِانْفِرَادِ
فَيُقْطَعُ فيه
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ من هذه السَّرِقَةِ ما في الْإِنَاءِ
وَالْإِنَاءُ تَابِعٌ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لو قَصَدَ الْإِنَاءَ بِالْأَخْذِ
لَأَبْقَى ما فيه وما في الْإِنَاءِ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ فإذا لم
يَجِبْ الْقَطْعُ بِالْمَقْصُودِ لَا يَجِبُ بِالتَّابِعِ
وَإِلَى هذا أَشَارَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْكِتَابِ فقال إنَّمَا
أَنْظُرُ إلَى ما في جَوْفِهِ فَإِنْ كان ما في جَوْفِهِ لَا يُقْطَعُ فيه لم
أَقْطَعْهُ وَلَوْ سَرَقَ ما في الْإِنَاءِ في الدَّارِ قبل أَنْ يُخْرِجَ
الْإِنَاءَ منها ثُمَّ أَخْرَجَ الْإِنَاءَ فَارِغًا منه قُطِعَ لِأَنَّهُ لَمَّا
سَرَقَ ما فيه في الدَّارِ عُلِمَ أَنَّ مَقْصُودَهُ هو الْإِنَاءُ وَالْمَقْصُودُ
بِالسَّرِقَةِ إذَا كان مِمَّا يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ وَبَلَغَ نِصَابًا
يُقْطَعُ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا سَرَقَ صَبِيًّا حُرًّا لَا يُعَبِّرُ عن نَفْسِهِ
وَعَلَيْهِ حُلِيٌّ
وَإِنْ كان يُعَبِّرُ عن نَفْسِهِ لَا يُقْطَعُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ له يَدًا
على نَفْسِهِ وَعَلَى ما عليه من الْحُلِيِّ فَلَا يَكُونُ أَخْذُهُ سَرِقَةً بَلْ
يَكُونُ خِدَاعًا فَلَا يُقْطَعُ
وَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ عَبْدًا صَبِيًّا يُعَبِّرُ عن نَفْسِهِ وَعَلَيْهِ
حُلِيٌّ أو لم يَكُنْ لَا يُقْطَعُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كان لَا يُعَبِّرُ عن
نَفْسِهِ يُقْطَعُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يُقْطَعُ بِنَاءً على
أَنَّ سَرِقَةَ مِثْلِ هذا الْعَبْدِ يُوجِبُ الْقَطْعَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ
لَا يُوجِبُ
وَالْمَسْأَلَةُ قد مَرَّتْ
وَلَوْ سَرَقَ كَلْبًا أو غَيْرَهُ من السِّبَاعِ في عُنُقِهِ طَوْقٌ لم يُقْطَعْ
وَكَذَلِكَ لو سَرَقَ مُصْحَفًا مُفَضَّضًا أو مُرَصَّعًا بِيَاقُوتٍ لم يُقْطَعْ
عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُقْطَعُ لِمَا ذَكَرْنَا
وَلَوْ سَرَقَ كُوزًا قِيمَتُهُ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ وَفِيهِ عَسَلٌ يُسَاوِي
دِرْهَمًا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ما فيه من الْعَسَلِ وَالْكُوزُ تَبَعٌ
فَيَكْمُلُ نِصَابُ الْأَصْلِ بِهِ
وَكَذَلِكَ لو سَرَقَ حِمَارًا يُسَاوِي تِسْعَةً وَعَلَيْهِ إكَافٌ يُسَاوِي
دِرْهَمًا يُقْطَعُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ من ثَوْبٍ وَالثَّوْبُ لَا يُسَاوِي عَشَرَةً
يُنْظَرُ إنْ كان ذلك الثَّوْبُ يَصْلُحُ وِعَاءً لِلدَّرَاهِمِ بِأَنْ تُشَدَّ
فيه الدَّرَاهِمُ عَادَةً بِأَنْ كانت خِرْقَةً وَنَحْوَهَا يُقْطَعُ لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ بِالْأَخْذِ هو ما فيه وَإِنْ كان لَا يَصْلُحُ بِأَنْ كان ثَوْبَ
كِرْبَاسَ فَإِنْ كان تَبْلُغُ قِيمَةُ الثَّوْبِ
____________________
(7/79)
نِصَابًا
بِأَنْ كان يُسَاوِي عَشَرَةً يُقْطَعُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الثَّوْبَ مَقْصُودٌ
بِنَفْسِهِ بِالسَّرِقَةِ وَإِنْ كان لَا يَبْلُغُ نِصَابًا قال أبو حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُقْطَعُ
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ اللِّصَّ إنْ كان يَعْلَمُ بِالدَّرَاهِمِ يُقْطَعْ
وَإِنْ كان لايعلم لَا يُقْطَعُ
وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي حَنِيفَةَ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَرُوِيَ
عنه أَنَّهُ يُقْطَعُ عَلِمَ بها أو لم يَعْلَمْ ووجه ( ( ( ووجهه ) ) ) أَنَّ
الْعِلْمَ بِالْمَسْرُوقِ ليس بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ بَلْ الشَّرْطُ أَنْ
يَكُونَ نِصَابًا وقد وُجِدَ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا كان يَعْلَمُ بِالدَّرَاهِمِ كان
مَقْصُودُهُ بِالْأَخْذِ الدَّرَاهِمَ وقد بَلَغَتْ نِصَابًا فَيُقْطَعُ وإذا كان
لَا يَعْلَمُ بها كان مَقْصُودُهُ الثَّوْبَ وَأَنَّهُ لم يَبْلُغْ النِّصَابَ
فَلَا يُقْطَعُ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِأَبِي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ مِثْلَ
هذا الثَّوْبِ إذَا كان مِمَّا لَا تُشَدُّ بِهِ الدَّرَاهِمُ عَادَةً كان
مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ بِالسَّرِقَةِ وَإِنْ لم يَبْلُغْ نِصَابًا فلم يَجِبْ فيه
الْقَطْعُ فَكَذَا فِيمَا فيه لِأَنَّهُ تَابِعٌ له وَلَوْ سَرَقَ جوالق ( ( (
جوالقا ) ) ) أو جِرَابًا فيه مَالٌ كَثِيرٌ قُطِعَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ
بِالسَّرِقَةِ هو الْمَظْرُوفُ لَا الظَّرْفُ وَالْمَقْصُودُ مِمَّا يَجِبُ الْقَطْعُ
بِسَرِقَتِهِ فَيُقْطَعُ
وَكَذَا إذَا كان الثَّوْبُ لَا يُسَاوِي عَشَرَةً وَفِيهِ مَالٌ عَظِيمٌ عَلِمَ
بِهِ اللِّصُّ يُقْطَعُ لِأَنَّ الثَّوْبَ يَصْلُحُ وِعَاءً لِلْمَالِ الْكَثِيرِ
وَلَا يَصْلُحُ وِعَاءً لِلْيَسِيرِ فَفِيمَا صَلَحَ وِعَاءً له يُعْتَبَرُ ما فيه
لِأَنَّا نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ مَقْصُودَهُ ما فيه وَفِيمَا لَا يَصْلُحُ
يَعْتَبِرُ نَفْسَهُ مَقْصُودًا بِالسَّرِقَةِ وما فيه تَابِعًا له وَلَا قَطْعَ
في الْمَقْصُودِ لِنُقْصَانِ النِّصَابِ فَكَذَا في التَّابِعِ لِأَنَّ التَّبَعَ
حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَصْلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ منه فَهُوَ أَنْ يَكُونَ له يَدٌ
صَحِيحَةٌ وهو يَدُ الْمِلْكِ أو يَدُ الْأَمَانَةِ كَيَدِ الْمُودِعِ
وَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُضَارِبِ وَالْمُبْضِعِ أو يَدُ الضَّمَانِ كَيَدِ
الْغَاصِبِ وَالْقَابِضِ على سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمُرْتَهِنِ فَيَجِبُ
الْقَطْعُ على السَّارِقِ من هَؤُلَاءِ أَمَّا من الْمَالِكِ فَلَا شَكَّ فيه
وَكَذَا من أَمِينِهِ لِأَنَّ يَدَ أَمِينِهِ يَدُهُ فَالْأَخْذُ منه كَالْأَخْذِ
من الْمَالِكِ فَأَمَّا من الْغَاصِبِ فإن مَنْفَعَةَ يَدَهُ عَائِدَةً إلَى
الْمَالِكِ إذْ بها يَتَمَكَّنُ من الرَّدِّ على الْمَالِكِ لِيَخْرُجَ عن
الْعُهْدَةِ فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ الْمَالِكِ من وَجْهٍ وَلِأَنَّ الْمَغْصُوبَ
مَضْمُونٌ على الْغَاصِبِ وَضَمَانُ الْغَصْبِ عِنْدَنَا ضَمَانُ مِلْكٍ
فَأَشْبَهَ يَدَ الْمُشْتَرِي وَالْمَقْبُوضُ على سَوْمِ الشِّرَاءِ مَضْمُونٌ على
الْقَابِضِ وَالْمَرْهُونُ مَضْمُونٌ على الْمُرْتَهِنِ بِالدَّيْنِ فَيَجِبُ
الْقَطْعُ على السَّارِقِ منهم وَهَلْ يَسْتَوْفِي بِخُصُومَتِهِمْ حَالَ غِيبَةِ
الْمَالِكِ فيه خِلَافٌ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ على السَّارِقِ من السَّارِقِ لِأَنَّ يَدَ السَّارِقِ
لَيْسَتْ بِيَدٍ صَحِيحَةٍ إذْ لَيْسَتْ يَدَ مِلْكٍ وَلَا يَدَ أَمَانَةٍ وَلَا
يَدَ ضَمَانٍ فَكَانَ الْأَخْذُ منه كَالْأَخْذِ من الطَّرِيقِ وَإِنْ كان
الْقَطْعُ درىء ( ( ( درئ ) ) ) عن الْأَوَّلِ قُطِعَ الثَّانِي لِأَنَّهُ إذَا
درىء ( ( ( درئ ) ) ) عنه الْقَطْعُ صَارَتْ يَدُهُ يَدَ ضَمَانٍ وَيَدُ
الضَّمَانِ يَدٌ صَحِيحَةٌ كَيَدِ الْغَاصِبِ وَنَحْوِهِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ فيه وهو الْمَكَانُ فَهُوَ أَنْ
تَكُونَ السَّرِقَةُ في دَارِ الْعَدْلِ فَلَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ في دَارِ
الْحَرْبِ وَدَارِ الْبَغْيِ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِلْإِمَامِ في دَارِ الْحَرْبِ
وَلَا على دَارِ الْبَغْيِ فَالسَّرِقَةُ الْمَوْجُودَةُ فِيهِمَا لَا تَنْعَقِدُ
سَبَبًا لِوُجُوبِ الْقَطْعِ
وَبَيَانُ هذا في مَسَائِلِ التُّجَّارِ أو الْأَسَارَى من أَهْلِ الْإِسْلَامِ في
دَارِ الْحَرْبِ إذَا سَرَقَ بَعْضُهُمْ من بَعْضٍ ثُمَّ خَرَجُوا إلَى دَارِ
الْإِسْلَامِ فَأَخَذَ السَّارِقُ لَا يَقْطَعُهُ الْإِمَامُ لِأَنَّهُ لَا يَدَ
لِلْإِمَامِ في دَارِ الْحَرْبِ فَالسَّرِقَةُ الْمَوْجُودَةُ فِيهِمَا لم
تَنْعَقِدْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْقَطْعِ فَلَا تستوفى في دَارِ الْإِسْلَامِ
وَكَذَلِكَ التُّجَّارُ من أَهْلِ الْعَدْلِ في مُعَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ أو
الْأَسَارَى في أَيْدِيهِمْ إذَا سَرَقَ بَعْضُهُمْ من بَعْضٍ ثُمَّ خَرَجُوا إلَى
أَهْلِ الْعَدْلِ فَأَخَذَ السَّارِقُ لم يَقْطَعْهُ الْإِمَامُ لِأَنَّ
السَّرِقَةَ وُجِدَتْ في مَوْضِعٍ لَا يَدَ لِلْإِمَامِ عليه فَأَشْبَهَتْ السَّرِقَةَ
في دَارِ الْحَرْبِ
وَكَذَلِكَ رَجُلٌ من أَهْلِ الْبَغْيِ جاء لِلْإِمَامِ تَائِبًا وقد سَرَقَ من
أَهْلِ الْبَغْيِ لم يَقْطَعْهُ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ رَجُلٌ من أَهْلِ الْعَدْلِ أَغَارَ على مُعَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ
فَسَرَقَ منهم لم يَقْطَعْهُ الْإِمَامُ لِأَنَّ السَّرِقَةَ لم تَنْعَقِدْ
مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ لِعَدَمِ وَلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ فيه وَلِأَنَّهُ أَخَذَ
عن تَأْوِيلٍ لِأَنَّ لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَأْخُذُوا أَمْوَالَ أَهْلِ
الْبَغْيِ وَيَحْبِسُونَهَا عِنْدَهُمْ حتى يَتُوبُوا فَكَانَ في الْعِصْمَةِ
شُبْهَةُ الْعَدَمِ
وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ من أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا سَرَقَ من مُعَسْكَرِ أَهْلِ
الْعَدْلِ وَعَادَ إلَى مُعَسْكَرِهِ ثُمَّ أَخَذَ بَعْدَ ذلك لم يُقْطَعْ
لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ إبَاحَةَ أَمْوَالِنَا وَلَهُمْ مَنَعَةٌ فَكَانَ
أَخْذُهُ عن تَأْوِيلٍ فَلَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ كما لَا يَضْمَنُ
بِالْإِتْلَافِ
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا من أَهْلِ الْعَدْلِ سَرَقَ من إنْسَانٍ مَالًا وهو يَشْهَدُ
عليه بِالْكُفْرِ وَيَسْتَحِلُّ دَمَهُ وَمَالَهُ يُقْطَعُ لِأَنَّ مُجَرَّدَ
اعْتِقَادِ الْإِبَاحَةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ وَلِأَنَّا لو اعْتَبَرْنَا ذلك
لَأَدَّى إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ
____________________
(7/80)
لِأَنَّ
كُلَّ سَارِقٍ لَا يَعْجِزُ عن إظْهَارِ ذلك فَيَسْقُطَ الْقَطْعُ عن نَفْسِهِ
وَهَذَا قَبِيحٌ فما يُؤَدِّي إلَيْهِ مِثْلُهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما تَظْهَرُ بِهِ السَّرِقَةُ عِنْدَ الْقَاضِي فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ السَّرِقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَطْعِ عِنْدَ الْقَاضِي
تَظْهَرُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةُ
وَالثَّانِي الْإِقْرَارُ أَمَّا الْبَيِّنَةُ فظهر ( ( ( فتظهر ) ) ) بها
السَّرِقَةُ إذَا اُسْتُجْمِعَتْ شَرَائِطُهَا لِأَنَّهَا خَبَرٌ يُرَجَّحُ فيه
جَنَبَةُ الصِّدْقِ على جَنَبَةِ الْكَذِبِ فَيَظْهَرُ الْمُخْبَرُ بِهِ
وَشَرَائِطُ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ في بَابِ السَّرِقَةِ بَعْضُهَا يَعُمُّ الْبَيِّنَاتِ
كُلَّهَا وقد ذَكَرْنَا ذلك في كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَبَعْضُهَا يَخُصُّ
أَبْوَابَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وهو الذُّكُورَةُ وَالْعَدَالَةُ
وَالْأَصَالَةُ فَلَا تُقْبَلُ فيها شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَلَا شَهَادَةُ
الْفُسَّاقِ وَلَا الشَّهَادَةُ على الشَّهَادَةِ لِأَنَّ في شَهَادَةِ هَؤُلَاءِ
زِيَادَةَ شُبْهَةٍ لَا ضَرُورَةَ إلَى تَحَمُّلِهَا فِيمَا يُحْتَالُ لِدَفْعِهِ
وَيُحْتَاطُ لِدَرْئِهِ
وَكَذَا عَدَمُ تَقَادُمِ الْعَهْدِ إلَّا في حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ حتى لو
شَهِدُوا بِالسَّرِقَةِ بَعْد حِينٍ لم تُقْبَلْ وَلَا يُقْطَعُ وَيَضْمَنُ
الْمَالَ
وَالْأَصْلُ أَنَّ التَّقَادُمَ يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ على الْحُدُودِ
الْخَالِصَةِ وَلَا يُبْطِلُهَا على حَدِّ الْقَذْفِ وَلَا يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ
أَيْضًا
وَالْفَرْقُ ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ الْحُدُودِ وَإِنَّمَا ضَمِنَ الْمَالَ
لِأَنَّ التَّقَادُمَ إنَّمَا يَمْنَعُ من الشَّهَادَةِ على الْحُدُودِ
الْخَالِصَةِ لِلشُّبْهَةِ وَالشُّبْهَةُ تَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ وَلَا
تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ وَبَعْضُهَا يَخُصُّ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ
وَالْحُقُوقِ وهو الْخُصُومَةُ وَالدَّعْوَى مِمَّنْ له يَدٌ صَحِيحَةٌ حتى لو
شَهِدُوا أَنَّهُ سَرَقَ من فُلَانٍ الْغَائِبِ لم تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ ما لم
يَحْضُرْ الْمَسْرُوقُ منه وَيُخَاصِمُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كَوْنَ الْمَسْرُوقِ
مِلْكًا لِغَيْرِ السَّارِقِ شَرْطٌ لِكَوْنِ الْفِعْلِ سَرِقَةً وَلَا يَظْهَرُ
ذلك إلَّا بِالْخُصُومَةِ فإذا لم تُوجَدْ الْخُصُومَةُ لم تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ
وَلَكِنْ يُحْبَسُ السَّارِقُ لِأَنَّ إخْبَارَهُمْ أَوْرَثَ تُهْمَةً وَيَجُوزُ
الْحَبْسُ بِالتُّهْمَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ حَبَسَ رَجُلًا
بِالتُّهْمَةِ وَهَلْ يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى لِقَبُولِ الْبَيِّنَةِ
الْقَائِمَةِ على سَرِقَةِ عَبْدِهِ مَالَ إنْسَانٍ وَالْعَبْدُ يَجْحَدُ
اُخْتُلِفَ فيه
قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ يُشْتَرَطُ حتى لو كان مَوْلَاهُ غَائِبًا لم
تُقْبَلْ الْبَيِّنَةُ وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي يُوسُفَ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ لَا
يُشْتَرَطُ ويقضي عليه بِالْقَطْعِ وَإِنْ كان مَوْلَاهُ غَائِبًا
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا يَجِبُ على الْعَبْدِ
بِالسَّرِقَةِ من حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ مُكَلَّفٌ لَا من حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ
مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى
وَمِنْ هذا الْوَجْهِ الْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ عنه فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ
حَضْرَتِهِ كما لَا تُشْتَرَطُ حَضْرَةُ سَائِرِ الْأَجَانِبِ وَلِهَذَا لو أَقَرَّ
بِالسَّرِقَةِ نَفَذَ إقْرَارُهُ وَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى
كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ هذه الْبَيِّنَةَ تَتَضَمَّنُ
إتْلَافَ مِلْكِ الْمَوْلَى فَلَا يُقْضَى بها مع غِيبَةِ الْمَوْلَى
كَالْبَيِّنَةِ الْقَائِمَةِ على مِلْكِ شَيْءٍ من رَقَبَةِ الْعَبْدِ وَلِأَنَّ
من الْجَائِزِ أَنَّهُ لو كان حضارا ( ( ( حاضرا ) ) ) لَادَّعَى شُبْهَةً
مَانِعَةً من قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ ما أَمْكَنَ بِخِلَافِ
الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ بعدما وَقَعَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى
رَدَّهُ بِوَجْهٍ فلم تَتَمَكَّنْ فيه شُبْهَةٌ وَلَا تَظْهَرُ السَّرِقَةُ
بِالنُّكُولِ حتى لو ادَّعَى على رَجُلٍ سَرِقَةً فَأَنْكَرَ فاستحلف ( ( (
فاستخلف ) ) ) فَنَكَلَ لَا يُقْضَى عليه بِالْقَطْعِ وَيُقْضَى بِالْمَالِ لِأَنَّ
النُّكُولَ إمَّا أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْبَدَلِ وَالْقَطْعُ مِمَّا لَا
يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ وَالْإِبَاحَةَ وَالْمَالُ مما يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ
وَالْإِبَاحَةَ وَإِمَّا أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى إقْرَارٍ فيه شُبْهَةُ الْعَدَمِ
لِكَوْنِهِ إقْرَارًا من طَرِيقِ السُّكُوتِ لَا صَرِيحًا وَالشُّبْهَةُ تَمْنَعُ
وُجُوبَ الْحَدِّ وَلَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَتَظْهَرُ بِهِ السَّرِقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَطْعِ
أَيْضًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ في الْإِقْرَارِ على نَفْسِهِ
بِالْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ فَتَظْهَرَ بِهِ السَّرِقَةُ كما تَظْهَرُ
بِالْبَيِّنَةِ بل ( ( ( وبل ) ) ) أَوْلَى لِأَنَّ الْمَرْءَ قد يُتَّهَمُ في
حَقِّ غَيْرِهِ ما لَا يُتَّهَمُ في حَقِّ نَفْسِهِ وَسَوَاءٌ كان الذي أَقَرَّ
بِالسَّرِقَةِ عَبْدًا مَأْذُونًا أو مَحْجُورًا بَعْدَ أَنْ كان من أَهْلِ
وُجُوبِ الْقَطْعِ عليه وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُقْطَعُ
بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ من غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةِ عَشْرَةِ
دَرَاهِمَ لَا يَخْلُو إمَّا إن كان مَأْذُونًا أو مَحْجُورًا وَالْمَالُ قَائِمٌ
أو هَالِكٌ فَإِنْ كان مَأْذُونًا يُقْطَعُ ثُمَّ إنْ كان الْمَالُ هَالِكًا أو
مُسْتَهْلَكًا لَا ضَمَانَ عليه سَوَاءٌ صَدَّقَهُ مَوْلَاهُ في إقْرَارِهِ أو
كَذَّبَهُ لِأَنَّ الْقَطْعَ مع الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَنَا
وَإِنْ كان الْمَالُ قَائِمًا فَهُوَ لِلْمَسْرُوقِ منه
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُقْطَعُ من غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى
وَالْمَالُ لِلْمَسْرُوقِ منه
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ يَتَضَمَّنُ إتْلَافَ مَالِ الْمَوْلَى
لِأَنَّ ما في يَدِ الْعَبْدِ مَالُ مَوْلَاهُ فَلَا يُقْبَلُ من غَيْرِ تَصْدِيقِ
الْمَوْلَى
وَلَنَا أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ في هذا الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْمَوْلَى
إنْ كان يَتَضَرَّرُ بِهِ فَضَرَرُ الْعَبْدِ أَعْظَمُ فلم يَكُنْ مُتَّهَمًا في
إقْرَارِهِ فَيُقْبَلَ وَلِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى في يَدِ الْعَبْدِ في
حَقِّ الْقَطْعِ كما لَا مِلْكَ له في نَفْسِهِ في حَقِّ الْقَتْلِ فَكَانَ
الْعَبْدُ فيه مُبْقًى على أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ كَالْحُرِّ
وَبِهِ
____________________
(7/81)
تَبَيَّنَ
أَنَّ إقْرَارَهُ لم يَتَضَمَّنْ إبْطَالَ حَقِّ الْمَوْلَى في حَقِّ الْقَطْعِ
لِعَدَمِ الْحَقِّ له في حَقِّهِ
وَإِنْ كان مَحْجُورًا تُقْطَعْ يَدُهُ ثُمَّ إنْ كان الْمَالُ هَالِكًا أو
مُسْتَهْلَكًا لَا ضَمَانَ عليه كَذَّبَهُ مَوْلَاهُ أو صَدَّقَهُ وَإِنْ كان
قَائِمًا فَإِنْ صَدَّقَهُ مَوْلَاهُ تُقْطَعُ يَدُهُ وَالْمَالُ لِلْمَسْرُوقِ
منه وَإِنْ كَذَّبَهُ بِأَنْ قال هذا مَالِي اخْتَلَفَ فيه أَصْحَابُنَا
الثَّلَاثَةُ
قال أبو حَنِيفَةَ تُقْطَعُ يَدُهُ وَالْمَالُ لِلْمَسْرُوقِ منه
وقال أبو يُوسُفَ تُقْطَعُ يَدُهُ وَالْمَالُ لِلْمَوْلَى وَلَا ضَمَانَ على
الْعَبْدِ في الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْعِتْقِ
وقال مُحَمَّدٌ لَا تُقْطَعُ يَدُهُ وَالْمَالُ لِلْمَوْلَى وَيَضْمَنُ مثله
لِلْمُقَرِّ له بَعْدَ الْعِتْقِ
وَجْهُ قَوْلِهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ بِالْمَالِ لَا يَصِحُّ
لِأَنَّ ما في يَدِهِ مِلْكُ مَوْلَاهُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا وإذا لم يَنْفُذْ
إقْرَارُهُ بِالْمَالِ بَقِيَ الْمَالُ على حُكْمِ مِلْكِ الْمَوْلَى وَلَا قَطْعَ
في مَالِ الْمَوْلَى بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمَالِ
جَائِزٌ وإذاجاز إقْرَارُهُ بِالْمَالِ لِغَيْرِهِ تَثْبُتُ السَّرِقَةُ منه
فَيُقْطَعُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْحَدِّ جَائِزٌ وَإِنْ كان لَا
يَجُوزُ بِالْمَالِ إذْ ليس من ضَرُورَةِ جَوَازِ إقْرَارِهِ في حَقِّ الْحَدِّ
جَوَازُهُ في الْمَالِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو قال سَرَقْت هذا الْمَالَ الذي في يَدِ زَيْدٍ من عمر ( (
( عمرو ) ) ) ويقبل ( ( ( يقبل ) ) ) إقْرَارُهُ في الْقَطْعِ وَلَا يُقْبَلُ في
الْمَالِ
كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ
بِالْحَدِّ جَائِزٌ لِمَا ذَكَرْنَا في الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَلَزِمَهُ
الْقَطْعُ فَبَعْدَ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُقْطَعَ في الْمَالِ الْمُقِرِّ
بِهِ بِعَيْنِهِ وَيُرَدَّ الْمَسْرُوقُ إلَى الْمَوْلَى وَإِمَّا أَنْ يُقْطَعَ
في مَالٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ
في مَالٍ مَحْكُومٍ بِهِ لِمَوْلَاهُ لَا يَجُوزُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ في
مَالٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ صَادَفَ مَالًا مُعَيَّنًا
فَتَعَيَّنَ أَنْ يُقْطَعَ في الْمَالِ الْمُقِرِّ بِهِ بِعَيْنِهِ وَيُرَدَّ
الْمَالُ إلَى الْمَسْرُوقِ منه
هذا إذَا كان الْعَبْدُ بَالِغًا عَاقِلًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَأَمَّا إذَا كان
صَبِيًّا عَاقِلًا فَلَا قَطْعَ عليه لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ الْخِطَابِ
بِالشَّرَائِعِ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان مَأْذُونًا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ
فَإِنْ كان قَائِمًا يُرَدُّ عليه وَإِنْ كان هَالِكًا يَضْمَنْ وَإِنْ كان
مَحْجُورًا لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمَوْلَى فَإِنْ كَذَّبَهُ
فَالْمَالُ لِلْمَوْلَى إنْ كان قَائِمًا وَإِنْ هَالِكًا لَا ضَمَانَ عليه لَا في
الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْعَتَاقِ
وَلَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِسَرِقَةِ ما دُونَ الْعَشَرَةِ لايقطع لِأَنَّ
النِّصَابَ شَرْطٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان مَأْذُونًا يَصِحَّ إقْرَارُهُ
وَيُرَدُّ الْمَالُ إلَى الْمَسْرُوقِ منه وَإِنْ كان هَالِكًا يَضْمَنْ سَوَاءٌ
كان الْعَبْدُ مُخَاطَبًا أو لم يَكُنْ وَإِنْ كان مَحْجُورًا فَإِنْ صَدَّقَهُ
مَوْلَاهُ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَذَّبَهُ فَالْمَالُ لِلْمَوْلَى وَيَضْمَنُ
الْعَبْدُ بَعْدَ الْعِتْقِ إنْ كان مُخَاطَبًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ وَإِنْ كان
صَغِيرًا لَا ضَمَانَ عليه
وَالْأَصْلُ في جِنْسِ هذه الْمَسَائِلِ أَنَّ كُلَّ ما لَا يَصِحُّ إقْرَارُ
الْمَوْلَى على عَبْدِهِ يَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ فيه ثُمَّ الْمَوْلَى إذَا
أَقَرَّ على عَبْدِهِ بِالْقِصَاصِ أو حَدِّ الزِّنَا أو حَدِّ الْقَذْفِ أو
السَّرِقَةِ أو الْقَطْعِ في السَّرِقَةِ لَا يَصِحُّ فإذا أَقَرَّ الْعَبْدُ
بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَصِحُّ
وَأَمَّا إذَا أَقَرَّ الْمَوْلَى على عَبْدِهِ بِالْجِنَايَةِ فِيمَا دُونَ
النَّفْسِ فِيمَا يَجِبُ فيه الدَّفْعُ أو الْفِدَاءُ فإنه يُنْظَرُ إنْ لم يَكُنْ
عليه دَيْنٌ صَحَّ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ فيها
مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ فَكَأَنَّ الْمَوْلَى أَقَرَّ عليه بِالدَّيْنِ
وَلَوْ أَقَرَّ عليه بِالدَّيْنِ يَصِحُّ كَذَا هذا
وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لو أَقَرَّ عليه بِالدَّيْنِ
وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَصِحُّ كَذَا إذَا أَقَرَّ عليه بِالْجِنَايَةِ وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَدَمُ التَّقَادُمِ في الْإِقْرَارِ ليس بِشَرْطٍ لِجَوَازِهِ فَيَجُوزُ
سَوَاءٌ تَقَادَمَ عَهْدُ السَّرِقَةِ أو لَا بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ وَالْفَرْقُ
ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ الْحُدُودِ
وَاخْتُلِفَ في الْعَدَدِ في هذا الْإِقْرَارِ أَنَّهُ هل هو شَرْطٌ قال أبو
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ليس بِشَرْطٍ وَيَظْهَرُ
بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ شَرْطٌ فَلَا يُقْطَعُ ما لم يُقِرَّ
مَرَّتَيْنِ في مَكَانَيْنِ
وَالدَّلَائِلُ ذَكَرْنَاهَا في كِتَابِ الْحُدُودِ وَكَذَا اُخْتُلِفَ في دَعْوَى
الْمَسْرُوقِ منه أنها هل هِيَ شَرْطُ كَوْنِ الْإِقْرَارِ مُظْهِرًا لِلسَّرِقَةِ
كما هِيَ شَرْطُ كَوْنِ الْبَيِّنَةِ مُظْهِرَةً لها
قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ شَرْطٌ حتى لو أَقَرَّ
السَّارِقُ أَنَّهُ سَرَقَ مَالَ فُلَانٍ الْغَائِبِ لم يُقْطَعْ ما لم يَحْضُرْ
الْمَسْرُوقُ منه وَيُخَاصَمُ عِنْدَهُمَا
وقال أبو يُوسُفَ الدَّعْوَى في الْإِقْرَارِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَيُقْطَعُ حَالَ
غَيْبَةِ الْمَسْرُوقِ منه
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالسَّرِقَةِ إقْرَارٌ على نَفْسِهِ
وَالْإِنْسَانُ يُصَدَّقُ في الْإِقْرَارِ على نَفْسِهِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ
وَلِهَذَا لو أَقَرَّ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ وَهِيَ غَائِبَةٌ قبل إقْرَارِهِ وحد
( ( ( حد ) ) ) كَذَا هذا
وَلَهُمَا ما رُوِيَ أَنَّ سَمُرَةَ رضي اللَّهُ عنه قال لِلنَّبِيِّ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنِّي سَرَقْت لِآلِ فُلَانٍ فَأَنْفَذَ إلَيْهِمْ رسول
اللَّهِ فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا إنَّا فَقَدْنَا بَعِيرًا لنا في لَيْلَةِ كَذَا
فَقَطَعَهُ فَلَوْلَا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ شَرْطُ ظُهُورِ السَّرِقَةِ
بِالْإِقْرَارِ لم يَكُنْ لِيَسْأَلَهُمْ بَلْ كان يَقْطَعُ السَّارِقَ وَلِأَنَّ
كُلَّ من في يَدِهِ شَيْءٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِلْكُهُ
فَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ لم يُحْكَمْ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عنه حتى
يُصَدِّقَهُ الْمُقَرُّ له وَالْغَائِبُ يَجُوزُ أَنْ يُصَدِّقَهُ فيه وَيَجُوزُ
أَنْ يُكَذِّبَهُ فَبَقِيَ على حُكْمِ
____________________
(7/82)
مِلْكِ
السَّارِقِ فَلَا يُقْطَعُ وَلِأَنَّ في ظُهُورِ السَّرِقَةِ بهذا الْإِقْرَارِ
شُبْهَةَ الْعَدَمِ لِاحْتِمَالِ التَّكْذِيبِ من الْمَسْرُوقِ منه فإنه
يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْضُرَ فَيُكَذِّبُهُ في إقْرَارِهِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ
بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ أَنَّهُ يُحَدُّ الْمُقِرُّ
وَإِنْ كان يُحْتَمَلُ أَنْ تَحْضُرَ الْمَرْأَةُ فَتَدَّعِي شُبْهَةً لِأَنَّ
هُنَاكَ لو كانت حَاضِرَةً وَادَّعَتْ الشُّبْهَةَ يَسْقُطُ الْحَدُّ لِأَجْلِ
الشُّبْهَةِ فَلَوْ سَقَطَ عِنْدَ غَيْبَتِهَا لَسَقَطَ لِشُبْهَةِ الشُّبْهَةِ
وَأَنَّهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ في دَرْءِ الْحَدِّ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ لِأَنَّ
الْمَسْرُوقَ منه لو كان حَاضِرًا وَكَذَّبَ السَّارِقَ في إقْرَارِهِ
بِالسَّرِقَةِ منه لم يُقْطَعْ لَا لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ بَلْ لِانْعِدَامِ
فِعْلِ السَّرِقَةِ فلم يَكُنْ السُّقُوطُ حَالَ الْغَيْبَةِ اعْتِبَارَ شُبْهَةِ
الشُّبْهَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قال مُحَمَّدٌ لو قال سَرَقْت هذه الدَّرَاهِمَ وَلَا أَدْرِي لِمَنْ هِيَ أو قال
سَرَقْتهَا وَلَا أُخْبِرُك من صَاحِبُهَا لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ جَهَالَةَ
الْمَسْرُوقِ منه فَوْقَ غَيْبَتِهِ ثُمَّ الْغَيْبَةُ لَمَّا مَنَعَتْ الْقَطْعَ
على أَصْلِهِ فَالْجَهَالَةُ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْخُصُومَةَ لَمَّا كانت شَرْطًا
فإذا كان الْمَسْرُوقُ منه مجهلا ( ( ( مجهولا ) ) ) لا تَتَحَقَّقُ الْخُصُومَةُ
فَلَا يُقْطَعُ
وإذا عُرِفَ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطُ ظُهُورِ السَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ
لِلْقَطْعِ بِالْبَيِّنَةِ على الِاتِّفَاقِ وَبِالْإِقْرَارِ على الِاخْتِلَافِ
فَلَا بُدَّ من بَيَانِ من يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَمَنْ لَا يَمْلِكُهَا
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ من كان له يَدٌ
صَحِيحَةٌ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَمَنْ لَا فَلَا فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُخَاصِمَ
السَّارِقَ إذَا سَرَقَ منه لَا شَكَّ فيه لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ يَدٌ صَحِيحَةٌ
وَأَمَّا الْمُودِعُ وَالْمُسْتَعِيرُ وَالْمُضَارِبُ وَالْمُبْضِعُ وَالْغَاصِبُ
وَالْقَابِضُ على سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمُرْتَهِنُ فَلَا خِلَافَ بين
أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في أَنَّ لهم أَنْ يُخَاصِمُوا السَّارِقَ
وَتُعْتَبَرُ خُصُومَتُهُمْ في حَقِّ ثُبُوتِ وَلَايَةِ الِاسْتِرْدَادِ
وَالْإِعَادَةِ إلَى أَيْدِيهِمْ وَأَمَّا في حُقُوقِ الْقَطْعِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَيُقْطَعُ السَّارِقُ
بِخُصُومَتِهِمْ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تُعْتَبَرُ خُصُومَتُهُمْ
في حَقِّ الْقَطْعِ وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ بِخُصُومَةِ هَؤُلَاءِ وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُعْتَبَرُ بِخُصُومَةِ غَيْرِ الْمَالِكِ
أَصْلًا لَا في حَقِّ الْقَطْعِ وَلَا في حَقِّ وَلَايَةِ الِاسْتِرْدَادِ
وَوَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ يَدَ هَؤُلَاءِ لَيْسَتْ بِيَدٍ
صَحِيحَةٍ في الْأَصْلِ أَمَّا يَدُ الْمُرْتَهِنِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهَا يَدُ
حِفْظٍ لَا أَنَّهُ يَثْبُتُ له وَلَايَةُ الْخُصُومَةِ لِضَرُورَةِ الْإِعَادَةِ
إلَى يَدِ الْحِفْظِ لِيَتَمَكَّنَ من التَّسْلِيمِ من الْمَالِكِ وَكَذَلِكَ يَدُ
الْغَاصِبِ وَالْقَابِضِ على سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمُرْتَهِنِ يَدُهُمْ يَدُ
ضَمَانٍ لَا يَدُ خُصُومَةٍ وَإِنَّمَا ثبت ( ( ( يثبت ) ) ) لهم وَلَايَةُ
الْخُصُومَةِ لِإِمْكَانِ الرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ فَكَانَ ثُبُوتُ وَلَايَةِ
الْخُصُومَةِ لهم بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ وَالثَّابِتُ بِضَرُورَةٍ يَكُونُ
عَدَمًا فِيمَا وَرَاءَ مَحِلِّ الضَّرُورَةِ لِانْعِدَامِ عِلَّةِ الثُّبُوتِ
وَهِيَ الضَّرُورَةُ فَكَانَتْ الْخُصُومَةُ مُنْعَدِمَةً في حَقِّ الْقَطْعِ
وَلَا قَطْعَ بِدُونِ الْخُصُومَةِ وَلِهَذَا لَا يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ السَّارِقِ
كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطُ صَيْرُورَةِ للبينة ( ( ( البينة ) ) ) حُجَّةً
مُظْهِرَةً لِلسَّرِقَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَتَحَقَّقُ
سَرِقَةً ما لم يُعْلَمْ أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِلْكُ غَيْرِ السَّارِقِ وَإِنَّمَا
يُعْلَمُ ذلك بِالْخُصُومَةِ فَكَانَتْ الْخُصُومَةُ شَرْطُ كَوْنِ الْبَيِّنَةِ
مُظْهِرَةً لِلسَّرِقَةِ وَكَوْنُهَا مُظْهِرَةً لِلسَّرِقَةِ ثَبَتَ بِخُصُومَةِ
هَؤُلَاءِ وإذا ظَهَرَتْ السَّرِقَةُ يُقْطَعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } بِخِلَافِ السَّارِقِ أَنَّهُ لَا
يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ لِمَا نَذْكُرُ على
أَنَّ عَدَمَ الْقَطْعِ هُنَاكَ لِخَلَلٍ في مِلْكِ الْمَسْرُوقِ لِمَا بَيَّنَّا
فِيمَا تَقَدَّمَ وَهَهُنَا لَا خَلَلَ في الْعِصْمَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّ هُنَاكَ لَا يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ وَهَهُنَا يُقْطَعُ
وَلَوْ حَضَرَ الْمَالِكُ وَغَابَ الْمُرْتَهِنُ هل له أَنْ يُخَاصِمَ السَّارِقَ
وَيَقْطَعَهُ ذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ له ذلك وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ
عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ ليس له ذلك
وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ أَنَّ وَلَايَةَ الْخُصُومَةِ لِلْمَسْرُوقِ منه
وَالْمَالِكُ ليس بِمَسْرُوقٍ منه لِأَنَّ السَّارِقَ لم يَسْرِقْ منه وَإِنَّمَا
سَرَقَ من غَيْرِهِ فلم يَكُنْ له وَلَايَةُ الْخُصُومَةِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ أَنَّ الْخُصُومَةَ في بَابِ السَّرِقَةِ إنَّمَا شُرِطَتْ
لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِلْكُ غَيْرِ السَّارِقِ وَهَذَا يَحْصُلُ
بِخُصُومَةِ المال ( ( ( المالك ) ) ) فَتَصِحُّ خُصُومَتُهُ كما تَصِحُّ
خُصُومَةُ الْمُرْتَهِنِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ يَدُ نِيَابَةٍ
فلما صَحَّتْ الْخُصُومَةُ بِيَدِ النِّيَابَةِ فَيَدُ الْأَصَالَةِ أَوْلَى
وَلَوْ حَضَرَ الْمَغْصُوبُ منه وَغَابَ الْغَاصِبُ ذَكَرَ في الْجَامِعِ
الصَّغِيرِ أَنَّ له أَنْ يُخَاصِمَ وَيُطَالِبَ بِالْقَطْعِ ولم يذكر ابن
سِمَاعَةَ في الْغَصْبِ خِلَافًا وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّهُ
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِيهِمَا وَاحِدًا وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ
يُخَاصِمَ السَّارِقَ فَيَقْطَعَهُ لِأَنَّهُ ليس له حَقُّ الْقَبْضِ قبل قَضَاءِ
الدَّيْنِ فَلَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ حتى لو قَضَى الدَّيْنَ له أَنْ
يُخَاصِمَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ وَلَايَةُ الْقَبْضِ بِالْفِكَاكِ
قال الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ
لَا يَثْبُتُ لِلرَّاهِنِ وَلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ مع غَيْبَةِ الْمُرْتَهِنِ كما
في الْمُودِعِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ أَقْوَى من يَدِ
الْمُودِعِ لِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ لِنَفْسِهِ وَيَدَ الْمُودِعِ لِغَيْرِهِ
وَلَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ
____________________
(7/83)
في
يَدِ السَّارِقِ كان لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَقْطَعَهُ وَلَا سَبِيلَ لِلرَّاهِنِ
عليه لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ كان له وَلَايَةُ الْقَطْعِ قبل الْهَلَاكِ وَهَلَاكُ
الْمَحِلِّ لَا يُسْقِطُ الْقَطْعَ فَيُثْبِتَ الْوَلَايَةَ فَأَمَّا الرَّاهِنُ
فلم يَبْقَ له حَقٌّ في الْمَرْهُونِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَقَطَ عنه الدَّيْنُ
بِهَلَاكِهِ فَلَا تَثْبُتُ له وَلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ
وَأَمَّا السَّارِقُ فَلَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ
بِمَضْمُونَةٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَدِ مِلْكٍ وَلَا يَدِ ضَمَانٍ وَلَا يَدِ
أَمَانَةٍ فَصَارَ الْأَخْذُ من يَدِهِ كَالْأَخْذِ من الطَّرِيقِ فلم يَكُنْ له
أَنْ يُخَاصِمَ الثَّانِيَ بِالْقَطْعِ وَلَا لِلْمَالِكِ أَيْضًا وَلَايَةُ
الْمُخَاصَمَةِ لِأَنَّ أَخْذَ الْمَالِ من الْيَدِ الصَّحِيحَةِ شَرْطُ وُجُوبِ
الْقَطْعِ ولم يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ فَلَا تَثْبُتُ له وَلَايَةُ
الْمُطَالَبَةِ وَهَلْ لِلسَّارِقِ الْأَوَّلِ أَنْ يُطَالِبَ الثَّانِيَ بِرَدِّ
الْمَسْرُوقِ إلَى يَدِهِ قالوا فيه رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ له ذلك وفي
رِوَايَةٍ ليس له ذلك
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى على نَحْوِ ما بَيَّنَّا أَنَّ الْمَسْرُوقَ منه لم
تَكُنْ له يَدٌ صَحِيحَةٌ فَصَارَ الْأَخْذُ منه كَالْأَخْذِ من الطَّرِيقِ
سَوَاءٌ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ من الْجَائِزِ أَنْ يَخْتَارَ الْمَالِكُ
الضَّمَانَ وَيَتْرُكَ الْقَطْعَ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْتَرِدَّهُ من يَدِهِ
فَيَدْفَعُ إلَيْهِ فَيَتَخَلَّصُ عن الضَّمَانِ كمافي الْغَصْبِ وَنَحْوِهِ على
ما مَرَّ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ
ما لم يُقْطَعْ فَلَهُ ذلك
وَأَمَّا بَعْدَ الْقَطْعِ فَلَيْسَ له ذلك لِأَنَّ قبل الْقَطْعِ يُحْتَمَلُ
اخْتِيَارُ الضَّمَانِ وَبَعْدَهُ لَا
قال وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ له ذلك بَعْدَ الْقَطْعِ أَيْضًا لِأَنَّ الضَّمَانَ
إنْ لم يَجِبْ عليه في الْقَضَاءِ فَهُوَ وَاجِبٌ عليه فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ تَعَالَى فَيَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِرْدَادِ لِيَتَخَلَّصَ عن الضَّمَانِ
الْوَاجِبِ عليه فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَا
تَظْهَرُ السَّرِقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَطْعِ بِعِلْمِ الْقَاضِي سَوَاءٌ
اسْتَفَادَهُ قبل زَمَانِ الْقَضَاءِ أو في زَمَانِ الْقَضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا في
كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ السَّرِقَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
لِلسَّرِقَةِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ وَالْآخَرُ
يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ
أَمَّا الذي يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ فَالْقَطْعُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَلِمَا
رَوَيْنَا من الْأَخْبَارِ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ فَالْكَلَامُ في هذا
الْحُكْمِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ صِفَاتِ هذا الْحُكْمِ
وفي بَيَانِ مَحِلِّ إقَامَتِهِ
وفي بَيَانِ من يُقِيمُهُ
وفي بَيَانِ ما يَسْقُطُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ
وفي بَيَانِ حُكْمِ السُّقُوطِ بَعْدَ الثُّبُوتِ أو عَدَمِ الثُّبُوتِ أَصْلًا
لِمَانِعٍ من الشُّبْهَةِ
أَمَّا صِفَاتُ هذا الْحُكْمِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَبْقَى وُجُوبُ ضَمَانِ
الْمَسْرُوقِ عِنْدَنَا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَالْقَطْعُ في سَرِقَةٍ
وَاحِدَةٍ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الضَّمَانَ وَالْقَطْعَ هل يَجْتَمِعَانِ
في سَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا لَا يَجْتَمِعَانِ حتى لو هَلَكَ الْمَسْرُوقُ في
يَدِ السَّارِقِ بَعْدَ الْقَطْعِ أو قَبْلَهُ لَا ضَمَانَ عليه وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فَيُقْطَعُ وَيَضْمَنُ ما اسْتَهْلَكَهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ وُجِدَ من السَّارِقِ سَبَبُ وُجُوبِ الْقَطْعِ
وَالضَّمَانِ فَيَجِبَانِ جميعا وَإِنَّمَا قُلْنَا ذلك لِأَنَّهُ وُجِدَ منه
السَّرِقَةُ وأنها سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ وَالضَّمَانِ لِأَنَّهَا جِنَايَةُ
حَقَّيْنِ حَقُّ اللَّهِ عز وجل وَحَقُّ الْمَسْرُوقِ منه
أَمَّا الْجِنَايَةُ على حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهَتْكُ حُرْمَةِ
حِفْظِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذْ الْمَالُ حَالَ غَيْبَةِ الْمَالِكِ
مَحْفُوظٌ بِحِفْظِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَأَمَّا الْجِنَايَةُ على حَقِّ الْعَبْدِ فإتلاف ( ( ( فبإتلاف ) ) ) مَالِهِ
فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ على حَقَّيْنِ فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِضَمَانَيْنِ
فَيَجِبُ ضَمَانُ الْقَطْعِ من حَيْثُ إنَّهَا جِنَايَةٌ على حَقِّ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَضَمَانُ الْمَالِ من حَيْثُ إنَّهَا جِنَايَةٌ على حَقِّ
الْعَبْدِ كَمَنْ شَرِبَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ أَنَّهُ يَجِبُ عليه الْحَدُّ حَقًّا
لِلَّهِ تَعَالَى وَالضَّمَانُ حَقًّا لِلْعَبِيدِ
وَكَذَا قَتْلُ الْخَطَأِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى
وَالدِّيَةَ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَذَا هذا وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الْمَسْرُوقَ لو
كان قَائِمًا يَجِبُ رَدُّهُ على الْمَالِكِ فَدَلَّ أَنَّهُ بَقِيَ مَعْصُومًا
حَقًّا لِلْمَالِكِ
وَلَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ
فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا } وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ من
وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّى الْقَطْعَ
جَزَاءً وَالْجَزَاءُ يُبْنَى على الْكِفَايَةِ فَلَوْ ضَمَّ إلَيْهِ الضَّمَانُ
لم يَكُنْ الْقَطْعُ كَافِيًا فلم يَكُنْ جَزَاءً تَعَالَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عز
شَأْنُهُ عن الْخُلْفِ في الْخَبَرِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ جَعَلَ الْقَطْعَ كُلَّ الْجَزَاءِ لِأَنَّهُ عز شَأْنُهُ
ذَكَرَهُ ولم يذكر غَيْرَهُ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ لَصَارَ الْقَطْعُ
بَعْضَ الْجَزَاءِ فَيَكُونُ نَسْخًا لِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عبد الرحمن بن عَوْفٍ رضي اللَّهُ
عنه عن رسول اللَّهِ قال إذَا قُطِعَ السَّارِقُ فَلَا غُرْمَ عليه وَالْغُرْمُ في
اللُّغَةِ ما يَلْزَمُ أَدَاؤُهُ
وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا بِنَاءٌ وَالْآخَرُ
ابْتِدَاءٌ أَمَّا وَجْهُ الْبِنَاءِ فَهُوَ أَنَّ الْمَضْمُونَاتِ عِنْدَنَا
تُمْلَكُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ أو اخْتِيَارِهِ من وَقْتِ الْأَخْذِ فَلَوْ
ضَمَّنَّا السَّارِقَ
____________________
(7/84)
قِيمَةَ
الْمَسْرُوقِ أو مثله لَمَلَكَ الْمَسْرُوقَ من وَقْتِ الْأَخْذِ فَتَبَيَّنَّ
أَنَّهُ قُطِعَ في مِلْكِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ
وَأَمَّا وَجْهُ الِابْتِدَاءِ فما قَالَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وهو أَنَّ
الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِأَخْذِ مَالٍ مَعْصُومٍ ثَبَتَتْ عِصْمَتُهُ حَقًّا
لِلْمَالِكِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَضْمُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِيَكُونَ
اعْتِدَاءً بِالْمِثْلِ في ضَمَانِ الْعُدْوَانَات وَالْمَضْمُونُ حَالَةَ
السَّرِقَةِ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا حَقًّا لِلْمَالِكِ بِدَلَالَةِ
وُجُوبِ الْقَطْعِ وَلَوْ بَقِيَ مَعْصُومًا حَقًّا لِلْمَالِكِ لَمَا وَجَبَ إذْ
الثَّابِتُ حَقًّا للعبد يثبت لِلْعَبْدِ يَثْبُتُ لِدَفْعِ حَاجَتِهِ وَحَاجَةُ
السَّارِقِ كَحَاجَةِ الْمَسْرُوقِ منه فَتَتَمَكَّنُ فيه شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ
وَإِنَّهَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ وَالْقَطْعُ وَاجِبٌ فَيَنْتَفِي
الضَّمَانُ ضَرُورَةً إلَّا أَنَّهُ وَجَبَ رَدُّ الْمَسْرُوقِ حَالَ قِيَامِهِ
لِأَنَّ وُجُوبَ الرَّدِّ يَقِفُ على الْمِلْكِ على الْعِصْمَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّ من غَصَبَ خَمْرَ الْمُسْلِمِ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ
لِقِيَامِ مِلْكِهِ فيها وَلَوْ هَلَكَتْ في يَدِ الْغَاصِبِ لَا ضَمَانَ عليه
لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ فلم يَكُنْ من ضَرُورَةِ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ الثَّابِتَةِ
حَقًّا لِلْعَبْدِ زَوَالُ مِلْكِهِ عن الْمَحِلّ وَهَهُنَا الْمِلْكُ قَائِمٌ
فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ وَالْعِصْمَةُ زَائِلَةٌ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا
بِالْهَلَاكِ
وَيُخَرَّجُ على هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ إذَا اسْتَهْلَكَ السَّارِقُ والمسروق (
( ( المسروق ) ) ) بَعْدَ الْقَطْعِ لَا يَضْمَنُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى
الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَضْمَنُ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَسْرُوقَ بَعْدَ الْقَطْعِ بَقِيَ على مِلْكِ
الْمَسْرُوقِ منه
أَلَا تعرى أَنَّهُ يَجِبُ رَدُّهُ على الْمَالِكِ وَقَبْضُ السَّارِقِ ليس
بِقَبْضٍ مَضْمُونٍ فَكَانَ الْمَسْرُوقُ في يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمَانَةِ
فإذا اسْتَهْلَكَهَا ضَمِنَ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ عِصْمَةَ الْمَحِلِّ الثاتبة ( ( ( الثابتة ) )
) حَقًّا لِلْمَالِكِ قد سَقَطَتْ في حَقِّ السَّارِقِ لِضَرُورَةِ إمْكَانِ
إيجَابِ الْقَطْعِ فَلَا يَعُودُ إلَّا بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ فلم يَكُنْ
مَعْصُومًا قَبْلَهُ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا
وَلَوْ اُسْتُهْلِكَ رَجُلٌ آخَرُ يَضْمَنُهُ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ إنَّمَا
سَقَطَتْ في حَقِّ السَّارِقِ لَا في حَقِّ غَيْرِهِ فَيَضْمَنُ وَلَوْ سَقَطَ
الْقَطْعُ لِشُبْهَةٍ ضَمِنَ لِأَنَّ الْمَانِعَ من الضَّمَانِ هو الْقَطْعُ وقد
زَالَ الْمَانِعُ
وَلَوْ بَاعَ السَّارِقُ الْمَسْرُوقَ من إنْسَانٍ أو ملكت ( ( ( ملكه ) ) ) منه
بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ فَإِنْ كان قَائِمًا فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ
لِأَنَّهُ عَيْنُ مِلْكِهِ وَلِلْمَأْخُوذِ منه أَنْ يَرْجِعَ على السَّارِقِ
بِالثَّمَنِ الذي دَفَعَهُ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ لَا يُوجِبُ ضَمَانًا على
السَّارِقِ في عَيْنِ الْمَسْرُوقِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ عليه بِثَمَنِ الْمَسْرُوقِ
لَا بِقِيمَتِهِ لِيُوجِبَ ذلك مِلْكَ الْمَسْرُوقِ لِلسَّارِقِ
وَإِنْ كان هَلَكَ في يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ على السَّارِقِ وَلَا على الْقَابِضِ
هَكَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ
أَمَّا السَّارِقُ فَلِأَنَّ الْقَطْعَ يَنْفِي الضَّمَانَ
وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّهُ لو ضَمِنَهُ الْمَالِكُ لَكَانَ له أَنْ
يَرْجِعَ بِالضَّمَانِ على السَّارِقِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْمَالِكَ ضَمِنَ
السَّارِقَ وَقَطْعُهُ يَنْفِي الضَّمَانَ عنه
وَإِنْ كان اسْتَهْلَكَهُ الْقَابِضُ كان لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ
لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَهَلَكَ في يَدِهِ وَلِلْمُشْتَرِي
أَنْ يَرْجِعَ على السَّارِقِ بِالثَّمَنِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ ليس
بِتَضْمِينٍ
وَلَوْ اغْتَصَبَهُ إنْسَانٌ من السَّارِقِ فَهَلَكَ في يَدِهِ بَعْدَ الْقَطْعِ
فَلَا ضَمَانَ لِلسَّارِقِ وَلَا لِلْمَسْرُوقِ منه
أَمَّا السَّارِقُ فَلِأَنَّهُ ليس بِمَالِكٍ وَأَمَّا الْمَالِكُ فَلِأَنَّ
الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ له حَقًّا قد بَطَلَتْ
قال الْقُدُورِيُّ وكان لِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَهُ الْغَاصِبَ لِأَنَّهُ لو
ضَمِنَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على السَّارِقِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا سَرَقَ ثَوْبًا فَخَرَقَهُ في الدَّارِ خَرْقًا
فَاحِشًا ثُمَّ أَخْرَجَهُ وهو يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ
الْخَرْقَ الْفَاحِشَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ مِلْكَ
الْمَضْمُونِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْقَطْعَ وَإِنْ خَرَقَهُ عَرْضًا فَقَدْ مَرَّ
الِاخْتِلَافُ فيه
وَمِنْهَا أَنْ يَجْرِيَ فيه التَّدَاخُلُ حتى إنَّهُ لو سَرَقَ سَرِقَاتٍ
فَرَفَعَ فيها كُلِّهَا فَقُطِعَ أو رَفَعَ في بَعْضِهَا فَقُطِعَ فِيمَا رَفَعَ
فَالْقَطْعُ لِلسَّرِقَاتِ كُلِّهَا وَلَا يُقْطَعُ في شَيْءٍ منها بَعْدَ ذلك
لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحُدُودِ إذَا اجْتَمَعَتْ وإنها من جِنْسٍ وَاحِدٍ يكتفي
فيها بِحَدٍّ وَاحِدٍ كما في الزِّنَا وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من إقَامَةِ
الْحَدِّ هو الزَّجْرُ وَالرَّدْعُ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ
الْوَاحِدِ فَكَانَ في إقَامَةِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ شُبْهَةُ عَدَمِ
الْفَائِدَةِ فَلَا يُقَامُ
وَلِهَذَا يُكْتَفَى في بَابِ الزِّنَا بِالْإِقَامَةِ لِأَوَّلِ حَدٍّ
كَذَا هذا
وَلِأَنَّ مَحِلَّ الْإِقَامَةِ قد فَاتَ إذْ مَحِلُّهَا الْيَدُ الْيُمْنَى
لِأَنَّ كُلَّ سَرِقَةٍ وُجِدَتْ ما أَوْجَبَتْ إلَّا قَطْعَ الْيَدِ الْيُمْنَى
فإذا قُطِعَتْ في وَاحِدَةٍ منها فَقَدْ فَاتَ مَحِلُّ الْإِقَامَةِ وَصَارَ كما
لو ذَهَبَتْ الْيَدُ الْيُمْنَى بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ
وَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ فَلَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
في أَنَّهُ إذَا حَضَرَ أَصْحَابُ السَّرِقَاتِ وَخَاصَمُوا فيها فَقُطِعَ
بِمُخَاصَمَتِهِمْ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ على السَّارِقِ في السَّرِقَاتِ كُلِّهَا
لِأَنَّ مُخَاصَمَةَ الْمَسْرُوقِ منه بِالْقَطْعِ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ عن
الضَّمَانِ عِنْدَنَا فإذا خَاصَمُوا جميعا فَكَأَنَّهُمْ أبرؤوا ( ( ( أبرءوا ) )
)
وَأَمَّا إذَا خَاصَمَ وَاحِدٌ في سَرِقَةٍ فَقُطِعَ فَلَا ضَمَانَ على السَّارِقِ
فِيمَا خُوصِمَ بِإِجْمَاعٍ بين أَصْحَابِنَا
____________________
(7/85)
رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَمَّا فِيمَا لم يُخَاصَمْ فيه فَقَدْ اخْتَلَفُوا قال أبو
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا ضَمَانَ عليه في شَيْءٍ من السَّرِقَاتِ خَاصَمُوا
أو لم يُخَاصِمُوا
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَضْمَنُ في السَّرِقَاتِ
كُلِّهَا إلَّا فِيمَا خُوصِمَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَسْرُوقَ منه مُخَيَّرٌ بين أَنْ يَدَّعِيَ الْمَالَ
يستوفي ( ( ( ليستوفي ) ) ) حَقَّهُ وهو الضَّمَانُ وَبَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ
السَّرِقَةَ لِيَسْتَوْفِيَ حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو الْقَطْعُ
وَلَا ضَمَانَ له فَكَانَ سُقُوطُ الضَّمَانِ مَبْنِيًّا على دَعْوَى السَّرِقَةِ
وَالْخُصُومَةِ فيها فَمَنْ خَاصَمَ منهم فَقَدْ وُجِدَ منه ما يُوجِبُ سُقُوطَ
الضَّمَانِ وَمَنْ لم يُخَاصِمْ لم يُوجَدْ منه الْمُسْقِطُ فَيَبْقَى حَقُّهُ في
الضَّمَانِ كما كان
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ النَّافِيَ لِلضَّمَانِ هو الْقَطْعُ
وَالْقَطْعُ وَقَعَ لِلسَّرِقَاتِ كُلِّهَا فَيَنْفِي الضَّمَانَ في السَّرِقَاتِ
كُلِّهَا
هذا إذَا كان الْمَسْرُوقُ هَالِكًا أَمَّا إذَا كان قَائِمًا رُدَّ كُلُّ
مَسْرُوقٍ إلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ الْقَطْعَ يَنْفِي الضَّمَانَ لَا الرَّدَّ
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ حتى لو أَمَرَ الْإِمَامُ بِقَطْعِ
السَّارِقِ فَعَفَا عنه الْمَسْرُوقُ منه كان عَفْوُهُ بَاطِلًا لِأَنَّ صِحَّةَ
الْعَفْوِ يَعْتَمِدُ كَوْنَ الْمَعْفُوِّ عنه حَقًّا لِلْعَافِي وَالْقَطْعُ
خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا حَقَّ لِلْعَبْدِ فيه فَلَا
يَصِحُّ عَفْوُهُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا مَحِلُّ إقَامَةِ هذا الْحُكْمِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ
أَحَدُهُمَا في بَيَانِ أَصْلِ الْمَحِلِّ وَمُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فيه
وَالثَّانِي في بَيَانِ مَوْضِعِ إقَامَةِ الْحُكْمِ منه
أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَصْلُ الْمَحِلِّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا طَرَفَانِ فَقَطْ
وَهُمَا الْيَدُ الْيُمْنَى وَالرِّجْلُ الْيُسْرَى فنقطع ( ( ( فتقطع ) ) )
الْيَدُ الْيُمْنَى في السَّرِقَةِ الْأُولَى وَتُقْطَعُ الرِّجْلُ الْيُسْرَى في
السَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ وَلَا يُقْطَعُ بَعْدَ ذلك أَصْلًا وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُ
السَّرِقَةَ وَيُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ حتى يُحْدِثَ تَوْبَةً عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَطْرَافُ الْأَرْبَعَةُ مَحِلُّ الْقَطْعِ على
التَّرْتِيبِ فَتُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى في الْمَرَّةِ الْأُولَى وَتَقْطَعُ
الرِّجْلُ الْيُسْرَى في الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَتُقْطَعُ الْيَدُ الْيُسْرَى
في الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَتُقْطَعُ الرِّجْلُ الْيُمْنَى في السَّرِقَةِ
الرَّابِعَة
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَالْأَيْدِي اسْمُ جَمْعٍ
وَالِاثْنَانِ فما فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ على لِسَانِ رسول اللَّهِ
وقال اللَّهُ تَعَالَى { إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا }
وَأَنَّهُ لم يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ إلَّا قَلْبٌ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ
التَّرْتِيبَ في قَطْعِ الْأَيْدِي ثَبَتَ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَهَذَا لَا يُخْرِجُ
الْيَدَ الْيُسْرَى من أَنْ تَكُونَ مَحِلًّا لِلْقَطْعِ في الْجُمْلَةِ
وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه قَطَعَ سَارِقَ حُلِيِّ
أَسْمَاءَ وكان أَقْطَعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه أُتِيَ بِسَارِقٍ
فَقَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّانِيَةَ وقد سَرَقَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ
ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّالِثَةَ وقد سَرَقَ فقال لَا أَقْطَعُهُ إنْ قَطَعْت
يَدَهُ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَأْكُلُ بِأَيِّ شَيْءٍ يَتَمَسَّحُ وَإِنْ قَطَعْت
رِجْلَهُ بِأَيِّ شَيْءٍ يَمْشِي إنِّي لَأَسْتَحْيِ من اللَّهِ فَضَرَبَهُ
بِخَشَبَةٍ وَحَبَسَهُ
وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أُتِيَ بِسَارِقٍ أَقْطَعَ
الْيَدِ وَالرِّجْلِ قد سَرَقَ نِعَالًا يُقَالُ له سَدُومُ وَأَرَادَ أَنْ
يَقْطَعَهُ فقال له سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه إنَّمَا عليه قَطْعُ يَدٍ
وَرِجْلٍ
فَحَبَسَهُ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه ولم يَقْطَعْهُ
وَسَيِّدُنَا عُمَرُ وَسَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنهما لم يَزِيدَا في
الْقَطْعِ على قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى وكان ذلك
بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ
عَلَيْهِمَا مُنْكِرٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَلَنَا أَيْضًا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ
أَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَهِيَ أَنَّا أَجْمَعْنَا على أَنَّ الْيَدَ
الْيُمْنَى إذَا كانت مَقْطُوعَةً لَا يُعْدَلُ إلَى الْيَدِ الْيُسْرَى بَلْ إلَى
الرِّجْلِ الْيُسْرَى وَلَوْ كان لِلْيَدِ الْيُسْرَى مَدْخَلًا في الْقَطْعِ
لَكَانَ لَا يُعْدَلُ إلَّا إلَيْهَا لِأَنَّهَا مَنْصُوصٌ عليها وَلَا يُعْدَلُ
عن الْمَنْصُوصِ عليه إلَى غَيْرِهِ فَدَلَّ الْعُدُولُ إلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى
لَا إلَيْهَا على أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لها في الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ أَصْلًا
وَهَذَا النَّوْعُ من الِاسْتِدْلَالِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ في قَطْعِ الْيَدِ الْيُسْرَى تَفْوِيتَ
جِنْسِ مَنْفَعَةٍ من مَنَافِعِ النَّفْسِ أَصْلًا وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ
لِأَنَّهَا تَفُوتُ بِقَطْعِ الْيَدِ الْيُسْرَى بَعْدَ قَطْعِ الْيُمْنَى
فَتَصِيرُ النَّفْسُ في حَقِّ هذه الْمَنْفَعَةِ هَالِكَةً فَكَانَ قَطْعُ الْيَدِ
الْيُسْرَى إهْلَاكَ النَّفْسِ من وَجْهٍ وَكَذَا قَطْعُ الرِّجْلِ الْيُمْنَى
بَعْدَ قَطْعِ الرِّجْلِ الْيُسْرَى تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ لِأَنَّ
مَنْفَعَةَ الْمَشْيِ تَفُوتُ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَانَ قَطْعُ الرِّجْلِ
الْيُمْنَى إهْلَاكَ النَّفْسِ من كل وَجْهٍ وَإِهْلَاكُ النَّفْسِ من كل وَجْهٍ
لَا يَصْلُحُ حَدًّا في السَّرِقَةِ
كَذَا إهْلَاكُ النَّفْسِ من وَجْهٍ
لِأَنَّ الثَّابِتَ من وَجْهٍ مُلْحَقٌ بِالثَّابِتِ من كل وَجْهٍ في الْحُدُودِ
احْتِيَاطًا وَلَا حُجَّةَ له في الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ
رضي اللَّهُ عنه قَرَأَ < فَاقْطَعُوا أيدي ( ( ( أيمانهما ) ) ) لهما >
وَلَا يُظَنُّ بمثله أَنْ يَقْرَأَ ذلك من تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بَلْ سَمَاعًا من
رسول اللَّهِ فَخَرَجَتْ قِرَاءَتُهُ مَخْرَجَ التَّفْسِيرِ لِمُبْهَمِ الْكِتَابِ
الْعَزِيزِ
وَهَكَذَا رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما في قَوْلِهِ عز
وجل { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } أَنَّهُ قال
____________________
(7/86)
أَيْمَانَهُمَا
وَهَكَذَا رُوِيَ عن الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَأَمَّا حَدِيثُ لَا قَطْعَ فَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ في الْمُوَطَّأِ عن
سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت لَمَّا كان الذي سَرَقَ
حُلِيَّ أَسْمَاءَ أَقْطَعَ الْيَدِ الْيُمْنَى فَقَطَعَ سَيِّدُنَا أبو بَكْرٍ
رضي اللَّهُ عنه رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَكَانَتْ تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ أَقْطَعَ
الْيَدِ وَالرِّجْلِ ثُمَّ إنَّمَا تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى في الْكَرَّةِ
الْأُولَى إذَا كانت الْيَدُ الْيُسْرَى صَحِيحَةً يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بها
بَعْدَ قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلُ الْيُمْنَى صَحِيحَةٌ يُمْكِنُهُ
الِانْتِفَاعُ بها بَعْدَ قَطْعِ الرِّجْلِ الْيُسْرَى فَإِنْ كانت الْيَدُ
الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً أو شَلَّاءَ أو مَقْطُوعَةَ الْإِبْهَامِ أو أُصْبُعَيْنِ
سِوَى الْإِبْهَامِ لَا تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى
لِأَنَّ الْقَطْعَ في السَّرِقَةِ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا فإذا لم تَكُنْ
الْيَدُ الْيُسْرَى يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بها فَقَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى
يَقَعُ تَفْوِيتًا لِجِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ أَصْلًا
فَيَقَعُ إهْلَاكًا لِلنَّفْسِ من وَجْهٍ فَلَا تُقْطَعُ وَلَا يَقْطَعُ رِجْلَهُ
الْيُسْرَى أَيْضًا لِأَنَّهُ يَذْهَبُ أَحَدُ الشِّقَّيْنِ على الْكَمَالِ
فَيُهْلِكُ النَّفْسَ من وَجْهٍ
وَلَوْ كانت الْيَدُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةَ أُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ سِوَى
الْإِبْهَامِ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يَتَضَمَّنُ
فَوَاتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ
وَكَذَا إنْ كانت الرِّجْلُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةً أو شَلَّاءَ أو بها عَرَجٌ
يَمْنَعُ الْمَشْيَ عليها لَا تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى لِمَا فيه من فَوَاتِ
الشِّقِّ وَلَا رِجْلُهُ الْيُسْرَى وَإِنْ كانت صَحِيحَةً لِأَنَّهُ يَبْقَى
بِلَا رِجْلَيْنِ فَيَفُوتُ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ
وَلَوْ كانت رِجْلُهُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةَ الْأَصَابِعِ كُلِّهَا فَإِنْ كان
يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ وَالْمَشْيَ عليها تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى لِأَنَّ
الْجِنْسَ لَا يَفُوتُ
وَإِنْ كان لَا يَسْتَطِيعُ لَا يُقْطَعُ لِفَوَاتِ الشِّقِّ
وَلَوْ كانت يَدَاهُ صَحِيحَتَيْنِ وَلَكِنَّ رِجْلَهُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةٌ أو
شَلَّاءُ أو مَقْطُوعَةُ الْإِبْهَامِ أو الْأَصَابِعِ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى
لِأَنَّ جِنْسَ الْمَنْفَعَةِ لَا يَفُوتُ وَلَا فيه فَوَاتُ الشِّقِّ أَيْضًا
وَلَوْ سَرَقَ وَيُمْنَاهُ شَلَّاءُ أو مَقْطُوعَةُ الْإِبْهَامِ أو الْأَصَابِعِ
لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } أَيْ
أَيْمَانَهُمَا من غَيْرِ فَصْلٍ بين يَمِينٍ وَيَمِينٍ وَلِأَنَّهَا لو كانت
سَلِيمَةً تُقْطَعُ فَالنَّاقِصَةُ الْمَعِيبَةُ أَوْلَى بِالْقَطْعِ ثُمَّ
فَرَّقَ بين الْقَطْعِ في السَّرِقَةِ وَبَيْنَ الْإِعْتَاقِ في الْكَفَّارَةِ
حَيْثُ جَعَلَ فَوَاتَ أصبعين سِوَى الْإِبْهَامِ من الْيَدِ الْيُسْرَى
نُقْصَانًا مَانِعًا من قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى ولم يُجْعَلْ فَوَاتُ أصبعين
نُقْصَانًا مَانِعًا من جَوَازِ الْإِعْتَاقِ ما لم يَكُنْ ثَلَاثًا
وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْقَطْعَ حَدٌّ فَهَذَا الْقَدْرُ من النُّقْصَانِ
يُورِثُ شُبْهَةً بِخِلَافِ الْعِتْقِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ قال الْحَاكِمُ لِلْحَدَّادِ اقْطَعْ يَدَ السَّارِقِ فَقَطَعَ الْيَدَ
الْيُسْرَى فَهَذَا على وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ قال اقْطَعْ يَدَهُ مُطْلَقًا
وَإِمَّا أَنْ قَيَّدَهُ فقال اقْطَعْ يَدَهُ الْيُمْنَى فَإِنْ أَطْلَقَ فقال له
اقْطَعْ يَدَهُ فَقَطَعَ الْيُسْرَى لَا ضَمَانَ عليه لِلْحَالِ لِأَنَّهُ فَعَلَ
ما أُمِرَ بِهِ حَيْثُ أَمَرَهُ بِقَطْعِ الْيَدِ وقد قَطَعَ الْيَدَ وَإِنْ
قَيَّدَ فقال اقْطَعْ يَدَهُ الْيُمْنَى فَقَطَعَ الْيُسْرَى فَإِنْ أَخْرَجَ
السَّارِقُ يَدَهُ وقال هذا هو يَمِينِي فَلَا ضَمَانَ عليه أَيْضًا لِأَنَّهُ
قَطَعَ بِأَمْرِهِ فَلَا يَضْمَنُ كَمَنْ قال لِآخَرَ اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهُ
لَا ضَمَانَ عليه كَذَا هذا وَإِنْ لم يُخْرِجْ السَّارِقُ يَدَهُ ولم يَقُلْ ذلك
وَلَكِنَّهُ قَطَعَ الْيُسْرَى خَطَأً لَا ضَمَانَ عليه عِنْدَ أَصْحَابِنَا رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ وَعِنْدَ زُفَرَ رضي اللَّهُ عنه يَضْمَنُ لِأَنَّ الْخَطَأَ في
حُقُوقِ الْعِبَادِ ليس بِعُذْرٍ
وَلَنَا أَنَّ هذا خَطَأٌ في الِاجْتِهَادِ لِأَنَّهُ أَقَامَ الْيَسَارَ مَقَامَ
الْيَمِينِ بِاجْتِهَادِهِ مُتَمَسِّكًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْيَمِينِ
وَالْيَسَارِ فَكَانَ هذا خَطَأً من الْمُجْتَهِدِ في الِاجْتِهَادِ وَأَنَّهُ
مَوْضُوعٌ
وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ في هذا الْخَطَأِ لَا فِيمَا إذَا أَخْطَأَ فَظَنَّ
الْيَسَارَ يَمِينًا مع اعْتِقَادِ وُجُوبِ قَطْعِ الْيَمِينِ ما مع أَنَّ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَضْمَنُ هُنَاكَ أَيْضًا على ما نُبَيِّنُ
وَإِنْ قَطَعَ الْيُسْرَى عَمْدًا لَا ضَمَانَ عليه أَيْضًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ
لَهُمَا أَنَّهُ تَعَمَّدَ الظُّلْمَ بِإِقَامَةِ الْيَسَارِ مَقَامَ الْيَمِينِ
فلم يَكُنْ مَعْذُورًا فَيَضْمَنُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ أَتْلَفَ وَأَخْلَفَ خَيْرًا مِمَّا
أَتْلَفَ فَلَا يَضْمَنُ كَرَجُلَيْنِ شَهِدَا على رَجُلٍ بِبَيْعِ عَبْدٍ
قِيمَتُهُ أَلْفٌ بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُمَا لَا يَضْمَنَانِ لِمَا
قُلْنَا
كَذَا هذا
وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ أَخْلَفَ خَيْرًا مِمَّا أَتْلَفَ لِأَنَّهُ لَمَّا
قَطَعَ الْيُسْرَى فَقَدْ سَلِمَتْ له الْيُمْنَى لِأَنَّهَا لَا تُقْطَعُ بَعْدَ
ذلك لِأَنَّهُ لَا يُؤْتَى على أَطْرَافِهِ الْأَرْبَعَةِ وَالْيُمْنَى خَيْرٌ من
الْيُسْرَى
ثُمَّ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ هل يَكُونُ هذا الْقَطْعُ وهو قَطْعُ
الْيُسْرَى قَطْعًا من السَّرِقَةِ حتى إذَا هَلَكَ الْمَالُ في يَدِ السَّارِقِ
أو اسْتَهْلَكَهُ لَا يضمنه ( ( ( يضمن ) ) )
أو لَا يَكُونُ من السَّرِقَةِ حتى يَضْمَنَ
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ يَكُونُ وقال بَعْضُهُمْ لَا يَكُونُ
هذا كُلُّهُ إذَا قَطَعَ الْحَدَّادُ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ
فَأَمَّا الْأَجْنَبِيُّ إذَا قَطَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى فَإِنْ كان خَطَأً تَجِبُ
الدِّيَةُ وَإِنْ كان عَمْدًا يَجِبُ الْقِصَاصُ وَسَقَطَ عنه الْقَطْعُ في
الْيَمِينِ لِأَنَّهُ لو قَطَعَ يُؤَدِّي إلَى إهْلَاكِ النَّفْسِ من وَجْهٍ على
ما بَيَّنَّا
____________________
(7/87)
وَيُرَدُّ
عليه الْمَسْرُوقُ إنْ كان قَائِمًا وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ في الْهَلَاكِ لِأَنَّ
الْمَانِعَ من الضَّمَانِ هو الْقَطْعُ وقد سَقَطَ
وَلَوْ وَجَبَ عليه قَطْعُ الْيَدِ الْيَمِينِ في السَّرِقَةِ فلم تُقْطَعْ حتى
قَطَعَ قَاطِعٌ يَمِينَهُ فَهَذَا على وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ قبل
الْخُصُومَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا فَإِنْ كان قبل الْخُصُومَةِ
فَعَلَى قَاطِعِهِ الْقِصَاصُ إنْ كان عَمْدًا وَالْأَرْشُ إنْ كان خَطَأً
وَتُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى في السَّرِقَةِ كَأَنَّهُ سَرَقَ وَلَا يَمِينَ له
وَإِنْ كان بَعْدَ الْخُصُومَةِ فَإِنْ كان قبل الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ
إلَّا أَنَّا هَهُنَا لَا نَقْطَعُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى لِأَنَّهُ لَمَّا خُوصِمَ
كان الْوَاجِبُ في الْيَمِينِ وقد فَاتَتْ فَسَقَطَ الْوَاجِبُ كما لو ذَهَبَ
بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ
وَإِنْ كان بَعْدَ الْقَضَاءِ فَلَا ضَمَانَ على الْقَاطِعِ لِأَنَّهُ احْتَسَبَ
لِإِقَامَةِ حَدِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَكَانَ قَطْعُهُ عن
السَّرِقَةِ حتى لَا يَجِبُ الضَّمَانُ على السَّارِقِ فِيمَا هَلَكَ من مَالِ
السَّرِقَةِ في يَدِهِ أو اُسْتُهْلِكَ
وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الذي يُقْطَعُ من الْيَدِ الْيُمْنَى فَهُوَ مَفْصِلُ
الزَّنْدِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال بَعْضُهُمْ تُقْطَعُ الْأَصَابِعُ وقال الْخَوَارِجُ تُقْطَعُ من الْمَنْكِبِ
لِظَاهِرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا }
وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ
أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ من مَفْصِلِ الزَّنْدِ
فَكَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِلْمُرَادِ من الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ كَأَنَّهُ نَصَّ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فقال فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا من مَفْصِلِ الزَّنْدِ
وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْأُمَّةُ من لَدُنْ رسول اللَّهِ إلَى يَوْمِنَا هذا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ من يُقِيمُ هذا الْحُكْمُ فَاَلَّذِي يُقِيمُهُ الْإِمَامُ أو من
وَلَّاهُ لِأَنَّ هذا حَدٌّ والمتولى لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ الْأَئِمَّةُ أو من
وَلَّوْهُمْ من الْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ
وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَوْلَى يَمْلِكُ
إقَامَةَ الْحَدِّ على مَمْلُوكِهِ
وَالْكَلَامُ في هذا الْفَصْلِ اسْتَوْفَيْنَاهُ في كِتَابِ الْحُدُودِ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسْقِطُ الْحَدَّ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَنَقُولُ ما يُسْقِطُهُ
بَعْدَ وُجُوبِهِ أَنْوَاعٌ منها تَكْذِيبُ الْمَسْرُوقِ منه السَّارِقَ في
إقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ بِأَنْ يَقُولَ له لم تَسْرِقْ مِنِّي
وَمِنْهَا تَكْذِيبُهُ الْبَيِّنَةَ بِأَنْ يَقُولَ شَهِدَ شُهُودِي بِزُورٍ
لِأَنَّهُ إذَا كَذَبَ فَقَدْ بَطَلَ الْإِقْرَارُ وَالشَّهَادَةُ فَسَقَطَ الْقَطْعُ
وَمِنْهَا رُجُوعُ السَّارِقِ عن الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ فَلَا يُقْطَعُ
وَيَضْمَنُ الْمَالَ لِأَنَّ الرُّجُوعَ يُقْبَلُ في الْحُدُودِ وَلَا يُقْبَلُ في
الْمَالِ لِأَنَّهُ يُورِثُ شُبْهَةً في الْإِقْرَارِ وَالْحَدُّ يَسْقُطُ
بِالشُّبْهَةِ وَلَا يُسْقِطُ الْمَالَ
رَجُلَانِ أَقَرَّا بِسَرِقَةِ ثَوْبٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ ثُمَّ قال
أَحَدُهُمَا الثَّوْبُ ثَوْبُنَا لم نَسْرِقْهُ أو قال هذا لي درىء ( ( ( درئ ) )
) الْقَطْعُ عنهما لِأَنَّهُمَا لَمَّا أَقَرَّا بِالسَّرِقَةِ فَقَدْ ثَبَتَتْ
الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا في السَّرِقَةِ ثُمَّ لَمَّا أَنْكَرَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ
رَجَعَ عن إقْرَارِهِ فَبَطَلَ الْحَدُّ عنه بِرُجُوعِهِ فَيُورِثُ شُبْهَةً في
حَقِّ الشَّرِيكِ لِاتِّحَادِ السَّرِقَةِ
وَلَوْ قال أَحَدُهُمَا سَرَقْنَا هذا الثَّوْبَ من فُلَانٍ فَكَذَّبَهُ الْآخَرُ
وقال كَذَبْت لم نَسْرِقْهُ قُطِعَ الْمُقِرُّ وَحْدَهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ لَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَهُمَا على
الشَّرِكَةِ فإذا لم تَثْبُتْ في حَقِّ شَرِيكِهِ بِإِنْكَارِهِ يُؤَثِّرُ ذلك في
حَقِّ صَاحِبِهِ ضَرُورَةَ اتِّحَادِ السَّرِقَةِ
وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ فَأَنْكَرَتْ أنه
يُحَدُّ الرَّجُلُ على أَصْلِهِ لِأَنَّ إنْكَارَ الْمَرْأَةِ لَا يُؤَثِّرُ في
إقْرَارِ الرَّجُلِ إذْ ليس من ضَرُورَةِ عَدَمِ الزِّنَا من جَانِبِهَا عَدَمُهُ
من جَانِبِهِ كما لو زنا بِصَبِيَّةٍ أو مَجْنُونَةٍ
بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ لِأَنَّ ذلك وُجِدَ من أَحَدِهِمَا على
وَجْهِ الشَّرِكَةِ فَعَدَمُ السَّرِقَةِ من أَحَدِهِمَا يُؤَثِّرُ في حَقِّ
الْآخَرِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالشَّرِكَةِ في السَّرِقَةِ
إقْرَارٌ بِوُجُودِ السَّرِقَةِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا
أَنْكَرَ صَاحِبُهُ السَّرِقَةَ لم يَثْبُتْ منه فِعْلُ السَّرِقَةِ وَعَدَمُ
الْفِعْلِ منه لَا يُؤَثِّرُ في وُجُودِ الْفِعْلِ من صَاحِبِهِ فَبَقِيَ إقْرَارُ
صَاحِبِهِ على نَفْسِهِ بِالسَّرِقَةِ فَيُؤْخَذُ بِهِ بِخِلَافِ إقْرَارِ
الرَّجُلِ على نَفْسِهِ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ وَهِيَ تَجْحَدُ أنه لَا يَجِبُ
الْحَدُّ على الرَّجُلِ على أَصْلِهِ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَقُومُ إلَّا
بِالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فإذا أَنْكَرَتْ لم يَثْبُتْ منها فَلَا يُتَصَوَّرُ
الْوُجُودُ من الرَّجُلِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ على ما بَيَّنَّا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا رَدُّ السَّارِقِ الْمَسْرُوقَ إلَى الْمَالِكِ قبل الْمُرَافَعَةِ
عِنْدَهُمَا وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي يُوسُفَ
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ الرَّدَّ بَعْدَ
الْمُرَافَعَةِ لَا يُسْقِطُ الْحَدَّ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّ السَّرِقَةَ حين وُجُودِهَا انْعَقَدَتْ
مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ فَرَدُّ الْمَسْرُوقِ بَعْدَ ذلك لَا يُخِلُّ بِالسَّرِقَةِ
الْمَوْجُودَةِ فَلَا يَسْقُطُ الْقَطْعُ الْوَاجِبُ كما لو رَدَّهُ بَعْدَ
الْمُرَافَعَةِ
وَلَهُمَا أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ
لِلْقَطْعِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَمَّا رُدَّ الْمَسْرُوقُ على
الْمَالِكِ فَقَدْ بَطَلَتْ الْخُصُومَةُ بِخِلَافِ ما بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ
لِأَنَّ الشَّرْطَ وُجُودُ الْخُصُومَةِ لَا بَقَاؤُهَا وقد وُجِدَتْ
وَمِنْهَا مِلْكُ السَّارِقِ الْمَسْرُوقَ قبل الْقَضَاءِ نَحْوُ ما إذَا وَهَبَ
الْمَسْرُوقُ منه
____________________
(7/88)
الْمَسْرُوقَ
من السَّارِقِ قبل الْقَضَاءِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا إن وَهَبَهُ منه قبل
الْقَضَاءِ وَإِمَّا إن وَهَبَهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ قبل الْإِمْضَاءِ فَإِنْ
وَهَبَهُ قبل الْقَضَاءِ يَسْقُطُ الْقَطْعُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ وَهَبَهُ بَعْدَ
الْقَضَاءِ قبل الْإِمْضَاءِ يَسْقُطُ عِنْدَهُمَا وقال أبو يُوسُفَ لَا يَسْقُطُ
وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
احْتَجَّ أبو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ أُخِذَ
فَأُتِيَ بِهِ إلَى رسول اللَّهِ فَأَمَرَ رسول اللَّهِ أَنْ يُقْطَعَ يَدُهُ فقال
صَفْوَانُ يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لم أُرِدْ هذا هو عليه صَدَقَةٌ فقال عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهَلَّا قبل أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ فَدَلَّ أَنَّ
الْهِبَةَ قبل الْقَضَاءِ تُسْقِطُ وَبَعْدَهُ لَا تُسْقِطُ وَلِأَنَّ وُجُوبَ
الْقَطْعِ حُكْمٌ مُعَلَّقٌ بِوُجُودِ السَّرِقَةِ وقد تَمَّتْ السَّرِقَةُ
وَوَقَعَتْ مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَطَرَيَانُ
الْمِلْكِ بَعْدَ ذلك لَا يُوجِبُ خَلَلًا في السَّرِقَةِ الْمَوْجُودَةِ فَبَقِيَ
الْقَطْعُ وَاجِبًا كما كان كما لو رُدَّ الْمَسْرُوقُ على الْمَالِكِ بَعْدَ
الْقَضَاءِ بِخِلَافِ ما قبل الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطُ ظُهُورِ
السَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ عِنْدَ الْقَاضِي وقد بَطَلَ حَقُّ
الْخُصُومَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ في الْهِبَةِ
وَالْمِلْكُ في الْهِبَةِ يَثْبُتُ من وَقْتِ الْقَبْضِ فَيَظْهَرُ الْمِلْكُ له
من ذلك الْوَقْتِ من كل وَجْهٍ أو من وَجْهٍ وَكَوْنُ الْمَسْرُوقِ مِلْكًا
لِلسَّارِقِ على الْحَقِيقَةِ أو الشُّبْهَةِ يَمْنَعُ من الْقَطْعِ وَلِهَذَا لم
يُقْطَعْ قبل الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ في بَابِ
الْحُدُودِ إمْضَاؤُهَا فما لم يَمْضِ فَكَأَنَّهُ لم يُقْضَ وَلَوْ كان لم يُقْضَ
أَلَيْسَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فَكَذَا إذَا لم يَمْضِ وَلِأَنَّ الطارىء في بَابِ
الْحُدُودِ مُلْحَقٌ بِالْمُقَارَنِ إذَا كان في الْإِلْحَاقِ إسْقَاطُ الْحَدِّ
وَهَهُنَا فيه إسْقَاطُ الْحَدِّ فَيَلْحَقُ بِهِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ له فيه لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ قَوْلُهُ هو عليه
صَدَقَةٌ وَقَوْلُهُ هو يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَسْرُوقَ
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقَطْعَ وَهِبَةُ الْقَطْعِ لَا تُسْقِطُ
الْحَدَّ يَدُلُّ عليه أَنَّهُ رُوِيَ في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قال
وَهَبْت الْقَطْعَ وَكَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَصَدَّقَ عليه بِالْمَسْرُوقِ أو
وَهَبَهُ منه وَلَكِنَّهُ لم يَقْبِضْهُ وَالْقَطْعُ إنَّمَا يَسْقُطُ بِالْهِبَةِ
مع الْقَبْضِ
وَعَلَى هذا إذَا بَاعَ الْمَسْرُوقُ من السَّارِقِ قبل الْقَضَاءِ أو بَعْدَهُ
على الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ وَلَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا
لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ لِأَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِالنِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ
الِاسْتِنَادَ إلَى وَقْتِ الْوَطْءِ فَلَا تَثْبُتُ الشُّبْهَةُ في الزِّنَا
فَيُحَدُّ
وَأَمَّا حُكْمُ السُّقُوطِ بَعْدَ الثُّبُوتِ لِمَانِعٍ وهو الشُّبْهَةُ
وَغَيْرُهَا فَدُخُولُ الْمَسْرُوقِ في ضَمَانِ السَّارِقِ حتى لو هَلَكَ في
يَدِهِ بِنَفْسِهِ أو اسْتَهْلَكَهُ السَّارِقُ يَضْمَنُ لِأَنَّ الْمَانِعَ من
الضَّمَانِ هو الْقَطْعُ فإذا سَقَطَ الْقَطْعُ زَالَ الْمَانِعُ فَيَضْمَنُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَالثَّانِي وُجُوبُ رَدِّ عَيْنِ الْمَسْرُوقِ على صَاحِبِهِ إذَا كان قَائِمًا
بِعَيْنِهِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمَسْرُوقَ في يَدِ السَّارِقِ لَا
يَخْلُو إمَّا إن كان على حَالِهِ لم يَتَغَيَّرْ وَإِمَّا إن أَحْدَثَ السَّارِقُ
فيه حَدَثًا فَإِنْ كان على حَالِهِ رَدَّهُ على الْمَالِكِ لِمَا رُوِيَ عن النبي
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال على الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تَرُدَّهُ
وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال من وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ
فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَدَّ رِدَاءَ
صَفْوَانَ رضي اللَّهُ عنه عليه وَقَطَعَ السَّارِقَ فيه
وَكَذَلِكَ إنْ كان السَّارِقُ قد مَلَّكَ الْمَسْرُوقَ رَجُلًا بِبَيْعٍ أو
هِبَةٍ أو صَدَقَةٍ أو تَزَوَّجَ امْرَأَةً عليه أو كان السَّارِقُ امْرَأَتَهُ
فَاخْتَلَعَتْ من نَفْسِهَا بِهِ وهو قَائِمٌ في يَدِ الْمَالِكِ فَلِصَاحِبِهِ
أَنْ يَأْخُذَهُ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ إذْ السَّرِقَةُ لَا تُوجِبُ زَوَالَ
الْمِلْكِ عن الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ فَكَانَ تَمْلِيكُ السَّارِقِ بَاطِلًا
وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي على السَّارِقِ بِالثَّمَنِ الذي اشْتَرَاهُ بِهِ لِمَا
مَرَّ فَإِنْ كان قد هَلَكَ في يَدَيْ الْقَابِضِ وكان الْبَيْعُ قبل الْقَطْعِ أو
بَعْدَهُ فَلَا ضَمَانَ لَا على السَّارِقِ وَلَا على الْقَابِضِ لِمَا بَيَّنَّا
فِيمَا تَقَدَّمَ
وَإِنْ أَحْدَثَ السَّارِقُ فيه حَدَثًا لَا يَخْلُو إمَّا إن أَحْدَثَ حَدَثًا
أَوْجَبَ النُّقْصَانَ وَإِمَّا إنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْجَبَ الزِّيَادَةَ
فَإِنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْجَبَ النُّقْصَانَ يُقْطَعْ وَتُسْتَرَدَّ الْعَيْنُ
على الْمَالِكِ وَلَيْسَ عليه ضَمَانُ النُّقْصَانِ لِأَنَّ نُقْصَانَ
الْمَسْرُوقِ هَلَاكُ بَعْضِهِ
وَلَوْ هَلَكَ كُلُّهُ يُقْطَعُ وَلَا ضَمَانَ عليه كَذَا إذَا هَلَكَ الْبَعْضُ
وَيَرُدُّ الْعَيْنَ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ
لَا يَمْنَعُ رَدَّ الْكُلِّ فَكَذَا الْبَعْضِ
وَإِنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْجَبَ الزِّيَادَةَ فَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ
السَّارِقَ إذَا أَحْدَثَ في الْمَسْرُوقِ حَدَثًا لو أَحْدَثَهُ الْغَاصِبُ في
الْمَغْصُوبِ لَا يُقْطَعُ حَقُّ الْمَالِكِ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَسْرُوقِ منه
وَإِلَّا فَلَا إلَّا أَنَّ في بَابِ الْغَصْبِ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ لِلْمَالِكِ
مِثْلَ الْمَغْصُوبِ أو قِيمَتَهُ وَهَهُنَا لَا يَضْمَنُ السَّارِقُ لِمَانِعٍ
وهو الْقَطْعُ
إذَا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ السَّارِقُ إذَا قَطَعَ الثَّوْبَ الْمَسْرُوقَ
وَخَاطَهُ قَمِيصًا انْقَطَعَ حَقُّ الْمَالِكِ لِأَنَّهُ لو فَعَلَهُ الْغَاصِبُ
لَانْقَطَعَ حَقُّ الْمَغْصُوبِ منه
كَذَا إذَا فَعَلَهُ السَّارِقُ وَلَا
____________________
(7/89)
ضَمَانَ
على السَّارِقِ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ صَبَغَهُ أَحْمَرَ أو أَصْفَرَ فَكَذَلِكَ
لَا سَبِيلَ لِلْمَالِكِ على الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ
وفي قَوْلِهِمَا يَأْخُذُ الْمَالِكُ الثَّوْبَ وَيُعْطِيهِ ما زَادَ الصَّبْغُ
فيه
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لو وُجِدَ هذا من الْغَاصِبِ لَخُيِّرَ الْمَالِكُ بين
أَنْ يَضْمَنَ الْغَاصِبُ قِيمَةَ الثَّوْبِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ
وَيُعْطِيَهُ ما زَادَ الصَّبْغُ فيه إلَّا أَنَّ التَّضْمِينَ هَهُنَا
مُتَعَذَّرٌ لِضَرُورَةِ الْقَطْعِ فَتَعَيَّنَ الْوَجْهُ الْآخَرُ وهو أَنْ
يَأْخُذَ الثَّوْبَ وَيُعْطِيَهُ ما زَادَ الصَّبْغُ فيه إذْ الْغَصْبُ
وَالسَّرِقَةُ لَا يَخْتَلِفَانِ في هذا الْبَابِ إلَّا في الضَّمَانِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بين الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ هَهُنَا وهو أَنَّ
حَقَّ الْمَغْصُوبِ منه إنَّمَا لم يَنْقَطِعْ عن الثَّوْبِ بِالصَّبْغِ لِأَنَّ
أَصْلَ الثَّوْبِ مِلْكُهُ وهو مُتَقَوِّمٌ وَلِلْغَاصِبِ فيه حَقٌّ مُتَقَوِّمٌ
أَيْضًا إلَّا أَنَّا أَثْبَتْنَا الْخِيَارَ لِلْمَالِكِ لَا لِلْغَاصِبِ لِأَنَّ
الْمَالِكَ صَاحِبُ أَصْلٍ وَالْغَاصِبَ صَاحِبُ وَصْفٍ وَهَهُنَا حَقُّ
السَّارِقِ في الصَّبْغِ مُتَقَوِّمٌ وَحَقُّ الْمَالِكِ في أَصْلِ الثَّوْبِ ليس
بِمُتَقَوِّمٍ في حَقِّ السَّارِقِ لِأَجْلِ الْقَطْعِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو أَتْلَفَهُ السَّارِقُ لَا ضَمَانَ عليه فَاعْتُبِرَ حَقُّ
السَّارِقِ وَجُعِلَ حَقُّ الْمَالِكِ في الْأَصْلِ تَبَعًا لَحَقِّهِ في الْوَصْفِ
وَتَعَذَّرَ تَضْمِينُهُ لِضَرُورَةِ الْقَطْعِ فَيَكُونُ له مَجَّانًا وَلَكِنْ
لَا يَحِلُّ له أَنْ يَنْتَفِعَ بهذا الثَّوْبِ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ
كَذَا قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الثَّوْبَ على مِلْكِ
الْمَسْرُوقِ منه إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ رَدُّهُ وَتَضْمِينُهُ في الْحُكْمِ
وَالْقَضَاءِ فما لم يَمْلِكْهُ السَّارِقُ لَا يَحِلُّ له الِانْتِفَاعُ بِهِ
لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِوَجْهٍ مَحْظُورٍ من غَيْرِ بَدَلٍ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ
الضَّمَانِ فَلَا يُبَاحُ له الِانْتِفَاعُ بِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مَالُ
إنْسَانٍ في يَدِ غَيْرِهِ على وَجْهٍ يَخْرُجُ من أَنْ يَكُونَ وَاجِبُ الرَّدِّ
وَالضَّمَانُ إلَيْهِ من طَرِيقِ الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ لَكِنْ لَا يَحِلُّ له
الِانْتِفَاعُ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
كَالْمُسْلِمِ إذَا دخل دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَأَخَذَ شيئا من أَمْوَالِهِمْ
لَا يُحْكَمُ عليه بِالرَّدِّ وَيَلْزَمُهُ ذلك فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
جَلَّ جَلَالُهُ
وَكَذَلِكَ الْبَاغِي إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْعَادِلِ ثُمَّ تَابَ لَا يُحْكَمُ
عليه بِالضَّمَانِ وَيُفْتَى بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ إذَا أَتْلَفَ شيئا من مَالِنَا ثُمَّ
أَسْلَمَ لَا يُحْكَمُ عليه بِالرَّدِّ وَيُفْتَى بِذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ اللَّهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ وَكَذَلِكَ السَّارِقُ إذَا اسْتَهْلَكَ
الْمَسْرُوقَ لَا يُقْضَى عليه بِالضَّمَانِ وَلَكِنْ يُفْتَى بِهِ فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَا قَاطِعُ الطَّرِيقِ إذَا قَتَلَ
إنْسَانًا بِعَصًا ثُمَّ جاء تَائِبًا بَطَلَ عنه الْحَدُّ وَيُؤْمَرُ بِأَدَاءِ
الدِّيَةِ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ
وَلَوْ قَتَلَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا بِعَصًا ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يُفْتَى بِدَفْعِ
الدِّيَةِ إلَى الْوَلِيِّ بِخِلَافِ الْبَاغِي وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَالْفَرْقُ
أَنَّ الْقَتْلَ من الْحَرْبِيِّ لم يَقَعْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لِأَنَّ
عِصْمَةَ الْمَقْتُولِ لم تَظْهَرْ في حَقِّهِ فَلَا يُجَبُّ بِالْإِسْلَامِ
لِأَنَّهُ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ وقال اللَّهُ تَعَالَى { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لهم ما قد سَلَفَ } بِخِلَافِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ لِأَنَّ
فِعْلَهُ وَقَعَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ
بِالضَّمَانِ لِمَانِعٍ وهو ضَرُورَةُ إقَامَةِ الْحَدِّ إلَّا أَنَّ الْحَدَّ
إذَا لم يَجِبْ لِشُبْهَةٍ يُحْكَمُ بِالضَّمَانِ فَيَظْهَرُ أَثَرُ الْمَانِعِ في
الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ لَا في الْفَتْوَى وَكَذَا فِعْلُ الْبَاغِي وَقَعَ
سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لَكِنْ لم يُحْكَمْ بِالْوُجُوبِ لِمَانِعٍ وهو
عَدَمُ الْفَائِدَةِ لِقِيَامِ الْمَنَعَةِ وَهَذَا الْمَانِعُ يَخُصُّ الْحُكْمَ
وَالْقَضَاءَ فَكَانَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
فَيُقْضَى بِهِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا سَرَقَ نَقْرَةَ فِضَّةٍ فَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ
أَنَّهُ يُقْطَعُ وَالدَّرَاهِمُ تُرَدُّ على صَاحِبِهَا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ عن الدَّرَاهِمِ بِنَاءً على أَنَّ هذا
الصُّنْعَ لَا يَقْطَعُ حَقَّ الْمَالِكِ في بَابِ الْغَصْبِ عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا يَنْقَطِعُ وَلَوْ سَرَقَ حَدِيدًا أو صُفْرًا أو نُحَاسًا أو ما
أَشْبَهَ ذلك فَضَرَبَهَا أَوَانِيَ يُنْظَرُ إنْ كان بَعْدَ الصِّنَاعَةِ
وَالضَّرْبِ تُبَاعُ وَزْنًا فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا وَإِنْ كان
تُبَاعُ عَدَدًا فَيُقْطَعُ حَقُّ الْمَالِكِ بِالْإِجْمَاعِ كما في الْغَصْبِ
وَعَلَى هذا إذَا سَرَقَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا وَغَيْرَ ذلك من هذا الْجِنْسِ
وَسَنَذْكُرُ جُمْلَةَ ذلك في كِتَابِ الْغَصْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَاَللَّهُ أَعْلَم بِالصَّوَابِ
كِتَابُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ على نَحْوِ الْكَلَامِ
في كِتَابِ السَّرِقَةِ وَذَلِكَ في أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِ
قَطْعِ الطَّرِيقِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ ما يَظْهَرُ بِهِ
قَطْعُ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْقَاضِي وفي بَيَانِ حُكْمِ قَطْعِ الطَّرِيقِ
فَصْلٌ أَمَّا رُكْنَهُ فَهُوَ الْخُرُوجُ على الْمَارَّةِ لِأَخْذِ الْمَالِ على
سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ على وَجْهٍ يَمْتَنِعُ الْمَارَّةُ عن الْمُرُورِ
وَيَنْقَطِعُ الطَّرِيقُ سَوَاءٌ كان الْقَطْعُ من جَمَاعَةٍ أو من وَاحِدٍ بَعْدَ
أَنْ يَكُونَ له قُوَّةُ الْقَطْعِ وَسَوَاءٌ كان الْقَطْعُ بِسِلَاحٍ أو غَيْرِهِ
من الْعَصَا
____________________
(7/90)
وَالْحَجَرِ
وَالْخَشَبِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ انْقِطَاعَ الطَّرِيقِ يَحْصُلُ بِكُلٍّ من ذلك
وَسَوَاءٌ كان بِمُبَاشَرَةِ الْكُلِّ أو التَّسْبِيبِ من الْبَعْضِ
بِالْإِعَانَةِ وَالْأَخْذِ لِأَنَّ الْقَطْعَ يَحْصُلُ بِالْكُلِّ كما في
السَّرِقَةِ وَلِأَنَّ هذا من عَادَةِ الْقُطَّاعِ أَعْنِي الْمُبَاشَرَةَ من
الْبَعْضِ وَالْإِعَانَةَ من الْبَعْضِ بِالتَّسْمِيرِ لِلدَّفْعِ فَلَوْ لم
يَلْحَقْ التَّسَبُّبُ بِالْمُبَاشَرَةِ في سَبَبِ وُجُوبِ الْحَدِّ لَأَدَّى ذلك
إلَى انْفِتَاحِ بَابِ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَانْسِدَادِ حُكْمِهِ وَأَنَّهُ قَبِيحٌ
وَلِهَذَا أُلْحِقَ التَّسَبُّبُ بِالْمُبَاشَرَةِ في السَّرِقَةِ
كَذَا هَهُنَا
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاطِعِ
خَاصَّةً وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ عليه خَاصَّةً وَبَعْضُهَا
يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جميعا وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ له وَبَعْضُهَا
يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ فيه
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى القاضع ( ( ( القاطع ) ) ) خَاصَّةً فَأَنْوَاعٌ منها
أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَالِغًا فَإِنْ كان صَبِيًّا أو
مَجْنُونًا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ فَيَسْتَدْعِي
جِنَايَةً وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً
وَلِهَذَا لم يَتَعَلَّقْ بِهِ الْقَطْعُ في السَّرِقَةِ
كَذَا هذا
وَلَوْ كان في الْقُطَّاعِ صَبِيٌّ أو مَجْنُونٌ فَلَا حَدَّ على أَحَدٍ في
قَوْلِهِمَا
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كان الصَّبِيُّ هو الذي يَلِي الْقَطْعَ
فَكَذَلِكَ وَإِنْ كان غَيْرُهُ حد حَدَّ الْعُقَلَاءَ الْبَالِغِينَ
وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ السَّرِقَةِ
وَمِنْهَا الذُّكُورَةُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حتى لو كانت في الْقُطَّاعِ
امْرَأَةٌ فَوُلِّيَتْ الْقِتَالَ وَأَخْذَ الْمَالِ دُونَ الرِّجَالِ لَا يُقَامُ
الْحَدُّ عليها في الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ في قَطْعِ
الطَّرِيقِ سَوَاءٌ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْله تَعَالَى يُقَامُ الْحَدُّ عليها
وَعَلَى الرِّجَالِ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ هذا حَدٌّ يَسْتَوِي في وُجُوبِهِ
الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى كَسَائِرِ الْحُدُودِ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنْ كان هو
الْقَطْعُ فَلَا يُشْتَرَطُ في وُجُوبِهِ الذُّكُورَةُ وَالْأُنُوثَةُ كَسَائِرِ
الْحُدُودِ فَلَا يُشْتَرَطُ في وُجُوبِهِ الذُّكُورَةُ كَحَدِّ السَّرِقَةِ
وَإِنْ كان هو الْقَتْلُ فَكَذَلِكَ كَحَدِّ الزِّنَا وهو الرَّجْمُ إذَا كانت
مُحْصَنَةً
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ رُكْنَ الْقَطْعِ وهو الْخُرُوجُ على
الْمَارَّةِ على وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ لَا يَتَحَقَّقُ من
النِّسَاءِ عَادَةً لِرِقَّةِ قُلُوبِهِنَّ وَضَعْفِ بِنْيَتِهِنَّ فَلَا يَكُنَّ
من أَهْلِ الْحِرَابِ وَلِهَذَا لَا يُقْتَلْنَ في دَارِ الْحَرْبِ بِخِلَافِ
السَّرِقَةِ لِأَنَّهَا أَخْذُ الْمَالِ على وَجْهِ الِاسْتِخْفَاءِ وَمُسَارَقَةِ
الْأَعْيُنِ وَالْأُنُوثَةُ لَا تَمْنَعُ من ذلك
وَكَذَا أَسْبَابُ سَائِرِ الْحُدُودِ تَتَحَقَّقُ من النِّسَاءِ كما تَتَحَقَّقُ
من الرِّجَالِ
وَأَمَّا الرِّجَالُ الَّذِينَ مَعَهَا فَلَا يُقَامُ عليهم الْحَدُّ في قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ سَوَاءٌ بَاشَرُوا مَعَهَا أو لم
يُبَاشِرُوا
فَرَّقَ أبو يُوسُفَ بين الصَّبِيِّ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ حَيْثُ قال إذَا بَاشَرَ
الصَّبِيُّ لَا حَدَّ على من لم يُبَاشِرْ من الْعُقَلَاءِ الْبَالِغِينَ وإذا
بَاشَرَتْ الْمَرْأَةُ تُحَدُّ كالرجال ( ( ( الرجال ) ) )
وَوَجْهُ الْفَرْقِ له أَنَّ امْتِنَاعَ الْوُجُوبِ على الْمَرْأَةِ ليس لِعَدَمِ
الْأَهْلِيَّةِ لِأَنَّهَا من أَهْلِ التَّكْلِيفِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَتَعَلَّقُ سَائِرُ الْحُدُودِ بِفِعْلِهَا بَلْ لِعَدَمِ
الْمُحَارَبَةِ منها أو نُقْصَانِهَا عَادَةً وَهَذَا لم يُوجَدْ في الرِّجَالِ
فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْحَدِّ عليهم وَامْتِنَاعُ الْوُجُوبِ على الصَّبِيِّ
لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ الْإِيجَابِ عليه
وَلِهَذَا لم يَجِبْ عليه سَائِرُ الْحُدُودِ فإذا انْتَفَى الْوُجُوبُ عليه وهو
أَصْلٌ امْتَنَعَ التَّبَعُ ضَرُورَةً
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وهو قَطْعُ الطَّرِيقِ
وقد حَصَلَ مِمَّنْ يَجِبُ عليه وَمِمَّنْ لَا يَجِبُ عليه فَلَا يَجِبُ أَصْلًا
كما إذَا كان فِيهِمْ صَبِيٌّ أو مَجْنُونٌ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ في الْأَرْضِ فَسَادًا } الْآيَةُ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْحُرِّ
وَالْعَبْدِ
وَلِأَنَّ الرُّكْنَ وهو قَطْعُ الطَّرِيقِ يَتَحَقَّقُ من الْعَبْدِ حَسْبَ
تَحَقُّقِهِ من الْحُرِّ فَيَلْزَمُهُ حُكْمُهُ كما يَلْزَمُ الْحُرَّ
وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ عليه خَاصَّةً فَنَوْعَانِ
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا فَإِنْ كان حَرْبِيًّا
مُسْتَأْمَنًا لَا حَدَّ على الْقَاطِعِ لِأَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ
الْمُسْتَأْمَنِ ليس بِمَعْصُومٍ مطلق ( ( ( مطلقا ) ) ) بَلْ في عِصْمَتِهِ
شُبْهَةُ الْعَدَمِ لِأَنَّهُ من أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَإِنَّمَا الْعِصْمَةُ
بِعَارِضِ الْأَمَانِ مُؤَقَّتَةٌ إلَى غَايَةِ الْعَوْدِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ
فَكَانَ في عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ الْحَدُّ
بِالْقَطْعِ عليه كما لَا يَتَعَلَّقُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ
لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ أَفَادَ له عِصْمَةَ مَالِهِ على التَّأْبِيدِ
فَتَعَلَّقَ الْحَدُّ بِأَخْذِهِ كما يَتَعَلَّقُ بِسَرِقَتِهِ
وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ يَدُهُ صَحِيحَةً بِأَنْ كانت يَدَ مِلْكٍ أو يَدَ
أَمَانَةٍ أو يَدَ ضَمَانٍ فَإِنْ لم تَكُنْ صَحِيحَةً كَيَدِ السَّارِقِ لَا
حَدَّ على الْقَاطِعِ كما لَا حَدَّ على السَّارِقِ على ما مَرَّ في كِتَابِ
السَّرِقَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جميعا فَوَاحِدٌ وهو أَنْ لَا يَكُونَ
في الْقُطَّاعِ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ من أَحَدٍ من الْمَقْطُوعِ عليهم
____________________
(7/91)
فَإِنْ
كان لَا يَجِبُ الْحَدُّ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا تَبَسُّطًا في الْمَالِ وَالْحِرْزِ
لِوُجُودِ الْإِذْنِ بِالتَّنَاوُلِ عَادَةً فَقَدْ أَخَذَ مَالًا لم يُحْرِزْهُ
عنه الْحِرْزُ الْمَبْنِيُّ في الْحَضَرِ وَلَا السُّلْطَانُ الْجَارِي في
السَّفَرِ فَأَوْرَثَ ذلك شُبْهَةً في الْأَجَانِبِ لِاتِّحَادِ السَّبَبِ وهو
قَطْعُ الطَّرِيقِ وكان الْجَصَّاصُ يقول جَوَابُ الْكِتَابِ مَحْمُولٌ على ما
إذَا كان الْمَأْخُوذُ مُشْتَرَكًا بين الْمَقْطُوعِ عليهم وفي الْقُطَّاعِ من هو
ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ من أَحَدِهِمْ فَأَمَّا إذَا كان لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم مَالٌ
مُفَرَّزٌ يَجِبُ الْحَدُّ على الْبَاقِينَ وَجَوَابُ الْكِتَابِ مُطْلَقٌ عن هذا
التَّفْصِيلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ له فما ذُكِرَ في كِتَابِ
السَّرِقَةِ وهو أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَعْصُومًا ليس
فيه لِأَحَدٍ حَقُّ الْأَخْذِ وَلَا تَأْوِيلُ التَّنَاوُلِ وَلَا تُهْمَةُ
التَّنَاوُلِ مَمْلُوكًا لَا مِلْكَ فيه لِلْقَاطِعِ وَلَا تَأْوِيلَ الْمِلْكِ
وَلَا شُبْهَةَ الْمِلْكِ مُحَرَّزًا مُطْلَقًا بِالْحَافِظِ ليس فيه شُبْهَةُ
الْعَدَمِ نِصَابًا كَامِلًا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أو مُقَدَّرًا بها حتى لو كان
الْمَالُ الْمَأْخُوذُ لَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ من الْقُطَّاعِ عَشَرَةً لَا
حَدَّ عليهم وقد ذَكَرْنَا دَلَائِلَ هذه الشَّرَائِطِ وَالْمَسَائِلِ التي
تُخَرَّجُ عليها في كِتَابِ السَّرِقَةِ وَشَرَطَ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ في نِصَابِ
قَطْعِ الطَّرِيقِ أَنْ يَكُونَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَصَاعِدًا
وقال عِيسَى بن زِيَادٍ إنْ قَتَلُوا قُتِلُوا وَإِنْ كان ما أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ
منهم أَقَلَّ من عَشَرَةٍ
وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ الشَّرْعَ قَدَّرَ نِصَابَ السَّرِقَةِ بِعَشَرَةٍ
وَالْوَاجِبُ فيها قَطْعُ طَرَفِ الْوَاحِدِ وَهَهُنَا يُقْطَعُ طَرَفَانِ
فَيُشْتَرَطُ نِصَابَانِ وَذَلِكَ عِشْرُونَ
وَجْهُ قَوْلِ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّا أَجْمَعْنَا على أَنَّهُمْ لو
قَتَلُوا ولم يَأْخُذُوا الْمَالَ أَصْلًا قُتِلُوا فإذا أَخَذُوا شيئا من
الْمَالِ وَإِنْ قَلَّ أَوْلَى أَنْ يُقْتَلُوا
وَلَنَا الْفَرْقُ بين النَّوْعَيْنِ وهو أَنَّهُمْ لَمَّا قَتَلُوا ولم
يَأْخُذُوا الْمَالَ أَصْلًا عُلِمَ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ الْقَتْلُ لَا الْمَالُ
وَالْقَتْلُ جِنَايَةٌ مُتَكَامِلَةٌ في نَفْسِهَا فَيُجَازَى بِعُقُوبَةٍ
مُتَكَامِلَةٍ وَهِيَ الْقَتْلُ وَلَمَّا أَخَذُوا الْمَالَ وَقَتَلُوا دَلَّ
أَنَّ مَقْصُودَهُمْ الْمَالُ وَإِنَّمَا قَتَلُوا لِيَتَمَكَّنُوا من أَخْذِ
الْمَالِ وَأَخْذُ الْمَالِ لَا يَتَكَامَلُ جِنَايَةً إلَّا إذَا كان
الْمَأْخُوذُ نِصَابًا كما في السَّرِقَةِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ فيه وهو الْمَكَانُ فَنَوْعَانِ
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ قَطْعُ الطَّرِيقِ في دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ كان في
دَارِ الْحَرْبِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ لِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ
هو الْإِمَامُ وَلَيْسَ له وَلَايَةٌ في دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَقْدِرُ على
الْإِقَامَةِ فَالسَّبَبُ حين وُجُودِهِ لم يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ
لِعَدَمِ الْوَلَايَةِ فَلَا يَسْتَوْفِيهِ في دَارِ الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا لَا
يستوفى سَائِرَ الْحُدُودِ في دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا وَجَدَ أَسْبَابَهَا في
دَارِ الْحَرْبِ
كَذَا هذا
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ في غَيْرِ مِصْرٍ فَإِنْ كان في مِصْرٍ لَا يَجِبُ
الْحَدُّ سَوَاءٌ كان الْقَطْعُ نَهَارًا أو لَيْلًا وَسَوَاءٌ كان بِسِلَاحٍ أو
غَيْرِهِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وهو قَوْلُهُمَا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ وهو
قَوْلُ أبي يُوسُفَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قد تَحَقَّقَ وهو قَطْعُ الطَّرِيقِ
فَيَجِبُ الْحَدُّ كما لو كان في غَيْرِ مِصْرٍ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الِانْقِطَاعِ
وَالطَّرِيقُ لَا يَنْقَطِعُ في الْأَمْصَارِ وَفِيمَا بين الْقُرَى لِأَنَّ
الْمَارَّةَ لَا تَمْتَنِعُ عن الْمُرُورِ عَادَةً فلم يُوجَدْ السَّبَبُ
وَقِيلَ إنَّمَا أَجَابَ أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ على ما شَاهَدَهُ في
زَمَانِهِ لِأَنَّ أَهْلَ الْأَمْصَارِ كَانُوا يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ
فَالْقُطَّاعُ ما كَانُوا يَتَمَكَّنُونَ من مُغَالَبَتِهِمْ في الْمِصْرِ
وَالْآنَ تَرَكَ الناس هذه الْعَادَةَ فَتُمْكِنُهُمْ الْمُغَالَبَةُ فَيَجْرِي
عليهم الْحَدُّ وَعَلَى هذا قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ قَطَعَ
الطَّرِيقَ بين الْحِيرَةِ وَالْكُوفَةِ أنه لَا يَجْرِي عليه الْحَدُّ لِأَنَّ
الْغَوْثَ كان يَلْحَقُ هذا الْمَوْضِعَ في زَمَانِهِ لِاتِّصَالِهِ بِالْمِصْرِ
وَالْآنَ صَارَ مُلْتَحِقًا بِالْبَرِّيَّةِ فَلَا يَلْحَقُ الْغَوْثَ
فَيَتَحَقَّقُ قَطْعُ الطَّرِيقِ
وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمِصْرِ مَسِيرَةُ سَفَرٍ فَإِنْ
كان أَقَلَّ من ذلك لم يَكُونُوا قُطَّاعَ الطَّرِيقِ
وَهَذَا على قَوْلِهِمَا فَأَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفَ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ
وَيَكُونُونَ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ
وَالْوَجْهُ ما بَيَّنَّا فَيَجِبُ الْحَدُّ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ في قُطَّاعِ الطَّرِيقِ في الْمِصْرِ إنْ قَاتَلُوا
نَهَارًا بِسِلَاحٍ يُقَامُ عليهم الْحَدُّ وَإِنْ خَرَجُوا بِخَشَبٍ لهم لم
يُقَمْ عليهم لِأَنَّ السِّلَاحَ لَا يَلْبَثُ فَلَا يَلْحَقُ الْغَوْثَ
وَالْخَشَبُ يَلْبَثُ فَالْغَوْثُ يَلْحَقُ
وَإِنْ قَاتَلُوا لَيْلًا بِسِلَاحٍ أو بِخَشَبٍ يُقَامُ عليهم الْحَدُّ لِأَنَّ
الْغَوْثَ قَلَّمَا يَلْحَقُ بِاللَّيْلِ فَيَسْتَوِي فيه السِّلَاحُ وَغَيْرُهُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أَشْهَرَ على رَجُلٍ سِلَاحًا نَهَارًا أو لَيْلًا في غَيْرِ مِصْرٍ أو في
مِصْرٍ فَقَتَلَهُ الْمَشْهُورُ عليه عَمْدًا فَلَا شَيْءَ عليه
وَكَذَلِكَ إنْ شُهِرَ عليه عَصًا لَيْلًا في غَيْرِ مِصْرٍ أو في مِصْرٍ وَإِنْ
كان نَهَارًا في مِصْرٍ فَقَتَلَهُ الْمَشْهُورُ عليه يُقْتَلْ بِهِ
وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ من قَصَدَ قَتْلَ
____________________
(7/92)
إنْسَانٍ
لَا يَنْهَدِرُ دَمُهُ وَلَكِنْ يُنْظَرُ إنْ كان الْمَشْهُورُ عليه يُمْكِنُهُ
دَفْعُهُ عن نَفْسِهِ بِدُونِ الْقَتْلِ لَا يُبَاحُ له الْقَتْلُ وَإِنْ كان لَا
يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ إلَّا بِالْقَتْلِ يُبَاحُ له الْقَتْلُ لِأَنَّهُ من
ضَرُورَاتِ الدَّفْعِ فَإِنْ شَهَرَ عليه سَيْفَهُ يُبَاحُ له أَنْ يَقْتُلَهُ
لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ على الدَّفْعِ إلَّا بِالْقَتْلِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو اسْتَغَاثَ الناس لَقَتَلَهُ قبل أَنْ يَلْحَقَهُ
الْغَوْثُ إذْ السِّلَاحُ لَا يَلْبَثُ فَكَانَ الْقَتْلُ من ضَرُورَاتِ الدَّفْعِ
فَيُبَاحُ قَتْلُهُ فإذا قَتَلَهُ فَقَدْ قَتَلَ شَخْصًا مُبَاحَ الدَّمِ فَلَا
شَيْءَ عليه
وَكَذَا إذَا شهر ( ( ( أشهر ) ) ) عليه الْعَصَا لَيْلًا لِأَنَّ الْغَوْثَ لَا
يَلْحَقُ بِاللَّيْلِ عَادَةً سَوَاءٌ كان في الْمَفَازَةِ أو في الْمِصْرِ
وَإِنْ أَشْهَرَ عليه نَهَارًا في الْمِصْرِ لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ لِأَنَّهُ
يُمْكِنُهُ دَفْعُ شَرِّهِ بِالِاسْتِغَاثَةِ بِالنَّاسِ
وَإِنْ كان في الْمَفَازَةِ يُبَاحُ قَتْلُهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ
الِاسْتِغَاثَةُ فَلَا يَنْدَفِعُ شَرُّهُ إلَّا بِالْقَتْلِ فَيُبَاحُ له
الْقَتْلُ
وَرَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ لو قَصَدَ
قَتْلَهُ بِمَا لو قَتَلَهُ بِهِ لَوَجَبَ عليه الْقِصَاصُ فَقَتَلَهُ الْمَقْصُودُ
قَتْلُهُ لَا يَجِبُ عليه الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ يُبَاحُ قَتْلُهُ إذْ لو لم يُبَحْ
لَقَتَلَهُ الْقَاصِدُ وإذا قَتَلَهُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا فَكَانَ فيه إتْلَافُ
نَفْسَيْنِ
فإذا أُبِيحَ قَتْلُهُ كان فيه إتْلَافُ أَحَدِهِمَا فَكَانَ أَهْوَنَ
وَلَوْ قَصَدَ قَتْلَهُ بِمَا لو قَتَلَهُ بِهِ لَكَانَ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لَا
يُبَاحُ لِلْمَقْصُودِ قَتْلُهُ أَنْ يَقْتُلَ الْقَاصِدَ فَإِنْ قَتَلَهُ يَجِبْ
عليه الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ ليس في تَرْكِ الْإِبَاحَةِ هَهُنَا إتْلَافُ نَفْسٍ
فَلَا يُبَاحُ فإذا قَتَلَهُ فَقَدْ قَتَلَ شَخْصًا مَعْصُومَ الدَّمِ على
الْأَبَدِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَظْهَرُ بِهِ الْقَطْعُ عِنْدَ الْقَاضِي فَاَلَّذِي
يَظْهَرُ بِهِ الْبَيِّنَةُ أو الْإِقْرَارُ عَقِيبَ خُصُومَةٍ صَحِيحَةٍ وَلَا
يَظْهَرُ بِعِلْمِ الْقَاضِي على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ السَّرِقَةِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ قَطْعِ الطَّرِيقِ فَلَهُ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا
يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ
وَالْآخَرُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ
أَمَّا الذي يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ فَهُوَ وُجُوبُ الْحَدِّ وَالْكَلَامُ في هذا
الْحُكْمِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَصْلِ هذا الْحُكْمِ وفي بَيَانِ صِفَاتِهِ
وفي بَيَانِ مَحِلِّ إقَامَتِهِ وفي بَيَانِ من يُقِيمُهُ وفي بَيَانِ ما
يُسْقِطُهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ حُكْمِ السُّقُوطِ بَعْدَ الْوُجُوبِ أو
عَدَمِ الثُّبُوتِ لِمَانِعٍ
أَمَّا أَصْلُ الْحُكْمِ الذي يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ فَلَنْ يُمْكِنَ الْوُصُولُ
إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ قَطْعِ الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ قَطْعُ
الطَّرِيقِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِأَخْذِ الْمَالَ لَا غَيْرُ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقَتْلِ لَا غَيْرُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِهِمَا
جميعا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالتَّخْوِيفِ من غَيْرِ أَخْذٍ وَلَا قَتْلٍ فَمَنْ
أَخَذَ الْمَالَ ولم يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ من خِلَافٍ
وَمَنْ قَتَلَ ولم يَأْخُذْ الْمَالَ قُتِلَ وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ قال
أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ
وَرِجْلَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ أو صَلَبَهُ وَإِنْ شَاءَ لم يقطعه ( ( ( يقطه ) ) )
وَقَتَلَهُ أو صَلَبَهُ
وَقِيلَ إنَّ تَفْسِيرَ الْجَمْعِ بين الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ هو أَنْ يَقْطَعَهُ الْإِمَامُ وَلَا يَحْسِمُ مَوْضِعَ
الْقَطْعِ بَلْ يَتْرُكُهُ حتى يَمُوتَ وَعِنْدَهُمَا يُقْتَلُ وَلَا يُقْطَعُ
وَمَنْ أَخَافَ ولم يَأْخُذْ مَالًا وَلَا قَتَلَ نَفْسًا يُنْفَى
وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في قَاطِعِ الطَّرِيق مُخَيَّرٌ بين الْأَجْزِيَةِ
الْمَذْكُورَةِ
وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُهُ عز وجل { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أو
يُصَلَّبُوا أو تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ من خِلَافٍ أو يُنْفَوْا من
الْأَرْضِ } احْتَجَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ
وهو أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَ الْأَجْزِيَةَ فيها بِحَرْفِ ( أو
) وإنها لِلتَّخْيِيرِ كما في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَكَفَّارَةِ جَزَاءِ
الصَّيْدِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ هذا الْحَرْفِ إلَّا حَيْثُ قام
الدَّلِيلُ بِخِلَافِهَا
وَلَنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إجْرَاءُ الْآيَةِ على ظَاهِرِ التَّخْيِيرِ في
مُطْلَقِ الْمُحَارِبِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ على قَدْرِ الْجِنَايَةِ يَزْدَادُ
بِزِيَادَةِ الْجِنَايَةِ وَيَنْتَقِصُ بِنُقْصَانِهَا
هذا هو مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ أَيْضًا
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا }
فَالتَّخْيِيرُ في الْجِنَايَةِ الْقَاصِرَةِ بِالْجَزَاءِ في الْجَزَاءِ الذي هو
جَزَاءٌ في الْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ وفي الْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ بِالْجَزَاءِ
الذي هو جَزَاءٌ في الْجِنَايَةِ الْقَاصِرَةِ خِلَافُ الْمَشْرُوعِ
يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْأُمَّةَ اجْتَمَعَتْ على أَنَّ الْقُطَّاعَ لو أَخَذُوا
الْمَالَ وَقَتَلُوا لَا يُجَازُونَ بِالنَّفْيِ وَحْدَهُ وَإِنْ كان ظَاهِرُ
الْآيَةِ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ بين الْأَجْزِيَةِ الأربعة ( ( ( الأربع ) ) )
دَلَّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ التَّخْيِيرِ على أَنَّ
التَّخْيِيرَ الْوَارِدَ في الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ من حَيْثُ الصُّورَةُ
بِحَرْفِ التَّخْيِيرِ إنَّمَا يَجْرِي على ظَاهِرِهِ إذَا كان سَبَبُ الْوُجُوبِ
وَاحِدًا كما في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَكَفَّارَةِ جَزَاءِ الصَّيْدِ
أَمَّا إذَا كان مُخْتَلِفًا فَيُخَرَّجُ مَخْرَجَ بَيَانِ الْحُكْمِ لِكُلٍّ في
نَفْسِهِ كما في قَوْله تَعَالَى { قُلْنَا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إمَّا أَنْ
تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا } إنَّ ذلك ليس لِلتَّخْيِيرِ
بين الْمَذْكُورِينَ بَلْ لِبَيَانِ الْحُكْمِ لِكُلٍّ في نَفْسِهِ لِاخْتِلَافِ
سَبَبِ الْوُجُوبِ وَتَأْوِيلُهُ إمَّا أَنْ تُعَذِّبَ من ظَلَمَ أو تَتَّخِذَ
الْحُسْنَ فِيمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ { أَمَّا من ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } الْآيَةُ {
وَأَمَّا من آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى }
____________________
(7/93)
الْآيَةُ
وَقَطْعُ الطَّرِيقِ مُتَنَوِّعٌ في نَفْسِهِ وَإِنْ كان مُتَّحِدًا من حَيْثُ
الذَّاتُ
قد يَكُونُ بِأَخْذِ الْمَالِ وَحْدَهُ وقد يَكُونُ بِالْقَتْلِ لَا غَيْرُ وقد
يَكُونُ بِالْجَمْعِ بين الْأَمْرَيْنِ وقد يَكُونُ بِالتَّخْوِيفِ لَا غَيْرُ
فَكَانَ سَبَبُ الْوُجُوبِ مُخْتَلِفًا فَلَا يُحْمَلُ على التَّخْيِيرِ بَلْ على
بَيَانِ الْحُكْمِ لِكُلِّ نَوْعٍ أو يُحْتَمَلُ هذا وَيُحْتَمَلُ ما ذَكَرْتُمْ
فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ وإذا لم يُمْكِنْ صُرِفَتْ الْآيَةُ
الشَّرِيفَةُ إلَى ظَاهِرِ التَّخْيِيرِ في مُطْلَقِ الْمُحَارِبِ
فأما أَنْ يُحْمَلَ على التَّرْتِيبِ وَيُضْمَرَ في كل حُكْمٍ مَذْكُورٍ نَوْعٌ من
أَنْوَاعِ قَطْعِ الطَّرِيقِ كَأَنَّهُ قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { إنَّمَا
جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الْأَرْضِ
فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا } إنْ أَخَذُوا الْمَالَ وَقَتَلُوا أو
تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ من خِلَافٍ إنْ أَخَذُوا الْمَالَ لَا
غَيْرُ أو يُنْفَوْا من الْأَرْضِ إنْ أَخَافُوا
هَكَذَا ذَكَرَ سَيِّدُنَا جِبْرِيلُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِرَسُولِ
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا قَطَعَ أبو بُرْدَةَ رضي اللَّهُ عنه
بِأَصْحَابِهِ الطَّرِيقَ على أُنَاسٍ جَاءُوا يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ أَنَّ من
قَتَلَ قُتِلَ وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ ولم يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ من
خِلَافٍ وَمَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ وَمَنْ جاء مُسْلِمًا هَدَمَ
الْإِسْلَامُ ما كان قَبْلَهُ من الشِّرْكِ وَإِلَى هذا التَّأْوِيلِ يَذْهَبُ عبد
اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ وإماأن
يُعْمَلَ بِظَاهِرِ التَّخْيِيرِ بين الْأَجْزِيَةِ الثَّلَاثَةِ لَكِنْ في
مُحَارِبٍ خَاصٍّ وهو الذي أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ فَكَانَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ
التَّخْيِيرِ على هذا الْوَجْهِ أَقْرَبَ من ظَاهِرِ الْآيَةِ لِأَنَّ اللَّهَ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَمَعَ بين الْقَتْلِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ في الذِّكْرِ
بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الْأَرْضِ فَسَادًا } فَالْمُحَارَبَةُ هِيَ
الْقَتْلُ وَالْفَسَادُ في الْأَرْضِ هو قَطْعُ الطَّرِيقِ فَأَوْجَبَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَحَدَ الْأَجْزِيَةِ من الْفِعْلَيْنِ بِمَا ذَكَرَ وَفِيهِ عَمَلٌ
بِحَقِيقَةِ حَرْفِ التَّخْيِيرِ وَعَمَلٌ بِحَقِيقَةِ ما أُضِيفَ إلَيْهِ
الْجَزَاءُ وهو ما ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الْمُحَارَبَةِ وَالسَّعْيِ
في الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ
إلَى هذا التَّأْوِيلِ يَذْهَبُ الْحَسَنُ وابن الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ
رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ثُمَّ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَخَذَا
بِالتَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ وهو تَأْوِيلُ التَّرْتِيبِ في الْمُحَارِبِ إذَا
أَخَذَ الْمَالَ
وَقِيلَ إنَّهُ يُقْتَلُ لَا غَيْرُ
لِأَنَّ سَيِّدَنَا جِبْرِيلَ عليه السلام ذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم على ما مَرَّ
وَحَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لم يُعْرَفْ إلَّا بهذا النَّصِّ وَلِأَنَّ أَخْذَ
الْمَالِ وَالْقَتْلَ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ جِنَايَةُ قَطْعِ الطَّرِيقِ
فَلَا يُقَابَلُ إلَّا بِعُقُوبَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْقَتْلُ وَالْقَطْعُ
عُقُوبَتَانِ على أَنَّهُمَا إنْ كَانَتَا جِنَايَتَيْنِ يَجِبُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا جَزَاءٌ عِنْدَ الِانْفِرَادِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُمَا
إذَا اجْتَمَعَا يَدْخُلُ ما دُونَ النَّفْسِ في النَّفْسِ كَالسَّارِقِ إذَا زَنَى
وهو مُحْصَنٌ وَكَمَنْ زنا وهو غَيْرُ مُحْصَنٍ ثُمَّ أُحْصِنَ فَزَنَى أَنَّهُ
يُرْجَمُ لَا غَيْرُ كَذَا هَهُنَا وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ في إقَامَةِ
الْقَطْعِ لِأَنَّ ما هو الْمَقْصُودُ من الْحَدِّ وهو الزَّجْرُ وما هو غَيْرُ
مَقْصُودٍ بِهِ وهو التَّكْفِيرُ يَحْصُلُ بِالْقَتْلِ وَحْدَهُ فَلَا يُفِيدُ
الْقَطْعُ فَلَا يُشْرَعُ وأبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَخَذَ بِالتَّأْوِيلِ
الثَّانِي وهو التَّخْيِيرُ بين الْأَجْزِيَةِ الثَّلَاثَةِ في الْمُحَارِبِ الذي
جَمَعَ بين أَخْذِ الْمَالِ وَالْقَتْلِ وهو أَحَقُّ التَّأْوِيلَيْنِ لِلْآيَةِ
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فيه عَمَلًا بِحَقِيقَةِ حَرْفِ التَّخْيِيرِ وَبِحَقِيقَةِ
ما أُضِيفَ إلَيْهِ الْجَزَاءُ وهو الْمُحَارَبَةُ وَالسَّعْيُ في الْأَرْضِ
بِالْفَسَادِ فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ
وَإِنَّمَا عَرَفْنَا حُكْمَ أَخْذِ الْمَالِ وَحْدَهُ وَحُكْمَ الْقَتْلِ
وَحْدَهُ لَا بِهَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وَلَكِنْ بِحَدِيثِ سَيِّدِنَا
جِبْرِيلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أو غَيْرِهِ أو بِالِاسْتِدْلَالِ
بِحَالَةِ الِاجْتِمَاعِ وهو أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْجَمْعُ بين الْمُوجِبَيْنِ
عِنْدَ وُجُودِ الْقَطْعَيْنِ يَجِبُ الْقَبُولُ بِإِفْرَادِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يقول في تَأْوِيلِ الْآيَةِ
الْكَرِيمَةِ بِالتَّرْتِيبِ فَيُوجِبُ الصَّلْبَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ
وَالْقَطْعَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ أَنَّهُ يَجِبُ على كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يَجِبُ أَنْ يُجْمَعَ إلَّا أَنَّ في
بَعْضِ الْمَوَاضِعِ قام دَلِيلُ إسْقَاطِ الْأَخَفِّ ولم يَقُمْ هَهُنَا بَلْ قام
دَلِيلُ الْوُجُوبِ لِأَنَّ مَبْنَى هذا الْبَابِ على التَّغْلِيظِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُجْمَعُ بين قَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ في أَخْذِ الْمَالِ
وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا في أَخْذِ الْمَالِ في الْمِصْرِ وَكَذَلِكَ يُصْلَبُ
في الْقَتْلِ وَحْدَهُ هَهُنَا ولم يَجِبْ أَنْ يُصْلَبَ في غَيْرِهِ من الْقَتْلِ
في الْمِصْرِ فَكَذَا جَازَ أَنْ يُجْمَعَ بين الْمُوجِبَيْنِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ
النَّوْعَيْنِ هَهُنَا دُونَ سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
____________________
(7/94)
وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الصَّلْبِ فَقَدْ رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ
أَنَّهُ يُصْلَبُ حَيًّا ثُمَّ يُطْعَنُ بِرُمْحٍ حتى يَمُوتَ وَكَذَا ذَكَرَ
الْكَرْخِيُّ وَعَنْ أبي عُبَيْدٍ أَنَّهُ يُقْتَلُ ثُمَّ يُصْلَبُ وَكَذَا ذَكَرَ
الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لأن الطلب ( ( ( الصلب ) ) ) حَيًّا من بَابِ
الْمُثْلَةِ وقد نهى النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عن الْمُثْلَةِ
وَالصَّحِيحُ هو الْأَوَّلُ لِأَنَّ الصَّلْبَ في هذا الْبَابِ شُرِعَ لِزِيَادَةٍ
في الْعُقُوبَةِ تَغْلِيظًا وَالْمَيِّتُ ليس من أَهْلِ الْعُقُوبَةِ وَلِأَنَّهُ
لو جَازَ أَنْ يُقَالَ يُصْلَبُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ تُقْطَعُ
يَدُهُ وَرِجْلُهُ من خِلَافٍ بَعْدَ الْمَوْتِ وَذَلِكَ بَعِيدٌ فَكَذَا هذا
وَالْمُرَادُ في الْمُثْلَةِ في الحديث قَطْعُ بَعْضِ الْجَوَارِحِ كَذَا قَالَهُ
مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَقِيلَ إذَا صَلَبَهُ الْإِمَامُ تَرَكَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عِبْرَةً
لِلْخَلْقِ ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ لِأَنَّهُ بَعْدَ
الثَّلَاثِ يَتَغَيَّرُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الناس
وَأَمَّا النَّفْيُ في قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { أو يُنْفَوْا من الْأَرْضِ
} فَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فيه
قال بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ منه وَيُنْفَوْا من الْأَرْضِ بِحَذْفِ الْأَلِفِ
وَمَعْنَاهُ وَيُنْفَوْا من الْأَرْضِ بِالْقَتْلِ وَالصَّلْبِ إذ هو النَّفْيُ من
وَجْهِ الْأَرْضِ حَقِيقَةً
وَهَذَا على قَوْلِ من تَأَوَّلَ الْآيَةَ الشَّرِيفَةَ في الْمُحَارِبِ الذي
أَخَذَ الْمَالَ
وَقِيلَ إنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ مُخَيَّرًا بين الْأَجْزِيَةِ الثَّلَاثَةِ
وَالنَّفْيِ من الْأَرْضِ ليس غَيْرُ وَاحِدٍ من هذه الثَّلَاثَةِ في التَّخْيِيرِ
لِأَنَّ بِالْقَتْلِ وَالصَّلْبِ يَحْصُلُ النَّفْيُ فَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ
يُجْعَلَ النَّفْيُ مُشَارِكًا الْأَجْزِيَةَ الثَّلَاثَةَ في التَّخْيِيرِ
لِأَنَّهُ لَا يُزَاحِمُ الْقَتْلَ لِأَنَّهُ دُونَهُ بِكَثِيرٍ
وَقِيلَ نَفْيُهُ أَنْ يُطْرَدَ حتى يَخْرُجَ من دَارِ الْإِسْلَامِ وهو قَوْلُ
الْحَسَنِ
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ في رِوَايَةٍ أَنَّ نَفْيَهُ
طَلَبُهُ
وَبِهِ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أنه يُطْلَبُ في كل بَلَدٍ
وَالْقَوْلَانِ لَا يَصِحَّانِ لِأَنَّهُ إنْ طُلِبَ في الْبَلَدِ الذي قَطَعَ الطَّرِيقَ
وَنُفِيَ عنه فَقَدْ ألقي ضَرَرَهُ إلَى بَلَدٍ آخَرَ وَإِنْ طُلِبَ من كل بَلَدٍ
من بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَنُفِيَ عنه يَدْخُلُ دَارَ الْحَرْبِ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ
له على الْكُفْرِ وَجَعْلُهُ حَرْبًا لنا
وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَعَنْ النَّخَعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ في رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ يُحْبَسُ حتى
يُحْدِثَ تَوْبَةً وَفِيهِ نَفْيٌ عن وَجْهِ الْأَرْضِ مع قِيَامِ الْحَيَاةِ
إلَّا عن الْمَوْضِعِ الذي حُبِسَ فيه
وَمِثْلُ هذا في عُرْفِ الناس يُسَمَّى نَفْيًا عن وَجْهِ الْأَرْضِ وَخُرُوجًا عن
الدُّنْيَا
كما أُنْشِدَ لِبَعْضِ الْمَحْبُوسِينَ خَرَجْنَا من الدُّنْيَا وَنَحْنُ من
أَهْلهَا فَلَسْنَا من الْأَحْيَاءِ فيها وَلَا الْمَوْتَى إذَا جَاءَنَا
السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ عَجِبْنَا وَقُلْنَا جاء هذا من الدُّنْيَا فَصْلٌ
وَأَمَّا صِفَاتُ هذا الْحُكْمِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنَّهُ يَنْفِي وُجُوبَ ضَمَانِ
الْمَالِ وَالْجِرَاحَاتِ عَمْدًا كانت الْجِرَاحَةُ أو خَطَأً
أَمَّا الْمَالُ فَلِأَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بين الْحَدِّ وَالضَّمَانِ عِنْدَنَا
وَأَمَّا الْجِرَاحَاتُ إذَا كانت خَطَأً فَلِأَنَّهَا تُوجِبُ الضَّمَانَ
وَإِنْ كانت عَمْدًا فَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ بها
مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ وَلَا يَجِبُ ضَمَانُ الْمَالِ فَكَذَا ضَمَانُ
الْجِرَاحَاتِ
وقد ذَكَرْنَا ما يَتَعَلَّقُ من الْمَسَائِلِ بهذا الْأَصْلِ في كِتَابِ
السَّرِقَةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَجْرِيَ فيها التَّدَاخُلُ حتى لو قَطَعَ قِطْعَاتٍ فَرُفِعَ في
بَعْضِهَا فَقُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ فِيمَا رُفِعَ فيه كان ذلك لِلْقِطْعَاتِ
كُلِّهَا كما في السَّرِقَةِ إلَّا أَنَّ ثَمَّةَ التَّدَاخُلَ لِاحْتِمَالِ
عَدَمِ الْفَائِدَةِ مع بَقَاءِ مَحِلِّ الْقَطْعِ وهو الرِّجْلُ الْيُسْرَى
وَهَهُنَا التَّدَاخُلُ لِعَدَمِ الْمَحِلِّ وَالْكَلَامُ في الضَّمَانِ فِيمَا لم
يُخَاصَمْ فيه ما هو الْكَلَامُ في السَّرِقَةِ
أَنَّهُ إذَا كان الْمَالُ قَائِمًا يَرُدُّهُ وَإِنْ كان هَالِكًا فَعَلَى
الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في كِتَابِ السَّرِقَةِ
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ العفة ( ( ( العفو ) ) ) وَالْإِسْقَاطُ
وَالْإِبْرَاءُ وَالصُّلْحُ عنه فَكُلُّ ما وَجَبَ على قَاطِعِ الطَّرِيقِ من
قَتْلٍ أو قَطْعٍ أو صَلْبٍ يُسْتَوْفَى منه سَوَاءٌ عَفَا الْأَوْلِيَاءُ
وَأَرْبَابُ الْأَمْوَالِ عن ذلك أو لم يعفوا ( ( ( يعفو ) ) ) وسواء أَبْرَءُوا
منه أو صَالَحُوا عليه وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَيْضًا إذَا ثَبَتَ ذلك عِنْدَهُ
تَرْكُهُ وَإِسْقَاطُهُ وَالْعَفْوُ عنه
لِأَنَّ الْوَاجِبَ حَدٌّ وَالْحُدُودُ حُقُوقُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
فَلَا يَعْمَلُ فيها الْعَبْدُ وَلَا صُلْحُهُ وَلَا الْإِبْرَاءُ عنها
فَصْلٌ وَأَمَّا مَحِلُّ إقَامَةِ هذا الْحُكْمِ فَنَقُولُ مَحِلُّ إقَامَةِ هذا
الْحُكْمِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ فَإِنْ كان الْحُكْمُ هو الْقَتْلُ
بِأَنْ قَتَلَ أو أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ أو الْحَبْسُ بِأَنْ لم يَأْخُذْ
الْمَالَ ولم يَقْتُلْ وَلَكِنَّهُ خَوَّفَ لَا غَيْرُ فَمَحِلُّ إقَامَتِهِ
النَّفْسُ
وَإِنْ كان الْحُكْمُ هو الْقَطْعُ بِأَنْ أَخَذَ الْمَالَ لَا غَيْرُ فَمَحِلُّ
إقَامَتِهِ الْيَدُ اليمين ( ( ( اليمنى ) ) ) وَالرِّجْلُ الْيُسْرَى لِقَوْلِهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { أو تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ من خِلَافٍ }
وَيُعْتَبَرُ في ذلك سَلَامَةُ الْيَدِ الْيُسْرَى وَالرِّجْلِ الْيُمْنَى على ما
ذَكَرْنَا في كِتَابِ السَّرِقَةِ
وَكَذَلِكَ حُكْمُ فِعْلِ الْحَدَّادِ إذَا قَطَعَ الْيَدَ الْيُسْرَى مَكَانَ
الْيُمْنَى مُتَعَمِّدًا أو مُخْطِئًا وَحُكْمُ فِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ إذَا قَطَعَ
الْيَدَ الْيُسْرَى خَطَأً أو عَمْدًا هَهُنَا
____________________
(7/95)
مِثْلُ
الْحُكْمِ في السَّرِقَة وقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ فيه في كِتَابِ
السَّرِقَةِ
وَكَذَا مَحِلُّ الْقَطْعِ من الْيَدِ الْيُمْنَى هو الْمَفْصِلُ كما في
السَّرِقَةِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يُقِيمُ هذا الْحُكْمَ فَاَلَّذِي يُقِيمُهُ
الْإِمَامُ أو من وَلَّاهُ الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ
ليس إلَى الْأَوْلِيَاءِ وَلَا إلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ بَلْ يُقِيمُهُ
الْإِمَامُ طَالَبَ الْأَوْلِيَاءُ وَأَرْبَابُ الْأَمْوَالِ بِالْإِقَامَةِ أو لم
يُطَالِبُوا وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الْمَوْلَى يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ على مَمْلُوكِهِ من غَيْرِ تَوْلِيَةِ
الْإِمَامِ وَالْكَلَامُ في هذا الْفَصْلِ على الِاسْتِقْصَاءِ ذَكَرْنَاهُ في
كِتَابِ الْحُدُودِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسْقِطُ هذا الْحُكْمَ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَالْمُسْقِطُ
له بَعْدَ الْوُجُوبِ أَشْيَاءُ ذَكَرْنَاهَا في كِتَابِ السَّرِقَةِ منها
تَكْذِيبُ الْمَقْطُوعِ عليه الْقَاطِعَ في إقْرَارِهِ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ
أَنَّهُ لم يَقْطَعْ عليه الطَّرِيقَ
وَمِنْهَا رُجُوعُ الْقَاطِعِ عن إقْرَارِهِ يقطع ( ( ( بقطع ) ) ) الطَّرِيقِ
وَمِنْهَا تَكْذِيبُ الْمَقْطُوعِ عليه الْبَيِّنَةَ
وَمِنْهَا مِلْكُ الْقَاطِعِ الْمَقْطُوعَ له وهو الْمَالُ قبل التَّرَافُعِ أو
بَعْدَهُ على التَّفْصِيلِ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ
السَّرِقَةِ
وَمِنْهَا تَوْبَةُ الْقَاطِعِ قبل أَنْ يَقْدِرَ عليه لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
إلَّا الَّذِينَ تَابُوا من قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عليهم فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أَيْ رَجَعُوا عَمَّا فَعَلُوا فَنَدِمُوا على ذلك
وَعَزَمُوا على أَنْ لَا يفعلون ( ( ( يفعلوا ) ) ) مثله في الْمُسْتَقْبَلِ
فَدَلَّتْ هذه الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ على أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ إذَا تَابَ قبل
أَنْ يُظْفَرَ بِهِ يَسْقُطُ عنه الْحَدُّ وَتَوْبَتُهُ بِرَدِّ الْمَالِ على
صَاحِبِهِ إنْ كان أَخَذَ الْمَالَ لَا غَيْرُ مع الْعَزْمِ على أَنْ لَا يَفْعَلَ
مثله في الْمُسْتَقْبَلِ وَيَسْقُطُ عنه الْقَطْعُ أَصْلًا وَيَسْقُطُ عن
الْقَتْلُ حَدًّا
وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ حتى لم يَكُنْ لِلْإِمَامِ أَنْ
يَقْتُلَهُ وَلَكِنْ يَدْفَعُهُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ لِيَقْتُلُوهُ
قِصَاصًا إنْ كان الْقَتْلُ بِسِلَاحٍ على ما نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
وَإِنْ لم يَأْخُذْ الْمَالَ ولم يَقْتُلْ فَتَوْبَتُهُ النَّدَمُ على ما فَعَلَ
وَالْعَزْمُ على تَرْكِ مِثْلِهِ في الْمُسْتَقْبَلِ وهو أَنْ يَأْتِيَ الْإِمَامَ
عن طَوْعٍ وَاخْتِيَارٍ وَيُظْهِرَ التَّوْبَةَ عِنْدَهُ وَيَسْقُطُ عنه الْحَبْسُ
لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتَّوْبَةِ وقد تَابَ فَلَا مَعْنًى لِلْحَبْسِ
وَكَذَلِكَ السَّرِقَةُ الصُّغْرَى إذَا تَابَ السَّارِقُ قبل أَنْ يُظْفَرَ بِهِ
وَرَدَّ الْمَالَ إلَى صَاحِبِهِ يَسْقُطُ عنه الْقَطْعُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ
أنها لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ في السَّرِقَةِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى
لِأَنَّ مَحِلَّ الْجِنَايَةِ خَالِصُ حَقِّ الْعِبَادِ وَالْخُصُومَةُ تَنْتَهِي
بِالتَّوْبَةِ وَالتَّوْبَةُ تَمَامُهَا بِرَدِّ الْمَالِ إلَى صَاحِبِهِ فإذا
وَصَلَ الْمَالُ إلَى صَاحِبِهِ لم يَبْقَ له حَقُّ الْخُصُومَةِ مع السَّارِقِ
بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ فإن الْخُصُومَةَ فيها لَيْسَتْ بِشَرْطٍ
فَعَدَمُهَا لَا يَمْنَعُ من إقَامَةِ الْحُدُودِ وفي حَدِّ الْقَذْفِ إنْ كانت
شَرْطًا لَكِنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالتَّوْبَةِ لِأَنَّ بُطْلَانَهَا بِرَدِّ
الْمَالِ إلَى صَاحِبِهِ ولم يُوجَدْ
وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كَتَبَ إلَيْهِ
عَامِلُهُ بِالْبَصْرَةِ إن حَارِثَةَ بن زَيْدٍ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَسَعَى في الْأَرْضِ فَسَادًا
فَكَتَبَ إلَيْهِ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ حَارِثَةَ قد تَابَ
قبل أَنْ تَقْدِرَ عليه فَلَا تَتَعَرَّضْ له إلَّا بِخَيْرٍ
هذا إذَا تَابَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ قبل الْقُدْرَةِ عليه فَأَمَّا إذَا تَابَ
بعدما قُدِرَ عليه بِأَنْ أَخَذَ ثُمَّ تَابَ لَا يَسْقُطُ عنه الْحَدُّ لِأَنَّ
التَّوْبَةَ عن السَّرِقَةِ إذَا أَخَذَ الْمَالَ بِرَدِّ الْمَالِ على صَاحِبِهِ
وَبَعْدَ الْأَخْذِ لَا يَكُونُ رَدُّ الْمَالِ بَلْ يَكُونُ اسْتِرْدَادًا منه
جَبْرًا فَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ وإذا لم يَأْخُذْ الْمَالَ فَهُوَ بَعْدَ
الْأَخْذِ مُتَّهَمٌ في إظْهَارِ التَّوْبَةِ فَلَا تَتَحَقَّقُ تَوْبَتُهُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ سُقُوطِ الْحَدِّ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَحُكْمُ عَدَمِ
الْوُجُوبِ لِمَانِعٍ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إذَا سَقَطَ الْحَدُّ
بَعْدَ التَّوْبَةِ قبل أَنْ يُقْدَرَ عليهم فَإِنْ كَانُوا أَخَذُوا الْمَالَ لَا
غَيْرُ رَدُّوهُ على صَاحِبِهِ إنْ كان قَائِمًا وَإِنْ كان هَالِكًا أو
مُسْتَهْلَكًا فَعَلَيْهِمْ الضَّمَانُ وَإِنْ كَانُوا قَتَلُوا لَا غَيْرُ
يُدْفَعُ من قَتَلَ منهم بِسِلَاحٍ إلَى الْأَوْلِيَاءِ لِيَقْتُلُوهُ أو يعفو ( (
( يعفوا ) ) ) عنه
وَمَنْ قَتَلَ بِعَصًا أو حَجَرٍ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ لِوَرَثَةِ
الْمَقْتُولِ وَإِنْ كَانُوا أَخَذُوا الْمَالَ وَقَتَلُوا فَحُكْمُ أَخْذِ
الْمَالِ وَالْقَتْلِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ ما هو حُكْمُهُمَا عِنْدَ
الِانْفِرَادِ وقد ذَكَرْنَاهُ
وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَدَّ إذَا سَقَطَ بِالتَّوْبَةِ قبل
الْقُدْرَةِ صَارَ حُكْمُ الْقَتْلِ وَأَخْذُ الْمَالِ وَهَلَاكُهُ
وَاسْتِهْلَاكُهُ ما هو حُكْمُهَا في غَيْرِ قَطْعِ الطَّرِيقِ ما قُلْنَا وَإِنْ
كَانُوا أَخَذُوا الْمَالَ وَجَرَحُوا أو أَخَذُوا الْمَالَ وَقَتَلُوا وَجَرَحُوا
قَوْمًا أو جَرَحُوا قَوْمًا ولم يَكُنْ منهم أَخْذٌ وَلَا قَتْلٌ فَحُكْمُ
الْقَتْلِ وَالْمَالِ ما ذَكَرْنَا وَالْجِرَاحَاتُ فيها الْقِصَاصُ فِيمَا
يَقْدِرُ
____________________
(7/96)
فيه
على الْقِصَاصِ وَالْأَرْشُ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عليه لِأَنَّ عِنْدَ سُقُوطِ
الْحَدِّ صَارَ كَأَنَّ الْجِرَاحَةَ حَصَلَتْ من غَيْرِ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَلَوْ
كان كَذَلِكَ كان حُكْمُهُ ما ذَكَرْنَا فَكَذَا هذا
وَكَذَلِكَ إنْ قُدِرَ عليهم قبل التَّوْبَةِ ولم يَكُنْ منهم قَتْلٌ وَلَا أَخْذُ
مَالٍ وقد أَخَافُوا قَوْمًا بِجِرَاحَاتٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا يُسْتَطَاعُ
فيه الِاقْتِصَاصُ
وَالدِّيَةُ فِيمَا لَا يُسْتَطَاعُ فَيُودَعُونَ السِّجْنَ لِأَنَّ الْحَبْسَ
وَجَبَ عليهم تَعْزِيرًا لَا حَدًّا وَالتَّعْزِيرُ لَا تَدْخُلُ فيه الْجِرَاحَةُ
بِخِلَافِ ما إذَا قُدِرَ عليهم قبل التَّوْبَةِ وقد قَتَلُوا أو أَخَذُوا
الْمَالَ أو جَمَعُوا بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ فيه الْحَدُّ فَيَدْخُلُ فيه
الْجِرَاحَةُ
وَكَذَلِكَ إذَا سَقَطَ الْحَدُّ بِالرُّجُوعِ عن الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ
عن الْإِقْرَارِ يَصِحُّ في حَقِّ سُقُوطِ الْحَدِّ وَلَا يَصِحُّ في حَقِّ
ضَمَانِ الْمَالِ وَالْقِصَاصِ فَبَقِيَ إقْرَارُهُ مُعْتَبَرًا في حَقِّهِمَا
وَأَمَّا إذَا كان السُّقُوطُ بِتَكْذِيبِ الْحُجَّةِ من الْإِقْرَارِ أو
الْبَيِّنَةِ لَا شَيْءَ عليهم لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ لم يَثْبُتْ لِأَنَّ
ثُبُوتَهُ بِالْحُجَّةِ وقد بَطَلَتْ أَصْلًا وَرَأْسًا بِخِلَافِ الرُّجُوعِ عن
الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ حُجَّةٌ في حَقِّهِ
إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ بَعْدَ الرُّجُوعِ في حَقِّ الْحَدِّ
دَرْءًا لِلْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ فَبَقِيَ مُعْتَبَرًا في حَقِّ ضَمَانِ الْمَالِ
وَالْقِصَاصِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَعَلَى هذا حُكْمُ عَدَمِ الْوُجُوبِ لِمَانِعٍ بِأَنْ فَاتَ شَرْطٌ من شَرَائِطِ
وُجُوبِ الْحَدِّ نحو نُقْصَانِ النِّصَابِ بِأَنْ كان الْمَأْخُوذُ من الْمَالِ
لَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ منهم عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَنَّهُمْ يَرُدُّونَهُ إنْ
كان قَائِمًا وَيَضْمَنُونَ إنْ كان هَالِكًا أو مُسْتَهْلَكًا وَمَنْ قَتَلَ منهم
فَإِنْ كان بِسِلَاحٍ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَإِنْ كان بِعَصًا أو حَجَرٍ فَعَلَى
عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ
وَمَنْ جَرَحَ يُقْتَصُّ منه فِيمَا يُمْكِنُ الْقِصَاصُ وَفِيمَا لَا يُمْكِنُ
يَجِبُ الْأَرْشُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَدَّ إذَا امْتَنَعَ وُجُوبُهُ فَقَدْ
حَصَلَ الْأَخْذُ وَالْقَتْلُ وَالْجِرَاحَةُ من غَيْرِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ
وَحُكْمُهَا في غَيْرِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ما قُلْنَا
وَكَذَلِكَ إذَا كان في الْمُحَارِبِينَ صَبِيٌّ أو مَجْنُونٌ حتى امْتَنَعَ
وُجُوبُ الْحَدِّ يُدْفَعُ كُلُّ بَالِغٍ عَاقِلٍ قَتَلَ منهم بِسِلَاحٍ إلَى
الْأَوْلِيَاءِ فَيَقْتُلُونَ أو يَعْفُونَ وَإِنْ كان الذي وَلِيَ الْقَتْلَ منهم
صَبِيٌّ أو مَجْنُونٌ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ وَإِنْ قَتَلَ بِسِلَاحٍ
لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَيْسَا من أَهْلِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ
عَلَيْهِمَا فَكَانَ عَمْدُهُمَا خَطَأً وَإِنْ كَانَا أَخَذَا الْمَالَ ضَمِنَا
لِأَنَّهُمَا من أَهْلِ وُجُوبِ ضَمَانِ الْمَالِ
وَكَذَلِكَ إذَا امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ على الْقُطَّاعِ لِمَعْنًى من
الْمَعَانِي رَجَعُوا في ذلك إلَى حُكْمِ غَيْرِ الْقُطَّاعِ وَاَللَّهُ سبحانه
وتعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْحُكْمُ الذي يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ فَهُوَ وُجُوبُ الرَّدِّ
إنْ كان قَائِمًا بِعَيْنِهِ وَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ أَيْنَمَا وَجَدَهُ
سَوَاءٌ وَجَدَهُ في يَدِ الْمُحَارِبِ أو في يَدِ من مَلَّكَهُ الْمُحَارِبُ
بِبَيْعٍ أو هِبَةٍ أو غَيْرِ ذلك وَلَوْ تَغَيَّرَ الْمَالُ إلَى الزِّيَادَةِ أو
النُّقْصَانِ فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ في كِتَابِ السَّرِقَةِ وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ السِّيَرِ وقد يُسَمَّى كِتَابَ الْجِهَادِ وَالْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ
في مَوَاضِعَ في بَيَانِ مَعْنَى السِّيَرِ وَالْجِهَادِ لُغَةً وَشَرْعًا وفي
بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْجِهَادِ وفي بَيَانِ من يُفْتَرَضُ عليه الْجِهَادُ وفي
بَيَانِ ما يَنْدُبُ إلَيْهِ الْإِمَامُ عِنْدَ بَعْثِ الْجَيْشِ أو السَّرِيَّةِ
إلَى الْجِهَادِ وفي بَيَانِ ما يَجِبُ على الْغُزَاةِ الِافْتِتَاحُ بِهِ حَالَ
شُهُودِ الْوَقْعَةِ وفي بَيَانِ من يَحِلُّ قَتْلُهُ من الْكَفَرَةِ وَمَنْ لَا
يَحِلُّ وفي بَيَانِ من يَجُوزُ تَرْكُهُ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ في دَارِ
الْحَرْبِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ
وفي بَيَانِ ما يُكْرَهُ حَمْلُهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وما لَا يُكْرَهُ وفي
بَيَانِ ما يَعْتَرِضُ من الْأَسْبَابِ الْمُحَرِّمَةِ لِلْقِتَالِ وفي بَيَانِ
حُكْمِ الْغَنَائِمِ وما يَتَّصِلُ بها
وفي بَيَانِ حُكْمِ اسْتِيلَاءِ الْكَفَرَةِ على أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وفي
بَيَانِ أَحْكَامٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ
وفي بَيَانِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ
وفي بَيَانِ أَحْكَامِ الْغُزَاةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالسِّيَرُ جَمْعُ سِيرَةٍ وَالسِّيرَةُ في اللُّغَةِ
تُسْتَعْمَلُ في مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا الطَّرِيقَةُ يُقَالُ هُمَا على سِيرَةٍ
وَاحِدَةٍ أَيْ طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ
وَالثَّانِي الهيأة ( ( ( الهيئة ) ) ) قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {
سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى } أَيْ هيأتها ( ( ( هيئتها ) ) ) فَاحْتَمَلَ
تَسْمِيَةُ هذا الْكِتَابِ كِتَابَ السِّيَرِ لِمَا فيه من بَيَانِ طُرُقِ
الْغُزَاةِ وهيآتهم ( ( ( وهيئاتهم ) ) ) مِمَّا لهم وَعَلَيْهِمْ
وَأَمَّا الْجِهَادُ في اللُّغَةِ فَعِبَارَةٌ عن بَذْلِ الْجُهْدِ بِالضَّمِّ وهو
الْوُسْعُ وَالطَّاقَةُ أو عن الْمُبَالَغَةِ في الْعَمَلِ من الْجَهْدِ بِالْفَتْحِ
وفي عُرْفِ الشَّرْعِ يُسْتَعْمَلُ في بَذْلِ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ بِالْقِتَالِ
في سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَاللِّسَانِ أو غَيْرِ ذلك أو
الْمُبَالَغَةِ في ذلك
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّةِ الْجِهَادِ فَالْأَمْرُ فيه لَا
يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ
إمَّا إنْ كان النَّفِيرُ عَامًّا وَإِمَّا إنْ لم يَكُنْ فَإِنْ لكم يَكُنْ
النَّفِيرُ عَامًّا فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَمَعْنَاهُ أَنْ يُفْتَرَضَ على
جَمِيعِ من هو من أَهْلِ الْجِهَادِ لَكِنْ إذَا قام بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عن
الْبَاقِينَ لِقَوْلِهِ عز وجل { فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ على الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى }
____________________
(7/97)
وَعَدَ
اللَّهُ عز وجل الْمُجَاهِدِينَ وَالْقَاعِدِينَ الْحُسْنَى
وَلَوْ كان الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ في الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لَمَا وَعَدَ
الْقَاعِدِينَ الْحُسْنَى لِأَنَّ الْقُعُودَ يَكُونُ حَرَامًا
وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وما كان الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ من كل فِرْقَةٍ منهم طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في
الدِّينِ } الْآيَةَ وَلِأَنَّ ما فُرِضَ له الْجِهَادُ وهو الدَّعْوَةُ إلَى
الْإِسْلَامِ وَإِعْلَاءُ الدِّينِ الْحَقِّ وَدَفْعُ شَرِّ الْكَفَرَةِ
وَقَهْرِهِمْ يَحْصُلُ بِقِيَامِ الْبَعْضِ بِهِ
وَكَذَا النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان يَبْعَثُ السَّرَايَا
وَلَوْ كان فَرْضَ عَيْنٍ في الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لَكَانَ لَا يُتَوَهَّمُ منه
الْقُعُودُ عنه في حَالٍ وَلَا أَذِنَ غَيْرَهُ بِالتَّخَلُّفِ عنه بِحَالٍ وإذا
كان فَرْضًا على الْكِفَايَةِ فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُخَلِّيَ ثَغْرًا
من الثُّغُورِ من جَمَاعَةٍ من الْغُزَاةِ فِيهِمْ غنا ( ( ( غنى ) ) )
وَكِفَايَةٌ لِقِتَالِ الْعَدُوِّ فإذا قَامُوا بِهِ يَسْقُطُ عن الْبَاقِينَ
وَإِنْ ضَعُفَ أَهْلُ ثَغْرٍ عن مُقَاوَمَةِ الْكَفَرَةِ وَخِيفَ عليهم من
الْعَدُوِّ فَعَلَى من وَرَاءَهُمْ من الْمُسْلِمِينَ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ
أَنْ يَنْفِرُوا إلَيْهِمْ وَأَنْ يَمُدُّوهُمْ بِالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ
وَالْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ فُرِضَ على الناس كُلِّهِمْ مِمَّنْ هو من
أَهْلِ الْجِهَادِ لَكِنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ عَنْهُمْ بِحُصُولِ الْكِفَايَةِ
بِالْبَعْضِ فما لم يَحْصُلْ لَا يَسْقُطُ وَلَا يُبَاحُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَخْرُجَ
إلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ وَلَا الْمَرْأَةُ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا لِأَنَّ
خِدْمَةَ الْمَوْلَى وَالْقِيَامَ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ كُلُّ ذلك فَرْضُ
عَيْنٍ فَكَانَ مُقَدَّمًا على فَرْضِ الْكِفَايَةِ
وَكَذَا الْوَلَدُ لَا يَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِ وَالِدَيْهِ أو أَحَدِهِمَا إذَا
كان الْآخَرُ مَيِّتًا لِأَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ فَكَانَ
مُقَدَّمًا على فَرْضِ الْكِفَايَةِ
وَالْأَصْلُ إن كُلَّ سَفَرٍ لَا يُؤْمَنُ فيه الْهَلَاكُ وَيَشْتَدُّ فيه
الْخَطَرُ لَا يخل ( ( ( يحل ) ) ) لَلْوَلَدِ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ بِغَيْرِ
إذْنِ وَالِدِيهِ لِأَنَّهُمَا يُشْفِقَانِ على وَلَدِهِمَا فَيَتَضَرَّرَانِ
بِذَلِكَ
وَكُلُّ سَفَرٍ لَا يَشْتَدُّ فيه الْخَطَرُ يَحِلُّ له أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ
بِغَيْرِ إذْنِهِمَا إذ لم يُضَيِّعْهُمَا لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من رَخَّصَ في سَفَرِ التَّعَلُّمِ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا
لِأَنَّهُمَا لَا يَتَضَرَّرَانِ بِذَلِكَ بَلْ يَنْتَفِعَانِ بِهِ فَلَا
يَلْحَقُهُ سِمَةُ الْعُقُوقِ
هذا إذَا لم يَكُنْ النَّفِيرُ عَامًّا فَأَمَّا إذَا عَمَّ النَّفِيرُ بِأَنْ
هَجَمَ الْعَدُوُّ على بَلَدٍ فَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ يُفْتَرَضُ على كل وَاحِدٍ من
آحَادِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ هو قَادِرٌ عليه لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
{ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } قِيلَ نَزَلَتْ في النَّفِيرِ
وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { ما كان لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ
حَوْلَهُمْ من الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عن رسول اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا
بِأَنْفُسِهِمْ عن نَفْسِهِ } وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ على الْكُلِّ قبل عُمُومِ
النَّفِيرِ ثَابِتٌ لِأَنَّ السُّقُوطَ عن الْبَاقِينَ بِقِيَامِ الْبَعْضِ بِهِ
فإذا عَمَّ النَّفِيرُ لَا يَتَحَقَّقُ الْقِيَامُ بِهِ إلَّا بِالْكُلِّ فَبَقِيَ
فَرْضًا على الْكُلِّ عَيْنًا بِمَنْزِلَةِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فَيَخْرُجُ
الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَالْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا
لِأَنَّ مَنَافِعَ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ في حَقِّ الْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ
عَيْنًا مُسْتَثْنَاةً عن مِلْكِ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ شَرْعًا كما في الصَّوْمِ
وَالصَّلَاةِ
وَكَذَا يُبَاحُ لِلْوَلَدِ أَنْ يَخْرُجَ بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدَيْهِ لِأَنَّ
حَقَّ الْوَالِدَيْنِ لَا يَظْهَرُ في فُرُوضِ الْأَعْيَانِ كَالصَّوْمِ
وَالصَّلَاةِ
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يُفْتَرَضُ عليه فَنَقُولُ إنَّهُ لَا يُفْتَرَضُ
إلَّا على الْقَادِرِ عليه فَمَنْ لَا قُدْرَةَ له لَا جِهَادَ عليه
لِأَنَّ الْجِهَادَ بَذْلُ الْجُهْدِ وهو الْوُسْعُ وَالطَّاقَةُ بِالْقِتَالِ أو
الْمُبَالَغَةُ في عَمَلِ الْقِتَالِ
وَمَنْ لَا وُسْعَ له كَيْفَ يَبْذُلُ الْوُسْعَ وَالْعَمَلَ فَلَا يُفْرَضُ على
الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالزَّمِنِ وَالْمُقْعَدِ وَالشَّيْخِ الْهَرِمِ
وَالْمَرِيضِ وَالضَّعِيفِ وَاَلَّذِي لَا يَجِدُ ما يُنْفِقُ
قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { ليس على الْأَعْمَى حَرَجٌ } الْآيَةَ
وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عز من قَائِلٍ { ليس على الضُّعَفَاءِ وَلَا على
الْمَرْضَى وَلَا على الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذَا
نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } فَقَدْ عَذَرَ اللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ هَؤُلَاءِ
بِالتَّخَلُّفِ عن الْجِهَادِ وَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْهُمْ
وَلَا جِهَادَ على الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ لِأَنَّ بِنْيَتَهُمَا لَا تَحْتَمِلُ
الْحَرْبَ عَادَةً
وَعَلَى هذا الْغُزَاةُ إذَا جَاءَهُمْ جَمْعٌ من الْمُشْرِكِينَ ما لَا طَاقَةَ
لهم بِهِ وَخَافُوهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ فَلَا بَأْسَ لهم أَنْ يَنْحَازُوا إلَى
بَعْضِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أو إلَى بَعْضِ جُيُوشِهِمْ
وَالْحُكْمُ في هذا الْبَابِ لِغَالِبِ الرَّأْيِ وَأَكْبَرِ الظَّنِّ دُونَ
الْعَدَدِ
فَإِنْ غَلَبَ على ظَنِّ الْغُزَاةِ أَنَّهُمْ يُقَاوِمُونَهُمْ يَلْزَمُهُمْ الثَّبَاتُ
وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ عَدَدًا منهم وَإِنْ كان غَالِبُ ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ
يَغْلِبُونَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْحَازُوا إلَى الْمُسْلِمِينَ لِيَسْتَعِينُوا
بِهِمْ وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ عَدَدًا من الْكَفَرَةِ
وَكَذَا الْوَاحِدُ من الْغُزَاةِ ليس معه سِلَاحٌ مع اثْنَيْنِ منهم مَعَهُمَا
سِلَاحٌ أو مع وَاحِدٍ منهم من الكفر ( ( ( الكفرة ) ) ) وَمَعَهُ سِلَاحٌ لَا
بَأْسَ أَنْ يُوَلِّيَ دُبُرَهُ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ
وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أو مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ
بِغَضَبٍ من اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
____________________
(7/98)
اللَّهُ
عز شَأْنُهُ نهى الْمُؤْمِنِينَ عن تَوْلِيَةِ الْأَدْبَارِ عَامًّا بِقَوْلِهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ
كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمْ الْأَدْبَارَ } وَأَوْعَدَ عليهم بِقَوْلِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا
مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أو مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ من
اللَّهِ } الْآيَةَ لِأَنَّ في الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا
مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمْ الْأَدْبَارَ
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ من اللَّهِ ثُمَّ
اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من ( ( ( ومن ) ) ) يُوَلِّي دُبُرَهُ لِجِهَةٍ
مَخْصُوصَةٍ فقال عز من قَائِلٍ { إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أو مُتَحَيِّزًا
إلَى فِئَةٍ } وَالِاسْتِثْنَاءُ من الْحَظْرِ إبَاحَةٌ فَكَانَ الْمَحْظُورُ
تَوْلِيَةً مَخْصُوصَةً وَهِيَ أَنْ يُوَلِّيَ دُبُرَهُ غير محرف ( ( ( متحرف ) )
) لِقِتَالٍ وَلَا مُتَحَيِّزٍ إلَى فِئَةٍ فَبَقِيَتْ التَّوْلِيَةُ إلَى جِهَةِ
التَّحَرُّفِ وَالتَّحَيُّزِ مُسْتَثْنَاةً من الْحَظْرِ فَلَا تَكُونُ
مَحْظُورَةً وَنَظِيرُ هذه الْآيَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { من كَفَرَ
بِاَللَّهِ من بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا من أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ
بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ من شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ من
اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أنه على التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ على ما
نَذْكُرُهُ في كِتَابِ الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ تَبَيَّنَ
أَنَّ الْآيَةَ الشَّرِيفَةَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ
وَكَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ
صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } وَقَوْلُهُ { وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
يَغْلِبُوا أَلْفًا } ليس بِمَنْسُوخٍ
لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ لِلتَّحَيُّزِ إلَى فِئَةٍ خَصَّ فيها فلم تَكُنْ
الْآيَتَانِ مَنْسُوخَتَيْنِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَالدَّلِيلُ عليه قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِينَ فَرُّوا إلَى
الْمَدِينَةِ وهو فيها أَنْتُمْ الْكَرَّارُونَ أنا فِئَةُ كل مُسْلِمٍ أَخْبَرَ
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الْمُتَحَيِّزَ إلَى فِئَةٍ كَرَّارٌ وَلَيْسَ
بِفَرَّارٍ من الزَّحْفِ فَلَا يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ
وَعَلَى هذا إذَا كانت الْغُزَاةُ في سَفِينَةٍ فَاحْتَرَقَتْ السَّفِينَةُ
وَخَافُوا الْغَرَقَ حَكَّمُوا فيه غَالِبَ رَأْيِهِمْ وَأَكْبَرَ ظَنِّهِمْ
فَإِنْ غَلَبَ على رَأْيِهِمْ أَنَّهُمْ لو طَرَحُوا أَنْفُسَهُمْ في الْبَحْرِ
لينجو ( ( ( لينجوا ) ) ) بِالسِّبَاحَةِ وَجَبَ عليهم الطرح ( ( ( الطرق ) ) )
لِيَسْبَحُوا فَيَتَحَيَّزُوا إلَى فِئَةٍ وَإِنْ اسْتَوَى جَانِبَا الْحَرْقِ
وَالْغَرَقِ بِأَنْ كان إذَا قَامُوا حُرِّقُوا وإذا طَرَحُوا غَرِقُوا فَلَهُمْ
الْخِيَارُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وقال
مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ لهم أَنْ يَطْرَحُوا أَنْفُسَهُمْ في
الْمَاءِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمْ لو أَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ في الْمَاءِ لَهَلَكُوا
وَلَوْ أَقَامُوا في السَّفِينَةِ لَهَلَكُوا أَيْضًا إلَّا أَنَّهُمْ لو طَرَحُوا
لَهَلَكُوا بِفِعْلِ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ صَبَرُوا لَهَلَكُوا بِفِعْلِ الْعَدُوِّ
فَكَانَ الصَّبْرُ أَقْرَبَ إلَى الْجِهَادِ فَكَانَ أُولَى
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ اسْتَوَى الْجَانِبَانِ في الْإِفْضَاءِ إلَى
الْهَلَاكِ فَيَثْبُتُ لهم الْخِيَارُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْهَلَاكُ
بِالْغَرَقِ أَرْفَقَ قَوْلُهُ لو أَقَامُوا لَهَلَكُوا بِفِعْلِ الْعَدُوِّ قلنا
( ( ( وقلنا ) ) ) وَلَوْ طَرَحُوا لَهَلَكُوا بِفِعْلِ الْعَدُوِّ أَيْضًا إذْ
الْعَدُوُّ هو الذي أَلْجَأَهُمْ إلَيْهِ فَكَانَ الْهَلَاكُ في الْحَالَيْنِ
مُضَافًا إلَى فِعْلِ الْعَدُوِّ ثُمَّ قد يَكُونُ الْهَلَاكُ بِالْغَرَقِ
أَسْهَلَ فَيَثْبُتُ لهم الْخِيَارُ
وَلَوْ طُعِنَ مُسْلِمٌ بِرُمْحٍ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمْشِيَ إلَى من طَعَنَهُ من
الْكَفَرَةِ حتى يُجْهِزَهُ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِالْمَشْيِ إلَيْهِ بَذْلَ
نَفْسِهِ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَحْرِيضَ
الْمُؤْمِنِينَ على أَنْ لَا يَبْخَلُوا بِأَنْفُسِهِمْ في قِتَالِ أَعْدَاءِ
اللَّهِ فَكَانَ جَائِزًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُنْدَبُ إلَيْهِ الْإِمَامُ عِنْدَ بَعْثِ الْجَيْشِ
أو السَّرِيَّةِ إلَى الْجِهَادِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إنَّهُ
يُنْدَبُ إلَى أَشْيَاءَ منها أَنْ يُؤَمِّرَ عليهم أَمِيرًا لِأَنَّ النبي صلى
الله عليه وسلم ما بَعَثَ جَيْشًا إلَّا وَأَمَّرَ عليهم أَمِيرًا لأن الْحَاجَةَ
إلَى الْأَمِيرِ مَاسَةٌ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ من تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ
وَسِيَاسَةِ الرَّعِيَّةِ وَلَا يَقُومُ ذلك إلَّا بِالْأَمِيرِ لِتَعَذُّرِ
الرُّجُوعِ في كل حَادِثَةٍ إلَى الْإِمَامِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الذي يُؤَمَّرُ عليهم عَالِمًا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ
عَدْلًا عَارِفًا بِوُجُوهِ السِّيَاسَاتِ بَصِيرًا بِتَدَابِيرِ الْحُرُوبِ
وَأَسْبَابِهَا لِأَنَّهُ لو لم يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَحْصُلُ ما
يُنْصَبُ له الْأَمِيرُ
وَمِنْهَا أَنْ يُوصِيَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ عز شَأْنُهُ في خَاصَّةِ نَفْسِهِ
وَبِمَنْ معه من الْمُؤْمِنِينَ خَيْرًا
كَذَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ كان إذَا بَعَثَ
جَيْشًا أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في نَفْسِهِ خَاصَّةً
وَبِمَنْ معه من الْمُؤْمِنِينَ خَيْرًا وَلِأَنَّ الْإِمَارَةَ أَمَانَةٌ
عَظِيمَةٌ فَلَا يَقُومُ بها إلَّا الْمُتَّقِي وإذا أَمَّرَ عليهم يُكَلِّفُهُمْ
طَاعَةَ الْأَمِيرِ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَيَنْهَاهُمْ عنه لِقَوْلِ اللَّهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } وقال عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَلَوْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ
أَجْدَعُ ما حَكَمَ فِيكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّهُ نَائِبُ
الْإِمَامِ وَطَاعَةُ الْإِمَامِ لَازِمَةٌ كَذَا طَاعَتُهُ لِأَنَّهَا طَاعَةُ
الْإِمَامِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُمْ
____________________
(7/99)
بِمَعْصِيَةٍ
فَلَا تَجُوزُ طَاعَتُهُمْ إيَّاهُ فيها لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَلَوْ أَمَرَهُمْ بِشَيْءٍ لَا
يَدْرُونَ أَيَنْتَفِعُونَ بِهِ أَمْ لَا فَيَنْبَغِي لهم أَنْ يُطِيعُوهُ فيه
إذَا لم يَعْلَمُوا كَوْنَهُ مَعْصِيَةً لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْإِمَامِ في مَحَلِّ
الِاجْتِهَادِ وَاجِبٌ كَاتِّبَاعِ الْقُضَاةِ في مَوَاضِعِ الِاجْتِهَادِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَجِبُ على الْغُزَاةِ الِافْتِتَاحُ بِهِ حَالَةَ
الْوَقْعَةِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إنَّ
الْأَمْرَ فيه لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إن كانت الدَّعْوَةُ قد
بَلَغَتْهُمْ وَإِمَّا إن كانت لم تَبْلُغْهُمْ فَإِنْ كانت الدَّعْوَةُ لم
تَبْلُغْهُمْ فَعَلَيْهِمْ الِافْتِتَاحُ بِالدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ
بِاللِّسَانِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { اُدْعُ إلَى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ } وَلَا يَجُوزُ لهم الْقِتَالُ قبل الدَّعْوَةِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ
وَإِنْ وَجَبَ عليهم قبل بُلُوغِ الدَّعْوَةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ فَاسْتَحَقُّوا
الْقَتْلَ بِالِامْتِنَاعِ لَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَرَّمَ
قِتَالَهُمْ قبل بَعْثِ الرَّسُولِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبُلُوغِ
الدَّعْوَةِ إيَّاهُمْ فَضْلًا منه وَمِنَّةً قَطْعًا لِمَعْذِرَتِهِمْ
بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ كان لَا عُذْرَ لهم في الْحَقِيقَةِ لِمَا أَقَامَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ التي لو تَأَمَّلُوهَا
حَقَّ التَّأَمُّلِ وَنَظَرُوا فيها لَعَرَفُوا حَقَّ اللَّهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى عليهم لَكِنْ تَفَضَّلَ عليهم بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ
وَسَلَامُهُ عليهم أجْمَعِينَ لِئَلَّا يَبْقَى لهم شُبْهَةُ عُذْرٍ { لقالوا ( (
( فيقولوا ) ) ) رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ
آيَاتِكَ } وَإِنْ لم يَكُنْ لهم أَنْ يَقُولُوا ذلك في الْحَقِيقَةِ لِمَا
بَيَّنَّا وَلِأَنَّ الْقِتَالَ ما فُرِضَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلدَّعْوَةِ إلَى
الْإِسْلَامِ وَالدَّعْوَةُ دَعْوَتَانِ دَعْوَةٌ بِالْبَنَانِ وَهِيَ الْقِتَالُ
وَدَعْوَةٌ بِالْبَيَانِ وهو اللِّسَانُ وَذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ وَالثَّانِيَةُ
أَهْوَنُ من الْأُولَى لِأَنَّ في الْقِتَالِ مُخَاطَرَةَ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ
وَالْمَالِ وَلَيْسَ في دَعْوَةِ التَّبْلِيغِ شَيْءٌ من ذلك فإذا احْتَمَلَ
حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِأَهْوَنِ الدَّعْوَتَيْنِ لَزِمَ الِافْتِتَاحُ بها
هذا إذَا كانت الدَّعْوَةُ لم تَبْلُغْهُمْ فَإِنْ كانت قد بَلَغَتْهُمْ جَازَ لهم
أَنْ يَفْتَتِحُوا الْقِتَالَ من غَيْرِ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ لِمَا بَيَّنَّا
أَنَّ الْحُجَّةَ لَازِمَةٌ وَالْعُذْرُ في الْحَقِيقَةِ مُنْقَطِعٌ وَشُبْهَةُ
الْعُذْرِ انْقَطَعَتْ بِالتَّبْلِيغِ مَرَّةً لَكِنْ مع هذا الْأَفْضَلُ أَنْ لَا
يَفْتَتِحُوا الْقِتَالَ إلَّا بَعْدَ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ لِرَجَاءِ
الْإِجَابَةِ في الْجُمْلَةِ
وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لم يَكُنْ يُقَاتِلُ
الْكَفَرَةَ حتى يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فِيمَا كان دَعَاهُمْ غير مَرَّةٍ
دَلَّ أَنَّ الِافْتِتَاحَ بِتَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ أَفْضَلُ ثُمَّ إذَا
دَعَوْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْهُمْ الْقِتَالَ
لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الناس حتى
يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فإذا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا
وَقَوْلِهِ عليه السلام من قال لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي
دَمَهُ وَمَالَهُ فَإِنْ أَبَوْا الْإِجَابَةَ إلَى الْإِسْلَامِ دَعَوْهُمْ إلَى
الذِّمَّةِ إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدُ فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْهُمْ لِقَوْلِهِ عليه
السلام فَإِنْ قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لهم ما
لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ ما على الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَبَوْا اسْتَعَانُوا
بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على قِتَالِهِمْ وَوَثَّقُوا بِعَهْدِ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى النَّصْرَ لهم بَعْدَ أَنْ بَذَلُوا جُهْدَهُمْ
وَاسْتَفْرَغُوا وُسْعَهُمْ وَثَبَتُوا وَأَطَاعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى وَرَسُولَهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا على ما
قال تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً
فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ
وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مع الصَّابِرِينَ } وَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ وَإِنْ
لم يبدؤوا ( ( ( يبدءوا ) ) ) بِالدَّعْوَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَسَوَاءٌ كان في
الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أو في غَيْرِهَا لِأَنَّ حُرْمَةَ الْقِتَالِ في
الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ السَّيْفِ وَغَيْرِهَا من
آيَاتِ الْقِتَالِ
وَلَا بَأْسَ بِالْإِغَارَةِ وَالْبَيَاتِ عليهم وَلَا بَأْسَ بِقَطْعِ
أَشْجَارِهِمْ الْمُثْمِرَةِ وَغَيْرِ الْمُثْمِرَةِ وَإِفْسَادِ زُرُوعِهِمْ
لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { ما قَطَعْتُمْ من لِينَةٍ أو تَرَكْتُمُوهَا
قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ }
أَذِنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَطْعِ النَّخِيلِ في صَدْرِ الْآيَةِ
الشَّرِيفَةِ وَنَبَّهَ في آخِرِهَا أَنَّ ذلك يَكُونُ كَبْتًا وَغَيْظًا
لِلْعَدُوِّ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ }
وَلَا بَأْسَ بِإِحْرَاقِ حُصُونِهِمْ بِالنَّارِ وَإِغْرَاقِهَا بِالْمَاءِ
وَتَخْرِيبِهَا وَهَدْمِهَا عليهم وَنَصْبِ الْمَنْجَنِيقِ عليها لِقَوْلِهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ } وَلِأَنَّ كُلَّ ذلك من بَابِ الْقِتَالِ لِمَا فيه من قَهْرِ
الْعَدُوِّ وَكَبْتِهِمْ وَغَيْظِهِمْ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْأَمْوَالِ لِحُرْمَةِ
أَرْبَابِهَا وَلَا حُرْمَةَ لِأَنْفُسِهِمْ حتى يُقْتَلُونَ فَكَيْفَ
لِأَمْوَالِهِمْ وَلَا بَأْسَ بِرَمْيِهِمْ بِالنِّبَالِ وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّ
فِيهِمْ مُسْلِمِينَ من الْأَسَارَى وَالتُّجَّارِ لِمَا فيه من الضَّرُورَةِ إذْ
حُصُونُ الْكَفَرَةِ قَلَّمَا تَخْلُو من مُسْلِمٍ أَسِيرٍ أو تَاجِرٍ
فَاعْتِبَارُهُ يُؤَدِّي إلَى انْسِدَادِ بَابِ
____________________
(7/100)
الْجِهَادِ
وَلَكِنْ يَقْصِدُونِ بِذَلِكَ الْكَفَرَةَ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ لَا
ضَرُورَةَ في الْقَصْدِ إلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَكَذَا إذَا تَتَرَّسُوا بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِالرَّمْيِ
إلَيْهِمْ لِضَرُورَةِ إقَامَةِ الْفَرْضِ لَكِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الْكُفَّارَ
دُونَ الْأَطْفَالِ فَإِنْ رَمَوْهُمْ فَأَصَابَ مُسْلِمًا فَلَا دِيَةَ وَلَا
كَفَّارَةَ
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ وهو
أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ دَمَ الْمُسْلِمِ مَعْصُومٌ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ
يُمْنَعَ من الرَّمْيِ إلَّا أَنَّهُ لم يُمْنَعْ لِضَرُورَةِ إقَامَةِ الْفَرْضِ
فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ في رَفْعِ الْمُؤَاخَذَةِ لَا
في نَفْيِ الضَّمَانِ كَتَنَاوُلِ مال ( ( ( ماء ) ) ) الْغَيْرِ حَالَةَ
الْمَخْمَصَةِ أنه رَخَّصَ له التَّنَاوُلَ لَكِنْ يَجِبُ عليه الضَّمَانُ لِمَا
ذَكَرنَا كَذَلِكَ ههنا
وَلَنَا أَنَّهُ كما مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى دَفْعِ الْمُؤَاخَذَةِ لِإِقَامَةِ
فَرْضِ الْقِتَالِ مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى نَفْيِ الضَّمَانِ أَيْضًا لِأَنَّ
وُجُوبَ الضَّمَانِ يَمْنَعُ من إقَامَةِ الْفَرْضِ لِأَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ منه
خَوْفًا من لُزُومِ الضَّمَانِ
وَإِيجَابِ ما يَمْنَعُ من إقَامَةِ الْوَاجِبِ مُتَنَاقِضٌ وَفَرْضُ الْقِتَالِ
لم يَسْقُطْ
دَلَّ أَنَّ الضَّمَانَ سَاقِطٌ بِخِلَافِ حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ
لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ هُنَاكَ لَا يَمْنَعُ من التَّنَاوُلِ
لِأَنَّهُ لو لم يَتَنَاوَلْ لَهَلَكَ
وَكَذَا حَصَلَ له مِثْلُ ما يَجِبُ عليه فَلَا يَمْنَعُ من التَّنَاوُلِ فَلَا
يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ
وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِالْكُفَّارِ على قِتَالِ
الْكُفَّارِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ غَدْرُهُمْ
إذْ الْعَدَاوَةُ الدِّينِيَّةُ تَحْمِلُهُمْ عليه إلَّا إذَا اُضْطُرُّوا
إلَيْهِمْ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يَحِلُّ قَتْلُهُ من الْكَفَرَةِ وَمَنْ لَا يَحِلُّ
فَنَقُولُ الْحَالُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَالَ الْقِتَالِ أو حَالَ ما
بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْقِتَالِ
وَهِيَ ما بَعْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ
أَمَّا حَالَ الْقِتَالِ فَلَا يَحِلُّ فيها قَتْلُ امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ وَلَا
شَيْخٍ فَانٍ وَلَا مُقْعَدٍ وَلَا يَابِسِ الشِّقِّ
وَلَا أَعْمَى وَلَا مَقْطُوعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ من خِلَافٍ وَلَا مَقْطُوعِ
الْيَدِ الْيُمْنَى وَلَا مَعْتُوهٍ وَلَا رَاهِبٍ في صَوْمَعَةٍ وَلَا سَائِحٍ في
الْجِبَالِ لَا يُخَالِطُ الناس وَقَوْمٍ في دَارٍ أو كَنِيسَةٍ تَرَهَّبُوا
وَطَبَقَ عليهم الْبَابُ
أَمَّا الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ فَلِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم لَا
تَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا وَلَيَدًا وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ رَأَى في بَعْضِ غَزَوَاتِهِ امْرَأَةً مَقْتُولَةً فَأَنْكَرَ ذلك
وقال صلى الله عليه وسلم هَاهْ ما أُرَاهَا قَاتَلَتْ فَلِمَ قُتِلَتْ وَنَهَى عن
قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ
وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا من أَهْلِ الْقِتَالِ فَلَا يُقْتَلُونَ
وَلَوْ قَاتَلَ وَاحِدٌ منهم قُتِلَ
وَكَذَا لو حَرَّضَ على الْقِتَالِ أو دَلَّ على عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ أو كان
الْكَفَرَةُ يَنْتَفِعُونَ بِرَأْيِهِ أو كان مُطَاعًا وَإِنْ كان امْرَأَةً أو
صَغِيرًا لِوُجُودِ الْقِتَالِ من حَيْثُ الْمَعْنَى وقد رُوِيَ أَنَّ رَبِيعَةَ
بن رَفِيعٍ السُّلَمِيَّ رضي اللَّهُ عنه أَدْرَكَ دُرَيْدَ بن الصِّمَّةِ يوم
حُنَيْنٌ فَقَتَلَهُ وهو شَيْخٌ كَبِيرٌ كَالْقَفَّةِ لَا ينتفع ( ( ( ينفع ) ) )
إلَّا بِرَأْيِهِ فَبَلَغَ ذلك رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ولم
يُنْكِرْ عليه
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ كُلَّ من كان من أَهْلِ الْقِتَالِ يَحِلُّ قَتْلُهُ
سَوَاءٌ قَاتَلَ أو لم يُقَاتِلْ وَكُلُّ من لم يَكُنْ من أَهْلِ الْقِتَالِ لَا
يَحِلُّ قَتْلُهُ إلَّا إذَا قَاتَلَ حَقِيقَةً أو مَعْنًى بِالرَّأْيِ
وَالطَّاعَةِ وَالتَّحْرِيضِ وَأَشْبَاهِ ذلك على ما ذَكَرْنَا
فَيُقْتَلُ الْقِسِّيسُ وَالسَّيَّاحُ الذي يُخَالِطُ الناس وَاَلَّذِي يُجَنُّ
وَيُفِيقُ وَالْأَصَمُّ وَالْأَخْرَسُ وَأَقْطَعُ الْيَدِ الْيُسْرَى وَأَقْطَعُ
إحْدَى الرِّجْلَيْنِ وَإِنْ لم يُقَاتِلُوا لِأَنَّهُمْ من أَهْلِ الْقِتَالِ
وَلَوْ قُتِلَ وَاحِدٌ مِمَّنْ ذَكَرنَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ فَلَا
شَيْءَ فيه من دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ إلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ
لِأَنَّ دَمَ الْكَافِرِ لَا يَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْأَمَانِ ولم يُوجَدْ وَأَمَّا
حَالَ ما بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْقِتَالِ وَهِيَ ما بَعْدَ الْأَسْرِ وَالْأَخْذِ
فَكُلُّ من لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ في حَالِ الْقِتَالِ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ بَعْدَ
الْفَرَاغِ من الْقِتَالِ وَكُلُّ من يَحِلُّ قَتْلُهُ في حَالِ الْقِتَالِ إذَا
قَاتَلَ حَقِيقَةً أو مَعْنًى يُبَاحُ قَتْلُهُ بَعْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ
إلَّا الصَّبِيَّ وَالْمَعْتُوهَ الذي لَا يَعْقِلُ فإنه يُبَاحُ قَتْلُهُمَا في
حَالِ الْقِتَالِ إذَا قَاتَلَا حَقِيقَةً وَمَعْنًى وَلَا يُبَاحُ قَتْلُهُمَا
بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْقِتَالِ إذَا أُسِرَا وَإِنْ قَتَلَا جَمَاعَةً من
الْمُسْلِمِينَ في الْقِتَالِ لِأَنَّ الْقَتْلَ بَعْدَ الْأَسْرِ بِطَرِيقِ
الْعُقُوبَةِ وَهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ الْعُقُوبَةِ فَأَمَّا الْقَتْلُ في
حَالَةِ الْقِتَالِ فَلِدَفْعِ شَرِّ الْقِتَالِ وقد وُجِدَ الشَّرُّ مِنْهُمَا
فَأُبِيحَ قَتْلُهُمَا لِدَفْعِ الشَّرِّ وقد انْعَدَمَ الشَّرُّ بِالْأَسْرِ
فَكَانَ الْقَتْلُ بَعْدَهُ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ وَهُمَا لَيْسَا من أَهْلِهَا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يبتدىء أَبَاهُ الْكَافِرَ الْحَرْبِيَّ بِالْقَتْلِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } أَمَرَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمُصَاحَبَةِ الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالِابْتِدَاءُ بِالْقَتْلِ ليس من الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ
وَرُوِيَ أَنَّ حَنْظَلَةَ رضي اللَّهُ عنه غَسِيلَ الْمَلَائِكَةِ عليهم
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في
قَتْلِ أبيه فَنَهَاهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ
بِإِحْيَائِهِ بِالنَّفَقَةِ عليه فَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ فيه إفْنَاؤُهُ يَكُونُ
مُتَنَاقِضًا فَإِنْ قَصَدَ الْأَبُ قَتْلَهُ
____________________
(7/101)
يَدْفَعْهُ
عن نَفْسِهِ وَإِنْ أتى ذلك على نَفْسِهِ وَلَا يُكْرَهُ ذلك لِأَنَّهُ من
ضَرُورَاتِ الدَّفْعِ وَلَكِنْ لَا يَقْصِدُ بِالدَّفْعِ الْقَتْلَ لِأَنَّهُ لَا
ضَرُورَةَ إلَى الْقَصْدِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يَسَعُ تَرْكُهُ في دَارِ الْحَرْبِ مِمَّنْ لَا
يَحِلُّ قَتْلُهُ وَمَنْ لَا يَسَعُ فَالْأَمْرُ فيه لَا يَخْلُو من أَحَدِ
وَجْهَيْنِ إما إذَا كان الْغُزَاةُ قَادِرِينَ على عَمَلِ هَؤُلَاءِ
وَإِخْرَاجِهِمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وإما إنْ لم يَقْدِرُوا عليه فَإِنْ
قَدِرُوا على ذلك فَإِنْ كان الْمَتْرُوكُ مِمَّنْ يُولَدُ له وَلَدٌ لَا يَجُوزُ
تَرْكُهُمْ في دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ في تَرْكِهِمْ في دَارِ الْحَرْبِ عَوْنًا
لهم على الْمُسْلِمِينَ بِاللِّقَاحِ وَإِنْ كان مِمَّنْ لَا يُولَدُ له وَلَدٌ
كَالشَّيْخِ الْفَانِي الذي لَا قِتَالَ عِنْدَهُ وَلَا لِقَاحَ فَإِنْ كان ذَا
رَأْيٍ وَمَشُورَةٍ فَلَا يُبَاحُ تَرْكُهُ في دَارِ الْحَرْبِ لِمَا فيه من
الْمَضَرَّةِ بِالْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ يَسْتَعِينُونَ على الْمُسْلِمِينَ
بِرَأْيِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ له رَأْيٌ فَإِنْ شاؤوا تَرَكُوهُ فإنه لَا مَضَرَّةَ
عليهم في تَرْكِهِ وَإِنْ شاؤوا أَخْرَجُوهُ لِفَائِدَةِ الْمُفَادَاةِ على قَوْلِ
من يَرَى مُفَادَاةَ الْأَسِيرِ بِالْأَسِيرِ
وَعَلَى قَوْلِ من لَا يَرَى لَا يُخْرِجُونَهُمْ لِمَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ في
إخْرَاجِهِمْ وَكَذَلِكَ الْعَجُوزُ التي لَا يُرْجَى وَلَدُهَا وَكَذَلِكَ
الرُّهْبَانُ وَأَصْحَابُ الصَّوَامِعِ إذَا كَانُوا حُضُورًا لَا يَلْحَقُونَ
وَإِنْ لم يَقْدِرْ الْمُسْلِمُونَ على حَمْلِ هَؤُلَاءِ وَنَقْلِهِمْ إلَى دَارِ
الْإِسْلَامِ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُمْ وَيُتْرَكُونَ في دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ
الشَّرْعَ نهى عن قَتْلِهِمْ وَلَا قُدْرَةَ على نَقْلِهِمْ فَيُتْرَكُونَ
ضَرُورَةً
وَأَمَّا الْحَيَوَانُ وَالسِّلَاحُ إذَا لم يَقْدِرُوا على الْإِخْرَاجِ إلَى
دَارِ الْإِسْلَامِ أَمَّا الْحَيَوَانُ فَيُذْبَحُ ثُمَّ يُحْرَقُ بِالنَّارِ
لِئَلَّا يُمْكِنَهُمْ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَأَمَّا السِّلَاحُ فما يُمْكِنُ
إحْرَاقُهُ بِالنَّارِ يُحْرَقُ وما لَا يَحْتَمِلُ الْإِحْرَاقَ كَالْحَدِيدِ
وَنَحْوِهِ فَيُدْفَنُ بِالتُّرَابِ لِئَلَّا يَجِدُوهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُكْرَهُ حَمْلُهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وما لَا يُكْرَهُ
فَنَقُولُ ليس لِلتَّاجِرِ أَنْ يَحْمِلَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ما يَسْتَعِينُ
بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ على الْحَرْبِ من الْأَسْلِحَةِ وَالْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ
من أَهْلِ الذِّمَّةِ وَكُلِّ ما يُسْتَعَانُ بِهِ في الْحَرْبِ لِأَنَّ فيه
إمْدَادَهُمْ وَإِعَانَتَهُمْ على حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ
قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَلَا تَعَاوَنُوا على الْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ } فَلَا يُمَكَّنُ من الْحَمْلِ
وَكَذَا الْحَرْبِيُّ إذَا دخل دَارَ الْإِسْلَامِ لَا يُمَكَّنُ من أَنْ
يَشْتَرِيَ السِّلَاحَ
وَلَوْ اشْتَرَى لَا يُمَكَّنُ من أَنْ يُدْخِلَهُ دَارَ الْحَرْبِ لِمَا قُلْنَا
إلَّا إذَا كان دخل ( ( ( داخل ) ) ) دَارِ الْإِسْلَامِ بِسِلَاحٍ
فَاسْتَبْدَلَهُ فَيُنْظَرُ في ذلك إنْ كان الذي اسْتَبْدَلَهُ خِلَافَ جِنْسِ
سِلَاحِهِ بِأَنْ اُسْتُبْدِلَ الْقَوْسُ بِالسَّيْفِ وَنَحْوُ ذلك لَا يُمَكَّنُ
من ذلك أَصْلًا
وَإِنْ كان من جِنْسِ سِلَاحِهِ فَإِنْ كان مثله أو أَرْدَأَ منه يُمَكَّنُ منه
وَإِنْ كان أَجْوَدَ منه لَا يُمَكَّنُ منه لِمَا قُلْنَا وَلَا بَأْسَ بِحَمْلِ
الثِّيَابِ وَالْمَتَاعِ وَالطَّعَامِ وَنَحْوِ ذلك إلَيْهِمْ لِانْعِدَامِ
مَعْنَى الْإِمْدَادِ وَالْإِعَانَةِ
وَعَلَى ذلك جَرَتْ الْعَادَةُ من تُجَّارِ الأمصار ( ( ( الأعصار ) ) ) أَنَّهُمْ
يَدْخُلُونَ دَارَ الْحَرْبِ لِلتِّجَارَةِ من غَيْرِ ظُهُورِ الرَّدِّ
وَالْإِنْكَارِ عليهم إلَّا أَنَّ التَّرْكَ أَفْضَلُ لِأَنَّهُمْ يَسْتَخِفُّونَ
بِالْمُسْلِمِينَ وَيَدْعُونَهُمْ إلَى ما هُمْ عليه فَكَانَ الْكَفُّ
وَالْإِمْسَاكُ عن الدُّخُولِ من بَابِ صِيَانَةِ النَّفْسِ عن الْهَوَانِ
وَالدِّينِ عن الزَّوَالِ فَكَانَ أَوْلَى
وَأَمَّا الْمُسَافَرَةُ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيُنْظَرُ
في ذلك إنْ كان الْعَسْكَرُ عَظِيمًا مَأْمُونًا عليه لَا بَأْسَ بِذَلِكَ
لِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
وإذا كان الْعَسْكَرُ عَظِيمًا يَقَعُ الْأَمْنُ عن الْوُقُوعِ في أيد ( ( ( أيدي
) ) ) الْكَفَرَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ مَأْمُونًا عليه
كَالسَّرِيَّةِ يُكْرَهُ الْمُسَافَرَةُ بِهِ لِمَا فيه من خَوْفِ الْوُقُوعِ في
أَيْدِيهِمْ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ فَكَانَ الدُّخُولُ بِهِ في دَارِ الْحَرْبِ
تَعْرِيضًا لِلِاسْتِخْفَافِ بِالْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ
وما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نهى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ
الْعَظِيمِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَحْمُولٌ على الْمُسَافَرَةِ في هذه
الْحَالَةِ
وَكَذَلِكَ حُكْمُ إخْرَاجِ النِّسَاءِ مع أَنْفُسِهِمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ على
هذا التَّفْصِيلِ إنْ كان ذلك في جَيْشٍ عَظِيمٍ مَأْمُونٍ عليه غَيْرُ مَكْرُوهٍ
لِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى الطَّبْخِ وَالْغُسْلِ وَنَحْوِ ذلك وَإِنْ كانت
سَرِيَّةً لَا يُؤْمَنُ عليها يُكْرَهُ إخْرَاجُهُنَّ لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَعْتَرِضُ من الْأَسْبَابِ الْمُحَرِّمَةِ
لِلْقِتَالِ فَنَقُولُ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ
الْأَسْبَابُ الْمُعْتَرِضَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلْقِتَالِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ
الْإِيمَانُ وَالْأَمَانُ وَالِالْتِجَاءُ إلَى الْحَرَمِ
أَمَّا الْإِيمَانُ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما
يُحْكَمُ بِهِ بِكَوْنِ الشَّخْصِ مُؤْمِنًا
وَالثَّانِي في بَيَانِ حُكْمِ الْإِيمَانِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ الطُّرُقُ التي يُحْكَمُ بها بِكَوْنِ الشَّخْصِ مُؤْمِنًا
ثَلَاثَةٌ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ وَتَبَعِيَّةٌ
أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَةِ أو بِالشَّهَادَتَيْنِ أو
يَأْتِيَ بِهِمَا مع التبري ( ( ( التبرؤ ) ) ) مِمَّا هو عليه صَرِيحًا وَبَيَانُ
هذه الْجُمْلَةِ أَنَّ الْكَفَرَةَ أَصْنَافٌ أَرْبَعَةٌ صِنْفٌ منهم يُنْكِرُونَ
الصَّانِعَ أَصْلًا وَهُمْ الدَّهْرِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ وَصِنْفٌ منهم =ج21.=
ج21 بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587..
يُقِرُّونَ
بِالصَّانِعِ وَيُنْكِرُونَ تَوْحِيدَهُ وَهُمْ الْوَثَنِيَّةُ وَالْمَجُوسُ
وَصِنْفٌ منهم يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ وَيُنْكِرُونَ الرِّسَالَةَ
رَأْسًا وَهُمْ قَوْمٌ من الْفَلَاسِفَةِ وَصِنْفٌ منهم يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ
وَتَوْحِيدِهِ وَالرِّسَالَةِ في الْجُمْلَةِ لَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ رِسَالَةَ
نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ عليه أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَهُمْ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى
فَإِنْ كان من الصِّنْفِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فقال لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَمْتَنِعُونَ عن الشَّهَادَةِ أَصْلًا
فإذا أَقَرُّوا بها كان دَلِيلَ إيمَانِهِمْ وَكَذَلِكَ إذَا قال أَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا رسول اللَّهِ لِأَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ من كل وَاحِدَةٍ من كَلِمَتَيْ
الشَّهَادَةِ فَكَانَ الْإِتْيَانُ بواحدة ( ( ( بواحد ) ) ) مِنْهُمَا
أَيَّتَهُمَا كانت دَلَالَةَ الْإِيمَانِ وَإِنْ كان من الصِّنْفِ الثَّالِثِ فقال
لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّ مُنْكِرَ
الرِّسَالَةِ لَا يَمْتَنِعُ عن هذه الْمَقَالَةِ وَلَوْ قال أَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا رسول اللَّهِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عن هذه
الشَّهَادَةِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بها دَلِيلَ الْإِيمَانِ
وَإِنْ كان من الصِّنْفِ الرَّابِعِ فَأَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ فقال لَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رسول اللَّهِ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ حتى يَتَبَرَّأَ
من الدِّينِ الدي ( ( ( الذي ) ) ) عليه من الْيَهُودِيَّةِ أو النَّصْرَانِيَّةِ
لِأَنَّ من هَؤُلَاءِ من يُقِرُّ بِرِسَالَةِ رسول اللَّهِ لَكِنَّهُ يقول إنَّهُ
بُعِثَ إلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ فَلَا يَكُونُ إتْيَانُهُ
بِالشَّهَادَتَيْنِ بِدُونِ التبري ( ( ( التبرؤ ) ) ) دَلِيلًا على إيمَانِهِ
وَكَذَا إذَا قال يَهُودِيٌّ أو نَصْرَانِيٌّ أنا مُؤْمِنٌ أو مُسْلِمٌ أو قال
آمَنْتُ أو أَسْلَمْتُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ
أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ وَمُسْلِمُونَ وَالْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ هو الذي هُمْ
عليه
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رحمهما ( ( ( رحمه ) ) ) اللَّهُ أَنَّهُ قال
إذَا قال الْيَهُودِيُّ أو النَّصْرَانِيُّ أنا مُسْلِمٌ أو قال أَسْلَمْتُ سُئِلَ
عن ذلك أَيَّ شَيْءٍ أَرَدْتَ بِهِ إنْ قال أَرَدْتُ بِهِ تَرْكَ الْيَهُودِيَّةِ
أو النَّصْرَانِيَّةِ وَالدُّخُولَ في دِينِ الْإِسْلَامِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ
حتى لو رَجَعَ عن ذلك كان مُرْتَدًّا وَإِنْ قال أَرَدْتُ بِقَوْلِي أَسْلَمْتُ
إني على الْحَقِّ ولم أُرِدْ بِذَلِكَ الرُّجُوعَ عن دِينِي لم يُحْكَمْ
بِإِسْلَامِهِ
وَلَوْ قال يَهُودِيٌّ أو نَصْرَانِيٌّ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
وَأَتَبَرَّأُ عن الْيَهُودِيَّةِ أو النَّصْرَانِيَّةِ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ
لِأَنَّهُمْ لَا يَمْتَنِعُونَ عن كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ
والتبري ( ( ( والتبرؤ ) ) ) عن الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة لَا يَكُونُ
دَلِيلَ الدُّخُولِ في دِينِ الْإِسْلَامِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَبَرَّأَ عن ذلك
وَدَخَلَ في دِينٍ آخَرَ سِوَى دِينِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَصْلُحُ التبري ( ( (
التبرؤ ) ) ) دَلِيلَ الْإِيمَانِ مع الِاحْتِمَالِ وَلَوْ أَقَرَّ مع ذلك فقال
دَخَلْتُ في دِينِ الْإِسْلَامِ أو في دِينِ مُحَمَّدٍ حُكِمَ بِالْإِسْلَامِ
لِزَوَالِ الِاحْتِمَالِ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يُحْكَمُ بِهِ بِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ
فَنَحْوُ أَنْ يُصَلِّيَ كِتَابِيٌّ أو وَاحِدٌ من أَهْلِ الشِّرْكِ في جَمَاعَةٍ
وَيُحْكَمَ بِإِسْلَامِهِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ وَلَوْ صلى
وَحْدَهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أن الصَّلَاةَ لو صَلَحَتْ
دَلَالَةَ الْإِيمَانِ لَمَا افْتَرَقَ الْحَالُ فيها بين حَالِ الِانْفِرَادِ
وَبَيْنَ حَالِ الِاجْتِمَاعِ وَلَوْ صلى وَحْدَهُ لم يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ
فَعَلَى ذلك إذَا صلى بِجَمَاعَةٍ
وَلَنَا أَنَّ الصَّلَاةَ بِالْجَمَاعَةِ على هذه الْهَيْئَةِ التي نُصَلِّيهَا
الْيَوْمَ لم تَكُنْ في شَرَائِعِ من قَبْلَنَا فَكَانَتْ مُخْتَصَّةً بِشَرِيعَةِ
نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ فَكَانَتْ دَلَالَةً على الدُّخُولِ في دِينِ الْإِسْلَامِ
بِخِلَافِ ما إذَا صلى وَحْدَهُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَحْدَهُ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ
بِشَرِيعَتِنَا
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا صلى وَحْدَهُ مُسْتَقْبِلَ
الْقِبْلَةِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ
دَلِيلُ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من شَهِدَ
جِنَازَتَنَا وَصَلَّى إلَى قِبْلَتِنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَاشْهَدُوا له
بِالْإِيمَانِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا أَذَّنَ في مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ يُحْكَمُ
بِإِسْلَامِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
لنا أَنَّ الْأَذَانَ من شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ الْإِتْيَانُ بِهِ
دَلِيلَ قَبُولِ الْإِسْلَامِ
وَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ أو تَلَقَّنَهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ لِاحْتِمَالِ
أَنَّهُ فَعَلَ ذلك لِيَعْلَمَ ما فيه من غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَهُ حَقِيقَةً إذْ
لَا كُلُّ من يَعْلَمُ شيئا يُؤْمِنُ بِهِ كَالْمُعَانِدِينَ من الْكَفَرَةِ
وَلَوْ حَجَّ هل يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ قالوا يُنْظَرُ في ذلك إنْ تَهَيَّأَ
لِلْإِحْرَامِ وَلَبَّى وَشَهِدَ الْمَنَاسِكَ مع الْمُسْلِمِينَ يُحْكَمُ
بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّ عِبَادَةَ الْحَجِّ على هذه الْهَيْئَةِ الْمَخْصُوصَةِ لم
تَكُنْ في الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَكَانَتْ مُخْتَصَّةً بِشَرِيعَتِنَا
فَكَانَتْ دَلَالَةَ الْإِيمَانِ كَالصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ وَإِنْ لَبَّى ولم
يَشْهَدْ الْمَنَاسِكَ أو شَهِدَ الْمَنَاسِكَ ولم يُلَبِّ لَا يُحْكَمُ
بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ عِبَادَةً في شَرِيعَتِنَا إلَّا
بِالْأَدَاءِ على هذه الْهَيْئَةِ وَالْأَدَاءُ على هذه الْهَيْئَةِ لَا يَكُونُ
دَلِيلَ الْإِسْلَامِ
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ يُصَلِّي سَنَةً وما قَالَا
رَأَيْنَاهُ يُصَلِّي في جَمَاعَةٍ وهو يقول صَلَّيْتُ صَلَوَاتِي لَا يُحْكَمُ
بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّهُمْ يُصَلُّونَ أَيْضًا فَلَا تَكُونُ الصَّلَاةُ الْمُطْلَقَةُ
دَلَالَةَ الْإِسْلَامِ
وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا وقال رَأَيْتُهُ يُصَلِّي في الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ
وَشَهِدَ
____________________
(7/103)
الْآخَرُ
وقال رَأَيْتُهُ يُصَلِّي في مسجد ( ( ( المسجد ) ) ) كَذَا وهو مُنْكِرٌ لَا
تُقْبَلُ وَلَكِنْ يُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ اتَّفَقَا
على وُجُودِ الصَّلَاةِ منه بِجَمَاعَةٍ في الْمَسْجِدِ لَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا
في الْمَسْجِدِ وَذَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَكَانِ لَا نَفْسَ الْفِعْلِ وهو
الصَّلَاةُ فَقَدْ اجْتَمَعَ شَاهِدَانِ على فِعْلٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةً لَكِنْ
تُعْتَبَرُ شَهَادَتُهُمَا في الْجَبْرِ على الْإِسْلَامِ لَا في الْقَتْلِ
لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كان مُتَّحِدًا حَقِيقَةً فَهُوَ مُخْتَلِفٌ
صُورَةً لِاخْتِلَافِ مَحَلِّ الْفِعْلِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً في الْقَتْلِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْحُكْمُ بِالْإِسْلَامِ من طَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ فإن الصَّبِيَّ
يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ عَقَلَ أو لم يَعْقِلْ ما لم
يُسْلِمْ بِنَفْسِهِ إذَا عَقَلَ وَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِلدَّارِ
أَيْضًا
وَالْجُمْلَةُ فيه أَنَّ الصَّبِيَّ يَتْبَعُ أَبَوَيْهِ في الْإِسْلَامِ
وَالْكُفْرِ وَلَا عِبْرَةَ بِالدَّارِ مع وُجُودِ الْأَبَوَيْنِ أو أَحَدِهِمَا
لِأَنَّهُ لَا بُدَّ له من دِينٍ تَجْرِي عليه أَحْكَامُهُ وَالصَّبِيُّ لَا
يَهْتَمُّ لِذَلِكَ إمَّا لِعَدَمِ عَقْلِهِ وَإِمَّا القصورة ( ( ( لقصوره ) ) )
فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَجَعْلُهُ تَبَعًا
لِلْأَبَوَيْنِ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْهُمَا وَإِنَّمَا الدَّارُ
مُنْشَأٌ وَعِنْدَ انْعِدَامِهِمَا في الدَّارِ التي فيها الصَّبِيُّ تَنْتَقِلُ
التَّبَعِيَّةُ إلَى الدَّارِ لِأَنَّ الدَّارَ تَسْتَتْبِعُ الصَّبِيَّ في
الْإِسْلَامِ في الْجُمْلَةِ كَاللَّقِيطِ فإذا أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ
فَالْوَلَدُ يَتْبَعُ الْمُسْلِمَ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا في جِهَةِ
التَّبَعِيَّةِ وَهِيَ التَّوَلُّدُ وَالتَّفَرُّعُ فَيُرَجَّحُ الْمُسْلِمُ
بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عليه
وَلَوْ كان أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا فَالْوَلَدُ
كِتَابِيٌّ لِأَنَّ الْكِتَابِيَّ إلَى أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ أَقْرَبُ فَكَانَ
الْإِسْلَامُ منه أَرْجَى
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا سُبِيَ الصَّبِيُّ وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ
الْإِسْلَامِ فَهَذَا لَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إن سُبِيَ مع أبويه
( ( ( أحدهما ) ) ) وَإِمَّا إن سُبِيَ مع أَحَدِهِمَا وَإِمَّا إن سُبِيَ وَحْدَهُ
فَإِنْ سُبِيَ مع أَبَوَيْهِ فما دَامَ في دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ على دِينِ
أَبَوَيْهِ حتى لو مَاتَ لَا يُصَلَّى عليه وَهَذَا ظَاهِرٌ
وَكَذَا إذَا سُبِيَ مع أَحَدِهِمَا وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ
الْإِسْلَامِ وَمَعَهُ أَبَوَاهُ أو أَحَدُهُمَا لِمَا بَيَّنَّا فَإِنْ مَاتَ
الْأَبَوَانِ بَعْدَ ذلك فَهُوَ على دِينِهِمَا حتى يُسْلِمَ بِنَفْسِهِ وَلَا
تَنْقَطِعُ تَبَعِيَّةُ الْأَبَوَيْنِ بِمَوْتِهِمَا لِأَنَّ بَقَاءَ الْأَصْلِ
ليس بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ الْحُكْمِ في التَّبَعِ وَإِنْ أُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ
وَلَيْسَ معه أَحَدُهُمَا فَهُوَ مُسْلِمٌ لِأَنَّ التَّبَعِيَّةَ انْتَقَلَتْ
إلَى الدَّارِ على ما بَيَّنَّا
وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ في دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا
له لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا لِمَا بَيَّنَّا
وَكَذَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ في دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ سُبِيَ
الصَّبِيُّ بَعْدَهُ وَأُدْخِلَ في دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا له
لِأَنَّهُ جَمَعَهُمَا دَارٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الدَّارِ لَا
تُعْتَبَرُ مع أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا
فَأَمَّا قبل الْإِدْخَالِ في دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا
لِأَنَّهُمَا في دَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَاخْتِلَافُ الدَّارِ يَمْنَعُ
التَّبَعِيَّةَ في الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
ثُمَّ إنَّمَا تُعْتَبَرُ تَبَعِيَّةُ الْأَبَوَيْنِ وَالدَّارِ إذَا لم يُسْلِمْ
بِنَفْسِهِ وهو يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ فَأَمَّا إذَا أَسْلَمَ وهو يَعْقِلُ
الْإِسْلَامَ فَلَا تُعْتَبَرُ التَّبَعِيَّةُ وَيَصِحُّ إسْلَامُهُ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِحُّ
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رُفِعَ الْقَلَمُ عن
ثَلَاثَةٍ عن الصَّبِيِّ حتى يَحْتَلِمَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حتى يُفِيقَ وَعَنْ
النَّائِمِ حتى يَسْتَيْقِظَ
أَخْبَرَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الصَّبِيَّ مَرْفُوعُ الْقَلَمِ
وَالْفِقْهُ مُسْتَنْبَطٌ منه
وهو أَنَّ الصَّبِيَّ لو صَحَّ إسْلَامُهُ إمَّا أَنْ يَصِحَّ فَرْضًا وَإِمَّا
أَنْ يَصِحَّ نَفْلًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّنَفُّلَ بِالْإِسْلَامِ مُحَالٌ
وَالْفَرْضِيَّةُ بِخِطَابِ الشَّرْعِ وَالْقَلَمُ عنه مَرْفُوعٌ وَلِأَنَّ
صِحَّةَ الْإِسْلَامِ من الْأَحْكَامِ الضَّارَّةِ فإنه سَبَبٌ لِحِرْمَانِ
الْمِيرَاثِ وَالنَّفَقَةِ وَوُقُوعِ الْفَرْقِ بين الزَّوْجَيْنِ وَالصَّبِيُّ
ليس من أَهْلِ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ وَلِهَذَا لم يَصِحَّ طَلَاقُهُ
وَعِتَاقُهُ ولم يَجِبْ عليه الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ فَلَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ
وَلَنَا أَنَّهُ آمَنَ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن غَيْبٍ فَيَصِحُّ
إيمَانُهُ كَالْبَالِغِ
وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عن التَّصْدِيقِ لُغَةً وَشَرْعًا
وهو تَصْدِيقُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في جَمِيعِ ما أَنْزَلَ على
رُسُلِهِ
أو تَصْدِيقُ رُسُلِهِ في جَمِيعِ ما جَاءُوا بِهِ عن اللَّهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى وقد وُجِدَ ذلك منه لِوُجُودِ دَلِيلِهِ وهو إقْرَارُ الْعَاقِلِ
وَخُصُوصًا عن طَوْعٍ فَتُرَتَّبُ عليه الْأَحْكَامُ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ على
وُجُودِ الْإِيمَانِ حَقِيقَةً
قال اللَّهُ تعالى ( ( ( تبارك ) ) ) { وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حتى
يُؤْمِنُوا }
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ وَلَا
الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ
وَقَوْلُهُ إنَّهُ مَرْفُوعُ الْقَلَمِ قُلْنَا نعم في الْفُرُوعِ الشَّرْعِيَّةِ
فَأَمَّا في الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ فَمَمْنُوعٌ
وَوُجُوبُ الْإِيمَانِ من الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ فَيَجِبُ على كل عَاقِلٍ
وَالْحَدِيثُ يُحْمَلُ على الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ تَوْفِيقًا بين
الدَّلَائِلِ
وَبِهِ نَقُولُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا أَحْكَامُ الْإِيمَانِ فَنَقُولُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
الْمُوَفِّقُ لِلْإِيمَانِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ
وَالثَّانِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ فَكَيْنُونَةُ الْمُؤْمِنِ من أَهْلِ
الْجَنَّةِ إذَا خَتَمَ عليه قال اللَّهُ تَعَالَى { من جاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ
خَيْرٌ منها }
____________________
(7/104)
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا فَعِصْمَةُ النَّفْسِ وَالْمَالِ
لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الناس حتى
يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فإذا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا
إلَّا أَنَّ عِصْمَةَ النَّفْسِ تَثْبُتُ مَقْصُودَةً وَعِصْمَةُ الْمَالِ
تَثْبُتُ تَابِعَةً لِعِصْمَةِ النَّفْسِ إذْ النَّفْسُ أَصْلٌ في التَّخَلُّقِ
وَالْمَالُ خُلِقَ بَذْلُهُ لِلنَّفْسِ اسْتِبْقَاءً لها
فَمَتَى ثَبَتَتْ عِصْمَةُ النَّفْسِ ثَبَتَتْ عِصْمَةُ الْمَالِ تَبَعًا إلَّا
إذَا وُجِدَ الْقَاطِعُ لِلتَّبَعِيَّةِ على م نَذْكُرُ
فَعَلَى هذا إذَا أَسْلَمَ أَهْلُ بَلْدَةٍ من أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ قبل أَنْ
يَظْهَرَ عليهم الْمُسْلِمُونَ حَرُمَ قَتْلُهُمْ وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ على
أَمْوَالِهِمْ على ما قُلْنَا
وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من أَسْلَمَ على مَالٍ فَهُوَ له
وَلَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ في دَارِ الْحَرْبِ ولم يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقَتَلَهُ
مُسْلِمٌ عَمْدًا أو خَطَأً فَلَا شَيْءَ عليه إلَّا الْكَفَّارَةُ وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ عليه الدِّيَةُ في الْخَطَأِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عليه الدِّيَةُ مع الْكَفَّارَةِ في
الْخَطَأِ وَالْقِصَاصُ في الْعَمْدِ وَاحْتَجَّا بِالْعُمُومَات الْوَارِدَةِ في
بَابِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين مُؤْمِنٍ قُتِلَ في دَارِ
الْإِسْلَامِ أو في دَارِ الْحَرْبِ
وَلَنَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَإِنْ كان من قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وهو
مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
الْكَفَّارَةَ وَجَعَلَهَا كُلَّ مُوجِبِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ الذي هو من قَوْمٍ
عَدُوٍّ لنا لِأَنَّهُ جَعَلَهُ جَزَاءً وَالْجَزَاءُ ينبىء عن الْكِفَايَةِ
فَاقْتَضَى وُقُوعَ الْكِفَايَةِ بها عَمَّا سِوَاهَا من الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ
جميعا وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ لم يُشْرَعْ إلَّا لِحِكْمَةِ الْحَيَاةِ
قال اللَّهُ تَعَالَى { وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } وَالْحَاجَةُ إلَى
الْإِحْيَاءِ عِنْدَ قَصْدِ الْقَتْلِ لِعَدَاوَةٍ حَامِلَةٍ عليه وَلَا يَكُونُ
ذلك إلَّا عِنْدَ الْمُخَالَطَةِ وَلَوْ لم تُوجَدْ ههنا
وَعَلَى هذا إذَا أَسْلَمَ ولم يُهَاجِرْ إلَيْنَا حتى ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ على
الدَّارِ فما كان في يَدِهِ من الْمَقْتُولِ فَهُوَ له وَلَا يَكُونُ فَيْئًا
إلَّا عَبْدًا يُقَاتِلُ فإنه يَكُون فَيْئًا لِأَنَّ نَفْسَهُ اسْتَفَادَتْ
الْعِصْمَةَ بِالْإِسْلَامِ وَمَالُهُ الذي في يَدِهِ تَابِعٌ له من كل وَجْهٍ
فَكَانَ مَعْصُومًا تَبَعًا لِعِصْمَةِ النَّفْسِ إلَّا عَبْدًا يُقَاتِلُ
لِأَنَّهُ إذَا قَاتَلَ فَقَدْ خَرَجَ من يَدِ الْمَوْلَى فلم يَبْقَ تَبَعًا له
فَانْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ لِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ فَيَكُون مَحَلًّا
لِلتَّمَلُّكِ بِالِاسْتِيلَاءِ وَكَذَلِكَ ما كان في يَدِ مُسْلِمٍ أو ذِمِّيٍّ
وَدِيعَةً له فَهُوَ له وَلَا يَكُونُ فَيْئًا
لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدُهُ من وَجْهٍ من حَيْثُ إنَّهُ يَحْفَظُ الْوَدِيعَةَ
له وَيَدُ نَفْسِهِ من حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْصُومٌ
فَكَانَ ما في يَدِهِ مَعْصُومًا فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ
وَأَمَّا ما كان في يَدِ حَرْبِيٍّ وَدِيعَةً فَيَكُونُ فَيْئًا عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ له لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدُهُ فَكَانَ
مَعْصُومًا
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ من حَيْثُ إنَّهُ
يَحْفَظُ له تَكُونُ يَدُهُ فَيَكُونُ تَبَعًا له فَيَكُونُ مَعْصُومًا
وَمِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ لَا يَكُونُ مَعْصُومًا لِأَنَّ نَفْسَ الْحَرْبِيِّ
غَيْرُ مَعْصُومَةٍ فَوَقَعَ الشَّكُّ في الْعِصْمَةِ فَلَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ
مع الشَّكِّ
وَكَذَا عَقَارُهُ يَكُونُ فَيْئًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ هو وَالْمَنْقُولُ سَوَاءٌ وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُمَا لِأَنَّهُ من
حَيْثُ إنَّهُ يَتَصَرَّفُ فيه بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ يَكُونُ في يَدِهِ فَيَكُونُ
تَبَعًا له من حَيْثُ إنَّهُ مُحْصَنٌ مَحْفُوظٌ بِنَفْسِهِ ليس في يَدِهِ فَلَا
يَكُونُ تَبَعًا له فَلَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ مع الشَّكِّ
وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَأَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ تَبَعًا له
وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ وَامْرَأَتُهُ يَكُونُونَ فَيْئًا لِأَنَّهُمْ في حُكْمِ
أَنْفُسِهِمْ لِانْعِدَامِ التَّبَعِيَّةِ
وَأَمَّا الْوَلَدُ الذي في الْبَطْنِ فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِأَبِيهِ
وَرَقِيقٌ تَبَعًا لِأُمِّهِ
وَفِيهِ إشْكَالٌ
وهو أَنَّ هذا إنْشَاءُ الرِّقِّ على الْمُسْلِمِ وَأَنَّهُ مَمْنُوعٌ
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ إنْشَاءُ الرِّقِّ على من هو مُسْلِمٌ حَقِيقَةً
لَا على من له حُكْمُ الْوُجُودِ وَالْإِسْلَامُ شَرْعًا
هذا إذَا أَسْلَمَ ولم يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ على الدَّارِ
فَلَوْ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إلَيْنَا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ على الدَّارِ
أَمَّا أَمْوَالُهُ فما كان في يَدِ مُسْلِمٍ أو ذِمِّيٍّ وَدِيعَةً فَهُوَ له
وَلَا يَكُونُ فَيْئًا لِمَا ذَكَرْنَا وما سِوَى ذلك فَهُوَ فَيْءٌ لِمَا
ذَكَرْنَا أَيْضًا
وَقِيلَ ما كان في يَدِ حَرْبِيٍّ وَدِيعَةً فَهُوَ على الْخِلَافِ الذي ذَكَرْنَا
وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَيُحْكَمُ بإسلامهم ( ( ( بإسلامه ) ) ) تَبَعًا
لِأَبِيهِمْ وَلَا يُسْتَرَقُّونَ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُ إنْشَاءَ
الرِّقِّ إلَّا رِقًّا ثَبَتَ حُكْمًا بِأَنْ كان الْوَلَدُ في بَطْنِ الْأُمِّ
وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَيْءٌ لِأَنَّهُمْ في حُكْمِ أَنْفُسِهِمْ فَلَا
يَكُونُونَ مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِ أَبِيهِمْ وَكَذَلِكَ زَوْجَتُهُ وَالْوَلَدُ
الذي في الْبَطْنِ يَكُونُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأَبِيهِ وَرَقِيقًا تَبَعًا
لِأُمِّهِ
وَلَوْ دخل الْحَرْبِيُّ دَارَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ ظَهَرَ
الْمُسْلِمُونَ على الدَّارِ فَجَمِيعُ مَالِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ
وَالْكِبَارِ وَامْرَأَتِهِ وما في بَطْنِهَا فَيْءٌ لِمَا لم يُسْلِمْ في دَارِ
الْحَرْبِ حتى خَرَجَ إلَيْنَا لم تَثْبُتْ الْعِصْمَةُ لِمَالِهِ لِانْعِدَامِ
عِصْمَةِ النَّفْسِ فَبَعْدَ ذلك وَإِنْ صَارَتْ مَعْصُومَةً لَكِنْ بَعْدَ
تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ وَأَنَّهُ يُمْنَعُ ثُبُوتَ التَّبَعِيَّةِ
وَلَوْ دخل مُسْلِمٌ أو ذِمِّيٌّ دَارَ الْحَرْبِ فَأَصَابَ هُنَاكَ مَالًا ثُمَّ
ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ على الدَّارِ فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الذي
____________________
(7/105)
أَسْلَمَ
من أَهْلِ الْحَرْبِ ولم يُهَاجِرْ إلَيْنَا سَوَاءٌ
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْأَمَانُ فَنَقُولُ الْأَمَانُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ أَمَانٌ
مُؤَقَّتٌ وَأَمَانٌ مُؤَبَّدٌ أَمَّا الْمُؤَقَّتُ فَنَوْعَانِ أَيْضًا
أَحَدُهُمَا الْأَمَانُ الْمَعْرُوفُ وهو أَنْ يُحَاصِرَ الْغُزَاةُ مَدِينَةً أو
حِصْنًا من حُصُونِ الْكَفَرَةِ فَيَسْتَأْمِنُهُمْ الْكُفَّارُ فَيُؤَمِّنُوهُمْ
وَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِ الْأَمَانِ وفي بَيَانِ
شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْأَمَانِ وفي بَيَانِ صِفَتِهِ وفي
بَيَانِ ما يَبْطُلُ بِهِ الْأَمَانُ
فَأَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُ على الْأَمَانِ نَحْوُ قَوْلِ
الْمُقَاتِلِ أَمَّنْتُكُمْ أو أَنْتُمْ آمِنُونَ أو أَعْطَيْتُكُمْ الْأَمَانَ
وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى
وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ في حَالٍ يَكُونُ
بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةٌ لِأَنَّ الْقِتَالَ فَرْضٌ
وَالْأَمَانُ يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فَيَتَنَاقَضُ إلَّا إذَا كان في
حَالِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَقُوَّةِ الْكَفَرَةِ لِأَنَّهُ إذْ ذَاكَ يَكُونُ
قِتَالًا مَعْنًى لِوُقُوعِهِ وَسِيلَةً إلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ فَلَا
يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ
وَمِنْهَا الْعَقْلُ فَلَا يَجُوزُ أَمَانُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا
يَعْقِلُ لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ
وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وَسَلَامَةُ الْعَقْلِ عن الْآفَةِ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس بِشَرْطٍ حتى إنَّ الصَّبِيَّ
الْمُرَاهِقَ الذي يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ وَالْبَالِغَ الْمُخْتَلِطَ الْعَقْلِ
إذَا أَمَّنَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ أَهْلِيَّةِ الْأَمَانِ مَبْنِيَّةٌ على أَهْلِيَّةِ
الْإِيمَانِ وَالصَّبِيُّ الذي يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ من أَهْلِ الْإِيمَانِ
فَيَكُونُ من أَهْلِ الْأَمَانِ كَالْبَالِغِ
وَلَنَا أَنَّ الصَّبِيَّ ليس من أَهْلِ حُكْمِ الْأَمَانِ فَلَا يَكُونُ من
أَهْلِ الْأَمَانِ وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ حُرْمَةُ الْقِتَالِ
وَخِطَابُ التَّحْرِيمِ لَا يَتَنَاوَلُهُ وَلِأَنَّ من شَرْطِ صِحَّةِ الْأَمَانِ
أَنْ يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةٌ وَهَذِهِ حَالَةٌ
خَفِيَّةٌ لَا يُوقَفُ عليها إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ وَلَا يُوجَدُ ذلك
من الصَّبِيِّ لِاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ
وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فَلَا يَصِحُّ أَمَانُ الْكَافِرِ وَإِنْ كان يُقَاتِلُ مع
الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ في حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تُؤْمَنُ
خِيَانَتُهُ وَلِأَنَّهُ إذَا كان مُتَّهَمًا فَلَا يدرى أَنَّهُ بَنَى أَمَانَهُ
على مُرَاعَاةِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ من التَّفَرُّقِ عن حالة ( ( ( حال ) )
) الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ أَمْ لَا فَيَقَعُ الشَّكُّ في وُجُودِ شَرْطِ
الصِّحَّةِ فَلَا يَصِحُّ مع الشَّكِّ
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْأَمَانِ فَيَصِحُّ
أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ في الْقِتَالِ بِالْإِجْمَاعِ وَهَلْ يَصِحُّ
أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عن الْقِتَالِ اُخْتُلِفَ فيه قال أبو حَنِيفَةَ
عليه الرَّحْمَةُ وأبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِحُّ وقال مُحَمَّدٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِحُّ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال الْمُسْلِمُونَ
تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَالذِّمَّةُ
الْعَهْدُ وَالْأَمَانُ نَوْعُ عَهْدٍ وَالْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَدْنَى
الْمُسْلِمِينَ فَيَتَنَاوَلُهُ الْحَدِيثُ وَلِأَنَّ حَجْرَ الْمَوْلَى يَعْمَلُ
في التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ دُونَ النَّافِعَةِ بَلْ هو في التَّصَرُّفَاتِ
النَّافِعَةِ غَيْرُ مَحْجُورٍ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَلَا مَضَرَّةَ
لِلْمَوْلَى في أَمَانِ الْعَبْدِ بِتَعْطِيلِ مَنَافِعِهِ عليه لِأَنَّهُ
يَتَأَدَّى في زَمَانٍ قَلِيلٍ بَلْ له وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فيه مَنْفَعَةٌ
فَلَا يَظْهَرُ انْحِجَارُهُ عنه فَأَشْبَهَ الْمَأْذُونَ بِالْقِتَالِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَصْلَ في الْأَمَانُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّ
الْقِتَالَ فَرْضٌ وَالْأَمَانُ يُحَرِّمُ الْقِتَالَ إلَّا إذَا وَقَعَ في حَالٍ
يَكُونُ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةٌ لِوُقُوعِهِ وَسِيلَةً
إلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ في هذه الْحَالَةِ فَيَكُونُ قِتَالًا مَعْنًى
إذْ الْوَسِيلَةُ إلَى الشَّيْءِ حُكْمُهَا حُكْمُ ذلك الشَّيْءِ وَهَذِهِ حَالَةٌ
لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ في حَالِ الْمُسْلِمِينَ في
قُوَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَالْعَبْدُ الْمَحْجُورُ لِاشْتِغَالِهِ بِخِدْمَةِ
الْمَوْلَى لَا يَقِفُ عَلَيْهِمَا فَكَانَ أَمَانُهُ تَرْكًا لِلْقِتَالِ
الْمَفْرُوضِ صُورَةً وَمَعْنًى فَلَا يَجُوزُ فَبِهَذَا فَارَقَ الْمَأْذُونَ
لِأَنَّ الْمَأْذُونَ بِالْقِتَالِ يَقِفُ على هذه الْحَالَةِ فَيَقَعُ أَمَانُهُ
وَسِيلَةً إلَى الْقِتَالِ فَكَانَ إقَامَةً لِلْفَرْضِ مَعْنًى فَهُوَ الْفَرْقُ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَحْجُورَ لِأَنَّ الْأَدْنَى إمَّا
أَنْ يَكُونَ من الدَّنَاءَةِ وَهِيَ الْخَسَاسَةُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ من
الدُّنُوِّ وهو الْقُرْبُ
وَالْأَوَّلُ ليس بِمُرَادٍ لِأَنَّ الحديث يَتَنَاوَلُ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَلَا
خَسَاسَةَ مع الْإِسْلَامِ
وَالثَّانِي لَا يَتَنَاوَلُ الْمَحْجُورَ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ في صَفِّ
الْقِتَالِ فَلَا يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْكَفَرَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ الذُّكُورَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ أَمَانُ الْمَرْأَةِ
لِأَنَّهَا بِمَا مَعَهَا من الْعَقْلِ لَا تَعْجِزُ عن الْوُقُوفِ على حَالِ
الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وقد رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَتَنَا زَيْنَبَ بِنْتَ النبي
الْمُكَرَّمِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَّنَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ
رضي اللَّهُ عنه وَأَجَازَ رسول اللَّهِ أَمَانَهَا
وَكَذَلِكَ السلام ( ( ( السلامة ) ) ) عن الْعَمَى وَالزَّمَانَةِ وَالْمَرَضِ
لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ أَمَانُ الْأَعْمَى وَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ لِأَنَّ
الْأَصْلَ في صِحَّةِ الْأَمَانِ صُدُورُهُ عن رَأْيٍ وَنَظَرٍ في الْأَحْوَالِ
الْخَفِيَّةِ من الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ وَهَذِهِ
____________________
(7/106)
الْعَوَارِضُ
لَا تَقْدَحُ فيه ولايجوز أَمَانُ التَّاجِرِ في دَارِ الْحَرْبِ وَالْأَسِيرِ
فيها وَالْحَرْبِيِّ الذي أَسْلَمَ هُنَاكَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقِفُونَ على
حَالِ الْغُزَاةِ من الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ فَلَا يَعْرِفُونَ لِلْأَمَانِ
مَصْلَحَةً وَلِأَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ في حَقِّ الْغُزَاةِ لِكَوْنِهِمْ
مَقْهُورِينَ في أَيْدِي الْكَفَرَةِ
وَكَذَلِكَ الْجَمَاعَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ أَمَانُ الْوَاحِدِ
لِقَوْلِهِ عليه السلام وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ
على حَالَةِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ لَا يَقِفُ على رَأْيِ الْجَمَاعَةِ فَيَصِحُّ
من الْوَاحِدِ وَسَوَاءٌ أَمَّنَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً أو قَلِيلَةً أو أَهْلَ
مِصْرٍ أو قَرْيَةٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ
وَأَمَّا حُكْمُ الْأَمَانِ فَهُوَ ثُبُوتُ الْأَمْنِ لِلْكَفَرَةِ لِأَنَّ لَفْظَ
الْأَمَانِ يَدُلُّ عليه وهو قَوْلُهُ أَمَّنْتُ فَثَبَتَ الْأَمْنُ لهم عن
الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالِاسْتِغْنَام فَيَحْرُمُ على الْمُسْلِمِينَ قَتْلُ
رِجَالِهِمْ وَسَبْيُ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَاسْتِغْنَامُ أَمْوَالِهِمْ
وَأَمَّا صِفَتُهُ فَهُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ حتى لو رَأَى الْإِمَامُ
الْمَصْلَحَةَ في النَّقْضِ يَنْقُضُ لِأَنَّ جَوَازَهُ مع أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ
تَرْكَ الْقِتَالِ الْمَفْرُوضِ كان لِلْمَصْلَحَةِ فإذا صَارَتْ الْمَصْلَحَةُ في
النَّقْضِ نَقَضَ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يُنْتَقَضُ بِهِ الْأَمَانُ فَالْأَمْرُ فيه لَا يَخْلُو من
أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إن كان الْأَمَانُ مُطْلَقًا وَإِمَّا إن كان مُؤَقَّتًا
إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَإِنْ كان مُطْلَقًا فَانْتِقَاضُهُ يَكُونُ بِطَرِيقَيْنِ
أَحَدُهُمَا نَقْضُ الْإِمَامِ فإذا نَقَضَ الْإِمَامُ انْتَقَضَ لَكِنْ يَنْبَغِي
أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِالنَّقْضِ ثُمَّ يُقَاتِلَهُمْ لِئَلَّا يَكُونَ منهم غَدْرٌ
في الْعَهْدِ
وَالثَّانِي أَنْ يَجِيءَ أَهْلُ الْحِصْنِ بِالْأَمَانِ إلى الإمام فَيَنْقُضَ
وإذا جاؤا الْإِمَامَ بِالْأَمَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ
فَإِنْ أَبَوْا فَإِلَى الذِّمَّةِ فَإِنْ أَبَوْا رَدَّهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ
ثُمَّ قَاتَلَهُمْ احْتِرَازًا عن الْغَدْرِ فَإِنْ أبو ( ( ( أبوا ) ) )
الْإِسْلَامَ وَالْجِزْيَةَ وَأَبَوْا أَنْ يَلْحَقُوا بِمَأْمَنِهِمْ فإن
الْإِمَامَ يُؤَجِّلُهُمْ على ما يَرَى فَإِنْ رَجَعُوا إلَى مَأْمَنِهِمْ في
الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ وَإِلَّا صَارُوا ذِمَّةً لَا يُمَكَّنُونَ بَعْدَ ذلك
أَنْ يَرْجِعُوا إلَى مَأْمَنِهِمْ لِأَنَّ مَقَامَهُمْ بَعْدَ الْأَجَلِ
الْمَضْرُوبِ الْتِزَامُ الذِّمَّةِ دَلَالَةً وَإِنْ كان الْأَمَانُ مُؤَقَّتًا
إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ يَنْتَهِي بِمُضِيِّ الْوَقْتِ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى
النَّقْضِ وَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ إلَّا إذَا دخل وَاحِدٌ منهم دَارَ
الْإِسْلَامِ فَمَضَى الْوَقْتُ وهو فيه فَهُوَ آمِنٌ حتى يَرْجِعَ إلَى
مَأْمَنِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
هذا حَاصَرَ الْغُزَاةُ مَدِينَةً أو حِصْنًا من حُصُونِ الْكَفَرَةِ فجاؤا ( ( (
فجاءوا ) ) ) فَاسْتَأْمَنُوهُمْ فَأَمَّا إذَا اسْتَنْزَلُوهُمْ عن الْحُكْمِ
فَهَذَا على وَجْهَيْنِ إمَّا إن اسْتَنْزَلُوهُمْ على حُكْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى
وَإِمَّا إن اسْتَنْزَلُوهُمْ على حُكْمِ الْعِبَادِ بِأَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ على
حُكْمِ رَجُلٍ فَإِنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ على حُكْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
جَازَ إنْزَالُهُمْ عليه عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَالْخِيَارُ إلَى الْإِمَامِ إنْ
شَاءَ قَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ وَإِنْ شَاءَ
سَبَى الْكُلَّ وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُمْ ذِمَّةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ
الْإِنْزَالُ على حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ
وَاسْتِرْقَاقُهُمْ وَلَكِنَّهُمْ يُدْعَوْنَ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَبَوْا
جُعِلُوا ذِمَّةً
وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال في وَصَايَا الْأُمَرَاءِ
عِنْدَ بَعْثِ الْجَيْشِ وإذا حَاصَرْتُمْ مَدِينَةً أو حِصْنًا فَإِنْ أَرَادُوا
أَنْ تُنْزِلُوهُمْ على حُكْمِ اللَّهِ عز وجل فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ ما
حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ نهى رسول اللَّهِ عن الْإِنْزَالِ على حُكْمِ
اللَّهِ تَعَالَى وَنَبَّهَ عليه السلام على الْمَعْنَى وهو أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غَيْرُ مَعْلُومٍ فَكَانَ الْإِنْزَالُ على حُكْمِ اللَّهِ
تَعَالَى من الْإِمَامِ قَضَاءً بِالْمَجْهُولِ وأنه لَا يَصِحُّ وإذا لم يَصِحَّ
الْإِنْزَالُ على حُكْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَيُدْعَوْنَ إلَى
الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوا فَهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ لَا سَبِيلَ على
أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَإِنْ أَبَوْا لَا يَقْتُلُهُمْ الْإِمَامُ وَلَا
يَسْتَرِقُّهُمْ وَلَكِنْ يَجْعَلُهُمْ ذِمَّةً فَإِنْ طَلَبُوا من الْإِمَامِ
أَنْ يُبْلِغَهُمْ مَأْمَنَهُمْ لم يُجِبْهُمْ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لو رَدَّهُمْ
إلَى مَأْمَنِهِمْ لَصَارُوا حَرْبًا لنا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الِاسْتِنْزَالَ على حُكْمِ اللَّهِ عز وجل هو
الِاسْتِنْزَالُ على الْحُكْمِ الْمَشْرُوعِ لِلْمُسْلِمِينَ في حَقِّ الْكَفَرَةِ
وَالْقَتْلُ وَالسَّبْيُ وَعَقْدُ الذِّمَّةِ كُلُّ ذلك حُكْمٌ مَشْرُوعٌ في
حَقِّهِمْ فَجَازَ الْإِنْزَالُ عليه قَوْلُهُ إنَّ ذلك مَجْهُولٌ لَا يَدْرِي
الْمُنْزَلَ عليه أَيُّ حُكْمٍ هو قُلْنَا نعم لَكِنْ يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ
وَالْعِلْمُ بِهِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْعِلْمِ وهو الِاخْتِيَارُ وَهَذَا لَا
يَكْفِي لِجَوَازِ الْإِنْزَالِ عليه كما قُلْنَا في الْكَفَّارَاتِ أن الْوَاجِبَ
أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثلاث ( ( ( الثلاثة ) ) ) وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ ثُمَّ
لم يَمْنَعْ ذلك وُقُوعَ تَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِهِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْعِلْمِ
بِهِ وهو اخْتِيَارُ الْكُفْرِ الْمُكَلَّفُ كَذَا هذا يَدُلُّ عليه أن يَجُوزُ
الْإِنْزَالُ على حُكْمِ الْعِبَادِ بِالْإِجْمَاعِ والإنزال على حُكْمِ
الْعِبَادِ إنْزَالٌ على حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً إذْ الْعَبْدُ لَا
يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْحُكْمِ من نَفْسِهِ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا يُشْرِكُ
في حُكْمِهِ أَحَدًا }
وقال تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إنْ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ } وَلَكِنَّهُ يُظْهِرُ
حُكْمَ اللَّهِ عز وجل الْمَشْرُوعَ في الْحَادِثَةِ وَلِهَذَا قال رسول اللَّهِ
لِسَعْدِ بن مُعَاذٍ رضي اللَّهُ عنه لقد حَكَمْتَ
____________________
(7/107)
بِحُكْمِ
اللَّهِ تَعَالَى من فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ إلَى زَمَانِ جَوَازِ وُرُودِ
النَّسْخِ وهو حَالُ حَيَاةِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِانْعِدَامِ
اسْتِقْرَارِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ في حَيَاتِهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لِئَلَّا يَكُونَ الْإِنْزَالُ على الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ عَسَى
لِاحْتِمَالِ النَّسْخِ فِيمَا بين ذلك وقد انْعَدَمَ هذا الْمَعْنَى بَعْدَ
وَفَاتِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِخُرُوجِ الْأَحْكَامِ عن احْتِمَالِ
النَّسْخِ بِوَفَاتِهِ
وإذا جَازَ الْإِنْزَالُ على حُكْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِنْدَ أبي
يُوسُفَ فَالْخِيَارُ فيه إلَى الْإِمَامِ فَأَيُّمَا كان أَفْضَلَ
لِلْمُسْلِمِينَ من الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالذِّمَّةِ فُعِلَ لِأَنَّ كُلَّ ذلك
حُكْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَشْرُوعُ لِلْمُسْلِمِينَ في حَقِّ
الْكَفَرَةِ فَإِنْ أَسْلَمُوا قبل الِاخْتِيَارِ فَهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ
لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عليهم وَعَلَى أَمْوَالِهِمْ وَالْأَرْضُ لهم وَهِيَ
عُشْرِيَّةٍ
وَكَذَلِكَ إذَا جَعَلَهُمْ ذِمَّةً فَهُمْ أَحْرَارٌ وَيَضَعُ على أَرَاضِيهِمْ
الْخَرَاجَ فَإِنْ أَسْلَمُوا قبل تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ صَارَتْ عُشْرِيَّةٍ
هذا إذَا كان الْإِنْزَالُ على حُكْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَأَمَّا
إذَا كان على حُكْمِ الْعِبَادِ بِأَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ على حُكْمِ رَجُلٍ
فَهَذَا لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إن اسْتَنْزَلُوهُمْ على حُكْمِ
رَجُلٍ مُعَيَّنٍ بِأَنْ قالوا على حُكْمِ فُلَانٍ لِرَجُلٍ سَمَّوْهُ
وَإِمَّا إن اسْتَنْزَلُوهُمْ على حُكْمِ رَجُلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَإِنْ كان
الِاسْتِنْزَالُ على حُكْمِ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ فَنَزَلُوا على حُكْمِهِ فَحَكَمَ
عليهم بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا وهو رَجُلٌ عَاقِلٌ مُسْلِمٌ عَدْلٌ غَيْرُ
مَحْدُودٍ في قَذْفٍ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ
لَمَّا حَاصَرَهُمْ رسول اللَّهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً اسْتَنْزَلُوا على
حُكْمِ سَعْدِ بن مُعَاذٍ فَحَكَمَ سَعْدٌ أَنْ تُقْتَلَ رِجَالُهُمْ وَتُقْسَمَ
أَمْوَالُهُمْ وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ فقال رسول اللَّهِ لقد
حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى من فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةً فَقَدْ
اسْتَصْوَبَ رسول اللَّهِ حُكْمَهُ حَيْثُ أَخْبَرَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
أَنَّ ما حَكَمَ بِهِ حُكْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِأَنَّ حُكْمَ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَكُونُ إلَّا صَوَابًا
وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِرَدِّهِمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ
حَكَمَ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ حُكْمٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لِمَا بَيَّنَّا
لِأَنَّهُمْ بِالرَّدِّ يَصِيرُونَ حَرْبِيِّينَ لنا
وَإِنْ كان الْحَاكِمُ عَبْدًا أو صَبِيًّا لم يَجُزْ حُكْمُهُ بِالْإِجْمَاعِ وإن
كان فَاسِقًا أو مَحْدُودًا في الْقَذْفِ لم يَجُزْ حُكْمُهُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْفَاسِقَ يَصْلُحُ قَاضِيًا
فَيَصْلُحُ حَكَمًا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمَحْدُودَ في الْقَذْفِ لَا يَصْلُحُ حَكَمًا
لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ الْوِلَايَةِ وَلِهَذَا لم يَصْلُحْ قَاضِيًا
وَكَذَا الْفَاسِقُ لَا يصح ( ( ( يصلح ) ) ) حَكَمًا وَإِنْ صَلَحَ قَاضِيًا
لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَضَاؤُهُ وَلِهَذَا لو رُفِعَتْ قَضِيَّةٌ إلَى قَاضٍ
آخَرَ إنْ شَاءَ أَمْضَاهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ وَإِنْ كان ذِمِّيًّا جَازَ
حُكْمُهُ في الْكَفَرَةِ لِأَنَّهُ من أَهْلِ الشَّهَادَةِ على جِنْسِهِ وَإِنْ نَزَلُوا
على حُكْمِ رَجُلٍ يَخْتَارُونَهُ فَاخْتَارُوا رَجُلًا فَإِنْ كان مَوْضِعًا
لِلْحُكْمِ جَازَ حُكْمُهُ وَإِنْ كان غير مَوْضِعٍ لِلْحُكْمِ لَا يُقْبَلُ منهم
حتى يَخْتَارُوا رَجُلًا مَوْضِعًا لِلْحُكْمِ فَإِنْ لم يَخْتَارُوا أَبْلَغَهُمْ
الْإِمَامُ مَأْمَنَهُمْ لِأَنَّ النُّزُولَ كان على شَرْطٍ وهو حُكْمُ رَجُلٍ
يَخْتَارُونَهُ فإذا لم يَخْتَارُوا فَقَدْ بَقُوا في يَدِ الْإِمَامِ
بِالْأَمَانِ فَيَرُدُّهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ إلَّا أَنَّهُ لَا يَرُدُّهُمْ إلَى
حِصْنٍ هو أَحْصَنُ من الْأَوَّلِ وَلَا إلَى حَدٍّ يَمْتَنِعُونَ بِهِ لِأَنَّ
الرَّدَّ إلَى الْمَأْمَنِ لِلتَّحَرُّجِ عن تَوَهُّمِ الْعُذْرِ وَأَنَّهُ
يَحْصُلُ بِالرَّدِّ إلَى ما كَانُوا عليه فَلَا ضَرُورَةَ في الرَّدِّ إلَى
غَيْرِهِ وَإِنْ نَزَلُوا على حُكْمِ رَجُلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يُعَيِّنَ
رَجُلًا صَالِحًا لِلْحُكْمِ فِيهِمْ أو يَحْكُمَ لِلْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِهِ
بِمَا هو أَفْضَلُ لهم
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَالثَّانِي الْمُوَادَعَةُ وَهِيَ الْمُعَاهَدَةُ وَالصُّلْحُ على تَرْكِ
الْقِتَالِ يُقَالُ تَوَادَعَ الْفَرِيقَانِ أَيَّ تَعَاهَدَا على أَنْ لَا
يَغْزُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَالْكَلَامُ في الْمُوَادَعَةِ في
مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِهَا وَشَرْطِهَا وَحُكْمِهَا وَصِفَتِهَا وما
يُنْتَقَضُ بِهِ
أَمَّا رُكْنُهَا فَهُوَ لَفْظَةُ الْمُوَادَعَةِ أو الْمُسَالَمَةِ أو
الْمُصَالَحَةِ أو الْمُعَاهَدَةِ أو ما يُؤَدِّي مَعْنَى هذه الْعِبَارَاتِ
وَشَرْطُهَا الضَّرُورَةُ وَهِيَ ضَرُورَةُ اسْتِعْدَادِ الْقِتَالِ بِأَنْ كان
بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةُ الْمُجَاوَزَةِ إلَى قَوْمٍ
آخَرِينَ فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ لِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ تَرْكُ
الْقِتَالِ الْمَفْرُوضِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا في حَالٍ يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى
الْقِتَالِ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ قِتَالًا مَعْنًى
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ
وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ وَاَللَّهُ مَعَكُمْ } وَعِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ
لَا بَأْسَ بِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَإِنْ جَنَحُوا
لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لها وَتَوَكَّلْ على اللَّهِ } وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ وَادَعَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ على أَنْ تُوضَعَ الْحَرْبُ
عَشْرَ سِنِينَ وَلَا يُشْتَرَطُ إذْنُ الْإِمَامِ بِالْمُوَادَعَةِ حتى لو
وَادَعَهُمْ الْإِمَامُ أو فَرِيقٌ من الْمُسْلِمِينَ من غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ
جَازَتْ مُوَادَعَتُهُمْ لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ عليه كَوْنُ عَقْدِ الْمُوَادَعَةِ
مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ وقد وُجِدَ
وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُسْلِمُونَ على ذلك جُعْلًا لِأَنَّ ذلك في
مَعْنَى الْجِزْيَةِ وَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ في بَيْتِ الْمَالِ وَلَا
بَأْسَ أَنْ يَطْلُبَ الْمُسْلِمُونَ الصُّلْحَ من الْكَفَرَةِ وَيُعْطُوا على ذلك
مَالًا إذَا اُضْطُرُّوا إلَيْهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَإِنْ
جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لها } أَبَاحَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا
الصُّلْحَ مُطْلَقًا
____________________
(7/108)
فَيَجُوزُ
بِبَدَلٍ أو غَيْرِ بَدَلٍ وَلِأَنَّ الصُّلْحَ على مَالٍ لِدَفْعِ شَرِّ
الْكَفَرَةِ لِلْحَالِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ في الثَّانِي من بَابِ
الْمُجَاهَدَةِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ فَيَكُونُ جَائِزًا وَتَجُوزُ مُوَادَعَةُ
الْمُرْتَدِّينَ إذَا غَلَبُوا على دَارٍ من دُورِ الْإِسْلَامِ وَخِيفَ منهم ولم
تُؤْمَنْ غَائِلَتُهُمْ لِمَا فيه من مَصْلَحَةِ دَفْعِ الشَّرِّ لِلْحَالِ
وَرَجَاءِ رُجُوعِهِمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَتَوْبَتِهِمْ لا يُؤْخَذُ منهم على ذلك
مَالٌ لِأَنَّ ذلك في مَعْنَى الْجِزْيَةِ وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ من
الْمُرْتَدِّينَ فَإِنْ أَخَذَ منهم شيئا لَا يُرَدُّ لِأَنَّهُ مَالٌ غَيْرُ
مَعْصُومٍ أَلَا تَرَى أَنَّ أَمْوَالَهُمْ مَحَلٌّ لِلِاسْتِيلَاءِ كَأَمْوَالِ
أَهْلِ الْحَرْبِ
وَكَذَلِكَ الْبُغَاةُ تَجُوزُ مُوَادَعَتُهُمْ
لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ مُوَادَعَةُ الْكَفَرَةِ فَلَأَنْ تَجُوزَ مُوَادَعَةُ
الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى
وَلَكِنْ لَا يُؤْخَذُ منهم على ذلك مَالٌ لِأَنَّ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ على
تَرْكِ الْقِتَالِ يَكُونُ في مَعْنَى الْجِزْيَةِ وَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ
إلَّا من كَافِرٍ
وَأَمَّا حُكْمُ الْمُوَادَعَةِ فما ( ( ( فهو ) ) ) هو حُكْمُ الْأَمَانِ
الْمَعْرُوفِ وهو أَنْ يَأْمَنَ الْمُوَادِعُونَ على أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
وَنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ لِأَنَّهَا عَقْدُ أَمَانٍ أَيْضًا
وَلَوْ خَرَجَ قَوْمٌ من الْمُوَادَعِينَ إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى لَيْسَتْ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُوَادَعَةٌ فَغَزَا الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ
الْبَلْدَةَ فَهَؤُلَاءِ آمِنُونَ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عليهم لِأَنَّ عَقْدَ
الْمُوَادَعَةِ أَفَادَ الْأَمَانَ لهم فَلَا يُنْتَقَضُ بِالْخُرُوجِ إلَى
مَوْضِعٍ آخَرَ كما في الْأَمَانِ الْمُؤَبَّدِ وهو عَقْدُ الذِّمَّةِ أنه لَا
يَبْطُلُ بِدُخُولِ الذِّمِّيِّ دَارَ الْحَرْبِ
كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ لو دخل في دَارِ الْمُوَادَعَةِ رَجُلٌ من غَيْرِ دارهم ( ( ( دراهم )
) ) بِأَمَانٍ ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَهُوَ
آمِنٌ لِأَنَّهُ لَمَّا دخل دَارَ الْمُوَادَعِينَ بِأَمَانِهِمْ صَارَ كَوَاحِدٍ
من جُمْلَتِهِمْ فَلَوْ عَادَ إلَى دَارِهِ ثُمَّ دخل دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ
أَمَانٍ كان فَيْئًا لنا أَنْ نَقْتُلَهُ وَنَأْسِرَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ
إلَى دَارِهِ فَقَدْ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ من أَهْلِ دَارِ الْمُوَادَعَةِ
فَبَطَلَ حُكْمُ الْمُوَادَعَةِ في حَقِّهِ فإذا دخل دَارَ الْإِسْلَامِ فَهَذَا
حَرْبِيٌّ دخل دَارَ الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ أَمَانٍ
وَلَوْ أَسَرَ واحدا من الْمُوَادَعِينَ أَهْلَ دَارٍ أُخْرَى فَغَزَا
الْمُسْلِمُونَ على تِلْكَ الدَّارِ كان فَيْئًا وقد ذَكَرْنَا أَنَّهُ لو دخل
إلَيْهِمْ تاجرا ( ( ( تاجر ) ) ) فَهُوَ آمِنٌ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُ لَمَّا أَسَرَ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ الْمُوَادَعَةِ
في حَقِّهِ
وإذا دخل تَاجِرًا لم يَنْقَطِعْ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا صِفَةُ عَقْدِ الْمُوَادَعَةِ فَهُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ
مُحْتَمِلٌ لِلنَّقْضِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَإِمَّا تَخَافَنَّ من قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ
إلَيْهِمْ على سَوَاءٍ } فإذا وَصَلَ النَّبْذُ إلَى مَلِكِهِمْ فَلَا بَأْسَ
لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوا عليهم لِأَنَّ الْمَلِكَ يُبَلِّغُ قَوْمَهُ
ظَاهِرًا إلَّا إذَا اسْتَيْقَنَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ خَبَرَ النَّبْذِ لم
يَبْلُغْ قَوْمَهُ ولم يَعْلَمُوا بِهِ فَلَا أُحِبُّ أَنْ يَغْزُوا عليهم لِأَنَّ
الْخَبَرَ إذَا لم يَبْلُغْهُمْ فَهُمْ على حُكْمِ الْأَمَانِ الْأَوَّلِ فَكَانَ
قِتَالُهُمْ مِنَّا غَدْرًا وتعزيرا ( ( ( وتغريرا ) ) )
وَكَذَلِكَ إذَا كان النَّبْذُ من جِهَتِهِمْ بِأَنْ أَرْسَلُوا إلَيْنَا رَسُولًا
بِالنَّبْذِ وَأَخْبَرُوا الْإِمَامَ بِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ
يَغْزُوا عليهم لِمَا قُلْنَا إلَّا إذَا اسْتَيْقَنَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ أَهْلَ
نَاحِيَةٍ منهم لم يَعْلَمُوا بِذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ وَادَعَ الْإِمَامُ على جَعْلٍ أَخَذَهُ منهم ثُمَّ بَدَا له أَنْ يَنْقُضَ
فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ
مُحْتَمِلًا لِلنَّقْضِ وَلَكِنْ يَبْعَثُ إلَيْهِمْ بِحِصَّةِ ما بَقِيَ من
الْمُدَّةِ من الْجَعْلِ الذي أَخَذَهُ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَعْطَوْهُ ذلك
بِمُقَابَلَةِ الْأَمَانِ في كل الْمُدَّةِ فإذا فَاتَ بَعْضُهَا لَزِمَ الرَّدُّ
بِقَدْرِ الْفَائِتِ
هذا إذَا وَقَعَ الصُّلْحُ على أَنْ يَكُونُوا مُسْتَبْقِينَ على أَحْكَامِ
الْكُفْرِ فَأَمَّا إذَا وَقَعَ الصُّلْحُ على أَنَّهُ يُجْرِي عليهم أَحْكَامَ
الْإِسْلَامِ فَهُوَ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ لِأَنَّ الصُّلْحَ
الْوَاقِعَ على هذا الْوَجْهِ عَقْدُ ذِمَّةٍ فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ
يَنْبِذَ إلَيْهِمْ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يُنْقَضُ بِهِ عَقَدُ الْمُوَادَعَةِ فَالْجُمْلَةُ فيه أَنَّ
عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ إمَّا إن كان مُطْلَقًا عن الْوَقْتِ وَإِمَّا إن كان
مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ فَإِنْ كان مُطْلَقًا عن الْوَقْتِ فَاَلَّذِي
يُنْتَقَضُ بِهِ نَوْعَانِ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ فَالنَّصُّ هو النَّبْذُ من
الْجَانِبَيْنِ صَرِيحًا
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يُوجَدَ منهم ما يَدُلُّ على النَّبْذِ نَحْوُ
أَنْ يَخْرُجَ قَوْمٌ من دَارِ الْمُوَادَعَةِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَيَقْطَعُوا
الطَّرِيقَ في دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ إذْنَ الْإِمَامِ بِذَلِكَ دَلَالَةُ
النَّبْذِ
وَلَوْ خَرَجَ قَوْمٌ من غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَقَطَعُوا الطَّرِيقَ في دَارِ
الْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً لَا مَنَعَةَ لهم لَا يَكُونُ ذلك نَقْضًا
لِلْعَهْدِ لِأَنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ بِلَا مَنَعَةٍ لَا يَصْلُحُ دَلَالَةً
لِلنَّقْضِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو نَصَّ وَاحِدٌ منهم على النَّقْضِ لَا يُنْتَقَضُ كما في
الْأَمَانِ الْمُؤَبَّدِ وهو عَقْدُ الذِّمَّةِ وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً لهم
مَنَعَةٌ فَخَرَجُوا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ وَلَا إذْنِ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ
____________________
(7/109)
فَالْمَلِكُ
وَأَهْلُ مَمْلَكَتِهِ على مُوَادَعَتِهِمْ لِانْعِدَامِ دَلَالَةِ النَّقْضِ في
حَقِّهِمْ وَلَكِنْ يُنْتَقَضُ الْعَهْدُ فِيمَا بين الْقُطَّاعِ حتى يُبَاحَ
قَتْلُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ لِوُجُودِ دَلِيلِ النَّقْضِ منهم وَإِنْ كان
مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ يَنْتَهِي الْعَهْدُ بِانْتِهَاءِ الْوَقْتِ من
غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى النَّبْذِ حتى كان لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوا عليهم
لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُؤَقَّتَ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ
من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى النَّاقِضِ وَلَوْ كان وَاحِدٌ منهم دخل الْإِسْلَامَ
بِالْمُوَادَعَةِ الْمُؤَقَّتَةِ فَمَضَى الْوَقْتُ وهو في دَارِ الْإِسْلَامِ
فَهُوَ آمِنٌ حتى يَرْجِعَ إلَى مَأْمَنِهِ لِأَنَّ التَّعَرُّضَ له يُوهِمُ
الْغَدْرَ والتعزير ( ( ( والتغرير ) ) ) فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عنه ما أَمْكَنَ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْأَمَانُ الْمُؤَبَّدُ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِعَقْدِ الذِّمَّةِ
وَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِ الْعَقْدِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ
الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْعَقْدِ وفي بَيَانِ صِفَةِ الْعَقْدِ وفي بَيَانِ
ما يُؤْخَذُ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ وما يَتَعَرَّضُ له وما لَا يَتَعَرَّضُ له
أَمَّا رُكْنُ الْعَقْدِ فَهُوَ نَوْعَانِ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ
أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ لَفْظٌ يَدُلُّ عليه وهو لَفْظُ الْعَهْدِ وَالْعَقْدِ على
وَجْهٍ مَخْصُوصٍ وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ فِعْلٌ يَدُلُّ على قَبُولِ
الْجِزْيَةِ نَحْوُ أَنْ يَدْخُلَ حَرْبِيٌّ في دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ
فَإِنْ أَقَامَ بها سَنَةً بعدما تَقَدَّمَ إلَيْهِ في أَنْ يَخْرُجَ أو يَكُونَ
ذِمِّيًّا وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا دخل دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ
يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ فَيَضْرِبَ له مُدَّةً
مَعْلُومَةً على حَسَبِ ما يَقْتَضِي رَأْيُهُ وَيَقُولَ له إنْ جَاوَزْتَ
الْمُدَّةَ جَعَلْتُكَ من أَهْلِ الذِّمَّةِ فإذا جَاوَزَهَا صَارَ ذِمِّيًّا
لِأَنَّهُ لَمَّا قال له ذلك فلم يَخْرُجْ حتى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَقَدْ رضي
بِصَيْرُورَتِهِ ذِمِّيًّا فإذا أَقَامَ سَنَةً من يَوْمِ قال له الْإِمَامُ
أَخَذَ منه الْجِزْيَةَ وَلَا يَتْرُكُهُ يَرْجِعُ إلَى وَطَنِهِ قبل ذلك
وَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ تَمَامِ السَّنَةِ فَلَا سَبِيلَ عليه
وَلَوْ قال الْإِمَامُ عِنْدَ الدُّخُولِ اُدْخُلْ وَلَا تَمْكُثْ سَنَةً فَمَكَثَ
سَنَةً صَارَ ذِمِّيًّا وَلَا يُمَكَّنُ من الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ لِمَا
قُلْنَا
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُسْتَأْمَنُ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً فإذا وَضَعَ عليه
الْخَرَاجَ صَارَ ذِمِّيًّا لِأَنَّ وَظِيفَةَ الْخَرَّاجِ يَخْتَصُّ بِالْمُقَامِ
في دَارِ الْإِسْلَامِ فإذا قَبِلَهَا فَقَدْ رضي بِكَوْنِهِ من أَهْلِ دَارِ
الْإِسْلَامِ فَيَصِيرُ ذِمِّيًّا وَلَوْ بَاعَهَا قبل أَنْ يَجْبِيَ خَرَاجَهَا
لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا
لِأَنَّ دَلِيلَ قَبُولِ الذِّمَّةِ وُجُوبُ الْخَرَاجِ لَا نَفْسُ الشِّرَاءِ
فما لم يُوضَعْ عليه الْخَرَاجُ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً فَزَرَعَهَا لم يَصِرْ ذِمِّيًّا لِأَنَّ
الْخَرَاجَ على الْآجِرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَا يَدُلُّ على الْتِزَامِ
الذِّمَّةِ إلَّا إذَا كان خراج ( ( ( خراجا ) ) ) مُقَاسَمَةً
فإذا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ وَأَخَذَ الْإِمَامُ الْخَرَاجَ من الْخَارِجِ وَضَعَ
عليه الْجِزْيَةَ وَجَعَلَهُ ذِمِّيًّا
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُسْتَأْمَنُ أَرْضَ الْمُقَاسَمَةِ وَأَجَّرَهَا من رَجُلٍ من
الْمُسْلِمِينَ فَأَخَذَ الْإِمَامُ الْخَرَاجَ من ذلك لَا يَصِيرُ
الْمُسْتَأْمَنُ ذِمِّيًّا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ نَفْسَ الشِّرَاءِ لَا يَدُلُّ
على الِالْتِزَامِ بَلْ دَلِيلُ الِالْتِزَامِ هو وُجُوبُ الْخَرَاجِ عليه ولم
يَجِبْ
وَلَوْ اشْتَرَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ أَرْضَ خَرَاجٍ فَزَرَعَهَا
فَأَخْرَجَتْ زَرْعًا
فَأَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ أنه لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا
لِأَنَّهُ إذَا أَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ لم يَجِبْ الْخَرَاجُ فَصَارَ كَأَنَّهُ
لم يَزْرَعْهَا فَبَقِيَ نَفْسُ الشِّرَاءِ وأنه لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ قَبُولِ
الذِّمَّةِ
وَلَوْ وَجَبَ على الْمُسْتَأْمَنِ الْخَرَاجُ في أَقَلَّ من سَنَةٍ مُنْذُ يَوْمِ
مَلَكَهَا صَارَ ذِمِّيًّا حين وُجُوبِ الْخَرَاجِ وَيُؤْخَذُ منه خَرَاجُ
رَأْسِهِ بَعْدَ سَنَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ لِأَنَّهُ بِوُجُوبِ خَرَاجِ الْأَرْضِ
صَارَ ذِمِّيًّا
كان عَقْدُ الذِّمَّةِ نَصًّا فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ من حِينِ وُجُوبِ
الْخَرَاجِ فَيُؤْخَذُ خَرَاجُ الرَّأْسِ بَعْدَ تَمَامِ السَّنَةِ من ذلك
الْوَقْتِ
وَلَوْ تَزَوَّجَتْ الْحَرْبِيَّةُ الْمُسْتَأْمَنَةُ في دَارِ الْإِسْلَامِ
ذِمِّيًّا صَارَتْ ذِمِّيَّةً وَلَوْ تَزَوَّجَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ في
دَارِ الْإِسْلَامِ ذِمِّيَّةً لم يَصِرْ ذِمِّيًّا
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَابِعَةٌ لِزَوْجِهَا فإذا تَزَوَّجَتْ
بِذِمِّيٍّ فَقَدْ رَضِيَتْ بِالْمُقَامِ في دَارِنَا فَصَارَتْ ذِمِّيَّةً
تَبَعًا لِزَوْجِهَا فَأَمَّا الزَّوْجُ فَلَيْسَ بِتَابِعٍ لِلْمَرْأَةِ فَلَا
يَكُونُ تَزَوُّجُهُ إيَّاهَا دَلِيلَ الرِّضَا بِالْمُقَامِ في دَارِنَا فَلَا
يَصِيرُ ذِمِّيًّا
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ لَا يَكُونَ الْمُعَاهَدُ من
مُشْرِكِي الْعَرَبِ فإنه لَا يُقْبَلُ منهم إلَّا الْإِسْلَامُ أو السَّيْفُ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } إلَى
قَوْله تَعَالَى { فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ ولم يَأْمُرْ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ إلَّا عِنْدَ
تَوْبَتِهِمْ وَهِيَ الْإِسْلَامُ وَيَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ مع أَهْلِ
الْكِتَابِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } إلَى قَوْله تَعَالَى { من
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } الْآيَةَ
وَسَوَاءٌ كَانُوا من الْعَرَبِ أو من الْعَجَمِ لِعُمُومِ النَّصِّ وَيَجُوزُ مع
الْمَجُوسِ لِأَنَّهُمْ مُلْحَقُونَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ في حَقِّ الْجِزْيَةِ
لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال في الْمَجُوسِ سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ
أَهْلِ الْكِتَابِ
وَكَذَلِكَ فَعَلَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه بِسَوَادِ الْعِرَاقِ
وَضَرَبَ الْجِزْيَةَ على جَمَاجِمِهِمْ وَالْخَرَاجَ على أَرَاضِيهِمْ
ثُمَّ وَجْهُ الْفَرْقِ بين مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ من أَهْلِ
الْكِتَابِ وَمُشْرِكِي
____________________
(7/110)
الْعَجَمِ
أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إنَّمَا تُرِكُوا بِالذِّمَّةِ وَقَبُولِ الْجِزْيَةِ لَا
لِرَغْبَةٍ فِيمَا يُؤْخَذُ منهم أو طَمَعٍ في ذلك بَلْ لِلدَّعْوَةِ إلَى
الْإِسْلَامِ لِيُخَالِطُوا الْمُسْلِمِينَ فَيَتَأَمَّلُوا في مَحَاسِنِ
الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ وَيَنْظُرُوا فيها فَيَرَوْهَا مُؤَسَّسَةً على ما
تَحْتَمِلُهُ الْعُقُولُ وَتَقْبَلُهُ فَيَدْعُوهُمْ ذلك إلَى الْإِسْلَامِ
فَيَرْغَبُونَ فيه فَكَانَ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِرَجَاءِ الْإِسْلَامِ
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ مع مُشْرِكِي الْعَرَبِ
لِأَنَّهُمْ أَهْلُ تَقْلِيدٍ وَعَادَةٍ لَا يَعْرِفُونَ سِوَى الْعَادَةِ وَتَقْلِيدِ
الْآبَاءِ بَلْ يَعُدُّونَ ما سِوَى ذلك سُخْرِيَةً وَجُنُونًا فَلَا
يَشْتَغِلُونَ بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ في مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ لِيَقِفُوا
عليها فَيَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَتَعَيَّنَ السَّيْفُ دَاعِيًا لهم إلَى
الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا لم يَقْبَلْ رسول اللَّهِ منهم الْجِزْيَةَ
ومشركوا ( ( ( ومشركو ) ) ) الْعَجَمِ مُلْحَقُونَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ في هذا
الْحُكْمِ بِالنَّصِّ الذي رَوَيْنَا
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مُرْتَدًّا فإنه لَا يُقْبَلُ من الْمُرْتَدِّ أَيْضًا
إلَّا الْإِسْلَامُ أو السَّيْفُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {
تُقَاتِلُونَهُمْ أو يُسْلِمُونَ } قِيلَ إنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ في أَهْلِ
الرِّدَّةِ من بَنِي حَنِيفَةَ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ في حَقِّ الْمُرْتَدِّ لَا
يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ عن
دِينِ الْإِسْلَامِ بعدما عَرَفَ مَحَاسِنَهُ وَشَرَائِعَهُ الْمَحْمُودَةَ في
الْعُقُولِ إلَّا لِسُوءِ اخْتِيَارِهِ وَشُؤْمِ طَبْعِهِ فَيَقَعُ الْيَأْسُ عن
فَلَاحِهِ فَلَا يَكُونُ عَقْدُ الذِّمَّةِ وَقَبُولُ الْجِزْيَةِ في حَقِّهِ وَسِيلَةً
إلَى الْإِسْلَامِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الصَّابِئُونَ فَيُعْقَدُ لهم عَقْدُ الذِّمَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا في
كِتَابِ النِّكَاحِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ هم قَوْمٌ من أَهْلِ الْكِتَابِ يقرؤون (
( ( يقرءون ) ) ) الزَّبُورَ وَعِنْدَهُمَا قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ
فَكَانُوا في حُكْمِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَتُؤْخَذُ منهم الْجِزْيَةُ إذَا
كَانُوا من الْعَجَمِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا فَإِنْ وَقَّتَ له وَقْتًا لم يَصِحَّ عَقْدُ
الذِّمَّةِ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ في إفَادَةِ الْعِصْمَةِ كَالْخَلَفِ عن
عَقْدِ الْإِسْلَامِ
وَعَقْدُ الْإِسْلَامِ لَا يَصِحُّ إلَّا مُؤَبَّدًا فَكَذَا عَقْدُ الذِّمَّةِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْعَقْدِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ إنَّ
لِعَقْدِ الذِّمَّةِ أَحْكَامًا منها عِصْمَةُ النَّفْسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ عز وجل { حتى
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } نهى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
إبَاحَةَ الْقِتَالِ إلَى غَايَةِ قَبُولِ الْجِزْيَةِ وإذا انْتَهَتْ
الْإِبَاحَةُ تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ ضَرُورَةً
وَمِنْهَا عِصْمَةُ الْمَالِ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِعِصْمَةِ النَّفْسِ
وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال إنَّمَا قَبِلُوا عَقْدَ
الذِّمَّةِ لِتَكُونَ أَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا وَدِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا
وَالْكَلَامُ في وُجُوبِ الْجِزْيَةِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ
الْجِزْيَةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ وَقْتِ الْوُجُوبِ وفي
بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ وفي بَيَانِ ما يَسْقُطُ بِهِ بَعْدَ الْوُجُوبِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَسَبَبُ وُجُوبِهَا عَقْدُ الذِّمَّةِ وَأَمَّا شَرَائِطُ
الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ منها الْعَقْلُ وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وَمِنْهَا
الذُّكُورَةُ فَلَا تَجِبُ على الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَجَانِينِ لِأَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْجَبَ الْجِزْيَةَ على من هو من أَهْلِ
الْقِتَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ
وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } الْآيَةَ
وَالْمُقَاتَلَةُ مُفَاعَلَةٌ من الْقِتَالِ فَتَسْتَدْعِي أَهْلِيَّةِ الْقِتَالِ
من الْجَانِبَيْنِ فَلَا تَجِبُ على من ليس من أَهْلِ الْقِتَالِ وَهَؤُلَاءِ
لَيْسُوا من أَهْلِ الْقِتَالِ فَلَا تَجِبُ عليهم
وَمِنْهَا الصِّحَّةُ فَلَا تَجِبُ على الْمَرِيضِ إذَا مَرِضَ السَّنَةَ كُلَّهَا
لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَقْدِرُ على الْقِتَالِ
وَكَذَلِكَ إنْ مَرِضَ أَكْثَرَ السَّنَةِ وَإِنْ صَحَّ أَكْثَرَ السَّنَةِ
وَجَبَتْ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ
وَمِنْهَا السَّلَامَةُ عن الزَّمَانَةِ وَالْعَمَى وَالْكِبَرِ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ فَلَا تَجِبُ على الزَّمِنِ وَالْأَعْمَى وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أنها لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَتَجِبُ على هَؤُلَاءِ إذَا كان
لهم مَالٌ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا
من أَهْلِ الْقِتَالِ عَادَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ وَكَذَا
الْفَقِيرُ الذي لَا يَعْتَمِلُ لَا قُدْرَةَ له لِأَنَّ من لَا يَقْدِرُ على
الْعَمَلِ لَا يَكُونُ من أَهْلِ الْقِتَالِ
وَأَمَّا أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ فَعَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ إذَا كَانُوا
قَادِرِينَ على الْعَمَلِ لِأَنَّهُمْ من أَهْلِ الْقِتَالِ فَعَدَمُ الْعَمَلِ مع
الْقُدْرَةِ على الْعَمَلِ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ كما إذَا كان له أَرْضٌ
خَرَاجِيَّةٌ فلم يَزْرَعْهَا مع الْقُدْرَةِ على الزِّرَاعَةِ لَا يَسْقُطُ عنه
الْخَرَاجُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ فَلَا تَجِبُ على الْعَبْدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ ليس من
أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ
وَأَمَّا وَقْتُ الْوُجُوبِ فَأَوَّلُ السَّنَةِ لِأَنَّهَا تَجِبُ لِحَقْنِ
الدَّمِ في الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا تُؤَخَّرُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ وَلَكِنْ
تُؤْخَذُ في كل شَهْرٍ من الْفَقِيرِ دِرْهَمٌ وَمِنْ الْمُتَوَسِّطِ دِرْهَمَانِ
وَمِنْ الْغَنِيِّ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ
وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
الْجِزْيَةُ على ضَرْبَيْنِ جِزْيَةٌ تُوضَعُ بِالتَّرَاضِي وهو الصُّلْحُ
وَذَلِكَ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ ما وَقَعَ عليه الصُّلْحُ كما صَالَحَ رسول اللَّهِ
____________________
(7/111)
أَهْلَ
نَجْرَانَ على أَلْفٍ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ
وَجِزْيَةٌ يَضَعُهَا الْإِمَامُ عليهم من غَيْرِ رِضَاهُمْ بِأَنْ ظَهَرَ
الْإِمَامُ على أَرْضِ الْكُفَّارِ وَأَقَرَّهُمْ على أَمْلَاكِهِمْ وَجَعَلَهُمْ
ذِمَّةً وَذَلِكَ على ثَلَاثَةِ مَرَاتِبَ لِأَنَّ الذِّمَّةَ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ
أَغْنِيَاءُ وَأَوْسَاطٌ وَفُقَرَاءُ فَيَضَعُ على الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً
وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَعَلَى الْوَسَطِ أَرْبَعَةً وعشرون ( ( ( وعشرين ) ) )
دِرْهَمًا وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا
كَذَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ أَمَرَ عُثْمَانَ بن
حُنَيْفٍ حين بَعَثَهُ إلَى السَّوَادِ أَنْ يَضَعَ هَكَذَا وكان ذلك من
سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ من الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ فَهُوَ
كَالْإِجْمَاعِ على ذلك مع ما أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ من سَيِّدِنَا
عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه رَأْيًا لِأَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ سَبِيلُ مَعْرِفَتِهَا
التَّوْقِيفُ وَالسَّمْعُ لَا الْعَقْلُ فَهُوَ كَالْمَسْمُوعِ من رسول اللَّهِ
ثُمَّ اُخْتُلِفَ في تَفْسِيرِ الْغَنِيِّ في هذا الْبَابِ وَالْوَسَطِ
وَالْفَقِيرِ
قال بَعْضُهُمْ من لم يَمْلِكْ نِصَابًا تَجِبُ في مِثْلِهِ الزَّكَاةُ على
الْمُسْلِمِينَ وهو مِائَتَا دِرْهَمٍ فَهُوَ فَقِيرٌ وَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ
دِرْهَمٍ فَهُوَ من الْأَوَاسِطِ وَمَنْ مَلَكَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ
فَصَاعِدًا فَهُوَ من الْأَغْنِيَاءِ لِمَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَعَبْدِ
اللَّهِ بن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمَا قَالَا
أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فما دُونَهَا نَفَقَةٌ وما فَوْقَ ذلك كَنْزٌ وَقِيلَ
من مَلَكَ مائتين ( ( ( مائتي ) ) ) دِرْهَمٍ إلَى عَشْرَةِ آلَافٍ فما دُونَهَا
فَهُوَ من الْأَوْسَاطِ وَمَنْ مَلَكَ زِيَادَةً على عَشَرَةِ آلَافٍ فَهُوَ من
الْأَغْنِيَاءِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا ما يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ منها الْإِسْلَامُ
وَمِنْهَا الْمَوْتُ عِنْدَنَا فإن الذِّمِّيَّ إذَا أَسْلَمَ أو مَاتَ سَقَطَتْ
الْجِزْيَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَسْقُطُ
بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ عِوَضًا عن الْعِصْمَةِ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ جَلَّ
شَأْنُهُ { حتى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } أَبَاحَ جَلَّتْ
عَظَمَتُهُ دِمَاءَ أَهْلِ الْقِتَالِ ثُمَّ حَقَنَهَا بِالْجِزْيَةِ فَكَانَتْ
الْجِزْيَةُ عِوَضًا عن حَقْنِ الدَّمِ وقد حَصَلَ له المعوض ( ( ( العوض ) ) ) في
الزَّمَانِ الْمَاضِي فَلَا يَسْقُطُ عنه الْعِوَضُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال ليس على مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ وَعَنْ
سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ رَفَعَ الْجِزْيَةَ بِالْإِسْلَامِ
فقال وَاَللَّهِ إنَّ في الْإِسْلَامِ لَمَعَاذًا إنْ فَعَلَ وَلِأَنَّهَا
وَجَبَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ فَلَا تَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ
وَالْمَوْتِ كَالْقِتَالِ
والدليل على أنها وَجَبَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ الْإِسْلَامَ فُرِضَ
بِالنُّصُوصِ وَالْجِزْيَةُ تَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْقِتَالِ فَلَا يَجُوزُ شَرْعُ
عَقْدِ الذِّمَّةِ وَالْجِزْيَةِ الذي فيه تَرْكُ الْقِتَالِ إلَّا لِمَا شُرِعَ
له الْقِتَالُ وهو التَّوَسُّلُ إلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَيَكُونُ تَنَاقُضًا
وَالشَّرِيعَةُ لَا تَتَنَاقَضُ
وَتَعَذَّرَ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّوَسُّلِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ
فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً
وَقَوْلُهُ إنَّهَا وَجَبَتْ عِوَضًا عن حَقْنِ الدَّمِ مَمْنُوعٌ بَلْ ما
وَجَبَتْ إلَّا وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ لِأَنَّ تَمْكِينَ الْكَفَرَةِ في
دَارِ الْإِسْلَامِ وَتَرْكَ قِتَالِهِمْ مع قَوْلِهِمْ في اللَّهِ ما لَا يَلِيقُ
بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْوُصُولِ إلَى عَرَضٍ يَسِيرٍ من
الدُّنْيَا خَارِجٌ عن الْحُكْمِ وَالْعَقْلِ
فَأَمَّا التَّوَسُّلُ إلَى الْإِسْلَامِ وَإِعْدَامُ الْكَفَرَةِ فَمَعْقُولٌ مع
ما أنها إنْ وَجَبَتْ لِحَقْنِ الدَّمِ فَإِنَّمَا تَجِبُ كَذَلِكَ في
الْمُسْتَقْبَلِ وإذا صَارَ دَمُهُ مَحْقُونًا فِيمَا مَضَى فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ
الْجِزْيَةِ لِأَجْلِهِ فَتَسْقُطُ
وَمِنْهَا مُضِيُّ سَنَةٍ تَامَّةٍ وَدُخُولُ سَنَةٍ أُخْرَى عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا لَا تَسْقُطُ حتى إنَّهُ إذَا مَضَى على الذِّمَّةِ سَنَةٌ
كَامِلَةٌ وَدَخَلَتْ سَنَةٌ أُخْرَى قبل أَنْ يُؤَدِّيَهَا الذِّمِّيُّ تُؤْخَذُ
منه لِلسَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَلَا تُؤْخَذُ لِلسَّنَةِ الْمَاضِيَةِ
عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا تُؤْخَذُ لِمَا مَضَى ما دَامَ ذِمِّيًّا وَالْمَسْأَلَةُ
تُعْرَفُ بِالْمَوَانِيد أنها تُؤْخَذُ أَمْ لَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجِزْيَةَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْخَرَاجِ فَلَا تَسْقُطُ
بِالتَّأْخِيرِ إلَى سَنَةٍ أُخْرَى اسْتِدْلَالًا بِالْخَرَاجِ الْآخَرِ وهو
خَرَاجُ الْأَرْضِ وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ فَلَا تَسْقُطُ
بِالتَّأْخِيرِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْجِزْيَةَ ما
وَجَبَتْ إلَّا لِرَجَاءِ الْإِسْلَامِ وإذا لم يُوجَدْ حتى دَخَلَتْ سَنَةٌ
أُخْرَى انْقَطَعَ الرَّجَاءُ فِيمَا مَضَى وَبَقِيَ الرَّجَاءُ في
الْمُسْتَقْبَلِ فَيُؤْخَذُ لِلسَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ
وَالثَّانِي أَنَّ الْجِزْيَةَ إنَّمَا جُعِلَتْ لِحَقْنِ الدَّمِ في
الْمُسْتَقْبَلِ فإذا صَارَ دَمُهُ مَحْقُونًا في السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ فَلَا
تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ لِأَجْلِهَا لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ إلَى ذلك كما إذَا
أَسْلَمَ أو مَاتَ تَسْقُطُ عنه الْجِزْيَةُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى الْحَقْنِ
بِالْجِزْيَةِ كَذَا هذا
وَالِاعْتِبَارُ بِخَرَاجِ الْأَرْضِ غَيْرُ سَدِيدٍ فإن الْمَجُوسِيَّ إذَا
أَسْلَمَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ لَا يَسْقُطُ عنه خَرَاجُ الْأَرْضِ وَيَسْقُطُ
عنه خَرَاجُ الرَّأْسِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَبِهِ
تَبَيَّنَ أَنَّ هذا ليس كَسَائِرِ الدُّيُونِ فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ بها
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وأمة صِفَةُ الْعَقْدِ فَهُوَ أَنَّهُ لَازِمٌ في حَقِّنَا حتى لَا يَمْلِكَ
الْمُسْلِمُونَ نَقْضَهُ بِحَالٍ من الْأَحْوَالِ
وَأَمَّا في حَقِّهِمْ فَغَيْرُ لَازِمٍ بَلْ
____________________
(7/112)
يَحْتَمِلُ
الِانْتِفَاعَ في الْجُمْلَةِ لَكِنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ إلَّا بِأَحَدِ أُمُورٍ
ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا أَنْ يُسْلِمَ الذِّمِّيُّ لِمَا مَرَّ أَنَّ الذِّمَّةَ
عُقِدَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ وقد حَصَلَ الْمَقْصُودُ
وَالثَّانِي أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُ إذَا لَحِقَ بِدَارِ
الْحَرْبِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ إلَّا أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا لَحِقَ
بِدَارِ الْحَرْبِ يُسْتَرَقُّ وَالْمُرْتَدُّ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَا
يُسْتَرَقُّ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَالثَّالِثُ أَنْ يَغْلِبُوا على مَوْضِعٍ فَيُحَارِبُونَ لِأَنَّهُمْ إذَا
فَعَلُوا ذلك فَقَدْ صَارُوا أَهْلَ الْحَرْبِ وَيُنْتَقَضُ الْعَهْدُ ضَرُورَةً
وَلَوْ امْتَنَعَ الذِّمِّيُّ من إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ
لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِعُذْرِ الْعَدَمِ فَلَا
يُنْتَقَضُ الْعَهْدُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ
وَكَذَلِكَ لو سَبَّ النبي لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ لِأَنَّ هذا زِيَادَةُ كُفْرٍ
على كُفْرٍ والعقد ( ( ( والعهد ) ) ) يَبْقَى مع أَصْلِ الْكُفْرِ فَيَبْقَى مع
الزِّيَادَةِ وَكَذَلِكَ لو قَتَلَ مُسْلِمًا أو زَنَى بِمُسْلِمَةٍ لِأَنَّ هذه
مَعَاصٍ ارْتَكَبُوهَا وَهِيَ دُونَ الْكُفْرِ في الْقُبْحِ وَالْحُرْمَةِ ثُمَّ
بَقِيَتْ الذِّمَّةُ مع الْكُفْرِ فَمَعَ الْمَعْصِيَةِ أَوْلَى وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يُؤْخَذُ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ وما يَتَعَرَّضُ له وما لَا
يَتَعَرَّضُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ إنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ
يُؤْخَذُونَ بِإِظْهَارِ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بها وَلَا يُتْرَكُونَ
يَتَشَبَّهُونَ بِالْمُسْلِمِينَ في لِبَاسِهِمْ وَمَرْكَبِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ
فَيُؤْخَذُ الذِّمِّيُّ بِأَنْ يَجْعَلَ على وَسَطِهِ كَشْحًا مِثْلَ الْخَيْطِ
الْغَلِيظِ وَيَلْبَسَ قَلَنْسُوَةً طَوِيلَةً مَضْرُوبَةً وَيَرْكَبَ سَرْجًا على
قربوسة مِثْلَ الرُّمَّانَةِ وَلَا يَلْبَسَ طَيْلَسَانًا مِثْلَ طَيَالِسَةِ
الْمُسْلِمِينَ وَرِدَاءً مِثْلَ أَرْدِيَةِ الْمُسْلِمِينَ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بن عبد الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ مَرَّ
على رِجَالٍ رُكُوبٍ ذَوِي هَيْئَةٍ فَظَنَّهُمْ مُسْلِمِينَ فَسَلَّمَ عليهم فقال
له رَجُلٌ من أَصْحَابِهِ أَصْلَحَكَ اللَّهُ تَدْرِي من هَؤُلَاءِ فقال من هُمْ
فقال هَؤُلَاءِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ فلما أتى مَنْزِلَهُ أَمَرَ أَنْ يُنَادِي
في الناس أَنْ لَا يَبْقَى نَصْرَانِيٌّ إلَّا عَقَدَ نَاصِيَتَهُ وَرَكِبَ
الْإِكَافَ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه أَحَدٌ فَيَكُونُ كَالْإِجْمَاعِ
وَلِأَنَّ السَّلَامَ من شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَيَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى
إظْهَارِ هذه الشَّعَائِرِ عِنْدَ الِالْتِقَاءِ وَلَا يُمْكِنُهُمْ ذلك إلَّا
بِتَمْيِيزِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْعَلَامَةِ وَلِأَنَّ في إظْهَارِ هذه
الْعَلَامَاتِ إظْهَارَ آثَارِ الذِّلَّةِ عليهم وَفِيهِ صِيَانَةُ عَقَائِدِ
ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ عن التَّغْيِيرِ على ما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ
بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا من فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عليها يَظْهَرُونَ }
وَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَتَمَيَّزَ نِسَاؤُهُمْ عن نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ في حَالِ
الْمَشْيِ في الطَّرِيقِ وَيَجِبُ التَّمْيِيزُ في الْحَمَّامَاتِ في الْأُزُرِ
فَيُخَالِفُ أُزُرُهُمْ أُزُرَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَا يَجِبُ أَنْ تُمَيَّزَ الدُّورُ بِعَلَامَاتٍ تُعْرَفُ بها دُورُهُمْ من
دُورِ الْمُسْلِمِينَ لِيَعْرِفَ السَّائِلُ الْمُسْلِمُ أنها دُورُ الْكَفَرَةِ
فَلَا يَدْعُو لهم بِالْمَغْفِرَةِ وَيُتْرَكُونَ أَنْ يَسْكُنُوا في أَمْصَارِ
الْمُسْلِمِينَ يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ شُرِعَ
لِيَكُونَ وَسِيلَةً لهم إلَى الْإِسْلَامِ وَتَمْكِينُهُمْ من الْمُقَامِ في
أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَغُ إلَى هذا الْمَقْصُودِ وَفِيهِ أَيْضًا
مَنْفَعَةُ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَيُمَكَّنُونَ من ذلك وَلَا
يُمَكَّنُونَ من بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فيها ظَاهِرًا لِأَنَّ
حُرْمَةَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ثَابِتَةٌ في حَقِّهِمْ كما هِيَ ثَابِتَةٌ في
حَقِّ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ وهو الصَّحِيحُ
عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ على ما عُرِفَ في مَوْضِعِهِ فَكَانَ إظْهَارُ بَيْعِ
الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ منهم إظْهَارًا لِلْفِسْقِ فَيُمْنَعُونَ من ذلك وَعِنْدَهُمْ
أَنَّ ذلك مُبَاحٌ فَكَانَ إظْهَارَ شَعَائِرِ الْكُفْرِ في مَكَان مُعَدٍّ
لِإِظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وهو أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ فَيُمْنَعُونَ
من ذلك
وَكَذَا يُمْنَعُونَ من إدْخَالِهَا في أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ ظَاهِرًا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أني أَمْنَعُهُمْ من إدْخَالِ الْخَنَازِيرِ
فَرَّقَ بين الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِمَا في الْخَمْرِ من خَوْفِ وُقُوعِ
الْمُسْلِمِ فيها وَلَا يُتَوَهَّمُ ذلك في الْخِنْزِيرِ وَلَا يُمَكَّنُونَ من
إظْهَارِ صَلِيبِهِمْ في عِيدِهِمْ لِأَنَّهُ إظْهَارُ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فَلَا
يُمَكَّنُونَ من ذلك في أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ فَعَلُوا ذلك في
كَنَائِسِهِمْ لَا يُتَعَرَّضُ لهم
وَكَذَا لو ضَرَبُوا النَّاقُوسَ في جَوْفِ كَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ لم
يُتَعَرَّضْ لِذَلِكَ لِأَنَّ إظْهَارَ الشَّعَائِرِ لم يَتَحَقَّقْ فَإِنْ
ضَرَبُوا بِهِ خَارِجًا منها لم يُمَكَّنُوا منه لِمَا فيه من إظْهَارِ
الشَّعَائِرِ وَلَا يُمْنَعُونَ من إظْهَارِ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا من بَيْعِ
الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالصَّلِيبِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ في قَرْيَةٍ أو
مَوْضِعٍ ليس من أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ
وَلَوْ كان فيه عَدَدٌ كَثِيرٌ من أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذلك في
أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ التي يُقَامُ فيها الْجُمَعُ وَالْأَعْيَادُ
وَالْحُدُودُ لِأَنَّ الْمَنْعَ من إظْهَارِ هذه الْأَشْيَاءِ لِكَوْنِهِ إظْهَارَ
شَعَائِرِ الْكُفْرِ في مَكَانِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَيَخْتَصُّ
الْمَنْعُ بِالْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ وهو الْمِصْرُ
الْجَامِعُ
وَأَمَّا إظْهَارُ فِسْقٍ يَعْتَقِدُونَ حُرْمَتَهُ كَالزِّنَا وَسَائِرِ
الْفَوَاحِشِ التي هِيَ حَرَامٌ في دِينِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ من ذلك
سَوَاءٌ كَانُوا في أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أو في أَمْصَارِهِمْ
____________________
(7/113)
وَمَدَائِنِهِمْ
وَقُرَاهُمْ وَكَذَا الْمَزَامِيرُ وَالْعِيدَانُ وَالطُّبُولُ في الْغِنَاءِ
وَاللَّعِبُ بِالْحَمَامِ
وَنَظِيرُهَا يُمْنَعُونَ من ذلك كُلِّهِ في الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى لِأَنَّهُمْ
يَعْتَقِدُونَ حُرْمَةَ هذه الْأَفْعَالِ كما نَعْتَقِدُهَا نَحْنُ فلم تَكُنْ
مُسْتَثْنَاةً عن عَقْدِ الذِّمَّةِ لِيُقَرُّوا عليها
وَأَمَّا الْكَنَائِسُ وَالْبِيَعُ الْقَدِيمَةُ فَلَا يُتَعَرَّضُ لها وَلَا
يُهْدَمُ شَيْءٌ منها
وَأَمَّا إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ أُخْرَى فَيُمْنَعُونَ عنه فِيمَا صَارَ مِصْرًا من
أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا كَنِيسَةَ
في الْإِسْلَامِ إلَّا في دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ انْهَدَمَتْ كَنِيسَةٌ
فَلَهُمْ أَنْ يَبْنُوهَا كما كانت لِأَنَّ لِهَذَا الْبِنَاءِ حُكْمَ الْبَقَاءِ
وَلَهُمْ أَنْ يَسْتَبْقُوهَا فَلَهُمْ أَنْ يَبْنُوهَا وَلَيْسَ لهم أَنْ
يُحَوِّلُوهَا من مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ لِأَنَّ التَّحْوِيلَ من مَوْضِعٍ
إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ في حُكْمِ إحْدَاثِ كَنِيسَةٍ أُخْرَى وَأَمَّا في الْقُرَى
أو في مَوْضِعٍ ليس من أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُمْنَعُونَ من إحْدَاثِ
الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ كما لَا يُمْنَعُونَ من إظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ
وَالْخَنَازِيرِ لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ ظَهَرَ الْإِمَامُ على قَوْمٍ من أَهْلِ الْحَرْبِ فَرَأَى أَنْ
يَجْعَلَهُمْ ذِمَّةً وَيَضَعَ على رؤوسهم الْجِزْيَةَ وَعَلَى أَرَاضِيهِمْ
الْخَرَاجَ لَا يُمْنَعُونَ من اتِّخَاذِ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ وَإِظْهَارِ
بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ إظْهَارُ شَعَائِرِ
الْكُفْرِ في مَكَانِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وهو أَمْصَارُ
الْمُسْلِمِينَ ولم يُوجَدْ بِخِلَافِ ما إذَا صَارُوا ذِمَّةً بِالصُّلْحِ بِأَنْ
طَلَبَ قَوْمٌ من أَهْلِ الْحَرْبِ مِنَّا أَنْ يَصِيرُوا ذِمَّةً يُؤَدُّونَ عن
رِقَابِهِمْ وَأَرَاضِيهِمْ شيئا مَعْلُومًا وتجري ( ( ( ونجري ) ) ) عليهم
أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَصَالَحْنَاهُمْ على ذلك فَكَانَتْ أَرَاضِيهِمْ مِثْلَ
أَرَاضِي الشَّامِ مَدَائِنَ وَقُرًى وَرَسَاتِيقَ وأمصار ( ( ( وأمصارا ) ) ) أنه
لَا يُتَعَرَّضُ لِكَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ وَلَكِنَّهُمْ لو أَرَادُوا أَنْ
يُحْدِثُوا شيئا منها يُمْنَعُوا من ذلك لِأَنَّهَا صَارَتْ مصر ( ( ( مصرا ) ) )
من أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَإِحْدَاثُ الْكَنِيسَةِ في مِصْرٍ من أَمْصَارِ
الْمُسْلِمِينَ مَمْنُوعٌ عنه شَرْعًا فَإِنْ مَصَّرَ الْإِمَامُ مِصْرًا
لِلْمُسْلِمِينَ كما مَصَّرَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه الْكُوفَةَ
وَالْبَصْرَةَ فَاشْتَرَى قَوْمٌ من أَهْلِ الذِّمَّةِ دُورًا وَأَرَادُوا أَنْ
يَتَّخِذُوا فيها كَنَائِسَ لَا يُمَكَّنُوا من ذلك لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ لو تَخَلَّى رَجُلٌ في صَوْمَعَتِهِ مُنِعَ من ذلك لِأَنَّ ذلك في
مَعْنَى اتِّخَاذِ الْكَنِيسَةِ وَكُلُّ مِصْرٍ من أَمْصَارِ الْمُشْرِكِينَ
ظَهَرَ عليه الْإِمَامُ عَنْوَةً وَجَعَلَهُمْ ذِمَّةً فما كان فيه كَنِيسَةٌ
قَدِيمَةٌ مَنَعَهُمْ من الصَّلَاةِ في تِلْكَ الْكَنَائِسِ لِأَنَّهُ لَمَّا
فُتِحَ عَنْوَةً فَقَدْ اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُونَ فَيَمْنَعُهُمْ من الصَّلَاةِ
فيها وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوهَا مَسَاكِنَ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ
يَهْدِمَهَا
وَكَذَلِكَ كُلُّ قَرْيَةٍ جَعَلَهَا الْإِمَامُ مِصْرًا
وَلَوْ عَطَّلَ الْإِمَامُ هذا الْمِصْرَ وَتَرَكُوا إقَامَةَ الْجُمَعِ
وَالْأَعْيَادِ وَالْحُدُودِ فيه كان لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ أَنْ يُحْدِثُوا ما
شَاءُوا لِأَنَّهُ عَادَ قَرْيَةً كما كانت نَصْرَانِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ لَا
يُمَكِّنُهَا من نَصْبِ الصَّلِيبِ في بَيْتِهِ لِأَنَّ نَصْبَ الصَّلِيبِ
كَنَصْبِ الصَّنَمِ وتصلى في بَيْتِهِ حَيْثُ شَاءَتْ
هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ أَرْضِ الْعَجَمِ
وَأَمَّا أَرْضُ الْعَرَبِ فَلَا يُتْرَكُ فيها كَنِيسَةٌ وَلَا بِيعَةٌ وَلَا
يُبَاعُ فيها الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ مِصْرًا كان أو قَرْيَةً أو مَاءً من
مِيَاهِ الْعَرَبِ وَيُمْنَعُ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا أَرْضَ الْعَرَبِ
مَسْكَنًا وَوَطَنًا
كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ تَفْضِيلًا لِأَرْضِ الْعَرَبِ على غَيْرِهَا
وَتَطْهِيرًا لها عن الدِّينِ الْبَاطِلِ
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ في جَزِيرَةِ الْعَرَبِ
وَأَمَّا الِالْتِجَاءُ إلَى الْحَرَمِ فإن الْحَرْبِيَّ إذَا الْتَجَأَ إلَى
الْحَرَمِ لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ في الْحَرَمِ وَلَكِنْ لَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى
وَلَا يُؤْوَى وَلَا يُبَايَعُ حتى يَخْرُجَ من الْحَرَمِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْتَلُ في الْحَرَمِ
واختلف أَصْحَابُنَا فِيمَا بَيْنَهُمْ
قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُقْتَلُ في الْحَرَمِ
وَلَا يُخْرَجُ منه أَيْضًا
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ في الْحُرُمِ وَلَكِنْ
يُبَاحُ إخْرَاجُهُ من الْحَرَمِ
لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَحَيْثُ يُعَبَّرُ بِهِ عن الْمَكَانِ
فَكَانَ هذا إبَاحَةً لِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ في الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا
وَلَنَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { أو لم يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا
آمِنًا } هذا إذَا دخل مُلْتَجِئًا
أَمَّا إذَا دخل مُكَابِرًا أو مُقَاتِلًا يُقْتَلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا
تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حتى يُقَاتِلُوكُمْ فيه فَإِنْ
قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } وَلِأَنَّهُ لَمَّا دخل مُقَاتِلًا فَقَدْ هَتَكَ
حُرْمَةَ الْحَرَمِ فَيُقْتَلُ تَلَافِيًا لِلْهَتْكِ زَجْرًا لِغَيْرِهِ عن
الْهَتْكِ
وَكَذَلِكَ لو دخل قَوْمٌ من أَهْلِ الْحَرْبِ لِلْقِتَالِ فَإِنَّهُمْ
يُقْتَلُونَ وَلَوْ انْهَزَمُوا من الْمُسْلِمِينَ فَلَا شَيْءَ على
الْمُسْلِمِينَ في قَتْلِهِمْ وَأَسْرِهِمْ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْغَنَائِمِ وما يَتَّصِلُ بها فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ
التَّوْفِيقُ ههنا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ النَّفَلُ وَالْفَيْءُ وَالْغَنِيمَةُ
فَلَا بُدَّ من بَيَانِ مَعَانِي هذه الْأَلْفَاظِ وما يَتَعَلَّقُ بها من
الشَّرَائِطِ وَالْأَحْكَامِ
أَمَّا النَّفَلُ في اللُّغَةِ فَعِبَارَةٌ عن الزِّيَادَةِ وَمِنْهُ سُمِّيَ
وَلَدُ الْوَلَدِ نَافِلَةً لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ على الْوَلَدِ الصُّلْبِيِّ
وَسُمِّيَتْ نَوَافِلُ الْعِبَادَاتِ لِكَوْنِهَا زِيَادَاتٍ على الْفَرَائِضِ وفي
الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ
____________________
(7/114)
عَمَّا
خَصَّهُ الْإِمَامُ لِبَعْضِ الْغُزَاةِ تَحْرِيضًا لهم على الْقِتَالِ
سُمِّيَ نَفْلًا لِكَوْنِهِ زِيَادَةً على ما يُسْهَمُ لهم من الْغَنِيمَةِ
وَالتَّنْفِيلُ هو تَخْصِيصُ بَعْضِ الْغُزَاةِ بِالزِّيَادَةِ نَحْوُ أَنْ
يَقُولَ الْإِمَامُ من أَصَابَ شيئا له ( ( ( فله ) ) ) رُبْعُهُ أو ثُلُثُهُ
أو قال من أَصَابَ شيئا فَهُوَ له أو قال من أَخَذَ شيئا أو قال من قَتَلَ
قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ أو قال لِسَرِيَّةٍ ما أَصَبْتُمْ فَلَكُمْ رُبْعُهُ أو
ثُلُثُهُ أو قال فَهُوَ لَكُمْ وَذَلِكَ جَائِزٌ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِذَلِكَ
تَحْرِيضٌ على الْقِتَالِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ وَمَنْدُوبٌ إلَيْهِ
قال اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ { يا أَيُّهَا النبي حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ على
الْقِتَالِ } إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ بِكُلِّ
الْمَأْخُوذِ لِأَنَّ التَّنْفِيلَ بِكُلِّ الْمَأْخُوذِ قَطْعُ حَقِّ
الْغَانِمِينَ عن النَّفْلِ أَصْلًا لَكِنْ مع هذا لو رَأَى الْإِمَامُ
الْمَصْلَحَةَ في ذلك فَفَعَلَهُ مع سَرِيَّةٍ جَازَ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ قد
تَكُونُ فيه في الْجُمْلَةِ وَيَجُوزُ التَّنْفِيلُ في سَائِرِ الْأَمْوَالِ من
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالسَّلَبِ وَغَيْرِ ذلك لِأَنَّ مَعْنَى التَّحْرِيضِ
على الْقِتَالِ يَتَحَقَّقُ في الْكُلِّ وَالسَّلَبُ هو ثِيَابُ الْمَقْتُولِ
وَسِلَاحُهُ الذي معه وَدَابَّتُهُ التي رَكِبَهَا بِسَرْجِهَا وَآلَاتِهَا وما
كان معه من مَالٍ في حَقِيبَةٍ على الدَّابَّةِ أو على وَسَطِهِ
وَأَمَّا حَقِيبَةُ غُلَامِهِ وما كان مع غُلَامِهِ من دَابَّةٍ أُخْرَى فَلَيْسَ
بِسَلَبٍ
وَلَوْ اشْتَرَكَا في قَتْلِ رَجُلٍ كان السَّلَبُ بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَدَأَ
أَحَدُهُمَا فَضَرَبَهُ ثُمَّ أَجْهَزَهُ الْآخَرُ بِأَنْ كانت الضَّرْبَةُ الْأُولَى
قد أَثْخَنَتْهُ وَصَيَّرَتْهُ إلَى حَالٍ لَا يُقَاتِلُ وَلَا يُعِينُ على
الْقِتَالِ فَالسَّلَبُ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ قَتِيلُ الْأَوَّلِ وَإِنْ كانت
الضَّرْبَةُ الْأُولَى لم تُصَيِّرْهُ إلَى هذه الْحَالَةِ فَالسَّلَبُ لِلثَّانِي
لِأَنَّهُ قَتِيلُ الثَّانِي
وَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ وَاحِدٌ قَتِيلَيْنِ أو أَكْثَرَ فَلَهُ سَلَبُهُ وَهَلْ
يَدْخُلُ الْإِمَامُ في التَّنْفِيلِ
إنْ قال في جَمِيعِ ذلك مِنْكُمْ لَا يَدْخُلُ لِأَنَّهُ خَصَّهُمْ وَإِنْ لم
يَقُلْ مِنْكُمْ يَدْخُلْ لِأَنَّهُ عَمَّ الْكَلَامَ
هذا إذَا نَفَّلَ الْإِمَامُ فَإِنْ لم يُنَفِّلْ شيئا فَقَتَلَ رَجُلٌ من
الْغُزَاةِ قَتِيلًا لم يَخْتَصَّ بِسَلَبِهِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ قَتَلَهُ مُدْبِرًا مُنْهَزِمًا
لم يَخْتَصَّ بِسَلَبِهِ وَإِنْ قَتَلَهُ مُقْبِلًا مُقَاتِلًا يَخْتَصُّ
بِسَلَبِهِ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ
سَلَبُهُ وَهَذَا منه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَصْبُ الشَّرْعِ وَلِأَنَّهُ
إذَا قَتَلَهُ مُقْبِلًا مُقَاتِلًا فَقَدْ قَتَلَهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَيَخْتَصُّ
بِالسَّلَبِ وإذا قَتَلَهُ مُوَلِّيًا مُنْهَزِمًا فَإِنَّمَا قَتَلَهُ بِقُوَّةِ
الْجَمَاعَةِ فَكَانَ السَّلَبُ غَنِيمَةً مَقْسُومَةً
وَلَنَا أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ التَّنْفِيلِ وَالِاخْتِصَاصِ
بِالْمُصَابِ من السَّلَبِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ إنْ كان هو
الْجِهَادَ وُجِدَ من الْكُلِّ وَإِنْ كان هو الِاسْتِيلَاءَ وَالْإِصَابَةَ
وَالْأَخْذُ بِذَلِكَ حَصَلَ بِقُوَّةِ الْكُلِّ فَيَقْتَضِي الِاسْتِحْقَاقَ
لِلْكُلِّ فَتَخْصِيصُ الْبَعْضِ بِالتَّنْفِيلِ يَخْرُجُ مَخْرَجَ قَطْعِ
الْحَقِّ عن الْمُسْتَحِقِّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ إلَّا أَنَّا
اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ بِالنَّصِّ وهو قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يا
أَيُّهَا النبي حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ على الْقِتَالِ } وَالتَّنْفِيلُ تَحْرِيضٌ
على الْقِتَالِ بأطماع زِيَادَةِ الْمَالِ لِأَنَّ من له زِيَادَةُ غنا ( ( ( غنى
) ) ) وَفَضْلُ شَجَاعَةٍ لَا يَرْضَى طَبْعُهُ بِإِظْهَارِ ذلك مع ما فيه من
مُخَاطَرَةِ الرُّوحِ وَتَعْرِيضِ النَّفْسِ لِلْهَلَاكِ إلَّا بأطماع زِيَادَةٍ
لَا يُشَارِكُهُ فيه غَيْرُهُ فإذا لم يَطْمَعْ لَا يَظْهَرُ فَلَا يَسْتَحِقُّ
الزِّيَادَةَ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ له فيه لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَصَبَ
ذلك الْقَوْلَ شَرْعًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَصَبَهُ شَرْطًا وَيَحْتَمِلُ
أَنَّهُ نَفَّلَ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ
نَظِيرُهُ قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً
فَهِيَ له أَنَّهُ لم يَجْعَلْهُ أبو حَنِيفَةَ حُجَّةً لِمِلْكِ الْأَرْضِ
الْمُحْيَاةِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ لِمِثْلِ هذا الِاحْتِمَالِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرْطُ جَوَازِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ قبل حُصُولِ الْغَنِيمَةِ في يَدِ
الْغَانِمِينَ فإذا حَصَلَتْ في أَيْدِيهِمْ فَلَا نَفْلَ لِأَنَّ جَوَازَ
التَّنْفِيلِ لِلتَّحْرِيضِ على الْقِتَالِ وَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا قبل
أَخْذِ الْغَنِيمَةِ
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَفَّلَ بَعْدَ
إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ إنَّمَا نَفَّلَ من الْخُمْسِ أو من الصَّفِيِّ الذي كان له في
الْغَنَائِمِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كان مِمَّا أَفَاءَ اللَّه تَعَالَى عليه
فَسَمَّاهُ الرَّاوِي غَنِيمَةً
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا حُكْمُ التَّنْفِيلِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا اخْتِصَاصُ النَّفْلِ
بِالْمُنَفَّلِ حتى لَا يُشَارِكَهُ فيه غَيْرُهُ
وَهَلْ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فيه قبل الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَفِيهِ
كَلَامٌ نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا خُمْسَ في النَّفْلِ لِأَنَّ الْخُمْسَ إنَّمَا يَجِبُ في
غَنِيمَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بين الْغَانِمِينَ
وَالنَّفَلُ ما أَخْلَصَهُ الْإِمَامُ لِصَاحِبِهِ وَقَطَعَ شَرِكَةَ الْأَغْيَارِ
عنه فَلَا يَجِبُ فيه الْخُمْسُ وَيُشَارِكُ الْمُنَفَّلُ له الْغُزَاةَ في
أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ ما أَصَابُوا لِأَنَّ الْإِصَابَةَ أو الْجِهَادَ حَصَلَ
بِقُوَّةِ الْكُلِّ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ خَصَّ الْبَعْضَ بِبَعْضِهَا وَقَطَعَ
حَقَّ الْبَاقِينَ عنه فَبَقِيَ حَقُّ الْكُلِّ مُتَعَلِّقًا بِمَا وَرَاءَهُ
فَيُشَارِكُهُمْ فيه
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْفَيْءُ فَهُوَ اسْمٌ لِمَا لم يُوجِفْ عليه الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ
وَلَا رِكَابٍ نَحْوُ الْأَمْوَالِ الْمَبْعُوثَةِ بِالرِّسَالَةِ إلَى إمَامِ
الْمُسْلِمِينَ وَالْأَمْوَالِ الْمَأْخُوذَةِ على مُوَادَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ
وَلَا خُمْسَ فيه لِأَنَّهُ ليس بِغَنِيمَةٍ إذْ هِيَ لِلْمَأْخُوذِ من
الْكَفَرَةِ على سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ ولم يُوجَدْ وقد كان الْفَيْءُ
لِرَسُولِ اللَّهِ خَاصَّةً يَتَصَرَّفُ فيه كَيْفَ شَاءَ يَخْتَصُّهُ لِنَفْسِهِ
أو يُفَرِّقُهُ فِيمَنْ شَاءَ قال اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ { وما أَفَاءَ
اللَّهُ على رَسُولِهِ منهم فما أَوْجَفْتُمْ عليه من خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على من يَشَاءُ وَاَللَّهُ على كل شَيْءٍ
قَدِيرٌ }
____________________
(7/115)
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كانت أَمْوَالُ بَنِي
النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عز وجل على رَسُولِهِ وَكَانَتْ خَالِصَةً له
وكان يُنْفِقُ منها على أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ وما بَقِيَ جَعَلَهُ في
الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ
وَلِهَذَا كانت فَدَكُ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ إذْ كانت لم يُوجِفْ عليها
الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ من خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فإنه رُوِيَ أَنَّ
أَهْلَ فَدَكَ لَمَّا بَلَّغَهُمْ أَهْلُ خَيْبَرَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ
اللَّهِ أَنْ يُجْلِيَهُمْ وَيَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ وَيُخَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
أَمْوَالِهِمْ بَعَثُوا إلَى رسول اللَّهِ وَصَالَحُوهُ على النِّصْفِ من فَدَكَ
فَصَالَحَهُمْ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ على ذلك ثُمَّ الْفَرْقُ بين رسول
اللَّهِ وَبَيْنَ الْأَئِمَّةِ في الْمَالِ الْمَبْعُوثِ إلَيْهِمْ من أَهْلِ
الْحَرْبِ أَنَّهُ يَكُونُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وكان لِرَسُولِ اللَّهِ
خَاصَّةً أَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا أَشْرَكَ قَوْمَهُ في الْمَالِ الْمَبْعُوثِ
إلَيْهِ من أَهْلِ الْحَرْبِ لِأَنَّ هَيْبَةَ الْأَئِمَّةِ بِسَبَبِ قَوْمِهِمْ
فَكَانَتْ شَرِكَةً بَيْنَهُمْ
وَأَمَّا هَيْبَةُ رسول اللَّهِ فَكَانَتْ بِمَا نُصِرَ من الرُّعْبِ لَا
بِأَصْحَابِهِ كما قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ
مَسِيرَةَ شَهْرَيْنِ لِذَلِكَ كان له أَنْ يَخْتَصَّ لِنَفْسِهِ وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا إذَا دخل حَرْبِيٌّ في دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ
فَأَخَذَهُ وَاحِدٌ من الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ
وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ الْآخِذُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ
أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَكُونُ لِلْآخِذِ خَاصَّةً
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وُجِدَ من الْآخِذِ خَاصَّةً
فَيَخْتَصُّ بِمِلْكِهِ كما إذَا دَخَلَتْ طَائِفَةٌ من أَهْلِ الْحَرْبِ دَارَ
الْإِسْلَامِ فَاسْتَقْبَلَتْهَا سَرِيَّةٌ من أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَأَخَذَتْهَا
أنهم يَخْتَصُّونَ بِمِلْكِهَا
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وُجِدَ من الْآخِذِ خَاصَّةً أَنَّ
السَّبَبَ هو الْأَخْذُ وَالِاسْتِيلَاءُ هو إثْبَاتُ الْيَدِ وقد وُجِدَ ذلك
حَقِيقَةً من الْآخِذِ خَاصَّةً وَأَهْلُ الدَّارِ إنْ كانت لهم يَدٌ لَكِنَّهَا
حُكْمِيَّةٌ وَيَدُ الْحَرْبِيِّ حقيقة ( ( ( حقيقية ) ) ) لِأَنَّهُ حُرٌّ
وَالْحُرُّ في يَدِ نَفْسِهِ وَالْيَدُ الْحُكْمِيَّةُ لَا تَصْلُحُ مُبْطِلَةً
لِلْيَدِ الْحَقِيقِيَّةِ لِأَنَّهَا دُونَهَا وَنَقْضُ الشَّيْءِ بِمَا هو
مِثْلُهُ أو بِمَا هو فَوْقَهُ لَا بِمَا هو دُونَهُ فَأَمَّا يَدُ الْآخِذِ فَيَدٌ
حَقِيقَةً وَهِيَ مُحِقَّةٌ وَيَدُ الْحَرْبِيِّ مُبْطِلَةٌ فَجَازَ إبْطَالُهَا
بها
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ ثُبُوتِ
الْمِلْكِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ في مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلْمِلْكِ وهو
الْمُبَاحُ فَيَصِيرُ مِلْكًا لِلْكُلِّ كما إذَا اسْتَوْلَى جَمَاعَةٌ على صَيْدٍ
وَإِنَّمَا قُلْنَا ذلك لِأَنَّهُ كل ما دخل دَارَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ ثَبَتَ
يَدُ أَهْلِ الدَّارِ عليه لِأَنَّ الدَّارَ في أَيْدِيهِمْ فما في الدَّارِ
يَكُونُ في أَيْدِيهِمْ أَيْضًا وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ
لِلْغَانِمِينَ في الْغَنَائِمِ ما دَامُوا في دَارِ الْحَرْبِ كذا ( ( ( كهذا ) )
) ههنا وقوله يَدُ أَهْلِ الدَّارِ يَدٌ حُكْمِيَّةٌ وَيَدُ الحربى حَقِيقِيَّةٌ
فَلَا تُبْطِلُهَا
قُلْنَا وَيَدُ أَهْلِ الدَّارِ حَقِيقِيَّةٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَعْنَى من
الْيَدِ في هذه الْأَبْوَابِ الْقُدْرَةُ من حَيْثُ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ
وَالْآلَاتِ وَلِأَهْلِ الدَّارِ آلَاتٌ سَلِيمَةٌ لو اسْتَعْمَلُوهَا في
التَّصَرُّفِ عليه لَحَدَثَتْ لهم بِمَجْرَى الْعَادَةِ قُدْرَةٌ حَقِيقِيَّةٌ على
وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُمْ مُقَاوَمَتُهُمْ وَمُعَارَضَتُهُمْ مع ما أَنَّهُ إذَا
ثَبَتَ يَدُ الأخذ عليه حَقِيقَةً فَقَدْ ثَبَتَ يَدُ أَهْلِ الدَّارِ لِأَنَّ
يَدَهُ يَدُ أَهْلِ الدَّارِ لِأَنَّ أَهْلَ دَارِ الْإِسْلَامِ كُلَّهُمْ
مَنَعَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِنَّهُمْ يَذُبُّونَ عن دِينٍ وَاحِدٍ فَكَانَتْ يَدُهُ
يَدَ الْكُلِّ مَعْنًى كما إذَا دخل الْغُزَاةُ دَارَ الْحَرْبِ فَأَخَذَ وَاحِدٌ
منهم شيئا من أَمْوَالِ الْكَفَرَةِ فإن الْمَأْخُوذَ يَكُونُ غَنِيمَةً مفسومة (
( ( مقسومة ) ) ) بين الْكُلِّ كَذَا هذا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
وَأَمَّا السَّرِيَّتَانِ إذَا الْتَقَتَا في دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَخَذَ منها
سَرِيَّةُ الْإِمَامِ فَإِنَّمَا اخْتَصُّوا بمكلها ( ( ( بملكها ) ) )
لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ وَهِيَ أَنَّ بِالْإِمَامِ حَاجَةً إلَى بَعْثِ
السَّرَايَا لِحِرَاسَةِ الْحَوْزَةِ وَحِمَايَةِ الْبَيْضَةِ عن شَرِّ
الْكَفَرَةِ إذْ الْكَفَرَةُ يَقْصِدُونَ دَارَ الْإِسْلَامِ وَالدُّخُولَ في
حُدُودِهَا بَغْتَةً فإذا عَلِمُوا بِبَعْثِ السَّرَايَا وَتَهَيُّئِهِمْ
لِلذَّبِّ عن حَرِيمِ الْإِسْلَامِ قَطَعُوا الْأَطْمَاعَ فَبَقِيَتْ الْبَيْضَةُ
مَحْرُوسَةً فَلَوْ لم يَخْتَصُّوا بِالْمَأْخُوذِ لَمَا انْقَادَ طَبْعُهُمْ
لِكِفَايَةِ هذا الشُّغْلِ فَتَمْتَدُّ أَطْمَاعُ الْكَفَرَةِ إلَى دَارِ
الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا إذَا نَفَّلَ الْإِمَامُ سَرِيَّةً فَأَصَابُوا شيئا
يَخْتَصُّونَ بِهِ لِوُقُوعِ الْحَاجَةِ إلَى التَّنْفِيلِ لِاخْتِصَاصِ بَعْضِ
الْغُزَاةِ بِزِيَادَةِ
____________________
(7/116)
شَجَاعَةٍ
لِأَنَّهُ لَا يَنْقَادُ طَبْعُهُ لإظهارها ( ( ( لإظهاره ) ) ) إلَّا
بِالتَّرْغِيبِ بِزِيَادَةٍ من الْمُصَابِ بِالتَّنْفِيلِ كَذَا هذا
وَهَلْ يَجِبُ فيه الْخُمْسُ فَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه رِوَايَتَانِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِأَنَّ الْخُمْسَ إنَّمَا يَجِبُ في
الْغَنَائِمِ وَالْغَنِيمَةُ اسْمٌ لِلْمَالِ الْمَأْخُوذِ عَنْوَةً وَقَهْرًا
بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ ولم يُوجَدْ لِحُصُولِهِ في أَيْدِيهِمْ
بِغَيْرِ قِتَالٍ فَكَانَ مُبَاحًا مُلِكَ لَا على سَبِيلِ الْقَهْرِ
وَالْغَلَبَةِ فَلَا يَجِبُ فيه الْخُمْسُ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ
وَكَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ فيه الْخُمْسُ
لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ يَثْبُتُ بِأَخْذِهِ وَإِنَّمَا أَخَذَهُ على سَبِيلِ
الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَكَانَ في حُكْمِ الْغَنَائِمِ وَلَوْ دخل دَارَ
الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ قبل أَنْ يُؤْخَذَ ثُمَّ أَخَذَهُ وَاحِدٌ من
الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ حُرًّا لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عليه وَهَذَا فَرْعُ
الْأَصْلِ الذي ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كما دخل
دَارَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ انْعَقَدَ سَبَبُ الْمِلْكِ فيه لِوُقُوعِهِ في يَدِ
أَهْلِ الدَّارِ فَاعْتِرَاضُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ
لَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ وَعِنْدَهُمَا سَبَبُ الْمِلْكِ هو الْأَخْذُ حَقِيقَةً
فَكَانَ حُرًّا قَبْلَهُ حَيْثُ وُجِدَ الْإِسْلَامُ قبل وُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ
فيه فَيُمْنَعُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ على ما مار ( ( ( مر ) ) )
وَلَوْ رَجَعَ هذا الْحَرْبِيُّ إلَى دَارِ الْحَرْبِ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ
فَيْئًا بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ حَقَّ أَهْلِ دَارِ
الْإِسْلَامِ لَا يَتَأَكَّدُ إلَّا بِالْأَخْذِ حَقِيقَةً ولم يُوجَدْ وَأَمَّا
عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ لم يَثْبُتْ الْمِلْكُ أَصْلًا إلَّا بِحَقِيقَةِ
الْأَخْذِ ولم يُوجَدْ وَصَارَ هذا كما إذَا انْفَلَتَ وَاحِدٌ من الاسارى قبل
الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَالْتَحَقَ بِمَنَعَتِهِمْ أنه يَعُودُ حُرًّا
كما كان كَذَا هذا
وَلَوْ ادَّعَى هذا الْحَرْبِيُّ بِأَمَانٍ لم يُقْبَلْ قَوْلُهُ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ
أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ دُخُولَ دَارِ الْحَرْبِ سَبَبُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ
وَالْأَمَانُ عَارِضٌ مَانِعٌ من انْعِقَادِ السَّبَبِ فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى
الْعَارِضِ إلَّا بِحُجَّةٍ
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْمِلْكَ فيه يَقِفُ على حَقِيقَةِ الْأَخْذِ
فَكَانَ حُرًّا قَبْلَهُ فكان دَعْوَى الْأَمَانِ دَعْوَى حُكْمِ الْأَصْلِ
فَتُقْبَلُ
وَكَذَلِكَ لو قال الْآخِذُ إنِّي أمنته لم يُقْبَلْ قَوْلُهُ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ
أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ هذا إقْرَارٌ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ
فَلَا يُقْبَلُ
وَعِنْدَهُمَا هذا إقْرَارٌ على نَفْسِهِ وأنه غَيْرُ مُتَّهَمٍ في حَقِّ نَفْسِهِ
وَلَوْ دخل هذا الْحَرْبِيُّ الْحَرَمَ قبل أَنْ يُؤْخَذَ فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ وَدُخُولُ الْحَرَمِ لايبطل ذلك عنه لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من
الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الْإِسْلَامَ لم يُبْطِلْ الْمِلْكَ فَالْحَرَمُ أَوْلَى
وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَعْظَمُ حُرْمَةً من الْحَرَمِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ
فَيْئًا إلَّا بِحَقِيقَةِ الْأَخْذِ فَيَبْقَى على أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ وَلَا
يُتَعَرَّضُ له لَكِنَّهُ لَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى وَلَا يُؤْوَى وَلَا يُبَايَعُ
حتى يَخْرُجَ من الْحَرَمِ
وَلَوْ أَمَّنَهُ رَجُلٌ من الْمُسْلِمِينَ في الْحَرَمِ أو بعدما خَرَجَ من
الْحَرَمِ قبل أَنْ يُؤْخَذَ لم يَصِحَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا
يَصِحُّ وَيُرَدُّ إلَى مَأْمَنِهِ لِأَنَّ عِنْدَهُ صَارَ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ
الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِ دُخُولِ دَارِ الْإِسْلَامِ
وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ فَيْئًا إلَّا بِحَقِيقَةِ الْأَخْذِ فإذا أَمَّنَهُ
قبل الْأَخْذِ يَصِحُّ وَلَا يَصِحُّ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ مرقوق ( ( ( مرموق ) ) )
وَلَوْ أَخَذَهُ رَجُلٌ في الْحَرَمِ وَأَخْرَجَهُ منه فَقَدْ أَسَاءَ وكان
فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ
لِمَنْ أَخَذَهُ أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ قد ثَبَتَ بِدُخُولِهِ دَارَ
الْإِسْلَامِ فَالْأَخْذُ في الْحَرَمِ لَا يُبْطِلُهُ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا
فَلِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كان يَثْبُتُ بِالْأَخْذِ وأنه مَنْهِيٌّ لَكِنَّ
النَّهْيَ لِغَيْرِهِ وهو حُرْمَةُ الْحَرَمِ فَلَا يَمْنَعُ كَوْنُهُ سَبَبًا
لِلْمِلْكِ في ذَاتِهِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَنَحْوِ ذلك
وَلَوْ أَخَذَهُ في الْحَرَمِ ولم يُخْرِجْهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَلِّيَ
سَبِيلَهُ في الْحَرَمِ رِعَايَةً لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ ما دَامَ فيه
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْغَنِيمَةُ فَالْكَلَامُ فيها في مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِ الْغَنِيمَةِ
وفي بَيَانِ ما يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ من التَّصَرُّفِ في الْغَنَائِمِ
وفي بَيَانِ مَكَانِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وفي بَيَانِ ما يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ
بِهِ من الْغَنَائِمِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وفي بَيَانِ
مَصَارِفِهَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْغَنِيمَةُ عِنْدَنَا اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ من أَهْلِ
الْحَرْبِ على سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وهذا ( ( ( والأخذ ) ) ) الأخذ لَا
يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْمَنَعَةِ إمَّا بِحَقِيقَةِ الْمَنَعَةِ أو بِدَلَالَةِ
الْمَنَعَةِ وَهِيَ إذْنُ الْإِمَامِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
هِيَ اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ من أَهْلِ الْحَرْبِ كيفما كان وَلَا يَشْتَرِطُ له
الْمَنَعَةَ أَصْلًا
وَبَيَانُ ذلك في مَسَائِلَ إذَا دخل جَمَاعَةٌ لهم مَنَعَةٌ دَارَ الْحَرْبِ
فَأَخَذُوا أَمْوَالًا منهم فَإِنَّهَا تُقْسَمُ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ بِالْإِجْمَاعِ
سَوَاءٌ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ أو بِغَيْرِ إذْنِهِ لِوُجُودِ الْأَخْذِ
على سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ
الْمُقَاتَلَةِ حَقِيقَةً
وَأَقَلُّ الْمَنَعَةِ أَرْبَعَةٌ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِقَوْلِهِ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَيْرُ الْأَصْحَابِ أَرْبَعَةٌ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ
أنها تِسْعَةٌ
وَلَوْ دخل من لَا مَنَعَةَ له بِإِذْنِ الْإِمَامِ كان الْمَأْخُوذُ غَنِيمَةً في
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عن أَصْحَابِنَا لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ دَلَالَةً على ما
____________________
(7/117)
نَذْكُرهُ
وَلَوْ دخل بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ لم يَكُنْ غَنِيمَةً عِنْدَنَا لِانْعِدَامِ
الْمَنَعَةِ أَصْلًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَكُونُ غَنِيمَةً
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ وَالْغَنَمَ وَالْمَغْنَمَ في
اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَالٍ أُصِيبَ من أَمْوَالِ الْحَرْبِ وَأَوْجَفَ عليه
الْمُسْلِمُونَ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ
وَكَذَا إشَارَةُ النَّصِّ دَلِيلٌ عليه وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {
وما أَفَاءَ اللَّهُ على رَسُولِهِ منهم فما أَوَجَفْتُمْ عليه من خَيْلٍ وَلَا
رِكَابٍ } أَشَارَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى أَنَّهُ ما لم يُوجِفْ عليه
الْمُسْلِمُونَ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ لَا يَكُونُ غَنِيمَةً
وَإِصَابَةُ مَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ لَا
يَكُونُ إلَّا بِالْمَنَعَةِ
إمَّا حَقِيقَةً أو دَلَالَةً لِأَنَّ من لَا مَنَعَةَ له لَا يُمْكِنُهُ
الْأَخْذُ على طَرِيقِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فلم يَكُنْ الْمَأْخُوذُ غَنِيمَةً
بَلْ كان مَالًا مُبَاحًا فَيَخْتَصُّ بِهِ الْآخِذُ كَالصَّيْدِ إلَّا إنْ
أَخَذَاهُ جميعا فَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ بَيْنَهُمَا كما لو أَخَذَا صَيْدًا
أَمَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَنَعَةِ فَيَتَحَقَّقُ الْأَخْذُ على سَبِيلِ الْقَهْرِ
وَالْغَلَبَةِ
أَمَّا حَقِيقَةُ الْمَنَعَةِ فَظَاهِرَةٌ
وَكَذَا دَلَالَةُ الْمَنَعَةِ وَهِيَ إذْنُ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ
له الْإِمَامُ بِالدُّخُولِ فَقَدْ ضَمِنَ له الْمَعُونَةَ بِالْمَدَدِ
وَالنُّصْرَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَكَانَ دُخُولُهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ
امْتِنَاعًا بِالْجَيْشِ الْكَثِيفِ مَعْنًى فَكَانَ الْمَأْخُوذُ مَأْخُوذًا على
سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَكَانَ غَنِيمَةً فَهُوَ الْفَرْقُ وَلَوْ
اجْتَمَعَ فَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا دخل بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَالْآخَرُ بِغَيْرِ
إذْنِهِ وَلَا مَنَعَةَ لهم فَالْحُكْمُ في كل فَرِيقٍ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ ما هو
الْحُكْمُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ أَنَّهُ إنْ تَفَرَّدَ كُلُّ فَرِيقٍ بِأَخْذِ
شَيْءٍ فَلِكُلِّ فَرِيقٍ ما أَخَذَ كما لو انْفَرَدَ كُلُّ فَرِيقٍ بِالدُّخُولِ
فَأَخَذَ شيئا فَإِنْ اشْتَرَكَ الْفَرِيقَانِ في الْأَخْذِ فَالْمَأْخُوذُ
بَيْنَهُمْ على عَدَدِ الْآخِذِينَ ثُمَّ ما أَصَابَ الْمَأْذُونَ لهم يخمس ( ( (
بخمس ) ) ) وَيَكُونُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ بَيْنَهُمْ مُشْتَرَكَةً فيه
الْآخِذُ وَغَيْرُ الْآخِذِ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ وَهَذَا سَبِيلُ الْغَنَائِمِ وما
أَصَابَ الَّذِينَ لم يُؤْذَنْ لهم لَا خُمْسَ فيه فَيَكُونُ بين الأخذين وَلَا
يُشَارِكُهُمْ الَّذِينَ لم يَأْخُذُوا لِأَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ وَهَذَا حُكْمُ
الْمَالِ الْمُبَاحِ على ما بَيَّنَّا
هذا إذَا اجْتَمَعَ فَرِيقَانِ وَلَا مَنَعَةَ لهم فَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَا وكان
لهم بِاجْتِمَاعِهِمْ مَنَعَةٌ فما أَصَابَ وَاحِدًا منهم أو جَمَاعَتَهُمْ
بِخُمُسٍ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ بَيْنَهُمْ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ غَنِيمَةٌ
لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ فَكَانَ وُجُودُ الْإِذْنِ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ
وَاحِدَةٍ وَلَوْ كان الَّذِينَ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ لهم مَنَعَةٌ ثُمَّ
لَحِقَهُمْ لِصٌّ أو لِصَّانِ لَا مَنَعَةَ لَهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ
ثُمَّ لَقَوْا قِتَالًا وَأَصَابُوا غَنَائِمَ فما أَصَابَ الْعَسْكَرَ قبل أَنْ
يَلْحَقَهُمْ اللِّصُّ فإن هذا اللِّصَّ لَا يُشَارِكُهُمْ فيه وما أَصَابُوهُ
بَعْدَ أَنْ لَحِقَ هذا اللِّصُّ بِهِمْ فإنه يُشَارِكُهُمْ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ
قبل اللَّحَاقِ حَصَلَتْ بِقِتَالِ الْعَسْكَرِ حَقِيقَةً
وَكَذَلِكَ الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ لهم غنيمة ( ( ( غنية ) ) )
عن مَعُونَةِ اللِّصِّ فَكَانَ دُخُولُهُ في الِاسْتِيلَاءِ على الْمُصَابِ قبل
اللَّحَاقِ وَعَدَمِهِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يُشْبِهُ هذا الْجَيْشَ إذَا
لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ أَنَّهُ يُشَارِكُهُمْ فِيمَا أَصَابُوا لِأَنَّ الْجَيْشَ
يَسْتَعِينُ بِالْمَدَدِ لِقُوَّتِهِمْ فَكَانَ الْإِحْرَازُ حَاصِلًا بِالْكُلِّ
وَكَذَلِكَ الْإِصَابَةُ بَعْدَ اللُّحُوقِ حَصَلَتْ بِاسْتِيلَاءِ الْكُلِّ
لِذَلِكَ شَارَكَهُمْ بِخِلَافِ اللِّصِّ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أَخَذَ وَاحِدٌ من الْجَيْشِ شيئا من الْمَتَاعِ الذي له قِيمَةٌ وَلَيْسَ
في يَدِ إنْسَانٍ منهم كَالْمَعَادِنِ وَالْكُنُوزِ وَالْخَشَبِ وَالسَّمَكِ
فَذَلِكَ غَنِيمَةٌ وَفِيهِ الْخُمْسُ وَذَلِكَ الْوَاحِدُ إنَّمَا أَخَذَهُ
بِمَنَعَةِ الْجَمَاعَةِ وَقُوَّتِهِمْ فَكَانَ مَالًا مَأْخُوذًا على سَبِيلِ
الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَكَانَ غَنِيمَةً وَإِنْ لم يَكُنْ لِذَلِكَ الشَّيْءِ
في دَارِ الْحَرْبِ وفي دَارِ الْإِسْلَامِ قِيمَةٌ فَهُوَ له خَاصَّةً لِأَنَّهُ
إذَا لم يَكُنْ له قِيمَةٌ لَا يَقَعُ فيه تَمَانُعٌ وَتَدَافُعٌ فَلَا يَقَعُ
أَخْذُهُ على سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فلم يَكُنْ غَنِيمَةً
وَلَوْ أَخَذَ شيئا له قِيمَةٌ في دَارِ الْحَرْبِ نَحْوُ الْخَشَبِ فَعَمِلَهُ
آنِيَةً أو غَيْرَهَا رَدَّهُ إلَى الْغَنِيمَةِ لِأَنَّهُ إذَا كان له قِيمَةٌ
بِذَاتِهِ فَالْعَمَلُ فيه فَضْلٌ له فَإِنْ لم يَكُنْ ذلك الشَّيْءُ مُتَقَوِّمًا
فَهُوَ له خَاصَّةً لِمَا قُلْنَا وَلَا خُمْسَ فِيمَا يُؤْخَذُ على مُوَادَعَةِ
أَهْلِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُ ليس بِمَأْخُوذٍ على سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ
فلم يَكُنْ غَنِيمَةً
وَكَذَا ما بُعِثَ رِسَالَةً إلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ لَا خُمْسَ فيه لِمَا
قُلْنَا
وَلَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ قَلْعَةً في دَارِ الْحَرْبِ فَافْتَدَوْا
أَنْفُسَهُمْ بِمَالٍ فَفِيهِ الْخُمْسُ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ لِكَوْنِهِ
مَأْخُوذًا على سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ من التَّصَرُّفِ في الْغَنَائِمِ
فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ الْإِمَامُ على بِلَادِ أَهْلِ
الْحَرْبِ فَالْمُسْتَوْلَى عليه لَا يَخْلُو من أَحَدِ أَنْوَاعٍ ثَلَاثَةٍ
الْمَتَاعُ وَالْأَرَاضِي وَالرِّقَابُ
أَمَّا الْمَتَاعُ فإنه يُخَمَّسُ وَيُقْسَمُ الْبَاقِي بين الْغَانِمِينَ وَلَا
خِيَارَ لِلْإِمَامِ فيه
وَأَمَّا الْأَرَاضِي فَلِلْإِمَامِ فيها خِيَارَانِ إنْ شَاءَ خَمَّسَهَا
وَيَقْسِمُ الْبَاقِيَ بين الْغَانِمِينَ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا
في يَدِ أَهْلِهَا بِالْخَرَاجِ وَجَعَلَهُمْ ذِمَّةً إنْ كَانُوا بِمَحَلِّ
الذِّمَّةِ بِأَنْ كَانُوا من أَهْلِ الْكِتَابِ أو من مُشْرِكِي الْعَجَمِ
وَوَضَعَ الْجِزْيَةَ على رؤوسهم وَالْخَرَاجَ على أَرَاضِيهِمْ
وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ
____________________
(7/118)
الشَّافِعِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ ليس لِلْإِمَامِ أَنْ يَتْرُكَ الْأَرَاضِيَ في أَيْدِيهِمْ بِالْخَرَاجِ
بَلْ يَقْسِمُهَا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَرَاضِيَ صَارَتْ مِلْكًا لِلْغُزَاةِ بِالِاسْتِيلَاءِ
فَكَانَ التَّرْكُ في أَيْدِيهِمْ إبْطَالًا لِمِلْكِ الْغُزَاةِ فَلَا يَمْلِكُهُ
الْإِمَامُ كَالْمَتَاعِ
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإن سَيِّدَنَا عُمَرَ رضي
اللَّهُ عنه لَمَّا فَتَحَ سَوَادَ الْعِرَاقَ تَرَكَ الْأَرَاضِيَ في أَيْدِيهِمْ
وَضَرَبَ على رُءُوسِهِمْ الْجِزْيَةَ وَعَلَى أَرَاضِيهِمْ الْخَرَاجَ بِمَحْضَرٍ
من الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي اللَّهُ تعالى عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ
أَنْكَرَ عليه مُنْكِرٌ فَكَانَ ذلك إجْمَاعًا منهم
وَأَمَّا الرِّقَابُ فَالْإِمَامُ فيها بين خِيَارَاتٍ ثلاثة ( ( ( ثلاث ) ) ) إنْ
شَاءَ قَتَلَ الْأَسَارَى منهم وَهُمْ الرِّجَالُ الْمُقَاتِلَةُ وَسَبَى
النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَاضْرِبُوا فَوْقَ
الْأَعْنَاقِ } وَهَذَا بَعْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ لِأَنَّ الضَّرْبَ فَوْقَ
الْأَعْنَاقِ هو الْإِبَانَةُ من الْمِفْصَلِ وَلَا يُقْدَرُ على ذلك حَالَ
الْقِتَالِ وَيُقْدَرُ عليه بَعْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ الْكِرَامَ رضي
اللَّهُ تعالى عَنْهُمْ في أَسَارَى بَدْرٍ فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إلَى الْفِدَاءِ
وَأَشَارَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه إلَى الْقَتْلِ فقال رسول اللَّهِ لو
جَاءَتْ من السَّمَاءِ نَارٌ ما نجى ( ( ( نجا ) ) ) إلَّا عُمَرُ أَشَارَ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى أَنَّ الصَّوَابَ كان هو الْقَتْلَ
وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِقَتْلِ عُقْبَةَ بن
أبي مُعَيْطٍ وَالنَّضْرِ بن الْحَارِثِ يوم بَدْرٍ وَبِقَتْلِ هِلَالِ بن خَطَلٍ
وَمَقِيسِ بن صَبَابَةَ يوم فَتْحِ مَكَّةَ وَلِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ قد تَكُونُ في
الْقَتْلِ لِمَا فيه من اسْتِئْصَالِهِمْ فَكَانَ لِلْإِمَامِ ذلك وَإِنْ شَاءَ
اسْتَرَقَّ الْكُلَّ فَخَمَسَهُمْ وَقَسَمَهُمْ لِأَنَّ الْكُلَّ غَنِيمَةٌ
حَقِيقَةً لِحُصُولِهَا في أَيْدِيهِمْ عَنْوَةً وَقَهْرًا بِإِيجَافِ الْخَيْلِ
وَالرِّكَابِ فَكَانَ له أَنْ يَقْسِمَ الْكُلَّ إلَّا رِجَالَ مُشْرِكِي
الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ فَإِنَّهُمْ لَا يُسْتَرَقُّونَ عِنْدَنَا بَلْ
يُقْتَلُونَ أو يُسْلِمُونَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ
اسْتِرْقَاقُهُمْ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ مُشْرِكِي الْعَجَمِ وَأَهْلِ
الْكِتَابِ من الْعَجَمِ وَالْعَرَبِ فَكَذَا اسْتِرْقَاقُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ
وَالْمُرْتَدِّينَ
وَهَذَا لِأَنَّ لِلِاسْتِرْقَاقِ حُكْمَ الْكُفْرِ وَهُمْ في الْكُفْرِ سَوَاءٌ
فَكَانُوا في احْتِمَالِ الِاسْتِرْقَاقِ سَوَاءٌ
وَلَنَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ } إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَإِنْ تَابُوا
وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وَلِأَنَّ
تَرْكَ الْقَتْلِ بِالِاسْتِرْقَاقِ في حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُشْرِكِي
الْعَجَمِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ وَمَعْنَى الْوَسِيلَةِ لَا
يَتَحَقَّقُ في حَقِّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ على نَحْوِ ما
بَيَّنَّا من قَبْلُ
وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ منهم فَيُسْتَرَقُّونَ كما يُسْتَرَقُّ
نِسَاءُ مُشْرِكِي الْعَجَمِ وَذَرَارِيِّهِمْ لِأَنَّ النبي اسْتَرَقَّ نِسَاءَ
هَوَازِنَ وَذَرَارِيَّهُمْ وَهُمْ من صَمِيمِ الْعَرَبِ وَكَذَا الصَّحَابَةُ
اسْتَرَقُوا نِسَاءَ الْمُرْتَدِّينَ من الْعَرَبِ وَذَرَارِيَّهُمْ وَإِنْ شَاءَ
مَنَّ عليهم وَتَرَكَهُمْ أَحْرَارًا بِالذِّمَّةِ كما فَعَلَ سَيِّدُنَا عُمَرُ
رضي اللَّهُ عنه بِسَوَادِ الْعِرَاقِ إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ
وَالْمُرْتَدِّينَ فإنه لَا يَجُوزُ تَرْكُهُمْ بِالذِّمَّةِ وَعَقْدِ الْجِزْيَةِ
كما لَا يَجُوزُ بِالِاسْتِرْقَاقِ لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ شَهِدُوا بِشَهَادَةٍ قبل أَنْ يَجْعَلَهُمْ الْإِمَامُ ذِمَّةً لم تَجُزْ
شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرْبِ فَإِنْ جَعَلَهُمْ ذِمَّةً فَأَعَادُوا
الشَّهَادَةَ جَازَتْ لِأَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَقْبُولَةٌ في
الْجُمْلَةِ فَأَمَّا شَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ فَغَيْرُ مَقْبُولَةٍ أَصْلًا
وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنَّ على الْأَسِيرِ فَيَتْرُكَهُ من غَيْرِ ذِمَّةٍ
لَا يَقْتُلُهُ وَلَا يَقْسِمُهُ لِأَنَّهُ لو فَعَلَ ذلك لَرَجَعَ إلَى
الْمَنَعَةِ فَيَصِيرُ حَرْبًا عَلَيْنَا
فَإِنْ قِيلَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَنَّ على الزُّبَيْرِ بن باطا ( ( ( باطال ) )
) من بَنِي قُرَيْظَةَ وَكَذَا مَنَّ على أَهْلِ خَيْبَرَ
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَنَّ على الزُّبَيْرِ ولم
يَقْتُلْهُ إمَّا لِأَنَّهُ لم يَثْبُتْ أَنَّهُ تُرِكَ بِالْجِزْيَةِ أَمْ
بِدُونِهَا فَاحْتَمَلَ أَنَّهُ تَرَكَهُ بِالْجِزْيَةِ وَبِعَقْدِ الذِّمَّةِ
وَأَمَّا أَهْلُ خَيْبَرَ فَقَدْ كَانُوا أَهْلَ الْكِتَابِ فَتَرَكَهُمْ وَمَنَّ
عليهم لِيَصِيرُوا كَرَّةً لِلْمُسْلِمِينَ وَيَجُوزُ الْمَنُّ لِذَلِكَ لِأَنَّ
ذلك في مَعْنَى الْجِزْيَةِ فَيَكُونُ تَرْكًا بِالْجِزْيَةِ من حَيْثُ الْمَعْنَى
وَهَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَادِيَ الْأَسَارَى أَمَّا الْمُفَادَاةُ بِالْمَالِ
فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا في ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ
وقال مُحَمَّدٌ مُفَادَاةُ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الذي لَا يُرْجَى له وَلَدٌ
تَجُوزُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ
بِالْمَالِ كَيْفَ ما كان
وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عز وجل { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً
} وقد فَادَى رسول اللَّهِ أَسَارَى بَدْرٍ بِالْمَالِ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ
فِعْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجَوَازُ وَالْإِبَاحَةُ
وَلَنَا أَنَّ قَتْلَ الْأَسْرَى مَأْمُورٌ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ } وَأَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إلَى ما بَعْدَ الْأَخْذِ
وَالِاسْتِرْقَاقِ لِمَا قُلْنَا
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ } وَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَا
يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا لِمَا شُرِعَ له الْقَتْلُ وهو أَنْ يَكُونَ وَسِيلَةً
إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يَحْصُلُ مَعْنَى التَّوَسُّلِ بِالْمُفَادَاةِ فَلَا
يَجُوزُ
____________________
(7/119)
تَرْكُ
الْمَفْرُوضِ لِأَجَلِهِ وَيَحْصُلُ بِالذِّمَّةِ وَالِاسْتِرْقَاقِ لِمَا
بَيَّنَّا فَكَانَ إقَامَةً لِلْفَرْضِ مَعْنًى لَا تَرْكًا له وَلِأَنَّ
الْمُفَادَاةَ بِالْمَالِ إعَانَةٌ لِأَهْلِ الْحَرْبِ على الْحِرَابِ لِأَنَّهُمْ
يَرْجِعُونَ إلَى الْمَنَعَةِ فَيَصِيرُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يقول مَعْنَى الْإِعَانَةِ لَا يَحْصُلُ من
الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الذي لَا يُرْجَى منه وَلَدٌ فَجَازَ فِدَاؤُهُ بِالْمَالِ
ولكنا ( ( ( ولكننا ) ) ) نَقُولُ إنْ كان لَا يَحْصُلُ بهذا الطَّرِيقِ يَحْصُلُ
بِطَرِيقٍ آخَرَ وهو الرَّأْيُ وَالْمَشُورَةُ وَتَكْثِيرُ السَّوَادِ
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } فَقَدْ قال
بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ إنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَقَوْلِهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } الْآيَةَ لِأَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ
سُورَةِ مُحَمَّدٍ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ
الْآيَةُ في أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَنْ عليهم بَعْدَ أَسْرِهِمْ على أَنْ
يَصِيرُوا كَرَّةً لِلْمُسْلِمِينَ كما فَعَلَ رسول اللَّهِ بِأَهْلِ خَيْبَرَ أو
ذِمَّةً كما فَعَلَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه بِأَهْلِ السَّوَادِ
وَيُسْتَرَقُّونَ
وَأَمَّا أَسَارَى بَدْرٍ فَقَدْ قِيلَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا فَعَلَ ذلك
بِاجْتِهَادِهِ ولم يَنْتَظِرْ الْوَحْيَ فَعُوتِبَ عليه بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى { لَوْلَا كِتَابٌ من اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ } حتى قال عليه السلام لو أَنْزَلَ اللَّهُ من السَّمَاءِ نَارًا
ما نجى ( ( ( نجا ) ) ) إلَّا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه يَدُلُّ عليه قَوْله { ما
كان لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ له أَسْرَى حتى يُثْخِنَ في الْأَرْضِ } على أَحَدِ
وَجْهَيْ التَّأْوِيلِ أَيْ ما كان لِنَبِيٍّ أَنْ يَأْخُذَ الْفِدَاءَ في الْأَسَارَى
حتى يُثْخِنَ في الْأَرْضِ أَيْ حتى يَغْلِبَ في الْأَرْضِ مَنَعَةً عن أَخْذِ
الفذاء ( ( ( الفداء ) ) ) بها وَأَشَارَ إلَى أَنَّ ذلك لِيَغْلِبَ في الْأَرْضِ
إذْ لو أَطْلَقَهُمْ لَرَجَعُوا إلَى الْمَنَعَةِ وَصَارُوا حَرْبًا على
الْمُسْلِمِينَ فَلَا تتحق ( ( ( تتحقق ) ) ) الْغَلَبَةُ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ
الْمُفَادَاةَ كانت جَائِزَةً ثُمَّ انْتَسَخَتْ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
{ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ } وقوله تعالى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَإِنَّمَا عُوتِبَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بقوله
تعالى { لَوْلَا كِتَابٌ من اللَّهِ سَبَقَ } لَا لِخَطَرِ الْمُفَادَاةِ بَلْ
لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لم يَنْتَظِرْ بُلُوغَ الْوَحْيِ وَعَمِلَ
بِاجْتِهَادِهِ أَيْ لَوْلَا من حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا يُعَذِّبَ
أَحَدًا على الْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ لَمَسَّكُمْ الْعَذَابُ بِالْعَمَلِ
بِالِاجْتِهَادِ وَتَرْكِكُمْ انْتِظَارَ الْوَحْيِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَكَذَا لَا يجوز ( ( ( تجوز ) ) ) مُفَادَاةُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ بِالْمَالِ
لِأَنَّ كُلَّ ذلك يَرْجِعُ إلَى إعَانَتِهِمْ على الْحَرْبِ
وَتَجُوزُ مُفَادَاةُ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
وَالثِّيَابِ وَنَحْوِهَا مِمَّا ليس فيها إعَانَةٌ لهم على الْحَرْبِ وَلَا
يُفَادُونَ بِالسِّلَاحِ لِأَنَّ فيه إعَانَةً لهم على الْحَرْبِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا مُفَادَاةُ الْأَسِيرِ بالأسير فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه
الرَّحْمَةُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ في الْمُفَادَاةِ إنْقَاذَ الْمُسْلِمِ وَذَلِكَ أَوْلَى
من إهْلَاكِ الْكَافِرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما ذَكَرْنَا أَنَّ قَتْلَ
الْمُشْرِكِينَ فُرِضَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ }
وقَوْله تَعَالَى { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ } فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ
إلَّا لِمَا شُرِعَ له إقَامَةُ الْفَرْضِ وهو التَّوَسُّلُ إلَى الْإِسْلَامِ
لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تَرْكًا مَعْنًى وَذَا لَا يَحْصُلُ بِالْمُفَادَاةِ
وَيَحْصُلُ بِالذِّمَّةِ وَالِاسْتِرْقَاقِ فِيمَنْ يَحْتَمِلُ ذلك على ما
بَيَّنَّا وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فيها إعَانَةً لِأَهْلِ الْحَرْبِ على
الْحَرْبِ لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلَى الْمَنَعَةِ فَيَصِيرُونَ حَرْبًا على
الْمُسْلِمِينَ
ثُمَّ اخْتَلَفَ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا قال أبو يُوسُفَ
تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ قبل الْقِسْمَةِ وَلَا تَجُوزُ بَعْدَهَا وقال مُحَمَّدٌ
تَجُوزُ في الْحَالَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ الْمُفَادَاةُ قبل الْقِسْمَةِ
فَكَذَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنْ لم يَثْبُتْ قبل الْقِسْمَةِ
فَالْحَقُّ ثَابِتٌ ثُمَّ قِيَامُ الْحَقِّ لم يَمْنَعْ جَوَازَ الْمُفَادَاةِ
فَكَذَا قِيَامُ الْمِلْكِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمُفَادَاةَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ إبْطَالُ
مِلْكِ الْمَقْسُومِ له من غَيْرِ رِضَاهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ في الْأَصْلِ
بِخِلَافِ ما قبل الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ قبل الْقِسْمَةِ إنَّمَا
الثَّابِتُ حَقٌّ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا
لِلْإِبْطَالِ بِالْمُفَادَاةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى رَجُلٌ وَاحِدٌ من الْأَسَارَى وَيُؤْخَذَ بَدَلَهُ
رَجُلَيْنِ من الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ كَمْ من وَاحِدٍ يَغْلِبُ اثْنَيْنِ
وَأَكْثَرَ من ذلك فَيُؤَدِّي إلَى الْإِعَانَةِ على الْحَرْبِ
وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وإذا عَزَمَ الْمُسْلِمُونَ على قَتْلِ الْأَسَارَى فَلَا يَنْبَغِي أَنْ
يُعَذِّبُوهُمْ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَغَيْرِ ذلك من أَنْوَاعِ التَّعْذِيبِ
لِأَنَّ ذلك تَعْذِيبٌ من غَيْرِ فَائِدَةٍ وقد رُوِيَ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ قال
في بَنِي قُرَيْظَةَ لَا تَجْمَعُوا عليهم حَرَّ هذا الْيَوْمِ وَحَرَّ السِّلَاحِ
وَلَا تُمَثِّلُوا بِهِمْ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في وَصَايَا
الْأُمَرَاءِ وَلَا تُمَثِّلُوا
وَلَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ لو ضَرْبُ
اخْتِصَاصٍ بِهِ حَيْثُ أَخَذَهُ وَأَسَرَهُ فلم يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ
يَتَصَرَّفَ فيه كما لو الْتَقَطَ شيئا وَالْأَفْضَلُ
____________________
(7/120)
أَنْ
يَأْتِيَ بِهِ الْإِمَامَ إنْ قَدَرَ عليه حتى يَكُونَ الْإِمَامُ هو الْحَكَمَ
فيه لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُزَاةِ بِهِ فَكَانَ الْحُكْمُ فيه لِلْإِمَامِ
وَإِنَّمَا يُقْتَلُ من الْأَسَارَى من بَلَغَ إمَّا بِالسِّنِّ أو
بِالِاحْتِلَامِ على قَدْرِ ما اُخْتُلِفَ فيه
فَأَمَّا من لم يَبْلُغْ أو شُكَّ في بُلُوغِهِ فَلَا يُقْتَلُ
وَكَذَا الْمَعْتُوهُ الذي لَا يَعْقِلُ لِمَا بَيَّنَّا من قَبْلُ
فَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ من الْمُسْلِمِينَ أَسِيرًا في دَارِ الْحَرْبِ أو في دَارِ
الْإِسْلَامِ فَإِنْ كان قبل الْقِسْمَةِ فَلَا شَيْءَ فيه من دِيَةٍ وَلَا
كَفَّارَةٍ وَلَا قِيمَةٍ لِأَنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ قبل الْقِسْمَةِ فإن
لِلْإِمَامِ فيه خِيَرَةَ الْقَتْلِ وَإِنْ كان بَعْدَ الْقِسْمَةِ أو بَعْدَ
الْبَيْعِ فَيُرَاعَى فيه حُكْمُ الْقَتْلِ لِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا قَسَمَهُمْ أو
بَاعَهُمْ فَقَدْ صَارَ دَمُهُمْ مَعْصُومًا فَكَانَ مَضْمُونًا بِالْقَتْلِ إلَّا
أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِقِيَامِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ كَالْحَرْبِيِّ
الْمُسْتَأْمَنِ
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من خِيَارِ الْقَتْلِ لِلْإِمَامِ في الْأَسَارَى قبل
الْقِسْمَةِ إذَا لم يُسْلِمُوا فَإِنْ أَسْلَمُوا قبل الْقِسْمَةِ فَلَا يُبَاحُ
قَتْلُهُمْ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عَاصِمٌ وَلِلْإِمَامِ خِيَارَانِ فِيهِمْ إنْ
شَاءَ اسْتَرَقَّهُمْ فَقَسَمَهُمْ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمْ أَحْرَارًا
بِالذِّمَّةِ إنْ كَانُوا بِمَحَلِّ الذِّمَّةِ وَالِاسْتِرْقَاقِ لِأَنَّ
الْإِسْلَامَ لَا يَرْفَعُ الرِّقَّ إمَّا لَا يَرْفَعُهُ لِأَنَّ الرَّفْعَ فيه
إبْطَالُ حَقِّ الْغُزَاةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَأَمَّا بَيَانُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
الْقِسْمَةُ نَوْعَانِ قِسْمَةُ حَمْلٍ وَنَقْلٍ وَقِسْمَةُ مِلْكٍ
أَمَّا قِسْمَةُ الْحَمْلِ فَهِيَ إنْ عَزَّتْ الدَّوَابُّ ولم يَجِدْ الْإِمَامُ
حَمُولَةً يُفَرِّقُ الْغَنَائِمَ على الْغُزَاةِ فَيَحْمِلُ كُلُّ رَجُلٍ على
قَدْرِ نَصِيبِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ يَسْتَرِدُّهَا منهم
فَيَقْسِمُهَا قِسْمَةَ مِلْكٍ وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ
وَلَا تَكُونُ قِسْمَةَ مِلْكٍ كَالْمُودِعَيْنِ يَقْتَسِمَانِ الْوَدِيعَةَ
لِيَحْفَظَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضَهَا جَازَ ذلك وَتَكُونُ قِسْمَةَ
مِلْكٍ فَكَذَا هذا
وَأَمَّا قِسْمَةُ الْمِلْكِ فَلَا تَجُوزُ في دَارِ الْحَرْبِ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَجُوزُ
وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَبْنِيٌّ على أَصْلٍ وهو أَنَّ الْمِلْكَ هل يَثْبُتُ في
الْغَنَائِمِ في دَارِ الْحَرْبِ لِلْغُزَاةِ فَعِنْدَنَا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ
أَصْلًا فيها لَا من كل وَجْهٍ وَلَا من وَجْهٍ وَلَكِنْ يَنْعَقِدُ سَبَبُ
الْمِلْكِ فيها على أَنْ تَصِيرَ عِلَّةً عِنْدَ الإحراز ( ( ( الأحرار ) ) )
بِدَارِ الْإِسْلَامِ وهو تَفْسِيرُ حَقِّ الْمِلْكِ أو حَقِّ التَّمَلُّكِ
عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ قبل الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ
بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْقِتَالِ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَهُ في حَالِ فَوْرِ
الْهَزِيمَةِ قَوْلَانِ
وَيُبْنَى على هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ منها أَنَّهُ إذَا مَاتَ وَاحِدٌ من
الْغَانِمِينَ في دَارِ الْحَرْبِ لَا يُورَثُ نَصِيبُهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ
يُورَثُ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنَّ الْمَدَدَ إذَا لَحِقَ الْجَيْشَ فَأَحْرَزُوا الْغَنَائِمَ
جُمْلَةً إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ يُشَارِكُونَهُمْ فيها عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا
يُشَارِكُونَهُمْ
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا أَتْلَفَ وَاحِدٌ من الْغَانِمِينَ شيئا من الْغَنِيمَةِ
لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَضْمَنُ
وَمِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا بَاعَ شيئا من الْغَنَائِمِ لَا لِحَاجَةِ
الْغُزَاةِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجُوزُ
وَمِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا قَسَمَ الْغَنَائِمَ في دَارِ الْحَرْبِ
مُجَازِفًا غير مُجْتَهِدٍ وَلَا مُعْتَقِدٍ جَوَازَ الْقِسْمَةِ لَا تَجُوزُ
عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ تَجُوزُ
فَأَمَّا إذَا رَأَى الْإِمَامُ الْقِسْمَةَ فَقَسَمَهَا نَفَذَتْ قِسْمَتُهُ
بِالْإِجْمَاعِ
وَكَذَلِكَ لو رَأَى الْبَيْعَ فَبَاعَهَا لِأَنَّهُ حُكْمٌ أَمْضَاهُ في مَحَلِّ
الِاجْتِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ فَيَنْفُذُ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
قَسَمَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ بِخَيْبَرَ وَقَسَمَ غَنَائِمَ أَوْطَاسٍ بِأَوْطَاسٍ
وَقَسَمَ غَنَائِمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ في دِيَارِهِمْ وَقَسَمَ غَنَائِمَ بَدْرٍ
بِالْجِعْرَانَةِ وَهِيَ وَادٍ من أَوْدِيَةِ بَدْرٍ وَأَدْنَى ما يُحْمَلُ عليه
فِعْلُ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هو الْجَوَازُ وَالْإِبَاحَةُ
وَلِأَنَّهُ وَجَدَ الِاسْتِيلَاءَ على مَالٍ مُبَاحٍ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ
اسْتِدْلَالًا بِالِاسْتِيلَاءِ على الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَلَا شَكَّ أَنَّ
الْمُسْتَوْلَى عليه مَالٌ مُبَاحٌ لِأَنَّهُ مَالُ الْكَافِرِ وإنه مُبَاحٌ
وَالدَّلِيلُ على تَحَقُّقِ الِاسْتِيلَاءِ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ عِبَارَةٌ عن
إثْبَاتِ الْيَدِ على الْمَحَلِّ وقد وُجِدَ ذلك حَقِيقَةً وَإِنْكَارُ
الْحَقَائِقِ مُكَابَرَةٌ وَرَجْعَةُ الْكُفَّارِ بَعْدَ انْهِزَامِهِمْ
وَاسْتِرْدَادِهِمْ أَمْرٌ مَوْهُومٌ لَا دَلِيلَ عليه فَلَا يُعْتَبَرُ
وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إنَّمَا يُفِيدُ الْمِلْكَ إذَا وَرَدَ على مَالٍ
مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ ولم يُوجَدْ ههنا
لِأَنَّ مِلْكَ الْكَفَرَةِ قَائِمٌ لِأَنَّ مِلْكَ الْكَفَرَةِ كان ثَابِتًا لهم
وَالْمِلْكُ مَتَى ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِإِزَالَتِهِ أو
يَخْرُجُ الْمَحَلُّ من أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ حَقِيقَةً بِالْهَلَاكِ أو
بِعَجْزِ الْمَالِكِ عن الِانْتِفَاعِ بِهِ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ فِيمَا شُرِعَ
الْمِلْكُ له ولم يُوجَدْ شَيْءٌ من ذلك
أَمَّا الْإِزَالَةُ وَهَلَاكُ الْمَحَلِّ فَظَاهِرُ الْعَدَمِ
وَأَمَّا قُدْرَةُ الْكَفَرَةِ على الِانْتِفَاعِ بِأَمْوَالِهِمْ فَلِأَنَّ
الْغُزَاةَ ما دَامُوا في دَارِ الْحَرْبِ فَالِاسْتِرْدَادُ ليس بَنَادِرِ بَلْ
هو ظَاهِرٌ أو مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا على السَّوَاءِ وَالْمِلْكُ كان ثَابِتًا
لهم فَلَا يَزُولُ مع الِاحْتِمَالِ وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَأَمَّا غَنَائِمُ
خَيْبَرَ وَأَوْطَاسَ وَالْمُصْطَلِقِ فَإِنَّمَا قَسَمَهَا رسول اللَّهِ في
تِلْكَ الدِّيَارِ لِأَنَّهُ افْتَتَحَهَا فَصَارَتْ دِيَارَ الْإِسْلَامِ
وَأَمَّا غَنَائِمُ بَدْرٍ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَمَهَا
بِالْمَدِينَةِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ
____________________
(7/121)
بِهِ
مع التَّعَارُضِ ثُمَّ الْمِلْكُ إنْ لم يَثْبُتْ لِلْغُزَاةِ في الْغَنَائِمِ في
دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ ثَبَتَ الْحَقُّ لهم حتى يَجُوزَ لهم الِانْتِفَاعُ بها من
غَيْرِ حَاجَةٍ على ما نَذْكُرُهُ وَلَوْلَا تَعَلُّقُ الْحَقِّ لَجَازَ لِأَنَّهُ
يَكُونُ مَالًا مُبَاحًا
وَكَذَا لو وطىء وَاحِدٌ من الْغُزَاةِ جَارِيَةً من الْمَغْنَمِ لَا يَجِبُ عليه
الْحَدُّ لِأَنَّ له فيها حَقًّا فَأُورِثَ شُبْهَةً في دَرْءِ الْحَدِّ وَلَا
يَجِبُ عليه الْعُقْرُ أَيْضًا لِأَنَّهُ بِالْوَطْءِ أَتْلَفَ جُزْءًا من
مَنَافِعِ بِضْعِهَا وَلَوْ أَتْلَفَهَا لَا يَضْمَنُ فههنا ( ( ( فهاهنا ) ) )
أَوْلَى وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ أَيْضًا لو ادَّعَى الْوَلَدَ لِأَنَّ ثَبَاتَ
النَّسَبِ مُعْتَمَدُ الْمِلْكِ أو الْحَقِّ الْخَاصِّ وَلَا مِلْكَ ههنا
وَالْحَقُّ عَامٌّ
وَكَذَا لو أَسْلَمَ الْأَسِيرُ في دَارِ الْحَرْبِ لَا يَكُونُ حُرًّا وَيَدْخُلُ
في الْقِسْمَةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَانِمِينَ بِهِ بِنَفْسِ الْأَخْذِ
وَالِاسْتِيلَاءِ فَاعْتِرَاضُ الْإِسْلَامِ عليه لَا يُبْطِلُهُ بِخِلَافِ ما
إذَا أَسْلَمَ قبل الْأَسْرِ أَنَّهُ يَكُونُ حُرًّا وَلَا يَدْخُلُ في
الْقِسْمَةِ لِأَنَّ عِنْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ لم يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ
أَحَدٍ فَكَانَ الْإِسْلَامُ دَافِعًا الْحَقَّ لَا رَافِعًا إيَّاهُ على ما
بَيَّنَّا
وَأَمَّا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ قبل الْقِسْمَةِ فَيَثْبُتُ
الْمِلْكُ أو يَتَأَكَّدُ الْحَقُّ وَيَتَقَرَّرُ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ
الثَّابِتَ انْعَقَدَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ أو تَأَكُّدِ الْحَقِّ على أَنْ
يَصِيرَ عِلَّةً عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهَا وهو الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ
وقد وُجِدَ فَتَجُوزُ الْقِسْمَةُ وَيَجْرِي فيه الْإِرْثُ وَيَضْمَنُ الْمُتْلِفُ
وَتَنْقَطِعُ شَرِكَةُ الْمَدَدِ وَنَحْوُ ذلك إلَّا أَنَّهُ لو أَعْتَقَ وَاحِدٌ
من الْغَانِمِينَ عَبْدًا من الْمَغْنَمِ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ اسْتِحْسَانًا
لِأَنَّ نَفَاذَ الْإِعْتَاقِ يَقِفُ على الْمِلْكِ الْخَاصِّ وَلَا يَتَحَقَّقُ
ذلك إلَّا بِالْقِسْمَةِ فَأَمَّا الْمَوْجُودُ قبل الْقِسْمَةِ فَمِلْكٌ عَامٌّ
أو حَقٌّ مُتَأَكَّدٌ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِعْتَاقَ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ
الْإِرْثَ وَالْقِسْمَةَ وَيَكْفِي لِإِيجَابِ الضَّمَانِ وَانْقِطَاعِ شَرِكَةِ
الْمَدَدِ على ما بَيَّنَّا
وَكَذَلِكَ لو اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً من الْمَغْنَمِ وَادَّعَى الْوَلَدَ لَا
تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ اسْتِحْسَانًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ
وَأُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ يَقِفَانِ على مِلْكٍ خَاصٍّ وَذَلِكَ بِالْقِسْمَةِ أو
حَقٍّ خَاصٍّ ولم يُوجَدْ وَيَلْزَمُهُ الْعُقْرُ لِأَنَّ الْمِلْكَ الْعَامَّ أو
الْحَقَّ الْخَاصَّ يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ
وَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ الْخَاصُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم
في نَصِيبِهِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازُ الْأَنْصِبَاءِ وَتَعْيِينُهَا
وَلَوْ قَسَمَ الْإِمَامُ الْغَنَائِمَ فَوَقَعَ عَبْدٌ في سَهْمِ رَجُلٍ
فَأَعْتَقَهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَ
مِلْكًا خَاصًّا
فَأَمَّا إذَا وَقَعَ في سَهْمِ جَمَاعَةٍ منهم عَبْدٌ فَأَعْتَقَهُ أَحَدُهُمْ
يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ قَلَّ الشُّرَكَاءُ أو كَثُرُوا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ إنْ كَانُوا عَشَرَةً أو أَقَلَّ منها يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ
وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ من ذلك لَا يَنْفُذُ
فَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ نَظَرَ في خُصُوصِ الْمِلْكِ إلَى الْقِسْمَةِ
وأبو يُوسُفَ إلَى الْعَدَدِ وَالصَّحِيحُ نَظَرُ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ
الْقِسْمَةَ تَمْيِيزٌ وَتَعْيِينٌ فَكَانَتْ قَاطِعَةً لِعُمُومِ الشَّرِكَةِ
مُخَصِّصَةً لِلْمِلْكِ وَإِنْ كَثُرَ الْعَدَدُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ غَنِيمَةً ثُمَّ غَلَبَهُمْ الْعَدُوُّ
فَاسْتَنْقَذُوهَا من أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاء عَسْكَرٌ آخَرُ فَأَخَذَهَا من
الْعَدُوِّ فَأَخْرَجُوهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ اخْتَصَمَ الْفَرِيقَانِ
نُظِرَ في ذلك فَإِنْ كان الْأَوَّلُونَ لم يَقْتَسِمُوهَا ولم يُحْرِزُوهَا
بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَالْغَنِيمَةُ لِلْآخَرِينَ لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ لم
يَثْبُتْ لهم إلَّا مُجَرَّدُ حَقٍّ غَيْرِ مُتَقَرِّرٍ وقد ثَبَتَ لِلْآخَرِينَ
مِلْكٌ عَامٌّ أو حَقٌّ مُتَقَرِّرٌ يَجْرِي مَجْرَى الْمِلْكِ فَكَانُوا أَوْلَى
بِالْغَنَائِمِ وَإِنْ كان الْأَوَّلُونَ قد اقْتَسَمُوهَا فَالْقِسْمَةُ لهم
وَإِنْ كَانُوا لم يُحْرِزُوهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْقِسْمَةِ
مِلْكًا خَاصًّا فإذا غَلَبَهُمْ الْكُفَّارُ فَقَدْ اسْتَوْلَوْا على
أَمْلَاكِهِمْ فَإِنْ وَجَدُوهَا في يَدِ الْآخَرِينَ قبل الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا
بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدُوهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِالْقِيمَةِ
إنْ شَاءُوا كما في سَائِرِ أَمْوَالِهِمْ التي اسْتَوْلَى عليها الْعَدُوُّ ثُمَّ
وَجَدُوهَا في يَدِ الْغَانِمِينَ قبل الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا
وَإِنْ كَانُوا لم يَقْتَسِمُوهَا وَلَكِنَّهُمْ أَحْرَزُوهَا بِدَارِ
الْإِسْلَامِ فَإِنْ وَجَدُوهَا بَعْدَ قِسْمَةِ الْآخَرِينَ فَالْآخَرُونَ
أَوْلَى لِأَنَّ الثَّابِتَ لهم مِلْكٌ خَاصٌّ بِالْقِسْمَةِ وَالثَّابِتِ
لِلْأَوَّلِينَ مِلْكٌ عَامٌّ أو حَقٌّ مُتَقَرِّرٌ عَامٌّ فَكَانَ اعْتِبَارُ
الْمِلْكِ الْخَاصِّ أَوْلَى
وَأَمَّا إذَا وجدوها ( ( ( وجدها ) ) ) قبل قِسْمَةِ الْآخَرِينَ فَفِيهِ
رِوَايَتَانِ ذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْأَوَّلِينَ أَوْلَى وَذَكَرَ في
السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْآخَرِينَ أَوْلَى
وَجْهُ رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ أَنَّ الثَّابِتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ من
الْفَرِيقَيْنِ وَإِنْ كان هو الْحَقَّ الْمُتَأَكَّدَ لَكِنَّ نَقْضَ الْحَقِّ
بِالْحَقِّ جَائِزٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ بمثله كما في
النَّسْخِ وَلِهَذَا جَازَ نَقْضُ الْمِلْكِ بِالْمِلْكِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ حَقَّ الْآخَرِينَ ثَابِتٌ مُتَقَرِّرٌ
وَحَقُّ الْأَوَّلِينَ زَائِلٌ ذَاهِبٌ فَاسْتِصْحَابُ الْحَالَةِ الثَّابِتَةِ
أَوْلَى إذْ هو يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ
وَهَذَا هو الْقِيَاسُ في الْمِلْكِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْتَقَضَ
الْحَادِثُ بِالْقَدِيمِ إلَّا أَنَّ النَّقْضَ هُنَاكَ ثَبَتَ نَصًّا بِخِلَافِ
الْقِيَاسِ فَيَقْتَصِرُ على مَوْرِدِ النَّصِّ
هذا إذَا كان الْكُفَّارُ أَحْرَزُوا الْأَمْوَالَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ
كَانُوا لم يُحْرِزُوهَا حتى أَخَذَهَا الْفَرِيقُ الْآخَرُ من الْمُسْلِمِينَ
منهم
____________________
(7/122)
في
دَارِ الْإِسْلَامِ فَالْغَنَائِمُ لِلْأَوَّلِينَ سَوَاءٌ قَسَمَهَا الْآخَرُونَ
أو لم يَقْسِمُوهَا لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ
بِالِاسْتِيلَاءِ إلَّا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ ولم يُوجَدْ
فَكَانَتْ الْغَنَائِمُ في حُكْمِ يَدِ الْأَوَّلِينَ ما دَامَتْ في دَارِ
الْإِسْلَامِ فكأن الآخرين ( ( ( الآخرون ) ) ) أَخَذُوهُ من أَيْدِي
الْأَوَّلِينَ فَيَلْزَمُهُمْ الرَّدُّ عليهم إلَّا إذَا كان الْإِمَامُ قَسَمَهَا
بين الْآخَرِينَ وَرَأْيُهُ أَنَّ الْكَفَرَةَ قد مَلَكُوهَا بِنَفْسِ الْأَخْذِ
وَالِاسْتِيلَاءِ وَإِنْ كَانُوا في دَارِ الْإِسْلَامِ كما هو مَذْهَبُ بَعْضِ
الناس فَكَانَتْ قِسْمَةً في مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَتَنْفُذُ وَتَكُونُ
لِلْآخَرِينَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
هذا الذي ذَكَرْنَا من كَوْنِ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ شَرْطًا
لِثُبُوتِ الْمِلْكِ في الْغَنَائِمِ الْمُشْتَرَكَةِ
وَأَمَّا الْغَنَائِمُ الْخَالِصَةُ وَهِيَ الْأَنْفَالُ فَهَلْ هو شَرْطٌ فيها
قال بَعْضُ الْمَشَايِخِ إنَّهُ شَرْطٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ حتى لَا يَثْبُتَ
الْمِلْكُ بَيْنَهُمَا فيها قبل الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ ليس بِشَرْطٍ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فيها بِنَفْسِ الْأَخْذِ
وَالْإِصَابَةِ اسْتِدْلَالًا بِمَسْأَلَةٍ ظَهَرَ فيها اخْتِلَافٌ
وَهِيَ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا نَفَّلَ فقال من أَصَابَ جَارِيَةً فَهِيَ له
فَأَصَابَ رَجُلٌ من الْمُسْلِمِينَ جَارِيَةً فَاسْتَبْرَأَهَا في دَارِ
الْحَرْبِ بِحَيْضَةٍ لَا يَحِلُّ له وَطْؤُهَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ يَحِلُّ
وقال بَعْضُهُمْ الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ ليس بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ في
الْأَنْفَالِ بِالْإِجْمَاعِ وَاخْتِلَافُهُمَا في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لَا
يَدُلُّ على الِاخْتِلَافِ في ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ كما ظَهَرَ
الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا في النَّفْلِ فَقَدْ ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ في
الْغَنِيمَةِ الْمَقْسُومَةِ فإن الْإِمَامَ إذَا قَسَمَ الْغَنَائِمَ في دَارِ
الْحَرْبِ فَأَصَابَ رَجُلٌ جَارِيَةً فَاسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةٍ فَهُوَ على
الِاخْتِلَافِ
وَكَذَا لو رَأَى الْإِمَامُ بَيْعَ الْغَنَائِمِ فَبَاعَ من رَجُلٍ جَارِيَةً
فَاسْتَبْرَأَهَا الْمُشْتَرِي بِحَيْضَةٍ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ وَلَا خِلَافَ
بين أَصْحَابِنَا في الْغَنَائِمِ الْمَقْسُومَةِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ
فيها قبل الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ دَلَّ أَنَّ مَنْشَأَ الْخِلَافِ
هُنَاكَ شَيْءٌ آخَرُ وَرَاءَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ وَعَدَمِهِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ في النَّفْلِ لَا يَقِفُ على الْإِحْرَازِ بِدَارِ
الْإِسْلَامِ بين أَصْحَابِنَا بِخِلَافِ الْغَنَائِمِ الْمَقْسُومَةِ لِأَنَّ
سَبَبَ الْمِلْكِ قد تَحَقَّقَ وهو الْأَخْذُ وَالِاسْتِيلَاءُ وَلَا يَجُوزُ
تَأْخِيرُ الْحُكْمِ عن سَبَبٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ وفي الْغَنَائِمِ الْمَقْسُومَةِ
ضَرُورَةٌ وَهِيَ خَوْفُ شَرِّ الْكَفَرَةِ لِأَنَّهُ لو ثَبَتَ الْمِلْكُ
بِنَفْسِ الْأَخْذِ لَاشْتَغَلُوا بِالْقِسْمَةِ وَلَتَسَارَعَ كُلُّ أَحَدٍ إلَى
إحْرَازِ نَصِيبِهِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَتَفَرَّقَ الْجَمْعُ وَفِيهِ خَوْفُ
تَوَجُّهِ الشَّرِّ عليهم من الْكَفَرَةِ فَتَأَخَّرَ الْمِلْكُ فيها إلَى ما
بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ وَهَذِهِ
الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ في الْأَنْفَالِ لِأَنَّهَا خَالِصَةٌ غَيْرُ
مَقْسُومَةٍ فَلَا مَعْنَى لِتَأْخِيرِ الْحُكْمِ عن السَّبَبِ
وَالدَّلِيلُ على التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَدَدَ إذَا لَحِقَ
الْجَيْشَ لَا يُشَارِكُ الْمُنَفَّلُ له كما بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ
بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ الْمَقْسُومَةِ
وَكَذَا لو مَاتَ الْمُنَفَّلُ له يُورَثُ نُصِيبُهُ كما لو مَاتَ بَعْدَ
الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ الْمَقْسُومَةِ فَيَثْبُتُ
بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ الْمِلْكَ في النَّفْلِ لَا يَقِفُ على الْإِحْرَازِ
بِالدَّارِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا إلَّا أَنَّ هذا النَّوْعَ من
الْمِلْكِ لَا يَظْهَرُ في حَقِّ حِلِّ الْوَطْءِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَهَذَا لَا يَدُلُّ على عَدَمِ الْمِلْكِ أَصْلًا
أَلَا تَرَى أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ قد يَمْتَنِعُ مع قِيَامِ الْمِلْكِ
لِعَوَارِضَ من الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْمَحْرَمِيَّة وَالصِّهْرِيَّة
وَنَحْوِ ذلك ثُمَّ إنَّمَا لم يَثْبُتْ الْحِلُّ هُنَاكَ مع ثُبُوتِ الْمِلْكِ
لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُتَزَلْزِلٌ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ لِاحْتِمَالِ الزَّوَالِ
سَاعَةً فَسَاعَةً لِأَنَّ الدَّارَ دَارُهُمْ فَكَانَ احْتِمَالُ الِاسْتِرْدَادِ
قَائِمًا وَمَتَى اسْتَرَدُّوا يَرْتَفِعْ السَّبَبُ من حيث ( ( ( حين ) ) )
وُجُودِهِ وَيَلْتَحِقْ بِالْعَدَمِ إمَّا من كل وَجْهٍ أو من وَجْهٍ فَتَبَيَّنَ
أَنَّ الْوَطْءَ لم يُصَادِفْ مَحَلَّهُ وهو الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ وَلِهَذَا
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه إنَّهُ لَا
يَحِلُّ وَطْؤُهَا بَعْدَ قِسْمَةِ الْإِمَامِ وَبَيْعِهِ إذَا رَأَى ذلك وَإِنْ
وَقَعَتْ قِسْمَتُهُ جَائِزَةً وَبَيْعُهُ نَافِذًا مُفِيدًا لِلْمِلْكِ في هذه
الصُّورَةِ كما ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَجُوزُ بِهِ الِانْتِفَاعُ من الْغَنَائِمِ وما لَا يَجُوزُ
فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما يُنْتَفَعُ بِهِ منها
وَالثَّانِي في بَيَانِ من يَنْتَفِعُ بِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ
وَالْعَلَفِ وَالْحَطَبِ منها قبل الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَقِيرًا كان
الْمُنْتَفِعُ أو غَنِيًّا لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَى الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ في
حَقِّ الْكُلِّ فَإِنَّهُمْ لو كُلِّفُوا حَمْلَهَا من دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى
دَارِ الْحَرْبِ مُدَّةَ ذَهَابِهِمْ وَإِيَابِهِمْ وَمُقَامِهِمْ فيها لَوَقَعُوا
في حَرَجٍ عَظِيمٍ بَلْ يَتَعَذَّرُ عليهم ذلك فَسَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِّ كل
وَاحِدٍ من الْغَانِمِينَ في حَقِّ صَاحِبِهِ وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ شَرْعًا
وَالْتَحَقَتْ هذه الْمَحَالُّ بِالْمُبَاحَاتِ الْأَصْلِيَّةِ لِهَذِهِ
الضَّرُورَةِ
وَكَذَلِكَ كُلُّ ما كان مَأْكُولًا مِثْلَ السَّمْنِ وَالزَّيْتِ وَالْخَلِّ
____________________
(7/123)
لَا
بَأْسَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الرَّجُلُ وَيُدْهِنَ بِهِ نَفْسَهُ وَدَابَّتَهُ لِأَنَّ
الْحَاجَةَ إلَى الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ قبل الْإِحْرَازِ بِدَارِ
الْإِسْلَامِ لَازِمَةٌ وما كان من الْأَدْهَانِ لَا يُؤْكَلُ مِثْلُ
الْبَنَفْسَجِ وَالْخَيْرِيِّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ لِأَنَّ
الِانْتِفَاعَ بِهِ ليس من الْحَاجَاتِ اللَّازِمَةِ بَلْ من الْحَاجَاتِ الزَّائِدَةِ
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَبِيعُوا شيئا من الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ وَغَيْرِ ذلك
مِمَّا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ وَلَا عُرُوضٍ لِأَنَّ
إطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ وَإِسْقَاطَ اعْتِبَارِ الْحُقُوقِ وَإِلْحَاقِهَا
بِالْعَدَمِ لِلضَّرُورَةِ التي ذَكَرْنَا وَلَا ضَرُورَةَ في الْبَيْعِ وَلِأَنَّ
مَحَلَّ الْبَيْعِ هو الْمَالُ الْمَمْلُوكُ وَهَذَا ليس بِمَالٍ مَمْلُوكٍ
لِأَنَّ الْإِحْرَازَ بِالدَّارِ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ ولم يُوجَدْ فَإِنْ
بَاعَ رَجُلٌ شيئا رَدَّ الثَّمَنَ إلَى الْغَنِيمَةِ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ
مَالٍ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَانِمِينَ فَكَانَ مَرْدُودًا إلَى الْمَغْنَمِ
وَلَوْ أَحْرَزُوا شيئا من ذلك بِدَارِ الْإِسْلَامِ وهو في أَيْدِيهِمْ وَإِنْ
كانت لم تُقْسَمُ الْغَنَائِمُ رَدُّوهَا إلَى الْمَغْنَمِ لِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ
وَإِنْ كانت قد قُسِمَتْ الْغَنِيمَةُ فَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ تَصَدَّقُوا
بِهِ على الْفُقَرَاءِ وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ انْتَفَعُوا بِهِ لِتَعَذُّرِ
قِسْمَتِهِ على الْغُزَاةِ لِكَثْرَتِهِمْ وَقِلَّتِهِ فَأَشْبَهَ اللُّقَطَةَ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
هذا إذَا كانت قَائِمَةً بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَإِنْ كان انْتَفَعَ بها بَعْدَ
الْقِسْمَةِ فَإِنْ كان غَنِيًّا تَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ على الْفُقَرَاءِ
لِأَنَّهُ أَكَلَ مَالًا لو كان قَائِمًا لَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ
لِكَوْنِهِ مَالًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَانِمِينَ وَتَعَذَّرَ صَرْفُهُ
إلَيْهِمْ لِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِمْ فَيَقُومُ بَدَلُهُ مَقَامَهُ وهو قِيمَتُهُ
وَإِنْ كان فَقِيرًا لم يَجِبْ عليه شَيْءٌ لِأَنَّهُ أَكَلَ مَالًا لو كان
قَائِمًا لَكَانَ له أَنْ يَأْكُلَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا ما سِوَى الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْعَلَفِ وَالْحَطَبِ فَلَا
يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَفِعُوا بِهِ لِأَنَّ حَقَّ الْغَانِمِينَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ
وفي الِانْتِفَاعِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ إلَّا أَنَّهُ إذَا احْتَاجَ إلَى اسْتِعْمَالِ
شَيْءٍ من السِّلَاحِ أو الدَّوَابِّ أو الثِّيَابِ فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ
بِأَنْ انْقَطَعَ سَيْفُهُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ سَيْفًا من الْغَنِيمَةِ
فَيُقَاتِلَ بِهِ لَكِنَّهُ إذَا اسْتَغْنَى عنه رَدَّهُ إلَى الْمَغْنَمِ
وَكَذَا إذَا احْتَاجَ إلَى رُكُوبِ فَرَسٍ أو لُبْسِ ثَوْبٍ إذَا دَفَعَ
حَاجَتَهُ بِذَلِكَ رَدَّهُ إلَى الْمَغْنَمِ لِأَنَّ هذا مَوْضِعُ الضَّرُورَةِ
أَيْضًا لَكِنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ لَا يَتَعَدَّى مَحَلَّ الضَّرُورَةِ
حتى إنَّهُ لو أَرَادَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ شيئا من ذلك وِقَايَةً لِسِلَاحِهِ
وَدَوَابِّهِ وَثِيَابِهِ وَصِيَانَةً لها فَلَا يَنْبَغِي له ذلك لِانْعِدَامِ
تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ
وَهَكَذَا إذَا ذَبَحُوا الْبَقَرَ أو الْغَنَمَ وَأَكَلُوا اللَّحْمَ وَرَدُّوا
الْجُلُودَ إلَى الْمَغْنَمِ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ ليس من الْحَاجَاتِ
اللَّازِمَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ من يَنْتَفِعُ بِالْغَنَائِمِ فَنَقُولُ إنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ
بها إلَّا الْغَانِمُونَ فَلَا يَجُوزُ لِلتُّجَّارِ أَنْ يَأْكُلُوا شيئا من
الْغَنِيمَةِ إلَّا بِثَمَنٍ لِأَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِ حَقِّ كل وَاحِدٍ من
الْغَانِمِينَ في حَقِّ صَاحِبِهِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ
اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ في حَقِّ غَيْرِهِمْ
وَلِلْغَانِمِينَ أَنْ يَأْكُلُوا وَيُطْعِمُوا عَبِيدَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ
وَصِبْيَانَهُمْ لِأَنَّ إنْفَاقَ الرَّجُلِ على هَؤُلَاءِ إنْفَاقٌ على نَفْسِهِ
لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ عليه
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ من عليه نَفَقَتُهُ فَلَهُ أَنْ يُطْعِمَهُ وَمَنْ لَا
فَلَا وَلَا يَجُوزُ لِأَجِيرِ الرَّجُلِ لِلْخِدْمَةِ أَنْ يَأْكُلَ منه لِأَنَّ
نَفَقَتَهُ على نَفْسِهِ لَا عليه
وَلِلْمَرْأَةِ إذَا دَخَلَتْ دَارَ الْحَرْبِ لِمُدَاوَاةِ الْمَرْضَى
وَالْجَرْحَى أَنْ تَأْكُلَ وَتَعْلِفَ دَابَّتَهَا وَتُطْعِمَ رَقِيقَهَا لِأَنَّ
الْمَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ الرَّضْخَ من الْغَنِيمَةِ فَكَانَتْ من الْغَانِمِينَ
وَاَللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَبَيَانُ مَصَارِفِهَا
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْغَنَائِمُ تُقْسَمُ على خَمْسَةِ أَسْهُمٍ
منها وهو خُمْسُ الْغَنِيمَةِ لِأَرْبَابِهِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا
لِلْغَانِمِينَ
أَمَّا الْخُمْسُ فَالْكَلَامُ فيه في بَيَانِ كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْخُمْسِ
وفي بَيَانِ مَصْرِفِهِ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّ خُمْسَ الْغَنِيمَةِ في
حَالِ حَيَاةِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان يُقْسَمُ على خَمْسَةِ
أَسْهُمٍ سَهْمٌ لِلنَّبِيِّ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَسَهْمٌ لِذَوِي
الْقُرْبَى وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٌ لِأَبْنَاءِ
السَّبِيلِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ من شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } وَإِضَافَةُ الْخُمْسِ إلَى اللَّهِ
تَعَالَى يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ مَصْرُوفًا إلَى وُجُوهِ الْقُرَبِ
التي هِيَ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } الْآيَةَ على ما تُضَافُ الْمَسَاجِدُ
وَالْكَعْبَةُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِكَوْنِهَا مَوَاضِعَ
إقَامَةِ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ التي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَعْظِيمًا لِلْخُمْسِ على ما هو ( ( ( بينا ) ) )
الأصل ( ( ( والأصل ) ) ) في إضَافَةِ جُزْئِيَّةِ الْأَشْيَاءِ إلَى اللَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنها تَخْرُجُ مَخْرَجَ تَعْظِيمِ الْمُضَافِ كَقَوْلِهِ
نَاقَةُ اللَّهِ وَبَيْتُ اللَّهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِخُلُوصِهِ لِلَّهِ
تَعَالَى بِخُرُوجِهِ عن تَصَرُّفِ الْغَانِمِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { الْمُلْكُ
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } وَالْمُلْكُ في كل الْأَيَّامِ كُلِّهَا لِلَّهِ تَعَالَى
لَكِنْ خَصَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك الْيَوْمَ بِالْمُلْكِ له
____________________
(7/124)
فيه
لِانْقِطَاعِ تَصَرُّفِ الْأَغْيَارِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في سَهْمِ رسول اللَّهِ وفي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى
بَعْدَ وَفَاتِهِ
أَمَّا سَهْمُ رسول اللَّهِ فَقَدْ قال عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ إنَّهُ
سَقَطَ بَعْدَ وَفَاتِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّهُ لم يَسْقُطْ وَيُصْرَفُ إلَى
الْخُلَفَاءِ لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا كان يَأْخُذُهُ
كِفَايَةً له لِاشْتِغَالِهِ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ
مَشْغُولُونَ بِذَلِكَ فَيُصْرَفُ سَهْمُهُ إلَيْهِمْ كِفَايَةً لهم
وَلَنَا أَنَّ ذلك الْخُمْسَ كان خُصُوصِيَّةً له عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
كَالصَّفِيِّ الذي كان له خَاصَّةً وَالْفَيْءُ وهو الْمَالِيَّةُ الذي لم يُوجِفْ
عليه الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ثُمَّ لم يَكُنْ لِأَحَدٍ خُصُوصٌ من
الْفَيْءِ وَالصَّفِيِّ فَكَذَا يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدٍ خُصُوصٌ من
الْخُمْسِ وَلِهَذَا لم يَكُنْ لِلْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ
يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لو بَقِيَ بَعْدَهُ لَكَانَ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ وقد قال عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ ما تَرَكْنَا
صَدَقَةٌ
وَأَمَّا سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى فَقَدْ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
إنَّهُ بَاقٍ وَيُصْرَفُ إلَى أَوْلَادِ بَنِي هَاشِمٍ من أَوْلَادِ سَيِّدَتِنَا
فَاطِمَةَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنها وَغَيْرِهَا يَسْتَوِي فيه فَقِيرُهُمْ
وَغَنِيُّهُمْ
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَعَلَى الْوَجْهِ الذي كان بَقِيَ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ
فيه أَنَّهُ كَيْفَ كان وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كان لِفُقَرَاءِ الْقَرَابَةِ دُونَ
أَغْنِيَائِهِمْ يُعْطَوْنَ لِفَقْرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ لَا لِقَرَابَتِهِمْ وقد
بَقِيَ كَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يعطي فُقَرَاءُ قَرَابَتِهِ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كِفَايَتَهُمْ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ وَيُقَدَّمُونَ على
غَيْرِهِمْ من الْفُقَرَاءِ وَيُجَاوَزُ لهم من الْخُمْسِ أَيْضًا لِمَا لاحظ لهم
من الصَّدَقَاتِ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يعطي غَيْرُهُمْ من فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ
دُونَهُمْ فَيُقَسَّمُ الْخُمْسُ عِنْدَنَا على ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ سَهْمٌ
لِلْيَتَامَى وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٌ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَيَدْخُلُ
فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى فِيهِمْ وَيُقَدَّمُونَ وَلَا يُدْفَعُ إلَى
أَغْنِيَائِهِمْ شَيْءٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِذَوِي
الْقُرْبَى سَهْمٌ على حِدَةٍ يُصْرَفُ إلَى غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ من شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبَى } الْآيَةَ فإن اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ سَهْمًا لِذَوِي الْقُرْبَى
وَهُمْ الْقَرَابَةُ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ وَكَذَا رُوِيَ
أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَمَ الْخُمْسَ على خَمْسَةِ أَسْهُمٍ
وَأَعْطَى سَهْمًا منها لِذَوِي الْقُرْبَى ولم يُعْرَفْ له نَاسِخٌ في حَالِ
حَيَاتِهِ وَلَا نَسْخَ بَعْدَ وَفَاتِهِ
وَلَنَا ما رَوَاهُ محمد بن الْحَسَنِ في كِتَابِ السِّيَرِ أَنَّ سَيِّدَنَا
أَبَا بَكْرٍ وَسَيِّدَنَا عُمَرَ وَسَيِّدَنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدَنَا عَلِيًّا
رضي اللَّهُ عَنْهُمْ قَسَمُوا الْغَنَائِمَ على ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ سَهْمٌ
لِلْيَتَامَى وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٌ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ بِمَحْضَرٍ
من الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ ولم يُنْكِرْ عليهم أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا منهم
على ذلك وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنْ ليس الْمُرَادُ من ذَوِي الْقُرْبَى قَرَابَةَ
الرَّسُولِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذْ لَا يُظَنُّ بِهِمْ مُخَالَفَةُ
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُخَالَفَةُ رَسُولِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
في فِعْلِهِ وَمَنْعُ الْحَقِّ عن الْمُسْتَحِقِّ وَكَذَا لَا يُظَنُّ بِمَنْ
حَضَرَهُمْ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ السُّكُوتُ عَمَّا لَا
يَحِلُّ مع ما وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عن الْمُنْكَرِ
وَكَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ يَدُلُّ عليه لِأَنَّ اسْمَ ذَوِي
الْقُرْبَى يَتَنَاوَلُ عُمُومَ الْقَرَابَاتِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } ولم يُفْهَمْ
منه قَرَابَةُ الرَّسُولِ خَاصَّةً
وَكَذَا قَوْلُهُ { الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } لم
يَنْصَرِفْ إلَى قَرَابَةِ رسول اللَّهِ وما رُوِيَ أَنَّهُ قَسَمَ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْخُمْسَ على خَمْسَةِ أَسْهُمٍ فَأَعْطَى عليه السلام
ذَا الْقُرْبَى سَهْمًا فَنَعَمْ لَكِنَّ الْكَلَامَ في أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ
خَاصَّةً وَكَذَا قَوْلُهُ { الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } ولم
يَنْصَرِفْ إلَى قَرَابَةِ الرَّسُولِ لِفَقْرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ أو
لِقَرَابَتِهِمْ وقد عَلِمْنَا بِقِسْمَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رضي اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ لِحَاجَتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ لَا
لِقَرَابَتِهِمْ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان يُشَدِّدُ في أَمْرِ
الْغَنَائِمِ فَتَنَاوَلَ من وَبَرِ بَعِيرٍ وقال ما يَحِلُّ لي من غَنَائِمِكُمْ
وَلَا وَزْنُ هذه الْوَبَرَةِ إلَّا الْخُمْسُ وهو مَرْدُودٌ فِيكُمْ رُدُّوا
الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ فإن الْغَلُولَ عَارٌ وَنَارٌ وَشَنَارٌ على صَاحِبِهِ
يوم الْقِيَامَةِ لم يَخُصَّ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْقَرَابَةَ بِشَيْءٍ
من الْخُمْسِ بَلْ عَمَّ الْمُسْلِمِينَ جميعا بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَالْخُمْسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ فَدَلَّ أَنَّ سَبِيلَهُمْ سَبِيلُ سَائِرِ
فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ يعطي من يَحْتَاجُ منهم كِفَايَتَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ أعطى أَيُّ فَرِيقٍ اتَّفَقَ مِمَّنْ سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى جَازَ
لِأَنَّ ذِكْرَ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ لِبَيَانِ الْمَصَارِفِ لَا لِإِيجَابِ
الصَّرْفِ إلَى كل صِنْفٍ منهم شيئا بَلْ لِتَعْيِينِ الْمَصْرِفِ حتى لَا يَجُوزُ
الصَّرْفُ إلَى غَيْرِ هَؤُلَاءِ
____________________
(7/125)
كما
في الصَّدَقَاتِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْكَلَامُ في الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ فَفِي مَوْضِعَيْنِ في بَيَانِ
من يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ منها وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ وفي بَيَانِ مِقْدَارِ
الِاسْتِحْقَاقِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَاَلَّذِي يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ منها هو الرَّجُلُ
الْمُسْلِمُ الْمُقَاتِلُ وهو أَنْ يَكُونَ من أَهْلِ الْقِتَالِ وَدَخَلَ دَارَ
الْحَرْبِ على قَصْدِ الْقِتَالِ وَسَوَاءٌ قَاتَلَ أو لم يُقَاتِلْ لِأَنَّ
الْجِهَادَ وَالْقِتَالَ إرْهَابُ الْعَدُوِّ وَذَا كما يَحْصُلُ بِمُبَاشَرَةِ
الْقَتْلِ يَحْصُلُ بِثَبَاتِ الْقَدَمِ في صَفِّ الْقِتَالِ رَدًّا
لِلْمُقَاتَلَةِ خَشْيَةَ كَرِّ الْعَدُوِّ عليهم
وَكَذَا رُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ بَدْرٍ كَانُوا أثلاثا ( ( ( ثلاثا ) ) ) ثُلُثٌ
في نَحْرِ الْعَدُوِّ يقتلون ( ( ( ويقتلون ) ) ) وَيَأْسِرُونَ وَثُلُثٌ
يَجْمَعُونَ الْغَنَائِمَ وَثُلُثٌ يَكُونُونَ ردءا ( ( ( ردا ) ) ) لهم خَشْيَةَ
كَرِّ الْعَدُوِّ عليهم وَسَوَاءٌ كان مَرِيضًا أو صَحِيحًا شَابًّا أو شَيْخًا
حُرًّا أو عَبْدًا مَأْذُونًا بِالْقِتَالِ لِأَنَّهُمْ من أَهْلِ الْقِتَالِ
فَأَمَّا الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ الْعَاقِلُ وَالذِّمِّيُّ وَالْعَبْدُ
الْمَحْجُورُ فَلَيْسَ لهم سَهْمٌ كَامِلٌ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا من أَهْلِ
الْقِتَالِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِتَالُ على الصَّبِيِّ وَالذِّمِّيِّ أَصْلًا
وَلَا يَجِبُ على الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَهِيَ
ضَرُورَةُ عُمُومِ النَّفِيرِ وَلِذَلِكَ لم يَسْتَحِقُّوا كَمَالَ السَّهْمِ
وَلَكِنْ يُرْضَخُ لهم على حَسَبِ ما يَرَى الْإِمَامُ
وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان لَا يُعْطِي الْعَبِيدَ
وَالصِّبْيَانَ وَالنِّسْوَانَ سَهْمًا كَامِلًا من الْغَنَائِمِ
وَكَذَا لَا سَهْمَ لِلتَّاجِرِ لِأَنَّهُ لم يَدْخُلْ الدَّارَ على قَصْدِ
الْقِتَالِ إلَّا إذَا قَاتَلَ مع الْعَسْكَرِ فإنه يَسْتَحِقُّ ما يَسْتَحِقُّهُ
الْعَسْكَرُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ دخل الدَّارَ على قَصْدِ الْقِتَالِ
فَكَانَ مُقَاتِلًا وَلَا سَهْمَ لِلْأَجِيرِ لِانْعِدَامِ الدُّخُولِ على قَصْدِ
الْقِتَالِ فَإِنْ قَاتَلَ نُظِرَ في ذلك إنْ تَرَكَ الْخِدْمَةَ فَقَدْ دخل في
جُمْلَةِ الْعَسْكَرِ وَإِنْ لم يَتْرُكْ فَلَا شَيْءَ له أَصْلًا لِأَنَّهُ إذَا
لم يَتْرُكْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَدْخُلْ على قَصْدِ الْقِتَالِ وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الِاسْتِحْقَاقِ وَبَيَانُ حَالِ الْمُسْتَحِقِّ وهو
الْمُقَاتِلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْمُقَاتِلُ إمَّا أَنْ
يَكُونَ رَاجِلًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَارِسًا فَإِنْ كان رَاجِلًا فَلَهُ
سَهْمٌ وَاحِدٌ وَإِنْ كان فَارِسًا فَلَهُ سَهْمَانِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي
اللَّهُ عنه وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ له ثَلَاثَةُ
أَسْهُمٍ سَهْمٌ له وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ
وَرِوَايَاتُ الْأَخْبَارِ تَعَارَضَتْ في الْبَابِ رُوِيَ في بَعْضِهَا أَنَّهُ
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَمَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وفي بَعْضِهَا
أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَمَ له ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ
إلَّا أَنَّ رِوَايَةَ السَّهْمَيْنِ عَاضَدَهَا الْقِيَاسُ وهو أَنَّ الرَّجُلَ
أَصْلٌ في الْجِهَادِ وَالْفَرَسُ تَابِعٌ له لِأَنَّهُ آلَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّ
فِعْلَ الْجِهَادِ يَقُومُ بِالرَّجُلِ وَحْدَهُ وَلَا يَقُومُ بِالْفَرَسِ
وَحْدَهُ فَكَانَ الْفَرَسُ تَابِعًا في بَابِ الْجِهَادِ وَلَا يَجُوزُ تَنْفِيلُ
التَّبَعِ على الْأَصْلِ في السَّهْمِ وَأَخْبَارُ الْآحَادِ إذَا تَعَارَضَتْ
فَالْعَمَلُ بِمَا عَاضَدَهُ الْقِيَاسُ أَوْلَى
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَيَسْتَوِي فيه الْعَتِيقُ من الْخَيْلِ وَالْفَرَسِ وَالْبِرْذَوْنِ لِأَنَّهُ
لَا فَضْلَ في النُّصُوصِ بين فَارِسٍ وَفَارِسٍ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ سَهْمِ
الْفَرَسِ لِحُصُولِ إرْهَابِ الْعَدُوِّ بِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَصَفَ جِنْسَ الْخَيْلِ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَمِنْ
رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } فَلَا يَفْصِلُ
بين نَوْعٍ وَنَوْعٍ وَلَا يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ من فَرَسٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُسْهَمُ
لِفَرَسَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْغَازِيَ تَقَعُ الْحَاجَةُ له
إلَى فَرَسَيْنِ يَرْكَبُ أَحَدَهُمَا وَيُجَنِّبُ الْآخَرَ حتى إذَا أعيى ( ( (
أعيا ) ) ) الْمَرْكُوبُ عن الْكَرِّ وَالْفَرِّ تَحَوَّلَ إلَى الْجَنِيبَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْإِسْهَامَ لِلْخَيْلِ في الْأَصْلِ ثَبَتَ على
مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْخَيْلَ آلَةُ الْجِهَادِ ثُمَّ لَا يُسْهَمُ
لِسَائِرِ آلَاتِ الْجِهَادِ فَكَذَا الْخَيْلُ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهِ
كَفَرَسٍ وَاحِدٍ فَالزِّيَادَةُ على ذلك تُرَدُّ إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ على
أَنَّ وُرُودَ الشَّرْعِ إنْ كان مَعْلُولًا بِكَوْنِهِ آلَةً مُرْهِبَةً
لِلْعَدُوِّ بِخِلَافِ سَائِرِ الْآلَاتِ فَالْمُعْتَبَرُ هو أَصْلُ الْإِرْهَابِ
بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لِمَا زَادَ على فَرَسَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ مع
أَنَّ مَعْنَى الْإِرْهَابِ يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الْفَرَسِ
ثُمَّ اُخْتُلِفَ في حَالِ الْمُقَاتِلِ من كَوْنِهِ فَارِسًا أو رَاجِلًا في
أَيِّ وَقْتٍ يُعْتَبَرُ وَقْتُ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ أَمْ وَقْتُ شُهُودِ
الْوَقْعَةِ فَعِنْدَنَا يُعْتَبَرُ وَقْتُ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ إذَا
دَخَلَهَا على قَصْدِ الْقِتَالِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
يُعْتَبَرُ وَقْتُ شُهُودِ الْوَقْعَةِ
حتى إنَّ الْغَازِيَ إذَا دخل دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَمَاتَ فَرَسُهُ أو
نَفَرَ أو أَخَذَهُ الْعَدُوُّ فَلَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ
له سَهْمُ الرَّجَّالَةِ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال
الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْغَنِيمَةِ
بِالْجِهَادِ ولم يُوجَدْ وَقْتَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ الْجِهَادَ
بِالْمُقَاتَلَةِ وَدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ من بَابِ قَطْعِ الْمَسَافَةِ لَا من
بَابِ الْمُقَاتَلَةِ
وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَ الْغَنَائِمَ لِلْمُجَاهِدِينَ
قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا }
وقال تَعَالَى عز شَأْنُهُ { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ من شَيْءٍ } وقال
جَلَّتْ عَظَمَتُهُ
____________________
(7/126)
وَكِبْرِيَاؤُهُ
{ وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } وقال سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى { وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أنها لَكُمْ }
وَغَيْرُ ذلك من النُّصُوصِ وَاَلَّذِي جَاوَزَ الدَّرْبَ فَارِسًا على قَصْدِ
الْقِتَالِ مُجَاهِدٌ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُجَاوَزَةَ على هذا
الْوَجْهِ إرْهَابُ الْعَدُوِّ وَأَنَّهُ جِهَادٌ وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ
إرْهَابُ الْعَدُوِّ وَأَنَّهُ جِهَادٌ قَوْلُهُ عز وجل { وَمِنْ رِبَاطِ
الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } وَلِأَنَّ دَارَ
الْحَرْبِ لَا تَخْلُو عن عُيُونِ الْكُفَّارِ وَطَلَائِعِهِمْ فإذا دَخَلَهَا
جَيْشٌ كَثِيفٌ رِجَالًا وَرُكْبَانًا فَالْجَوَاسِيسُ يُخْبِرُونَهُمْ بِذَلِكَ فَيَقَعُ
الرُّعْبُ في قُلُوبِهِمْ حتى يَتْرُكُوا الْقُرَى وَالرَّسَاتِيقَ هرابا ( ( (
هربا ) ) ) إلَى الْقِلَاعِ وَالْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ فَكَانَ مُجَاوَزَةُ
الدَّرْبِ على قَصْدِ الْقِتَالِ إرْهَابَ الْعَدُوِّ وَأَنَّهُ جِهَادٌ
وَالثَّانِي أَنَّ فيه غَيْظَ الْكَفَرَةِ وَكَبْتَهُمْ لِأَنَّ وَطْءَ أَرْضِهِمْ
وَعُقْرَ دَارِهِمْ مِمَّا يَغِيظُهُمْ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلَا يطؤون ( ( ( يطئون ) ) ) مَوْطِئًا
يَغِيظُ الْكُفَّارَ } وَفِيهِ قَهْرُهُمْ وما الْجِهَادُ إلَّا قَهْرُ أَعْدَاءِ
اللَّهِ تَعَالَى لِإِعْزَازِ دِينِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ فَدَلَّ أَنَّ
مُجَاوَزَةَ الدَّرْبِ فَارِسًا على قَصْدِ الْقِتَالِ جِهَادٌ وَمَنْ جَاهَدَ
فَارِسًا فَلَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ وَمَنْ جَاهَدَ رَاجِلًا فَلَهُ سَهْمُ
الرَّجَّالَةِ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ
وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ
وَأَمَّا أَمْرُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قال ذلك
في وَقْعَةٍ خَاصَّةٍ بِأَنْ وَقَعَ الْقِتَالُ في دَارِ الْإِسْلَامِ أو في
أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا ثُمَّ لَحِقَ الْمَدَدُ أو يُحْمَلُ على هذا
تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ صِيَانَةً لها عن التَّنَاقُضِ
وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ إنَّ الْمَدَدَ لَا يُشَارِكُونَهُمْ في الْغَنِيمَةِ في
تِلْكَ الْوَقْعَةِ إلَّا إذَا شَهِدُوهَا وَلَا كَلَامَ فيه
وَعَلَى هذا إذَا دخل رَاجِلًا ثُمَّ اشْتَرَى فَرَسًا أو اسْتَأْجَرَ أو
اسْتَعَارَ أو وُهِبَ له فَلَهُ سَهْمُ الرِّجَالِ عِنْدَنَا لِاعْتِبَارِ وَقْتِ
الدُّخُولِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ له سَهْمُ الْفُرْسَانِ لِاعْتِبَارِ وَقْتِ الشُّهُودِ
وقال الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ في هذه الصُّورَةِ إذَا قَاتَلَ فَارِسًا فَلَهُ
سَهْمُ فَارِسٍ وَعَلَى هذا إذَا دخل فَارِسًا ثُمَّ بَاعَ فَرَسَهُ أو آجَرَهُ أو
وَهَبَهُ أو أَعَارَهُ فَقَاتَلَ وهو رَاجِلٌ فَلَهُ سَهْمُ رَاجِلٍ
ذَكَرَهُ في السِّيَرِ الْكَبِيرِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ له سَهْمَ فَارِسٍ
وَسَوَّى على هذه الرِّوَايَةِ بين الْبَيْعِ وَالْمَوْتِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ قبل
شُهُودِ الْوَقْعَةِ وَبَعْدَهَا
وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْمُجَاوَزَةَ فَارِسًا على
قَصْدِ الْقِتَالِ دَلِيلُ الْجِهَادِ فَارِسًا وَلَمَّا بَاعَ فَرَسَهُ تَبَيَّنَ
أَنَّهُ لم يَقْصِدْ بِهِ الْجِهَادَ فَارِسًا بَلْ قَصَدَ بِهِ التِّجَارَةَ
وَكَذَا هذا في الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالرَّهْنِ بِخِلَافِ ما بَعْدَ
شُهُودِ الْوَقْعَةِ لِأَنَّ الْبَيْعَ بَعْدَهُ لَا يَدُلُّ على قَصْدِ
التِّجَارَةِ لِأَنَّ الْغَازِيَ لَا يَبِيعُ فَرَسَهُ ذلك الْوَقْتَ لِقَصْدِ
التِّجَارَةِ عَادَةً بَلْ لِقَصْدِ ثَبَاتِ الْقَدَمِ وَالتَّشَمُّرِ لِلْقِتَالِ
بِعَامَّةِ ما في وُسْعِهِ وَإِمْكَانِهِ
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الِاسْتِيلَاءِ من الْكَفَرَةِ على أَمْوَالِ
الْمُسْلِمِينَ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ أَصْلِ
الْحُكْمِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّ الْكُفَّارَ إذَا دَخَلُوا
دَارَ الْإِسْلَامِ وَاسْتَوْلَوْا على أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ولم يُحْرِزُوهَا
بِدَارِهِمْ أنهم لَا يَمْلِكُونَهَا حتى لو ظَهَرَ عليهم الْمُسْلِمُونَ
وَأَخَذُوا ما في أَيْدِيهِمْ لَا يَصِيرُ مِلْكًا لهم وَعَلَيْهِمْ رَدُّهَا إلَى
أَرْبَابِهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ
وَكَذَا لو قَسَمُوهَا في دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرَ عليهم الْمُسْلِمُونَ
فَأَخَذُوهَا من أَيْدِيهِمْ أَخَذَهَا أَصْحَابُهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّ
قِسْمَتَهُمْ لم تَجُزْ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَكَانَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ
بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ قِسْمَةِ الْإِمَامِ الْغَنَائِمَ في دَارِ
الْحَرْبِ أنها جَائِزَةٌ وَإِنْ لم يَثْبُتْ الْمِلْكُ فيها في دَارِ الْحَرْبِ
لِأَنَّ قِسْمَةَ الْإِمَامِ إنَّمَا تَجُوزُ عِنْدَنَا إذَا اجْتَهَدَ وَأَفْضَى
رَأْيُهُ إلَى الْمِلْكِ حتى لو قَسَمَ مُجَازَفَةً لَا تَجُوزُ على أَنَّ
الْقِسْمَةَ هُنَاكَ قَضَاءٌ صَدَرَ من إمَامٍ جَائِزِ الْقَضَاءِ ولم يُوجَدْ
ههنا وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُمْ أَيْضًا إذَا اسْتَوْلَوْا على رِقَابِ
الْمُسْلِمِينَ وَمُدَبِّرِيهِمْ وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِمْ وَمُكَاتَبِيهِمْ
أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهُمْ وَإِنْ أَحْرَزُوهُمْ بِالدَّارِ
وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ فَاسْتَوْلَوْا على
أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِ الْحَرْبِ
قال عُلَمَاؤُنَا يَمْلِكُونَهَا حتى لو كان الْمُسْتَوْلَى عليه عَبْدًا
فَأَعْتَقَهُ الْحَرْبِيُّ أو بَاعَهُ أو كَاتَبَهُ أو دَبَّرَهُ أو كانت أَمَةً
فَاسْتَوْلَدَهَا جَازَ ذلك خَاصَّةً
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَمْلِكُونَهَا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا على مَالٍ مَعْصُومٍ وَالِاسْتِيلَاءُ على
مَالٍ مَعْصُومٍ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِ على مَالِ
الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِيلَائِهِمْ على الرِّقَابِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذلك لِأَنَّ
عِصْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ ثَابِتَةٌ في حَقِّهِمْ لِأَنَّهُمْ يُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ
إذَا بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ وَإِنْ اخْتَلَفَا في الْعِبَادَاتِ
وَالِاسْتِيلَاءُ يَكُونُ مَحْظُورًا وَالْمَحْظُورُ
____________________
(7/127)
لَا
يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ
وَلَنَا أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا على مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ وَمَنْ
اسْتَوْلَى على مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ يَمْلِكُهُ كَمَنْ اسْتَوْلَى على
الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالصَّيْدِ وَدَلَالَةُ أَنَّ هذا الِاسْتِيلَاءَ على
مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ إن مِلْكَ الْمَالِكِ يَزُولُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ
بِدَارِ الْحَرْبِ فَتَزُولُ الْعِصْمَةُ ضَرُورَةً بِزَوَالِ الْمِلْكِ
وَالدَّلِيلُ على زَوَالِ الْمِلْكِ أَنَّ الْمِلْكَ هو الِاخْتِصَاصُ
بِالْمَحَلِّ في حَقِّ التَّصَرُّفِ أو شُرِعَ لِلتَّمَكُّنِ من التَّصَرُّفِ في
الْمَحَلِّ وقد زَالَ ذلك بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا
يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الدُّخُولِ وَلَا يُمْكِنُهُ
الدُّخُولُ بِنَفْسِهِ لِمَا فيه من مُخَاطَرَةِ الرُّوحِ وَإِلْقَاءِ النَّفْسِ
في التَّهْلُكَةِ وَغَيْرُهُ قد لَا يُوَافِقُهُ
وَلَوْ وَافَقَهُ فَقَدْ لَا يَظْفَرُ بِهِ وَلَوْ ظَفَرَ بِهِ قَلَّمَا
يُمْكِنُهُمْ الِاسْتِرْدَادُ لِأَنَّ الدَّارَ دَارُهُمْ وَأَهْلُ الدَّارِ
يَذُبُّونَ عن دَارِهِمْ فإذا زَالَ مَعْنَى الْمِلْكِ أو ما شُرِعَ له الْمِلْكُ
يَزُولُ الْمِلْكُ ضَرُورَةً
وَكَذَلِكَ لو اسْتَوْلَوْا على عَبِيدِنَا فَهُوَ على هذا الِاخْتِلَافِ لِأَنَّ
الْعَبْدَ مَالٌ قَابِلٌ لِلتَّمْلِيكِ بِالِاسْتِيلَاءِ وَلِهَذَا يَحْتَمِلُ
التَّمَلُّكَ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الْأَحْرَارِ
وَالْمُدَبَّرَيْنِ وَالْمُكَاتَبِينَ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَهَذَا إذَا دَخَلُوا
دَارَ الْإِسْلَامِ فَاسْتَوْلَوْا على عَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوهُمْ
بِدَارِ الْحَرْبِ
فَأَمَّا إذَا أَبَقَ عَبْدٌ أو أَمَةٌ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَأَخَذَهُ
الْكُفَّارُ لَا يَمْلِكُونَهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
يَمْلِكُونَهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا على مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ
فَيَمْلِكُونَهُ قِيَاسًا على الدَّابَّةِ التي نَدَّتْ من دَارِ الْإِسْلَامِ
إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَأَخَذَهَا الْكُفَّارُ وَسَائِرَ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ
التي اسْتَوْلَوْا عليها
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا على مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ
أَنَّهُ كما دخل دَارَ الْحَرْبِ فَقَدْ زَالَ مِلْكُ الْمَالِكِ لِمَا ذَكَرْنَا
في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَزَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمَالِيَّةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الرِّقِّ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ لم يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَلَا
يُفِيدُ الْمِلْكَ قِيَاسًا على الِاسْتِيلَاءِ على الْأَحْرَارِ
وَالْمُدَبَّرَيْنِ وَالْمُكَاتَبِينَ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَدَلَالَةُ
أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ لم يُصَادِفْ مَحَلَّهُ أَنَّ مَحَلَّ الِاسْتِيلَاءِ هو
الْمَالُ ولم يُوجَدْ لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ في هذا الْمَحَلِّ إنَّمَا ثَبَتَتْ
ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْغَانِمِينَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فيه هو
الْحُرِّيَّةُ وَكَمَا دخل دَارَ الْحَرْبِ فَقَدْ زَالَ الْمِلْكُ كما ذَكَرْنَا
في الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَتَزُولُ الْمَالِيَّةُ الثَّابِتَةُ
ضَرُورَةَ ثُبُوتِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزُولَ الرِّقُّ أَيْضًا إلَّا
أَنَّهُ بَقِيَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ على مَوْرِدِ النَّصِّ
بِخِلَافِ الدَّابَّةِ لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ فيها لَا تَثْبُتُ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ
الْمِلْكِ لِأَنَّهَا مَالٌ وَالْأَمْوَالُ كُلُّهَا مَحَلٌّ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ
وَبِخِلَافِ الْآبِقِ الْمُتَرَدِّدِ في دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ
حَقِيقَةً صَادَفَهُ وهو مَالٌ مَمْلُوكٌ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ
الْمِلْكُ لِلْحَالِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ إلَّا أَنَّهُ تَأَخَّرَ إلَى وَقْتِ
الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ لِمَانِعٍ وهو مِلْكُ الْمَالِكِ فإذا أَحْرَزُوهُ
بِدَارِهِمْ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ لِزَوَالِ الْمِلْكِ فَيَعْمَلُ
الِاسْتِيلَاءُ السَّابِقُ وَعَمَلُهُ في إثْبَاتِ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ لَا
يَثْبُتُ إلَّا في الْمَالِ فَبَقِيَتْ الْمَالِيَّةُ ضَرُورَةَ الْمَرْءِ هنا
لِاسْتِيلَاءِ حَالَ كَوْنِهِ مَالًا أَصْلًا وبعدما وُجِدَ الِاسْتِيلَاءُ لَا
مَالِيَّةَ لِزَوَالِ الْمِلْكِ فلم يُصَادِفْ الِاسْتِيلَاءُ مَحَلَّهُ فَلَا
يُفِيدُ الْمِلْكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْحُكْمِ فَنَقُولُ مِلْكُ الْمُسْلِمِ يَزُولُ عن
مَالِهِ بِاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ عليه وَيَثْبُتُ لهم عِنْدَنَا على وَجْهٍ له
حَقُّ الْإِعَادَةِ إمَّا بِعِوَضٍ أو بِغَيْرِ عِوَضٍ حتى لو ظَهَرَ عليهم
الْمُسْلِمُونَ فَأَخَذُوهَا وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ وَجَدَهُ
الْمَالِكُ الْقَدِيمُ قبل الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ سَوَاءٌ كان من
ذَوَاتِ الْقِيَمِ أو من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ
فَإِنْ كان من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ لَا يَأْخُذُهُ لِأَنَّهُ لو أَخَذَهُ
لَأَخَذَهُ بمثله فَلَا يُفِيدُ وَإِنْ لم يَكُنْ من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ يَأْخُذُهُ
بِقِيمَتِهِ إنْ شَاءَ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْقِيمَةِ مُرَاعَاةَ الْجَانِبَيْنِ
جَانِبِ الْمِلْكِ الْقَدِيمِ بِإِيصَالِهِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ الْخَاصِّ
الْمَأْخُوذِ منه بِغَيْرِ عِوَضٍ وَجَانِبِ الْغَانِمِينَ بِصِيَانَةِ مِلْكِهِمْ
الْخَاصِّ عن الزَّوَالِ من غَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ الْأَخْذُ بِالْقِيمَةِ نَظَرًا
لِلْجَانِبَيْنِ وَمُرَاعَاةَ الْحَقَّيْنِ بِخِلَافِ ما إذَا وَجَدَهُ قبل
الْقِسْمَةِ أنه يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْغَانِمِينَ
قبل الْقِسْمَةِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ ليس إلَّا الْحَقُّ الْمُتَأَكَّدُ أو
الْمِلْكُ الْعَامُّ فَكَانَتْ الْإِعَادَةُ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ رِعَايَةً
لِلْمِلْكِ الْخَاصِّ أَوْلَى
وقد رُوِيَ أَنَّ بَعِيرًا لِرَجُلٍ من الْمُسْلِمِينَ اسْتَوْلَى عليه أَهْلُ
الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ عليهم الْمُسْلِمُونَ فَوَجَدَهُ صَاحِبُهُ في الْمَغْنَمِ
فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ عنه فقال إنْ وَجَدْتَهُ قبل الْقِسْمَةِ فَهُوَ لك
بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدْتَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لك بِالْقِيمَةِ
وَكَذَلِكَ لو كان الْحَرْبِيُّ بَاعَ الْمَأْخُوذَ من الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ
ظَهَرَ عليه الْمُسْلِمُونَ فإن الْمَالِكَ الْقَدِيمَ يَأْخُذُهُ قبل الْقِسْمَةِ
بِغَيْرِ شَيْءٍ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ لِأَنَّهُ بَاعَهُ مُسْتَحَقُّ
الْإِعَادَةِ إلَى قَدِيمِ
____________________
(7/128)
الْمِلْكِ
فَبَقِيَ كَذَلِكَ
وَلَوْ كان الْمُسْتَوْلَى عليه مُدَبَّرًا أو مُكَاتَبًا أو أُمَّ وَلَدٍ ثُمَّ
ظَهَرَ عليه الْمُسْلِمُونَ فَأَخْرَجُوهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَخَذَهُ
الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِغَيْرِ شَيْءٍ قبل الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا لِأَنَّهُ
حُرٌّ من وَجْهٍ وَالْحُرُّ من وَجْهٍ أو من كل وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ
التَّمَلُّكَ بِالِاسْتِيلَاءِ وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُهُ بِسَائِرِ أَسْبَابِ
الْمِلْكِ فإذا حَصَلُوا في أَيْدِي الْغَانِمِينَ وَجَبَ رَدُّهُمْ إلَى
الْمَالِكِ الْقَدِيمِ
وَلَوْ وَهَبَ الْحَرْبِيُّ ما مَلَكَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ لِرَجُلٍ من
الْمُسْلِمِينَ أَخَذَهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ لِأَنَّ
فيه نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ على ما بَيَّنَّا
وَكَذَلِكَ لو بَاعَهُ من مُسْلِمٍ بِعِوَضٍ فَاسِدٍ بِأَنْ بَاعَ من مُسْلِمٍ
عَبْدَ الْمُسْلِمِ بِخَمْرٍ أو خِنْزِيرٍ أَخَذَهُ صَاحِبُهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ
لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لم تَصِحَّ فَكَانَ هذا بَيْعًا
فَاسِدًا وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ مَضْمُونٌ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ فَصَارَ
كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِقِيمَتِهِ وَلَوْ لم يَكُنْ الْعِوَضُ فَاسِدًا أَخَذَهُ
بِالثَّمَنِ الذي اشْتَرَاهُ بِهِ إنْ شَاءَ إنْ كان اشْتَرَاهُ بِخِلَافِ
جِنْسِهِ لِأَنَّ الْأَخْذَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ مُفِيدٌ
وَكَذَلِكَ لو كان اشْتَرَاهُ بِجِنْسِهِ لَكِنْ بِأَقَلَّ منه فإنه يَأْخُذُهُ
بِمِثْلِ ما اشْتَرَاهُ وَلَا يَكُونُ هذا رِبًا لِأَنَّ الرِّبَا فَضْلُ مَالٍ
قُصِدَ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْبَيْعِ من غَيْرِ عِوَضٍ يُقَابِلُهُ وَالْمَالِكُ
الْقَدِيمُ لَا يَأْخُذُهُ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ بَلْ بِطَرِيقِ الْإِعَادَةِ إلَى
قَدِيمِ مِلْكِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا وَإِنْ كان اشْتَرَاهُ بِجِنْسِهِ
بمثله قَدْرًا لَا يَأْخُذُهُ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ
وَلَوْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ من الْعَدُوِّ ثُمَّ بَاعَهُ من رَجُلٍ آخَرَ ثُمَّ
حَضَرَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ أَخَذَهُ من الثَّانِي بِالثَّمَنِ الثَّانِي
وَلَيْسَ له أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ الثَّانِيَ وَيَأْخُذَ بِالثَّمَنِ
الْأَوَّلِ من الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في النَّوَادِرِ أَنَّ الْمَالِكَ
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَأَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ
وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الثَّانِي
وَجْهُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ أَخْذَ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ تَمَلُّكٌ
بِبَدَلٍ فَأَشْبَهَ حَقَّ الشُّفْعَةِ ثُمَّ حَقُّ الشَّفِيعِ مُقَدَّمٌ على
حَقِّ الْمُشْتَرِي فَكَذَا حَقُّهُ وَالْجَامِعُ أَنَّ حَقَّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
سَابِقٌ على حَقِّ الْمُشْتَرِي وَالسَّبْقُ من أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ في
الْمَحَلِّ بِوَجْهٍ بَلْ هو زَائِلٌ من كل وَجْهٍ وَإِنَّمَا الثَّابِتُ له حَقُّ
الْإِعَادَةِ وأنه ليس بمعني في الْمَحَلِّ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ
فَلَا يَمْلِكُ نَقْضَهُ بِخِلَافِ حَقِّ الشُّفْعَةِ فإن الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ
نَقْضَ الْمَشْفُوعِ فَيَقْتَضِي الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِتَمْلِيكِ الْبَائِعِ
منه على ما عُرِفَ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ إذَا عَلِمَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِشِرَاءِ الْمَأْسُورِ
وَتَرَكَ الطَّلَبَ زَمَانًا لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ لِأَنَّ هذا الْأَخْذَ ليس في
مَعْنَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِيُشْتَرَطَ له الطَّلَبُ على سَبِيلِ
الْمُوَاثَبَةِ
وَعَلَى قِيَاسِ ما رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَبْطُلُ كما يَبْطُلُ
حَقُّ الشُّفْعَةِ بِتَرْكِ الطَّلَبِ على الْمُوَاثَبَةِ وَكَذَلِكَ هذا الْحَقُّ
يُورَثُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حتى لو مَاتَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ كان
لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَأْخُذُوهُ وَعَلَى قِيَاسِ ما رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ لَا يُورَثُ كما لَا يُورَثُ حَقُّ الشُّفْعَةِ
وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ هذا الْأَخْذَ ليس ابْتِدَاءَ
تَمَلُّكٍ بَلْ هو إعَادَةٌ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الْأَخْذِ
بِالشُّفْعَةِ وَحَقُّ الْإِعَادَةِ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ مِمَّا يَحْتَمِلُ
الْإِرْثَ كَحَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَلَيْسَ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ أَنْ
يَأْخُذُوا ذلك دُونَ الْبَعْضِ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِلْكُلِّ فَلَا
يَنْفَرِدُ بِهِ الْبَعْضُ
وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْسُورَ رَجُلٌ فَأَدْخَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ
اشْتَرَاهُ الْعَدُوُّ ثَانِيًا فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ آخَرُ فَأَدْخَلَهُ دَارَ
الْإِسْلَامِ فَالْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ أَحَقُّ من الْمَالِكِ الْقَدِيمِ
وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهُ من الْمُشْتَرِي الثَّانِي
لِأَنَّهُ لَمَّا أُسِرَ من يَدِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ نَزَلَ الْمُشْتَرِي
الْأَوَّلُ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ فَكَانَ حَقُّ الْأَخْذِ له لَكِنْ
إذَا أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ فَلِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهُ
بِالثَّمَنَيْنِ إنْ شَاءَ أو يَدَعَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي
الْأَوَّلُ بِالثَّمَنِ فَقَدْ قام عليه بِالثَّمَنَيْنِ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ
بهذا الْقَدْرِ من الْمَالِ ولم يُوجَدْ الْأَسْرُ أَصْلًا
وَلَوْ أَعْتَقَ الْحَرْبِيُّ الْعَبْدَ الْمَأْسُورَ في دَارِ الْحَرْبِ أو
دَبَّرَهُ أو كَاتَبَهُ أو كانت أَمَةٌ فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ ظَهَرَ
الْمُسْلِمُونَ عليها فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ وَعَتَقَتْ هِيَ وَأَوْلَادُهَا
وَكَذَا الْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ
أَمَّا إذَا أَعْتَقَهُ فَلِأَنَّ يَدَهُ زَالَتْ عنه وهو مُسْلِمٌ فَحَصَلَ في
يَدِ نَفْسِهِ فَعَتَقَ عليه كَالْعَبْدِ الْحَرْبِيِّ إذَا خَرَجَ إلَيْنَا
مُسْلِمًا وَالِاسْتِيلَادُ فَرْعُ النَّسَبِ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ في دَارِ
الْحَرْبِ وَقَهْرُ الْحَرْبِيِّ كَمَوْتِهِ وَإِنْ مَاتَ عَتَقَتْ أُمُّ وَلَدِهِ
كما إذَا غَلَبَ عليه وَعِتْقُ الْمُدَبَّرِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَالْمُكَاتَبُ
صَارَ في يَدِ نَفْسِهِ لِزَوَالِ يَدِ الْمَوْلَى عنه وهو مُسْلِمٌ فَيَعْتِقُ
وَلِأَنَّهُ إذَا قُهِرَ الْمَوْلَى سَقَطَ عنه بَدَلُ الْكِتَابَةِ فَعَتَقَ
لِزَوَالِ رِقِّهِ وَلَوْ كان الْمَأْسُورُ حُرًّا فَاشْتَرَاهُ مُسْلِمٌ
وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا شَيْءَ لِلْمُشْتَرِي على الْحُرِّ
لِأَنَّهُ ما اشْتَرَاهُ حَقِيقَةً إذْ الْحُرُّ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ
لَكِنَّهُ بَذَلَ مَالًا لِاسْتِخْلَاصِ الْأَسِيرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَانَ
مُتَطَوِّعًا فيه فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عليه وَإِنْ أَمَرَهُ الحربي ( ( (
الحر ) ) ) بِذَلِكَ فَفَعَلَهُ بِأَمْرِهِ رَجَعَ
____________________
(7/129)
عليه
لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَكَأَنَّهُ اسْتَقْرَضَ منه هذا الْقَدْرَ من
الْمَالِ فَأَقْرَضَهُ إيَّاهُ ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى فُلَانٍ
فَفَعَلَ فَيَرْجِعُ عليه بِحُكْمِ الِاسْتِقْرَاضِ
وَلَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ الْحَرْبِ وَمَتَاعُ الْمُسْلِمِينَ الذي أَحْرَزُوهُ في
أَيْدِيهِمْ فَهُوَ لهم وَلَا حَقَّ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ فيه لِأَنَّهُ مَالٌ
أَسْلَمُوا عليه وَمَنْ أَسْلَمَ على مَالٍ فَهُوَ له على لِسَانِ رسول اللَّهِ
هذا الذي ذَكَرنَا حُكْمُ اسْتِيلَاءِ الْكَافِرِ فَأَمَّا حُكْمُ الشِّرَاءِ
فَنَقُولُ الْحَرْبِيُّ إذَا خَرَجَ إلَيْنَا فَاشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا ثَبَتَ
الْمِلْكُ له فيه عِنْدَنَا لَكِنَّهُ يُجْبَرُ على الْبَيْعِ وَكَذَلِكَ لو
خَرَجَ إلَيْنَا بِعَبْدِهِ فَأَسْلَمَ في يَدِهِ يُجْبَرُ على الْبَيْعِ وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ شِرَاءُ الْكَافِرِ الْعَبْدَ
الْمُسْلِمَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْبُيُوعِ فَإِنْ لم يَبِعْهُ حتى دخل
دَارَ الْحَرْبِ بِهِ عَتَقَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
وَعِنْدَهُمَا لَا يَعْتِقُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ لِإِحْرَازِ الْكَافِرِ مَالَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ
أَثَرًا في زَوَالِ الْعِصْمَةِ لَا في زَوَالِ الْمِلْكِ فإن مَالَ الْكَافِرِ
مَمْلُوكٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الثَّابِتَ لِلْحَرْبِيِّ
بِالشِّرَاءِ مِلْكٌ مَجْبُورٌ على إزَالَتِهِ فَلَوْ لم يَعْتِقْ بأدخاله دَارَ
الْحَرْبِ لم يَبْقَ الْمِلْكُ الثَّابِتُ له شَرْعًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ
لِتَعَذُّرِ الْجَبْرِ بِالْإِحْرَازِ بِوَجْهٍ فَيُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ
الْمَشْرُوعِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
ثُمَّ طَرِيقُ الزَّوَالِ هو الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ وَإِنْ كان هو في الْأَصْلِ
شَرْطَ زَوَالِ الْمِلْكِ وَالْعِصْمَةِ في اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ لِتَعَذُّرِ
تَحْصِيلِ الْعِلَّةِ فَأُقِيمَ الشَّرْطُ مَقَامَهُ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ
من إقَامَةِ الشَّرْطِ مَقَامَ الْعِلَّةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ
بِالْعِلَّةِ
وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا ذِمِّيًّا فَهُوَ على هذا الِاخْتِلَافِ أَيْضًا لِأَنَّ
الْحَرْبِيَّ مَجْبُورٌ على بَيْعِ الذِّمِّيِّ أَيْضًا وَلَا يُتْرَكُ لِيَدْخُلَ
دَارَ الْحَرْبِ
وَلَوْ أَسْلَمَ عَبْدٌ لِحَرْبِيٍّ في دَارِ الْحَرْبِ لَا يَعْتِقُ وهو عَبْدٌ
على حَالِهِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كان وَاجِبَ الْإِزَالَةِ
لَكِنْ لَا طَرِيقَ لِلزَّوَالِ ههنا فَبَقِيَ على حَالِهِ وَلَوْ خَرَجَ هذا
الْعَبْدُ إلَيْنَا فَإِنْ خَرَجَ مُرَاغِمًا لِمَوْلَاهُ وَلَحِقَ بِعَسْكَرِ
الْمُسْلِمِينَ عَتَقَ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ قَهْرٍ وَغَلَبَةٍ وقد
قَهَرَ مَوْلَاهُ بِخُرُوجِهِ مُرَاغِمًا إيَّاهُ فَصَارَ مُسْتَوْلِيًا على
نَفْسِهِ مُسْتَغْنِمًا إياه ( ( ( إياها ) ) ) فَيَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ عنه
وقد رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال في آباق الطَّائِفِ
هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَوْ خَرَجَ غير مُرَاغَمٍ
فَإِنْ خَرَجَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لِلتِّجَارَةِ فَهُوَ عَبْدٌ لِمَوْلَاهُ
لَكِنْ يَبِيعُهُ الْإِمَامُ وَيَقِفُ ثَمَنَهُ لِمَوْلَاهُ أَمَّا كَوْنُهُ
عَبْدًا لِمَوْلَاهُ فَلِأَنَّهُ لم يَخْرُجْ قَاهِرًا مُسْتَوْلِيًا وَلِأَنَّهُ
مِلْكٌ مُسْتَحَقُّ الزَّوَالِ بِالْإِسْلَامِ
وَأَمَّا وَقْفُ ثَمَنِهِ لِمَوْلَاهُ فَلِأَنَّهُ بَاعَهُ على مِلْكِهِ
وَكَذَا لو لم يَخْرُجْ مُرَاغِمًا وَلَكِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ على الدَّارِ
يُعْتَقُ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ فَقَدْ بَقِيَ عليه مِلْكٌ
مُسْتَحَقُّ الزَّوَالِ مُحْتَاجٌ إلَى طَرِيقِ الزَّوَالِ وقد وُجِدَ وهوإحراز
نَفْسِهِ بمنعة الْمُسْلِمِينَ وأنه أَسْبَقُ من إحْرَازِ الْمُسْلِمِينَ إيَّاهُ
بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِيَمْلِكُوهُ فَكَانَ أَوْلَى وَلَوْ لم يَخْرُجْ ولم
يَظْهَرْ على الدَّارِ وَلَكِنْ بَاعَهُ الْحَرْبِيُّ من مُسْلِمٍ أو حَرْبِيٍّ
عَتَقَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ قَبِلَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ أو لم يَقْبَلْ
وَعِنْدَهُمَا لَا يُعْتَقُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ كما زَالَ مِلْكُ الْبَائِعِ عنه فَقَدْ ثَبَتَ مِلْكُ
الْمُشْتَرِي فيه فَلَا يُعْتَقُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه ما ذَكَرْنَا أَنَّ هذا
مِلْكٌ مُسْتَحَقُّ الزَّوَالِ مَوْقُوفٌ زَوَالُهُ على سَبَبِ الزَّوَالِ أو
شَرْطِ الزَّوَالِ على ما بَيَّنَّا فإذا عَرَضَهُ على الْبَيْعِ وَالْبَيْعُ
سَبَبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ فَقَدْ رضي بِزَوَالِهِ إلَى غَيْرِهِ فَكَانَ
بِزَوَالِهِ إلَيْهِ أَرْضَى لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ الزَّوَالَ وَغَيْرُهُ ما
اسْتَحَقَّهُ وَالرِّضَا بِالزَّوَالِ شَرْطُ الزَّوَالِ
وَلَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ في دَارِ الْحَرْبِ وَلَهُ رَقِيقٌ فيها فَخَرَجَ هو
إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ تَبِعَهُ عَبْدُهُ بَعْدَ ذلك كَافِرًا كان أو
مُسْلِمًا فَهُوَ عَبْدٌ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّ خُرُوجَهُ إلَى مَوْلَاهُ
كَخُرُوجِهِ مع مَوْلَاهُ وَلَوْ كان خَرَجَ مع مَوْلَاهُ لَكَانَ عَبْدًا
لِمَوْلَاهُ
كَذَا هذا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ الْأَحْكَامِ التي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ
فَنَقُولُ لَا بُدَّ أَوَّلًا من مَعْرِفَةِ مَعْنَى الدَّارَيْنِ دَارِ
الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْكُفْرِ لِتُعْرَفَ الْأَحْكَامُ التي تَخْتَلِفُ
بِاخْتِلَافِهِمَا وَمَعْرِفَةُ ذلك مَبْنِيَّةٌ على مَعْرِفَةِ ما بِهِ تَصِيرُ
الدَّارُ دَارَ إسْلَامٍ أو دَارَ كُفْرٍ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا
في أَنَّ دَارَ الْكُفْرِ تَصِيرُ دَارَ إسْلَامٍ بِظُهُورِ أَحْكَامِ
الْإِسْلَامِ فيها
وَاخْتَلَفُوا في دَارِ الْإِسْلَامِ أنها بِمَاذَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ قال
أبو حَنِيفَةَ إنَّهَا لَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ إلَّا بِثَلَاثِ شَرَائِطَ
أَحَدُهَا ظُهُورُ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فيها
وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً لِدَارِ الْكُفْرِ
وَالثَّالِثُ أَنْ لَا يَبْقَى فيها مُسْلِمٌ وَلَا ذِمِّيٌّ آمِنًا بِالْأَمَانِ
الْأَوَّلِ وهو أَمَانُ الْمُسْلِمِينَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ إنَّهَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فيها
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَنَا دَارُ الْإِسْلَامِ وَدَارُ الْكُفْرِ
إضَافَةُ دَارٍ إلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَى الْكُفْرِ وَإِنَّمَا تُضَافُ الدَّارُ
إلَى الْإِسْلَامِ أو إلَى الْكُفْرِ
____________________
(7/130)
لِظُهُورِ
الْإِسْلَامِ أو الْكُفْرِ فيها كما تُسَمَّى الْجَنَّةُ دَارَ السَّلَامِ
وَالنَّارُ دَارَ الْبَوَارِ لِوُجُودِ السَّلَامَةِ في الْجَنَّةِ وَالْبَوَارِ
في النَّارِ وَظُهُورُ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ بِظُهُورِ أَحْكَامِهِمَا فإذا
ظَهَرَ أَحْكَامُ الْكُفْرِ في دَارٍ فَقَدْ صَارَتْ دَارَ كُفْرٍ فَصَحَّتْ
الْإِضَافَةُ وَلِهَذَا صَارَتْ الدَّارُ دَارَ الْإِسْلَامِ بِظُهُورِ أَحْكَامِ
الْإِسْلَامِ فيها من غَيْرِ شَرِيطَةٍ أُخْرَى فَكَذَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ
بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فيها وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ من إضَافَةِ
الدَّارِ إلَى الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ ليس هو عَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ
وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هو الْأَمْنُ وَالْخَوْفُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَمَانَ
إنْ كان لِلْمُسْلِمِينَ فيها على الْإِطْلَاقِ وَالْخَوْفُ لِلْكَفَرَةِ على الْإِطْلَاقِ
فَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كان الْأَمَانُ فيها لِلْكَفَرَةِ على
الْإِطْلَاقِ وَالْخَوْفُ لِلْمُسْلِمِينَ على الْإِطْلَاقِ فَهِيَ دَارُ
الْكُفْرِ وَالْأَحْكَامُ مَبْنِيَّةٌ على الْأَمَانِ وَالْخَوْفِ لَا على
الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ فَكَانَ اعْتِبَارُ الْأَمَانِ وَالْخَوْفِ أَوْلَى فما
لم تَقَعْ الْحَاجَةُ لِلْمُسْلِمِينَ إلَى الِاسْتِئْمَانِ بَقِيَ إلا من
الثَّابِتُ فيها على الْإِطْلَاقِ فَلَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ
وَكَذَا إلا من الثَّابِتُ على الْإِطْلَاقِ لَا يَزُولُ إلَّا بِالْمُتَاخَمَةِ
لِدَارِ الْحَرْبِ فَتَوَقَّفَ صَيْرُورَتُهَا دَارَ الْحَرْبِ على وُجُودِهِمَا
مع ما إن إضَافَةَ الدَّارِ إلَى الْإِسْلَامِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِمَا
قُلْتُمْ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِمَا قُلْنَا وهو ثُبُوتُ الْأَمْنِ فيها على
الْإِطْلَاقِ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْكَفَرَةِ بِعَارِضِ
الذِّمَّةِ وَالِاسْتِئْمَانِ
فَإِنْ كانت الْإِضَافَةُ لِمَا قُلْتُمْ تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ بِمَا قُلْتُمْ
وَإِنْ كانت الْإِضَافَةُ لِمَا قُلْنَا لَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ إلَّا بِمَا
قُلْنَا فَلَا تَصِيرُ ما بِهِ دَارُ الْإِسْلَامِ بِيَقِينٍ دَارَ الْكُفْرِ
بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ إن الثَّابِتَ بِيَقِينٍ
لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ بِخِلَافِ دَارِ الْكُفْرِ حَيْثُ تَصِيرُ
دَارَ الْإِسْلَامِ لِظُهُورِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فيها لِأَنَّ هُنَاكَ
التَّرْجِيحَ لِجَانِبِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى فَزَالَ الشَّكُّ على أَنَّ الْإِضَافَةَ إنْ
كانت بِاعْتِبَارِ ظُهُورِ الْأَحْكَامِ لَكِنْ لَا تَظْهَرُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ
إلَّا عِنْدَ وُجُودِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ أَعْنِي الْمُتَاخَمَةَ وَزَوَالَ
الْأَمَانِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا لَا تَظْهَرُ إلَّا بِالْمَنَعَةِ وَلَا
مَنَعَةَ إلَّا بِهِمَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَقِيَاسُ هذا الِاخْتِلَافِ في أَرْضٍ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ظَهَرَ عليها
الْمُشْرِكُونَ وَأَظْهَرُوا فيها أَحْكَامَ الْكُفْرِ أو كان أَهْلُهَا أَهْلَ
ذِمَّةٍ فَنَقَضُوا الذِّمَّةَ وَأَظْهَرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ هل تَصِيرُ دَارَ
الْحَرْبِ فَهُوَ على ما ذَكَرْنَا من الِاخْتِلَافِ فإذا صَارَتْ دَارَ الْحَرْبِ
فَحُكْمُهَا إذَا ظَهَرْنَا عليها وَحُكْمُ سَائِرِ دُورِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ وقد
ذَكَرْنَاهُ
وَلَوْ فَتَحَهَا الْإِمَامُ ثُمَّ جاء أَرْبَابُهَا فَإِنْ كان قبل الْقِسْمَةِ
أَخَذُوا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ كان بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوا بِالْقِيمَةِ
إنْ شَاءُوا لِمَا ذَكَرْنَا من قَبْلُ وَعَادَ الْمَأْخُوذُ على حُكْمِهِ
الْأَوَّلِ الْخَرَاجِيُّ عَادَ خَرَاجِيًّا وَالْعُشْرِيُّ عَادَ عُشْرِيًّا
لِأَنَّ هذا ليس اسْتِحْدَاثَ الْمِلْكِ بَلْ هو عَوْدُ قَدِيمِ الْمِلْكِ إلَيْهِ
فَيَعُودُ بِوَظِيفَتِهِ إلَّا إذَا كان الْإِمَامُ وَضَعَ عليها الْخَرَاجَ قبل
ذلك فَلَا يَعُودُ عَشْرِيًّا لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْإِمَامِ صَدَرَ عن وِلَايَةٍ
شَرْعِيَّةٍ فَلَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْأَحْكَامُ التي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ
فَأَنْوَاعٌ منها أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا زَنَا في دَارِ الْحَرْبِ أو سَرَقَ أو
شَرِبَ الْخَمْرَ أو قَذَفَ مُسْلِمًا لَا يُؤْخَذُ بِشَيْءٍ من ذلك لِأَنَّ
الْإِمَامَ لَا يَقْدِرُ على إقَامَةِ الْحُدُودِ في دَارِ الْحَرْبِ لِعَدَمِ
الْوِلَايَةِ وَلَوْ فَعَلَ شيئا من ذلك ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَا
يُقَامُ عليه الْحَدُّ أَيْضًا لِأَنَّ الْفِعْلَ لم يَقَعْ مُوجِبًا أَصْلًا
وَلَوْ فَعَلَ في دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ هَرَبَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ يُؤْخَذُ
بِهِ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ مُوجِبًا لِلْإِقَامَةِ فَلَا يَسْقُطُ بِالْهَرَبِ
إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَ مُسْلِمًا لَا يُؤْخَذُ بِالْقِصَاصِ
وَإِنْ كان عَمْدًا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ إلَّا بِالْمَنَعَةِ إذْ
الْوَاحِدُ يُقَاوِمُ الْوَاحِدَ وَالْمَنَعَةُ مُنْعَدِمَةٌ وَلِأَنَّ كَوْنَهُ
في دَارِ الْحَرْبِ أَوْرَثَ شُبْهَةً في الْوُجُوبِ وَالْقِصَاصُ لَا يَجِبُ مع
الشُّبْهَةِ وَيَضْمَنُ الدِّيَةَ خَطَأً كان أو عَمْدًا وَتَكُونُ في مَالِهِ لَا
على الْعَاقِلَةِ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ على الْقَاتِلِ ابْتِدَاءً أو لِأَنَّ
الْقَتْلَ وُجِدَ منه وَلِهَذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ وَالْكَفَّارَةُ على الْقَاتِلِ
لَا على غَيْرِهِ
فَكَذَا الدِّيَةُ تَجِبُ عليه ابْتِدَاءً وهو الصَّحِيحُ
ثُمَّ الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ عنه بِطَرِيقِ التَّعَاوُنِ لِمَا يَصِلُ إلَيْهِ
بِحَيَاتِهِ من الْمَنَافِعِ من النُّصْرَةِ وَالْعِزِّ وَالشَّرَفِ بِكَثْرَةِ
الْعَشَائِرِ وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ لهم وَنَحْوِ ذلك وَهَذِهِ الْمَعَانِي
لَا تَحْصُلُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فَلَا تَتَحَمَّلُ عنه الْعَاقِلَةُ
وَكَذَلِكَ لو كان أَمِيرًا على سَرِيَّةٍ أو أَمِيرَ جَيْشٍ وَزَنَا رَجُلٌ منهم
أو سَرَقَ أو شَرِبَ الْخَمْرَ أو قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً أو عَمْدًا لم
يَأْخُذْهُ الْأَمِيرُ بِشَيْءٍ من ذلك لِأَنَّ الْإِمَامَ ما فُوِّضَ إلَيْهِ
إقَامَةُ
____________________
(7/131)
الْحُدُودِ
وَالْقِصَاصِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ على إقَامَتِهَا في دَارِ الْحَرْبِ
إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُهُ السَّرِقَةَ إنْ كان اسْتَهْلَكَهَا وَيُضَمِّنُهُ
الدِّيَةَ في بَابِ الْقَتْلِ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ على اسْتِيفَاءِ ضَمَانِ
الْمَالِ
وَلَوْ غَزَا الْخَلِيفَةُ أو أَمِيرٌ الشَّامَ فَفَعَلَ رَجُلٌ من الْعَسْكَرِ
شيئا من ذلك أَقَامَ عليه الْحَدَّ وَاقْتَصَّ منه في الْعَمْدِ وَضَمَّنَهُ
الدِّيَةَ في مَالِهِ في الْخَطَأِ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ إلَى الْإِمَامِ
وَتَمَكُّنُهُ الْإِقَامَةَ بما له من الْقُوَّةِ وَالشَّوْكَةِ بِاجْتِمَاعِ
الْجُيُوشِ وَانْقِيَادِهَا له فَكَانَ لِعَسْكَرِهِ حُكْمُ دَارِ الْإِسْلَامِ
وَلَوْ شَذَّ رَجُلٌ من الْعَسْكَرِ فَفَعَلَ شيئا من ذلك درىء ( ( ( درئ ) ) )
عنه الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ لِاقْتِصَارِ وِلَايَةِ الْإِمَامِ على الْمُعَسْكَرِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الْحَرْبِيُّ إذَا أَسْلَمَ في دَارِ الْحَرْبِ ولم
يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا أو خَطَأً لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ
عليه عِنْدَنَا على ما ذَكَرْنَا
وَهَذَا مَبْنِيٌّ على أَنَّ التَّقَوُّمَ عِنْدَنَا يَثْبُتُ بِدَارِ
الْإِسْلَامِ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ بِالْعِزَّةِ وَلَا عِزَّةَ إلَّا بِمَنَعَةِ
الْمُسْلِمِينَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّقَوُّمُ يَثْبُتُ
بِالْإِسْلَامِ وَعَلَى هذا إذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ في دَارِ الْحَرْبِ ولم
يَعْرِفْ أَنَّ عليه صَلَاةً وَلَا صِيَامًا ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ
فَلَيْسَ عليه قَضَاءُ ما مَضَى
وقال أبو يُوسُفَ استحسن أَنْ يَجِبَ عليه الْقَضَاءُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الصَّلَاةَ قد وَجَبَتْ عليه لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ
وهو الْوَقْتُ وَشَرْطُهُ وهو الْإِسْلَامُ وَالصَّلَاةُ الْوَاجِبَةُ إذَا
فَاتَتْ عن وَقْتِهَا تُقْضَى كَالذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ في دَارِ الْإِسْلَامِ
ولم يَعْرِفْ أَنَّ عليه ذلك حتى مَضَى عليه أَوْقَاتُ صَلَوَاتٍ ثُمَّ عَلِمَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ وُجُوبَ الشَّرَائِعِ يَعْتَمِدُ الْبُلُوغَ
وهو الْعِلْمُ بِالْوُجُوبِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ
بِالْإِجْمَاعِ إنْ اخْتَلَفَا في وُجُوبِ الْإِيمَانِ إلَّا أَنَّ حَقِيقَةَ
الْعِلْمِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بَلْ إمْكَانُ الْوُصُولِ إلَيْهِ كَافٍ وقد وُجِدَ
ذلك في دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهَا دَارُ الْعِلْمِ بِالشَّرَائِعِ ولم يُوجَدْ
في دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّهَا دَارُ الْجَهْلِ بها بِخِلَافِ وُجُوبِ الْإِيمَانِ
وَشُكْرِ النِّعَمِ وَحُرْمَةِ الْكُفْرِ وَالْكُفْرَانِ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ هذه
الْأَحْكَامَ لَا يَقِفُ وُجُوبُهَا على الشَّرْعِ بَلْ تَجِبُ بِمُجَرَّدِ
الْعَقْلِ عِنْدَنَا فإن أَبَا يُوسُفَ رَوَى عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
هذه الْعِبَارَةَ فقال كان أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه يقول لَا عُذْرَ
لِأَحَدٍ من الْخَلْقِ في جَهْلِهِ مَعْرِفَةَ خَالِقِهِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ على
جَمِيعِ الْخَلْقِ مَعْرِفَةُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَوْحِيدُهُ
لِمَا يَرَى من خَلْقِ السموات ( ( ( السماوات ) ) ) وَالْأَرْضِ وَخَلْقِ
نَفْسِهِ وَسَائِرِ ما خَلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
فَأَمَّا الْفَرَائِضُ فَمَنْ لم يَعْلَمْهَا ولم تَبْلُغْهُ فإن هذا لم تَقُمْ
عليه حُجَّةٌ حُكْمِيَّةٌ بِلَفْظِهِ
وَعَلَى هذا إذَا دخل مُسْلِمٌ أو ذِمِّيٌّ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَعَاقَدَ
حَرْبِيًّا عَقْدَ الرِّبَا أو غَيْرِهِ من الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ في حُكْمِ
الْإِسْلَامِ جَازَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَكَذَلِكَ لو كان أَسِيرًا في أَيْدِيهِمْ أو أَسْلَمَ في دَارِ الْحَرْبِ ولم
يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَعَاقَدَ حَرْبِيًّا
وقال أبو يُوسُفَ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ في دَارِ الْحَرْبِ إلَّا ما يَجُوزُ
له في دَارِ الْإِسْلَامِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا ثَابِتَةٌ في حَقِّ الْعَاقِدِينَ أَمَّا
في حَقِّ الْمُسْلِمِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا في حَقِّ الْحَرْبِيِّ فَلِأَنَّ
الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ وقال تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {
وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وقد نُهُوا عنه } وَلِهَذَا حَرُمَ مع الذِّمِّيِّ
وَالْحَرْبِيِّ الذي دخل دَارَنَا بِأَمَانٍ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أَخْذَ الرِّبَا في مَعْنَى إتْلَافِ الْمَالِ
وَإِتْلَافُ مَالِ الْحَرْبِيِّ مُبَاحٌ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ لِمَالِ
الْحَرْبِيِّ فَكَانَ الْمُسْلِمُ بِسَبِيلٍ من أَخْذِهِ إلَّا بِطَرِيقِ
الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ فإذا رضي بِهِ انْعَدَمَ مَعْنَى الْغَدْرِ بِخِلَافِ
الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمَا مَعْصُومَةٌ
على الْإِتْلَافِ
وَلَوْ عَاقَدَ هذا الْمُسْلِمُ الذي دخل بِأَمَانٍ مُسْلِمًا أَسْلَمَ هُنَاكَ
ولم يُهَاجِرْ إلَيْنَا جَازَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ
وَلَوْ كَانَا أَسِيرَيْنِ أو دَخَلَا بِأَمَانٍ لِلتِّجَارَةِ فَتَعَاقَدَا
عَقْدَ الرِّبَا أو غَيْرِهِ من الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ لَا يَجُوزُ
بِالِاتِّفَاقِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أَخْذَ الرِّبَا من الْمُسْلِمِ إتْلَافُ مَالٍ
مَعْصُومٍ من غَيْرِ رِضَاهُ مَعْنًى لِأَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ عليه أَنْ تَطِيبَ
نَفْسُهُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم من زَادَ وَاسْتَزَادَ فَقَدْ
أَرْبَى وَالسَّاقِطُ شَرْعًا وَالْعَدَمُ حَقِيقَةً سَوَاءٌ فَأَشْبَهَ تَعَاقُدَ
الْأَسِيرَيْنِ وَالتَّاجِرَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ أَخْذَ الرِّبَا في مَعْنَى
إتْلَافِ الْمَالِ وَمَالُ الذي أَسْلَمَ في دَارِ الْحَرْبِ ولم يُهَاجِرْ إلَيْنَا
غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْإِتْلَافِ يَدُلُّ عليه أَنَّ نَفْسَهُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ
بِالْقِصَاصِ وَلَا بِالدِّيَةِ عِنْدَنَا وَحُرْمَةُ الْمَالِ تَابِعَةٌ
لِحُرْمَةِ النَّفْسِ بِخِلَافِ التَّاجِرَيْنِ وَالْأَسِيرَيْنِ فإن مَالَهُمَا
مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ
وَعَلَى هذا إذَا دخل مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَأَدَانَهُ حَرْبِيٌّ
أو أَدَانَ حَرْبِيًّا ثُمَّ خَرَجَ الْمُسْلِمُ وَخَرَجَ الْحَرْبِيُّ
مُسْتَأْمَنًا فإن الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا على صَاحِبِهِ
بِالدَّيْنِ
وَكَذَلِكَ لو غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شيئا لَا يقضى بِالْغَصْبِ لِأَنَّ
الْمُدَايَنَةَ في دَارِ الْحَرْبِ وَقَعَتْ هَدَرًا
____________________
(7/132)
لِانْعِدَامِ
وِلَايَتِنَا عليهم وَانْعِدَامِ وِلَايَتِهِمْ أَيْضًا في حَقِّنَا وَكَذَا
غَصْبُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَادَفَ مَالًا غَيْرُ مَضْمُونٍ فلم يَنْعَقِدْ
سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ
وَكَذَلِكَ لو كانا حَرْبِيَّيْنِ دَايَنَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ثُمَّ خَرَجَا
مُسْتَأْمَنَيْنِ
وَلَوْ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ لقضى بِالدَّيْنِ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ وَلَا
يُقْضَى بِالْغَصْبِ لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمَ لو كان هو
الْغَاصِبَ يفتي بِأَنْ يَرُدّ عليهم وَلَا يُقْضَى عليه لِأَنَّهُ صَارَ غَادِرًا
بِهِمْ نَاقِضًا عَهْدَهُمْ فَتَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ وَلَا تَتَحَقَّقُ
التَّوْبَةُ إلَّا بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ
وَعَلَى هذا مُسْلِمَانِ دَخَلَا دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ بِأَنْ كَانَا
تَاجِرَيْنِ مَثَلًا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَمْدًا لَا قِصَاصَ على
الْقَاتِلِ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ كان خَطَأً فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ في مَالِهِ
وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُمَا من أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا دَخَلَا
دَارَ الْحَرْبِ لِعَارِضِ أَمْرٍ إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ
أو لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ على ما بَيَّنَّا
وَلَوْ كَانَا أَسِيرَيْنِ أو كان الْمَقْتُولُ أَسِيرًا مُسْلِمًا فَلَا شَيْءَ
على الْقَاتِلِ إلَّا الْكَفَّارَةُ في الْخَطَأِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي
اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا عليه الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَسِيرَيْنِ من أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ
كَالْمُسْتَأْمَنِينَ وَإِنَّمَا الْأَسْرُ أَمْرٌ عَارِضٌ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ
رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الْأَسِيرَ مَقْهُورٌ في يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَصَارَ
تَابِعًا لهم فَبَطَلَ تَقَوُّمُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا الْحَرْبِيُّ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ الْحَرْبِيَّ في دَارِ الْحَرْبِ
لَا يَنْفُذُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْفُذُ وَقِيلَ
لَا خِلَافَ في الْعِتْقِ أَنَّهُ يَنْفُذُ إنَّمَا الْخِلَافُ في الْوَلَاءِ
أَنَّهُ هل يَثْبُتُ منه
عِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ رُكْنَ الْإِعْتَاقِ صَدَرَ من أَهْلِ الْإِعْتَاقِ في
مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لِلْمُعْتَقِ فَيَصِحُّ كما لو أَعْتَقَ في دَارِ الْإِسْلَامِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ في دَارِ الْحَرْبِ لَا يُفِيدُ زَوَالَ
الْمِلْكِ لِأَنَّ الْمِلْكَ في دَارِ الْحَرْبِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ
حَقِيقَةٌ فَكُلُّ مَقْهُورٍ مَمْلُوكٌ وَكُلُّ قَاهِرٍ مَالِكٌ
هذا دِيَانَتُهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ سِوَى الْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ
حتى إنَّ الْعَبْدَ منهم إذَا قَهَرَ مَوْلَاهُ يَصِيرُ هو مَالِكًا وَمَوْلَاهُ
مَمْلُوكًا وَهَذَا لَا يُفِيدُهُ الْإِعْتَاقُ في دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يُوجِبُ
زَوَالَ مِلْكِ الْمَالِكِ
هذا مَعْنَى قَوْلِ مَشَايِخِنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه مُعْتَقٌ
بِلِسَانِهِ مُسْتَرَقٌّ بيده
وَكَذَلِكَ لو اشْتَرَى قَرِيبًا لَا يُعْتَقُ عليه لِأَنَّهُ لَا يُعْتَقُ بِصَرِيحِ
الْإِعْتَاقِ فَكَيْفَ يُعْتَقُ بِالشِّرَاءِ وَكَذَلِكَ لو دَبَّرَهُ أو
كَاتَبَهُ في دَارِ الْحَرْبِ حتى لو دخل دَارَ الْإِسْلَامِ وَمَعَهُ مُدَبَّرٌ
أو مُكَاتَبٌ دَبَّرَهُ أو كَاتَبَهُ في دَارِ الْحَرْبِ جَازَ بَيْعُهُ لِأَنَّ
التَّدْبِيرَ إعْتَاقٌ مُضَافٌ إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْكِتَابَةُ تَعْلِيقُ
الْعِتْقِ بِشَرْطِ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ثُمَّ لم يَنْفُذْ إعْتَاقُهُ
الْمُنْجَزُ فَكَذَا الْمُعَلَّقُ وَالْمُضَافُ
وَلَوْ اسْتَوْلَدَ أَمَتَهُ في دَارِ الْحَرْبِ صَحَّ اسْتِيلَادُهُ إياه ( ( (
إياها ) ) ) حتى لو خَرَجَ إلَيْنَا بها إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَجُوزُ
بَيْعُهَا لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ اكْتِسَابُ ثَبَاتِ النَّسَبِ لِلْوَلَدِ
وَالْحَرْبِيُّ من أَهْلِ ذلك
أَلَا تَرَى أَنَّ أَنْسَابَ أَهْلِ الْحَرْبِ ثَابِتَةٌ وإذا ثَبَتَ النَّسَبُ
صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ له فَخَرَجَتْ عن مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ لِكَوْنِهَا
حُرَّةً من وَجْهٍ
قال صلى الله عليه وسلم أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا وَلَوْ دخل الْحَرْبِيُّ إلَيْنَا
بِأَمَانٍ فَفَعَلَ شيئا من ذلك نَفَذَ كُلُّهُ لِأَنَّهُ لَمَّا دخل بِأَمَانٍ
فَقَدْ لَزِمَهُ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ ما دَامَ في دَارِ الْإِسْلَامِ وَمِنْ
أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُعْتِقُ أَنْ يَسْتَرِقَّ بيده ما
أَعْتَقَهُ بِلِسَانِهِ
وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ في دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ
وَخَلَفَ الْمُدَبَّرَ أو خَلَفَ أُمَّ وَلَدِهِ التي اسْتَوْلَدَهَا في دَارِ
الْإِسْلَامِ أو في دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ مَاتَ على كُفْرِهِ أو قُتِلَ أو أُسِرَ
يُحْكَمُ بِعِتْقِهِمَا
أَمَّا إذَا مَاتَ أو قُتِلَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَ يُعْتَقَانِ
بِمَوْتِ سَيِّدِهِمَا
وَالْمَقْتُولُ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ الْمُعْتَزِلَةِ
وَأَمَّا إذَا أُسِرَ فَلِأَنَّهُ صَارَ مَمْلُوكًا فلم يَبْقَ مَالِكًا ضَرُورَةً
وَأَمَّا مُكَاتَبُهُ الذي كَاتَبَهُ في دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَخَلَ هو إلَى
دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مُكَاتَبٌ على حَالِهِ وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ عليه
لِوَرَثَتِهِ إذَا مَاتَ
وَكَذَلِكَ الرُّهُونُ وَالْوَدَائِعُ وَالدُّيُونُ التي له على الناس وما كان
لِلنَّاسِ عليه فَهِيَ كُلُّهَا على حَالِهَا إذَا مَاتَ لِأَنَّهُ دخل دَارَ الْإِسْلَامِ
بِأَمَانٍ وَمَعَهُ هذه الْأَمْوَالُ فَكَانَ حُكْمُ الْأَمَانِ فيها بَاقِيًا
وَكَذَلِكَ لو ظَهَرَ على الدَّارِ فَظَهَرَ الْحَرْبِيُّ أو قُتِلَ ولم يَظْهَرْ
على الدَّارِ فَمِلْكُهُ على حَالِهِ يَعُودُ فَيَأْخُذُ أو يَجِيءُ وَرَثَتُهُ
فَيَأْخُذُونَهُ له
أَمَّا إذَا هَرَبَ ولم يُقْتَلْ ولم يُؤْسَرْ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا إذَا قُتِلَ ولم
يَظْهَرْ فَلِأَنَّ مَالَهُ صَارَ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ فَيَجِيئُونَ
فَيَأْخُذُونَهُ وَالْمُكَاتَبُ على حَالِهِ يُؤَدِّي إلَى وَرَثَتِهِ فَيُعْتَقُ
فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ وَأُسِرَ أو أُسِرَ ولم يَظْهَرْ أو ظَهَرَ وَقُتِلَ
يُعْتَقْ مُكَاتَبُهُ
أَمَّا إذَا ظَهَرَ وَأُسِرَ أو أُسِرَ ولم يَظْهَرْ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مِلْكٌ
بِالْأَسْرِ وَكَذَا إذَا ظَهَرَ وَقُتِلَ لِأَنَّ الْقَتْلَ بَعْدَ الظُّهُورِ
قَتْلٌ بَعْدَ الْأَسْرِ وَيَبْطُلُ ما كان له من الدَّيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّهُ بِالْأَسْرِ صَارَ مَمْلُوكًا فلم يَبْقَ مَالِكًا
____________________
(7/133)
فَسَقَطَتْ
دُيُونُهُ ضَرُورَةً وَلَا يَصِيرُ مَالِكًا لِلْأَسْرِ لِأَنَّ الدَّيْنَ في
الذِّمَّةِ وما في الذِّمَّةِ لَا يُعْمَلُ عليه الْأَسْرُ
وَكَذَلِكَ ما عليه من الدُّيُونِ يَسْقُطُ أَيْضًا لِأَنَّهُ لو بَقِيَ
لَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ فَلَا يَخْلُصُ السَّبْيُ لِلسَّابِي
وَأَمَّا وَدَائِعُهُ فَهِيَ في جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أنها تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُودَعِ
وَوَجْهُهُ أَنَّ يَدَهُ عن يَدِ الْغَانِمِينَ أَسْبَقُ وَالْمُبَاحُ مُبَاحٌ
لِمَنْ سَبَقَ على لِسَانِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ يَدَ الْمُودَعِ يَدُهُ تَقْدِيرًا فَكَانَ
الِاسْتِيلَاءُ عليه بِالْأَسْرِ اسْتِيلَاءً على ما في يَدِهِ تَقْدِيرًا وَلَا
يَخْتَصُّ بِهِ الْغَانِمُونَ لِأَنَّهُ مَالٌ لم يُؤْخَذْ على سَبِيلِ الْقَهْرِ
وَالْغَلَبَةِ حَقِيقَةً فَكَانَ فَيْئًا حَقِيقَةً لَا غَنِيمَةً فَيُوضَعُ
مَوْضِعَ الْفَيْءِ
وَأَمَّا الرَّهْنُ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ
وَالزِّيَادَةُ له وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُبَاعُ فَيَسْتَوْفِي
قَدْرَ دَيْنِهِ وَالزِّيَادَةُ في جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ
في بَيَانِ رُكْنِ الرِّدَّةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّةِ الرُّكْنِ وفي
بَيَانِ حُكْمِ الرِّدَّةِ
أَمَّا رُكْنُهَا فَهُوَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ على اللِّسَانِ بَعْدَ
وُجُودِ الْإِيمَانِ إذْ الرِّدَّةُ عِبَارَةٌ عن الرُّجُوعِ عن الْإِيمَانِ
فَالرُّجُوعُ عن الْإِيمَانِ يُسَمَّى رِدَّةً في عُرْفِ الشَّرْعِ
وَأَمَّا شَرَائِطُ صِحَّتِهَا فَأَنْوَاعٌ منها الْعَقْلُ فَلَا تَصِحُّ رِدَّةُ
الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ الْعَقْلَ من شَرَائِطِ
الْأَهْلِيَّةِ خُصُوصًا في الِاعْتِقَادَاتِ
وَلَوْ كان الرَّجُلُ مِمَّنْ يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَإِنْ ارْتَدَّ في حَالِ
جُنُونِهِ لم يَصِحَّ وَإِنْ ارْتَدَّ في حَالِ إفَاقَتِهِ صَحَّتْ لِوُجُودِ
دَلِيلِ الرُّجُوعِ في إحْدَى الْحَالَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى
وَكَذَلِكَ السَّكْرَانُ الذَّاهِبُ الْعَقْلِ لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ
اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ تَصِحَّ في حَقِّ الْأَحْكَامِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْأَحْكَامَ مَبْنِيَّةٌ على الْإِقْرَارِ بِظَاهِرِ
اللِّسَانِ لَا على ما في الْقَلْبِ إذْ هو أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عليه
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ أَحْكَامَ الْكُفْرِ مَبْنِيَّةٌ على الْكُفْرِ كما
أَنَّ أَحْكَامَ الْإِيمَانِ مَبْنِيَّةٌ على الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ
وَالْكُفْرُ يَرْجِعَانِ إلَى التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَإِنَّمَا
الْإِقْرَارُ دَلِيلٌ عَلَيْهِمَا وَإِقْرَارُ السَّكْرَانِ الذَّاهِبِ الْعَقْلِ
لَا يَصْلُحُ دَلَالَةً على التَّكْذِيبِ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ
وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَهَلْ هو شَرْطٌ اُخْتُلِفَ فيه
قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رضي اللَّهُ عنهما ليس بِشَرْطٍ فَتَصِحُّ رِدَّةُ
الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ شَرْطٌ حتى لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ عَقْلَ الصَّبِيِّ في التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ
الْمَحْضَةِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ وَلِهَذَا لم يَصِحَّ طَلَاقُهُ وَإِعْتَاقُهُ
وَتَبَرُّعَاتُهُ وَالرِّدَّةُ مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ فَأَمَّا الْإِيمَانُ فَيَقَعُ
محض ( ( ( محضا ) ) ) لِذَلِكَ صَحَّ إيمَانُهُ ولم تَصِحَّ رِدَّتُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ صَحَّ إيمَانُهُ فَتَصِحُّ رِدَّتُهُ
وَهَذَا لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِيمَانِ وَالرِّدَّةِ مَبْنِيَّةٌ على وُجُودِ
الْإِيمَانِ وَالرِّدَّةِ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ من
الْأَفْعَالِ الْحَقِيقِيَّةِ وَهُمَا أَفْعَالٌ خَارِجَةُ الْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ
أَفْعَالِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ وَالْإِقْرَارُ الصَّادِرُ عن عَقْلٍ دَلِيلُ
وُجُودِهِمَا وقد وُجِدَ ههنا إلَّا أَنَّهُمَا مع وُجُودِهِمَا منه حَقِيقَةً لَا
يُقْتَلُ وَلَكِنْ يُحْبَسُ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَالْقَتْلُ ليس من لَوَازِمِ الرِّدَّةِ عِنْدَنَا فإن الْمُرْتَدَّةَ لَا
تُقْتَلُ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وَالرِّدَّةُ مَوْجُودَةٌ
وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَتَصِحُّ رِدَّةُ الْمَرْأَةِ
عِنْدَنَا لَكِنَّهَا لَا تُقْتَلُ بَلْ تُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُقْتَلُ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ في
مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا الطَّوْعُ فَلَا تَصِحُّ رِدَّةُ الْمُكْرَهِ على الرِّدَّةِ
اسْتِحْسَانًا إذَا كان قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ وَالْقِيَاسُ أَنْ
تَصِحَّ في أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَسَنَذْكُرُ وَجْهَ الْقِيَاسِ
وَالِاسْتِحْسَانِ في كِتَابِ الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا حُكْمُ الرِّدَّةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ إنَّ
لِلرِّدَّةِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْمُرْتَدِّ
وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مِلْكِهِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى تَصَرُّفَاتِهِ
وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى وَلَدِهِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِهِ فَأَنْوَاعٌ منها إبَاحَةُ دَمِهِ إذَا كان
رَجُلًا حُرًّا كان أو عَبْدًا لِسُقُوطِ عِصْمَتِهِ بِالرِّدَّةِ
قال النبي من بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ وَكَذَا الْعَرَبُ لَمَّا ارْتَدَّتْ
بَعْدَ وَفَاةِ رسول اللَّهِ أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على
قَتْلِهِمْ
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَتَابَ وَيُعْرَضَ عليه الْإِسْلَامُ
لِاحْتِمَالِ أَنْ يُسْلِمَ لَكِنْ لَا يَجِبُ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قد بَلَغَتْهُ
فَإِنْ أَسْلَمَ فَمَرْحَبًا وَأَهْلًا بِالْإِسْلَامِ وَإِنْ أَبَى نَظَرَ
الْإِمَامُ في ذلك فَإِنْ طَمِعَ في تَوْبَتِهِ أو سَأَلَ هو التَّأْجِيلَ
أَجَّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَإِنْ لم يَطْمَعْ في تَوْبَتِهِ ولم يَسْأَلْ هو
التَّأْجِيلَ قَتَلَهُ من سَاعَتِهِ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قَدِمَ
عليه رَجُلٌ من جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فقال هل عندكم ( ( ( عندك ) ) ) من
مُغْرِيَةِ خَبَرٍ قال نعم رَجُلٌ كَفَرَ بِاَللَّهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ فقال
سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه مَاذَا
____________________
(7/134)
فَعَلْتُمْ
بِهِ قال قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ فقال سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ
عنه ههلا ( ( ( هلا ) ) ) طَيَّنْتُمْ عليه بَيْتًا ثَلَاثًا وَأَطْعَمْتُمُوهُ
كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيَرْجِعُ إلَى
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اللَّهُمَّ إنِّي لم أَحْضُرْ ولم آمُرْ ولم
أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي
وَهَكَذَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قال
يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ثَلَاثًا وتلى ( ( ( وتلا ) ) ) هذه الْآيَةَ { إنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا
كُفْرًا } وَلِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنَّهُ عَرَضَتْ له شُبْهَةٌ حَمَلَتْهُ على
الرِّدَّةِ فَيُؤَجَّلُ ثَلَاثًا لَعَلَّهَا تَنْكَشِفُ في هذه الْمُدَّةِ فَكَانَتْ
الِاسْتِتَابَةُ ثَلَاثًا وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ عَسَى فَنَدَبَ إلَيْهَا
فَإِنْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ قبل الِاسْتِتَابَةِ يُكْرَهُ له ذلك وَلَا شَيْءَ عليه
لِزَوَالِ عِصْمَتِهِ بِالرِّدَّةِ وَتَوْبَتِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ
وَيَبْرَأَ عن الدَّيْنِ الذي انْتَقَلَ إلَيْهِ فَإِنْ تَابَ ثُمَّ ارْتَدَّ
ثَانِيًا فَحُكْمُهُ في الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَحُكْمِهِ في الْمَرَّةِ
الْأُولَى أَنَّهُ إنْ تَابَ في الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ
وَكَذَا في الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ لِوُجُودِ الْإِيمَانِ
ظَاهِرًا في كل كَرَّةٍ لِوُجُودِ رُكْنِهِ وهو إقْرَارُ الْعَاقِلِ
وقال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا }
فَقَدْ أَثْبَتَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِيمَانَ بَعْدَ وُجُودِ الرِّدَّةِ
منه وَالْإِيمَانُ بَعْدَ وُجُودِ الرِّدَّةِ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ إلَّا
أَنَّهُ إذَا تَابَ في الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ يَضْرِبُهُ الْإِمَامُ وَيُخَلِّي
سَبِيلَهُ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ إذَا تَابَ في الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ
حَبَسَهُ الْإِمَامُ ولم يُخْرِجْهُ من السِّجْنِ حتى يَرَى عليه أَثَرَ خُشُوعِ
التَّوْبَةِ وَالْإِخْلَاصِ
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يُبَاحُ دَمُهَا إذَا ارْتَدَّتْ وَلَا تُقْتَلُ
عِنْدَنَا وَلَكِنَّهَا تُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ وَإِجْبَارُهَا على
الْإِسْلَامِ أَنْ تُحْبَسَ وَتَخْرُجَ في كل يَوْمٍ فَتُسْتَتَابُ وَيُعْرَضُ
عليها الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَسْلَمَتْ وَإِلَّا حُبِسَتْ ثَانِيًا هَكَذَا إلَى
أَنْ تُسْلِمَ أو تَمُوتَ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وزاد عليه تُضْرَبُ أَسْوَاطًا في كل مَرَّةٍ
تَعْزِيرًا لها على ما فَعَلَتْ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُقْتَلُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ وَلِأَنَّ عِلَّةَ
إبَاحَةِ الدَّمِ هو الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَلِهَذَا قُتِلَ الرَّجُلُ وقد
وُجِدَ منها ذلك بِخِلَافِ الْحَرْبِيَّةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْكُفْرَ بَعْدَ
الْإِيمَانِ أَغْلَظُ من الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ لِأَنَّ هذا رُجُوعٌ بَعْدَ
الْقَبُولِ وَالْوُقُوفِ على مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَحُجَجِهِ وَذَلِكَ
امْتِنَاعٌ من الْقَبُولِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ من الْوُقُوفِ دُونَ حَقِيقَةِ
الْوُقُوفِ فَلَا يَسْتَقِيمُ الِاسْتِدْلَال
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا
وَلَيَدًا وَلِأَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا شُرِعَ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ
بِالدَّعْوَةِ إلَيْهِ بِأَعْلَى الطَّرِيقَيْنِ عِنْدَ وُقُوعِ الْيَأْسِ عن
إجَابَتِهَا بِأَدْنَاهُمَا وهو دَعْوَةُ اللِّسَانِ بِالِاسْتِتَابَةِ
بِإِظْهَارِ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَالنِّسَاءُ أَتْبَاعُ الرِّجَالِ في
إجَابَةِ هذه الدَّعْوَةِ في الْعَادَةِ فَإِنَّهُنَّ في الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ
يُسْلِمْنَ بِإِسْلَامِ أَزْوَاجِهِنَّ على ما رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ
وَكَانَتْ تَحْتَهُ خَمْسُ نِسْوَةٍ فَأَسْلَمْنَ معه
وإذا كان كَذَلِكَ فَلَا يَقَعُ شَرْعُ الْقَتْلِ في حَقِّهَا وَسِيلَةً إلَى
الْإِسْلَامِ فَلَا يُفِيدُ وَلِهَذَا لم تُقْتَلْ الْحَرْبِيَّةُ بِخِلَافِ
الرَّجُلِ فإن الرَّجُلَ لَا يَتْبَعُ رَأْيَ غَيْرِهِ خُصُوصًا في أَمْرِ
الدِّينِ بَلْ يَتْبَعُ رَأْيَ نَفْسِهِ فَكَانَ رَجَاءُ الْإِسْلَامِ منه
ثَابِتًا فَكَانَ شَرْعُ الْقَتْلِ مُفِيدًا فَهُوَ الْفَرْقُ
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على الذُّكُورِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ صِيَانَةً لها عن
التَّنَاقُضِ
وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا ارْتَدَّتْ لَا تُقْتَلُ عِنْدَنَا وَتُجْبَرُ على
الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ يُجْبِرُهَا مَوْلَاهَا إنْ احْتَاجَ إلَى خِدْمَتِهَا
وَيَحْبِسُهَا في بَيْتِهِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فيها بَعْدَ الرِّدَّةِ
قَائِمٌ
وَهِيَ مَجْبُورَةٌ على الْإِسْلَامِ شَرْعًا فَكَانَ الرَّفْعُ إلَى الْمَوْلَى
رِعَايَةً لِلْحَقَّيْنِ وَلَا يَطَؤُهَا لِأَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تَحِلُّ
لِأَحَدٍ
وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ لَا يُقْتَلُ وَإِنْ صَحَّتْ رِدَّتُهُ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رضي اللَّهُ عنهما لِأَنَّ قَتْلَ الْبَالِغِ بَعْدَ
الِاسْتِتَابَةِ وَالدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ بِاللِّسَانِ وَإِظْهَارِ
حُجَجِهِ وَإِيضَاحِ دَلَائِلِهِ لِظُهُورِ الْعِنَادِ وَوُقُوعِ الْيَأْسِ عن
فَلَاحِهِ
وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ من الصَّبِيِّ فَكَانَ الْإِسْلَامُ منه مَرْجُوًّا
وَالرُّجُوعُ إلَى الدِّينِ الحق منه مَأْمُولًا فَلَا يُقْتَلُ وَلَكِنْ يُجْبَرُ
على الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ لِأَنَّ الْحَبْسَ يَكْفِيهِ وَسِيلَةً إلَى
الْإِسْلَامِ
وَعَلَى هذا صَبِيٌّ أَبَوَاهُ مُسْلِمَانِ حتى حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا
لِأَبَوَيْهِ فَبَلَغَ كَافِرًا ولم يُسْمَعْ منه إقْرَارٌ بِاللِّسَانِ بَعْدَ
الْبُلُوغِ لَا يُقْتَلُ لِانْعِدَامِ الرِّدَّةِ منه إذْ هِيَ اسْمٌ
لِلتَّكْذِيبِ بَعْدَ سَابِقَةِ التَّصْدِيقِ ولم يُوجَدْ منه التَّصْدِيقُ بَعْدَ
الْبُلُوغِ أَصْلًا لِانْعِدَامِ دَلِيلِهِ وهو الْإِقْرَارُ
حتى لو أَقَرَّ بِالْإِسْلَامِ ثُمَّ ارْتَدَّ يُقْتَلُ لِوُجُودِ الرِّدَّةِ منه
بِوُجُودِ دَلِيلِهَا وهو الْإِقْرَارُ فلم يَكُنْ الْمَوْجُودُ منه حَقِيقَةً
فَلَا يُقْتَلُ وَلَكِنَّهُ يُحْبَسُ لِأَنَّهُ كان له حُكْمُ الْإِسْلَامِ قبل
الْبُلُوغِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وَالْحُكْمُ
في إكْسَابِهِ كَالْحُكْمِ في إكْسَابِ المرثد ( ( ( المرتد ) ) ) لِأَنَّهُ
مُرْتَدٌّ حُكْمًا وَسَنَذْكُرُ الْكَلَامَ في إكْسَابِ الْمُرْتَدِّ في
مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا حُرْمَةُ الِاسْتِرْقَاقِ فإن الْمُرْتَدَّ لَا يَسْتَرِقُّ وَإِنْ
لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُ لم يُشْرَعْ فيه إلَّا الْإِسْلَامُ أو
السَّيْفُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { تُقَاتِلُونَهُمْ أو يُسْلِمُونَ }
وَكَذَا الصَّحَابَةُ
____________________
(7/135)
رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعُوا عليه في زَمَنِ سَيِّدِنَا أبي بَكْرٍ رضي اللَّهُ
عنه وَلِأَنَّ اسْتِرْقَاقَ الْكَافِرِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ
وَاسْتِرْقَاقُهُ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ على ما مَرَّ من قَبْلُ
وَلِهَذَا لم يَجُزْ إبْقَاؤُهُ على الْحُرِّيَّةِ بِخِلَافِ الْمُرْتَدَّةِ إذَا
لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ أنها تُسْتَرَقُّ لِأَنَّهُ لم يُشْرَعْ قَتْلُهَا
وَلَا يَجُوزُ إبْقَاءُ الْكَافِرِ على الْكُفْرِ إلَّا مع الْجِزْيَةِ أو مع
الرِّقِّ وَلَا جِزْيَةَ على النِّسْوَانِ فَكَانَ إبْقَاؤُهَا على الْكُفْرِ مع
الرِّقِّ أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ من إبْقَائِهَا من غَيْرِ شَيْءٍ
وَكَذَا الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ اسْتَرَقُّوا نِسَاءَ من ارْتَدَّ من
الْعَرَبِ وَصِبْيَانَهُمْ حتى قِيلَ إنَّ أُمَّ مُحَمَّدِ بن الْحَنَفِيَّةِ
وَهِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ إيَاسٍ كانت من سبى بَنِي حَنِيفَةَ
وَمِنْهَا حُرْمَةُ أَخْذِ الْجِزْيَةِ فَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ من
الْمُرْتَدِّ لِمَا ذَكَرْنَا
وَمِنْهَا أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ جِنَايَتَهُ لِمَا ذَكَرْنَا من قَبْلُ
إن مُوجِبَ الْجِنَايَةِ على الْجَانِي وَإِنَّمَا الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ عنه
بِطَرِيقِ التَّعَاوُنِ وَالْمُرْتَدُّ لَا يُعَاوَنُ
وَمِنْهَا الْفُرْقَةُ إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ ثُمَّ إنْ كانت
الرِّدَّةُ من الْمَرْأَةِ كانت فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ
كانت من الرَّجُلِ فَفِيهِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ في كِتَابِ النِّكَاحِ وَلَا
تَرْتَفِعُ هذه الْفُرْقَةُ بِالْإِسْلَامِ
وَلَوْ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا أو أَسْلَمَا مَعًا فَهُمَا على نِكَاحِهِمَا
عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَسَدَ النِّكَاحُ
وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قبل الْآخَرِ فَسَدَ النِّكَاحُ بِالْإِجْمَاعِ
وَهِيَ من مَسَائِلِ كِتَابِ النِّكَاحِ
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إنْكَاحُهُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ له
وَمِنْهَا حُرْمَةُ ذَبِيحَتِهِ لِأَنَّهُ لَا مِلَّةَ لِمَا ذَكَرْنَا
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَرِثُ من أَحَدٍ لِانْعِدَامِ الْمِلَّةِ وَالْوِلَايَةِ
وَمِنْهَا أنها تُحْبَطُ أَعْمَالُهُ لَكِنْ بِنَفْسِ الرِّدَّة عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِشَرِيطَةِ الْمَوْتِ عليها وَهِيَ
مَسْأَلَةُ كِتَابِ الصَّلَاةِ
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه شَيْءٌ من الْعِبَادَاتِ عِنْدَنَا لِأَنَّ
الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ عليه وَهِيَ من مَسَائِلِ أُصُولِ
الْفِقْهِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى مَالِهِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ حُكْمُ الْمِلْكِ
وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ وَحُكْمُ الدَّيْنِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ تَكُونُ
أَمْوَالُهُ على حُكْمِ مِلْكِهِ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا في أَنَّهُ إذَا مَاتَ أو
قُتِلَ أو لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ تَزُولُ أَمْوَالُهُ عن مِلْكِهِ
وَاخْتُلِفَ في أَنَّهُ تَزُولُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ مَقْصُورًا على الْحَالِ
أَمْ بِالرِّدَّةِ من حِينِ وُجُودِهَا على التَّوَقُّفِ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ لَا يَزُولُ عن مَالِهِ
بِالرِّدَّةِ وَإِنَّمَا يَزُولُ بِالْمَوْتِ أو الْقَتْلِ أو بِاللَّحَاقِ
بِدَارِ الْحَرْبِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه الْمِلْكُ في
أَمْوَالِهِ مَوْقُوفٌ على ما يَظْهَرُ من حَالِهِ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ بُنِيَ حُكْمُ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ إنها جَائِزَةٌ
عِنْدَهُمَا كما تَجُوزُ من الْمُسْلِمِ حتى لو أَعْتَقَ أو دَبَّرَ أو كَاتَبَ أو
بَاعَ أو اشْتَرَى أو وَهَبَ نَفَذَ ذلك كُلُّهُ وعقدت ( ( ( وعقدة ) ) )
تَصَرُّفَاتِهِ مَوْقُوفَةٌ لِوُقُوفِ أَمْلَاكِهِ فَإِنْ أَسْلَمَ جَازَ كُلُّهُ
وَإِنْ مَاتَ أو قُتِلَ أو لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَ كُلُّهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمِلْكَ كان ثَابِتًا له حَالَةَ الْإِسْلَامِ
لِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ وَأَهْلِيَّتِهِ وَهِيَ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّدَّةُ
لَا تُؤَثِّرُ في شَيْءٍ من ذلك ثُمَّ اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا في
كَيْفِيَّةِ الْجَوَازِ فقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَازُهَا جَوَازُ
تَصَرُّفِ الصَّحِيحِ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَازُ تَصَرُّفَاتِ الْمَرِيضِ مَرَضَ
الْمَوْتِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُرْتَدَّ على شَرَفِ
التَّلَفِ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ إن اخْتِيَارَ الْإِسْلَامِ بيده فَيُمْكِنُهُ
الرُّجُوعُ إلَى الْإِسْلَامِ فَيَخْلُصُ عن الْقَتْلِ وَالْمَرِيضُ لَا
يُمْكِنُهُ دَفْعُ الْمَرَضِ عن نَفْسِهِ فَأَنَّى يَتَشَابَهَانِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ زَوَالِ
الْمِلْكِ وهو الرِّدَّةُ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقَتْلِ وَالْقَتْلُ
سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَوْتِ فَكَانَ زَوَالُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْمَوْتِ مُضَافًا
إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ وهو الرِّدَّةُ وَلَا يُمْكِنُهُ اللَّحَاقُ بِدَارِ
الْحَرْبِ بِأَمْوَالِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ من ذلك بَلْ يُقْتَلُ فيبقي
مَالُهُ فَاضِلًا عن حَاجَتِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِزَوَالِ
مِلْكِهِ لِلْحَالِ إلَّا أَنَّا تَوَقَّفْنَا فيه لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ إلَى
الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ إذَا عَادَ تَرْتَفِعُ الرِّدَّةُ من الْأَصْلِ وَيُجْعَلُ
كَأَنْ لم يَكُنْ فَكَانَ التَّوَقُّفُ في الزَّوَالِ لِلْحَالِ لِاشْتِبَاهِ
الْعَاقِبَةِ فَإِنْ أَسْلَمَ تَبَيَّنَ أَنَّ الرِّدَّةَ لم تَكُنْ سَبَبًا
لِزَوَالِ الْمِلْكِ لِارْتِفَاعِهَا من الْأَصْلِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ تَصَرُّفَهُ
صَادَفَ مَحَلَّهُ فَيَصِحُّ
وَإِنْ قُتِلَ أو مَاتَ أو لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ تَبَيَّنَ أنها وَقَعَتْ
سَبَبًا لِلزَّوَالِ من حِينِ وُجُودِهَا فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْكَ كان
زَائِلًا من حِينِ وُجُودِ الرِّدَّةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَخَلَّفُ عن
سَبَبِهِ فلم يُصَادِفْ التَّصَرُّفُ مَحَلَّهُ فَبَطَلَ فَأَمَّا قبل ذلك كان
مِلْكُهُ مَوْقُوفًا فَكَانَتْ تَصَرُّفَاتُهُ الْمَبْنِيَّةُ عليه مَوْقُوفَةً
ضَرُورَةً
وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِيلَادُهُ حتى إنَّهُ لو اسْتَوْلَدَ
أَمَتَهُ فَادَّعَى وَلَدَهَا أنه يَثْبُتُ
____________________
(7/136)
النَّسَبُ
وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له
أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْمَحَلَّ مَمْلُوكٌ له مِلْكًا تَامًّا
وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ الْمَوْقُوفَ
لَا يَكُونُ أَدْنَى حَالًا من حَقِّ الْمِلْكِ ثُمَّ حَقُّ الْمِلْكِ يَكْفِي
لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ فَهَذَا أَوْلَى وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ يَصِحُّ
طَلَاقُهُ وَتَسْلِيمُهُ الشُّفْعَةَ لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُؤَثِّرُ في مِلْكِ
النِّكَاحِ وَالثَّابِتُ لِلشَّفِيعِ حَقٌّ لَا يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ
وَمُعَاوَضَتُهُ مَوْقُوفَةٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ على
الْمُسَاوَاةِ
وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَلَا يَزُولُ مِلْكُهَا عن أَمْوَالِهَا بِلَا خِلَافٍ
فَتَجُوزُ تَصَرُّفَاتُهَا في مَالِهَا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ
فلم تَكُنْ رِدَّتُهَا سَبَبًا لِزَوَالِ مِلْكِهَا عن أَمْوَالِهَا بِلَا خِلَافٍ
فَتَجُوزُ تَصَرُّفَاتُهَا وإذا عُرِفَ حُكْمُ مِلْكِ الْمُرْتَدِّ وَحَالُ
تَصَرُّفَاتِهِ الْمَبْنِيَّةِ عليه فَحَالُ الْمُرْتَدِّ لَا يَخْلُو من أَنْ
يُسْلِمَ أو يَمُوتَ أو يُقْتَلَ أو يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ أَسْلَمَ
فَقَدْ عَادَ على حُكْمِ مِلْكِهِ الْقَدِيمِ لِأَنَّ الرِّدَّةَ ارْتَفَعَتْ من
الْأَصْلِ حُكْمًا وَجُعِلَتْ كَأَنْ لم تَكُنْ أَصْلًا وَإِنْ مَاتَ أو قُتِلَ
صَارَ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ وَعَتَقَ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ
وَمُكَاتَبُوهُ إذَا أَدَّى إلَى وَرَثَتِهِ وَتَحِلُّ الدُّيُونُ التي عليه
وَتُقْضَى عنه لِأَنَّ هذه أَحْكَامُ الْمَوْتِ
وَكَذَلِكَ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا وَقَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ
لِأَنَّ اللَّحَاقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ في حَقِّ زَوَالِ
مِلْكِهِ عن أَمْوَالِهِ الْمَتْرُوكَةِ في دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ زَوَالَ
الْمِلْكِ عن الْمَالِ بِالْمَوْتِ حَقِيقَةٌ لِكَوْنِهِ مَالًا فَاضِلًا عن
حَاجَتِهِ لِانْتِهَاءِ حَاجَتِهِ بِالْمَوْتِ وَعَجْزِهِ عن الِانْتِفَاعِ بِهِ
وقد وُجِدَ هذا الْمَعْنَى في اللَّحَاقِ لِأَنَّ الْمَالَ الذي في دَارِ
الْإِسْلَامِ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ في حَقِّهِ لِعَجْزِهِ عن
الِانْتِفَاعِ بِهِ فَكَانَ في حُكْمِ الْمَالِ الْفَاضِلِ عن حَاجَتِهِ
لِعَجْزِهِ عن قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِهِ فَكَانَ اللَّحَاقُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ
في كَوْنِهِ مُزِيلًا لِلْمِلْكِ فإذا قَضَى الْقَاضِي بِاللَّحَاقِ يُحْكَمُ
بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ وَيُقْسَمُ مَالُهُ بين
وَرَثَتِهِ وَتَحِلُّ دُيُونُهُ الْمُؤَجَّلَةُ لِأَنَّ هذه أَحْكَامٌ
مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَوْتِ وقد وُجِدَ مَعْنًى
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَيُؤَدِّي إلَى وَرَثَتِهِ فَيُعْتَقُ وإذا عَتَقَ
فَوَلَاؤُهُ لِلْمُرْتَدِّ لِأَنَّهُ الْمُعْتِقُ
وَلَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا
فَهَذَا لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَعُودَ قبل قَضَاءِ
الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ
وَالثَّانِي أَنْ يَعُودَ بَعْدَ ذلك فَإِنْ عَادَ قبل أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي
بِلَحَاقِهِ عَادَ على حُكْمِ أَمْلَاكِهِ في الْمُدَبَّرِينَ وَأُمَّهَاتِ
الْأَوْلَادِ وَغَيْرِ ذلك لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هذه الْأَحْكَامَ مُتَعَلِّقَةٌ
بِالْمَوْتِ وَاللُّحُوقُ بِدَارِ الْحَرْبِ ليس بِمَوْتٍ حَقِيقَةً لَكِنَّهُ
يَلْحَقُ بِالْمَوْتِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي بِاللَّحَاقِ فإذا لم
يَتَّصِلْ بِهِ لم يَلْحَقْ فإذا عَادَ يَعُودُ على حُكْمِ مِلْكِهِ وَإِنْ عَادَ
بَعْدَ ما قَضَى الْقَاضِي بِاللَّحَاقِ فما وُجِدَ من مَالِهِ في يَدِ وَرَثَتِهِ
بِحَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ لِأَنَّ وَلَدَهُ جُعِلَ خَلَفًا له في مَالِهِ
فَكَانَ تَصَرُّفُهُ في مَالِهِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ له كَأَنَّهُ وَكِيلُهُ
فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ ما وَجَدَهُ قَائِمًا على حَالِهِ وما زَالَ مِلْكُ
الْوَارِثِ عنه بِالْبَيْعِ أو بِالْعِتْقِ فَلَا رُجُوعَ فيه لِأَنَّ تَصَرُّفَ
الْخَلَفِ كَتَصَرُّفِ الْأَصْلِ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ
وَأَمَّا ما أَعْتَقَ الْحَاكِمُ من أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ فَلَا
سَبِيلَ عليهم لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَكَذَا
الْمُكَاتَبُ إذَا كان أَدَّى الْمَالَ إلَى الْوَرَثَةِ لَا سَبِيلَ عليه أَيْضًا
لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَتَقَ بِأَدَاءِ الْمَالِ وَالْعِتْقُ لَا يَحْتَمِلُ
الْفَسْخَ وما أدى إلَى الْوَرَثَةِ إنْ كان قَائِمًا أخذه ( ( ( أخذ ) ) ) وَإِنْ
زَالَ مِلْكُهُمْ عنه لَا يَجِبُ عليهم ضَمَانُهُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا
وَإِنْ كان لم يُؤَدِّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ بَعْدُ يُؤْخَذُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ
وَإِنْ عَجَزَ عَادَ رَقِيقًا له وَلَوْ رَجَعَ كَافِرًا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ
وَأَخَذَ طَائِفَةً من مَالِهِ وَأَدْخَلَهَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ
الْمُسْلِمُونَ عليه فَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ ما قضى بِلَحَاقِهِ فَالْوَرَثَةُ
أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ وَجَدَتْهُ قبل الْقِسْمَةِ أَخَذَتْهُ مَجَّانًا بِلَا
عِوَضٍ وَإِنْ وَجَدَتْهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَتْهُ بِالْقِيمَةِ في ذَوَاتِ
الْقِيَمِ لِأَنَّهُ إذَا لَحِقَ وقضى بِلَحَاقِهِ فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ إلَى
الْوَرَثَةِ فَهَذَا مَالُ مُسْلِمٍ اسْتَوْلَى عليه الْكَافِرُ وَأَحْرَزَهُ
بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ على الدَّارِ فَوَجَدَهُ
الْمَالِكُ الْقَدِيمُ فَالْحُكْمُ فيه ما ذَكَرْنَا وَإِنْ رَجَعَ قبل الْحُكْمِ
بِاللَّحَاقِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةِ هذا وَرُجُوعُهُ بَعْدَ الْحُكْمِ
بِاللَّحَاقِ سَوَاءٌ
وفي رِوَايَةٍ أَنَّهُ يَكُونُ فَيْئًا لَا حَقَّ لِلْوَرَثَةِ فيه أَصْلًا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ جَنَى الْمُرْتَدُّ جِنَايَةً ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ
إلَيْنَا ثَانِيًا فما كان من حُقُوقِ الْعِبَادِ كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ
وَالْقَذْفِ يُؤْخَذُ بِهِ وما كان من حُقُوقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ يَسْقُطُ عنه لِأَنَّ اللَّحَاقَ
يُلْتَحَقُ بِالْمَوْتِ فَيُورِثُ شُبْهَةً في سُقُوطِ ما يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ
وَلَوْ فَعَلَ شيئا من ذلك بَعْدَ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ مَاتَ لم
يُؤْخَذْ بِشَيْءٍ منه لِأَنَّ فِعْلَهُ لم يَنْعَقِدْ مُوجِبًا لِصَيْرُورَتِهِ
في حُكْمِ أَهْلِ الْحَرْبِ
هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ مَالِهِ الذي خَلَّفَهُ في دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَمَّا
الذي لَحِقَ بِهِ في دَارِ
____________________
(7/137)
الْحَرْبِ
فَهُوَ مِلْكُهُ حتى لو ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عليه يَكُونُ فَيْئًا لِأَنَّ
مِلْكَ الْوَرَثَةِ لم يَثْبُتْ في الْمَالِ الْمَحْمُولِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ
فَبَقِيَ على مِلْكِ الْمُرْتَدِّ وهو غَيْرُ مَعْصُومٍ فَكَانَ مَحَلُّ
التَّمَلُّكِ بِالِاسْتِيلَاءِ لِسَائِرِ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ
وَأَمَّا حُكْمُ الْمِيرَاثِ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ في أَنَّ الْمَالَ الذي اكْتَسَبَهُ في حَالَةِ الْإِسْلَامِ يَكُونُ
مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ إذَا مَاتَ أو قُتِلَ أو لَحِقَ وَقُضِيَ
بِاللَّحَاقِ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هو فَيْءٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول
اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَلَا الْمُسْلِمُ
الْكَافِرَ نَفَى أَنْ يَرِثَ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَوَارِثُهُ مُسْلِمٌ
فَيَجِبُ أَنْ لَا يَرِثَهُ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه قَتَلَ الْمُسْتَوْرِدَ
الْعِجْلَيَّ بِالرِّدَّةِ وَقَسَمَ مَالَهُ بين وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ وكان
ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ
أَنْكَرَ مُنْكِرٌ عليه فَيَكُونُ إجْمَاعًا من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمْ وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ في كَوْنِهَا سَبَبًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ
كَالْمَوْتِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه على ما قَرَّرْنَاهُ فإذا
ارْتَدَّ فَهَذَا مُسْلِمٌ مَاتَ فَيَرِثُهُ الْمُسْلِمُ فَكَانَ هذا إرْثَ
الْمُسْلِمِ من الْمُسْلِمِ لَا من الْكَافِرِ فَقَدْ قُلْنَا بِمُوجِبِ الحديث
بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى
وَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَالرِّدَّةُ إنْ كانت لَا تُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ
يُمْكِنُ احْتِمَالُ الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ فَيَبْقَى على حُكْمِ الْإِسْلَامِ
في حَقِّ حُكْمِ الْإِرْثِ وَذَلِكَ جَائِزٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَقِيَ على حُكْمِ الْإِسْلَامِ في حَقِّ الْمَنْعِ من
التَّصَرُّفِ في الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَجَازَ أَنْ يَبْقَى عليه في حَقِّ
حُكْمِ الْإِرْثِ أَيْضًا فَلَا يَكُونُ إرْثُ الْمُسْلِمِ من الْكَافِرِ
فَيَكُونُ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ أَيْضًا
وَاخْتَلَفُوا في الْمَالِ الذي اكْتَسَبَهُ في حَالِ الرِّدَّةِ
قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه هو فَيْءٌ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هو مِيرَاثٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ كَسْبَ الرِّدَّةِ مِلْكُهُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ
من أَهْلِ الْمِلْكِ في مَحَلٍّ قَابِلٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرْتَدَّ أَهْلُ
الْمِلْكِ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْمِلْكِ بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّدَّةُ لَا
تُنَافِيهَا بَلْ تُنَافِي ما يُنَافِيهَا وهو الرِّقُّ إذْ الْمُرْتَدُّ لَا
يَحْتَمِلُ الِاسْتِرْقَاقَ وإذا ثَبَتَ مِلْكُهُ فيه احْتَمَلَ الِانْتِقَالَ
إلَى وَرَثَتِهِ بِالْمَوْتِ أو ما هو في مَعْنَى الْمَوْتِ على ما بَيَّنَّا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الرِّدَّةَ
سَبَبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ من حِينِ وُجُودِهَا بِطَرِيقِ الظُّهُورِ على ما
بَيَّنَّا وَلَا وُجُودَ لِلشَّيْءِ مع وُجُودِ سَبَبِ زَوَالِهِ فَكَانَ
الْكَسْبُ في الرِّدَّةِ مَالًا لَا مَالِكَ له فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ
فَيُوضَعُ في بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَاللُّقَطَةِ
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا يُورَثُ من مَالِ الْمُرْتَدِّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالُ
الْوَارِثِ وَهِيَ أَهْلِيَّةُ الْوِرَاثَةِ وَقْتَ الرِّدَّةِ أَمْ وَقْتَ
الْمَوْتِ أَمْ من وَقْتِ الرِّدَّةِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ الْوِرَاثَةِ وَقْتَ
الْمَوْتِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ إنَّمَا يَزُولُ عِنْدَهُمَا بِالْمَوْتِ
فَتُعْتَبَرُ الْأَهْلِيَّةُ في ذلك الْوَقْتِ لَا غَيْرُ
وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ يُعْتَبَرُ
وَقْتُ الرِّدَّةِ لَا غَيْرُ
حتى لو كان أَهْلًا وَقْتَ الرِّدَّةِ وَرِثَ وَإِنْ زَالَتْ أَهْلِيَّتُهُ بَعْدَ
ذلك
وفي رِوَايَةٍ يُعْتَبَرُ دَوَامُ الْأَهْلِيَّةِ من وَقْتِ الرِّدَّةِ إلَى
وَقْتِ الْمَوْتِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِرْثَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الاسناد ( ( (
الاستناد ) ) ) لَا بِطَرِيقِ الظُّهُورِ
لِأَنَّ الْمَوْتَ أَمْرٌ لَا بُدَّ منه لِلْإِرْثِ وَالْقَوْلُ بِالْإِرْثِ
بِطَرِيقِ الظُّهُورِ إيجَابُ الْإِرْثِ قبل الْمَوْتِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ
فإذا وُجِدَ الْمَوْتُ يَثْبُتُ الْإِرْثُ
ثُمَّ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الرِّدَّةِ وَزَوَالِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَا
بين الْوَقْتَيْنِ يُمْنَعُ من الإسناد ( ( ( الاستناد ) ) ) فَيُشْتَرَطُ دَوَامُ
الْأَهْلِيَّةِ من وَقْتِ الرِّدَّةِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ حتى لو كان بَعْضُ
الْوَرَثَةِ مُسْلِمًا وَقْتَ الرِّدَّةِ ثُمَّ ارْتَدَّ عن الْإِسْلَامِ قبل
مَوْتِ الْمُرْتَدِّ لَا يُورَثُ وَكَذَا إذَا مَاتَ قبل مَوْتِهِ أو الْمَرْأَةُ
انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قبل مَوْتِهِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْإِرْثَ يَتْبَعُ زَوَالَ الْمِلْكِ
وَالْمِلْكُ زَالَ بِالرِّدَّةِ من وَقْتِ وُجُودِهَا فَيَثْبُتُ الْإِرْثُ في ذلك
الْوَقْتِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ
قَوْلُهُ هذا إيجَابُ الْإِرْثِ قبل الْمَوْتِ قُلْنَا هذا مَمْنُوعٌ بَلْ هذا
إيجَابُ الْإِرْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّ الرِّدَّةَ في مَعْنَى الْمَوْتِ
لِأَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ الْمَوْتِ في زَوَالِ الْمِلْكِ على ما بَيَّنَّا
فَكَانَتْ الرِّدَّةُ مَوْتًا مَعْنًى
وَكَذَا اخْتَلَفَ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيمَا إذَا
لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَى الْقَاضِي بِاللَّحَاقِ أنه تُعْتَبَرُ
أَهْلِيَّةُ الْوِرَاثَةِ وَقْتَ الْقَضَاءِ بِاللَّحَاقِ أَمْ وَقْتَ اللَّحَاقِ
فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقْتَ الْقَضَاءِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تُعْتَبَرُ وَقْتَ اللَّحَاقِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ وَقْتَ الْإِرْثِ وَقْتُ زَوَالِ الْمِلْكِ
وَمِلْكُ الْمُرْتَدِّ إنَّمَا يَزُولُ بِاللَّحَاقِ لِأَنَّ بِهِ يَعْجِزُ عن
الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ الْمَتْرُوكِ في دَارِ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنَّ
الْعَجْزَ قبل الْقَضَاءِ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ لا حتمال الْعَوْدِ فإذا قضى تَقَرَّرَ
الْعَجْزُ وَصَارَ الْعَوْدُ بَعْدَهُ كَالْمُمْتَنِعِ عَادَةً فَكَانَ الْعَامِلُ
في زَوَالِ الْمِلْكِ هو اللَّحَاقَ فَتُعْتَبَرُ الْأَهْلِيَّةُ وَقْتَئِذٍ
وَجْهُ قَوْلِ
____________________
(7/138)
أبي
يُوسُفَ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَزُولُ إلَّا بِالْقَضَاءِ فَكَانَ الْمُؤَثِّرُ في
الزَّوَالِ هو الْقَضَاءَ
وَعَلَى هذا الِاخْتِلَافِ الْمُرْتَدَّةُ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ
لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ
وَلَوْ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ ثُمَّ قُتِلَ الْأَبُ
على رِدَّتِهِ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ من حِينِ
الرِّدَّةِ يَرِثُهُ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ في حَالَةِ
الْإِسْلَامِ قَطْعًا وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا من حِينِ
الرِّدَّةِ لم يَرِثْهُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلَقَ في حَالَةِ
الرِّدَّةِ فَلَا يَرِثُ مع الشَّكِّ
وَلَوْ ارْتَدَّ الزَّوْجُ دُونَ الْمَرْأَةِ أو كانت له أُمُّ وَلَدٍ مُسْلِمَةٍ
وَرِثَهُ مع وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ من سِتَّةِ
أَشْهُرٍ لِأَنَّ الْأُمَّ مُسْلِمَةٌ فَكَانَ الْوَلَدُ على حُكْمِ الْإِسْلَامِ
تَبَعًا لِأُمِّهِ فَيَرِثُ أَبَاهُ
وَلَوْ مَاتَ مُسْلِمٌ عن امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ فَارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ
بِدَارِ الْحَرْبِ فَوَلَدَتْ هُنَاكَ ثُمَّ ظَهَرْنَا على الدَّارِ فإنه لَا
يُسْتَرَقُّ وَيَرِثُ أَبَاهُ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِأَبِيهِ وَلَوْ لم
تَكُنْ وَلَدَتْهُ حتى سُبِيَتْ ثُمَّ وَلَدَتْهُ في دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ
مُسْلِمٌ مَرْقُوقُ مُسْلِمٍ تَبَعًا لِأَبِيهِ مَرْقُوقٌ تَبَعًا لِأُمِّهِ وَلَا
يَرِثُ أَبَاهُ لِأَنَّ الرِّقَّ من أَسْبَابِ الْحِرْمَانِ
وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمَةً فَوَلَدَتْ له غُلَامًا أو وطىء أَمَةً
مُسْلِمَةً فَوَلَدَتْ له فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِلْأُمِّ وَيَرِثُ أَبَاهُ
لِثُبُوتِ النَّسَبِ وَإِنْ كانت الْأُمُّ كَافِرَةً لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ
لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ إسْلَامُ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
أَعْلَمُ
وَأَمَّا حُكْمُ الدَّيْنِ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ دُيُونُ الْمُرْتَدِّ
في كَسْبِ الْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ جميعا لِأَنَّ كُلَّ ذلك عِنْدَهُمَا
مِيرَاثٌ
وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ فَقَدْ ذَكَرَ أبو يُوسُفَ عنه
أَنَّهُ في كَسْبِ الرِّدَّةِ إلَّا أَنْ لَا يَفِيَ بِهِ فَيَقْضِيَ الْبَاقِيَ
من كَسْبِ الْإِسْلَامِ
وَرَوَى الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ عنه أَنَّهُ في كَسْبِ الْإِسْلَامِ إلَّا
أَنْ لَا يَفِيَ بِهِ فَيَقْضِيَ الْبَاقِيَ من كَسْبِ الرِّدَّةِ
وقال الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ دَيْنُ الْإِسْلَامِ في كَسْبِ الْإِسْلَامِ
وَدَيْنُ الرِّدَّةِ في كَسْبِ الرِّدَّةِ وهو قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ لِأَنَّ دَيْنَ الْإِنْسَانِ يُقْضَى من مَالِهِ
لَا من مَالِ غَيْرِهِ
وَكَذَا دَيْنُ الْمَيِّتِ يُقْضَى من مَالِهِ لَا من مَالِ وَارِثِهِ لِأَنَّ
قِيَامَ الدَّيْنِ يَمْنَعُ زَوَالَ مِلْكِهِ إلَى وَارِثِهِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ
لِكَوْنِ الدَّيْنِ مُقَدَّمًا على الْإِرْثِ فَكَانَ قَضَاءُ دَيْنِ كل مَيِّتٍ
من مَالِهِ لَا من مَالِ وَارِثِهِ وَمَالُهُ كَسْبُ الْإِسْلَامِ
فَأَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ فَمَالُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُقْضَى منه
الدَّيْنُ إلَّا لِضَرُورَةٍ فإذا لم يَفِ بِهِ كَسْبُ الْإِسْلَامِ مَسَّتْ
الضَّرُورَةُ فيقضى الْبَاقِيَ منه
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ وَلَدِ الْمُرْتَدِّ فَوَلَدُ الْمُرْتَدِّ لَا يَخْلُو من
أَنْ يَكُونَ مَوْلُودًا في الْإِسْلَامِ أو في الرِّدَّةِ فَإِنْ كان مَوْلُودًا
في الْإِسْلَامِ بِأَنْ وُلِدَ لِلزَّوْجَيْنِ وَلَدٌ وَهُمَا مُسْلِمَانِ ثُمَّ
ارْتَدَّا لَا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ ما دَامَ في دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ
لَمَّا وُلِدَ وَأَبَوَاهُ مُسْلِمَانِ فَقَدْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا
لِأَبَوَيْهِ فَلَا يَزُولُ بِرِدَّتِهِمَا لِتَحَوُّلِ التَّبَعِيَّةِ إلَى
الدَّارِ إذْ الدَّارُ وَإِنْ كانت لَا تَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ التَّبَعِيَّةِ
ابْتِدَاءً عِنْدَ اسْتِتْبَاعِ الْأَبَوَيْنِ تَصْلُحُ لِلْإِبْقَاءِ لِأَنَّهُ
أَسْهَلُ من الِابْتِدَاءِ فما دَامَ في دَارِ الْإِسْلَامِ يَبْقَى على حُكْمِ
الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِلدَّارِ
وَلَوْ لَحِقَ الْمُرْتَدَّانِ بهذا الْوَلَدِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَكَبِرَ
الْوَلَدُ وَوُلِدَ له وَلَدٌ وَكَبِرَ ثُمَّ ظُهِرَ عليهم
أَمَّا حُكْمُ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ فَمَعْلُومٌ وقد ذَكَرْنَا أَنَّ
الْمُرْتَدَّ لَا يُسْتَرَقُّ وَيُقْتَلُ وَالْمُرْتَدَّةُ تُسْتَرَقُّ وَلَا
تُقْتَلُ وَتُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ وَأَمَّا حُكْمُ الْأَوْلَادِ
فَوَلَدُ الْأَبِ يُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُ لِأَنَّهُ كان
مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبَوَيْهِ تَبَعًا لَهُمَا فلما بَلَغَ كَافِرًا فَقَدْ
ارْتَدَّ عنه وَالْمُرْتَدُّ يُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ
إلَّا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ لِأَنَّ هذه رِدَّةٌ حُكْمِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ
لِوُجُودِ الْإِيمَانِ حُكْمًا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لَا حَقِيقَةً فَيُجْبَرُ
على الْإِسْلَامِ لَكِنْ بِالْحَبْسِ لَا بِالسَّيْفِ إثْبَاتًا لِلْحُكْمِ على
قَدْرِ الْعِلَّةِ وَلَا يُجْبَرُ وَلَدُ وَلَدِهِ على الْإِسْلَامِ لِأَنَّ
وَلَدَ الْوَلَدِ لَا يَتْبَعُ الْجَدَّ في الْإِسْلَامِ إذْ لو كان كَذَلِكَ
لَكَانَ الْكُفَّارُ كلهم مُرْتَدِّينَ لِكَوْنِهِمْ من أَوْلَادِ آدَمَ وَنُوحٍ
عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَجْرِيَ عليهم أَحْكَامُ
أَهْلِ الرِّدَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ
وَإِنْ كان مَوْلُودًا في الرِّدَّةِ بِأَنْ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ وَلَا وَلَدَ
لَهُمَا ثُمَّ حَمَلَتْ الْمَرْأَةُ من زَوْجِهَا بَعْدَ رِدَّتِهَا وَهُمَا
مُرْتَدَّانِ على حَالِهِمَا فَهَذَا الْوَلَدُ بِمَنْزِلَةِ أَبَوَيْهِ له حُكْمُ
الرِّدَّةِ حتى لو مَاتَ لَا يُصَلَّى عليه لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ
أَحَدًا
وَلَوْ لَحِقَا بهذا الْوَلَدِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَبَلَغَ وَوُلِدَ له أَوْلَادٌ
فَبَلَغُوا ثُمَّ ظُهِرَ على الدَّارِ وَسُبُوا جميعا يُجْبَرُ وَلَدُ الْأَبِ
وَوَلَدُ وَلَدِهِ على الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُونَ
كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في كِتَابِ السِّيَرِ وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ وَلَدُ وَلَدِهِ على الْإِسْلَامِ
وَجْهُ ما ذُكِرَ في السِّيَرِ أَنَّ وَلَدَ الْأَبِ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ فَكَانَ
مَحْكُومًا بِرِدَّتِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ وَوَلَدُ الْوَلَدِ تَبَعٌ له
فَكَانَ مَحْكُومًا بِرِدَّتِهِ تَبَعًا له وَالْمُرْتَدُّ يُجْبَرُ على
الْإِسْلَامِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ لِأَنَّ هذه رِدَّةٌ حُكْمِيَّةٌ
فَيُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ لَا بِالْقَتْلِ
____________________
(7/139)
وَجْهُ
الْمَذْكُورِ في الْجَامِعِ أَنَّ هذا الْوَلَدَ إنَّمَا صَارَ مَحْكُومًا
بِرِدَّتِهِ تَبَعًا لِأَبِيهِ وَالتَّبَعُ لَا يَسْتَتْبِعُ غَيْرَهُ
وَأَمَّا حُكْمُ الِاسْتِرْقَاقِ فَذُكِرَ في السِّيَرِ أَنَّهُ يُسْتَرَقُّ
الْإِنَاثُ وَالذُّكُورُ الصِّغَارُ من أَوْلَادِهِ لِأَنَّ أُمَّهُمْ مُرْتَدَّةٌ
وَهِيَ تَحْتَمِلُ الِاسْتِرْقَاقَ وَالْوَلَدُ كما تَبِعَ الْأُمَّ في الرِّقِّ
يَتْبَعُهَا في احْتِمَالِ الِاسْتِرْقَاقِ
وَأَمَّا الْكِبَارُ فَلَا يُسْتَرَقُّونَ لِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ
بِالْبُلُوغِ وَيُجْبَرُونَ على الْإِسْلَامِ وَذُكِرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
الْوِلْدَانُ فَيْءٌ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ أُمَّهُ مُرْتَدَّةٌ وَأَمَّا الْآخَرُ فَلِأَنَّهُ
كَافِرٌ أَصْلِيٌّ لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الْأَبَوَيْنِ في الرِّدَّةِ قد
انْقَطَعَتْ بِالْبُلُوغِ وهو كَافِرٌ فَكَانَ كَافِرًا أَصْلِيًّا فَاحْتَمَلَ
الِاسْتِرْقَاقَ
وَلَوْ ارْتَدَّتْ امْرَأَةٌ وَهِيَ حَامِلٌ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ
سُبِيَتْ وَهِيَ حَامِلٌ كان وَلَدُهَا فَيْئًا لِأَنَّ السَّبْيَ لَحِقَهُ وهو في
حُكْمِ جُزْءِ الْأُمِّ فَلَا يَبْطُلُ بِالِانْفِصَالِ من الْأُمِّ وَالذِّمِّيُّ
الذي نَقَضَ الْعَهْدَ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ في
سَائِرِ الْأَحْكَامِ من الْإِرْثِ وَالْحُكْمُ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ
وَالْمُدَبَّرَيْنِ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ الْمَعْنَى الذي يُوجِبُ لَحَاقَهُ
اللَّحَاقُ بِالْمَوْتِ في الْأَحْكَامِ التي ذَكَرْنَا لَا يُفْصَلُ إلَّا
أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ من وَجْهٍ وهو أَنَّ الذِّمِّيَّ يُسْتَرَقُّ
وَالْمُرْتَدُّ لَا يُسْتَرَقُّ
وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ شَرْعَ الِاسْتِرْقَاقِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ
وَاسْتِرْقَاقُ الْمُرْتَدِّ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّهُ رَجَعَ بَعْدَ ما ذَاقَ طَعْمَ الْإِسْلَامِ وَعَرَفَ
مَحَاسِنَهُ فَلَا يُرْجَى فَلَاحُهُ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ أَحْكَامِ الْبُغَاةِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في
تَفْسِيرِ الْبُغَاةِ وفي بَيَانِ ما يَلْزَمُ إمَامَ أَهْلِ الْعَدْلِ عِنْدَ
خُرُوجِهِمْ عليه وفي بَيَانِ ما يُصْنَعُ بِهِمْ وَبِأَمْوَالِهِمْ عِنْدَ
الظَّفَرِ بِهِمْ وَالِاسْتِيلَاءِ على أَمْوَالِهِمْ وفي بَيَانِ من يَجُوزُ
قَتْلُهُ منهم وَمَنْ لَا يَجُوزُ وفي بَيَانِ حُكْمِ إصَابَةِ الدِّمَاءِ
وَالْأَمْوَالِ من الطَّائِفَتَيْنِ وفي بَيَانِ ما يُصْنَعُ بِقَتْلَى
الطَّائِفَتَيْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ قَضَايَاهُمْ
أَمَّا تَفْسِيرُ الْبُغَاةِ فَالْبُغَاةُ هُمْ الْخَوَارِجُ وَهُمْ قَوْمٌ من
رَأْيِهِمْ أَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ كُفْرٌ كَبِيرَةً كانت أو صَغِيرَةً يَخْرُجُونَ
على إمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ وَيَسْتَحِلُّونَ الْقِتَالَ وَالدِّمَاءَ
وَالْأَمْوَالَ بهذا التَّأْوِيلِ وَلَهُمْ مَنَعَةٌ وَقُوَّةٌ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَلْزَمُ إمَامَ الْعَدْلِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إنْ عَلِمَ الْإِمَامُ أَنَّ الْخَوَارِجَ يُشْهِرُونَ
السِّلَاحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ فَيَنْبَغِي له أَنْ يَأْخُذَهُمْ
وَيَحْبِسَهُمْ حتى يُقْلِعُوا عن ذلك وَيُحْدِثُوا تَوْبَةً لِأَنَّهُ لو
تَرَكَهُمْ لَسَعَوْا في الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَيَأْخُذُهُمْ على أَيْدِيهِمْ
وَلَا يَبْدَؤُهُمْ الْإِمَامُ بِالْقِتَالِ حتى يبدؤوه ( ( ( يبدءوه ) ) )
لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ لَا لِشَرِّ شِرْكِهِمْ لِأَنَّهُمْ
مُسْلِمُونَ فما لم يَتَوَجَّهُ الشَّرُّ منهم لَا يُقَاتِلُهُمْ وَإِنْ لم
يَعْلَمْ الْإِمَامُ بِذَلِكَ حتى تَعَسْكَرُوا وَتَأَهَّبُوا لِلْقِتَالِ
فَيَنْبَغِي له أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى الْعَدْلِ وَالرُّجُوعِ إلَى رَأْيِ
الْجَمَاعَةِ أَوَّلًا لِرَجَاءِ الْإِجَابَةِ وَقَبُولِ الدَّعْوَةِ كما في حَقِّ
أَهْلِ الْحَرْبِ
وَكَذَا رُوِيَ أَنْ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه لَمَّا خَرَجَ عليه
أَهْلُ حر وراء نَدَبَ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما
لِيَدْعُوَهُمْ إلَى الْعَدْلِ فَدَعَاهُمْ وناظرهم فَإِنْ أَجَابُوا كَفَّ
عَنْهُمْ وَإِنْ أَبَوْا قَاتَلَهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ بَغَتْ
إحْدَاهُمَا على الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا التي تَبْغِي حتى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ
اللَّهِ }
وَكَذَا قَاتَلَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه أَهْلَ حَرُورَاءَ
بِالنَّهْرَوَانِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ تَصْدِيقًا
لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ إنَّكَ تُقَاتِلُ
على التَّأْوِيلِ كما تُقَاتِلُ على التَّنْزِيلِ وَالْقِتَالُ على التَّأْوِيلِ
هو الْقِتَالُ مع الْخَوَارِجِ
وَدَلَّ الْحَدِيثُ على إمَامَةِ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّ
النبي صلى الله عليه وسلم شَبَّهَ قِتَالَ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه على
التَّأْوِيلِ بِقِتَالِهِ على التَّنْزِيلِ وكان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم في قِتَالِهِ بِالتَّنْزِيلِ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ
مُحِقًّا في قِتَالِهِ بِالتَّأْوِيلِ فَلَوْ لم يَكُنْ إمَامَ حَقٍّ لَمَا كان
مُحِقًّا في قِتَالِهِ إيَّاهُمْ وَلِأَنَّهُمْ سَاعُونَ في الْأَرْضِ
بِالْفَسَادِ فَيُقْتَلُونَ دَفْعًا لِلْفَسَادِ على وَجْهِ الْأَرْضِ
وَإِنْ قَاتَلَهُمْ قبل الدَّعْوَةِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قد
بَلَغَتْهُمْ لِكَوْنِهِمْ في دَارِ الْإِسْلَامِ وَمِنْ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا
وَيَجِبُ على كل من دَعَاهُ الْإِمَامُ إلَى قِتَالِهِمْ أَنْ يُجِيبَهُ إلَى ذلك
وَلَا يَسَعُهُ التَّخَلُّفُ إذَا كان عِنْدَهُ غنا ( ( ( غنى ) ) ) وَقُدْرَةٌ
لِأَنَّ طَاعَةَ الْإِمَامِ فِيمَا ليس بِمَعْصِيَةٍ فَرْضٌ فَكَيْفَ فِيمَا هو
طَاعَةٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ
وما رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ
بين الْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْتَزِلَ الْفِتْنَةَ
وَيَلْزَمَ بَيْتَهُ مَحْمُولٌ على وَقْتٍ خَاصٍّ وهو أَنْ لَا يَكُونَ إمَامٌ
يدعو ( ( ( يدعوه ) ) ) إلَى الْقِتَالِ
وَأَمَّا إذَا كان فَدَعَاهُ يُفْتَرَضُ عليه الْإِجَابَةُ لِمَا ذَكَرْنَا
وَأَمَّا بَيَانُ ما يُصْنَعُ بِهِمْ وَبِأَمْوَالِهِمْ عِنْدَ الظَّفَرِ بِهِمْ
وَالِاسْتِيلَاءِ على أَمْوَالِهِمْ فَنَقُولُ الْإِمَامُ إذَا قَاتَلَ أَهْلَ
الْبَغْيِ فَهَزَمَهُمْ وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ فَإِنْ كانت لهم فِئَةٌ
يَنْحَازُونَ إلَيْهَا فَيَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَقْتُلُوا
مُدْبِرَهُمْ وَيُجْهِزُوا على
____________________
(7/140)
جَرِيحِهِمْ
لِئَلَّا يَتَحَيَّزُوا إلَى الْفِئَةِ فَيَمْتَنِعُوا فيها ( ( ( بها ) ) )
فَيَكُرُّوا على أَهْلِ الْعَدْلِ
وَأَمَّا أَسِيرُهُمْ فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَتَلَهُ اسْتِئْصَالًا
لِشَأْفَتِهِمْ وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ لِانْدِفَاعِ شَرِّهِ بِالْأَسْرِ
وَالْحَبْسِ وَإِنْ لم يَكُنْ لهم فِئَةٌ يَتَحَيَّزُونَ إلَيْهَا لم يَتْبَعْ
مُدْبِرَهُمْ ولم يُجْهِزْ على جَرِيحِهِمْ ولم يَقْتُلْ أَسِيرَهُمْ لِوُقُوعِ
الْأَمْنِ عن شَرِّهِمْ عِنْدَ انْعِدَامِ الْفِئَةِ
وَأَمَّا أَمْوَالُهُمْ التي ظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ عليها فَلَا بَأْسَ بِأَنْ
يَسْتَعِينُوا بِكُرَاعِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ على قِتَالِهِمْ كَسْرًا
لِشَوْكَتِهِمْ فإذا اسْتَغْنَوْا عنها أَمْسَكَهَا الْإِمَامُ لهم لِأَنَّ
أَمْوَالَهُمْ لَا تَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ بِالِاسْتِيلَاءِ لِكَوْنِهِمْ
مُسْلِمِينَ وَلَكِنْ يَحْبِسُهَا عَنْهُمْ إلَى أَنْ يَزُولَ بَغْيُهُمْ فإذا
زَالَ رَدَّهَا عليهم
وَكَذَا ما سِوَى الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ من الْأَمْتِعَةِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ
وَلَكِنْ يُمْسَكُ وَيُحْبَسُ عَنْهُمْ إلَى أَنْ يَزُولَ بَغْيُهُمْ فَيُدْفَعَ
إلَيْهِمْ لِمَا قُلْنَا
وَيُقَاتَلُ أَهْلُ الْبَغْيِ بِالْمَنْجَنِيقِ وَالْحَرْقِ وَالْغَرَقِ وَغَيْرِ
ذلك مِمَّا يُقَاتَلُ بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لَدَفْعِ
شَرِّهِمْ وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ فَيُقَاتَلُونَ بِكُلِّ ما يَحْصُلُ بِهِ ذلك
وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُوَادِعَهُمْ لِيَنْظُرُوا في أُمُورِهِمْ وَلَكِنْ لَا
يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذُوا على ذلك مَالًا لِمَا ذَكَرْنَا من قَبْلُ
وَأَمَّا بَيَانُ من يَجُوزُ قَتْلُهُ منهم وَمَنْ لَا يَجُوزُ فَكُلُّ من لَا
يَجُوزُ قَتْلُهُ من أَهْلِ الْحَرْبِ من الصِّبْيَانِ وَالنِّسْوَانِ
وَالْأَشْيَاخِ وَالْعُمْيَانِ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ من أَهْلِ الْبَغْيِ لِأَنَّ
قَتْلَهُمْ لِدَفْعِ شَرِّ قِتَالِهِمْ فَيَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْقِتَالِ
وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا من أَهْلِ الْقِتَالِ فَلَا يُقْتَلُونَ إلَّا إذَا
قَاتَلُوا فَيُبَاحُ قَتْلُهُمْ في حَالِ الْقِتَالِ وَبَعْدَ الْفَرَاغِ من
الْقِتَالِ إلَّا الصِّبْيَانَ وَالْمَجَانِينَ على ما ذَكَرْنَا في حُكْمِ أَهْلِ
الْحَرْبِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَأْسُورُ من أَهْلِ الْبَغْيِ فَإِنْ كان قَاتَلَ مع
مَوْلَاهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ وَإِنْ كان يَخْدُمُ مَوْلَاهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ
وَلَكِنْ يُحْبَسُ حتى يَزُولَ بَغْيُهُمْ فَيُرَدُّ عليهم
وَأَمَّا الْكُرَاعُ فَلَا يُمْسَكُ وَلَكِنَّهُ يُبَاعُ وَيُحْبَسُ ثَمَنُهُ
لِمَالِكِهِ لِأَنَّ ذلك أَنْفَعُ له وَلَا يَجُوزُ لِلْعَادِلِ أَنْ يبتدىء
بِقَتْلِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه من أَهْلِ الْبَغْيِ مُبَاشَرَةً وإذا أَرَادَ
هو قَتْلَهُ له أَنْ يَدْفَعَهُ وَإِنْ كان لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِالْقَتْلِ
فَيَجُوزُ له أَنْ يَتَسَبَّبَ لِيَقْتُلَهُ غَيْرُهُ بِأَنْ يَعْقِرَ دَابَّتَهُ
لِيَتَرَجَّلَ فَيَقْتُلَهُ غَيْرُهُ بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ فإنه يَجُوزُ
قَتْلُ سَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ منه مُبَاشَرَةً وَتَسَبُّبًا
ابْتِدَاءً إلَّا الْوَالِدَيْنِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الشِّرْكَ في الْأَصْلِ مُبِيحٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ }
إلَّا أَنَّهُ خُصَّ منه الْأَبَوَانِ بِنَصٍّ خَاصٍّ حَيْثُ قال اللَّهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } فَبَقِيَ
غَيْرُهُمَا على عُمُومِ النَّصِّ بِخِلَافِ أَهْلِ الْبَغْيِ لِأَنَّ
الْإِسْلَامَ في الْأَصْلِ عَاصِمٌ لِقَوْلِهِ عليه السلام ( ( ( وسلم ) ) ) فإذا
قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَالْبَاغِي مُسْلِمٌ
إلَّا أَنَّهُ أُبِيحَ قَتْلُ غَيْرِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ من أَهْلِ
الْبَغْيِ دَفْعًا لِشَرِّهِمْ لَا لِشَوْكَتِهِمْ وَدَفْعُ الشَّرِّ يَحْصُلُ
بِالدَّفْعِ وَالتَّسْبِيبِ لِيَقْتُلَهُ غَيْرُهُ فَبَقِيَتْ الْعِصْمَةُ عَمَّا
وَرَاءَ ذلك بِالدَّلِيلِ الْعَاصِمِ
وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ إصَابَةِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ من الطَّائِفَتَيْنِ
فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّ الْعَادِلَ إذَا أَصَابَ من أَهْلِ الْبَغْيِ من
دَمٍ أو جِرَاحَةٍ أو مَالٍ اسْتَهْلَكَهُ أنه لَا ضَمَانَ عليه
وَأَمَّا الْبَاغِي إذَا أَصَابَ شيئا من ذلك من أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَدْ
اخْتَلَفُوا فيه
قال أَصْحَابُنَا إنَّ ذلك مَوْضُوعٌ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّهُ مَضْمُونٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْبَاغِيَ جَانٍ فَيَسْتَوِي في حَقِّهِ وُجُودُ
الْمَنَعَةِ وَعَدَمُهَا لِأَنَّ الْجَانِيَ يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ دُونَ
التَّخْفِيفِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ قال وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مُتَوَافِرُونَ فَاتَّفَقُوا أَنَّ كُلَّ دَمٍ
اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَكُلُّ مَالٍ اُسْتُحِلَّ
بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَكُلُّ فَرْجٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ
الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ من
الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ما قُلْنَا وَإِنَّهُ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ
وَالْمَعْنَى في الْمَسْأَلَةِ ما نَبَّهَ عليه الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وهو أَنَّ لهم في الِاسْتِحْلَالِ تَأْوِيلًا في الْجُمْلَةِ وَإِنْ كان فَاسِدًا
لَكِنَّ لهم مَنَعَةً وَالتَّأْوِيلُ الْفَاسِدُ عِنْدَ قِيَامِ الْمَنَعَةِ
يَكْفِي لِرَفْعِ الضَّمَانِ كَتَأْوِيلِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ
من الْجَانِبَيْنِ مُنْقَطِعَةٌ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ فلم يَكُنْ الْوُجُوبُ
مُفِيدًا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ فلم يَجِبْ وَلَوْ فَعَلُوا شيئا من ذلك قبل
الْخُرُوجِ وَظُهُورِ الْمَنَعَةِ أو بَعْدَ الِانْهِزَامِ وَتَفَرُّقِ الْجَمْعِ
يُؤْخَذُونَ بِهِ لِأَنَّ الْمَنَعَةَ إذَا انْعَدَمَتْ الْوِلَايَةُ وَبَقِيَ
مُجَرَّدُ تَأْوِيلٍ فَاسِدٍ فَلَا يُعْتَبَرُ في دَفْعِ الضَّمَانِ
وَلَوْ قَتَلَ تَاجِرٌ من أَهْلِ الْعَدْلِ تَاجِرًا آخَرَ من أَهْلِ الْعَدْلِ في
عَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ أو قَتَلَ الْأَسِيرُ من أَهْلِ الْعَدْلِ أَسِيرًا
آخَرَ
أو قَطَعَ ثُمَّ ظُهِرَ عليه فَلَا قِصَاصَ عليه لِأَنَّ الْفِعْلَ لم يَقَعْ
مُوجِبًا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ وَانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ كما لو قَطَعَ في
دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ عَسْكَرَ أَهْلِ الْبَغْيِ في حَقِّ انْقِطَاعِ
الْوِلَايَةِ
____________________
(7/141)
وَدَارِ
الْحَرْبِ سَوَاءٌ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
ثُمَّ لَا خِلَافَ في أَنَّ الْعَادِلَ إذَا قَتَلَ بَاغِيًا لَا يُحْرَمُ
الْمِيرَاثَ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِسُقُوطِ
عِصْمَةِ نَفْسِهِ
وَأَمَّا الْبَاغِي إذَا قَتَلَ الْعَادِلَ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ أبي
يُوسُفَ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إنْ قال قَتَلْتُهُ وَكُنْتُ على
حَقٍّ وأنا الْآنَ على حَقٍّ لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ وَإِنْ قال قَتَلْتُهُ وأنا
أَعْلَمُ أَنِّي على بَاطِلٍ يُحْرَمُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ تَأْوِيلَهُ فَاسِدٌ إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ
بِالصَّحِيحِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَنَعَةِ في حَقِّ الدَّفْعِ لَا في حَقِّ
الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يُعْتَبَرُ في حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّا نَعْتَبِرُ تَأْوِيلَهُ في حَقِّ الدَّفْعِ
وَالِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ هو الْقَرَابَةُ وإنها
مَوْجُودَةٌ
إلَّا أَنَّ قَتْلَ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ سَبَّبَ الْحِرْمَانَ فإذا قَتَلَهُ على
تَأْوِيلِ الِاسْتِحْلَالِ وَالْمَنَعَةُ مَوْجُودَةٌ اعْتَبَرْنَاهُ في حَقِّ
الدَّفْعِ
وهو دَفْعُ الْحِرْمَانِ فَأَشْبَهَ الضَّمَانَ إلَّا أَنَّهُ إذَا قال قَتَلْتُهُ
وأنا أَعْلَمُ إني على بَاطِلٍ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ
الْفَاسِدَ إنَّمَا يَلْحَقُ بِالصَّحِيحِ إذَا كان مُصِرًّا عليه فإذا لم يُصِرَّ
فَلَا تَأْوِيلَ له فَلَا يَنْدَفِعُ عنه الضَّمَانُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يُصْنَعُ بِقَتْلَى الطَّائِفَتَيْنِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ أَمَّا قَتْلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَيُصْنَعُ بِهِمْ ما
يُصْنَعُ بِسَائِرِ الشُّهَدَاءِ لَا يُغَسَّلُونَ وَيُدْفَنُونَ في ثِيَابِهِمْ
وَلَا يُنْزَعُ عَنْهُمْ إلَّا ما لَا يَصْلُحُ كَفَنًا وَيُصَلَّى عليهم
لِأَنَّهُمْ شُهَدَاءُ لِكَوْنِهِمْ مَقْتُولِينَ ظُلْمًا
وقد رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بن صرحان ( ( ( صوحان ) ) ) الْيَمَنِيَّ كان يوم
الْجَمَلِ تَحْتَ رَايَةِ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنهما فَأَوْصَى في
رَمَقِهِ لَا تنزعواعني ثَوْبًا وَلَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا وَارْمُسُونِي في
التراث ( ( ( التراب ) ) ) رَمْسًا فَإِنِّي رَجُلٌ مُحَاجٌّ أُحَاجُّ يوم
الْقِيَامَةِ
وَأَمَّا قَتْلَى أَهْلِ البغى فَلَا يصلي عليهم لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ
سَيِّدَنَا عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه ما صلى على أَهْلِ حَرُورَاءَ وَلَكِنَّهُمْ
يُغَسَّلُونَ وَيُكَفَّنُونَ وَيُدْفَنُونَ لِأَنَّ ذلك من سُنَّةِ مَوْتَى بَنِي
سَيِّدِنَا آدَمَ عليه السلام وَيُكْرَهُ أَنْ تُؤْخَذَ رؤوسهم وَتُبْعَثَ إلَى
الْآفَاقِ
وَكَذَلِكَ رؤوس أَهْلِ الْحَرْبِ لِأَنَّ ذلك من بَابِ الْمُثْلَةِ وأنه
مَنْهِيٌّ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَا تُمَثِّلُوا فَيُكْرَهُ إلَّا إذَا
كان في ذلك وَهَنٌ لهم فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن
مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه جَزَّ رَأْسَ أبي جَهْلٍ عليه اللَّعْنَةُ يوم بَدْرٍ
وَجَاءَ بِهِ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم إنَّ أَبَا جَهْلٍ كان فِرْعَوْنَ هذه الْأُمَّةِ ولم يُنْكِرْ
عليه
وَيُكْرَهُ بَيْعُ السِّلَاحِ من أَهْلِ الْبَغْيِ وفي عَسَاكِرِهِمْ لِأَنَّهُ
إعَانَةٌ لهم على الْمَعْصِيَةِ وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ ما يُتَّخَذُ منه
السِّلَاحُ كَالْحَدِيدِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ سِلَاحًا إلَّا
بِالْعَمَلِ
وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ بَيْعُ الْمَزَامِيرِ وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ ما
يُتَّخَذُ منه الْمِزْمَارُ وهو الْخَشَبُ وَالْقَصَبُ
وَكَذَا بَيْعُ الْخَمْرِ بَاطِلٌ وَلَا يَبْطُلُ بَيْعُ ما يُتَّخَذُ منه وهو
الْعِنَبُ
كَذَا هذا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ قَضَايَاهُمْ فَنَقُولُ الْخَوَارِجُ إذَا وَلَّوْا
قَاضِيًا فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إن وَلَّوْا رَجُلًا
من أَهْلِ الْبَغْيِ وَإِمَّا إن وَلَّوْا رَجُلًا من أَهْلِ الْعَدْلِ فَإِنْ
وَلَّوْا رَجُلًا من أَهْلِ الْبَغْيِ فَقَضَى بِقَضَايَا ثُمَّ رُفِعَتْ
قَضَايَاهُ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ لَا يُنْفِذُهَا لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ
كَوْنَهَا حَقًّا لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا فَاحْتَمَلَ
إنه قَضَى بِمَا هو بَاطِلٌ على رَأْيِ الْجَمَاعَةِ فَلَا يَجُوزُ له تَنْفِيذُهُ
مع الِاحْتِمَالِ
وَلَوْ كَتَبَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ بِكِتَابٍ
فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ قَضَى بِشَهَادَةِ أَهْلِ الْعَدْلِ أَنْفَذَهُ لِأَنَّهُ
تنفيذا ( ( ( تنفيذ ) ) ) لِحَقٍّ ظاهرا وَإِنْ كان لَا يَعْلَمُ لَا يُنْفِذُهُ
لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ حَقًّا فَلَا يَجُوزُ تَنْفِيذُهُ لِقَوْلِهِ
تعالى ( ( ( تبارك ) ) ) { وَلَا تَقْفُ ما ليس لَك بِهِ عِلْمٌ }
وَإِنْ وَلَّوْا رَجُلًا من أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَضَى فِيمَا بَيْنَهُمْ
بِقَضَايَا ثُمَّ رُفِعَتْ قَضَايَاهُ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ نَفَّذَهَا
لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ إيَّاهُ قد صَحَّتْ وَلِأَنَّهُ يَقْدِرُ على تَنْفِيذِ
الْقَضَايَا بِمَنْعَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ فَصَحَّتْ التَّوْلِيَةُ وَالظَّاهِرُ
أَنَّهُ قَضَى على رَأْيِ أَهْلِ الْعَدْلِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ كما إذَا
رُفِعَتْ قَضَايَا قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ إلَى بَعْضِ قُضَاةِ أَهْلِ الْعَدْلِ
وما أَخَذُوا من الْبِلَادِ التي ظَهَرُوا عليها من الْخَرَاجِ وَالزَّكَاةِ التي
وِلَايَةُ أَخْذِهَا لِلْإِمَامِ لَا يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ ثَانِيًا لِأَنَّ
حَقَّ الْأَخْذِ لِلْإِمَامِ لِمَكَانِ حِمَايَتِهِ ولم تُوجَدْ إلَّا أَنَّهُمْ
يُفْتُونَ بِأَنْ يُعِيدُوا الزَّكَاةَ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الظَّاهِرَ
أَنَّهُمْ لَا يَصْرِفُونَهَا إلَى مَصَارِفهَا فَأَمَّا الْخَرَاجُ فَمَصْرِفُهُ
الْمُقَاتِلَةُ
وَهُمْ يُقَاتِلُونَ أَهْلَ الْحَرْبِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ الْغَصْبِ جَمَعَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في كِتَابِ الْغَصْبِ بين
مَسَائِلِ الْغَصْبِ وَبَيْنَ مَسَائِلِ الْإِتْلَافِ وَبَدَأَ بِمَسَائِلِ
الْغَصْبِ فَنَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ
____________________
(7/142)
فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ مَعْرِفَةُ مَسَائِلِ الْغَصْبِ في الْأَصْلِ
مَبْنِيَّةٌ على مَعْرِفَةِ حَدِّ الْغَصْبِ وَعَلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ اخْتِلَافِ
الْغَاصِبِ وَالْمَغْصُوبِ منه
أَمَّا حَدُّ الْغَصْبِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فيه قال أبو حَنِيفَةَ وأبو
يُوسُفَ رضي اللَّهُ عنهما هو إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عن مَالِهِ الْمُتَقَوِّمِ
على سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ وَالْمُغَالَبَةِ بِفِعْلٍ في الْمَالِ وقال مُحَمَّد
رَحِمَهُ اللَّهُ الْفِعْلُ في الْمَالِ ليس بِشَرْطٍ لِكَوْنِهِ غَصْبًا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هو إثْبَاتُ الْيَدِ على مَالٍ الْغَيْرِ
بِغَيْرِ إذْنِهِ وَالْإِزَالَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ
أَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهُوَ احْتَجَّ لِتَمْهِيدِ
أَصْلِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وكان وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ
كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا } جَعَلَ الْغَصْبَ مَصْدَرَ الْأَخْذِ فَدَلَّ أَنَّ
الْغَصْبَ وَالْأَخْذَ وَاحِدٌ وَالْأَخْذُ إثْبَاتُ الْيَدِ
إلَّا أَنَّ الْإِثْبَاتَ إذَا كان بِإِذْنِ الْمَالِكِ يُسَمَّى إيدَاعًا
وَإِعَارَةً وَإِبْضَاعًا في عُرْفِ الشَّرْعِ وإذا كان بِغَيْرِ إذْن الْمَالِكِ
يُسَمَّى في مُتَعَارَفِ الشَّرْعِ غَصْبًا وَلِأَنَّ الْغَصْبَ إنَّمَا جُعِلَ
سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ بِوَصْفِ كَوْنِهِ تَعَدِّيًا فإذا وَقَعَ
الْإِثْبَاتُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ وَقَعَ تَعَدِّيًا فَيَكُونُ سَبَبًا
لِوُجُوبِ الضَّمَانِ بِوَصْفِ كَوْنِهِ تَعَدِّيًا
وَالدَّلِيلُ عليه أَنْ غَاصِبَ الْغَاصِبِ ضَامِنٌ وَإِنْ لم يُوجَدْ منه
إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ لِزَوَالِهَا بِغَصْبِ الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ
وَإِزَالَةُ الزَّائِلِ مُحَالٌ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَنَا الِاسْتِدْلَال بِضَمَانِ الْغَصْبِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ
الْمَالِكَ اسْتَحَقَّ إزَالَةَ يَدِ الْغَاصِبِ عن الضَّمَانِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ
يَكُونَ الْغَصْبُ منه إزَالَةَ يَدِ الْمَالِكِ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى لم يُشَرِّعْ الِاعْتِدَاءَ إلَّا بِالْمِثْلِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عليه بِمِثْلِ ما اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ }
وَالثَّانِي أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ ضَمَانَ
زَجْرٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَمَانَ جَبْرٍ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ
لِأَنَّهُ يَجِبُ على من ليس من أَهْلِ الزَّجْرِ وَلِأَنَّ الِانْزِجَارَ لَا
يَحْصُلُ بِهِ فَدَلَّ أَنَّهُ ضَمَانُ جَبْرٍ وَالْجَبْرُ يَسْتَدْعِي الْفَوَاتَ
فَدَلَّ أَنَّهُ لَا بُدّ من التَّفْوِيتِ لِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ وَلَا حُجَّةَ له
في الْآيَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَسَّرَ أَخْذَ الْمَلِكِ تِلْكَ
السَّفِينَةَ بِغَصْبِهِ إيَّاهَا كَأَنَّهُ قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكان
وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَغْصِبُ كُلَّ سَفِينَةٍ
وَهَذَا لَا يَدُلُّ على أَنَّ كُلَّ أَخْذٍ غَصْبٌ بَلْ هِيَ حُجَّةٌ عليه
لِأَنَّ غَصْبَ ذلك الْمَلِكِ كان إثْبَاتَ الْيَدِ على السَّفِينَةِ مع إزَالَةِ
أَيْدِي الْمَسَاكِينِ عنها فَدَلَّ على أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتٌ على وَجْهٍ
يَتَضَمَّنُ الْإِزَالَةَ
وَأَمَّا قَوْلُهُ الْغَصْبُ إنَّمَا أَوْجَبَ الضَّمَانَ لِكَوْنِهِ تَعَدِّيًا
فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّ التَّعَدِّيَ في الْإِزَالَةِ لَا في الْإِثْبَاتِ لِأَنَّ
وُقُوعَهُ تَعَدِّيًا بِوُقُوعِهِ ضَارًّا بِالْمَالِكِ وَذَلِكَ بِإِخْرَاجِهِ من
أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ في حَقِّ الْمَالِكِ وَإِعْجَازِهِ عن
الِانْتِفَاعِ بِهِ وهو تَفْسِيرُ تَفْوِيتِ الْيَدِ وَإِزَالَتِهَا
فَأَمَّا مُجَرَّدُ الْإِثْبَاتِ فَلَا ضَرَرَ فيه فلم يَكُنْ الْإِثْبَاتُ
تَعَدِّيًا
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَخْرُجُ زَوَائِدُ الْغَصْبِ أنها لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ
سَوَاءٌ كانت مُنْفَصِلَةً كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ وَالثَّمَرَةِ أو مُتَّصِلَةً
كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ لِأَنَّهَا لم تَكُنْ في يَدِ الْمَالِكِ وَقْتَ غَصْبِ
الْأُمِّ فلم تُوجَدْ إزَالَةُ يَدِهِ عنها فلم يُوجَدْ الْغَصْبُ وَعِنْد
مُحَمَّدٍ مَضْمُونَةٌ لِأَنَّ الْغَصْبَ عِنْدَهُ إثْبَاتُ الْيَدِ على مَالِ
الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ وقد وُجِدَ الْغَصْبُ وَهَلْ تَصِيرُ
مَضْمُونَةً عِنْدَنَا بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْمَنْعِ أو الِاسْتِهْلَاكِ
أو الِاسْتِخْدَامِ جَبْرًا
أَمَّا الْمُنْفَصِلَةُ فَلَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في
أنها تَصِيرُ مَضْمُونَةً بها
وَأَمَّا الْمُتَّصِلَةُ فذكر في الْأَصْلِ أنها تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِالْبَيْعِ
وَالتَّسْلِيمِ ولم يذكر الْخِلَافَ
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا غَصَبَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فازدات
( ( ( فازدادت ) ) ) في بَدَنِهَا خَيْرًا حتى صَارَتْ قِيمَتهَا أَلْفَيْ
دِرْهَمٍ فَبَاعَهَا وَسَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي فَهَلَكَتْ في يَدِهِ
فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا أَلْفَيْ
دِرْهَم وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْبَائِعَ فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي
ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا يوم الْقَبْضِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ
الْبَائِعِ ضَمَّنَهُ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ قِيمَتَهَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ
أَيْضًا
كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ ولم يذكر الْخِلَافَ
وَحَكَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْخِلَافَ أَنْ على
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا يوم الْقَبْضِ
أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهَا يوم الْغَصْبِ
أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَيْسَ له أَنْ يُضَمِّنَهُ زِيَادَةً بِالْبَيْعِ
وَالتَّسْلِيمِ
وَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ في الْمُنْتَقَى وَحَكَى الْخِلَافَ
وَهَكَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ في مُخْتَصَرِهِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ
الِاسْتِهْلَاكَ مُطْلَقًا فقال إلَّا أَنْ يَسْتَهْلِكَهَا وَفَسَّرَهُ
الْجَصَّاصُ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ فقال إلَّا أَنْ يَكُونَ
عَبْدًا أو جَارِيَةً فَيُقْتَلُ وَهَذَا هو الصَّحِيحُ إن الْمَغْصُوبَ إذَا كان
عَبْدًا أو جَارِيَةً فَقَتَلَهُ الْغَاصِبُ خَطَأً يَكُونُ الْمَالِكُ
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهُ يوم الْغَصْبِ وَإِنْ شَاءَ
ضَمَّنَ عَاقِلَةَ الْقَاتِلِ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْقَتْلِ زَائِدَةً في ثَلَاثِ
سِنِينَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْبَيْعَ وَالتَّسْلِيمَ غَصْبٌ لِأَنَّهُ تَفْوِيتُ
إمْكَانِ الْأَخْذِ لِأَنَّ الْمَالِكَ
____________________
(7/143)
كان
مُتَمَكِّنًا من أَخْذِهِ منه قبل الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ وَبَعْدَ الْبَيْعِ
وَالتَّسْلِيمِ لم يَبْقَ مُتَمَكِّنًا وَتَفْوِيتُ إمْكَانِ الْأَخْذِ تَفْوِيتُ
الْيَدِ مَعْنًى فَكَانَ غَصْبًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ وَهَذَا لِأَنَّ تَفْوِيتَ
يَدِ الْمَالِكِ إنَّمَا كان غَصْبًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لِكَوْنِهِ إخْرَاجَ
الْمَالِ من أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ في حَقِّ الْمَالِك وَإِعْجَازُهُ عن
الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ وَهَذَا يَحْصُلُ بِتَفْوِيتِ إمْكَانِ الْأَخْذِ
فَيُوجِبُ الضَّمَانَ
وَلِهَذَا يَجِبُ الضَّمَانُ على غَاصِبِ الْغَاصِبِ وَمُودِعِ الْغَاصِبِ
وَالْمُشَتَّرِي من الْغَاصِبِ
كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الْأَصْلَ مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ
الْأَوَّلِ فَلَا يَقَعُ الْبَيْعُ وَالتَّسْلِيمُ غَصْبًا له لِأَنَّ غَصْبَ
الْمَغْصُوبِ لَا يُتَصَوَّرُ وَالزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ لَا يُتَصَوَّرُ
إفْرَادُهَا بِالْغَصْبِ لِتَصِيرَ مَغْصُوبَةً بِالْبَيِّعِ وَالتَّسْلِيمِ
بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ فَإِنْ إفْرَادَهَا بِالْغَصْبِ بِدُونِ
الْأَصْلِ مُتَصَوَّرٌ فلم تَكُنْ مَغْصُوبَةً بِالْغَصْبِ الْأَوَّلِ
لِانْعِدَامِهَا فَجَازَ أَنْ تَصِيرَ مَغْصُوبَةً بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ
فَهَذَا الْفَرْقُ بين الزِّيَادَتَيْنِ وَبِخِلَافِ الْقَتْل لِأَنَّ قَتْلَ
الْمَغْصُوبِ مُتَصَوَّرٌ لِأَنَّ مَحَلَّ الْقَتْلِ غَيْرُ مَحَلِّ الْغَصْبِ
فمحمل ( ( ( فمحل ) ) ) الْقَتْلِ هو الْحَيَاةُ ومحمل ( ( ( ومحل ) ) ) الْغَصْبِ
هو مَالِيَّةُ الْعَيْنِ فَتَحَقُّقُ الْغَصْبِ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقُ الْقَتْلِ
إلَّا أَنَّ الْمَضْمُونَ وَاحِدٌ وَالْمُسْتَحَقُّ لِلضَّمَانِ وَاحِدٌ
فَيُخَيَّرُ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ السَّابِقِ لَا شَكَّ فيه
فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْغَاصِبِ من ذلك الْوَقْتِ بِلَا خِلَافٍ بين
أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ فَالزِّيَادَةُ حدثت ( ( ( حصلت ) ) ) على
مِلْكِ الْغَاصِبِ لِأَنَّهَا نَمَاءُ مِلْكِهِ فَتَكُونُ مِلْكَهُ فَكَانَ
الْبَيْعُ وَالتَّسْلِيمُ وَالْمَنْعُ وَالِاسْتِخْدَامُ وَالِاسْتِهْلَاكُ في
غَيْرِ بَنِي آدَمَ تَصَرُّفًا في مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عليه
كما لو تَصَرَّفَ في سَائِرِ أَمْلَاكِهِ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ
لِأَنَّا أَثْبَتْنَا الْمِلْكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ فَالْمُسْتَنَدُ يَظْهَرُ
من وَجْهٍ ويتقصر ( ( ( ويقتصر ) ) ) على الْحَالِ من وَجْهٍ فَيُعْمَلُ
بِشُبْهَةِ الظُّهُورِ في الزَّوَائِدِ الْمُتَّصِلَةِ وبشبه ( ( ( وبشبهة ) ) )
الِاقْتِصَارِ في الْمُنْفَصِلَةِ إذْ لَا يَكُونُ الْعَمَلُ بِهِ على الْعَكْسِ
لِيَكُونَ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَأَمَّا على طَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ فَتَخْرِيجُهُمَا مُشْكِلٌ وَاَللَّهُ
تَعَالَى الْمُوَفِّقُ بِخِلَافِ الْقَتْلِ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يَضْمَنُ
بِالْقَتْلِ من حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ لَا من حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ وَالْغَاصِب
إنَّمَا مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ من وَقْتِ الْغَصْبِ من حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ لَا من
حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ لِأَنَّهُ من حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ لَا يَحْتَمِلُ
التَّمَلُّكَ فلم يَكُنْ هو بِالْقَتْلِ مُتَصَرِّفًا في مِلْكِ نَفْسِهِ لِهَذَا
افْتَرَقَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
ثُمَّ على أصلهما ( ( ( أصلها ) ) ) إذَا اخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَ
الْبَائِعِ هل يَثْبُتُ له الْخِيَارُ بين أَنْ يُضَمِّنَهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ
وَقْتَ الْبَيْعِ وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقْتَ الْغَصْبِ
قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا يَثْبُتُ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ
بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عِنْدَ اتِّحَادِ الذِّمَّةِ من بَابِ السَّفَهِ
بِخِلَافِ التَّخْيِيرِ بين الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ هُنَاكَ الذِّمَّةَ مُخْتَلِفَةٌ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ
يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَلِيًّا وَالْآخَر مُفْلِسًا فَكَانَ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا
وَبِخِلَافِ الْقَتْلِ لِأَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ ضَمَانُ الدَّمِ وَأَنَّهُ
مُؤَجَّلٌ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ وَضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ الْمَالِ وَأَنَّهُ
حَالٌّ فَكَانَ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا
ثُمَّ إذَا ضَمَّنَ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ قِيمَةَ الْمَغْصُوبِ وَقْتَ الْغَصْبِ
أو وَقْتَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ جَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ
بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَالثَّمَنُ له لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ وَإِنْ ضَمِنَ
الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ وَقْتَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي
بِالثَّمَنِ على الْبَائِعِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَلَيْسَ له أَنْ يَرْجِعَ على الْبَائِعِ بِالضَّمَانِ
وَلَوْ غَصَبَ من إنْسَانٍ شيئا فَجَاءَ آخَرُ وَغَصَبَهُ منه فَهَلَكَ في يَدِهِ
فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ
الثَّانِي
أَمَّا تَضْمِينُ الْأَوَّلِ فَلِوُجُودِ فِعْلِ الْغَصْبِ منه وهو تَفْوِيتُ يَدِ
الْمَالِكِ
وَأَمَّا تَضْمِينُهُ الثَّانِيَ فَلِأَنَّهُ فَوَّتَ يَدَ الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ
وَيَدُهُ يَدُ الْمَالِكِ من وَجْهٍ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ مَالَهُ وَيَتَمَكَّنُ من
رَدِّهِ على الْمَالِكِ وَيَسْتَقِرُّ بِهِمَا الضَّمَانُ في ذِمَّتِهِ فَكَانَتْ
مَنْفَعَةُ يَدِهِ عَائِدَةً إلَى الْمَالِكِ فَأَشْبَهَتْ يَدَ الْمُودِعِ وقد
وُجِدَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ إلَّا أَنَّ
الْمَضْمُونَ وَاحِدٌ فَخَيَّرْنَا الْمَالِكَ لِتَعَيُّنِ الْمُسْتَحِقِّ فَإِنْ
اخْتَارَ أَنْ يُضَمِّنَ الْأَوَّلَ رَجَّعَ بِالضَّمَانِ على الثَّانِي لِأَنَّهُ
مَلَكَ الْمَغْصُوبَ من وَقْتِ غَصْبِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الثَّانِي غَصَبَ
مِلْكَهُ وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الثَّانِي لَا يُرْجَعُ على أَحَدٍ لِأَنَّهُ
ضَمَّنَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وهو تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ من وَجْهِ على ما
بَيَّنَّا
وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَهْلَكَهُ الْغَاصِبُ الثَّانِي
وَمَتَى اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا هل يَبْرَأُ الْآخَرُ عن الضَّمَانِ
بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ ذَكَرَ في الْجَامِعِ أَنَّهُ يَبْرَأُ حتى لو أَرَادَ
تَضْمِينَهُ بَعْدَ ذلك لم يَكُنْ له ذلك
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في نَوَادِرِهِ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا
يَبْرَأُ ما لم يَرْضَ من اخْتَارَ تَضْمِينَهُ أو يقضى بِهِ عليه
وَجْهُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ عِنْدَ وُجُودِ الرِّضَا أو الْقَضَاءِ
بِالضَّمَانِ صَارَ الْمَغْصُوبُ مِلْكًا لِلَّذِي ضَمِنَهُ لِأَنَّهُ بَاعَهُ منه
فَلَا يَمْلِكُ
____________________
(7/144)
الرُّجُوعَ
بَعْدَ تَمْلِيكِهِ كما لو بَاعَهُ من الْأَوَّلِ فَأَمَّا قبل وُجُودِ الرِّضَا
أو الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ صَارَ الْمَغْصُوبُ مِلْكًا لِلَّذِي ضَمِنَهُ
لِأَنَّهُ بَاعَهُ منه فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ بَعْدَ تَمْلِيكِهِ كما لو
بَاعَهُ من الْأَوَّلِ
فَأَمَّا قبل وُجُودِ الرِّضَا أو الْقَضَاءِ فلم يُوجَدْ منه التَّمْلِيكُ من
أَحَدِهِمَا فَلَهُ أَنْ يَمْلِكَهُ من أَيِّهِمَا شَاءَ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِاخْتِيَارِهِ تَضْمِينَ
الْغَاصِبِ الْآخَرِ أَظْهَرَ أَنَّهُ رَاضٍ بِأَخْذِ الْأَوَّلِ وأنه
بِمَنْزِلَةِ الْمُودِعِ وَبِاخْتِيَارِ تَضْمِينِ الْأَوَّلِ أَظْهَرَ أَنَّ
الثَّانِي ما أَتْلَفَ عليه شيئا لِأَنَّهُ لم يُفَوِّتْ يَدَهُ وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ بَاعَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ من الثَّانِي فَهَلَكَ في يَدِهِ
يَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ فَيُضَمِّنُ أَيَّهمَا شَاءَ فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ
جَازَ بَيْعُهُ وَالثَّمَنُ له لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ
بَطَلَ الْبَيْعُ وَلَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على الْبَائِعِ وَلَكِنَّهُ
يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عليه لِمَا ذَكَرْنَا
وَكَذَلِكَ لو اسْتَهْلَكَهُ الْمُشْتَرِي
وَلَوْ كان الْمَغْصُوبُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي من الْغَاصِبِ ثُمَّ
أَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ نَفَذَ إعْتَاقُهُ اسْتِحْسَانًا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَنْفُذُ قِيَاسًا ولاخلاف في أَنَّهُ لو
بَاعَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ أَنَّهُ لَا
يَنْفُذُ الْبَيْعُ الثَّانِي
وَجْهُ الْقِيَاسِ ما رُوِيَ عن رَسُول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا عِتْقَ فِيمَا لَا
يَمْلِكُهُ ابن آدَمَ وَلَا مِلْكَ لِلْمُشْتَرِي في الْعَبْدِ لِأَنَّهُ مِلْكُ
الْمَغْصُوبِ منه فَلَا يَنْعَقِدُ إعْتَاقُهُ فيه فَيَنْفُذُ عليه عِنْدَ
الْإِجَازَةِ وَلِهَذَا لم يَنْفُذْ بَيْعُهُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إعْتَاقَ الْمُشْتَرِي صَادَفَ مِلْكًا على
التَّوَقُّفِ فَيَنْعَقِدُ على التَّوَقُّفِ كَالْمُشْتَرِي من الْوَارِثِ عَبْدًا
من التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرِقَةِ بِالدِّينِ إذَا أَعْتَقَهُ ثُمَّ أَبْرَأَ
الْغُرَمَاءُ الْمَيِّتَ عن دُيُونِهِمْ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَ مِلْكًا على التَّوَقُّفِ أَنَّ
سَبَبَ الْمِلْكِ انْعَقَدَ على التَّوَقُّفِ وهو الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ الْخَالِي
عن الشَّرْطِ مِمَّنْ هو من أَهْلِ الْبَيْعِ في مَحَلٍّ قَابِلٍ إلَّا أَنَّهُ لم
يَنْفُذْ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عن الْمَالِكِ وَلَا ضَرَرَ عليه في التَّوَقُّفِ
فَيَتَوَقَّفُ وإذا تَوَقَّفَ سَبَبُ الْمِلْكِ يَتَوَقَّفُ الْمِلْكُ
فَيَتَوَقَّفُ الْإِعْتَاقُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فإنه يَعْتَمِدُ شُرُوطًا أُخَرُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ مع قِيَامِ
الْمِلْكِ لِمَعْنَى الْغَرَرِ وفي تَوْقِيفِ نَفَاذِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ
تَحْقِيقُ مَعْنَى الْغَرَرِ
وَلَوْ أَوْدَعَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ فَهَلَكَ في يَدِ الْمُودَعِ يَتَخَيَّرُ
الْمَالِكُ في التَّضْمِينِ فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ
على أَحَدٍ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَوْدَعَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَإِنْ ضَمَّنَ
الْمُودَعَ يَرْجِعُ على الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ بِالْإِيدَاعِ فَيَرْجِعُ
عليه بِضَمَانِ الْغَرَرِ وهو ضَمَانُ الِالْتِزَامِ في الْحَقِيقَةِ
وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُودَعُ فَالْجَوَابُ على الْقَلْبِ من الْأَوَّلِ
أَنَّهُ إنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ فَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على
الْمُودِعِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَ مَالَهُ وَإِنْ ضَمَّنَ
الْمُودَعَ لم يَرْجِعْ على الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ ضَمَّنَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ فَلَا
يَرْجِعُ على أَحَدٍ
وَلَوْ آجَرَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ أو رَهَنَهُ من إنْسَانٍ فَهَلَكَ في يَدِهِ
يَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ لَا يَرْجِعُ على
الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ آجَرَ وَرَهَنَ
مِلْكَ نَفْسِهِ إلَّا أَنَّ في الرَّهْنِ يَسْقُطُ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ على ما
هو حُكْمُ هَلَاكِ الرَّهْنِ وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ أو الْمُرْتَهِنَ
يَرْجِعُ على الْغَاصِبِ بِمَا ضَمَّنَ وَالْمُرْتَهِنُ يَرْجِعُ بِدَيْنِهِ أَيْضًا
أَمَّا رُجُوعُ الْمُرْتَهِنِ بِالضَّمَانِ فَلَا شَكّ فيه لِصَيْرُورَتِهِ
مَغْرُورًا وَأَمَّا رُجُوعُ الْمُسْتَأْجِرِ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ اسْتَفَادَ
مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ لَكِنْ بِعِوَضٍ وهو الْأُجْرَةُ فَيَتَحَقَّقُ الْغُرُورُ
فَأَشْبَهَ الْمُودَعَ
وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُسْتَأْجِرُ أو الْمُرْتَهِنُ يَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ
إلَّا أَنَّهُ إنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ يَرْجِعُ على الْمُسْتَأْجِرِ
وَالْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ آجَرَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَرَهَنَ
مِلْكَ نَفْسِهِ فَاسْتَهْلَكَهُ الْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُرْتَهِنُ وَإِنْ ضَمَّنَ
الْمُسْتَأْجِرَ أو الْمُرْتَهِنَ لم يَرْجِعْ على أَحَدٍ لِأَنَّهُ ضَمَّنَ
بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أَعَارَهُ الْغَاصِبُ فَهَلَكَ في يَدِ الْمُسْتَعِيرِ يَتَخَيَّرُ
الْمَالِكُ وَأَيُّهُمَا ضَمَّنَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على صَاحِبِهِ
أَمَّا الْغَاصِبُ فَلَا شَكّ فيه لِأَنَّهُ أعاد ( ( ( أعار ) ) ) مِلْكَ
نَفْسِهِ فَهَلَكَ في يَدِ الْمُسْتَعِيرِ وَأَمَّا الْمُسْتَعِيرُ فَلِأَنَّهُ
اسْتَفَادَ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ فلم يَتَحَقَّقْ الْغُرُورُ وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا تَخْرُجُ مَنَافِعُ الْأَعْيَانِ الْمَنْقُولَةِ الْمَغْصُوبَةِ إنها
لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
مَضْمُونَةٌ نَحْوُ ما إذَا غَصَبَ عَبْدًا أو دَابَّةً فَأَمْسَكَهُ أَيَّامًا
ولم يَسْتَعْمِلْهُ ثُمَّ رَدَّهُ على مَالِكِهِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ تَفْوِيتُ
يَدِ الْمَالِكِ عن الْمَنَافِعِ لِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ تَحْدُثُ شيئا فَشَيْئًا
على حَسَبِ حُدُوثِ الزَّمَانِ فَالْمَنْفَعَةُ الْحَادِثَةُ على يَدِ الْغَاصِبِ
لم تَكُنْ مَوْجُودَةً في يَدِ الْمَالِكِ فلم يُوجَدْ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ
عنها فلم يُوجَدْ الْغَصْبُ وَعِنْدَهُ حَدُّ الْغَصْبِ إثْبَاتُ الْيَدِ على
مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ وقد وُجِدَ في الْمَنَافِعِ
وَالْمَنْفَعَةِ مَالٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عنها في
الْإِجَارَةِ وَتَصْلُحُ مَهْرًا في النِّكَاحِ فَتَحَقَّقَ الْغَصْبُ فيها
فَيَجِبُ الضَّمَانُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ دَارًا أو عَقَارًا فإنهدم شَيْءٌ من
____________________
(7/145)
الْبِنَاءِ
أو جاء سَيْلٌ فَذَهَبَ بِالْبِنَاءِ وَالْأَشْجَارِ أو غَلَبَ الْمَاءُ على
الْأَرْضِ فَبَقِيَتْ تَحْتَ الْمَاءِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عليه في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وهو
قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ يَضْمَنُ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ
وأما الشَّافِعِيُّ فَقَدْ مَرَّ على أَصْلِهِ في تَحْدِيدِ الْغَصْبِ أَنَّهُ
إثْبَاتُ الْيَدِ على مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ وَهَذَا يُوجَدُ
في الْعَقَارِ كما يُوجَدُ في الْمَنْقُولِ
وَأَمَّا مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَدْ مَرَّ على أَصْلِهِ في حَدِّ
الْغَصْبِ أَنَّهُ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عن مَالِهِ وَالْفِعْلُ في الْمَالِ
ليس بِشَرْطٍ وقد وُجِدَ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ عن الْعَقَارِ لِأَنَّ ذلك
عِبَارَةٌ عن إخْرَاجِ الْمَالِ من أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ في حَقِّ
الْمَالِكِ أو إعْجَازِ الْمَالِكِ عن الِانْتِفَاعِ بِهِ
وَهَذَا كما يُوجَدُ في الْمَنْقُولِ يُوجَدُ في الْعَقَارِ فَيَتَحَقَّقُ
الْغَصْبُ وَالدَّلِيلُ عليه مَسْأَلَةٌ ذَكَرْنَاهَا في الرُّجُوعِ عن
الشَّهَادَاتِ وَهِيَ إن من ادَّعَى على آخَرَ دَارًا فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عليه
فَأَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدَيْنِ وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ
رَجَعَا يَضْمَنَانِ كما لو كانت الدَّعْوَى في الْمَنْقُولِ فَقَدْ سَوَّى بين
الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ في ضَمَانِ الرُّجُوعِ فَدَلَّ أَنَّ الْغَصْبَ
الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ يَتَحَقَّقُ فِيهِمَا جميعا
وَأَمَّا أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوَسَّفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَمَرَّا على
أَصْلِهِمَا أَنَّ الْغَصْبَ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عن مَالِهِ بِفِعْلٍ في
الْمَالِ ولم يُوجَدْ في الْعَقَارِ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ هذا شَرْطُ تَحَقُّقِ الْغَصْبِ الِاسْتِدْلَال بِضَمَانِ
الْغَصْبِ فإن أَخْذَ الضَّمَانِ من الْغَاصِبِ تَفْوِيتُ يَدِهِ عنه بِفِعْلٍ في
الضَّمَانِ فَيَسْتَدْعِي وُجُودَ مِثْلِهِ منه في الْمَغْصُوبِ لِيَكُونَ
اعْتِدَاءً المثل ( ( ( بالمثل ) ) ) وَعَلَى أَنَّهُمَا إنْ سَلَّمَا تَحَقَّقَ
الْغَصْبُ في الْعَقَارِ فَالْأَصْلُ في الْغَصْبِ أَنْ لَا يَكُونَ سَبَبًا
لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لِأَنَّ أَخْذَ الضَّمَانِ من الْغَاصِبِ إتْلَافُ مَالِهِ
عليه
أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَزُولُ يَدُهُ وَمِلْكُهُ عن الضَّمَانِ فَيَسْتَدْعِي
وُجُودَ الْإِتْلَافِ منه إمَّا حَقِيقَةً أو تَقْدِيرًا لِأَنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ وَتُعَالَى لم يُشَرِّعْ الِاعْتِدَاءَ إلَّا بِالْمِثْلِ
قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عليه بِمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } ولم يُوجَدْ ههنا الْإِتْلَافُ من
الْغَاصِبِ لَا حَقِيقَةً وَلَا تَقْدِيرًا
أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَظَاهِرَةٌ وَأَمَّا التَّقْدِيرُ فَلِأَنَّ ذلك بالعقل ( (
( بالنقل ) ) ) وَالتَّحْوِيلِ وَالتَّغْيِيبِ عن الْمَالِكِ على وَجْهٍ لَا يَقِفُ
على مَكَانِهِ وَلِهَذَا لو حَبَسَ رَجُلًا حتى ضَاعَتْ مَوَاشِيهِ وَفَسَدَ
زَرْعُهُ لَا ضَمَانَ عليه وَالْعَقَارُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَالتَّحْوِيلَ
فلم يُوجَدْ الْإِتْلَافُ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَيَنْتَفِي الضَّمَانُ
لِضَرُورَةِ النَّصِّ
وَعَلَى هذا الِاخْتِلَافِ إذَا غَصَبَ عَقَارًا فَجَاءَ إنْسَانٌ فَأَتْلَفَهُ
فَالضَّمَانُ على الْمُتْلِفِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْغَصْبَ لَا يَتَحَقَّقُ في
الْعَقَارِ فَيُعْتَبَرُ الْإِتْلَافُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ
فيه فَيَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْغَاصِبِ فَالْغَاصِبُ
يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على الْمُتْلِفِ وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُتْلِفِ لَا
يَرْجِعُ على أَحَدٍ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الرُّجُوعِ عن الشَّهَادَةِ فَمِنْ أَصْحَابِنَا من مَنَعَهَا
وقال إنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ بَنَى الْجَوَابَ على أَصْلِ نَفْسِهِ
فَأَمَّا على قَوْلِهِمَا فَلَا يَضْمَنَانِ وَمِنْهُمْ من سَلَّمَ وَلَا بَأْسَ
بِالتَّسْلِيمِ لِأَنَّ ضَمَانَ الرُّجُوعِ ضَمَانُ إتْلَافٍ لَا ضَمَانُ غَصْبٍ
وَالْعَقَارُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ بِلَا خِلَافٍ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ صَبِيًّا حُرًّا من أَهْلِهِ فَمَاتَ في
يَدِهِ من غَيْرِ آفَةٍ أَصَابَتْهُ بِأَنْ مَرِضَ في يَدِهِ فَمَاتَ أَنَّهُ لَا
يَضْمَنُ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَغْصُوبِ مَالًا شَرْطُ تَحَقُّقِ الْغَصْبِ
وَالْحُرُّ ليس بِمَالٍ
وَلَوْ مَاتَ في يَدِهِ بِآفَةٍ بِأَنْ عَقَرَهُ أَسَدٌ أو نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ
وَنَحْوُ ذلك يَضْمَنُ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ منه تَسْبِيبًا وَالْحُرُّ يَضْمَنُ
بِالْإِتْلَافِ مُبَاشَرَةً وَتَسْبِيبًا على ما نَذْكُرهُ في مَسَائِلِ
الْإِتْلَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَهَلَكَ في يَدِهِ يَضْمَنُ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ مَالٌ
مُتَقَوِّمٌ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ جَوَازُ بَيْعِهِ إذَا كان مُدَبَّرًا
مُطْلَقًا مع كَوْنِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا لِانْعِقَادِ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ
لِلْحَالِ وفي الْبَيْعِ إبْطَالُ السَّبَبِ على ما عُرِفَ وَكَذَلِكَ لو غَصَبَ
مُكَاتَبًا فَهَلَكَ في يَدِهِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ على
لِسَانِ رسول اللَّهِ فَكَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ
بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَكَانَ مَضْمُونًا
بِالْغَصْبِ كَالْمُكَاتَبِ وَعَلَى أَصْلِهِمَا هو حُرٌّ عليه دَيْنُ وَالْحُرُّ
لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ
وَلَوْ غَصَبَ أُمَّ وَلَدٍ إنْسَانٌ فَهَلَكَتْ عنده ( ( ( عندهم ) ) ) لم
يَضْمَنْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ وَأُمُّ
الْوَلَدِ لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَلَا بِالْقَبْضِ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ
وَلَا بِالْإِعْتَاقِ كَجَارِيَةٍ بَيْن رَجُلَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ
فَادَّعَيَاهُ جميعا ثُمَّ أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا لَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ شيئا
وَلَا تَسْعَى هِيَ في شَيْءٍ أَيْضًا عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ في ذلك
كُلِّهِ كَالْمُدَبَّرِ
وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ هل هِيَ مُتَقَوِّمَةٌ من حَيْثُ
إنَّهَا مَالٌ أَمْ لَا وَلَا خِلَافَ أنها مُتَقَوِّمَةٌ بِالْقَتْلِ وَلَا
خِلَافَ في أَنَّ الْمُدَبَّرَ مُتَقَوِّمٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أنه ( ( ( أنها ) ) ) كانت مَالًا مُتَقَوِّمًا
وَالِاسْتِيلَادُ لَا يُوجِبُ الْمَالِيَّةَ وَالتَّقَوُّمَ لِأَنَّهُ
____________________
(7/146)
لَا
يَثْبُتُ بِهِ إلَّا حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فإنه لَا يُبْطِلُ الْمَالِيَّةَ
وَالتَّقَوُّمَ كما في الْمُدَبَّرِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الِاسْتِيلَادَ إعْتَاقٌ لِمَا
رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال في جَارِيَتِهِ
مَارِيَةَ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْعِتْقِ
لِلْحَالِ في جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا أَنَّهُ تَأَخَّرَ في حَقِّ بَعْضِ
الْأَحْكَامِ فَمَنْ ادَّعَى التَّأَخُّرَ في حَقِّ سُقُوطِ الْمَالِيَّةِ
وَالتَّقَوُّمِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّ
التَّدْبِيرَ ليس بِإِعْتَاقٍ لِلْحَالِ على مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ
الْعِتْقُ لِلْحَالِ أَصْلًا وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ لِلْحَالِ مُبَاشَرَةُ
سَبَبِ الْعِتْقِ من غَيْرِ عِتْقٍ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْمَالِيَّةِ
وَالتَّقْوِيمِ وَيَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ لِمَا قُلْنَا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ لِذِمِّيٍّ أو لِمُسْلِمٍ
فَهَلَكَ في يَدِهِ أو اسْتَهْلَكَهُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ لَيْسَا بِمَالٍ في الْأَدْيَانِ كُلِّهَا
وَلَوْ دَبَغَهُ الْغَاصِبُ وَصَارَ مَالًا فَحُكْمُهُ نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ خَمْرًا لِمُسْلِمٍ أو خِنْزِيرًا له
فَهَلَكَ في يَدِهِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ سَوَاءٌ كان الْغَاصِبُ مُسْلِمًا أو
ذِمِّيًّا لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ في حَقِّ الْمُسْلِمِ
وَكَذَا الْخِنْزِيرُ فَلَا يَضْمَنَانِ بِالْغَصْبِ وَلَوْ غَصَبَ خَمْرًا أو
خِنْزِيرًا لِذِمِّيٍّ فَهَلَكَ في يَدِهِ يَضْمَنُ سَوَاءٌ كان الْغَاصِبُ
ذِمِّيًّا أو مُسْلِمًا غير أَنَّ الْغَاصِبَ إنْ كان ذِمِّيًّا فَعَلَيْهِ في
الْخَمْرِ مِثْلُهَا وفي الْخِنْزِيرِ قِيمَتُهُ وَإِنْ كان مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ
الْقِيمَةُ فِيهِمَا جميعا
وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا ضَمَانَ على غَاصِبِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ كَائِنًا من
كان
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ثَابِتَةٌ في حَقِّ
الناس كَافَّةً لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في صِفَةِ الْخُمُورِ إنه {
رِجْسٌ من عَمَلِ الشَّيْطَانِ } وَصِفَةُ الْمَحَلِّ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ
الشَّخْصِ
وَقَوْلُهُ عليه السلام حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لَعَيْنِهَا أَخْبَرَ عليه السلام
كَوْنَهَا مُحَرَّمَةً وَجَعَلَ عِلَّةَ حُرْمَتِهَا عَيْنَهَا فَتَدُورُ
الْحُرْمَةُ مع الْعَيْنِ
وإذا كانت مُحَرَّمَةً لَا تَكُونُ مَالًا لِأَنَّ الْمَالَ ما يَكُونُ
مُنْتَفَعًا بِهِ حَقِيقَةً مُبَاحَ الِانْتِفَاعِ بِهِ شَرْعًا على الْإِطْلَاقِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عنه أَنَّهُ قال في الحديث الْمَعْرُوفِ فَأَعْلِمُوهُمْ أَنَّ
لهم ما لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ ما على الْمُسْلِمِينَ وَلِلْمُسْلِمِ
الضَّمَانُ إذَا غُصِبَ منه خَلُّهُ وَشَاتُه وَنَحْوُ ذلك إذَا هَلَكَ في يَدِ
الْغَاصِبِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِلذِّمِّيِّ الضَّمَانُ إذَا غُصِبَ منه
خَمْرُهُ أو خِنْزِيرُهُ لِيَكُونَ لهم ما لِلْمُسْلِمِينَ عَمَلًا بِظَاهِرِ
الحديث
وَأَمَّا الْكَلَامُ في الْمَسْأَلَةِ من حَيْثُ الْمَعْنَى فَبَعْضُ مَشَايِخِنَا
قالوا الْخَمْرُ مُبَاحٌ في حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَكَذَا الْخِنْزِيرُ
فَالْخَمْرُ في حَقِّهِمْ كَالْخَلِّ في حَقِّنَا وَالْخِنْزِيرُ في حَقِّهِمْ
كَالشَّاةِ في حَقِّنَا في حَقِّ الْإِبَاحَةِ شَرْعًا فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مَالًا مُتَقَوِّمًا في حَقِّهِمْ
وَدَلِيلُ الْإِبَاحَةِ في حَقِّهِمْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منهم مُنْتَفَعٌ بِهِ
حَقِيقَةً لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِإِقَامَةِ مَصْلَحَةِ الْبَقَاءِ وَالْأَصْلُ في
أَسْبَابِ الْبَقَاءِ هو الْإِطْلَاقُ إلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ في حَقِّ
الْمُسْلِمِ تَثْبُتُ نَصًّا غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى أو مَعْقُول الْمَعْنَى
لِمَعْنًى لَا يُوجَدُ ههنا أو يُوجَدُ لَكِنَّهُ يَقْتَضِي الْحِلَّ لَا
الْحُرْمَةَ وهو قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ
بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ في الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ
عن ذِكْر اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } لِأَنَّ
الصَّدَّ لَا يُوجَدُ في الْكَفَرَةِ وَالْعَدَاوَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَاجِبُ
الْوُقُوعِ وَلِأَنَّهَا سَبَبُ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُنَازَعَةُ سَبَبُ
الْهَلَاكِ
وَهَذَا يُوجِبُ الْحِلَّ لَا الْحُرْمَةَ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ في
حَقِّهِمْ وَبَعْضُهُمْ قالوا إنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ في حَقِّهِمْ كما هِيَ
ثَابِتَةٌ في حَقِّ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ
هِيَ حُرُمَاتٌ عِنْدَنَا وهو الصَّحِيحُ من الْأَقْوَالِ على ما عُرِفَ في
أُصُولِ الْفِقْهِ
وَعَلَى هذا طَرِيقُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَمْرَ
وَإِنْ لم يَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا في الْحَالِ فَهِيَ بِعَرَضِ أَنْ تَصِيرَ
مَالًا مُتَقَوِّمًا في الثَّانِي بِالتَّخَلُّلِ وَالتَّخْلِيلُ وَوُجُوبُ
ضَمَانِ الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ يَعْتَمِدُ كَوْنَ الْمَحَلِّ الْمَغْصُوبِ
وَالْمُتْلَفِ مَالًا مُتَقَوِّمًا في الْجُمْلَةِ وَلَا يَقِفُ على ذلك لِلْحَالِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُهْرَ وَالْجَحْشَ وما لَا مَنْفَعَةَ له في الْحَالِ
مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ
وَالثَّانِي أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعْنَا عن التَّعَرُّضِ لهم بِالْمَنْعِ عن شُرْبِ
الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ لِمَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ كَرَّمَ
اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قال أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وما يَدِينُونَ
وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ
وقد دَانُوا شُرْبَ الْخَمْرِ وَأَكْلَ الْخِنْزِيرِ فَلَزِمَنَا تَرْكُ
التَّعَرُّضِ لهم في ذلك وَبَقِيَ الضَّمَانُ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافُ يُفْضِي
إلَى التَّعَرُّضِ لِأَنَّ السَّفِيهَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ إذَا غَصَبَ أو
أَتْلَفَ لَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ يُقْدِمُ على ذلك وفي ذلك مَنْعُهُمْ
وَتَعَرُّضٌ لهم من حَيْثُ الْمَعْنَى
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ كان لِمُسْلِمٍ خَمْرٌ غَصَبَهَا ذِمِّيٌّ أو مُسْلِمٌ فَهَلَكَتْ عِنْدَ
الْغَاصِبِ أو خَلَّلَهَا فَلَا ضَمَانَ عليه وَلَوْ اسْتَهْلَكَهَا يَضْمَنُ
خَلًّا مِثْلَهَا لِأَنَّ الْغَصْبَ حين وُجُودِهِ لم يَنْعَقِدْ سَبَبًا
لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ولم يُوجَدْ من الْغَاصِبِ صُنْعٌ آخَرُ لِأَنَّ الْهَلَاكَ
ليس من صُنْعِهِ فَلَا يَضْمَنُ وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ فَقَدْ وُجِدَ منه
____________________
(7/147)
صُنْعٌ
آخَرُ سِوَى الْغَصْبِ وهو إتْلَافُ خَلٍّ مَمْلُوكٍ لِلْمَغْصُوبِ منه فَيَضْمَنُ
وَلَوْ غَصَبَ مُسْلِمٌ من نَصْرَانِيٍّ صَلِيبًا له فَهَلَكَ في يَدِهِ يَضْمَنُ
قِيمَتَهُ صَلِيبًا لِأَنَّهُ مُقِرٌّ على ذلك
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا اسْتَخْدَمَ عبد رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أو
بَعَثَهُ في حَاجَةٍ أو قَادَ دَابَّةً له أو سَاقَهَا أو رَكِبَهَا أو حَمَلَ
عليها بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا إنه ضَامِنٌ بِذَلِكَ سَوَاءٌ عَطِبَ في تِلْكَ الْخِدْمَةِ
أو في مُضِيِّهِ في حَاجَتِهِ أو مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ
كانت ثَابِتَةً عليه وإذا أَثْبَتَ يَدَ التَّصَرُّفِ عليه فَقَدْ فَوَّتَ يَدَ
الْمَالِكِ فَيَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ
وَلَوْ دخل دَارَ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَيْسَ في الدَّارِ أَحَدٌ فَهَلَكَ
في يَدِهِ لم يَضْمَنْ في قَوْلِهِمَا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَوْ جَلَسَ على فِرَاشِ غَيْرِهِ أو بِسَاطِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ
فَهَلَكَ لَا يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ تَفْوِيتَ يَدِ الْمَالِكِ فِيمَا
يَحْتَمِلُ النَّقْلَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ النَّقْلِ فلم يَتَحَقَّقْ الْغَصْبُ
فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْغَصْبِ فَلَهُ في الْأَصْلِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا
يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ وَالثَّانِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ فَهُوَ الْإِثْمُ وَاسْتِحْقَاقُ
الْمُؤَاخَذَةِ إذَا فَعَلَهُ عن عِلْمٍ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَارْتِكَابُ
الْمَعْصِيَةِ على سَبِيلِ التَّعَمُّدِ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُؤَاخَذَةِ
وقد رُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال من غَصَبَ شِبْرًا من
أَرْضٍ طَوَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى من سَبْعِ أَرَضِينَ يوم الْقِيَامَةِ وَإِنْ
فَعَلَهُ لَا عن عِلْمٍ بِأَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مِلْكَهُ فَلَا مُؤَاخَذَةَ عليه
لِأَنَّ الْخَطَأَ مَرْفُوعُ الْمُؤَاخَذَةِ شَرْعًا بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيّ
بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا
أو أَخْطَأْنَا وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رُفِعَ عن أُمَّتِي
الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وما اُسْتُكْرِهُوا عليه
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
حَالَ قِيَامِ الْمَغْصُوبِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالِ هَلَاكِهِ
وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالِ نُقْصَانِهِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالِ
زِيَادَتِهِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى حَالِ قِيَامِهِ فَهُوَ وُجُوبُ رَدِّ الْمَغْصُوبِ على
الْغَاصِبِ وَالْكَلَامُ في هذا الْحُكْمِ في ثَلَاثَةِ مَوَاضِع في بَيَانِ
سَبَبِ وُجُوبِ الرَّدِّ وفي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ ما يَصِيرُ
الْمَالِكُ بِهِ مُسْتَرِدًّا
أَمَّا السَّبَبُ فَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِقَوْلِهِ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ على الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تَرُدَّ وَقَوْلِهِ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَأْخُذُ أحدكم مَالَ صَاحِبِهِ لَاعِبًا وَلَا
جَادًّا فإذا أَخَذَ أحدكم عَصَا صَاحِبِهِ فَلْيَرُدَّ عليه وَلِأَنَّ الْأَخْذَ
على هذا الْوَجْهِ مَعْصِيَةٌ وَالرَّدْعُ عن الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ وَذَلِكَ
بِرَدِّ الْمَأْخُوذِ وَيَجِبُ رَدُّ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ كما يَجِبُ
رَدُّ الْأَصْلِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الرَّدِّ فيه وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ على
الْغَاصِبِ لِأَنَّهَا من ضَرُورَاتِ الرَّدِّ فإذا وَجَبَ عليه الرَّدُّ وَجَبَ
عليه ما هو من ضَرُورَاتِهِ كما في رَدِّ الْعَارِيَّةِ
وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِ الرَّدِّ فَقِيَامُ الْمَغْصُوبِ في يَدِ الْغَاصِبِ حتى
لو هَلَكَ في يَدِهِ أو اُسْتُهْلِكَ صُورَةً وَمَعْنًى أو مَعْنًى لَا صُورَةً
يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ من الرَّدِّ إلَى الضَّمَانِ لِأَنَّ الْهَالِكَ لَا
يَحْتَمِلُ الرَّدَّ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا كان الْمَغْصُوبُ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا الْغَاصِبُ
أو نَوَاةً فَغَرَسَهَا حتى صَارَتْ شَجَرَةً أو بَيْضَةً فَحَضَنَهَا حتى صَارَتْ
دَجَاجَةً أو قُطْنًا فَغَزَلَهُ أو غَزْلًا فَنَسَجَهُ أو ثَوْبًا فَقَطَّعَهُ أو
خَاطَهُ قَمِيصًا أو لَحْمًا فَشَوَاهُ أو طَبَخَهُ أو شَاةً فَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا
أو طَبَخَهَا أو حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أو دَقِيقًا فَخَبَزَهُ أو سِمْسِمًا
فَعَصَرَهُ أو عِنَبًا فَعَصَرَهُ أو حَدِيدًا فَضَرَبَهُ سَيْفًا أو سِكِّينًا أو
صُفْرًا أو نُحَاسًا فَعَمِلَهُ آنِيَةً أو تُرَابًا له قِيمَةٌ فَلَبِنَهُ أو
اتَّخَذَهُ خَزَفًا أو لَبَنًا فَطَبَخَهُ آجِرًا وَنَحْوَ ذلك أَنَّهُ ليس
لِلْمَالِكِ أَنْ يَسْتَرِدَّ شيئا من ذلك عِنْدَنَا وَيَزُولُ مِلْكُهُ بِضَمَانِ
الْمِثْلِ أو الْقِيمَةِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ له وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ وَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ ذَاتَ الْمَغْصُوبِ وَعَيْنَهُ قَائِمٌ بَعْدَ فِعْلِ
الْغَاصِبِ وَإِنَّمَا فَاتَ بَعْضُ صِفَاتِهِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ
الِاسْتِرْدَادِ كما إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَّعَهُ ولم يَخِطْهُ أو صِبْغَهُ
أَحْمَرَ أو أَصْفَرَ لِأَنَّ الْمِلْكَ في الْمَغْصُوبِ كان ثَابِتًا لِلْمَالِكِ
وَالْعَارِضُ وهو فِعْلُ الْغَاصِبِ مَحْظُورٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ
الْمِلْكِ له فَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ فَيَبْقَى الْمَغْصُوبُ على مِلْكِ
الْمَالِكِ فَتَبْقَى له وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ
وَلَنَا أَنَّ فِعْلَ الْغَاصِبِ في هذه الْمَوَاضِعِ وَقَعَ اسْتِهْلَاكًا
لِلْمَغْصُوبِ
إمَّا صُورَةً وَمَعْنًى أو مَعْنًى لَا صُورَةً فَيَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ عنه
وَتَبْطُلُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ
كما إذَا اسْتَهْلَكَهُ حَقِيقَةً وَدَلَالَةُ تَحَقُّقِ الِاسْتِهْلَاكِ أَنَّ
الْمَغْصُوبَ قد تَبَدَّلَ وَصَارَ شيئا آخَرَ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى
وَإِيجَادِهِ لِأَنَّهُ لم تَبْقَ صُورَتُهُ وَلَا مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعُ له في
بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَلَا اسْمُهُ وَقِيَامُ الْأَعْيَانِ بِقِيَامِ صُوَرِهَا
____________________
(7/148)
وَمَعَانِيهَا
الْمَطْلُوبَةِ منها وفي بَعْضِهَا إنْ بَقِيَتْ الصُّورَةُ فَقَدْ فَاتَ
مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعُ له الْمَطْلُوبُ منه عَادَةً فَكَانَ فِعْلُهُ
اسْتِهْلَاكًا لِلْمَغْصُوبِ صُورَةً وَمَعْنًى أو مَعْنًى فَيَبْطُلُ حَقُّ
الِاسْتِرْدَادِ إذْ الْهَالِكُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ كَالْهَالِكِ
الْحَقِيقِيِّ وَلِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ الِاسْتِهْلَاكُ يَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ
لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَبْقَى في الْهَالِكِ كما في الْهَالِكِ الْحَقِيقِيِّ
فَتَنْقَطِعُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ ضَرُورَةً وَلِأَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ يُوجِبُ
ضَمَانَ الْمِثْلِ أو الْقِيمَةَ لِلْمَالِكِ لِوُقُوعِهِ اعْتِدَاءً عليه أو
إضْرَارًا بِهِ وَهَذَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ عن الْمَغْصُوبِ لِمَا
نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وإذا زَالَ مِلْكُ الْمَالِكِ بِالضَّمَانِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْغَاصِبِ في
الْمَضْمُونِ لِوُجُودِ سَبَبِ الثُّبُوتِ في مَحَلٍّ قَابِلٍ وهو إثْبَاتُ
الْمِلْكِ على مَالٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ فِعْلَهُ
الذي هو سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ مُبَاحٌ لَا حَظَرَ فيه فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ
الْمِلْكُ بِهِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ لَبَنًا أو آجِرًا أو سَاجَةً فَأَدْخَلَهَا
في بِنَائِهِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ عِنْدَنَا وَتَصِيرُ مِلْكًا
لِلْغَاصِبِ بِالْقِيمَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهُوَ على
أَصْلِهِ الْمَعْهُودِ في جِنْسِ هذه الْمَسَائِلِ أَنَّ فِعْلَ الْغَاصِبِ
مَحْظُورٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِكَوْنِ الْمِلْكِ
نِعْمَةً وَكَرَامَةً فَالْتَحَقَ فِعْلُهُ بِالْعَدَمِ شَرْعًا فَبَقِيَ مِلْكُ
الْمَغْصُوبِ منه كما كان
وَلَنَا أَنَّ الْمَغْصُوبَ بِالْإِدْخَالِ في الْبِنَاءِ وَالتَّرْكِيبِ صَارَ
شيئا آخَرَ غير الْأَوَّلِ لِاخْتِلَافِ الْمَنْفَعَةِ إذْ الْمَطْلُوبُ من
الْمُرَكَّبِ غَيْرُ الْمَطْلُوبِ من الْمُفْرَدِ فَصَارَ بها تَبَعًا له فَكَانَ
الْإِدْخَالُ إهْلَاكًا مَعْنًى فَيُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ منه
وَيَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ وَلِأَنَّ الْغَاصِبَ يَتَضَرَّرُ بِنَقْضِ
الْبِنَاءِ وَالْمَالِكُ وَإِنْ كان يَتَضَرَّرُ بِزَوَالِ مِلْكِهِ أَيْضًا
لَكِنْ ضَرَرَهُ دُونَ ضَرَرِ الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَكَانَ
ضَرَرُ الْغَاصِبِ أَعْلَى فَكَانَ أَوْلَى بِالدَّفْعِ
وَلِهَذَا لو غَصَبَ من آخَرَ خَيْطًا فَخَاطَ بِهِ بَطْنَ نَفْسِهِ أو دَابَّتِهِ
يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ كَذَا هذا
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَوْضُوعَ مَسْأَلَةِ السَّاجَةِ ما
إذَا بَنَى الْغَاصِبُ في حَوَالِي السَّاجَةِ لَا على السَّاجَةِ فَأَمَّا إذَا
بَنَى على نَفْسِ السَّاجَةِ لَا يَبْطُلُ مِلْكُ الْمَالِكِ بَلْ يُنْقَضُ وهو
اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرِ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ
الْبِنَاءَ إذَا لم يَكُنْ على نَفْسِ السَّاجَةِ لم يَكُنْ الْغَاصِبُ
مُتَعَدِّيًا بِالْبِنَاءِ لِيُنْقَضَ إزَالَةً لِلتَّعَدِّي وإذا كان الْبِنَاءُ
عليها كان مُتَعَدِّيًا على السَّاجَةِ فَيُزَالُ تَعَدِّيهِ بِالنَّقْضِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَوَابَ في الْمَوْضِعَيْنِ وَالْخِلَافُ في الْفَصْلَيْنِ
ثَابِتٌ لِأَنَّهُ كيفما كان لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ السَّاجَةِ إلَّا بِنَقْضِ
الْبِنَاءِ وَلُزُومِ ضَرَرٍ مُعْتَبَرٍ
هذا مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ حتى لو كان يُمْكِنُهُ الرَّدُّ بِدُونِ ذلك لَا
يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ بِالِاتِّفَاقِ بَلْ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ
وَلَوْ بِيعَتْ الدَّارُ في حَيَاةِ الْغَاصِبِ أو بَعْدَ وَفَاتِهِ كان صَاحِبُ
هذه الْأَشْيَاءِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ في الثَّمَن فَلَا يَكُونُ أَخَصَّ
بِشَيْءٍ من ذلك لِأَنَّ مِلْكَهُ قد زَالَ عن الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ فَبَطَلَ
اخْتِصَاصُهُ بِالْعَيْنِ
وَكَذَلِكَ لو غَصَبَ خُوصًا فَجَعَلَهُ زِنْبِيلًا لَا سَبِيلَ لِلْمَغْصُوبِ منه
عليه وهو بِمَنْزِلَةِ السَّاجَةِ إذَا جَعَلَهَا بِنَاءً
وَلَوْ غَصَبَ نَخْلَةً فَشَقَّهَا فَجَعَلَهَا جُذُوعًا كان له أَنْ يَأْخُذَ
الْجُذُوعَ لِأَنَّ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ قَائِمَةٌ وَإِنَّمَا فَرَّقَ
الْأَجْزَاءَ فَأَشْبَهَ الثَّوْبَ إذَا قَطَعَهُ ولم يَخِطْهُ
وَلَوْ غَصَبَ أَرْضًا فَبَنَى عليها أو غَرْسَ فيها لَا يَنْقَطِعُ مِلْكُ
الْمَالِكِ وَيُقَالُ لِلْغَاصِبِ اقلع الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ وَرُدَّهَا
فَارِغَةً لِأَنَّ الْأَرْضَ بِحَالِهَا لم تَتَغَيَّرْ ولم تَصِرْ شيئا آخَرَ
أَلَا تَرَى أنها لم تَتَرَكَّبْ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا جَاوَرَهَا الْبِنَاءُ
وَالْغَرْسُ بِخِلَافِ السَّاجَةِ لِأَنَّهَا رُكِّبَتْ وَصَارَتْ من جُمْلَةِ
الْبِنَاءِ
أَلَا يَرَى أَنَّهُ يسمى الْكُلَّ بِنَاءً وَاحِدًا فَإِنْ كانت الْأَرْضُ
تَنْقُصُ بِقَلْعِ ذلك فَلِلْمَالِكِ أَنْ يَضْمَنَ له قِيمَةَ الْبِنَاءِ
وَالْغَرْسِ مَقْلُوعًا وَيَكُونُ له الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ لِأَنَّ الْغَاصِبَ
يَتَضَرَّرُ بِالْمَنْعِ من التَّصَرُّفِ في مِلْكِ نَفْسِهِ بِالْقَلْعِ
وَالْمَالِكُ أَيْضًا يَتَضَرَّرُ بِنُقْصَانِ مِلْكِهِ فَلَزِمَ رِعَايَةَ
الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا
وَلَوْ غَصَبَ تِبْرَ ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ فَصَاغَهُ إنَاءً أو ضَرَبَهُ دَرَاهِمَ
أو دَنَانِيرَ فَلِلْمَغْصُوبِ منه أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا يُعْطِيَهُ شيئا
لِأَجْلِ الصِّيَاغَةِ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وفي قَوْلِهِمَا
لَا سَبِيلَ له على ذلك وَعَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُ ما غَصَبَ
وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ إذَا سَبَكَهُ ولم يَصُغْهُ أو جَعَلَهُ مُرَبَّعًا أو
مُطَوَّلًا أو مُدَوَّرًا أَنَّ له أَنْ يَسْتَرِدَّهُ وَلَا شَيْءَ عليه
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ صُنْعَ الْغَاصِبِ وَقَعَ اسْتِهْلَاكًا لِأَنَّ
الْمَغْصُوبَ بِالصِّيَاغَةِ صَارَ شيئا آخَرَ فَأَشْبَهَ ما إذَا غَصَبَ حَدِيدًا
فَاتَّخَذَهُ سَيْفًا أو سِكِّينًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اسْتِهْلَاكَ الشَّيْءِ إخْرَاجُهُ من أَنْ يَكُونَ
مُنْتَفَعًا بِهِ مَنْفَعَةً مَوْضُوعَةً له مَطْلُوبَةً منه عَادَةً ولم يُوجَدْ
ههنا لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ من الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الثمينة ( ( ( الثمنية ) ) )
وَهِيَ بَاقِيَةٌ بعدما اسْتَحْدَثَ الصَّنْعَةَ فلم يَتَحَقَّقْ الِاسْتِهْلَاكُ
فَبَقِيَ على مِلْكِ الْمَغْصُوبِ منه
وَلَوْ غَصَبَ صُفْرًا أو نُحَاسًا أو حَدِيدًا فَضَرَبَهُ آنِيَةً يُنْظَرُ
____________________
(7/149)
إنْ
كان يُبَاعُ وَزْنًا فَهُوَ على الْخِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
لِأَنَّهُ لم يَخْرُجْ بِالضَّرْبِ وَالصِّنَاعَةِ عن حَدِّ الْوَزْنِ وَإِنْ كان
يُبَاعُ عَدَدًا ليس له أَنْ يَسْتَرِدَّهُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ خَرَجَ عن
كَوْنِهِ مَوْزُونًا بِخِلَافِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَنَّ الْوَزْنَ فِيهِمَا
أَصْلٌ لَا يُتَصَوَّرُ سُقُوطُهُ أَبَدًا
وَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَّعَهُ ولم يَخِطْهُ أو شَاةً فَذَبَحَهَا ولم
يَشْوِهَا وَلَا طَبَخَهَا لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ إذْ الذَّبْحُ ليس
بِاسْتِهْلَاكٍ بَلْ هو تَنْقِيصٌ وَتَعْيِيبٌ فَلَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ
بَلْ يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلْمَالِكِ على ما نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَصِيرُ الْمَالِكُ بِهِ مُسْتَرِدًّا لِلْمَغْصُوبِ
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْأَصْلُ أَنَّ الْمَالِكَ يَصِيرُ
مُسْتَرِدًّا لِلْمَغْصُوبِ بِإِثْبَاتِ يَدِهِ عليه لِأَنَّهُ صَارَ مَغْصُوبًا
بِتَفْوِيتِ يَدِهِ عنه فإذا أَثْبَتَ يَدَهُ عليه فَقَدْ أَعَادَهُ إلَى يَدِهِ
فَزَالَتْ يَدُ الْغَاصِبِ ضَرُورَةً إلَّا أَنْ يَغْصِبَهُ ثَانِيًا
وَعَلَى هذا تَخْرُجُ الْمَسَائِلُ إذَا كان الْمَغْصُوبُ عَبْدًا فَاسْتَخْدَمَهُ
أو ثَوْبًا فَلَبِسَهُ أو دَابَّةً فَرَكِبَهَا أو حَمَلَ عليها صَارَ
مُسْتَرِدًّا له وَيَبْرَأُ الْغَاصِبُ من الضَّمَانِ لِمَا قُلْنَا سَوَاءٌ
عَلِمَ الْمَالِكُ أَنَّهُ مِلْكُهُ أو لم يَعْلَمْ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْيَدِ على
الْعَيْنِ أَمْرٌ حِسِّيٌّ لَا يَخْتَلِفُ بِالْعِلْمِ أو الْجَهْلِ وَلِهَذَا لم
يَكُنْ الْعِلْمُ شَرْطًا لِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا
لِبُطْلَانِهِ وَكَذَلِكَ لو كان طَعَامًا فَأَكَلَهُ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ يَدَهُ
عليه فَبَطَلَتْ يَدُ الْغَاصِبِ وَكَذَا إذَا أَطْعَمَهُ الْغَاصِبُ يَبْرَأُ عن
الضَّمَانِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَبْرَأُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ غَرَّهُ في ذلك حَيْثُ أَطْعَمَهُ ولم يُعْلِمْهُ أَنَّهُ
مِلْكُهُ فَلَا يَسْقُطُ عنه الضَّمَانُ
وَلَنَا أَنَّهُ أَكْلَ طَعَامَ نَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الضَّمَانَ على
غَيْرِهِ كما لو كان في يَدِ الْغَاصِبِ فَاسْتَهْلَكَهُ
وَقَوْلُهُ غَرَّهُ الْغَاصِبُ مَمْنُوعٌ بَلْ هو الذي اغْتَرَّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ
تَنَاوَلَ من غَيْرِ بَحْثٍ أَنَّهُ مِلْكُهُ أو مِلْكُ الْغَاصِبِ وَالْمُغْتَرُّ
بِنَفْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الضَّمَانَ على غَيْرِهِ
وَلَوْ كان الْمَغْصُوبُ عَبْدًا فَآجَرَهُ من الْغَاصِبِ لِلْخِدْمَةِ أو ثَوْبًا
فَآجَرَهُ منه لِلُبْسِ أو دَابَّةً لِلرُّكُوبِ وَقَبِلَ الْغَاصِبُ الْإِجَارَةَ
برىء عن الضَّمَانِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ إذَا صَحَّتْ صَارَتْ يَدُ الْغَاصِبِ
على الْمَحَلِّ يَدَ إجَارَةٍ وَأَنَّهَا يَدٌ مُحِقَّةٌ فَتَبْطُل يَدُ الْغَصْبِ
ضَرُورَةً فَيَبْرَأُ عن الضَّمَانِ حين وَجَبَتْ عليه الْإِجَارَةُ
بِالْإِجَارَةِ
وَقَالُوا في الْغَاصِبِ إذَا آجَرَ الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ من مَوْلَاهُ
لِيَبْنِيَ له حَائِطًا مَعْلُومًا إنه يَسْقُطُ ضَمَانُ الْغَصْبِ حين يبتدىء
بِالْبِنَاءِ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ عن الضَّمَانِ في الْمَوْضِعَيْنِ جميعا
مُتَعَلِّقَةٌ بِوُجُوبِ الْأُجْرَةِ وَالْأُجْرَةُ في اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ
وَالثَّوْبِ تَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ وهو التَّخْلِيَةُ وَهَهُنَا تَجِبُ
بِالْعَمَلِ لَا بِنَفْسِ التَّخْلِيَةِ
لِذَلِكَ افْتَرَقَا
وَلَوْ زَوَّجَ الْأَمَةَ الْمَغْصُوبَةَ من الْغَاصِبِ لَا يَبْرَأُ عن
الضَّمَانِ في قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ يَبْرَأُ بِنَاءً على أَنَّ الْمُشْتَرِي هل يَصِيرُ قَابِضًا
بِالتَّزْوِيجِ أَمْ لَا وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ الْبُيُوعِ في
بَيَانِ حُكْمِ الْبَيْعِ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْغَاصِبُ لِتَعْلِيمِ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ عَمَلًا من الْأَعْمَالِ
فَهُوَ جَائِزٌ لَكِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَرِدًّا لِلْعَبْدِ وَلَا يَبْرَأُ
الْغَاصِبُ عن الضَّمَانِ بَلْ هو في يَدِ الْغَاصِبِ على ضَمَانِهِ حتى لو هَلَكَ
قبل أَنْ يَأْخُذَ في ذلك الْعَمَلِ أو بَعْدَهُ ضَمِنَ
وَكَذَلِكَ لو اسْتَأْجِرْهُ لِغَسْلِ الثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ لِأَنَّ
الْإِجَارَةَ ههنا ما وَقَعَتْ على الْمَغْصُوبِ فلم تَثْبُتْ يَدُ الْإِجَارَةِ
عليه لِتَبْطُلَ عنه يَدُ الْغَاصِبِ فَبَقِيَ في يَدِ الْغَصْبِ كما كان فَبَقِيَ
مَضْمُونًا كما كان بِخِلَافِ اسْتِئْجَارِ الْمَغْصُوبِ على ما بَيَّنَّا
وإذا رَدَّ الْغَاصِبُ الثَّانِي الْمَغْصُوبَ على الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ برىء
لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ الْمَالِكِ من وَجْهٍ فَيَصِحُّ الرَّدُّ عليه وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ هَلَاكِ الْمَغْصُوبِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا
وُجُوبُ الضَّمَانِ على الْغَاصِبِ وَالثَّانِي مِلْكُ الْغَاصِبِ الْمَضْمُونَ
أَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ الكلام ( ( ( فالكلام ) ) ) فيه في مَوَاضِعَ في
بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ وفي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ وَقْتِ
وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ ما يَخْرُجُ بِهِ الْغَاصِبُ عن عُهْدَتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمَغْصُوبُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا له
مِثْلٌ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا مِثْلَ له فَإِنْ كان مِمَّا له مِثْلٌ
كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ فَعَلَى
الْغَاصِبِ مِثْلُهُ لِأَنَّ ضَمَانِ الْغَصْبِ ضَمَانُ اعْتِدَاءٍ
وَالِاعْتِدَاءُ لم يُشْرَعْ إلَّا بِالْمِثْلِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عليه
بِمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَالْمِثْلُ الْمُطْلَقُ هو الْمِثْلُ صُورَةً
وَمَعْنًى فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَمِثْلٌ من حَيْثُ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ
وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ جَبْرِ الْفَائِتِ
وَمَعْنَى الْجَبْرِ بِالْمِثْلِ أَكْمَلُ منه من الْقِيمَةِ فَلَا يَعْدِلُ عن
الْمِثْلِ إلَى الْقِيمَةِ إلَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ الْجَوْزُ وَالْبَيْضُ مَضْمُونَانِ بِالْقِيمَةِ
لَا بِالْمِثْلِ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ الْبُيُوعِ
وَإِنْ كان مِمَّا لَا مِثْلَ له من الْمَذْرُوعَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ
الْمُتَفَاوِتَةِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْمِثْلِ
صُورَةً وَمَعْنًى لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ له فَيَجِبُ
____________________
(7/150)
الْمِثْلُ
مَعْنًى وهو الْقِيمَةُ لِأَنَّهَا الْمِثْلُ الْمُمْكِنُ
وَالْأَصْلُ في ضَمَانِ الْقِيمَةِ ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَضَى في
عَبْدٍ بين شَرِيكَيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ
لِلَّذِي لم يُعْتَقْ وَالنَّصُّ الْوَارِدُ في الْعَبْدِ يَكُونُ وَارِدًا في
إتْلَافِ كل ما لَا مِثْلَ له دَلَالَةً
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَشَرْطُ وُجُوبِ ضَمَانِ الْمِثْلِ
وَالْقِيمَةِ على الْغَاصِبِ عَجْزُهُ عن رَدِّ الْمَغْصُوبِ فما دَامَ قَادِرًا
على رَدِّهِ على الْوَجْهِ الذي أخذ ( ( ( أخذه ) ) ) لَا يَجِبُ عليه الضَّمَانُ
لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ هو وُجُوبُ رَدِّ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ
لِأَنَّ بِالرَّدِّ يَعُودُ عَيْنُ حَقِّهِ إلَيْهِ وَبِهِ يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ
عنه من كل وَجْهٍ وَالضَّمَانُ خَلَفٌ عن رَدِّ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى
الْخَلَفِ عِنْدَ الْعَجْزِ عن رَدِّ الْأَصْلِ
وَسَوَاءٌ عَجَزَ عن الرَّدِّ بِفِعْلِهِ بِأَنْ اسْتَهْلَكَهُ أو بِفِعْلِ
غَيْرِهِ بِأَنْ اسْتَهْلَكَهُ غَيْرُهُ أو بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ بِأَنْ هَلَكَ
بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْمَحَلَّ إنَّمَا صَارَ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ السَّابِقِ لِأَنَّ
فِعْلَهُ ذلك لَا بِالْهَلَاكِ
لِأَنَّ الْهَلَاكَ ليس صُنْعَهُ لَكِنْ عِنْدَ الْهَلَاكِ يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ
لِأَنَّ عِنْدَهُ يَتَقَرَّرُ الْعَجْزُ عن رَدِّ الْعَيْنِ فَيَتَقَرَّرُ
الضَّمَانُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا ادَّعَى الْغَاصِبُ هَلَاكَ الْمَغْصُوبِ ولم
يُصَدِّقْهُ الْمَغْصُوبُ منه إنه يَطْلُبُ منه بَيِّنَةً
فَإِنْ أَقَامَهَا وَإِلَّا حَبَسَهُ الْقَاضِي مُدَّةً يَغْلِبُ على ظَنِّهِ
أَنَّهُ لو كان في يَدِهِ لَأَظْهَرَهُ ثُمَّ قَضَى عليه بِالضَّمَانِ لِأَنَّ
بِذَلِكَ ثَبَتَ عَجْزُهُ عن رَدِّ الْعَيْنِ فَيُحْبَسُ
كَمَنْ كان عليه دَيْنٌ فَطُولِبَ بِهِ فَادَّعَى الْإِفْلَاسَ
وَمِنْ شَرْطِ الْخِطَابِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ مَوْجُودًا
في أَيْدِي النَّاس حتى لو غَصَبَ شيئا له مِثْلٌ ثُمَّ انْقَطَعَ عن أَيْدِي
الناس لَا يُخَاطَبُ بِأَدَائِهِ لِلْحَالِ لِأَنَّهُ ليس بِمَقْدُورٍ بَلْ
يُخَاطَبُ بِالْقِيمَةِ
وَلَوْ اخْتَصَمَا في حَالِ انْقِطَاعِهِ عن أَيْدِي الناس فَقَدْ اخْتَلَفَ
أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ
قال أبو حَنِيفَةَ يُحْكَمُ على الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ يوم يَخْتَصِمُونَ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يوم الْغَصْبِ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يوم الِانْقِطَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْغَصْبَ أَوْجَبَ الْمِثْلَ على الْغَاصِبِ وَالْمَصِيرُ
إلَى الْقِيمَةِ لِلتَّعَذُّرِ وَالتَّعَذُّرُ حَصَلَ بِسَبَبِ الِانْقِطَاعِ
فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم الِانْقِطَاعِ
كما لو اسْتَهْلَكَهُ في ذلك الْوَقْتِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ ضَمَانِ
الْمِثْلِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَالْقِيمَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ هو الْغَصْبُ
وَالْحُكْمُ يُعْتَبَرُ من وَقْتِ وُجُودِ سَبَبِهِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ الْوَاجِبَ كان مِثْلَ
الْمَغْصُوبِ وَبِالِانْقِطَاعِ عن أَيْدِي الناس لم يَبْطُلْ الْوَاجِبُ لِأَنَّ
الْأَصْلَ أَنَّ ما ثَبَتَ يَبْقَى لِتَوَهُّمِ الْفَائِدَةِ وَتَوَهُّمُ
الْعَوْدِ هَهُنَا ثَابِتٌ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يَخْتَارَ الإنتظار
إلَى وَقْتِ إدْرَاكِهِ فَيَأْخُذَ الْمِثْلَ وإذا بَقِيَ الْمِثْلُ وَاجِبًا
بَعْدَ الِانْقِطَاعِ فَإِنَّمَا انتقل ( ( ( ينتقل ) ) ) حَقُّهُ من الْمِثْلِ
إلَى الْقِيمَةِ بِالْخُصُومَةِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْخُصُومَةِ
فَأَمَّا عِلْمُ الْغَاصِبِ بِكَوْنِ الْمَغْصُوبِ مِلْكَ غَيْرِهِ فَلَيْسَ
بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ حتى لو أَخَذَ مَالًا على وَجْهٍ يَحِقُّ له
أَخْذُهُ ظَاهِرًا وفي الْبَاطِنِ بِخِلَافِهِ كما إذَا اشْتَرَى شيئا أو مَلَكَهُ
بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ فَتَصَرَّفَ فيه ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ
يَضْمَنُ لَكِنْ لَا إثْمَ عليه لِأَنَّ الْعِلْمَ ليس بِشَرْطٍ لِتَحَقُّقِ
الْغَصْبِ وهو شَرْطُ ثُبُوتِ الْمُؤَاخَذَةِ
قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا
أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ }
وَأَمَّا وَقْتُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَوَقْتُ وُجُودِ الْغَصْبِ لِأَنَّ
الضَّمَانَ يَجِبُ بِالْغَصْبِ وَوَقْتُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَقْتُ وُجُودِ
سَبَبِهِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمَغْصُوبِ يوم الْغَصْبِ حتى لَا يَتَغَيَّرَ
بِتَغَيُّرِ السِّعْرِ لِأَنَّ السَّبَبَ لم يَتَغَيَّرْ وَلَا تَغَيُّرِ
الْمَحَلِّ أَيْضًا لِأَنَّ تَرَاجُعَ السِّعْرِ لِفُتُورٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في قُلُوبِ عِبَادِهِ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَخْرُجُ بِهِ الْغَاصِبُ عن عُهْدَةِ الضَّمَانِ فَاَلَّذِي
يَخْرُجُ بِهِ عن عُهْدَتِهِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا أَدَاءُ الضَّمَانِ إلَى
الْمَالِكِ أو من يَقُومُ مَقَامَهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ في طَرِيقِ الْخُرُوجِ عن
عُهْدَةِ الْوَاجِبِ أَدَاؤُهُ
وَلَوْ هَلَكَ الْمَغْصُوبُ في يَدِ الْغَاصِبِ الثَّانِي فَأَدَّى الْقِيمَةَ
إلَى الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ يَبْرَأُ عن الضَّمَانِ في الرِّوَايَةِ
الْمَشْهُورَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِقَضَاءِ
الْقَاضِي
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ عليه لِلْمَالِكِ فَلَا
يَسْقُطُ عنه إلَّا بِالْأَدَاءِ إلَى الْمَالِكِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ الضَّمَانَ خَلَفٌ عن الْعَيْنِ قَائِمٌ
مَقَامَهُ ثُمَّ لو رَدَّ الْعَيْنَ برىء عن الضَّمَانِ فَكَذَا إذَا رَدَّ الْقِيمَةَ
لِأَنَّ ذلك رَدُّ الْعَيْنِ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَالثَّانِي الْإِبْرَاءُ وهو
نَوْعَانِ صَرِيحٌ وما يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ ودلالة ( ( ( دلالة ) ) )
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ أَبْرَأْتُكَ عن الضَّمَانِ أو
أَسْقَطْتُهُ عَنْكَ أو وَهَبْتُهُ مِنْكَ وما أَشْبَهَ ذلك فَيَبْرَأُ عن
الضَّمَانِ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ وهو من أَهْلِ الْإِسْقَاطِ
وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ فَيَسْقُطُ
وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يَخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَ أَحَدِ
الْغَاصِبَيْنِ فَيَبْرَأُ الْآخَرُ لِأَنَّ اخْتِيَارَ تَضْمِينِ أَحَدِهِمَا
إبْرَاءٌ لِلْآخَرِ دَلَالَةً لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
____________________
(7/151)
فَيَبْرَأُ
إمَّا بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ أو بشريطه رِضَا من اخْتَارَ تَضْمِينَهُ أو
الْقَضَاءِ على اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا
وَلَوْ أَبْرَأَهُ عن ضَمَانِ الْعَيْنِ وَهِيَ قَائِمَةٌ في يَدِهِ صَحَّ
الْإِبْرَاءُ وَسَقَطَ عنه الضَّمَانُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ الْأَعْيَانِ لَا
يُعْقَلُ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَبَقِيَتْ الْعَيْنُ مَضْمُونَةً كما كانت وإذا
هَلَكَتْ ضَمِنَ
وَلَنَا أَنَّ الْعَيْنَ صَارَتْ مَضْمُونَةً بِنَفْسِ الْغَصْبِ لِأَنَّ
الْغَصْبَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَكَانَ هذا إبْرَاءً عن الضَّمَانِ بَعْدَ
وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ فَيَصِحُّ كَالْعَفْوِ عن الْقِصَاصِ بَعْدَ الْجُرْحِ
قبل الْمَوْتِ
وَلَوْ أَجَّلَ الْمَغْصُوبُ منه الْغَاصِبَ بِبَدَلِ الْغَصْبِ صَحَّ
التَّأْجِيلُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَصِحُّ اسْتِدْلَالًا
بِالْقَرْضِ
وَلَنَا عَدَمَ اللُّزُومِ في الْقَرْضِ لِكَوْنِهِ جَارِيًا مَجْرَى الْإِعَارَةِ
لِمَا بُيِّنَ في كِتَابِ الْقَرْضِ وَالْأَجَلُ لَا يَلْزَمُ في الْعَوَارِيّ
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ في الْغَصْبِ فَيَلْزَمُهُ وَهَذَا لِأَنَّ
الْأَصْلَ هو لُزُومُ التَّأْجِيلِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ صَدَرَ من أَهْلِهِ في
مَحَلِّهِ وهو الدَّيْنُ إلَّا أَنَّ عَدَمَ اللُّزُومِ في بَابِ الْقَرْضِ
لِضَرُورَةِ الْإِعَارَةِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا فَيَلْزَمُ على الْأَصْلِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا مِلْكُ الْغَاصِبِ الْمَضْمُون فَالْكَلَامُ في هذا الْحُكْمِ في
مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ أَنَّهُ سَبَبٌ أَمْ لَا وفي بَيَانِ
وَقْتِ ثُبُوتِهِ وفي بَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فيه قال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ
اللَّهُ يَثْبُتُ إذَا كان الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلثُّبُوتِ ابْتِدَاءً
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَثْبُتُ أَصْلًا حتى إن من غَصَبَ
عَبْدًا وَاكْتَسَبَ في يَدِ الْغَاصِبِ ثُمَّ هَلَكَ الْعَبْدُ وَضَمِنَ
الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ فَالْكَسْبُ مِلْكٌ لِلْغَاصِبِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ مِلْكٌ
لِلْمَالِكِ
وَلَوْ أَبَقَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ من يَدِ الْغَاصِبِ وَعَجَزَ عن رَدِّهِ
إلَى الْمَالِكِ فَالْمَغْصُوبُ منه بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ انْتَظَرَ إلَى أَنْ
يَظْهَرَ وَإِنْ شَاءَ لم يَنْتَظِرْ وَضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ وَلَوْ
ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ يُنْظَرُ إنْ أَخَذَ صَاحِبُهُ
الْقِيمَةَ بِقَوْلِ نَفْسِهِ التي سَمَّاهَا وَرَضِيَ بها أو بِتَصَادُقِهِمَا
عليه أو بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ أو بِنُكُولِ الْغَاصِبِ عن الْيَمِينِ فَلَا
سَبِيلَ له على الْعَبْدِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَأْخُذُ عَبْدَهُ بِعَيْنِهِ
وَلَوْ كان الْمَغْصُوبُ مُدَبَّرًا يَعُودُ على مِلْكِ الْمَالِكِ بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَالِكَ لَا بُدَّ له من سَبَبٍ وَالْغَصْبُ لَا
يَصْلُحُ سَبَبًا لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ وَالْمِلْكُ نِعْمَةٌ وَكَرَامَةٌ فَلَا
يُسْتَفَادُ بِالْمَحْظُورِ وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يُقَابِلُ الْعَيْنَ
وَإِنَّمَا يُقَابِلُ الْيَدَ الْفَائِتَةَ فَلَا تُمْلَكُ بِهِ الْعَيْنُ كما في
غَصْبِ الْمُدَبَّرِ
وَلَنَا أَنَّ مِلْكَ الْغَاصِبِ يَزُولُ عن الضَّمَانِ فَلَوْ لم يَزُلْ مِلْكُ
الْمَغْصُوبِ منه عن الْمَضْمُونِ لم يَكُنْ الِاعْتِدَاءُ بِالْمِثْلِ
وَلِأَنَّهُ إذَا زَالَ مِلْكُ الْغَاصِبِ عن الضَّمَانِ وَأَنَّهُ بَدَلُ
الْمَغْصُوبِ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِقِيمَتِهِ وَمَلَكَ الْمَغْصُوبُ منه
الْبَدَلَ بِكَمَالِهِ لو لم يَزُلْ مِلْكُهُ عن الْمَغْصُوبِ لَاجْتَمَعَ
الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ في مِلْكِ الْمَالِكِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وإذا زَالَ
مِلْكُ الْمَالِكِ عن الْمَغْصُوبِ فَالْغَاصِبُ أَثْبَتَ يَدَهُ على مَالٍ
قَابِلٍ لَلْمِلْكِ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فيه فَيَمْلِكُهُ كما يَمْلِكُ الْحَطَبَ
وَالْحَشِيشَ بِإِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِمَا
وَبِهِ تَبَيَّنَّ أَنَّ ما هو سَبَبُ الْمِلْكِ فَهُوَ مُبَاحٌ لَا حَظْرَ فيه
فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ الْمِلْكُ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّهُ لَا
يَحْتَمِلُ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ فَيَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ لَكِنْ لَا
يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحِلِّ للمتملك ( ( ( التملك ) ) )
ابْتِدَاءً وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ أَخَذَ صَاحِبُهُ الْقِيمَةَ بِقَوْلِ الْغَاصِبِ بِأَنْ اخْتَلَفَا في
الْقِيمَةِ وَقَضَى الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ بِقَوْلِ الْغَاصِبِ وَبِيَمِينِهِ
ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ ذَكَرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ منه
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رضي بِالْمَأْخُوذِ وَتَرَكَ الْعَبْدَ عِنْدَ الْغَاصِبِ
وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْمَأْخُوذَ وَأَخَذَ الْعَبْدَ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ
الْمَأْخُوذَ بَعْضُ بَدَلِ الْعَيْنِ لَا كُلُّهُ فلم يَمْلِكْ بَدَلَ
الْمَغْصُوبِ بِكَمَالِهِ فَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ
وَإِنْ أَرَادَ اسْتِرْدَادَ الْعَبْدِ فَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَحْبِسَ الْعَبْدَ حتى
يَأْخُذَ الْقِيمَةَ وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ في يَدِ الْغَاصِبِ قبل رَدِّ
الْقِيمَةِ لَا يَرُدُّ الْقِيمَةَ وَلَكِنْ يَأْخُذُ من الْغَاصِبِ فَضْلَ
الْقِيمَةِ إنْ كان في قِيمَةِ الْعَبْدِ فَضْلٌ على ما أَخَذَهُ وَإِنْ لم يَكُنْ
فيها فَضْلٌ فَلَا شَيْءَ له سِوَى الْقِيمَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ الْعَبْدُ
وَقِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِمَّا قَالَهُ الْغَاصِبُ فَالْمَغْصُوبُ منه بِالْخِيَارِ
على ما بَيَّنَّا فَأَمَّا إذَا كانت قِيمَتُهُ مِثْلَ ما قال الْغَاصِبُ أو
أَقَلَّ منه فَلَا سَبِيلَ لِصَاحِبِهِ عليه
وَهَكَذَا فَصَّلَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ رضي بِزَوَالِ
مِلْكِهِ بهذا الْبَدَلِ وفي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَثْبَتَ الْخِيَارَ من غَيْرِ
تَفْصِيلٍ
وَلَوْ اخْتَلَفَا في زِيَادَةِ الْقِيمَةِ فَادَّعَى الْغَاصِبُ أنها حَدَثَتْ
بَعْدَ التَّضْمِينِ وَادَّعَى الْمَغْصُوبُ منه أنها كانت قَبْلَهُ كان
الْجَصَّاصُ يقول من تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إن الْقَوْلَ قَوْلُ الْغَاصِبِ لِأَنَّ
التَّمْلِيكَ قد صَحَّ فَلَا يَفْسَخُ الشَّكُّ
وَأَمَّا وَقْتُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فَهُوَ وَقْتُ وُجُودِ الْغَصْبِ لِأَنَّ
الْمِلْكَ في الضَّمَانِ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْغَصْبِ فَكَذَا
____________________
(7/152)
في
الْمَضْمُونِ فَيَظْهَرُ في الْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ وَالرِّبْحِ وَأَمَّا شَرْطُ
ثُبُوتِ الْمِلْكِ في الْمَضْمُونِ فما هو شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ في الضَّمَانِ
وهو اخْتِيَارُ الضَّمَانِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَالْمَغْصُوبُ
قبل اخْتِيَارِ الضَّمَانِ على حُكْمِ مِلْكِهِ عِنْدَهُ فإنه لو أَرَادَ أَنْ لَا
يَخْتَارَ الضَّمَانَ حتى يَهْلَكَ الْمَغْصُوبُ على مِلْكِهِ وَيَكُونُ له
ثَوَابُ هَلَاكِهِ على مِلْكِهِ وَيُخَاصِمُ الْغَاصِبَ في الْقِيمَةِ له ذلك
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هذا ليس بِشَرْطٍ
وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ قبل الِاخْتِيَارِ في الضَّمَانِ وَالْمَضْمُونِ جميعا
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يُبْنَى الصُّلْحُ عن الْمَغْصُوبِ الذي لَا مِثْلَ له على
إضعاف قِيمَتِهِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الضَّمَانُ بِنَفْسِ الْهَلَاكِ
عِنْدَهُمَا وهو مَالٌ مُقَدَّرٌ وَالزِّيَادَةُ عليه تَكُونُ رِبًا وَلَمَّا
تَوَقَّفَ الْوُجُوبُ على اخْتِيَارِ الْمَالِكِ عِنْدَهُ ولم يُوجَدْ منه
الِاخْتِيَارُ كان الصُّلْحُ تَقْدِيرًا لِقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ هذا الْقَدْر
وَتَمْلِيكًا لِلْمَغْصُوبِ بِهِ كَأَنَّهُ بَاعَهُ من الْغَاصِبِ بِهِ فَجَازَ
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
وَأَمَّا صِفَةُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْغَاصِبِ في الْمَضْمُونِ فَلَا خِلَافَ
بين أَصْحَابِنَا في أَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ له يَظْهَرُ في حَقِّ نَفَاذِ
التَّصَرُّفَاتِ حتى لو بَاعَهُ أو وَهَبَهُ أو تَصَدَّقَ بِهِ قبل أَدَاءِ
الضَّمَانِ يَنْفُذُ كما تَنْفُذُ هذه التَّصَرُّفَاتُ في الْمُشْتَرَى شِرَاءً
فَاسِدًا
وَاخْتَلَفُوا في أَنَّهُ هل يُبَاحُ له الِانْتِفَاعُ بِهِ بِأَنْ يَأْكُلَهُ
بِنَفْسِهِ أو يُطْعِمَهُ غَيْرَهُ قبل أَدَاءِ الضَّمَانِ فإذا حَصَلَ فيه فَضْلٌ
هل يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَمُحَمَّدٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَحِلُّ له الِانْتِفَاعُ حتى يرضى صَاحِبَهُ
وَإِنْ كان فَضْلٌ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحِلُّ له الِانْتِفَاعُ وَلَا يَلْزَمُهُ
التَّصَدُّقَ بِالْفَضْلِ إنْ كان فيه فَضْلٌ وهو قَوْلُ الْحَسَنِ وَزُفَرَ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ وهو الْقِيَاسُ وَقَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ اسْتِحْسَانٌ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ لَا شَكَّ فيه وهو مَمْلُوكٌ
لِلْغَاصِبِ من وَقْتِ الْغَصْبِ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا فَلَا مَعْنَى
لِلْمَنْعِ من الِانْتِفَاعِ وَتَوْقِيفِ الْحِلِّ على رِضَا غَيْرِ الْمَالِكِ
كما في سَائِرِ أَمْلَاكِهِ وَيَطِيبُ له الرِّبْحُ لِأَنَّهُ رِبْحُ ما هو
مَضْمُونٌ وَمَمْلُوكٌ وَرِبْحُ ما هو مَضْمُونٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ يَطِيبُ له
عِنْدَهُ لِمَا نَذْكُرُ فَرِبْحُ الْمَمْلُوكِ الْمَضْمُونِ أَوْلَى
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ما رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَضَافَهُ
قَوْمٌ من الْأَنْصَارِ فَقَدَّمُوا إلَيْهِ شَاةً مَصْلِيَّةً فَجَعَلَ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَمْضُغُهُ وَلَا يُسِيغُهُ فقال عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ إنَّ هذه الشَّاةَ لَتُخْبِرُنِي أنها ذُبِحَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ
فَقَالُوا هذه الشَّاةُ لِجَارٍ لنا ذَبَحْنَاهَا لترضيه ( ( ( لنرضيه ) ) )
بِثَمَنِهَا فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَطْعِمُوهَا الْأُسَارَى أَمَرَ
بِأَنْ يُطْعِمُوهَا الْأُسَارَى ولم يَنْتَفِعْ بِهِ وَلَا أَطْلَقَ
لِأَصْحَابِهِ الِانْتِفَاعَ بها
وَلَوْ كان حَلَالًا طَيِّبًا لَأَطْلَقَ مع خَصَاصَتِهِمْ وَشِدَّةِ حَاجَتِهِمْ
إلَى الْأَكْلِ وَلِأَنَّ الطَّيِّبَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ
وفي هذا الْمِلْكِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ من وَقْتِ الْغَصْبِ
بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَالْمُسْتَنَدُ يَظْهَرُ من وَجْهٍ وَيَقْتَصِرُ على
الْحَالِ من وَجْهٍ فَكَانَ في وُجُودِهِ من وَقْتِ الْغَصْبِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ
فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ وَالطَّيِّبُ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ من وَجْهٍ حَصَلَ
بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ أو وَقَعَ مَحْظُورًا بِابْتِدَائِهِ فَلَا يَخْلُو من خُبْثٍ
وَلِأَنَّ إبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ قبل الْإِرْضَاءِ يُؤَدِّي إلَى تَسْلِيطِ
السُّفَهَاءِ على أَكْلِ أَمْوَالِ الناس بِالْبَاطِلِ وَفَتْحِ بَابِ الظُّلْمِ
على الظَّلَمَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ له
الِانْتِفَاعُ بِالدَّقِيقِ حتى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ
وَلَوْ غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرْعَهَا قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يُكْرَهُ له
أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ حتى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ وَيَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ
وقال أبو يُوسُفَ لَا يُكْرَهُ له الِانْتِفَاعُ بِهِ قبل أَدَاءِ الضَّمَانِ
وَلَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ فَظَاهِرُ هذا الْإِطْلَاقِ يَدُلُّ
على أَنَّ عِنْدَهُمَا يُكْرَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ حتى يَرْضَى صَاحِبُهُ
بِأَدَاءِ الضَّمَانِ
وَفَرَّقَ أبو يُوسُفَ بين الزَّرْعِ وَالطَّحْنِ فقال في الطَّحْنِ مِثْلَ
قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ حتى يرضى صَاحِبَهُ لِأَنَّ
الْحِنْطَةَ لم تَهْلَكْ بِالطَّحْنِ وَإِنَّمَا تَغَيَّرَتْ صِفَتُهَا من
التَّرْكِيبِ إلَى التَّفْرِيقِ فكان عَيْنَ الْحِنْطَةِ قَائِمَةٌ فَكَانَ حَقُّ
الْمَالِكِ فيها قَائِمًا خِلَافَ الزَّرْعِ لِأَنَّ الْبَذْرَ يَهْلَكُ
بِالزِّرَاعَةِ لِأَنَّهُ يَغِيبُ في الْأَرْضِ فَيَخْرُجُ من أَنْ يَكُونَ مَالًا
مُتَقَوِّمًا فلم يَبْقَ لِلْمَالِكِ فيه حَقٌّ فلم يُكْرَهْ الِانْتِفَاعُ بِهِ
وَكَذَلِكَ قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ غَصَبَ نَوًى فَصَارَ
نَخْلًا أَنَّهُ يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ كما في الْحِنْطَةِ إذَا زَرَعَهَا
وقال في الْوَدِيِّ إذَا غَرَسَهُ فَصَارَ نَخْلًا أَنَّهُ يُكْرَهُ الِانْتِفَاعُ
بِهِ حتى يرضى صَاحِبَهُ لِأَنَّ النَّوَى يَعْفَنُ وَيَهْلَكُ وَالْوَدِيُّ
يَزِيدُ في نَفْسِهِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ في الشَّاةِ إذَا ذَبَحَهَا فَشَوَاهَا أَنَّهُ لَا
يَسَعُ له أَنْ يَأْكُلَهَا وَلَا يُطْعِمَ أَحَدًا حتى يَضْمَنَ الْقِيمَةَ
وَإِنْ كان صَاحِبُهَا غَائِبًا أو حَاضِرًا لَا يَرْضَى بِالضَّمَانِ لَا يَحِلُّ
له أَكْلُهَا
وإذا دَفَعَ الْغَاصِبُ
____________________
(7/153)
قِيمَتَهَا
يَحِلُّ له الْأَكْلُ كَذَلِكَ إذَا ضَمَّنَهُ الْمَالِكُ الْقِيمَةَ أو ضَمَّنَهُ
الْحَاكِمُ وَهَذَا عِنْدِي ليس بِاخْتِلَافِ رِوَايَةٍ بَلْ هذه الرِّوَايَةُ
تَفْسِيرٌ لِلْأُولَى لِأَنَّ قَوْلَهُ حتى يَرْضَى صَاحِبُهُ بِحِلِّهِ
يَحْتَمِلُ الْإِرْضَاءَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَيَحْتَمِلُ الْإِرْضَاءَ
بِاخْتِيَارِ الضَّمَانِ فَالْمَذْكُورُ هَهُنَا مُفَسَّرٌ فَيُحْمَلُ الْمُجْمَلُ
على الْمُفَسَّرِ فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ حتى يُرْضِيَهُ على الْإِرْضَاءِ
بِاخْتِيَارِ الضَّمَانِ وَرِضَاهُ لَا على الْإِرْضَاءِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ
تَوْفِيقًا بين الرِّوَايَتَيْنِ فَلَا يَحِلُّ له الِانْتِفَاعُ بِهِ قبل
اخْتِيَارِ الضَّمَانِ وَيَحِلُّ بَعْدَهُ سَوَاءٌ أَدَّى الضَّمَانَ أو لَا
وَهَذَا قَوْلُهُمَا وهو قِيَاسُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ في الشَّاةِ
الْمَشْوِيَّةِ أَنَّهُ يَحِلُّ له الِانْتِفَاعُ بها فَيَأْكُلُهَا وَيُطْعِمُهَا
من شَاءَ سَوَاءٌ أَدَّى الضَّمَانَ أَمْ لَا وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا
أَدَّى الضَّمَانَ أَنَّهُ يَحِلُّ له الْأَكْلُ
وَكَذَلِكَ إذَا أبرأ ( ( ( أبرأه ) ) ) عن الضَّمَانِ
وَكَذَلِكَ إذَا ضَمَّنَهُ الْمَالِكُ الْقِيمَةَ أو ضَمَّنَهُ الْقَاضِي لِأَنَّ
الْقَاضِيَ لَا يُضَمِّنُهُ إلَّا بَعْدَ طَلَبِهِ فَكَانَ منه اخْتِيَارًا
لِلضَّمَانِ وَرِضًا بِهِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ عَبْدًا فَاسْتَغَلَّهُ فَنَقَصَتْهُ
الْغَلَّةُ أَنَّهُ يَضْمَنُ النُّقْصَانَ وَالْغَلَّةَ له وَيَتَصَدَّقُ بها في
قَوْلِهِمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ هِيَ طَيِّبَةٌ
أَمَّا ضَمَانُ النُّقْصَانِ فَلِأَنَّ الِاسْتِغْلَالَ وَقَعَ إتْلَافًا
فَيَضْمَنُ قَدْرَ ما أَتْلَفَ وَيَطِيبُ له قَدْرُ الْمَضْمُونِ لِأَنَّ ذلك
الْقَدْرَ ليس بِرِبْحٍ وَالنَّهْيُ وَقَعَ عن الرِّبْحِ
وَأَمَّا الْغَلَّةُ فَلِلْغَاصِبِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ لِلْمَالِكِ وَهِيَ فُرَيْعَةُ مَسْأَلَةِ الْمَنَافِعِ وقد مَرَّتْ في
مَوْضِعِهَا
وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِالْغَلَّةِ وَهِيَ الْأُجْرَةُ عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهَا
خَبِيثَةٌ لِحُصُولِهَا بِسَبَبٍ خَبِيثٍ فَكَانَ سَبِيلُهَا التَّصَدُّقَ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نهى عن رِبْحِ ما لم
يُضْمَنْ وَهَذَا رِبْحٌ مَضْمُونٌ
وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّحْرِيمَ لِعَدَمِ الضَّمَانِ يَدُلُّ على التَّحْرِيمِ
لِعَدَمِ الْمِلْكِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْمِلْكَ فَوْقَ الضَّمَانِ
وَلَوْ غَصَبَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا كُرًّا فَنَقَصَتْهَا الزِّرَاعَةُ
وَأَخْرَجَتْ ثَلَاثَةَ أَكْرَارٍ يَغْرَمُ النُّقْصَانَ وَيَأْخُذُ رَأْسَ
الْمَالِ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ
أَمَّا ضَمَانُ النُّقْصَانِ فَلِأَنَّ الْغَاصِبَ نَقَصَ الْأَرْضَ
بِالزِّرَاعَةِ وَذَلِكَ إتْلَافٌ منه وَالْعَقَارُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ
بِلَا خِلَافٍ
وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ فَلِحُصُولِهِ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ وَهِيَ
الزِّرَاعَةُ في أَرْضِ الْغَصْبِ وَإِنْ كان الْبَذْرُ مِلْكًا له وَيَطِيبُ له
قَدْرُ النُّقْصَانِ وَقَدْرُ الْبَذْرِ لَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ
عن الرِّبْحِ وَذَا ليس بِرِبْحٍ فلم يَحْرُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ أَلْفًا فَاشْتَرَى جَارِيَةً فَبَاعَهَا
بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ جَارِيَةً فَبَاعَهَا بِثَلَاثَةِ
آلَافٍ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ الرِّبْحِ في قَوْلِهِمَا وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ رِبْحٌ
مَضْمُونٌ مَمْلُوكٌ لِأَنَّهُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ يَمْلِكُهُ مُسْتَنِدًا
إلَى وَقْتِ الْغَصْبِ وَمُجَرَّدُ الضَّمَانِ يَكْفِي لِلطَّيِّبِ فَكَيْفَ إذَا
اجْتَمَعَ الضَّمَانُ وَالْمِلْكُ وَهُمَا يَقُولَانِ الطَّيِّبَ كما لَا يَثْبُتُ
بِدُونِ الضَّمَانِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْمِلْكِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى وفي هذا
الْمِلْكِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ فَلَا يُفِيدُ
الطَّيِّبُ
وَلَوْ اشْتَرَى بِالْأَلْفِ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَوَهَبَهَا أو
اشْتَرَى بِهِ طَعَامًا يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَأَكَلَهُ لم يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ
لِأَنَّهُ لم يَحْصُلْ له الرِّبْحُ وَلِأَنَّ الْخَبَثَ إنَّمَا يَثْبُتُ
بِشُبْهَةِ عَدَمِ الْمِلْكِ وَالشُّبْهَةُ تُوجِبُ التَّصَدُّقَ إما لَا تُوجِبُ
التَّضْمِينَ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا خَلَطَ الْمُسْتَوْدِعُ إحْدَى الْوَدِيعَتَيْنِ
بِالْأُخْرَى خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ أَنَّ الْمَخْلُوطَ يَصِيرُ مِلْكًا له
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَكِنْ لَا يَطِيبُ له حتى يرضى صَاحِبَهُ
على ما نَذْكُرهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ اشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ شيئا هل يَحِلُّ له الِانْتِفَاعُ
بِهِ أو يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَعَلَ
ذلك على أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يُشِيرَ إلَيْهَا وَيَنْقُدَ منها وأما
أَنْ يُشِيرَ إلَيْهَا وَيَنْقُدَ من غَيْرِهَا وأما أَنْ يُشِيرَ إلَى غَيْرِهَا
وَيَنْقُدَ منها وَإِمَّا أَنْ يُطْلِقَ إطْلَاقًا وَيَنْقُدَ منها
وإذا ثَبَتَ الطَّيِّبُ في الْوُجُوهِ كُلِّهَا إلَّا في وَجْهٍ وَاحِدٍ وهو أَنْ
يَجْمَعَ بين الْإِشَارَةِ إلَيْهَا وَالنَّقْدِ منها
وَذَكَرَ أبو نَصْرٍ الصَّفَّارُ وَالْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
أَنَّهُ يَطِيبُ في الْوُجُوهِ كُلِّهَا وَذَكَرَ أبو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ
رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَطِيبُ في الْوُجُوهِ كُلِّهَا وهو الصَّحِيحُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي نَصْرٍ وَأَبِي اللَّيْثِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ
الْوَاجِبَ في ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي دَرَاهِمُ مُطَلَّقَةٌ وَالْمَنْقُودَةُ
بَدَلٌ عَمَّا في الذِّمَّةِ أَمَّا عِنْدَ عَدَمِ الْإِشَارَةِ فَظَاهِرٌ وَكَذَا
عِنْدَ الْإِشَارَةِ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى الدَّرَاهِمِ لَا تُفِيدُ
التَّعْيِينَ فَالْتَحَقَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا بِالْعَدَمِ فَكَانَ الْوَاجِبُ
في ذِمَّتِهِ دَرَاهِمَ مُطْلَقَةً وَالدَّرَاهِمُ الْمَنْقُودَةُ بَدَلًا عنها
فَلَا يَخْبُثُ الْمُشْتَرَى وَالْكَرْخِيُّ كَذَلِكَ يقول إذَا لم تَتَأَكَّدْ
الْإِشَارَةُ بِمُؤَكَّدٍ وهو النَّقْدُ منها فإذا تَأَكَّدَتْ بِالنَّقْدِ منها
تَعَيَّنَ الْمُشَارُ إلَيْهِ فَكَانَ الْمَنْقُودُ بَدَلَ الْمُشْتَرَى فَكَانَ
خَبِيثًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي بَكْرٍ أَنَّهُ اسْتَفَادَ بِالْحَرَامِ مِلْكًا من طَرِيقِ
الْحَقِيقَةِ أو الشُّبْهَةِ
____________________
(7/154)
فَيَثْبُتُ
الْخَبَثُ وَهَذَا لِأَنَّهُ إنْ أَشَارَ إلَى الدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ
فَالْمُشَارُ إلَيْهِ إنْ كان لَا يَتَعَيَّنُ في حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ
يَتَعَيَّنُ في حَقِّ جَوَازِ الْعَقْدِ بِمَعْرِفَةِ جِنْسِ النَّقْدِ وَقَدْرِهِ
فَكَانَ الْمَنْقُودُ بَدَلَ الْمُشْتَرَى من وَجْهٍ نُقِدَ منها أو من غَيْرِهَا
وَإِنْ لم يُشِرْ إلَيْهَا وَنَقَدَ منها فَقَدْ اسْتَفَادَ بِذَلِكَ سَلَامَةَ
الْمُشْتَرَى فَتَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فَيَخْبُثُ الرِّبْحُ وَإِطْلَاقُ
الْجَوَابِ في الْجَامِعَيْنِ وَالْمُضَارَبَةُ دَلِيلُ صِحَّةِ هذا الْقَوْلِ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من اخْتَارَ الْفَتْوَى في زَمَانِنَا بِقَوْلِ الْكَرْخِيِّ
تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ على الناس لِازْدِحَامِ الْحَرَامِ وَجَوَابُ الْكُتُبِ أَقْرَبُ
إلَى التَّنَزُّهِ وَالِاحْتِيَاطِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلِأَنَّ دَرَاهِمَ الْغَصْبِ مُسْتَحَقَّةُ الرَّدِّ على صَاحِبِهَا وَعِنْدَ
الِاسْتِحْقَاقِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ من الْأَصْلِ فَتُبَيِّنَ أَنَّ
الْمُشْتَرَى كان مَقْبُوضًا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فلم يَحِلَّ الِانْتِفَاعُ بِهِ
وَلَوْ تَزَوَّجَ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ امْرَأَةً وَسِعَهُ أَنْ
يَطَأَهَا بِخِلَافِ الشِّرَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ
يَنْفَسِخُ الشِّرَاءُ وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ
وَلَوْ كان الْمَغْصُوبُ ثَوْبًا فَاشْتَرَى بِهِ جَارِيَةً لَا يَسَعُهُ أَنْ
يَطَأهَا وَلَوْ تَزَوَّجَ عليه امْرَأَةً حَلَّ له وَطْؤُهَا لِمَا قُلْنَا
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ نُقْصَانِ الْمَغْصُوبِ فَالْكَلَامُ فيه في
مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما يَكُونُ مَضْمُونًا من النُّقْصَانِ وما
لَا يَكُونُ مَضْمُونًا منه
وَالثَّانِي في بَيَانِ طَرِيقِ مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إذَا عَرَضَ في يَدِ
الْغَاصِبِ ما يُوجِبُ نُقْصَانَ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ وَالْعَارِضُ لَا يَخْلُو
إمَّا أَنْ يَكُونَ تغير ( ( ( بغير ) ) ) السِّعْرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
فَوَاتَ جُزْءٍ من الْمَغْصُوبِ أو فَوَاتَ صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فيها أو مَعْنًى
مَرْغُوبٍ فيه
فَإِنْ كان تغير ( ( ( بغير ) ) ) السِّعْرِ لم يَكُنْ مَضْمُونًا لِأَنَّ
الْمَضْمُونَ نُقْصَانُ الْمَغْصُوبِ وَنُقْصَانُ السِّعْرِ ليس بِنُقْصَانِ
الْمَغْصُوبِ بَلْ لِفُتُورٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ في قُلُوبِ
الْعِبَادِ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فيه فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا
وَإِنْ كان فَوَاتُ جُزْءٍ من الْمَغْصُوبِ أو فَوَاتُ صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فيها أو
مَعْنًى مَرْغُوبٍ فيه فَالْمَغْصُوبُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ من غَيْرِ
أَمْوَالِ الرِّبَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ من أَمْوَالِ الرِّبَا فَإِنْ كان من
غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا يَكُونُ مَضْمُونًا إذَا لم يَكُنْ لِلْمَغْصُوبِ منه
فيه صُنْعٌ وَلَا اخْتِيَارٌ لِأَنَّهُ هَلَكَ بَعْضُ الْمَغْصُوبِ صُورَةً
وَمَعْنًى أو مَعْنًى لَا صُورَةً وَهَلَاكُ كل الْمَغْصُوبِ مَضْمُونٌ بِكُلِّ
الْقِيمَةِ فَهَلَاكُ بَعْضِهِ يَكُونُ مَضْمُونًا بِقَدْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ جَبْرِ الْفَائِتِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ
الْفَوَاتِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا سَقَطَ عُضْوٌ من الْمَغْصُوبِ في يَدِ الْغَاصِبِ
بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو لَحِقَهُ زَمَانَةٌ أو عَرَجٌ أو شَلَلٌ أو عَمَى أو
عَوَرٌ أو صَمَمٌ أو بَكَمٌ أو حُمَّى أو مَرَضٌ آخَرُ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ
الْمَوْلَى وَيُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ لِوُجُودِ فَوَاتِ جُزْءٍ من الْبَدَنِ أو
فَوَاتِ صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فيها
وَلَوْ زَالَ الْبَيَاضُ من عَيْنِهِ في يَدِ الْمُولَى أو أَقْلَعَ الْحُمَّى
رَدَّ على الْغَاصِبِ ما أَخَذَهُ منه بِسَبَبِ النُّقْصَانِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ
أَنَّ ذلك النُّقْصَانَ لم يَكُنْ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لِانْعِدَامِ شَرْطِ
الْوُجُوبِ وهو الْعَجْزُ عن الِانْتِفَاعِ على طَرِيقِ الدَّوَامِ وَكَذَلِكَ لو
أَبَقَ الْمَغْصُوبُ من يَدِ الْغَاصِبِ من عَبْدٍ أو أَمَةٍ إذَا لم يَكُنْ
أَبَقَ قبل ذلك أو زَنَتْ الْجَارِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ أو سَرَقَتْ إذَا لم تَكُنْ
زَنَتْ قبل ذلك لِفَوَاتِ مَعْنًى مَرْغُوبٍ فيه وهو الصِّيَانَةُ عن هذه
الْقَاذُورَاتِ وَلِهَذَا كانت عُيُوبًا مُوجِبَةً لِلرَّدِّ في بَابِ الْبَيْعِ
وَجُعْلُ الْآبِقِ على الْمَالِكِ وَهَلْ يُرْجَعُ بِهِ على الْغَاصِبِ قال أبو
يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُرْجَعُ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُرْجَعُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْجُعْلَ من ضَرُورَاتِ رَدِّ الْمَغْصُوبِ لِأَنَّ رَدَّ الْمَغْصُوبِ
وَاجِبٌ على الْغَاصِبِ وَلَا يُمْكِنُهُ الرَّدُّ إلَّا بِإِعْطَاءِ الْجُعْلِ
فَكَانَ من ضَرُورَاتِ الرَّدِّ فَيَكُونُ عليه مُؤْنَةُ الرَّدِّ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْجُعْلَ إنَّمَا يَجِبُ
بِحَقِّ الملك ( ( ( المالك ) ) ) وَالْمِلْكُ لِلْمَغْصُوبِ منه فَيَكُونُ
الْجُعْلُ عليه كَمُدَاوَاةِ الْجِرَاحَةِ وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ
أو الْجَارِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ في يَدِ الْغَاصِبِ قَتِيلًا أو جَنَى على حُرٍّ
أو عَبْدٍ في نَفْسٍ أو ما دُونَهَا جِنَايَةً رُدَّ إلَى مَوْلَاهُ وَيُقَالُ له
ادْفَعْهُ بِجِنَايَتِهِ أو افْدِهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ له وَيَرْجِعُ الْمُولَى
على الْغَاصِبِ بِالْأَقَلِّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ هذا
الضَّمَانَ إنَّمَا وَجَبَ بِسَبَبٍ كان في ضَمَانِهِ
وَلَوْ اسْتَهْلَكَ لِرَجُلٍ مَالًا يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالْبَيْعِ أو
الْفِدَاءِ وَيَرْجِعُ على الْغَاصِبِ بِالْأَقَلِّ من قِيمَتِهِ وَمِمَّا
أَدَّاهُ عنه من الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قَتَلَ الْمَغْصُوبُ نَفْسَهُ في يَدِ الْغَاصِبِ ضَمِنَ الْغَاصِبُ
قِيمَتَهُ بِالْغَصْبِ وَلَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ بِقَتْلِ نَفْسِهِ لِأَنَّ
قَتْلَهُ نَفْسَهُ هَدَرٌ فَصَارَ كَمَوْتِهِ حَتْفَ أَنْفِهِ
وَلَوْ كان الْمَغْصُوبُ أَمَةً فَوَلَدَتْ ثُمَّ قَتَلَتْ وَلَدَهَا ثُمَّ
مَاتَتْ ضَمِنَ قِيمَةَ الْأُمِّ وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ
أَمَانَةٌ
وَكَذَلِكَ إذَا كَبِرَ الْمَغْصُوبُ في يَدِ الْغَاصِبِ من الْغُلَامِ
وَالْجَارِيَةِ بِأَنْ غَصَبَ عَبْدًا شَابًّا فَشَاخَ في يَدِ الْغَاصِبِ أو
جَارِيَةً شَابَّةً فَصَارَتْ
____________________
(7/155)
عَجُوزًا
في يَدِهِ ضَمِنَ النُّقْصَانَ لِأَنَّ الْكِبَرَ يُوجِبُ فَوَاتَ جُزْءٍ أو
صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فيها وَكَذَلِكَ إذَا غَصَبَ جَارِيَةً نَاهِدًا فَانْكَسَرَ
ثَدْيُهَا في يَدِ الْغَاصِبِ لِأَنَّ نُهُودَ الثَّدْيَيْنِ صِفَةٌ مَرْغُوبٌ
فيها
أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِهِ عز وجل { وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا }
وَأَمَّا نَبَاتُ اللِّحْيَةِ لِلْأَمْرَدِ فَلَيْسَ بِمَضْمُونٍ لِأَنَّهُ ليس
بِنُقْصَانٍ بَلْ هو زِيَادَةٌ في الرِّجَالِ
أَلَا تَرَى أَنَّ حَلْقَ اللِّحْيَةِ يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ
وَكَذَلِكَ لو غَصَبَ عَبْدًا قَارِئًا فنسي الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ أو مُحْتَرِفًا
فنسي الْحِرْفَةَ يَضْمَنُ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْقُرْآنِ وَالْحِرْفَةِ مَعْنًى
مَرْغُوبٌ فيه
وَأَمَّا حَبَلُ الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ بِأَنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَحَبَلَتْ
في يَدِهِ فَإِنْ كان الْمَوْلَى أَحْبَلَهَا في يَدِ الْغَاصِبِ لَا شَيْءَ على
الْغَاصِبِ لِأَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ بِفِعْلِ الْمَوْلَى فَلَا يَضْمَنُهُ
الْغَاصِبُ كما لو قَتَلَهَا الْمَوْلَى في يَدِ الْغَاصِبِ
وَكَذَلِكَ لو حَبَلَتْ في يَدِ الْغَاصِبِ من زَوْجٍ كان لها في يَدِ الْمَوْلَى
لِأَنَّ الْوَطْءَ من الزَّوْجِ حَصَلَ بِتَسْلِيطِ الْمَوْلَى فَصَارَ كَأَنَّهُ
حَصَلَ منه أو حَدَثَ في يَدِهِ
وَإِنْ حَبَلَتْ في يَدِ الْغَاصِبِ من زِنًا أَخَذَهَا الْمَوْلَى وَضَمَّنَهُ
نُقْصَانَ الْحَبَلِ
وَالْكَلَامُ في قَدْرِ الضَّمَانِ
قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُنْظَرُ إلَى ما نَقَّصَهَا الْحَبَلُ وَإِلَى
أَرْشِ عَيْبِ الزِّنَا فَيَضْمَنُ الْأَكْثَرَ وَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فيه
وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ الْأَمْرَيْنِ جميعا
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْحَبَلَ وَالزِّنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْبٌ على
حِدَةٍ فَكَانَ النُّقْصَانُ الْحَاصِلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نُقْصَانًا على
حِدَةٍ فَيُفْرَدُ بِضَمَانٍ على حِدَةٍ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَمْعَ بين الضَّمَانَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ
لِأَنَّ نُقْصَانَ الْحَبَلِ إنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الزِّنَا فلم يَكُنْ
نُقْصَانًا بِسَبَبٍ على حِدَةٍ حتى يُفْرَدَ بِحُكْمٍ على حِدَةٍ فَلَا بُدَّ من
إيجَابِ أَحَدِهِمَا فَأَوْجَبْنَا الْأَكْثَرَ لِأَنَّ الْأَقَلَّ يَدْخُلُ في
الْأَكْثَرِ وَلَا يُتَصَوَّرُ دُخُولُ الْأَكْثَرِ في الْأَقَلِّ فَإِنْ رَدَّهَا
الْغَاصِبُ حَامِلًا فَمَاتَتْ في يَدِ الْمَوْلَى من الْوِلَادَةِ فَبَقِيَ
وَلَدُهَا ضَمِنَ الْغَاصِبُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ
عنه وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ إلَّا نُقْصَانَ الْحَبَلِ خَاصَّةً
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الرَّدَّ وَقَعَ صَحِيحًا من الْغَاصِبِ في الْقَدْرِ
الْمَرْدُودِ وهو ما وَرَاءَ الْفَائِتِ بِالْحَبَلِ وَالْهَلَاكُ بَعْدَ الرَّدِّ
حَصَلَ في يَدِ الْمَالِكِ بِسَبَبٍ وُجِدَ في يَدِهِ وهو الْوِلَادَةُ فَلَا
يَكُونُ مَضْمُونًا على الْغَاصِبِ كما لو مَاتَتْ بِسَبَبٍ آخَرَ وَكَمَا لو
بَاعَ جَارِيَةً حُبْلَى فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ مَاتَتْ من
نِفَاسِهَا أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي على الْبَائِعِ بِشَيْءٍ
كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِسَبَبٍ
كان في ضَمَانِ الْغَاصِبِ وهو الْحَبَلُ أو الزِّنَا لِأَنَّ ذلك أَفْضَى إلَى
الْوِلَادَةِ وَالْوِلَادَةُ أَفْضَتْ إلَى الْمَوْتِ فَكَانَ الْمَوْتُ مُضَافًا
إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ وإذا حَصَلَ الْهَلَاكُ بِذَلِكَ السَّبَبِ تَبَيَّنَ
أَنَّ الرَّدَّ لم يَصِحَّ لِانْعِدَامِ شَرْطِ صِحَّتِهِ وهو أَنْ يَكُونَ
الرَّدُّ مِثْلَ الْأَخْذِ من جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَصَارَ كَأَنَّهَا وَلَدَتْ في
يَدِ الْغَاصِبِ فَمَاتَتْ من الْوِلَادَةِ
وَلَوْ كان كَذَلِكَ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا
كَذَا هذا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ هو
التَّسْلِيمُ ابْتِدَاءً لَا الرَّدُّ وقد وُجِدَ التَّسْلِيمُ فَخَرَجَ عن
الْعُهْدَةِ وَبِخِلَافِ الْحُرَّةِ إذَا زَنَا بها مُكْرَهَةً فَمَاتَتْ من
الْوِلَادَةِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْأَخْذِ
لِيَلْزَمَهُ الرَّدُّ على وَجْهِ الْأَخْذِ بِخِلَافِ الْأَمَةِ
وَلَوْ كانت الْجَارِيَةُ زَنَتْ في يَدِ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا على
الْمَالِكِ فَحَدَثَ في يَدِهِ وَنَقَّصَهَا الضَّرْبُ ضَمِنَ الْغَاصِبُ
الْأَكْثَرَ من نُقْصَانِ الضَّرْبِ وَمِمَّا نَقَّصَهَا الزِّنَا في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ وَعِنْدَهُمَا ليس عليه إلَّا نُقْصَانُ الزِّنَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن النُّقْصَانَ حَصَلَ في يَدِ الْمَالِكِ بِسَبَبٍ آخَرَ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ بِسَبَبٍ كان في
ضَمَانِ الْغَاصِبِ فَيُضَافُ إلَى حِينِ وُجُودِ السَّبَبِ في يَدِ الْغَاصِبِ
بِسَبَبٍ وُجِدَ في يَدِهِ وهو الضَّرْبُ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا على الْغَاصِبِ
كما لو حَصَلَ في يَدِ الْمَالِكِ
فَأَبُو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه نَظَرَ إلَى وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ وَهُمَا
نَظَرَا إلَى وَقْتِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وهو النُّقْصَانُ وَلِهَذَا قال أبو
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَوَجَدَهُ مُبَاحَ الدَّمِ
فَقُتِلَ في يَدِ الْمُشْتَرِي إنه يُنْتَقَضُ الْعَقْدُ وَيُرْجَعُ على
الْبَائِعِ بِكُلِّ الْقِيمَةِ
وَكَذَلِكَ لو كان سَارِقًا فَقُطِعَ في يَدِهِ رَجَعَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ
اعْتِبَارًا لِلسَّبَبِ السَّابِقِ وَعِنْدَهُمَا يَقْتَصِرُ الْحُكْمُ على
الْحَالِ وَيَكُونُ في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَيَرْجِعُ على الْبَائِعِ
بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُضَافُ النُّقْصَانُ إلَى سَبَبٍ كان في ضَمَانِ الْغَاصِبِ
وَذَلِكَ السَّبَبُ لم يُوجِبْ ضَرْبًا جَارِحًا فَكَيْفَ يُضَافُ نُقْصَانُ
الْجُرْحِ إلَيْهِ
وَلِهَذَا قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في شُهُودِ الزِّنَا إذَا رَجَعُوا
بَعْدَ إقَامَةِ الْجَلَدَاتِ أَنَّهُمْ لَا يُضَمَّنُونَ بِنُقْصَانِ الْجُرْحِ
لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ لم تُوجِبْ ضَرْبًا جَارِحًا فلم يُضَفْ نُقْصَانُ
الْجُرْحِ إلَيْهَا
كَذَا هذا
قِيلَ له إنَّ النُّقْصَانَ لَا يُضَافُ إلَى السَّبَبِ
____________________
(7/156)
السَّابِقِ
هَهُنَا كما لَا يُضَافُ إلَى شَهَادَةِ الشُّهُودِ هُنَاكَ إلَّا أَنَّهُ وَجَبَ
الضَّمَانُ هَهُنَا لِأَنَّ وُجُوبَ ضَمَانِ الْغَصْبِ لَا يَقِفُ على الْفِعْلِ
فَيَسْتَنِدُ الضَّرْبُ إلَى سَبَبٍ كان في يَدِ الْغَاصِبِ وَلَا يَسْتَنِدُ
إلَيْهِ أَثَرُهُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهَا ضُرِبَتْ في يَدِ الْغَاصِبِ فَانْجَرَحَتْ
عِنْدَ الضَّرْبِ لَا بِالضَّرْبِ وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَضَمِنَ الْغَاصِبُ
كَذَا هذا وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ الْأَكْثَرُ من نُقْصَانِ الضَّرْبِ وَمِنْ
نُقْصَانِ الزِّنَا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ النُّقْصَانَيْنِ
جميعا حَصَلَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بين الضَّمَانَيْنِ
فَيَجِبُ الْأَكْثَرُ وَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فيه وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ كانت الْجَارِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ سَرَقَتْ في يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهَا
على الْمَالِكِ فَقُطِعَتْ عِنْدَهُ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ نِصْفَ قِيمَتِهَا في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ إلَّا
نُقْصَانَ السَّرِقَةِ وَالْكَلَامُ في هذه الْمَسْأَلَةِ في الطَّرَفَيْنِ جميعا
على نَحْوِ الْكَلَامِ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَبَرَ نُقْصَانَ الْقَطْعِ هَهُنَا ولم يَعْتَبِرْ نُقْصَانَ
عَيْبِ السَّرِقَةِ وَاعْتَبَرَ نُقْصَانَ عَيْبِ الزِّنَا هُنَاكَ لِأَنَّ
نُقْصَانَ الْقَطْعِ يَكُونُ أَكْثَرَ من نُقْصَانِ السَّرِقَةِ ظَاهِرًا
وَغَالِبًا فَدَخَلَ الْأَقَلُّ في الْأَكْثَرِ بِخِلَافِ نُقْصَانِ عَيْبِ
الزِّنَا لِأَنَّهُ قد يَكُونُ أَكْثَرَ من نُقْصَانِ الضَّرْبِ لِذَلِكَ
اخْتَلَفَ اعْتِبَارُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ حُمَّتْ الْجَارِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ في يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهَا على
الْمَوْلَى فَمَاتَتْ في يَدِهِ من الْحُمَّى التي كانت في يَدِ الْغَاصِبِ لم
يَضْمَنْ الْغَاصِبُ إلَّا ما نَقَّصَهَا الْحُمَّى في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّ
الْمَوْتَ يَحْصُلُ بِالْآلَامِ التي لَا تَتَحَمَّلُهَا النَّفْسُ وَإِنَّهَا
تَحْدُثُ شيئا فَشَيْئًا إلَى أَنْ يَتَنَاهَى فلم يَكُنْ الْمَوْتُ حَاصِلًا
بِسَبَبٍ كان في ضَمَانِ الْغَاصِبِ فَلَا يَضْمَنُ إلَّا قَدْرَ نُقْصَانِ
الْحُمَّى
وَلَوْ غَصَبَ جَارِيَةً مَحْمُومَةً أو حُبْلَى أو بها جِرَاحَةٌ أو مَرَضٌ آخَرُ
سِوَى الْحُمَّى فَمَاتَتْ من ذلك في يَدِ الْغَاصِبِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهَا
وَبِهَا ذلك
فَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ ما إذَا مَاتَتْ في يَدِ الْمَوْلَى بِحَبَلٍ كان في يَدِ
الْغَاصِبِ حَيْثُ جُعِلَ هُنَالِكَ مَوْتُهَا في يَدِ الْمَالِكِ كَمَوْتِهَا في
يَدِ الْغَاصِبِ ولم يُجْعَلْ هَهُنَا مَوْتُهَا في يَدِ الْغَاصِبِ كَمَوْتِهَا
في يَدِ الْمَالِكِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْهَلَاكَ هُنَاكَ حَصَلَ بِسَبَبٍ كان في ضَمَانِ
الْغَاصِبِ وهو الْحَبَلُ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَيْهِ فَأُضِيفَ إلَيْهِ كَأَنَّهُ
حَصَلَ في يَدِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الرَّدَّ لم يَصِحَّ لِعَدَمِ شَرْطِ
الصِّحَّةِ على ما بَيَّنَّا وَالْهَلَاكُ هَهُنَا إنْ حَصَلَ بِسَبَبٍ كان في
يَدِ الْمَوْلَى لَكِنْ لم يَحْصُلْ بِسَبَبٍ كان في ضَمَانِهِ لِأَنَّ الْحَبَلَ
لم يَكُنْ مَضْمُونًا عليه فإذا غَصَبَهَا فَقَدْ صَارَتْ مَضْمُونَةً بِالْغَصْبِ
لِأَنَّ انْعِقَادَ سَبَبِ الْهَلَاكِ لَا يَمْنَعُ دُخُولَهَا في ضَمَانِ
الْغَاصِبِ لِأَنَّ وُجُوبَ ضَمَانِ الْغَصْبِ لَا يَقِفُ على فِعْلِ الْغَاصِبِ
فإذا هَلَكَ في يَدِهِ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ لَكِنْ مَنْقُوصًا بِمَا بها من
الْمَرَضِ لِأَنَّهَا لم تَدْخُلْ في ضَمَانِ الْغَصْبِ إلَّا كَذَلِكَ وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ جَارِيَةً سَمِينَةً فَهَزَلَتْ في يَدِ
الْغَاصِبِ إن عليه نُقْصَانَ الْهُزَالِ
وَلَوْ عَادَتْ سَمِينَةً في يَدِهِ فَرَدَّهَا لَا شَيْءَ عليه لِأَنَّ نُقْصَانَ
الْهُزَالِ انْجَبَرَ بِالسِّمَنِ فَصَارَ كَأَنْ لم يَكُنْ أَصْلًا وَكَذَا إذَا
قُلِعَتْ سِنُّهَا في يَدِهِ فَنَبَتَتْ فَرَدَّهَا لِأَنَّهَا لَمَّا نَبَتَتْ
ثَانِيًا جُعِلَ كَأَنَّهَا لم تُقْلَعْ وَكَذَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهَا في يَدِهِ
فَرَدَّهَا مع الْأَرْشِ لِمَا قُلْنَا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ نُقْصَانُ الْوِلَادَةِ أَنَّهُ مَضْمُونٌ على الْغَاصِبِ
لِفَوَاتِ جُزْءٍ من الْمَغْصُوبِ بِالْوِلَادَةِ إلَّا إذَا كان له جَابِرٌ
فَيَنْعَدِمُ الْفَوَاتُ من حَيْثُ الْمَعْنَى
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ إذَا نَقَصَتْهَا
الْوِلَادَةُ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا إن كان الْأُمُّ أو الْوَلَدُ
جميعا قَائِمَيْنِ في يَدِ الْغَاصِبِ وَإِمَّا إن هَلَكَا جميعا في يَدِهِ
وَإِمَّا إن هَلَكَ أَحَدُهُمَا وَبَقِيَ الْآخَرُ فَإِنْ كَانَا قَائِمَيْنِ
رَدَّهُمَا على الْمَغْصُوبِ منه ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان في قِيمَةِ الْوَلَدِ
وَفَاءٌ لِنُقْصَانِ الْوِلَادَةِ انْجَبَرَ بِهِ وَلَا شَيْءَ على الْغَاصِبِ
وَإِنْ لم يَكُنْ في قِيمَتِهِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ انْجَبَرَ بِقَدْرِهِ
وَضَمِنَ الْبَاقِيَ اسْتِحْسَانًا وهو قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزُ وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَلَوْ لم يَكُنْ في الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ وَقْتَ الرَّدِّ ثُمَّ
حَصَلَ بِهِ وَفَاءٌ بَعْدَ الرَّدِّ لم يُعْتَبَرْ ذلك لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لم
تَحْصُلْ في ضَمَانِ الْغَاصِبِ فَلَا تَصْلُحُ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ
وَقَالُوا إنَّ نُقْصَانَ الْحَبَلِ على هذا الْخِلَافِ بِأَنْ غَصَبَ جَارِيَةً
حَائِلًا فَحَمَلَتْ في يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهَا إلَى الْمَالِكِ فَوَلَدَتْ
عِنْدَهُ وَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ وفي الْوَلَدِ وَفَاءٌ لَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ
شيئا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ
لوعلى ( ( ( وعلى ) ) ) هذا الْخِلَافِ إذَا بِيعَتْ بَيْعًا فَاسِدًا وَهِيَ
حَامِلٌ فَوَلَدَتْ في يَدِ الْمُشْتَرِي وَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ وفي
الْوَلَدِ وَفَاءً فَرَدُّ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ مع الْوَلَدِ إلَى
الْبَائِعِ أنه لَا يَضْمَنُ شيئا خِلَافًا لِزُفَرَ
وَعَلَى هذا الْخِلَافُ إذَا كان له جَارِيَةٌ لِلتِّجَارَةِ فَحَالَ عليها
الْحَوْلُ وَقِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَوَلَدَتْ فَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ
مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وفي الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ أَنَّهُ يَبْقَى
الْوَاجِبُ في جَمِيعِ الْأَلْفِ وَلَا يَسْقُطُ منه شَيْءٌ
وَعِنْدَ
____________________
(7/157)
زُفَرَ
رَحِمَهُ اللَّهُ يَبْقَى فِيمَا وَرَاءَ النُّقْصَانِ وَيَسْقُطُ بِقَدْرِهِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ في مَسْأَلَةِ الْغَصْبِ أَنَّهُ وُجِدَ
سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وهو النُّقْصَانُ فَيَجِبُ الضَّمَانُ جَبْرًا له
لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ جَبْرِ الْفَائِتِ وقد حَصَلَ الْفَوَاتُ فَلَا
بُدَّ له من جَابِرٍ وَالْوَلَدُ لَا يَصْلُحُ جَابِرًا له لِأَنَّ الْفَائِتَ
مِلْكُ الْمَغْصُوبِ منه وَالْوَلَدُ مِلْكُهُ أَيْضًا وَلَا يُعْقَلُ أَنْ
يَكُونَ مِلْكُ الْإِنْسَانِ جَابِرًا لِمِلْكِهِ فَلَزِمَ جَبْرُهُ بِالضَّمَانِ
وَلَنَا أَنَّ هذا نُقْصَانٌ صُورَةً لَا مَعْنًى فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا
كَنُقْصَانِ السِّنِّ وَالسِّمَنِ وَالْقَطْعِ وقد مَرَّ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ هذا ليس نُقْصَانًا مَعْنًى أَنَّ سَبَبَ الزِّيَادَةِ
وَالنُّقْصَانِ وَاحِدٌ وهو الْوِلَادَةُ وَاتِّحَادُ سَبَبِ الزِّيَادَةِ
وَالنُّقْصَانِ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ النُّقْصَانِ من حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ
الزِّيَادَةَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مِثْلُ الْفَائِتِ فَالسَّبَبُ الذي فَوَّتَ
أَفَادَ له مثله من حَيْثُ الْمَعْنَى فلم يَحْصُلْ الْفَوَاتُ إلَّا من حَيْثُ
الصُّورَةُ وَالصُّورَةُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْقِيمَةِ في ضَمَانِ الْعُدْوَانِ
وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ إن جَبْرَ مِلْكِهِ بِمِلْكِهِ غَيْرُ
مَعْقُولٍ لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ النُّقْصَانِ من حَيْثُ
الْمَعْنَى فَيَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ الْفَوَاتِ من حَيْثُ الْمَعْنَى فَلَا حَاجَةَ
إلَى الْجَابِرِ
وَإِنْ هَلَكَا جميعا في يَدِ الْغَاصِبِ ضَمِنَ قِيمَةَ الْأُمِّ يوم غَصَبَ
لِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ فيها ولم يَضْمَنْ قِيمَةَ الْوَلَدِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ
غَيْرُ مَغْصُوبٍ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَضْمَنُ لِوُجُودِ
الْغَصْبِ فيه وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ في صَدْرِ الْكِتَابِ
وَإِنْ كان الْغَاصِبُ قَتَلَ الْوَلَدَ أو بَاعَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مع قِيمَةِ
أُمِّهِ لِأَنَّ الْوَلَدَ إنْ كان أَمَانَةً في يَدِ الْغَاصِبِ عِنْدَنَا
فَالْأَمَانَةَ تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِوُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ فيها وقد وُجِدَ
على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
فَإِنْ كانت قِيمَةُ الْأُمِّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ مِائَةَ
دِرْهَمٍ وَالْوَلَدُ يُسَاوِي مِائَتَيْنِ ضَمِنَ قِيمَةَ الْأُمِّ يوم الْغَصْبِ
أَلْفَ دِرْهَمٍ وَضَمِنَ من الْوَلَدِ نِصْفَ قِيمَتِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ
يَدْخُلُ ذلك النِّصْفُ في قِيمَةِ الْأُمِّ وَإِنْ شِئْت ضَمَّنْته قِيمَةَ
الْأُمِّ يوم وَلَدَتْ وَقِيمَةَ الْوَلَدِ بِأُمِّهِ وَكُلُّ ذلك سَوَاءٌ لِأَنَّ
النُّقْصَانَ إذَا انْجَبَرَ بِالْوَلَدِ كان الْوَاجِبُ من الضَّمَانِ في
الْحَاصِلِ ألف ( ( ( ألفا ) ) ) وَمِائَةً فَإِنْ اُعْتُبِرَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ
تَامَّةً بَقِيَ نِصْفُ قِيمَةِ الْوَلَدِ وَإِنْ اُعْتُبِرَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ
تِسْعَمِائَةٍ بَقِيَ كُلُّ قِيمَةِ الْوَلَدِ وَإِنْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا وَبَقِيَ
الْآخَرُ فَإِنْ هَلَكَ الْوَلَدُ قبل الرَّدِّ رَدَّ الْأُمَّ وَضَمِنَ نُقْصَانَ
الْوِلَادَةِ وَلَيْسَ عليه ضَمَانُ الْوَلَدِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ هَلَكَ
أَمَانَةً فَإِنْ هَلَكَتْ الْأُمُّ وَبَقِيَ الْوَلَدُ ضَمِنَ قِيمَةَ الْأُمِّ
يوم غَصَبَ وَرَدَّ الْوَلَدَ وَلَا تُجْبَرُ الْأُمُّ بِالْوَلَدِ
وَإِنْ كان في قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِقِيمَةِ الْأُمِّ بِخِلَافِ ضَمَانِ
النُّقْصَانِ أَنَّهُ يُجْبَرُ بِالْوَلَدِ لِأَنَّ الْجَبْرَ هُنَاكَ لِاتِّحَادِ
سَبَبِ النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ وهو الْوِلَادَةُ ولم تُوجَدْ هَهُنَا لِأَنَّ
الْوِلَادَةَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ وَلَيْسَتْ سَبَبًا لِهَلَاكِ الْأُمِّ
لِأَنَّهَا لَا تُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ غَالِبًا فلم يَتَّحِدْ السَّبَبُ
فَيَتَعَذَّرُ الْجَبْرُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ ولم يَخِطْهُ إن
لِلْمَغْصُوبِ منه أَنْ يُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ غير أَنَّ النُّقْصَانَ إنْ كان
يَسِيرًا لَا خِيَارَ لِلْمَغْصُوبِ منه وَلَيْسَ له إلَّا ضَمَانُ النُّقْصَانِ
لِأَنَّ ذلك نَقْصٌ وَتَعْيِيبٌ فَيُوجِبُ ضَمَانَ نُقْصَانِ الْعَيْبِ
وَإِنْ كان فَاحِشًا بِأَنْ قَطَعَهُ قَبَاءً أو قَمِيصًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ
شَاءَ أَخَذَهُ مَقْطُوعًا وَضَمَّنَهُ ما نَقَصَهُ الْقَطْعُ وَإِنْ شَاءَ
تَرَكَهُ عليه وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبٍ غَيْرِ مَقْطُوعٍ لِأَنَّ الْقَطْعَ
الْفَاحِشَ يُفَوِّتُ بَعْضَ الْمَنَافِعِ الْمَطْلُوبَةِ من الثَّوْبِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِمَا كان يَصْلُحُ له قبل الْقَطْعِ فَكَانَ
اسْتِهْلَاكًا له من وَجْهٍ فَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ
وَكَذَلِكَ لو غَصَبَ شَاةً فَذَبَحَهَا ولم يَشْوِهَا وَلَا طَبَخَهَا
فَالْمَغْصُوبُ منه بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الشَّاةَ وَضَمَّنَهُ نُقْصَانَ
الذَّبْحِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا عليه وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا يوم الْغَصْبِ
كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ وَسَوَاءٌ سَلَخَهَا الْغَاصِبُ وَأَرَّبَهَا أو لَا
بَعْدَ أَنْ لم يَكُنْ شَوَاهَا وَلَا طَبَخَهَا
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إنْ شَاءَ أَخَذَ
الشَّاةَ وَلَا شَيْءَ له غَيْرُهَا وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا يوم
الْغَصْبِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ ذَبْحَ الشَّاةِ إنْ كان نُقْصَانًا صُورَةً فَهُوَ
زِيَادَةٌ من حَيْثُ الْمَعْنَى
لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الشَّاةِ اللَّحْمُ وَالذَّبْحُ وَسِيلَةٌ إلَى هذا
الْمَقْصُودِ فلم يَكُنْ نُقْصَانًا بَلْ كان زِيَادَةً حَيْثُ رَفَعَ عنه
مُؤْنَةَ الْوَسِيلَةِ فَكَانَ الْغَاصِبُ مُحْسِنًا في الذَّبْحِ وقد قال اللَّهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { ما على الْمُحْسِنِينَ من سَبِيلٍ } فإذا اخْتَارَ أَخْذَ
اللَّحْمِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ له خِيَارُ التَّرْكِ
عليه وَيُضَمِّنُهُ الْقِيمَةَ لِفَوَاتِ مَقْصُودِ ما في الْجُمْلَةِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الشَّاةَ كما يُطْلَبُ منها اللَّحْمُ يُطْلَبُ
منها مَقَاصِدُ أُخَرُ من الدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالتِّجَارَةِ فَكَانَ الذَّبْحُ
تَفْوِيتًا لِبَعْضِ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ منها فَكَانَ تَنْقِيصًا لها
وَاسْتِهْلَاكًا من وَجْهٍ فَيَثْبُتُ له خِيَارُ تَضْمِينِ النُّقْصَانِ
وَخِيَارُ تَضْمِينِ الْقِيمَةِ كما في مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ
وَعَلَى هذا
____________________
(7/158)
الْأَصْلِ
يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ من إنْسَانٍ عَيْنًا من ذَوَاتِ الْقِيَمِ أو من ذَوَاتِ
الْأَمْثَالِ وَنَقَلَهَا إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى فَالْتَقَيَا وَالْعَيْنُ في يَدِ
الْغَاصِبِ وَقِيمَتُهَا في ذلك الْمَكَانِ أَقَلُّ من قِيمَتِهَا في مَكَانِ
الْغَصْبِ إن لِلْمَغْصُوبِ منه أَنْ يُطَالِبَهُ في ذلك الْمَكَانِ بِقِيمَتِهَا
التي في مَكَانِ الْغَصْبِ لأن ( ( ( لأنها ) ) ) قِيَمُ الأعيان ( ( ( أعيان ) )
) تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فإذا
نَقَلَهَا إلَى ذلك الْمَكَانِ وَقِيمَتُهَا فيه أَقَلُّ من قِيمَتِهَا في مَكَانِ
الْغَصْبِ فَقَدْ نَقَصَهَا من حَيْثُ الْمَعْنَى بِالنَّقْلِ فَلَوْ أُجْبِرَ على
أَخْذِ الْعَيْنِ لَتَضَرَّرَ بِهِ من جِهَةِ الْغَاصِبِ فَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ
إنْ شَاءَ طَالَبَهُ بِالْقِيمَةِ التي في مَكَانِ الْغَصْبِ وَإِنْ شَاءَ
انْتَظَرَ الْعَوْدَ إلَى مَكَانِ الْغَصْبِ بِخِلَافِ ما إذَا وَجَدَهُ في
الْبَلَدِ الذي غَصَبَهُ فيه وقد انْتَقَصَ السِّعْرُ إنه لَا يَكُونُ له خِيَارٌ لِأَنَّ
النُّقْصَانَ هُنَاكَ ما حَصَلَ بِصُنْعِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِتَغَيُّرِ
السِّعْرِ وَلَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ في ذلك بَلْ هو مَحْضُ صُنْعِ اللَّهِ عز وجل
أَعْنِي مَصْنُوعَهُ فلم يَكُنْ مَضْمُونًا عليه
وَلَوْ كانت قِيمَةُ الْعَيْنِ في الْمَكَانِ الْمَنْقُولِ إلَيْهِ مِثْلَ
قِيمَتِهَا في مَكَانِ الْغَصْبِ أو أَكْثَرَ ليس له وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ
بِالْقِيمَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ هو وُجُوبُ رَدِّ
الْعَيْنِ حَالَ قِيَامِ الْعَيْنِ وَالْمَصِيرُ إلَى الْقِيمَةِ لِدَفْعِ
الضَّرَرِ وَهَهُنَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى الْعَيْنِ من غَيْرِ ضَرَرٍ
يَلْزَمُهُ فَلَا يَمْلِكُ الْعُدُولَ إلَى الْقِيمَةِ
وَلَوْ كان الْمَغْصُوبُ دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ فَلَيْسَ له أَنْ يُطَالِبَهُ
بِالْقِيمَةِ وَإِنْ اخْتَلَفَ السِّعْرُ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ
جُعِلَتْ أَثْمَانَ الْأَشْيَاءِ وَمَعْنَى الثَّمَنِيَّةِ لَا يَخْتَلِفُ
بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ عَادَةً لِأَنَّهُ ليس لها حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ
لِعِزَّتِهَا وَقِلَّتِهَا عَادَةً فلم يَكُنْ النَّقْلُ نُقْصَانًا لها
بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْحَمْلِ وَالْمُؤْنَةِ ولم يُوجَدْ
فلم يَكُنْ له وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِيمَةِ وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ
بِرَدِّ عَيْنِهَا لِأَنَّهُ هو الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلْغَصْبِ وَالْمَصِيرُ
إلَى الْقِيمَةِ لِعَارِضِ الْعَجْزِ أو الضَّرَرِ ولم يُوجَدْ
هذا إذَا كانت الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ قَائِمَةً في الْغَاصِبِ فَأَمَّا إذَا
كانت هَالِكَةً فَالْتَقَيَا فَإِنْ كانت من ذات ( ( ( ذوات ) ) ) الْقِيَمِ
أَخَذَ قِيمَتَهَا التي كانت وَقْتَ الْغَصْبِ لِأَنَّهَا إذَا هَلَكَتْ
تَبَيَّنَّ أَنَّ الْغَصْبَ السَّابِقَ وَقَعَ إتْلَافًا من حِينِ وُجُودِهِ
وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ من حِينِ وُجُودِ سَبَبِهِ
وَإِنْ كان من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ يُنْظَرُ إنْ كان سِعْرُهَا في الْمَكَانِ
الذي الْتَقَيَا فيه أَقَلَّ من سِعْرِهَا في مَكَانِ الْغَصْبِ فَالْمَغْصُوبُ
منه بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْقِيمَةَ التي لِلْعَيْنِ في مَكَانِ
الْغَصْبِ وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ وَلَا يُجْبَرُ على أَخْذِ الْمِثْلِ في هذا
الْمَكَانِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ نَقَصَ الْعَيْنَ بِالنَّقْلِ إلَى هذا
الْمَكَانِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اخْتِلَافَ قِيمَةِ الْأَشْيَاءِ التي لها
حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ لِمَكَانِ الْحَمْلِ
وَالْمُؤْنَةِ فَالْجَبْرُ على الْأَخْذِ في هذا الْمَكَانِ يَكُونُ إضْرَارًا
بِهِ فَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْقِيمَةَ وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ
كما لو كانت الْعَيْنُ قَائِمَةً وَقِيمَتُهَا في هذا الْمَكَانِ أَقَلُّ
وَإِنْ كانت قِيمَتُهَا في هذا الْمَكَانِ مِثْلَ قِيمَتِهَا في مَكَانِ الْغَصْبِ
كان لِلْمَغْصُوبِ منه أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْمِثْلِ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فيه على
أَحَدٍ وَإِنْ كانت قِيمَتُهَا في مَكَانِ الْخُصُومَةِ أَكْثَرَ من قِيمَتِهَا في
مَكَانِ الغاصب ( ( ( الغصب ) ) ) فَالْغَاصِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْطَى
الْمِثْلَ في مَكَانِ الْخُصُومَةِ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى الْقِيمَةَ في مَكَانِ
الْغَصْبِ لِأَنَّ في إلْزَامِ تَسْلِيمِ الْمِثْلِ في مَكَانِ الْخُصُومَةِ
ضَرَرًا بِالْغَاصِبِ وفي التَّأْخِيرِ إلَى الْعَوْدِ إلَى مَكَانِ الْغَصْبِ
ضَرَرًا بِالْمَغْصُوبِ منه فَيُسَلِّمُ إلَيْهِ في هذا الْمَكَانِ الْقِيمَةَ
التي له في مَكَانِ الْغَصْبِ
إلَّا أَنْ يَرْضَى الْمَغْصُوبُ منه بِالتَّأْخِيرِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَإِنْ كان الْمَغْصُوبُ من أَمْوَالِ الرِّبَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ
مُتَفَاضِلًا كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ فَانْتَقَصَ في يَدِ الْغَاصِبِ
بِصُنْعِهِ أو بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَلَيْسَ لِلْمَغْصُوبِ منه أَنْ يأخذه ( ( (
يأخذ ) ) ) منه وَيُضَمِّنَهُ قِيمَةَ النُّقْصَانِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى
الرِّبَا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَعَفِنَتْ في يَدِ الْغَاصِبِ أو
ابْتَلَّتْ أو صَبَّ الْغَاصِبُ فيها مَاءً فَانْتَقَصَتْ قِيمَتُهَا إن
صَاحِبَهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِعَيْنِهَا وَلَا شَيْءَ له
غَيْرُهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا على الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ مِثْلَ ما غُصِبَتْ
وَلَيْسَ له أَنْ يَأْخُذَهَا وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ
وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ له ذلك بِنَاءً على
أَنَّ الْجَوْدَةَ بِانْفِرَادِهَا لَا قِيمَةَ لها في أَمْوَالِ الرِّبَا
عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لها قِيمَةٌ
وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ في كِتَابِ الْبُيُوعِ
وإذا لم تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً لِأَنَّ الْمَضْمُونَ هو
الْمَالُ الْمُتَقَوِّمُ وَلِأَنَّهَا إذَا لم تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً تُؤَدِّي إلَى
الرِّبَا
وَلَوْ غَصَبَ دِرْهَمًا صَحِيحًا أو دِينَارًا صَحِيحًا فَانْكَسَرَ في يَدِهِ أو
كَسَرَهُ إنْ كان في مَوْضِعٍ لَا يَتَفَاوَتُ الصَّحِيحُ وَالْمُكَسَّرُ في
الْقِيمَةِ لَا شَيْءَ على الْغَاصِبِ وَإِنْ كان في مَوْضِعٍ يَتَفَاوَتُ
فَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَيْنِهِ وَلَا شَيْءَ له
غَيْرُهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عليه وَضَمَّنَهُ مِثْلَ ما أَخَذَ وَلَيْسَ له
أَنْ يَأْخُذَهُ بِعَيْنِهِ وَيُضَمِّنَهُ
____________________
(7/159)
النُّقْصَانَ
عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً على الْأَصْلِ الذي
ذَكَرْنَا
وَإِنْ كان الْمَغْصُوبُ إنَاءَ فِضَّةٍ أو ذَهَبٍ فَانْهَشَمَ في يَدِ الْغَاصِبِ
أو هَشَّمَهُ فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَيْنِهِ وَلَا
شَيْءَ له غَيْرُهُ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ من خِلَافِ الْجِنْسِ
لِأَنَّ الْجَوْدَةَ لَا قِيمَةَ لها بِانْفِرَادِهَا
فَأَمَّا مع الْأَصْلِ فَمُتَقَوِّمَةٌ خُصُوصًا إذَا حَصَلَتْ بِصُنْعِ
الْعِبَادِ فَلَا بُدَّ من التَّضْمِينِ وَالتَّضْمِينُ بِالْمِثْلِ غَيْرُ
مُمْكِنٍ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ له فَوَجَبَ التَّضْمِينُ بِالْقِيمَةِ ثُمَّ لَا
سَبِيلَ إلَى تَضْمِينِهِ بِجِنْسِهِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَلَزِمَ
تَضْمِينُهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّ هُنَاكَ
إيجَابُ الْمِثْلِ مُمْكِنٌ وهو الْأَصْلُ في الْبَابِ فَلَا يُعْدَلُ عن
الْأَصْلِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَوْ قَضَى عليه بِالْقِيمَةِ من خِلَافِ
الْجِنْسِ ثُمَّ تَفَرَّقَا قبل التَّقَابُضِ من الْجَانِبَيْنِ لَا يَبْطُلُ
الْقَضَاءُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لِأَنَّ
الْقِيمَةَ قَامَتْ مَقَامَ الْعَيْنِ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَبْطُلُ
لِأَنَّهُ صَرْفٌ
وَكَذَلِكَ آنِيَةُ الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ والشبه وَالرَّصَاصِ إنْ كانت تُبَاعُ
وَزْنًا فَهِيَ وَآنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَوَاءٌ لِأَنَّهَا إذَا كانت
تُبَاعُ وَزْنًا لم تَخْرُجْ بِالصِّنَاعَةِ عن حَدِّ الْوَزْنِ فَكَانَتْ
مَوْزُونَةً فَكَانَتْ من أَمْوَالِ الرِّبَا كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فإذا
انْهَشَمَتْ في يَدِ الْغَاصِبِ نَفْسِهِ أو غَيْرِهِ فَحَدَثَ فيها عَيْبٌ
فَاحِشٌ أو يَسِيرٌ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ كَذَلِكَ وَلَا شَيْءَ له غَيْرُهُ وَإِنْ
شَاءَ تَرَكَهُ عليه بِالْقِيمَةِ من الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَلَا يَكُونُ
التَّقَابُضُ فيه شَرْطًا بِالْإِجْمَاعِ
وَكَذَلِكَ هذا الْحُكْمُ في كل مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ إذَا نَقَصَ من وَصْفِهِ لَا
من الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ
وَإِنْ كانت تُبَاعُ عَدَدًا فَانْكَسَرَتْ أو كُسِّرَتْ إنْ كان ذلك لم يُورِثْ
فيه عَيْبًا فَاحِشًا فَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ فيه خِيَارُ التَّرْكِ وَلَكِنَّهُ
يَأْخُذُهَا وَيُضَمِّنُهُ نُقْصَانَ الْقِيمَةِ
وَإِنْ كان أَوْرَثَ عَيْبًا فَاحِشًا فَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ
أَخَذَهَا وَأَخَذَ قِيمَةَ النُّقْصَانِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا عليه وَضَمَّنَهُ
قِيمَتَهَا صَحِيحًا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ عَصِيرًا فَصَارَ خَلًّا في يَدِهِ أو
لَبَنًا حَلِيبًا فَصَارَ مَخِيضًا أو عِنَبًا فَصَارَ زَبِيبًا أو رُطَبًا
فَصَارَ تَمْرًا إن الْمَغْصُوبَ منه بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ ذلك الشَّيْء
بِعَيْنِهِ وَلَا شَيْء له غَيْرُهُ لِأَنَّ هذه من أَمْوَالِ الرِّبَا فلم تَكُنْ
الْجَوْدَةُ فيها بِانْفِرَادِهَا مُتَقَوِّمَةً فَلَا تَكُونُ مُتَقَوِّمَةً
وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ على الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ مِثْلَ ما غَصَبَ لِمَا
ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَأَمَّا طَرِيقُ مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ فَهُوَ أَنْ يُقَوَّمَ صَحِيحًا
وَيُقَوَّمَ وَبِهِ الْعَيْبُ فَيَجِبُ قَدْرُ ما بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَا
يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ النُّقْصَانِ إلَّا بهذا الطَّرِيقِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ زِيَادَةِ الْمَغْصُوبِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ
التَّوْفِيقُ إذَا حَدَثَتْ زِيَادَةٌ في الْمَغْصُوبِ في يَدِ الْغَاصِبِ
فَالزِّيَادَةُ لَا تَخْلُو إمَّا إن كانت مُنْفَصِلَةً عن الْمَغْصُوبِ وَإِمَّا
إن كانت مُتَّصِلَةً بِهِ فَإِنْ كانت مُنْفَصِلَةً عنه أَخَذَهَا الْمَغْصُوبُ
منه مع الْأَصْلِ وَلَا شَيْءَ عليه لِلْغَاصِبِ سَوَاءٌ كانت مُتَوَلِّدَةً من
الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ أو ما هو في حُكْمِ
الْمُتَوَلِّدِ كَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ أو غير مُتَوَلِّدَةٍ منه أَصْلًا
كَالْكَسْبِ من الصَّيْدِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا
لِأَنَّ الْمُتَوَلِّدَ منها نَمَاءُ مِلْكِهِ فَكَانَ مِلْكَهُ وما هو في حُكْمِ
الْمُتَوَلِّدِ بَدَلُ جُزْءٍ مَمْلُوكٍ أو بَدَلُ ما له حُكْمُ الْجُزْءِ فَكَانَ
مَمْلُوكًا له وَغَيْرُ الْمُتَوَلِّدِ كَسْبٌ مَلَكَهُ فَكَانَ مِلْكَهُ
وَأَمَّا بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ وهو الْأُجْرَةُ بِأَنْ آجَرَ الْغَاصِبُ
الْمَغْصُوبَ يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ عِنْدَنَا وَيَتَصَدَّقُ بِهِ
خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً على أَنَّ الْمَنَافِعَ
لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ مُتَقَوِّمَةٍ بِأَنْفُسِهَا عِنْدَنَا حتى لَا تُضْمَنَ
بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ وأنه وُجِدَ من
الْغَاصِبِ وَعِنْدَهُ هِيَ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ بِأَنْفُسِهَا مَضْمُونَةٌ
بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ كَالْأَعْيَانِ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا
تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَإِنْ كانت مُتَّصِلَةً بِهِ فَإِنْ كانت مُتَوَلِّدَةً كَالْحُسْنِ وَالْجَمَالِ
وَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ وَنَحْوِهَا أَخَذَهَا الْمَالِكُ مع الْأَصْلِ وَلَا
شَيْءَ عليه لِلْغَاصِبِ لِأَنَّهَا نَمَاءُ مِلْكِهِ
وَإِنْ كانت غير مُتَوَلِّدَةٍ منه يُنْظَرُ إنْ كانت الزِّيَادَةُ عَيْنَ مَالٍ
مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ في الْمَغْصُوبِ وهو تَابِعٌ لِلْمَغْصُوبِ فَالْمَغْصُوبُ
منه بِالْخِيَارِ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَإِنْ لم تَكُنْ عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ أَخَذَهَا الْمَغْصُوبُ منه
وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ وَإِنْ كانت عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَلَكِنَّهُ ليس
بِبَيْعٍ لِلْمَغْصُوبِ بَلْ هِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا تَزُولُ عن مِلْكِ
الْمَغْصُوبِ منه وَتَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ لِلضَّمَانِ
وَبَيَانُ هذا في مَسَائِلَ إذَا غَصَبَ من إنْسَانٍ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ
الْغَاصِبُ بِصِبْغِ نَفْسِهِ فَإِنْ صَبَغَهُ أَحْمَرَ أو أَصْفَرَ بِالْعُصْفُرِ
وَالزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِهِمَا من الْأَلْوَانِ سِوَى السَّوَادِ فَصَاحِبُ
الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ من الْغَاصِبِ وَأَعْطَاهُ ما
زَادَ الصَّبْغُ فيه
أَمَّا وِلَايَةُ أَخْذِ الثَّوْبِ فَلِأَنَّ الثَّوْبَ مِلْكُهُ لِبَقَاءِ
اسْمِهِ وَمَعْنَاهُ وَأَمَّا ضَمَانُ ما زَادَ الصَّبْغُ فيه فَلِأَنَّ
لِلْغَاصِبِ عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ فَلَا سَبِيلَ إلَى إبْطَالِ
____________________
(7/160)
مِلْكِهِ
عليه من غَيْرِ ضَمَانٍ فَكَانَ الْأَخْذُ بِضَمَانٍ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ
وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الثَّوْبَ على الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ
أَبْيَضَ يوم الْغَصْبِ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى جَبْرِهِ على أَخْذِ الثَّوْبِ
إذْ لَا يُمْكِنُهُ أَخْذُهُ إلَّا بِضَمَانٍ وهو قِيمَةُ ما زَادَ الصَّبْغُ فيه
وَلَا سَبِيلَ إلَى جَبْرِهِ على الضَّمَانِ لِانْعِدَامِ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ
وُجُوبِ الضَّمَانِ منه
وَقِيلَ له خِيَارٌ ثَالِثٌ وهو أَنَّ له تَرْكَ الثَّوْبِ على حَالِهِ وكان
الصِّبْغُ فيه لِلْغَاصِبِ فَيُبَاعُ الثَّوْبُ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ على قَدْرِ
حَقِّهِمَا
كما إذَا انْصَبَغَ لَا بِفِعْلِ أَحَدٍ لِأَنَّ الثَّوْبَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ
منه وَالصِّبْغُ مِلْكُ الْغَاصِبِ وَالتَّمْيِيزُ مُتَعَذَّرٌ فَصَارَا
شَرِيكَيْنِ في الثَّوْبِ فَيُبَاعُ الثَّوْبُ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا
على قَدْرِ حَقِّهِمَا
وَإِنَّمَا كان الْخِيَارُ لِلْمَغْصُوبِ منه لَا لِلْغَاصِبِ
وَإِنْ كان لِلْغَاصِبِ فيه مِلْكٌ أَيْضًا وهو الصِّبْغُ لِأَنَّ الثَّوْبَ
أَصْلٌ وَالصِّبْغَ تَابِعٌ له فَتَخْيِيرُ صَاحِبِ الْأَصْلِ أَوْلَى من أَنْ
يُخَيَّرَ صَاحِبُ التَّبَعِ وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَحْبِسَ الثَّوْبَ
بِالْعُصْفُرِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ تَبَعٍ وَإِنْ صَبَغَهُ أَسْوَدَ اُخْتُلِفَ فيه
قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ صَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ
تَرَكَهُ على الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ وَإِنْ شَاءَ
أَخَذَ الثَّوْبَ وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ بَلْ يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ السَّوَادُ وَسَائِرُ
الْأَلْوَانِ سَوَاءٌ
وَهَذَا بِنَاءً على أَنَّ السَّوَادَ نُقْصَانٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ
عنه لِأَنَّهُ يُحْرِقُ الثَّوْبَ فَيُنْقِصُهُ وَعِنْدَهُمَا زِيَادَةٌ كَسَائِرِ
الْأَلْوَانِ
وَقِيلَ إنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ في الْحَقِيقَةِ
وَجَوَابُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في سَوَادٍ يَنْقُصُ وَجَوَابُهُمَا في
سَوَادٍ يَزِيدُ
وَقِيلَ كان السَّوَادُ يُعَدُّ نُقْصَانًا في زَمَنِهِ
وَزَمَنَهُمَا كان يُعَدُّ زِيَادَةً فَكَانَ اخْتِلَافُ زَمَانٍ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْعُصْفُرُ إذَا نَقَصَ الثَّوْبَ بِأَنْ كانت قِيمَةُ الثَّوْبِ ثَلَاثِينَ
فَعَادَتْ قِيمَتُهُ بِالصَّبْغِ إلَى عِشْرِينَ فإنه يُنْظَرُ إلَى قَدْرِ ما
يَزِيدُ هذا الصَّبْغُ لو كان في ثَوْبٍ يُزِيدُ هذا الصَّبْغُ قِيمَتَهُ وَلَا
يُنْقِصُ فَإِنْ كان يُزِيدُهُ قَدْرَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَصَاحِبُ الثَّوْبِ
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَرَكَ الثَّوْبَ على الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ
الثَّوْبِ أَبْيَضَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَخَذَ
من الْغَاصِبِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ
كَذَا قال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْعُصْفُرَ نَقَّصَ من هذا
الثَّوْبِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ إلَّا أَنْ يُقَدَّرَ خَمْسَةً فيه صِبْغٌ
فَانْجَبَرَ نُقْصَانُ الْخَمْسَةِ بِهِ أو صَارَتْ الْخَمْسَتَانِ قِصَاصًا
وَبَقِيَ نُقْصَانُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَيَرْجِعُ عليه بِخَمْسَةٍ وَكَذَلِكَ
السَّوَادُ على هذا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ صَبَغَ الثَّوْبَ الْمَغْصُوبَ بِعُصْفُرِ نَفْسِهِ وَبَاعَهُ وَغَابَ
ثُمَّ حَضَرَ صَاحِبُ الثَّوْبِ يقضى له بِالثَّوْبِ وَيَسْتَوْثِقُ منه بِكَفِيلٍ
أَمَّا الْقَضَاءُ بِالثَّوْبِ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ
الثَّوْبَ أَصْلٌ وَالصِّبْغُ تَابِعٌ له فَكَانَ صَاحِبُ الثَّوْبِ صَاحِبَ
أَصْلٍ فَكَانَ اعْتِبَارُ جَانِبِهِ أَوْلَى
وَأَمَّا الِاسْتِيثَاقُ بِكَفِيلٍ فَلِأَنَّ لِلْغَاصِبِ فيه عَيْنَ مَالٍ
مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ
وَلَوْ وَقَعَ الثَّوْبُ الْمَغْصُوبُ في صِبْغِ إنْسَانٍ فَصُبِغَ بِهِ أو هَبَّتْ
الرِّيحُ بِثَوْبِ إنْسَانٍ فَأَلْقَتْهُ في صِبْغِ غَيْرِهِ فَانْصَبَغَ بِهِ
فَإِنْ كان الصِّبْغُ عُصْفُرًا أو زَعْفَرَانًا فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ
إنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ ما زَادَ الصِّبْغُ فيه لِمَا مَرَّ
وَإِنْ شَاءَ امْتَنَعَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى جَبْرِهِ على
الضَّمَانِ لِانْعِدَامِ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ منه فَيُبَاعُ
الثَّوْبُ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَقِّهِ فَيَضْرِبُ صَاحِبُ
الثَّوْبِ بِقِيمَةِ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ لِأَنَّ حَقَّهُ في الثَّوْبِ الْأَبْيَضِ
وَصَاحِبُ الصِّبْغِ يَضْرِبُ بِقِيمَةِ الصِّبْغِ في الثَّوْبِ وهو قِيمَةُ ما
زَادَ الصِّبْغُ فيه لِأَنَّ حَقَّهُ في الصِّبْغِ الْقَائِمِ في الثَّوْبِ لَا في
الصِّبْغِ الْمُنْفَصِلِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ لَا
لِلْغَاصِبِ لِمَا بَيَّنَّا
وَإِنْ كان سَوَادًا أَخَذَهُ صَاحِبُ الثَّوْبِ وَلَا شَيْءَ عليه من قِيمَةِ
الصَّبْغِ بَلْ يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ إنْ كان غَاصِبًا لِأَنَّ النُّقْصَانَ
حَصَلَ في ضَمَانِهِ
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَعِنْدَهُمَا حُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْأَلْوَانِ على ما بَيَّنَّا وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ السَّمْنُ يُخْلَطُ بِالسَّوِيقِ الْمَغْصُوبِ أو يُخْلَطُ بِهِ
فَالسَّوِيقُ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ وَالسَّمْنُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبْغِ لِأَنَّ
السَّوِيقَ أَصْلٌ وَالسَّمْنَ كَالتَّابِعِ له
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ سَوِيقٌ مَلْتُوتٌ وَلَا يُقَالُ سَمْنٌ مَلْتُوتٌ
وَأَمَّا الْعَسَلُ إذَا خُلِطَ بِالسَّمْنِ أو اخْتَلَطَ بِهِ فَكُلَاهُمَا
أَصْلٌ وإذا خُلِطَ الْمِسْكُ بِالدُّهْنِ أو اخْتَلَطَ بِهِ فَإِنْ كان يَزِيدُ
الدُّهْنَ وَيُصْلِحُهُ كان الْمِسْكُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبْغِ وَإِنْ كان دُهْنًا
لَا يَصْلُحُ بِالْخَلْطِ وَلَا تَزِيدُ قِيمَتُهُ كَالْأَدْهَانِ الْمُنْتِنَةِ
فَهُوَ هَالِكٌ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ غَصَبَ من إنْسَانٍ ثَوْبًا وَمِنْ إنْسَانٍ صِبْغًا فَصَبَغَهُ بِهِ
ضَمِنَ لِصَاحِبِ الصِّبْغِ صِبْغًا مِثْلَ صِبْغِهِ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عليه
صِبْغَهُ وهو من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ فَبَعْدَ
ذلك حُكْمُهُ
____________________
(7/161)
وَحُكْمُ
ما إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ الْمَغْصُوبَ بِصِبْغِ نَفْسِهِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ
مَلَكَ الصِّبْغَ بِالضَّمَانِ وقد بَيَّنَّا ذلك
وَلَوْ غَصَبَ من إنْسَانٍ ثَوْبًا وَمِنْ آخَرَ صِبْغًا فَصَبَغَهُ فيه ثُمَّ
غَابَ ولم يُعْرَفْ فَهَذَا وما إذَا انْصَبَغَ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ سَوَاءٌ
اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لِصَاحِبِ الصِّبْغِ على صَاحِبِ
الثَّوْبِ سَبِيلٌ
وَجْهُ الْقِيَاسِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الصِّبْغَ صَارَ مَضْمُونًا عليه لِوُجُودِ
الْإِتْلَافِ منه فَمَلَكَهُ بِالضَّمَانِ وَزَالَ عند مِلْكُ صَاحِبِهِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إذَا غَابَ الْغَاصِبُ على وَجْهٍ لَا يُعْرَفُ
لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ فِعْلِهِ في إدَارَةِ الْحُكْمِ عليه فَيُجْعَلُ
كَأَنَّهُ حَصَلَ لَا بِصِبْغِ أَحَدٍ
وَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا وَعُصْفُرًا من رَجُلٍ وَاحِدٍ فَصَبَغَهُ بِهِ
فَالْمَغْصُوبُ منه يَأْخُذُ الثَّوْبَ مَصْبُوغًا ويبرى ( ( ( ويبرئ ) ) )
الْغَاصِبَ من الضَّمَانِ في الْعُصْفُرِ وَالثَّوْبِ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ عُصْفُرًا مثله ثُمَّ يَصِيرُ كَأَنَّهُ
صَبَغَ ثَوْبَهُ بِعُصْفُرِ نَفْسِهِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَتْلَفَ عليه عُصْفُرَهُ وَمَلَكَهُ بِالضَّمَانِ
فَهَذَا رَجُلٌ صَبَغَ ثَوْبًا بِعُصْفُرِ نَفْسِهِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ
لِصَاحِبِ الثَّوْبِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ منه وَاحِدٌ فَالْغَاصِبُ خَلَطَ مَالَ
الْمَغْصُوبِ منه بِمَالِهِ وَخَلْطُ مَالِ الْإِنْسَانِ بِمَالِهِ لَا يُعَدُّ
اسْتِهْلَاكًا له بَلْ يَكُونُ نُقْصَانًا فإذا اخْتَارَ أَخْذَ الثَّوْبِ فَقَدْ
أَبْرَأَهُ عن النُّقْصَانِ
وَلَوْ كان الْعُصْفُرُ لِرَجُلٍ وَالثَّوْبُ لِآخَرَ فَرَضِيَا أَنْ يَأْخُذَاهُ
كما يَأْخُذُ الْوَاحِدُ أَنْ لو كَانَا له فَلَيْسَ لَهُمَا ذلك لِأَنَّ
الْمَالِكَ هَهُنَا اخْتَلَفَ فَكَانَ الْخَلْطُ اسْتِهْلَاكًا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ غَصَبَ إنْسَانٌ عُصْفُرًا وَصَبَغَ بِهِ ثَوْبَ نَفْسِهِ ضَمِنَ عُصْفُرًا
مثله لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ عليه عُصْفُرَهُ وَلَهُ مِثْلٌ فَيَضْمَنُ مثله
وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُصْفُرِ أَنْ يَحْبِسَ الثَّوْبَ لِأَنَّ الثَّوْبَ أَصْلٌ
وَالْعُصْفُرَ تَبَعٌ له وَالسَّوَادُ في هذا بِمَنْزِلَةِ الْعُصْفُرِ في قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَيْضًا لِأَنَّ هذا ضَمَانُ الِاسْتِهْلَاكِ
وَالْأَلْوَانُ كُلُّهَا في حُكْمِ ضَمَانِ الِاسْتِهْلَاكِ سَوَاءٌ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ غَصَبَ دَارًا فَجَصَّصَهَا ثُمَّ رَدَّهَا قِيلَ لِصَاحِبِهَا أَعْطِهِ ما
زَادَ التَّجْصِيصُ فيها إلَّا أَنْ يَرْضَى صَاحِبُ الدَّارِ أَنْ يَأْخُذَ
الْغَاصِبُ جِصَّهُ لِأَنَّ لِلْغَاصِبِ فيها عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ
وهو الْجِصُّ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّهِ عليه من غَيْرِ عِوَضٍ فَيُخَيَّرُ
صَاحِبُ الدَّارِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَصْلٍ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَغَرِمَ
لِلْغَاصِبِ ما زَادَ التَّجْصِيصُ فيها وَإِنْ شَاءَ رضي بِأَنْ يَأْخُذَ جِصَّهُ
وَلَوْ غَصَبَ مُصْحَفًا فَنَقَطَهُ رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ
لِصَاحِبِهِ أَخْذَهُ وَلَا شَيْءَ عليه
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ صَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْطَاهُ ما
زَادَ النَّقْطُ فيه وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غير مَنْقُوطٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ النَّقْطَ زِيَادَةٌ في الْمُصْحَفِ فَأَشْبَهَ الصِّبْغَ
في الثَّوْبِ
وَجْهُ ما روى عن أبي يُوسُفَ أَنَّ النَّقْطَ أَعْيَانٌ لَا قِيمَةَ لها فلم
يَكُنْ لِلْغَاصِبِ فيه عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ بَقِيَ مُجَرَّدُ
عَمَلِهِ وهو النَّقْطُ وَمُجَرَّدُ الْعَمَلِ لَا يَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ
ولم يُوجَدْ وَلِأَنَّ النَّقْطَ في الْمُصْحَفِ مَكْرُوهٌ
أَلَا تَرَى إلَى ما رُوِيَ عنه أَنَّهُ قال جَرِّدُوا الْقُرْآنَ وإذا كان
التَّجْرِيدُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ كان النَّقْطُ مَكْرُوهًا فلم يَكُنْ زِيَادَةً
فَكَانَ لِصَاحِبِ الْمُصْحَفِ أَخْذُهُ
وَلَوْ غَصَبَ حَيَوَانًا فَكَبِرَ في يَدِهِ أو سَمِنَ أو ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ
بِذَلِكَ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا شَيْءَ عليه لِلْغَاصِبِ لِأَنَّهُ
ليس لِلْغَاصِبِ فيه عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ وَإِنَّمَا الزِّيَادَةُ
نَمَاءُ مِلْكِ الْمَالِكِ
وَكَذَلِكَ لو غَصَبَ جَرِيحًا مَرِيضًا فَدَاوَاهُ حتى بَرَأَ وَصَحَّ لِمَا
قُلْنَا وَلَا يَرْجِعُ الْغَاصِبُ على الْمَالِكِ بِمَا أَنْفَقَ لِأَنَّهُ
أَنْفَقَ على مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا
وَكَذَلِكَ لو غَصَبَ أَرْضًا فيها زَرْعٌ أو شَجَرٌ فَسَقَاهُ الْغَاصِبُ وَأَنْفَقَ
عليه حتى انْتَهَى بُلُوغُهُ
وَكَذَلِكَ لو كان نَخْلًا أَطْلَعَ فَأَبَّرَهُ وَلَقَّحَهُ وَقَامَ عليه فَهُوَ
لِلْمَغْصُوبِ منه وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ فِيمَا أَنْفَقَ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كان حَصَدَ الزَّرْعَ فَاسْتَهْلَكَهُ أو جد ( ( ( جذ ) ) ) من الثَّمَرِ
شيئا أو جَزَّ الصُّوفَ أو حَلَبَ كان ضَامِنًا لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَ
الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَضْمَن
وَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَفَتَلَهُ أو غَسَلَهُ أو قَصَّرَهُ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ
يَأْخُذَهُ وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ لِأَنَّهُ ليس لِلْغَاصِبِ عَيْنُ مَالٍ
مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ فيه
أَمَّا الْفَتْلُ فإنه تغير ( ( ( تغيير ) ) ) الثَّوْبِ من صِفَةٍ إلَى صِفَةٍ
وَأَمَّا الْغَسْلُ فإنه إزَالَةُ الْوَسَخِ عن الثَّوْبِ وَإِعَادَةٌ له في
الْحَالَةِ الْأُولَى وَالصَّابُونُ أو الْحُرُضُ فيه يَتْلَفُ وَلَا يَبْقَى
وَأَمَّا الْقُصَارَةُ فَإِنَّهَا تَسْوِيَةُ أَجْزَاءِ الثَّوْبِ فلم يَحْصُلْ في
الْمَغْصُوبِ زِيَادَةُ عَيْنِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ
ولوغصب ( ( ( فيه ) ) ) من مُسْلِمٍ خَمْرًا فَخَلَّلَهَا فَلِصَاحِبِهَا أَنْ
يَأْخُذَ الْخَلَّ من غَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّ الْخَلَّ مِلْكُهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ
كان ثَابِتًا له في الْخَمْرِ وإذا صَارَ خَلًّا حَدَثَ الْخَلُّ على مِلْكِهِ
وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ فيه عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ لِأَنَّ الْمِلْحَ
الْمُلْقَى في الْخَمْرِ يَتْلَفُ فيها فصارت ( ( ( فصار ) ) ) كما لو تَخَلَّلَتْ
بِنَفْسِهَا في يَدِهِ
وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَأَخَذَهُ من غَيْرِ شَيْءٍ
كَذَا
____________________
(7/162)
هذا
وَقِيلَ مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ خَلَّلَهَا بِالنَّقْلِ من الظِّلِّ إلَى
الشَّمْسِ لَا بِشَيْءٍ له قِيمَةٌ
وهو الصَّحِيحُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ وَدَبَغَهُ أَنَّهُ إنْ
دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ له كَالْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَالشَّمْسِ كان
لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ ولاشيء عليه لِلْغَاصِبِ لِأَنَّ الْجِلْدَ كان
مِلْكَهُ وَبَعْدَمَا صَارَ مَالًا بِالدِّبَاغِ بَقِيَ على حُكْمِ مِلْكِهِ
وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ فيه عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ إنَّمَا فيه مُجَرَّدُ
فِعْلِ الدِّبَاغِ وَمُجَرَّدُ الْعَمَلِ لَا يَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ ولم
يُوجَدْ
هذا إذَا أَخَذَهُ من مَنْزِلِهِ فَدَبَغَهُ فَأَمَّا إذَا كانت الْمَيْتَةُ
مُلْقَاةً على الطَّرِيقِ فَأَخَذَ جِلْدَهَا فَدَبَغَهُ فَلَا سَبِيلَ له على
الْجِلْدِ لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ في الطَّرِيقِ إبَاحَةٌ لِلْأَخْذِ كَإِلْقَاءِ
النَّوَى وَقُشُورِ الرُّمَّانِ على قَوَارِعِ الطُّرُقِ
وَلَوْ هَلَكَ الْجِلْدُ الْمَغْصُوبُ بعدما دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ له لَا
ضَمَانَ عليه لِأَنَّ الضَّمَانَ لو وَجَبَ عليه إمَّا أَنْ يَجِبَ بِالْغَصْبِ
السَّابِقِ وَإِمَّا أَنْ يَجِبَ بِالْإِتْلَافِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ
لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ له وَقْتَ الْغَصْبِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي
لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ الْإِتْلَافُ من الْغَاصِبِ
وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ كان مِلْكَهُ قبل
الدِّبَاغِ وَبَعْدَمَا صَارَ مَالًا بِالدِّبَاغِ بَقِيَ على حُكْمِ مِلْكِهِ لَا
حَقَّ لِلْغَاصِبِ فيه وَإِتْلَافُ مَالٍ مَمْلُوكٍ لِلْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ
لَا حَقَّ له فيه يوجب ( ( ( فيوجب ) ) ) الضَّمَانَ
وَلَوْ دَبَغَهُ بِشَيْءٍ مُتَقَوِّمٍ كَالْقَرَظِ وَالْعَفْصِ وَنَحْوِهِمَا
فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَغْرَمَ له ما زَادَ الدِّبَاغُ فيه لِأَنَّهُ
مِلْكُ صَاحِبِهِ وَلِلْغَاصِبِ فيه عَيْنُ مِلْكٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ فَلَزِمَ
مُرَاعَاةُ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا وَلَيْسَ له أَنْ يُضَمِّنَهُ
قِيمَةَ الْجِلْدِ لِأَنَّهُ لو ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ يوم الْغَصْبِ ولم يَكُنْ له
قِيمَةٌ يوم الْغَصْبِ
وَلَوْ هَلَكَ في يَدِهِ بعدما دَبَغَهُ لَا ضَمَانَ عليه لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ
اسْتَهْلَكَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
وَذَكَرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ على قَوْلِهِمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ
مَدْبُوغًا وَيُعْطِيهِ الْمَالِكُ ما زَادَ الدِّبَاغُ فيه
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في مُخْتَصَرِهِ أَنَّ عِنْدَهُمَا
يَغْرَمُ قِيمَتَهُ إن لو كان الْجِلْدُ ذَكِيًّا غير مَدْبُوغٍ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَمْلُوكًا بِغَيْرِ
إذْنِ مَالِكِهِ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ كما إذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ له
فَاسْتَهْلَكَهُ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذلك أَمَّا الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ
فَلِأَنَّ الْجِلْدَ بِالدَّبَّاغِ صَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا
وَأَمَّا الْمِلْكُ فَلِأَنَّهُ كان ثَابِتًا له قبل الدِّبَاغِ وَبَعْدَهُ بَقِيَ
على حُكْمِ مِلْكِهِ وَلِهَذَا وَجَبَ عليه الضَّمَانُ فِيمَا إذَا دَبَغَهُ بِمَا
لَا قِيمَةَ له كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ التَّقَوُّمَ حَدَثَ بِصُنْعِ
الْغَاصِبِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عليه لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْحَادِثَ
بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ حَقًّا له فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ عليه
فَالْتُحِقَ هذا الْوَصْفُ بِالْعَدَمِ فَكَانَ هذا إتْلَافُ مَالٍ لَا قِيمَةَ له
من حَيْثُ الْمَعْنَى فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَلِأَنَّ تَقَوُّمَ الْجِلْدِ تَابِعٌ
لِمَا زَادَ الدِّبَاغُ فيه لِأَنَّهُ حَصَلَ بِالدِّبَاغِ وما زَادَ الدِّبَاغُ
مَضْمُونٌ فيه فَكَذَا ما هو تَابِعٌ له يَكُونُ مُلْحَقًا بِهِ وَالْمَضْمُونُ
بِبَدَلٍ لَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ كَالْمَبِيعِ قبل
الْقَبْضِ بِخِلَافِ ما إذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ له لِأَنَّ هُنَاكَ ما
زَادَ الدِّبَاغُ فيه غَيْرُ مَضْمُونٍ فلم يُوجَدْ الْأَصْلُ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ
غَيْرُهُ
وَإِنْ كان الْجِلْدُ ذَكِيًّا فَدَبَغَهُ فَإِنْ دَبَغَهُ بِمَا لَا قِيمَةَ له
فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا شَيْءَ عليه لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِلْكُ
صَاحِبِهِ وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ فيه عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ وَلَيْسَ له
أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ شيئا لِأَنَّ الْجِلْدَ قَائِمٌ لم يُنْتَقَصْ
وَلَوْ دَبَغَهُ بِمَا له قِيمَةٌ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ
قِيمَتَهُ غير مَدْبُوغٍ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ ما زَادَ الدِّبَاغُ
فيه لِمَا ذَكَرْنَا في الثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ إذَا صَبَغَهُ أَصْفَرَ أو
أَحْمَرَ بِصِبْغِ نَفْسِهِ
وَلَوْ أَنَّ الْغَاصِبَ جَعَلَ هذا الْجِلْدَ أَدِيمًا أو زِقًّا أو دَفْتَرًا أو
جِرَابًا أو فَرْوًا لم يَكُنْ لِلْمَغْصُوبِ منه على ذلك سَبِيلٌ لِأَنَّهُ صَارَ
شيئا آخَرَ حَيْثُ تَبَدَّلَ الِاسْمُ وَالْمَعْنَى فَكَانَ اسْتِهْلَاكًا له
مَعْنًى ثُمَّ إنْ كان الْجِلْدُ ذَكِيًّا فَلَهُ قِيمَتُهُ يوم الْغَصْبِ وَإِنْ كان
مَيْتَةً فَلَا شَيْءَ
وَلَوْ غَصَبَ عصيرا ( ( ( عصير ) ) ) لمسلم ( ( ( المسلم ) ) ) فَصَارَ خَمْرًا
في يَدِهِ أو خَلًّا ضَمِنَ عَصِيرًا مثله لِأَنَّهُ هَلَكَ في يَدِهِ
بِصَيْرُورَتِهِ خَمْرًا أو خَلًّا وَالْعَصِيرُ من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ
فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ اخْتِلَافِ الْغَاصِبِ وَالْمَغْصُوبِ منه إذَا قال
الْغَاصِبُ هَلَكَ الْمَغْصُوبُ في يَدِي ولم يُصَدِّقْهُ الْمَغْصُوبُ منه وَلَا
بَيِّنَةَ لِلْغَاصِبِ فإن الْقَاضِيَ يَحْبِسُ الْغَاصِبَ مُدَّةً لو كان
قَائِمًا لَأَظْهَرَهُ في تِلْكَ الْمُدَّةِ ثُمَّ يَقْضِي عليه بِالضَّمَانِ
لِمَا قُلْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ إن الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ هو وُجُوبُ
رَدِّ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ وَالْقِيمَةُ خَلَفٌ عنه فما لم يَثْبُتْ الْعَجْزُ عن
الْأَصْلِ لَا يقضى بِالْقِيمَةِ التي هِيَ خَلْفٌ
وَلَوْ اخْتَلَفَا في أَصْلِ الْغَصْبِ أو في جِنْسِ الْمَغْصُوبِ وَنَوْعِهِ أو
قَدْرِهِ أو صِفَتِهِ أو قِيمَتِهِ وَقْتَ الْغَصْبِ فَالْقَوْلُ في ذلك كُلِّهِ
قَوْلُ الْغَاصِبِ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ منه يَدَّعِي عليه الضَّمَانَ وهو
يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
____________________
(7/163)
إذْ
الْقَوْلُ في الشَّرْعِ قو ( ( ( قول ) ) ) الْمُنْكِرِ
وَلَوْ أَقَرَّ الْغَاصِبُ بِمَا يَدَّعِي الْمَغْصُوبُ منه وَادَّعَى الرَّدَّ
عليه لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْغَصْبِ إقْرَارٌ
بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُودِ الضَّمَانِ منه فَهُوَ بِقَوْلِهِ رَدَدْت عَلَيْك
يَدَّعِي انْفِسَاخَ السَّبَبِ فَلَا يُصَدَّقُ من غَيْرِ بَيِّنَةٍ
وَكَذَلِكَ لو ادَّعَى الْغَاصِبُ أَنَّ الْمَغْصُوبَ منه هو الذي أَحْدَثَ
الْعَيْبَ في الْمَغْصُوبِ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ
بِوُجُودِ الْغَصْبِ منه إقْرَارٌ بِوُجُودِ الْغَصْبِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ في
ضَمَانِهِ فَهُوَ يَدَّعِي إحْدَاثَ الْعَيْبِ من الْمَغْصُوبِ منه وَيَدَّعِي
خُرُوجَ بَعْضِ أَجْزَائِهِ عن ضَمَانِهِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ
وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ منه الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ غَصَبَ الدَّابَّةَ
وَنَفَقَتْ عِنْدَهُ وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَدَّهَا إلَيْهِ
وإنها نَفَقَتْ عِنْدَهُ فَلَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنَّ شُهُودَ
الْمَغْصُوبِ منه اعْتَمَدُوا في شَهَادَتِهِمْ على اسْتِصْحَابِ الْحَالِ لِمَا
أَنَّهُمْ عَلِمُوا بِالْغَصْبِ وما عَلِمُوا بِالرَّدِّ فَبَنَوْا الْأَمْرَ على
ظَاهِرِ بَقَاءِ الْمَغْصُوبِ في يَدِ الْغَاصِبِ إلَى وَقْتِ الْهَلَاكِ
وَشُهُودُ الْغَاصِبِ اعْتَمَدُوا في شَهَادَتِهِمْ بِالرَّدِّ حَقِيقَةَ
الْأَمْرِ وهو الرَّدُّ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لم يَكُنْ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ
الْقَائِمَةُ على الرَّدِّ أَوْلَى
كما في شُهُودِ الْجُرْحِ مع شُهُودِ التَّزْكِيَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْغَاصِبَ ضَامِنٌ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ منه الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ غَصَبَ منه هذا الْعَبْدَ
وَمَاتَ عِنْدَهُ وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَبْدَ مَاتَ في
يَدِ مَوْلَاهُ قبل الْغَصْبِ لم يَنْتَفِعْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ
مَوْتَهُ في يَدِ مَوْلَاهُ قبل الْغَصْبِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ فلم
تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ عليه وَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ
بِشَهَادَةِ شُهُودِ الْمَغْصُوبِ منه وَلِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنَّ شُهُودَ
الْغَاصِبِ اعْتَمَدُوا اسْتِصْحَابَ الْحَالِ وهو حَالُ الْيَدِ التي كانت عليه
لِلْمَوْلَى لِجَوَازِ أَنَّهُمْ عَلِمُوهَا ثَابِتَةً ولم يعلموا ( ( ( يعلموها )
) ) بِالْغَصْبِ وَظَنُّوا تِلْكَ الْيَدَ قَائِمَةً فَاسْتُصْحِبُوهَا وَشُهُودُ الْمَغْصُوبِ
منه اعْتَمَدُوا في شَهَادَتِهِمْ تَحَقُّقَ الْغَصْبِ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ
أَوْلَى بِالْقَبُولِ
وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ منه الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْغَاصِبَ غَصَبَ هذا
الْعَبْدَ يوم النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ
كان يوم النَّحْرِ بِمَكَّةَ هو وَالْعَبْدُ فَالضَّمَانُ وَاجِبٌ على الْغَاصِبِ
لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْغَاصِبِ لَا يَتَعَلَّقُ بها حُكْمٌ فَالْتَحَقَتْ
بِالْعَدَمِ فَبَقِيَتْ بَيِّنَةُ الْمَغْصُوبِ منه بِلَا مُعَارِضٍ فَلَزِمَ
الْعَمَلُ بها
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْإِمْلَاءِ إذَا أَقَامَ الْغَاصِبُ
الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَاتَ في يَدِ الْمَغْصُوبِ منه وَأَقَامَ الْمَغْصُوبُ منه
الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَاتَ في يَدِ الْغَاصِبِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ
الْغَاصِبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ بَيِّنَتَهُ قَامَتْ على إثْبَاتِ أَمْرٍ لم
يَكُنْ وهو الرَّدُّ
وَبَيِّنَةُ الْمَغْصُوبِ منه قَامَتْ على إبْقَاءِ ما كان على ما كان وهو
الْغَصْبُ فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الرَّدِّ أَوْلَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ منه الْبَيِّنَةَ أَنَّ الدَّابَّةَ نَفَقَتْ عِنْدَ
الْغَاصِبِ من رُكُوبِهِ وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَدَّهَا
إلَيْهِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَغْصُوبِ منه وَعَلَى الْغَاصِبِ الْقِيمَةُ
لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْغَاصِبِ لَا تَدْفَعُ بَيِّنَةَ الْمَغْصُوبِ منه لِأَنَّهَا
قَامَتْ على رَدِّ الْمَغْصُوبِ
وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ رَدَّهَا ثُمَّ غَصَبَهَا ثَانِيًا وَرَكِبَهَا
فَنَفَقَ في يَدِهِ فَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بين الْبَيِّنَتَيْنِ
وَكَذَلِكَ لو شَهِدَ شُهُودُ صَاحِبِ الدَّابَّةِ أَنَّ الْغَاصِبَ قَتَلَهَا
وَشَهِدَ شُهُودُ الْغَاصِبِ أَنَّهُ رَدَّهَا إلَيْهِ لِمَا قُلْنَا كما إذَا قال
رَجُلٌ لِآخَرَ غَصَبْنَا مِنْكَ أَلْفًا ثُمَّ قال كنا عَشَرَةً
قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُصَدَّقُ وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ
يُصَدَّقُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن قَوْلَهُ غَصَبْنَا مِنْكَ حَقِيقَةٌ لِلْجَمْعِ وَالْعَمَلُ
بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ وَاجِبٌ وفي الْحَمْلِ على الْوَاحِدِ تَرْكٌ لِلْعَمَلِ
بِالْحَقِيقَةِ فَيُصَدَّقُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْحَقِيقَةِ وَاجِبٌ ما أَمْكَنَ
وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ لِأَنَّ قَوْلَهُ غَصَبْنَا
إخْبَارٌ عن وُجُودِ الْغَصْبِ من جَمَاعَةٍ مَجْهُولِينَ فَلَوْ عَمِلْنَا بحقيقة
( ( ( بحقيقته ) ) ) لَأَلْغَيْنَا كَلَامَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَمَلَ
بِالْمَجَازِ أَوْلَى من الْإِلْغَاءِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا مَسَائِلُ الْإِتْلَافِ فَالْكَلَامُ فيها أَنَّ الْإِتْلَافَ لَا
يَخْلُو إمَّا إن وَرَدَ على بَنِي آدَمَ وَإِمَّا إن وَرَدَ على غَيْرِهِمْ من
الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ فَإِنْ وَرَدَ على بَنِي آدَمَ فَحُكْمُهُ في
النَّفْسِ وما دُونَهَا نَذْكُرُهُ في كِتَابِ الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى وَإِنْ وَرَدَ على غَيْرِ بَنِي آدَمَ فإنه يُوجِبُ الضَّمَانَ إذَا
اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْوُجُوبِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فيه في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ
في بَيَانِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وفي بَيَانِ شُرُوطِ وُجُوبِ
الضَّمَانِ وفي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِتْلَافَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ
عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لِأَنَّ إتْلَافَ الشَّيْءِ إخْرَاجُهُ
من أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ مَنْفَعَةً مَطْلُوبَةً منه عَادَةً
وَهَذَا اعْتِدَاءٌ وَإِضْرَارٌ وقد قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَمَنْ
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عليه بِمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُمْ }
____________________
(7/164)
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا ضَرَرَ وَلَا إضْرَارَ في الْإِسْلَامِ وقد
تَعَذَّرَ نَفْيُ الضَّرَرِ من حَيْثُ الصُّورَةُ فَيَجِبُ نَفْيُهُ من حَيْثُ
الْمَعْنَى بِالضَّمَانِ لِيَقُومَ الضَّمَانُ مَقَامَ الْمُتْلَفِ فَيَنْتَفِي
الضَّرَرُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَلِهَذَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِالْغَصْبِ
فَبِالْإِتْلَافِ أَوْلَى لِأَنَّهُ في كَوْنِهِ اعْتِدَاءً وَإِضْرَارًا فَوْقَ
الْغَصْبِ فلما وَجَبَ بِالْغَصْبِ فَلَأَنْ يَجِبَ بِالْإِتْلَافِ أَوْلَى
سَوَاءٌ وَقَعَ إتْلَافًا له صُورَةً وَمَعْنًى بِإِخْرَاجِهِ عن كَوْنِهِ
صَالِحًا لِلِانْتِفَاعِ أو مَعْنًى بِإِحْدَاثِ مَعْنًى فيه يَمْنَعُ من
الِانْتِفَاعِ بِهِ مع قِيَامِهِ في نَفْسِهِ حَقِيقَةً لِأَنَّ كُلَّ ذلك
اعْتِدَاءٌ وَإِضْرَارٌ وسواء ( ( ( سواء ) ) ) كان الْإِتْلَافُ مُبَاشَرَةً
بِإِيصَالِ الْآلَةِ بِمَحِلِّ التَّلَفِ أو تَسْبِيبًا بِالْفِعْلِ في مَحِلٍّ
يُفْضِي إلَى تَلَفٍ غَيْرِهِ عَادَةً لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقَعُ
اعْتِدَاءً وَإِضْرَارًا فَيُوجِبُ الضَّمَانَ
وَبَيَانُ ذلك في مَسَائِلَ إذَا قَتَلَ دَابَّةَ إنْسَانٍ أو أَحْرَقَ ثَوْبَهُ
أو قَطَعَ شَجَرَةَ إنْسَانٍ أو أَرَاقَ عَصِيرَهُ أو هَدَمَ بِنَاءَهُ ضَمِنَ
سَوَاءٌ كان الْمُتْلَفُ في يَدِ الْمَالِكِ أو في يَدِ الْغَاصِبِ لِتَحَقُّقِ
الْإِتْلَافِ في الْحَالَيْنِ غير أَنَّ الْمَغْصُوبَ إنْ كان مَنْقُولًا وهو في
يَدِ الْغَاصِبِ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ وَإِنْ شَاءَ
ضَمَّنَ الْمُتْلِفَ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ فَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ على الْمُتْلِفِ
لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَغْصُوبَ بِالضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ إن الْإِتْلَافَ وَرَدَ
على مِلْكِهِ
وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُتْلِفَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على أَحَدٍ وَإِنْ كان
عَقَارًا ضَمِنَ الْمُتْلِفُ وَلَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْجَوَابُ فيه وفي الْمَنْقُولِ سَوَاءٌ بِنَاءً على
أَنَّ الْعَقَارَ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْغَصْبِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ مَضْمُونٌ
بِهِ فَكَانَ له أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهمَا شَاءَ كما في الْمَنْقُولِ
وَكَذَلِكَ إذَا نَقَصَ مَالُ إنْسَانٍ بِمَا لَا يَجْرِي فيه الرِّبَا ضَمِنَ
النُّقْصَانَ
سَوَاءٌ كان في يَدِ الْمَالِكِ أو في يَدِ الْغَاصِبِ لِأَنَّ النَّقْصَ إتْلَافُ
جُزْءٍ منه وَتَضْمِينُهُ مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا
فَيَضْمَنُ قَدْرَ النُّقْصَانِ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الربوبية ( ( ( الربوية )
) ) على ما مَرَّ غير أَنَّ النُّقْصَانَ إنْ كان بِفِعْلِ غَيْرِ الْغَاصِبِ
فَالْمَغْصُوبُ منه بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ وَيَرْجِعُ
الْغَاصِبُ على الذي نَقَصَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الذي نَقَصَ وهو لَا يَرْجِعُ
على أَحَدٍ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ غَصَبَ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَازْدَادَ في يَدِ الْغَاصِبِ
حتى صَارَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْنِ فَقَتَلَهُ إنْسَانٌ خَطَأً فَالْمَالِكُ
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْغَصْبِ أَلْفَ
دِرْهَمٍ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقَاتِلَ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْقَتْلِ أَلْفَيْنِ
لِأَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَا وُجُوبِ الضَّمَانِ الْغَصْبَ وَالْقَتْلَ
وَالزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ في يَدِ الْغَاصِبِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْغَصْبِ
وَهِيَ مَضْمُونَةٌ بِالْقَتْلِ لِذَلِكَ ضَمِنَ الْغَاصِبُ أَلْفًا وَالْقَاتِلُ
أَلْفَيْنِ فَإِنْ ضَمِنَ الْقَاتِلُ فإنه لَا يَرْجِعُ على أَحَدٍ
وَإِنْ ضَمِنَ الْغَاصِبُ فَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ على عاقله الْقَاتِلِ
بِأَلْفَيْنِ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ على الْأَلْفِ
وَأَمَّا الرُّجُوعُ عليهم بِأَلْفَيْنِ فَلِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَغْصُوبَ
بِالضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَتْلَ وَرَدَ على عبد الْغَاصِبِ فَيَضْمَنُ
قِيمَتَهُ
وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ على الْأَلْفِ فَلِتَمَكُّنِ الْخَبَثِ فيه
لِاخْتِلَالِ الْمِلْكِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هذا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَظْهَرَ
فَأَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَالْفَضْلُ طَيِّبٌ له وَلَا
يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ وَإِنْ قَتَلَهُ الْغَاصِبُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ
خَطَأً فَالْمَغْصُوبُ منه بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ
يوم الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ عَاقِلَتَهُ قِيمَتَهُ يوم
الْقَتْلِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وهو الصَّحِيحُ بِخِلَافِ الْمَغْصُوبِ إذَا كان
حَيَوَانًا سِوَى بَنِي آدَمَ فَقَتَلَهُ الْغَاصِبُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ
لَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ إلَّا يوم الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ وقد بَيَّنَّا له الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ في يَدِ الْغَاصِبِ بَعْدَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ
ضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ يوم الْغَصْبِ أَلْفًا لِأَنَّ قَتْلَهُ نَفْسَهُ
يُهْدَرُ فَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ مَاتَ بِنَفْسِهِ وَلَوْ كان كَذَلِكَ
يَضْمَنُ قِيمَتَهُ يوم الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ
كَذَا هذا
وَلَوْ كانت الْجَارِيَةُ وَلَدَتْ وَلَدًا فَقَتَلَتْ وَلَدهَا ثُمَّ مَاتَتْ
الْجَارِيَةُ فَعَلَى الْغَاصِبِ قِيمَتُهَا يوم الْغَصْبِ أَلْفُ دِرْهَمٍ
وَلَيْسَ عليه ضَمَانُ الْوَلَدِ لِأَنَّ قَتْلَهَا وَلَدَهَا هَدَرٌ وَلَا حُكْمَ
له فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَهَلَكَ أَمَانَةً
وَبَقِيَتْ الْأُمُّ مَضْمُونَةً بِالْغَصْبِ
وَلَوْ أَوْدَعَ رَجُلَانِ رَجُلًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ
فَخَلَطَ الْمُسْتَوْدَعُ أَحَدَ الْأَلْفَيْنِ بِالْآخَرِ خَلْطًا لَا
يَتَمَيَّزُ ضَمِنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا وَمَلَكَ الْمَخْلُوطَ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْخَلْطَ وَقَعَ إتْلَافًا
مَعْنًى وَعِنْدَهُمَا هُمَا بِالْخِيَارِ بين أَنْ يَأْخُذَا ذلك وَيَقْتَسِمَاهُ
بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَاهُ وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ في كِتَابِ
الْوَدِيعَةِ
ثُمَّ قال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَسَعُ الْمُودَعُ أَكْلَ هذه الدَّرَاهِم
حتى يُؤَدِّيَ مِثْلَهَا إلَى أَصْحَابِهَا
وَهَذَا صَحِيحٌ لَا خِلَافَ فيه
____________________
(7/165)
لِأَنَّ
عِنْدَهُمَا لم يَنْقَطِعْ حَقُّ الْمَالِكِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ إنْ انْقَطَعَ وَثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُسْتَوْدَعِ لَكِنْ فيه خَبَثٌ
فَيُمْنَعُ من التصرف ( ( ( الصرف ) ) ) فيه حتى يَرْضَى صَاحِبُهُ
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا له كُرَّانِ اغْتَصَبَ رَجُلٌ أَحَدَهُمَا أو سَرَقَهُ ثُمَّ
إنَّ الْمَالِكَ أَوْدَعَ الْغَاصِبَ أو السَّارِقَ ذلك الْآخَرَ فَخَلَطَهُ
بِكُرِّ الْغَصْبِ ثُمَّ ضَاعَ ذلك كُلُّهُ ضَمِنَ كُرَّ الْغَصْبِ ولم يَضْمَنْ
كُرَّ الْوَدِيعَةِ بِسَبَبِ الْخَلْطِ لِأَنَّهُ خَلَطَ مِلْكَهُ بِمِلْكِهِ
وَذَلِكَ ليس بِاسْتِهْلَاكِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عليه بِسَبَبِ الْخَلْطِ
وَبَقِيَ الْكُرُّ الْمَضْمُونُ وَكُرُّ الْأَمَانَةِ في يَدِهِ على حَالِهِمَا
فَصَارَ كَأَنَّهُمَا هَلَكَا قبل الْخَلْطِ
وَلَوْ خَلَطَ الْغَاصِبُ دَرَاهِمَ الْغَصْبِ بِدَرَاهِمِ نَفْسِهِ خَلْطًا لَا
يَتَمَيَّزُ ضَمِنَ مِثْلَهَا وَمَلَكَ الْمَخْلُوطَ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا
بِالْخَلْطِ وَإِنْ مَاتَ كان ذلك لِجَمِيعِ الْغُرَمَاءِ وَالْمَغْصُوبُ منه
أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ عنها وَصَارَ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ
وَلَوْ اخْتَلَطَتْ دَرَاهِمُ الْغَصْبِ بِدَرَاهِمِ نَفْسِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ
فَلَا يَضْمَنُ وهو شَرِيكٌ لِلْمَغْصُوبِ منه لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ من غَيْرِ
صُنْعِهِ هَلَاكٌ وَلَيْسَ بِإِهْلَاكٍ فَصَارَ كما لو تَلِفَتْ بِنَفْسِهَا
وَصَارَا شَرِيكَيْنِ لِاخْتِلَاطِ الْمِلْكَيْنِ على وَجْهٍ لَا يَتَمَيَّزُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ صَبَّ مَاءً في طَعَامٍ في يَدِ إنْسَانٍ فَأَفْسَدَهُ وزاد في كَيْلِهِ
فَلِصَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ قبل أَنْ يَصُبَّ فيه الْمَاءَ
وَلَيْسَ له أَنْ يُضَمِّنَهُ طَعَامًا مثله وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَمِّنَهُ
مِثْلَ كَيْلِهِ قبل صَبِّ الْمَاءِ
وَكَذَلِكَ لو صَبَّ مَاءً في دُهْنٍ أو زَيْتٍ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى أَنْ
يُضَمِّنَهُ مِثْلَ الطَّعَامِ الْمَبْلُولِ وَالدُّهْنِ الْمَصْبُوبِ فيه
الْمَاءُ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ له وَلَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يُضَمِّنَهُ مِثْلَ
كَيْلِ الطَّعَامِ قبل صَبِّ الْمَاءِ فيه لِأَنَّهُ لم يَكُنْ منه غَصْبٌ مُتَقَدِّمٌ
حتى لو غَصَبَ ثُمَّ صَبَّ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ فَتَحَ بَابَ قَفَصٍ فَطَارَ الطَّيْرُ منه وَضَاعَ لم يَضْمَنْ في
قَوْلِهِمَا
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَضْمَنُ وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
إنْ طَارَ من فَوْرِهِ ذلك ضَمِنَ وَإِنْ مَكَثَ سَاعَةً ثُمَّ طَارَ لَا يَضْمَنُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ فَتْحَ بَابِ الْقَفَصِ وَقَعَ إتْلَافًا
لِلطَّيْرِ تَسْبِيبًا لِأَنَّ الطَّيَرَانَ لِلطَّيْرِ طَبْعٌ له فَالظَّاهِرُ
أَنَّهُ يَطِيرُ إذَا وَجَدَ الْمُخَلِّصَ فَكَانَ الْفَتْحُ إتْلَافًا له
تَسْبِيبًا فَيُوجِبُ الضَّمَانَ كما إذَا شَقَّ زِقَّ إنْسَانٍ فيه دُهْنٌ
مَائِعٌ فَسَالَ وَهَلَكَ وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يقول إذَا مَكَثَ سَاعَةً لم يَكُنْ الطَّيَرَانُ بَعْدَ
ذلك مُضَافًا إلَى الْفَتْحِ بَلْ إلَى اخْتِيَارِهِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفَتْحَ ليس بِإِتْلَافٍ مُبَاشَرَةً وَلَا تَسْبِيبًا
أَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فَظَاهِرَةُ الِانْتِفَاءِ
وَأَمَّا التَّسْبِيبُ فَلِأَنَّ الطَّيْرَ مُخْتَارٌ في الطَّيَرَانِ لِأَنَّهُ
حَيٌّ وَكُلُّ حَيٍّ له اخْتِيَارٌ فَكَانَ الطَّيَرَانُ مُضَافًا إلَى
اخْتِيَارِهِ وَالْفَتْحُ سَبَبًا مَحْضًا فَلَا حُكْمَ له كما إذَا حَلَّ
الْقَيْدَ عن عبد إنْسَانٍ حتى أبق إنه لَا ضَمَانَ عليه لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
بِخِلَافِ شَقِّ الزِّقِّ الذي فيه دُهْنٌ مَائِعٌ لِأَنَّ الْمَائِعَ سَيَّالٌ
بِطَبْعِهِ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ منه الِاسْتِمْسَاكُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ
إلَّا على نَقْضِ الْعَادَةِ فَكَانَ الْفَتْحُ تَسَبُّبًا لِلتَّلَفِ فَيَجِبُ
الضَّمَانُ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا حَلَّ رِبَاطَ الدَّابَّةِ أو فَتَحَ بَابَ الاصطبل
حتى خَرَجَتْ الدَّابَّةُ وَضَلَّتْ
وَقَالُوا إذَا حَلَّ رِبَاطَ الزَّيْتِ أَنَّهُ إنْ كان ذَائِبًا فَسَالَ منه
ضَمِنَ وَإِنْ كان السَّمْنُ جَامِدًا فَذَابَ بِالشَّمْسِ وَزَالَ لم يَضْمَنْ
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَائِعَ يَسِيلُ بِطَبْعِهِ إذَا وَجَدَ مَنْفَذًا
بِحَيْثُ يَسْتَحِيلُ اسْتِمْسَاكُهُ عَادَةً فَكَانَ حَلُّ الرِّبَاطِ إتْلَافًا
له تَسْبِيبًا فَيُوجِبُ الضَّمَانَ بِخِلَافِ الْجَامِدِ لِأَنَّ السَّيَلَانَ
طَبْعُ الْمَائِعِ لَا طَبْعُ الْجَامِدِ وهو وَإِنْ صَارَ مَائِعًا لَكِنْ لَا
بِصُنْعِهِ بَلْ بِحَرَارَةِ الشَّمْسِ فلم يَكُنْ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِ لَا
مُبَاشَرَةً وَلَا تَسْبِيبًا فَلَا يَضْمَنُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا غَصَبَ صَبِيًّا صَغِيرًا حُرًّا من أَهْلِهِ فَعَقَرَهُ
سَبْعٌ أو نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ أو وَقَعَ في بِئْرٍ أو من سَطْحٍ فَمَاتَ إن على
عَاقِلَةِ الْغَاصِبِ الدِّيَةَ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ من الْغَاصِبِ تَسْبِيبًا
لِأَنَّهُ كان مَحْفُوظًا بِيَدِ وَلِيِّهِ إذْ هو لَا يَقْدِرُ على حِفْظِ
نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ فإذا فَوَّتَ حِفْظَ الْأَهْلِ عنه ولم يَحْفَظْهُ بِنَفْسِهِ
حتى أَصَابَتْهُ آفَةٌ فَقَدْ ضَيَّعَهُ فَكَانَ ذلك منه إتْلَافًا تَسْبِيبًا
وَالْحُرُّ إنْ لم يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ يَكُونُ مَضْمُونًا
بِالْإِتْلَافِ مُبَاشَرَةً كان أو تَسْبِيبًا وَلَوْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ خَطَأً في
يَدِ الْغَاصِبِ فَلِأَوْلِيَائِهِ أَنْ يَتَّبِعُوا أَيَّهمَا شاؤوا الْغَاصِبَ
أو الْقَاتِلَ
أَمَّا الْقَاتِلُ فَلِوُجُودِ الْإِتْلَافِ منه مُبَاشَرَةً وَأَمَّا الْغَاصِبُ
فَلِوُجُودِ الْإِتْلَافِ منه تَسْبِيبًا لِمَا ذَكَرْنَا وَالتَّسَبُّبُ يَنْزِلُ
مَنْزِلَةَ الْمُبَاشَرَةِ في وُجُوبِ الضَّمَانِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ على
قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالشَّهَادَةِ على الْقَتْلِ حتى لو رَجَعَ شُهُودُ
الْقِصَاصِ ضَمِنُوا فَإِنْ اتَّبَعُوا الْقَاتِلَ بِالْمَالِ لَا يَرْجِعُ على
أَحَدٍ وَإِنْ اتَّبَعُوا الْغَاصِبَ فَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ على الْقَاتِلِ
لِأَنَّ الْغَصْبَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ قام مَقَامَ الْمُسْتَحَقِّ في حَقِّ
مِلْكِ الضَّمَانِ وَإِنْ تَعَذَّرَ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ في حَقِّ مِلْكِ
الْمَضْمُونِ كَغَاصِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا قُتِلَ الْمُدَبَّرُ في يَدِهِ
____________________
(7/166)
وَاخْتَارَ
الْمَالِكُ تَضْمِينَ الْغَاصِبِ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على الْقَاتِلِ وَإِنْ لم
يَمْلِكْ نَفْسَ الْمُدَبَّرِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ لو وَقَعَ عليه حَائِطُ إنْسَانٍ فَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ وَيَرْجِعُ على
عَاقِلَةِ صَاحِبِ الْحَائِطِ إنْ كان تَقَدَّمَ إلَيْهِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ في يَدِ الْغَاصِبِ عَمْدًا فَأَوْلِيَاؤُهُ
بِالْخِيَارِ إنْ شاؤوا قَتَلُوا الْقَاتِلَ وبرىء الْغَاصِبُ وَإِنْ شاؤوا
اتَّبَعُوا الْغَاصِبَ بِالدِّيَةِ على عَاقِلَتِهِ وَيَرْجِعُ عَاقِلَةُ
الْغَاصِبِ في مَالِ الْقَاتِلِ عَمْدًا وَلَا يَكُونُ لهم الْقِصَاصُ
أَمَّا وِلَايَةُ الْقِصَاصِ من الْقَاتِلِ فَلِوُجُودِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ
الْخَالِي عن الْمَوَانِعِ
وَأَمَّا وِلَايَةُ اتِّبَاعِ الْغَاصِبِ بِالدِّيَةِ فَلِوُجُودِ الْإِتْلَافِ
منه تَسْبِيبًا على ما بَيَّنَّا فَإِنْ قَتَلُوا الْقَاتِلَ بريء الْغَاصِبُ
لِأَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بين الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ في نَفْسٍ وَاحِدَةٍ في قَتْلٍ
وَاحِدٍ وَإِنْ اتَّبَعُوا الْغَاصِبَ فَالدِّيَةُ على عَاقِلَتِهِ تَرْجِعُ
عَاقِلَتُهُ على مَالِ الْقَاتِلِ وَلَا يَكُونُ لهم أَنْ يَقْتَصُّوا من
الْقَاتِلِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لم يَصِرْ مِلْكًا لهم بِأَدَاءِ الضَّمَانِ إذْ هو
لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ فلم يَقُمْ الْغَاصِبُ مَقَامَ الْوَلِيِّ في مِلْكِ
الْقِصَاصِ فَسَقَطَ الْقِصَاصُ وَيَنْقَلِبُ مَالًا وَالْمَالُ يَحْتَمِلُ
التَّمْلِيكَ فَجَازَ أَنْ يَقُومَ الْغَاصِبُ مَقَامَ الْوَلِيِّ في مِلْكِ
الْمَالِ وَلَوْ قَتَلَ الصَّبِيُّ إنْسَانًا في يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهُ على
الْوَلِيِّ وَضَمِنَ عَاقِلَةُ الصَّبِيِّ لم يَكُنْ لهم أَنْ يَرْجِعُوا على
الْغَاصِبِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ ضَمَانِ الْغَصْبِ
لِأَنَّ الْحُرَّ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْغَصْبِ وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ
ضَمَانِ الْإِتْلَافِ لِأَنَّ الْغَاصِبَ إنَّمَا يَصِيرُ مُتْلِفًا إيَّاهُ
تَسْبِيبًا بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ عليه لَا بِجِنَايَتِهِ على غَيْرِهِ
وَلَوْ قَتَلَ الصَّبِيُّ نَفْسَهُ أو أتى على شَيْءٍ من نَفْسِهِ من الْيَدِ
وَالرِّجْلِ وما أَشْبَهَ ذلك أو أَرْكَبَهُ الْغَاصِبُ دَابَّةً فَأَلْقَى
نَفْسَهُ منها فَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا
يَضْمَنُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ فِعْلَهُ على نَفْسِهِ هَدَرٌ فَالْتَحَقَ
بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أو سَقَطَتْ يَدُهُ بِآفَةٍ
سَمَاوِيَّةٍ
وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَا ضَمَانَ عليه كَذَا هذا
وَالْجَامِعُ أَنَّهُ لو وَجَبَ الضَّمَانُ لَوَجَبَ بِالْغَصْبِ وَالْحُرُّ
غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْغَصْبِ
وَلِهَذَا لو جَنَى على غَيْرِهِ لَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ
كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْحُرَّ إنْ لم يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ
فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ مُبَاشَرَةً أو تَسْبِيبًا وقد وُجِدَ
التَّسْبِيبُ من الْغَاصِبِ حَيْثُ تَرَكَ حِفْظَهُ عن أَسْبَابِ الْهَلَاكِ في
الْحَالَيْنِ جميعا فَكَانَ مُتْلِفًا إيَّاهُ تَسْبِيبًا فَيَجِبُ الضَّمَانُ
عليه وَلَا يَرْجِعُ الْغَاصِبُ على عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ بِمَا ضَمِنَ لِأَنَّ
حُكْمَ فِعْلِهِ على نَفْسِهِ لَا يُعْتَبَرُ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ على
الْعَاقِلَةِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَمَاتَ في يَدِهِ ضَمِنَ بِالْإِجْمَاعِ
وَلَوْ غَصَبَ أُمَّ وَلَدٍ فَمَاتَتْ في يَدِهِ من غَيْرِ آفَةٍ لم يَضْمَنْ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في مَوْضِعِهَا
وَلَوْ مَاتَتْ في يَدِهِ بِآفَةٍ على الْوَجْهِ الذي بَيَّنَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ
في الصَّبِيِّ الْحُرِّ
فإن الْغَاصِبَ يَغْرَم قِيمَتَهَا حَالَّةً في مَالِهِ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ
منه تَسْبِيبًا وَأُمُّ الْوَلَدِ مَضْمُونَةٌ بِالْإِتْلَافِ بِلَا خِلَافٍ
وَلِهَذَا وَجَبَ الضَّمَانُ في الصَّبِيِّ الْحُرِّ فَفِي أُمِّ الْوَلَدِ
أَوْلَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِ هذا الضَّمَانِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ
الْمُتْلَفُ مَالًا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِ الْمَيِّتَةِ وَالدَّمِ
وَجِلْدِ الْمَيِّتَةِ وَغَيْرِ ذلك مِمَّا ليس بِمَالٍ
وقد ذَكَرْنَا ذلك في كتاب ( ( ( كتب ) ) ) الْبُيُوعِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِ
الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ على الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ كان الْمُتْلِفُ مُسْلِمًا أو
ذِمِّيًّا لِسُقُوطِ تَقَوُّمِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ في حَقِّ الْمُسْلِمِ
وَلَوْ أَتْلَفَ مُسْلِمٌ أو ذِمِّيٌّ على ذِمِّيٍّ خَمْرًا أو خِنْزِيرًا
يَضْمَنُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالدَّلَائِلُ
مَرَّتْ في مَسَائِلِ الْغَصْبِ
وَلَوْ أَتْلَفَ ذِمِّيٌّ على ذِمِّيٍّ خَمْرًا أو خِنْزِيرًا ثُمَّ أَسْلَمَا أو
أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا أَمَّا في الْخِنْزِيرِ فَلَا يَبْرَأُ الْمُتْلِفُ عن
الضَّمَانِ الذي لَزِمَهُ سَوَاءٌ أَسْلَمَ الطَّالِبُ أو الْمَطْلُوبُ أو
أَسْلَمَا جميعا لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِإِتْلَافِ الْخِنْزِيرِ الْقِيمَةُ
وَإِنَّهَا دَرَاهِمُ أو دَنَانِيرُ وَالْإِسْلَامُ لَا يَمْنَعُ من قَبْضِ
الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
وَأَمَّا في الْخَمْرِ فَإِنْ أَسْلَمَا جميعا أو أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وهو
الطَّالِبُ الْمُتْلَفُ عليه بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمَطْلُوبِ وهو الْمُتْلِفُ
وَسَقَطَتْ عنه الْخَمْرُ بِالْإِجْمَاعِ
وَلَوْ أَسْلَمَ الْمَطْلُوبُ أَوَّلًا ثُمَّ أَسْلَمَ الطَّالِبُ أو لم يُسْلِمْ
فَفِي قَوْلِ أبي يُوسُفَ وهو رِوَايَتُهُ عن أبي حَنِيفَةَ يَبْرَأُ الْمَطْلُوبُ
من الْخَمْرِ وَلَا يُتَحَوَّلُ إلَى الْقِيمَةِ كما لو أَسْلَمَ الطَّالِبُ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَعَافِيَةَ بن زَيْدٍ الْقَاضِي وهو رِوَايَتُهُمْ
عن أبي حَنِيفَةَ لَا يَبْرَأُ الْمَطْلُوبُ وَيَتَحَوَّلُ ما عليه من الْخَمْرِ
إلَى الْقِيمَةِ كما لو كان الْإِتْلَافُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَضْمَنُ
قِيمَتَهَا لِلذِّمِّيِّ فَكَذَا إذَا أَتْلَفَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وقد ذَكَرْنَا
الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ الْبُيُوعِ
وَلَوْ كَسَرَ على إنْسَانٍ بَرْبَطًا أو طَبْلًا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ خَشَبًا
مَنْحُوتًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَذَكَرَ في الْمُنْتَقَى خَشَبًا أَلْوَاحًا وَعِنْدَهُمَا
____________________
(7/167)
لَا
يَضْمَنُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذا آلَةُ اللَّهْوِ وَالْفَسَادِ فلم يَكُنْ
مُتَقَوِّمًا كَالْخَمْرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كما
يَصْلُحُ لِلَّهْوِ وَالْفَسَادِ يَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ من وَجْهٍ آخَرَ
فَكَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا من ذلك الْوَجْهِ
وَكَذَلِكَ لو أَرَاقَ لِإِنْسَانٍ مُسْكِرًا أو مُنَصَّفًا فَهُوَ على هذا
الِاخْتِلَافِ وَالْمَسْأَلَةُ قد ذَكَرْنَاهَا في كِتَابِ الْبُيُوعِ
وَلَوْ أَحْرَقَ بَابًا مَنْحُوتًا عليه تَمَاثِيلُ مَنْقُوشَةٌ ضَمِنَ قِيمَتَهُ
غير مَنْقُوشٍ بِتَمَاثِيلَ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِنَقْشِ التَّمَاثِيلِ لِأَنَّ
نَقْشَهَا مَحْظُورٌ
وَإِنْ كان صَاحِبُهُ قَطَعَ رؤوس التَّمَاثِيلِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مَنْقُوشًا
لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تِمْثَالًا بِلَا رَأْسٍ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ ليس بِمَحْظُورٍ فَكَانَ النَّقْشُ مَنْقُوشًا
وَلَوْ أَحْرَقَ بِسَاطًا فيه تَمَاثِيلُ رِجَالٍ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مُصَوَّرًا
لِأَنَّ التِّمْثَالَ على الْبِسَاطِ ليس بِمَحْظُورٍ لِأَنَّ الْبِسَاطَ يُوطَأُ
فَكَانَ النَّقْشُ مُتَقَوِّمًا وَلَوْ هَدَمَ بَيْتًا مُصَوَّرًا ضَمِنَ قِيمَةَ
الْبَيْتِ وَالصُّوَرُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ لِأَنَّ الصُّوَرَ على الْبَيْتِ لَا
قِيمَةَ لها لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ فَأَمَّا الصِّبْغُ فَمُتَقَوِّمٌ
وَلَوْ قَتَلَ جَارِيَةً مُغَنِّيَةً ضَمِنَ قِيمَتَهَا غير مُغَنِّيَةٍ لِأَنَّ
الْغِنَاءَ لَا قِيمَةَ له لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ
هذا إذَا كان الْغِنَاءُ زِيَادَةً في الْجَارِيَةِ فَأَمَّا إذَا كان نُقْصَانًا
فيها فإنه يَضْمَنُ قَدْرَ قِيمَتِهَا
وَعَلَى هذا تَخْرُجُ الْمُبَاحَاتُ التي لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ
لِأَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْإِتْلَافِ لِعَدَمِ تَقَوُّمِهَا
إذْ التَّقَوُّمُ يُبْنَى على الْعِزَّةِ وَالْحَظْرِ
وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك إلَّا بِالْإِحْرَازِ وَالِاسْتِيلَاءِ
وَأَمَّا الْمُبَاحُ الْمَمْلُوكُ وهو مَالُ الحزبي ( ( ( الحربي ) ) ) فَلَا
يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِهِ أَيْضًا وَإِنْ كان مُتَقَوِّمًا لِفَقْدِ شَرْطٍ
آخَرَ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَإِنْ شِئْت قُلْت وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ
بِإِتْلَافِ الْمُبَاحَاتِ التي لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ وَالتَّخْرِيجُ على شَرْطِ
التَّقَوُّمِ أَصَحُّ
لِأَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مَمْلُوكًا في نَفْسِهِ ليس بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ
الضَّمَانِ
فإن الْمَوْقُوفَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ وَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ أَصْلًا
أَرْضٌ بين شَرِيكَيْنِ زَرْعَهَا أَحَدُهُمَا وَتَرَاضَيَا على أَنْ يُعْطِيَ
الذي لم يَزْرَعْ نِصْفَ الْبَذْرِ وَيَكُونُ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا
فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إن كان الزَّرْعُ نَبَتَ وَإِمَّا إن كان لم يَنْبُتْ
فَإِنْ كان قد نَبَتَ جَازَ لِأَنَّ هذا بَيْعُ الْحَشِيشِ بِالْحِنْطَةِ
وَأَنَّهُ جَائِزٌ وَإِنْ كان لم يَنْبُتْ لم يَجُزْ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي ما
بَقِيَ تَحْتَ الْأَرْضِ مِمَّا تَلِفَ مع أَنَّ ذلك ليس بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ
فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ
فَإِنْ نَبَتَ الزَّرْعُ وَطَلَبَ الذي لم يَزْرَعْ الْقِسْمَةَ قَسَمَ وَأَمَرَ
الذي زَرَعَ أَنْ يَقْلَعَ ما في نَصِيبِ الشَّرِيكِ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مَشْغُولٌ
بِمِلْكِهِ فَيُجْبَرُ على تَفْرِيغِهِ وَتَضْمِينِهِ نُقْصَانَ الزِّرَاعَةِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُتْلِفُ من أَهْلِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عليه حتى لو
أَتْلَفَتْ مَالَ إنْسَانٍ بَهِيمَةٌ لَا ضَمَانَ على مَالِكِهَا لِأَنَّ فِعْلَ
الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ فَكَانَ هَدَرًا وَلَا إتْلَافَ من مَالِكِهَا فَلَا يَجِبُ
الضَّمَانُ عليه
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ في الْوُجُوبِ فَائِدَةٌ فَلَا ضَمَانَ على الْمُسْلِمِ
بِإِتْلَافِ مَالِ الْحَرْبِيِّ وَلَا على الْحَرْبِيِّ بِإِتْلَافِ مَالِ
الْمُسْلِمِ في دَارِ الْحَرْبِ وَكَذَا لَا ضَمَانَ على الْعَادِلِ إذَا أَتْلَفَ
مَالَ الْبَاغِي وَلَا على الْبَاغِي إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْعَادِلِ لِأَنَّهُ
لَا فَائِدَةَ في الْوُجُوبِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى الضَّمَانِ
لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ فَأَمَّا الْعِصْمَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ
ضَمَانِ الْمَالِ إلَّا أَنَّ الصَّبِيَّ مَأْخُوذٌ بِضَمَانِ الْإِتْلَافِ وَإِنْ
لم تَثْبُتْ عِصْمَةُ الْمُتْلَفِ في حَقِّهِ
وَكَذَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِتَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ حَالَ الْمَخْمَصَةِ مع
إبَاحَةِ التَّنَاوُلِ وَكَذَا كَسْرُ آلَاتِ الْمَلَاهِي مُبَاحٌ وَهِيَ
مَضْمُونَةٌ بِالْإِتْلَافِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَلْزَمُ
إذَا أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ بِإِذْنِهِ إنه لَا يَجِبُ الضَّمَانُ لِأَنَّ
عَدَمَ الْوُجُوبِ ليس لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ بَلْ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ لِأَنَّهُ
لو وَجَبَ الضَّمَانُ عليه لَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ عليه بِمَا ضَمِنَ فَلَا
يُفِيدُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِكَوْنِ الْمُتْلَفِ مَالَ الْغَيْرِ ليس بِشَرْطٍ
لِوُجُوبِ الضَّمَانِ حتى لو أَتْلَفَ مَالًا على ظَنِّ أَنَّهُ مِلْكُهُ ثُمَّ
تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِلْكُ غَيْرِهِ ضَمِنَ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ
لَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ على الْعِلْمِ كما في الْغَصْبِ على ما مَرَّ إلَّا
أَنَّهُ إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ يَضْمَنُ وَيَأْثَمُ وإذا لم يَعْلَمْ يَضْمَنُ
وَلَا يَأْثَمُ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَرْفُوعُ الْمُؤَاخَذَةِ شَرْعًا لِمَا
ذَكَرْنَا في مَسَائِلِ الْغَصْبِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ماهبة ( ( ( ماهية ) ) ) الضَّمَانِ الْوَاجِبِ بِإِتْلَافِ ما
سِوَى بَنِي آدَمَ فَالْوَاجِبُ بِهِ ما هو الْوَاجِبُ بِالْغَصْبِ وهو ضَمَانُ
الْمِثْلِ إنْ كان الْمُتْلَفُ مِثْلِيًّا وَضَمَانُ الْقِيمَةِ إنْ كان مِمَّا
لَا مِثْلَ له لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ ضَمَانُ اعْتِدَاءٍ وَالِاعْتِدَاءُ
لم يُشْرَعْ إلَّا بِالْمِثْلِ فَعِنْدَ الْإِمْكَانِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْمِثْلِ
الْمُطْلَقِ وهو الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى
وَعِنْدَ التَّعَذُّرِ يَجِبُ الْمِثْلُ مَعْنًى وهو الْقِيمَةُ كما في الْغَصْبِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
____________________
(7/168)
كِتَابُ
الْحَجْرِ وَالْحَبْسِ في هذا الْكِتَابِ فَصْلَانِ فَصْلٌ في الْحَجْرِ وَفَصْلٌ
في الْحَبْسِ
أَمَّا الْحَجْرُ فَالْكَلَامُ فيه يَقَعُ في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في
بَيَانِ أَسْبَابِ الْحَجْرِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ حُكْمِ الْحَجْرِ
وَالثَّالِثُ في بَيَانِ ما يَرْفَعُ الْحَجْرَ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ
الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَجْرِ ثَلَاثَةٌ ما لها رَابِعٌ الْجُنُونُ
وَالصِّبَا وَالرِّقُّ وهو قَوْلُ زُفَرَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ
رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَالسَّفَهُ وَالتَّبْذِيرُ وَمَطْلُ الغنى وَرُكُوبُ
الدَّيْنِ وَخَوْفُ ضَيَاعِ الْمَالِ بِالتِّجَارَةِ وَالتَّلْجِئَةُ
وَالْإِقْرَارُ لِغَيْرِ الْغُرَمَاءِ من أَسْبَابِ الْحَجْرِ أَيْضًا فَيَجْرِي
عِنْدَهُمْ في السَّفِيهِ الْمُفْسِدِ لِلْمَالِ بِالصَّرْفِ إلَى الْوُجُوهِ
الْبَاطِلَةِ وفي الْمُبَذِّرِ الذي يُسْرِفُ في النَّفَقَةِ وَيَغْبِنُ في
التِّجَارَاتِ وَفِيمَنْ يَمْتَنِعُ عن قَضَاءِ الدَّيْنِ مع الْقُدْرَةِ عليه
إذَا ظَهَرَ مَطْلُهُ عِنْدَ الْقَاضِي وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ من الْقَاضِي أَنْ
يَبِيعَ عليه مَالَهُ وَيَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ وَفِيمَنْ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ
وَلَهُ مَالٌ فَخَافَ الْغُرَمَاءُ ضَيَاعَ أَمْوَالِهِ بِالتِّجَارَةِ فَرَفَعُوا
الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي وَطَلَبُوا منه أَنْ يَحْجُرَ عليه أو خَافُوا أَنْ
يلجىء ( ( ( يلجئ ) ) ) أَمْوَالَهُ فَطَلَبُوا من الْقَاضِي أَنْ يَحْجُرَهُ عن
الْإِقْرَارِ إلا لِلْغُرَمَاءِ فَيَجْرِي الْحَجْرُ في هذه الْمَوَاضِعِ
عِنْدَهُمْ وَعِنْدَهُ لَا يَجْرِي
وما رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كان لايجري الْحَجْرَ إلَّا
على ثَلَاثَةٍ الْمُفْتِي الْمَاجِنِ وَالطَّبِيبِ الْجَاهِلِ وَالْمُكَارِي
الْمُفْلِسِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ منه حَقِيقَةَ الْحَجْرِ وهو الْمَعْنَى
الشَّرْعِيُّ الذي يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُفْتِيَ لو أَفْتَى بَعْدَ الْحَجْرِ وَأَصَابَ في
الْفَتْوَى جَازَ وَلَوْ أَفْتَى قبل الْحَجْرِ وَأَخْطَأَ لَا يَجُوزُ وَكَذَا
الطَّبِيبُ لو بَاعَ الْأَدْوِيَةَ بَعْدَ الْحَجْرِ نَفَذَ بَيْعُهُ فَدَلَّ
أَنَّهُ ما أَرَادَ بِهِ الْحَجْرَ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمَنْعَ
الْحِسِّيَّ أَيْ يُمْنَعُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ عن عَمَلِهِمْ حِسًّا لِأَنَّ
الْمَنْعَ عن ذلك من بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عن الْمُنْكَرِ
لِأَنَّ الْمُفْتِيَ الْمَاجِنَ يُفْسِدُ أَدْيَانَ الْمُسْلِمِينَ وَالطَّبِيبَ
الْجَاهِلَ يُفْسِدُ أَبْدَانَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسَ يُفْسِدُ
أَمْوَالَ الناس في الْمَفَازَةِ فَكَانَ مَنْعُهُمْ من ذلك من بَابِ الْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عن الْمُنْكَرِ لَا من بَابِ الْحَجْرِ فَلَا
يَلْزَمُهُ التَّنَاقُضُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ
وَلَوْ حَجَرَ الْقَاضِي على السَّفِيهِ وَنَحْوِهِ لم يَنْفُذْ حَجْرُهُ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حتى لو تَصَرَّفَ بَعْدَ الْحَجْرِ يَنْفُذُ
تَصَرُّفُهُ عِنْدَهُ وَإِنْ كان الْحَجْرُ هَهُنَا مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ لِأَنَّ
الْحَجْرَ من الْقَاضِي قَضَاءٌ منه وَقَضَاءُ في الْمُجْتَهَدَاتِ إنَّمَا
يَنْفُذُ وَيَصِيرُ كَالْمُتَّفَقِ عليه إذَا لم يَكُنْ نَفْسُ الْقَضَاءِ مَحِلَّ
الِاجْتِهَادِ فَأَمَّا إذَا كان فَلَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ التي
لَا يَرْجِعُ الِاجْتِهَادُ فيها إلَى نَفْسِ الْقَضَاءِ وقد ذَكَرْنَا الْفَرْقَ
في كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي
وَاخْتَلَفَ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا في السَّفِيهِ أَنَّهُ هل
يَصِيرُ مَحْجُورًا عليه بِنَفْسِ السَّفَهِ أَمْ يَقِفُ الِانْحِجَارُ على حَجْرِ
الْقَاضِي قال أبو يُوسُفَ لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا إلَّا بِحَجْرِ الْقَاضِي
وقال مُحَمَّدٌ يَنْحَجِرُ بِنَفْسِ السَّفَهِ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى حَجْرِ
الْقَاضِي
وَحُجَّةُ الْعَامَّةِ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَإِنْ كان الذي عليه
الْحَقُّ سَفِيهًا أو ضَعِيفًا أو لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هو فَلْيُمْلِلْ
وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ } جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ من الْمَذْكُورِينَ
وَلِيًّا
منهم السَّفِيهُ
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا وَلِيَّ لِلسَّفِيهِ
لِأَنَّهُ إذَا كان له وَلِيٌّ دَلَّ أَنَّهُ مُوَلَّى عليه فَلَا يَنْفُذُ
تَصَرُّفُهُ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ
وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ }
نهي عن إعْطَاءِ الْأَمْوَالِ السُّفَهَاءَ وَعِنْدَهُ يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ
إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَإِنْ كان سَفِيهًا
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بَاعَ على مُعَاذٍ مَالَهُ
بِسَبَبِ دُيُونٍ رَكِبَتْهُ
وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ لِأَنَّ الْبَيْعَ عليه لَا يُذْكَرُ إلَّا في غَيْرِ
مَوْضِعِ الرِّضَا وَلِأَنَّ التَّصَرُّفَاتِ شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ
وَالْمَصْلَحَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْإِطْلَاقِ مَرَّةً وَبِالْحَجْرِ أُخْرَى
وَالْمَصْلَحَةُ هَهُنَا في الْحَجْرِ وَلِهَذَا إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ سَفِيهًا
يُمْنَعُ عنه مَالُهُ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً بِلَا خِلَافٍ
وَلِهَذَا حُجِرَ على الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِكَوْنِ الْحَجْرِ مَصْلَحَةً في
حَقِّهِمَا
كَذَا هَهُنَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه عُمُومَاتُ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ
وَالْإِقْرَارِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ من نَحْوِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
فَاكْتُبُوهُ } إلَى قَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { وَلَا يَبْخَسْ منه شيئا } أَجَازَ
اللَّهُ تَعَالَى الْبَدَلَيْنِ حَيْثُ نَدَبَ إلَى الْكِتَابَةِ وَأَثْبَتَ
الْحَقَّ حَيْثُ أَمَرَ من عليه الْحَقُّ بِالْإِمْلَاءِ وَنَهَى عن الْبَخْسِ
عَامًّا من غَيْرِ تَخْصِيصٍ
وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عن تَرَاضٍ
مِنْكُمْ } وَبَيْعُ مَالِ الْمَدْيُونِ عليه تِجَارَةً لَا عن تَرَاضٍ فَلَا
____________________
(7/169)
يَجُوزُ
وَبَيْعُ السَّفِيهِ مَالَهُ تِجَارَةٌ عن تَرَاضٍ فَيَجُوزُ
وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ } عَامًّا
وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ على نَفْسِهِ إقْرَارٌ
وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا
بِأَحْسَنَ منها أو رُدُّوهَا }
وَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَهَادَوْا تَحَابُّوا وَآيَةِ
الظِّهَارِ وَآيَةِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ شَرَعَ اللَّهُ هذه التَّصَرُّفَاتِ
عَامًّا وَالْحَجْرُ عن الْمَشْرُوعِ مُتَنَاقِضٌ
وَكَذَا نَصُّ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ يَقْتَضِيَانِ وُجُوبَ التَّحْرِيرِ على
الْمُظَاهِرِ الحالف ( ( ( والحالف ) ) ) الْحَانِثِ وَجَوَازَهُ عن الْكَفَّارَةِ
عَامًّا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لايجب التَّحْرِيرُ على السَّفِيهِ وَلَوْ
حَرَّرَ لَا يَجْزِيهِ عن الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ تَجِبُ السِّعَايَةُ على
الْعَبْدِ فَيَكُونُ إعْتَاقًا بِعِوَضٍ فَلَا يَقَعُ التَّحْرِيرُ تَكْفِيرًا
فَكَانَتْ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِمَا وَلِأَنَّ بَيْعَ السَّفِيهِ مَالَ
نَفْسِهِ تَصَرُّفٌ صَدَرَ من الْأَهْلِ بِرُكْنِهِ في مَحِلٍّ هو خَالِصُ
مِلْكِهِ فَيَنْفُذُ كَتَصَرُّفِ الرَّشِيدِ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُودَ التَّصَرُّفِ
حَقِيقَةً بِوُجُودِ رُكْنِهِ وَوُجُودَهُ شَرْعًا بِصُدُورِهِ من أَهْلِهِ
وَحُلُولِهِ في مَحِلِّهِ وقد وُجِدَ
وَبَيْعُ مَالِ الْمَدْيُونِ عليه تَصَرُّفٌ في مِلْكِ الْغَيْرِ من غَيْرِ رِضَا
الْمَالِكِ وإنه لَا يَنْفُذُ كَالْفُضُولِيِّ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قال بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ السَّفِيهُ هو
الصَّغِيرُ
وَبِهِ نَقُولُ
وَقِيلَ إنَّ الْوَلِيَّ هَهُنَا هو من له الْحَقُّ يُمْلِي بِالْعَدْلِ عِنْدَ
حَضْرَةَ من عليه الدَّيْنُ لِئَلَّا يَزِيدَ على ما عليه شيئا وَلَوْ زَادَ
أَنْكَرَ عليه وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ
أَمْوَالَكُمْ } فَقَدْ قال بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ الْمُرَادُ من
السُّفَهَاءِ النَّسَاءُ وَالْأَوْلَادُ الصِّغَارُ يُؤَيِّدُهُ في سِيَاقِ
الْآيَةِ قَوْلُهُ { وَارْزُقُوهُمْ فيها وَاكْسُوهُمْ } وَرِزْقُ النَّسَاءِ
وَالْأَوْلَادِ الصِّغَارِ هو الذي يَجِبُ على الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَزْوَاجِ لَا
رِزْقُ السَّفِيهِ وَكِسْوَتُهُ فإن ذلك يَكُونُ من مَالِ السَّفِيهِ
على أَنَّ في الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ أَنْ لَا تُؤْتُوهُمْ مَالَ أَنْفُسِكُمْ
لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَضَافَ الْأَمْوَالَ إلَى الْمُعْطِي لَا إلَى
الْمُعْطَى له وَبِهِ نَقُولُ
وَأَمَّا بَيْعُ مَالِ مُعَاذٍ رضي اللَّهُ عنه فَقَدْ كان بِرِضَاهُ إذْ لَا
يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يَكْرَهُ بَيْعَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ويتمنع
( ( ( ويمتنع ) ) ) بِنَفْسِهِ عنه قَضَاءِ الدَّيْنِ مع ما ( ( ( مع ) ) )
أَنَّهُ قد رُوِيَ أَنَّهُ طَلَبَ من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ
يَبِيعَ مَالَهُ ليغال ( ( ( لينال ) ) ) بَرَكَتَهُ فَيَصِيرُ دَيْنُهُ
مَقْضِيًّا بِبَرَكَتِهِ كما رُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَمَّا
اُسْتُشْهِدَ أَبُوهُ يوم احد وَتَرَكَ دُيُونًا فَطَلَبَ جَابِرٌ من رسول ( ( (
النبي ) ) ) الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَ أَمْوَالَهُ لِيَنَالَ
بَرَكَتَهُ فَيَصِيرُ دَيْنُهُ بِذَلِكَ مَقْضِيًّا وكان كما ظَنَّ
وَالِاسْتِدْلَالُ بِمَنْعِ الْمَالِ إذَا بَلَغَ سَفِيهًا لَا يَسْتَقِيمُ
لِأَنَّ الْمَنْعَ تَصَرُّفٌ في الْمَالِ وَالْحَجْرُ تَصَرُّفٌ على النَّفْسِ
وَالنَّفْسُ أَعْظَمُ خَطَرًا من الْمَالِ فَثُبُوتُ أَدْنَى الْوِلَايَتَيْنِ لَا
يَدُلُّ على ثُبُوتِ أَعْلَاهُمَا
ثُمَّ نَقُولُ إنَّمَا يُمْنَعُ عن مَالِهِ نَظَرًا له تَقْلِيلًا لِلسَّفَهِ
لِمَا أَنَّ السَّفَهَ غَالِبًا يَجْرِي في الْهِبَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ فإذا
مُنِعَ منه مَالُهُ يَنْسَدُّ بَابُ السَّفَهِ فَيَقِلُّ السَّفَهُ
فَأَمَّا الْمُعَاوَضَاتُ فَلَا يَغْلِبُ فيها السَّفَهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى
الْحَجْرِ لِتَقْلِيلِ السَّفَهِ وإنه يَقِلُّ بِدُونِهِ فَيَتَمَحَّضُ الْحَجْرُ
ضَرَرًا بِإِبْطَالِ أَهْلِيَّتِهِ
وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا من
أَهْلِ التَّصَرُّفِ فلم يَتَضَمَّنْ الْحَجْرُ إبْطَالَ الْأَهْلِيَّةِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْحَجْرِ فَحُكْمُهُ يَظْهَرُ في مَالِ
الْمَحْجُورِ وفي التَّصَرُّفِ في مَالِهِ
أَمَّا حُكْمُ الْمَالِ فَأَمَّا الْمَجْنُونُ فإنه يُمْنَعُ عنه مَالُهُ ما دام
مَجْنُونًا وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الذي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَالِ في
يَدِ من لَا عَقْلَ له إتْلَافُ الْمَالِ
وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ فَيُمْنَعُ عنه مَالُهُ إلَى أَنْ يُؤْنَسَ منه
رُشْدُهُ وَلَا بَأْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ شيئا من أَمْوَالِهِ
وَيَأْذَنَ له بِالتِّجَارَةِ لِلِاخْتِبَارِ عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى } أَذِنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْأَوْلِيَاءِ في
ابْتِلَاءِ الْيَتَامَى وَالِابْتِلَاءُ الِاخْتِبَارُ وَذَلِكَ بِالتِّجَارَةِ
فَكَانَ الْإِذْنُ بِالِابْتِلَاءِ إذْنًا بِالتِّجَارَةِ وإذا اخْتَبَرَهُ فَإِنْ
آنَسَ منه رُشْدًا دَفَعَ الْبَاقِيَ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ
آنَسْتُمْ منهم رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } وَالرُّشْدُ هو
الِاسْتِقَامَةُ وَالِاهْتِدَاءُ في حِفْظِ الْمَالِ وَإِصْلَاحِهِ
وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُمْنَعُ منه مَالُهُ
وَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَدْفَعَ شيئا من أَمْوَالِهِ إلَيْهِ وَأَنْ
يَأْذَنَ له بِالتِّجَارَةِ قبل الْبُلُوغِ
وَالْمَسْأَلَةُ نَذْكُرُهَا في كِتَابِ الْمَأْذُونِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَإِنْ لم يَأْنَسْ منه رُشْدًا مَنَعَهُ منه إلَى أَنْ يَبْلُغَ فَإِنْ بَلَغَ
رَشِيدًا دَفَعَ إلَيْهِ وَإِنْ بَلَغَ سَفِيهًا مُفْسِدًا مُبَذِّرًا فإنه
يَمْنَعُ عنه مَالَهُ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سنة بِالْإِجْمَاعِ فإذا بَلَغَ هذا
الْمَبْلَغَ ولم يُؤْنِسْ رُشْدَهُ دَفَعَ إلَيْهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي
اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ ما دَامَ سَفِيهًا
وَأَمَّا الرَّقِيقُ فَلَا مَالَ له يُمْنَعُ فَلَا يَظْهَرُ أَثَرُ الْحَجْرِ في
حَقِّهِ في الْمَالِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ في التَّصَرُّفَاتِ
هذا حُكْمُ الْحَجْرِ في مَالِ الْمَحْجُورِ
وَأَمَّا حُكْمُهُ في تَصَرُّفِهِ فَالتَّصَرُّفُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ
من
____________________
(7/170)
الْأَقْوَالِ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ من الْأَفْعَالِ
أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الْقَوْلِيَّةُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ نَافِعٍ
مَحْضٍ
وَضَارٍّ مَحْضٍ وَدَائِرٍ بين الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ
أَمَّا الْمَجْنُونُ فَلَا تَصِحُّ منه التَّصَرُّفَاتُ الْقَوْلِيَّةُ كُلُّهَا فَلَا
يَجُوزُ طَلَاقُهُ وَعِتَاقُهُ وَكِتَابَتُهُ وَإِقْرَارُهُ وَلَا يَنْعَقِدُ
بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ حتى لَا تَلْحَقَهُ الْإِجَازَةُ وَلَا يَصِحُّ منه قَبُولُ
الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَكَذَا الصَّبِيُّ الذي لَا يَعْقِلُ
لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ شَرْطُ جَوَازِ التَّصَرُّفِ وَانْعِقَادِهِ وَلَا
أَهْلِيَّةَ بِدُونِ الْعَقْلِ
وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ فَتَصِحُّ منه التَّصَرُّفَاتُ النَّافِعَةُ بِلَا
خِلَافٍ وَلَا تَصِحُّ منه التَّصَرُّفَاتُ الضَّارَّةُ الْمَحْضَةُ
بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الدَّائِرَةُ بين الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ كَالْبَيْعِ
وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا فَيَنْعَقِدُ عِنْدَنَا مَوْقُوفًا على
إجَازَةِ وَلِيِّهِ فَإِنْ أَجَازَ جَازَ وَإِنْ رَدَّ بَطَلَ وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهلا تَنْعَقِدُ أَصْلًا وَهِيَ مَسْأَلَةُ تَصَرُّفَاتِ
الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وقد مَرَّتْ في مَوْضِعِهَا
وَأَمَّا الرَّقِيقُ فَيَصِحُّ منه قَبُولُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ
وَالْوَصِيَّةِ وَكَذَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَإِقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ
وَالْقِصَاصِ
وَأَمَّا إقْرَارُهُ بِالْمَالِ فَلَا يَصِحُّ في حَقِّ مَوْلَاهُ وَيَصِحُّ في
حَقِّ نَفْسِهِ حتى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ
وَأَمَّا الْبَيْعُ وَغَيْرُهُ من التَّصَرُّفَاتِ الدَّائِرَةِ بين الضَّرَرِ
وَالنَّفْعِ فَلَا يَنْفُذُ بَلْ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا على إجَازَةِ الْمَوْلَى
وَدَلَائِلُ هذه الْمَسَائِلِ ذُكِرَتْ في مَوَاضِعِهَا
وَأَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الْفِعْلِيَّةُ وَهِيَ الْغُصُوبُ وَالْإِتْلَافَاتُ
فَهَذِهِ الْعَوَارِضُ وَهِيَ الصِّبَا وَالْجُنُونُ وَالرِّقُّ لَا تُوجِبُ
الْحَجْرَ فيها
حتى لو أَتْلَفَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ شيئا فَضَمَانُهُ في مَالِهِمَا
وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ فإنه يُؤَاخَذُ بِهِ لَكِنْ
بَعْدَ الْعَتَاقِ
أما السَّفِيهُ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ ليس بِمَحْجُورٍ عن
التَّصَرُّفَاتِ أَصْلًا وَحَالُهُ وَحَالُ الرَّشِيدِ في التَّصَرُّفَاتِ سَوَاءٌ
لَا يَخْتَلِفَانِ إلَّا في وَجْهٍ وَاحِدٍ وهو أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا بَلَغَ
سَفِيهًا يُمْنَعُ عنه مَالُهُ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وإذا بَلَغَ
رَشِيدًا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ
فَأَمَّا في التَّصَرُّفَاتِ فَلَا يَخْتَلِفَانِ حتى لو تَصَرَّفَ بعدما بَلَغَ
سَفِيهًا وَمُنِعَ عنه مَالُهُ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ كما يَنْفُذُ بَعْدَ أَنْ
دُفِعَ الْمَالُ إلَيْهِ عِنْدَهُ
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَالْبَالِغِ
الْمَعْتُوهِ سَوَاءٌ فَلَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ وَإِجَارَتُهُ
وَهِبَتُهُ وَصَدَقَتُهُ وما أَشْبَهَ ذلك من التَّصَرُّفَاتِ التي تَحْتَمِلُ
النَّقْضَ وَالْفَسْخَ
وَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذلك فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ الرَّشِيدِ
سَوَاءٌ فَيَجُوزُ طَلَاقُهُ وَنِكَاحُهُ وَإِعْتَاقُهُ وَتَدْبِيرُهُ
وَاسْتِيلَادُهُ وَتَجِبُ عليه نَفَقَةُ زَوْجَاتِهِ وَأَقَارِبِهِ وَالزَّكَاةُ
في مَالِهِ وَحِجَّةُ الْإِسْلَامِ وَيُنْفِقُ على زَوْجَاتِهِ وَأَقَارِبِهِ
وَيُؤَدِّي الزَّكَاةَ من مَالِهِ وَلَا يُمْنَعُ من حِجَّةِ الْإِسْلَامِ وَلَا
من الْعُمْرَةِ وَلَا من الْقَرَابِينِ وَسُوقِ الْبَدَنَةِ لَكِنْ يُسَلِّمُ
الْقَاضِي النَّفَقَةَ وَالْكِرَاءَ وَالْهَدْيَ على يَدِ أَمِينٍ لِيُنْفِقَ عليه
في الطَّرِيقِ وَلَا وِلَايَةَ عليه لِأَبِيهِ وَجَدِّهِ ووصبهما ( ( ( ووصيهما )
) ) وَيَجُوزُ إقْرَارُهُ على نَفْسِهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَتَجُوزُ
وَصَايَاهُ بِالْقُرْبِ في مَرَضِ مَوْتِهِ من ثُلْثِ مَالِهِ وَغَيْرُ ذلك من
التَّصَرُّفَاتِ التي تَصِحُّ من الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الرَّشِيدِ إلَّا أَنَّهُ
إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِأَكْثَرَ من مَهْرِ مِثْلِهَا فَالزِّيَادَةُ
بَاطِلَةٌ وإذا أَعْتَقَ عَبْدَهُ يَسْعَى في قِيمَتِهِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ رَجَعَ عن ذلك
وقال يَعْتِقُ من غَيْرِ سِعَايَةٍ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذلك فَلَا يَخْتَلِفَانِ
وَلَوْ بَاعَ السَّفِيهُ أو اشْتَرَى نَظَرَ الْقَاضِي في ذلك فما كان خَيْرًا
أَجَازَ وما كان فيه مَضَرَّةٌ رَدَّهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَرْفَعُ الْحَجْرَ أَمَّا الصَّبِيُّ فَاَلَّذِي
يَرْفَعُ الْحَجْرَ عنه شَيْئَانِ أحدهماإذن الْوَلِيِّ إيَّاهُ بِالتِّجَارَةِ
وَالثَّانِي بُلُوغُهُ إلَّا أَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ يُزِيلُ الْحَجْرَ عن
التَّصَرُّفَاتِ الدَّائِرَةِ بين الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ
وَأَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الضَّارَّةُ الْمَحْضَةُ فَلَا يَزُولُ الْحَجْرُ عنها
إلَّا بِالْبُلُوغِ وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَزُولُ الْحَجْرُ عن الصَّبِيِّ
إلَّا بِالْبُلُوغِ وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ
ثَمَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه يَزُولُ الْحَجْرُ عن التَّصَرُّفَاتِ
بِالْبُلُوغِ سَوَاءٌ بَلَغَ رَشِيدًا أو سَفِيهًا وَكَذَا عِنْدَ أبي يُوسُفَ
إلَّا أَنْ يَحْجُرَ عليه الْقَاضِي بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيَنْحَجِرُ بِحَجْرِهِ
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَنْحَجِرُ الصَّبِيُّ عن
التَّصَرُّفِ بِحَجْرِ الْقَاضِي لَكِنْ يَمْنَعُ مَالَهُ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ
سَنَةً
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَزُولُ إلَّا بِبُلُوغِهِ رَشِيدًا
ثُمَّ الْبُلُوغُ في الْغُلَامِ يُعْرَفُ بِالِاحْتِلَامِ وَالْإِحْبَالِ
وَالْإِنْزَالِ وفي الْجَارِيَةِ يُعْرَفُ بِالْحَيْضِ وَالِاحْتِلَامِ وَالْحَبَلِ
فَإِنْ لم يُوجَدْ شَيْءٌ من ذلك فَيُعْتَبَرُ بِالسِّنِّ
أَمَّا مَعْرِفَةُ الْبُلُوغِ بِالِاحْتِلَامِ فَلِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ
أَنَّهُ قال رُفِعَ الْقَلَمُ عن ثَلَاثَةٍ منها الصَّبِيُّ حتى يَحْتَلِمَ
جَعَلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الِاحْتِلَامَ غَايَةً لِارْتِفَاعِ
الْخِطَابِ وَالْخِطَابُ بِالْبُلُوغِ دَلَّ أَنَّ الْبُلُوغَ يَثْبُتُ
بِالِاحْتِلَامِ وَلِأَنَّ الْبُلُوغَ وَالْإِدْرَاكَ عِبَارَةٌ عن بُلُوغِ
الْمَرْءِ كَمَالَ الْحَالِ وَذَلِكَ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ
وَالْقُدْرَةُ
____________________
(7/171)
من
حَيْثُ سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ هِيَ إمْكَانُ اسْتِعْمَالِ سَائِرِ
الْجَوَارِحِ السَّلِيمَةِ
وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ على الْكَمَالِ إلَّا عِنْدَ الِاحْتِلَامِ
فَإِنْ قِيلَ الْإِدْرَاكُ إمْكَانُ استعامل ( ( ( استعمال ) ) ) سَائِرِ
الْجَوَارِحِ إنْ كان ثَابِتًا فَأَمَّا إمْكَانُ اسْتِعْمَالِ الْآلَةِ
الْمَخْصُوصَةِ وهو قَضَاءُ الشَّهْوَةِ على سَبِيلِ الْكَمَالِ فَلَيْسَ
بِثَابِتٍ لِأَنَّ كَمَالَهَا بِالْإِنْزَالِ وَالِاحْتِلَامِ سَبَبٌ لِنُزُولِ
الْمَاءِ على الْأَغْلَبِ فَجُعِلَ عَلَمًا على الْبُلُوغِ وَلِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَمَرَ بإبتغاء الْوَلَدِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ له بِقَوْلِهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } وَالتَّكْلِيفُ
بِابْتِغَاءِ الْوَلَدِ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ في وَقْتٍ لو ابْتَغَى الْوَلَدَ
لَوُجِدَ وَلَا يَكُونُ ذلك إلَّا في خُرُوجِ الْمَاءِ لِلشَّهْوَةِ وَذَلِكَ في
حَقِّ الصَّبِيِّ بِالِاحْتِلَامِ في الْمُتَعَارَفِ
وَلِأَنَّ عِنْدَ الِاحْتِلَامِ يَخْرُجُ عن حَيِّزِ الْأَوْلَادِ وَيَدْخُلُ في
حَيِّزِ الْآبَاءِ حتى يُسَمَّى أَبَا فُلَانٍ لَا وَلَدَ فُلَانٍ في
الْمُتَعَارَفِ
لِأَنَّ عِنْدَهُ يَصِيرُ من أَهْلِ الْعَلُوقِ فَكَانَ الِاحْتِلَامُ عَلَمًا على
الْبُلُوغِ
وإذا ثَبَتَ أَنَّ الْبُلُوغَ يَثْبُتُ بِالِاحْتِلَامِ يَثْبُتُ بِالْإِنْزَالِ
لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من الْمَعَانِي يَتَعَلَّقُ بِالنُّزُولِ لَا بِنَفْسِ
الِاحْتِلَامِ إلَّا أَنَّ الِاحْتِلَامَ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْمَاءِ عَادَةً
فَعُلِّقَ الْحُكْمُ بِهِ وَكَذَا الْإِحْبَالُ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ
الْإِنْزَالِ عَادَةً
فَإِنْ لم يُوجَدْ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا فَيُعْتَبَرُ الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ
وقد اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في أَدْنَى السِّنِّ التي يَتَعَلَّقُ بها الْبُلُوغُ
قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً في الْغُلَامِ
وَسَبْعَ عَشْرَةَ في الْجَارِيَةِ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ خَمْسَ عَشْرَةَ
سَنَةً في الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ جميعا
وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ في الْحَقِيقَةِ هو الْعَقْلُ وهو الْأَصْلُ
في الْبَابِ إذْ بِهِ قِوَامُ الْأَحْكَامِ وَإِنَّمَا الِاحْتِلَامُ جُعِلَ
حَدًّا في الشَّرْعِ لِكَوْنِهِ دَلِيلًا على كَمَالِ الْعَقْلِ وَالِاحْتِلَامُ
لَا يَتَأَخَّرُ عن خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً عَادَةً فإذا لم يَحْتَلِمْ إلَى هذه
الْمُدَّةِ عُلِمَ أَنَّ ذلك لِآفَةٍ في خِلْقَتِهِ وَالْآفَةُ في الْخِلْقَةِ لَا
تُوجِبُ آفَةً في الْعَقْلِ فَكَانَ الْعَقْلُ قَائِمًا بِلَا آفَةٍ فَوَجَبَ
اعْتِبَارُهُ في لُزُومِ الْأَحْكَامِ
وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ عُرِضَ على رسول اللَّهِ
غُلَامٌ وهو ابن أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّهُ وَعُرِضَ وهو ابن خَمْسَ
عَشْرَةَ فَأَجَازَهُ فَقَدْ جَعَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ حَدًّا لِلْبُلُوغِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا عَلَّقَ الْحُكْمَ
وَالْخِطَابَ بِالِاحْتِلَامِ بِالدَّلَائِلِ التي ذَكَرْنَاهَا فَيَجِبُ بِنَاءُ
الْحُكْمِ عليه وَلَا يَرْتَفِعُ الْحُكْمُ عنه ما لم يَتَيَقَّنْ بِعَدَمِهِ
وَيَقَعُ الْيَأْسُ عن وُجُودِهِ وَإِنَّمَا يَقَعُ الْيَأْسُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ
لِأَنَّ الِاحْتِلَامَ إلَى هذه الْمُدَّةِ مُتَصَوَّرٌ في الْجُمْلَةِ فَلَا
يَجُوزُ إزَالَةُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالِاحْتِلَامِ عنه مع الِاحْتِمَالِ على
هذا أُصُولُ الشَّرْعِ فإن حُكْمَ الْحَيْضِ لَمَّا كان لَازِمًا في حَقِّ
الْكَبِيرَةِ لَا يَزُولُ بِامْتِدَادِ الطُّهْرِ ما لم يُوجَدْ الْيَأْسُ
وَيَجِبُ الِانْتِظَارُ لِمُدَّةِ الْيَأْسِ لِاحْتِمَالِ عَوْدِ الْحَيْضِ
وَكَذَا التَّفْرِيقُ في حَقِّ الْعِنِّينِ لَا يَثْبُتُ ما دَامَ طَمَعُ
الْوُصُولِ ثَابِتًا بَلْ يُؤَجَّلُ سَنَةً لِاحْتِمَالِ الْوُصُولِ في فُصُولِ
السَّنَةِ فإذا مَضَتْ السَّنَةُ وَوَقَعَ الْيَأْسُ الْآنَ يُحْكَمُ
بِالتَّفْرِيقِ
وَكَذَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِإِظْهَارِ الْحُجَجِ في حَقِّ
الْكُفَّارِ وَالدُّعَاءِ إلَى الْإِسْلَامِ إلَى أَنْ يَقَعَ الْيَأْسُ عن
قَبُولِهِمْ فما لم يَقَعْ الْيَأْسُ لَا يُبَاحُ لنا الْقِتَالُ
فَكَذَلِكَ هَهُنَا ما دام الِاحْتِلَامُ يُرْجَى يَجِبُ الِانْتِظَارُ وَلَا
يَأْسَ بَعْدَ مُدَّةِ خَمْسَ عَشْرَةَ إلَى هذه الْمُدَّةِ بَلْ هو مَرْجُوٌّ
فَلَا يُقْطَعُ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالِاحْتِلَامِ عنه مع رَجَاءِ وُجُودِهِ
بِخِلَافِ ما بَعْدَ هذه الْمُدَّةِ فإنه لَا يُحْتَمَلُ وُجُودُهُ بَعْدَهَا
فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ في زَمَانِ الْيَأْسِ عن وُجُودِهِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ فيه لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَجَازَ ذلك
لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ احْتَلَمَ في ذلك الْوَقْتِ
وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنَّهُ أَجَازَ ذلك لَمَّا رَآهُ صَالِحًا لِلْحَرْبِ
مُحْتَمِلًا له على سَبِيلِ الِاعْتِيَادِ لِلْجِهَادِ كما أَمَرَنَا بِاعْتِبَارِ
سَائِرِ الْقُرَبِ في أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ وَالِاحْتِمَالِ لها فَلَا
يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ وإذا أَشْكَلَ أَمْرُ الْغُلَامِ الْمُرَاهِقِ
في الْبُلُوغِ فقال قد بَلَغْتُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَيُحْكَمُ بِبُلُوغِهِ
وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ الْمُرَاهِقَةُ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْبُلُوغِ هو
الِاحْتِلَامُ على ما بَيَّنَّا وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَّا من جِهَتِهِ
فَأَلْزَمَتْ الضَّرُورَةُ قَبُولَ قَوْلِهِ كما في الأخبار عن الطُّهْرِ
وَالْحَيْضِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَلَا يَزُولُ الْحَجْرُ عنه إلَّا بِالْإِفَاقَةِ فإذا
أَفَاقَ رَشِيدًا أو سَفِيهًا فَحُكْمُهُ في ذلك حُكْمُ الصَّبِيِّ وقد
ذَكَرْنَاهُ
وَأَمَّا الرَّقِيقُ فَالْحَجْرُ يَزُولُ عنه بِالْإِعْتَاقِ مَرَّةً
وَبِالْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ أُخْرَى إلَّا أَنَّ الْإِعْتَاقَ يُزِيلُ الْحَجْرَ
عنه على الْإِطْلَاقِ وَالْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ لَا يُزِيلُ إلَّا في
التَّصَرُّفَاتِ الدَّائِرَةِ بين الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ
وَأَمَّا السَّفِيهُ فَلَا حَجْرَ عليه عن التَّصَرُّفِ أَصْلًا عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَلَا يُتَصَوَّرُ الزَّوَالُ
وَأَمَّا على مَذْهَبِهِمْ فَزَوَالُهُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ بِضِدِّهِ وهو
الْإِطْلَاقُ من الْقَاضِي فَكَمَا لَا يَنْحَجِرُ إلَّا بِحَجْرِهِ
____________________
(7/172)
لَا
يَنْطَلِقُ إلَّا بِإِطْلَاقِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ زَوَالُ الْحَجْرِ على السَّفِيهِ بِظُهُورِ رُشْدِهِ لِأَنَّ
الْحِجَارَةَ كان بِسَفَهِهِ فَانْطِلَاقُهُ يَكُونُ بِضِدِّهِ وهو رُشْدُهُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وهو فَصْلُ الْحَبْسِ فَالْحَبْسُ على نَوْعَيْنِ
حَبْسُ الْمَدْيُونِ بِمَا عليه من الدَّيْنِ وَحَبْسُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ
الْحَبْسِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ ما يُمْنَعُ عنه
الْمَحْبُوسُ وما لَا يُمْنَعُ
أَمَّا سَبَبُ وُجُوبِ الْحَبْسِ فَهُوَ الدَّيْنُ قَلَّ أو كَثُرَ وَأَمَّا
شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الدَّيْنِ وَبَعْضُهَا
يَرْجِعُ إلَى الْمَدْيُونِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الدَّيْنِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَالًّا فَلَا يُحْبَسُ
في الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ الْمُتَحَقِّقِ
بِتَأْخِيرِ قَضَاءِ الدَّيْنِ ولم يُوجَدْ من الديون ( ( ( المديون ) ) ) لِأَنَّ
صَاحِبَ الدَّيْنِ هو الذي أَخَّرَ حَقَّ نَفْسِهِ بِالتَّأْجِيلِ وَكَذَا لَا
يُمْنَعُ من السَّفَرِ قبل حُلُولِ الْأَجَلِ سَوَاءٌ بَعُدَ مَحِلُّهُ أو قَرُبَ
لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مُطَالَبَتَهُ قبل حَلِّ الْأَجَلِ وَلَا يُمْكِنُ
مَنْعُهُ وَلَكِنْ له أَنْ يَخْرُجَ معه حتى إذَا حَلَّ الْأَجَلُ مَنَعَهُ من
الْمُضِيِّ في سَفَرِهِ إلَى أَنْ يُوَفِّيَهُ دَيْنَهُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَدْيُونِ فَمِنْهَا الْقُدْرَةُ على قَضَاءِ
الدَّيْنِ حتى لو كان مُعْسِرًا لَا يُحْبَسُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {
وَإِنْ كان ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } وَلِأَنَّ الْحَبْسَ
لِدَفْعِ الظُّلْمِ بِإِيصَالِ حَقِّهِ إلَيْهِ ولا ظُلِمَ فيه لِعَدَمِ
الْقُدْرَةِ وَلِأَنَّهُ إذَا لم يَقْدِرْ على قَضَاءِ الدَّيْنِ لَا يَكُونُ الْحَبْسُ
مُفِيدًا لِأَنَّ الْحَبْسَ شُرِعَ لِلتَّوَسُّلِ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لَا
لِعَيْنِهِ
وَمِنْهَا الْمَطْلُ وهو تَأْخِيرُ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِقَوْلِهِ مَطْلُ الغنى
ظُلْمٌ فَيُحْبَسُ دَفْعًا لِلظُّلْمِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِوَاسِطَةِ الْحَبْسِ
وَقَوْلِهِ لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ وَالْحَبْسُ
عُقُوبَةٌ وما لم يَظْهَرْ منه الْمَطْلُ لَا يُحْبَسُ لِانْعِدَامِ الْمَطْلِ
واللى منه
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ من عليه الدَّيْنُ مِمَّنْ سِوَى الْوَالِدَيْنِ لِصَاحِبِ
الدَّيْنِ فَلَا يُحْبَسُ الْوَالِدُونَ وَإِنْ عَلَوْا بِدَيْنِ الْمَوْلُودِينَ
وَإِنْ سَفَلُوا لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا
مَعْرُوفًا } وقَوْله تَعَالَى { وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } وَلَيْسَ من
الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ حَبْسُهُمَا بِالدَّيْنِ إلَّا
أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ الْوَالِدُ من الْإِنْفَاقِ على وَلَدِهِ الذي عليه
نَفَقَتُهُ فإن الْقَاضِيَ يَحْبِسُهُ لَكِنْ تَعْزِيرًا لَا حَبْسًا بِالدَّيْنِ
وَأَمَّا الْوَلَدُ فَيُحْبَسُ بِدَيْنِ الْوَالِدِ لِأَنَّ الْمَانِعَ من الْحَبْسِ
حَقُّ الْوَالِدَيْنِ وَكَذَا سَائِرُ الْأَقَارِبِ يُحْبَسُ الْمَدْيُونُ
بِدَيْنِ قَرِيبِهِ كَائِنًا من كان وَيَسْتَوِي في الْحَبْسِ الرَّجُلُ
وَالْمَرْأَةُ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْحَبْسِ لَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ
وَالْأُنُوثَةِ وَيُحْبَسُ وَلِيُّ الصَّغِيرِ إذَا كان كان مِمَّنْ يَجُوزُ له
قَضَاءُ دَيْنِهِ لِأَنَّهُ إذَا كان الظُّلْمُ بِسَبِيلٍ من قَضَاءِ دَيْنِهِ
صَارَ بِالتَّأْخِيرِ ظَالِمًا فَيُحْبَسُ لِيَقْضِيَ الدَّيْنَ فَيَنْدَفِعُ
الظُّلْمُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ فَطَلَبُ الْحَبْسِ من الْقَاضِي
فما لم يَطْلُبْ لَا يُحْبَسْ لِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّهُ وَالْحَبْسُ وَسِيلَةٌ
إلَى حَقِّهِ وَوَسِيلَةُ حَقِّ الْإِنْسَانِ حَقُّهُ وَحَقُّ الْمَرْءِ إنَّمَا
يُطْلَبُ بِطَلَبِهِ فَلَا بُدَّ من الطَّلَبِ لِلْحَبْسِ
وإذا عُرِفَ سَبَبُ وُجُوبِ الدَّيْنِ وَشَرَائِطُهُ فَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَ
الْقَاضِي السَّبَبُ مع شَرَائِطِهِ بِالْحُجَّةِ حَبَسَهُ لِتَحَقُّقِ الظُّلْمِ
عِنْدَهُ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَالْقَاضِي نُصِّبَ لِدَفْعِ
الظُّلْمِ فَيَنْدَفِعُ الظُّلْمُ عنه
وَإِنْ اشْتَبَهَ على الْقَاضِي حَالُهُ في يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ ولم يَقُمْ
عِنْدَهُ حُجَّةٌ على أَحَدِهِمَا وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ حَبْسَهُ فإنه يحبسه ( (
( يحبس ) ) ) لِيَتَعَرَّفَ عن حَالِهِ أَنَّهُ فَقِيرٌ أَمْ غَنِيٌّ فَإِنْ
عَلِمَ أَنَّهُ غَنِيٌّ حَبَسَهُ إلَى أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ لِأَنَّهُ ظَهَرَ
ظُلْمُهُ بِالتَّأْخِيرِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ فَقِيرٌ خَلَّى سَبِيلَهُ
لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ الْحَبْسَ فَيُطْلِقُهُ وَلَكِنْ لَا
يَمْنَعُ الْغُرَمَاءَ عن مُلَازَمَتِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ إلَّا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْإِنْظَارِ لِاحْتِمَالِ أَنْ
يَرْزُقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَالًا إذْ الْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٌ
وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُلَازِمُونَهُ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى { وَإِنْ كان ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } ذَكَرَ
النَّظِرَةَ بِحَرْفِ الْفَاءِ فَثَبَتَ من غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي
وَلَنَا أَنَّ النَّظِرَةَ هِيَ التَّأْخِيرُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُؤَخَّرَ وهو
أَنْ يُؤَخِّرَهُ الْقَاضِي أو صَاحِبُ الْحَقِّ وَلَا يَمْنَعُونَهُ من
التَّصَرُّفِ وَلَا من السَّفَرِ فإذا اكْتَسَبَ يَأْخُذُونَ فَضْلَ كَسْبِهِ
فَيَقْتَسِمُونَهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ وإذا مَضَى على حَبْسِهِ شَهْرٌ أو
شَهْرَانِ أو ثَلَاثَةٌ ولم يَنْكَشِفْ حَالُهُ في الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ
خَلَّى سَبِيلَهُ لِأَنَّ هذا الْحَبْسَ كان لِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ وَإِبْلَاءِ
عُذْرِهِ وَالثَّلَاثَةُ الْأَشْهُرِ مُدَّةٌ صَالِحَةٌ لِاشْتِهَارِ الْحَالِ
وَإِبْلَاءِ الْعُذْرِ فَيُطْلِقُهُ لَكِنْ الْغُرَمَاءُ لَا يُمْنَعُونَ من
مُلَازَمَتِهِ فَيُلَازِمُونَهُ لَكِنْ لَا يَمْنَعُونَهُ من التَّصَرُّفِ
وَالسَّفَرِ على ما ذَكَرْنَا
وَلَوْ اخْتَلَفَا في الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فقال الطَّالِبُ هو مُوسِرٌ
وقال الْمَطْلُوبُ أنا مُعْسَرٌ فَإِنْ قَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ قُبِلَتْ
بَيِّنَتُهُ وَإِنْ أَقَامَا جميعا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ
الطَّالِبِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ
____________________
(7/173)
زِيَادَةً
وَهِيَ الْيَسَارُ
وَإِنْ لم يَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْكَفَالَةِ
وَالنِّكَاحِ وَالزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ ثَبَتَ الدَّيْنُ
بِمُعَاقَدَةٍ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْكَفَالَةِ وَالصُّلْحِ عن دَمِ
الْعَمْدِ وَالصُّلْحِ عن الْمَالِ وَالْخُلْعِ أو ثَبَتَ تَبَعًا فِيمَا هو
مُعَاقَدَةٌ كَالنَّفَقَةِ في بَابِ النِّكَاحِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ
وَكَذَا في الْغَصْبِ وَالزَّكَاةِ
وَإِنْ ثَبَتَ الدَّيْنُ بِغَيْرِ ذلك كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ أو الْقَتْلِ الذي
لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَيُوجِبُ الْمَالَ في مَالِ الْجَانِي وفي الْخَطَأِ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ في آداب ( ( ( أدب ) ) ) الْقَاضِي أَنَّهُ
إنْ وَجَبَ الذين ( ( ( الدين ) ) ) عِوَضًا عن مَالٍ سَالِمٍ لِلْمُشْتَرِي نحو
ثَمَنِ الْمَبِيعِ الذي سَلِمَ له الْبَيْعُ وَالْقَرْضُ وَالْغَصْبُ وَالسَّلَمُ
الذي أَخَذَ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ رَأْسَ الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ
وَكُلُّ دَيْنٍ ليس له عِوَضٌ أَصْلًا كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ أو له عِوَضٌ ليس
بِمَالٍ كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ
وَالْكَفَالَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ على
كل حَالٍ وَلَا يُحْبَسُ لِأَنَّ الْفَقْرَ أَصْلٌ في بَنِي آدَمَ والغنا ( ( (
والغنى ) ) ) عَارِضٌ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمَطْلُوبِ فَكَانَ
الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ
وقال بَعْضُهُمْ الْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ على كل حَالٍ لِقَوْلِهِ لِصَاحِبِ
الْحَقِّ الْيَدُ وَاللِّسَانُ
وقال بَعْضُهُمْ يُحَكَّمُ زِيُّهُ إذَا كان زِيُّهُ زِيَّ الْأَغْنِيَاءِ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ وَإِنْ كان زِيُّهُ زِيَّ الْفُقَرَاءِ فَالْقَوْلُ
قَوْلُ الْمَطْلُوبِ
وَعَنْ الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ
يُحَكَّمُ زِيُّهُ فَيُؤْخَذُ بِحُكْمِهِ في الْفَقْرِ والغنا ( ( ( والغنى ) ) )
إلَّا إذَا كان الْمَطْلُوبُ من الْفُقَهَاءِ أو الْعَلَوِيَّةِ أو الْأَشْرَافِ
لِأَنَّ من عَادَاتِهِمْ التَّكَلُّفَ في اللِّبَاسِ وَالتَّجَمُّلَ بِدُونِ الغنا
فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَدْيُونِ أَنَّهُ مُعْسِرٌ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقَوْلَ في الشَّرْعِ
قَوْلُ من يَشْهَدُ له الظَّاهِرُ وإذا وَجَبَ الدَّيْنُ بَدَلًا عن مَالٍ سَلِمَ
له كان الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ لِأَنَّهُ ثَبَتَتْ قُدْرَةُ الْمَطْلُوبِ
بِسَلَامَةِ الْمَالِ وَكَذَا في الزَّكَاةِ أنها لَا تَجِبُ إلَّا على الْغَنِيِّ
فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وهو ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّ
الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلطَّالِبِ فِيمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ
وهو إقْدَامُهُ على الْمُعَاقَدَةِ فإن الْإِقْدَامَ على التَّزَوُّجِ دَلِيلُ
الْقُدْرَةِ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الأنسان لَا يَتَزَوَّجُ حتى يَكُونَ له شَيْءٌ
وَلَا يَتَزَوَّجُ أَيْضًا حتى يَكُونَ له قُدْرَةٌ على الْمَهْرِ وَكَذَا
الْإِقْدَامُ على الْخُلْعِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُخَالِعُ عَادَةً حتى
يَكُونَ عِنْدَهَا شَيْءٌ وَكَذَا الصُّلْحُ لَا يُقْدِمُ الْإِنْسَانُ عليه إلَّا
عِنْدَ الْقُدْرَةِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ في هذه الْمَوَاضِعِ
فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فصل وَأَمَّا بَيَانُ ما يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ عنه وما لَا يُمْنَعُ
فَالْمَحْبُوسُ مَمْنُوعٌ عن الْخُرُوجِ إلَى أَشْغَالِهِ وَمُهِمَّاتِهِ وَإِلَى
الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ وَالْأَعْيَادِ وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ وَعِيَادَةِ
الْمَرْضَى وَالزِّيَارَةِ وَالضِّيَافَةِ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتَّوَسُّلِ إلَى
قَضَاءِ الدَّيْنِ فإذا مُنِعَ عن أَشْغَالِهِ وَمُهِمَّاتِهِ الدِّينِيَّةِ
وَالدُّنْيَوِيَّةِ تَضَجَّرَ فَيُسَارِعُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَلَا يُمْنَعُ
من دُخُولِ أَقَارِبِهِ عليه لِأَنَّ ذلك لَا يُخِلُّ بِمَا وَضَعَ له الْحَبْسُ
بَلْ قد يَقَعُ وَسِيلَةً إلَيْهِ وَلَا يُمْنَعُ من التَّصَرُّفَاتِ
الشَّرْعِيَّةِ ومن الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِقْرَارِ
لِغَيْرِهِمْ من الْغُرَمَاءِ حتى لو فَعَلَ شيئا من ذلك نَفَذَ ولم يَكُنْ
لِلْغُرَمَاءِ وِلَايَةُ الْإِبْطَالِ لِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ
أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ
وَلَوْ طَلَبَ الْغُرَمَاءُ الَّذِينَ حُبِسَ لِأَجْلِهِمْ من الْقَاضِي أَنْ
يَحْجُرَ على الْمَحْبُوسِ من الْإِقْرَارِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا
لم يُجِبْهُمْ إلَى ذلك عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدُهُمَا له
أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَيْهِ
وَكَذَا إذَا طَلَبُوا من الْقَاضِي بَيْعَ مَالِهِ عليه مِمَّا سِوَى الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ من الْمَنْقُولِ وَالْعَقَارِ له أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَيْهِ
عِنْدَهُمَا وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا يُجِيبُهُمْ
إلَى ذلك وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ لَكِنْ إذَا كان دَيْنُهُ دَرَاهِمَ
وَعِنْدَهُ دَرَاهِمُ فإن الْقَاضِيَ يَقْضِي بها دَيْنَهُ لِأَنَّهَا من جِنْسِ
حَقِّهِ
وَإِنْ كان دَيْنُهُ دَرَاهِمَ وَعِنْدَهُ دَنَانِيرُ بَاعَهَا الْقَاضِي
بِالدَّرَاهِمِ وَقَضَى بها دَيْنَهُ وَكَذَا إذَا كان دَيْنُهُ دَنَانِيرَ
وَعِنْدَهُ دَرَاهِمُ بَاعَهَا الْقَاضِي بِالدَّنَانِيرِ وَقَضَى بها دَيْنَهُ
فَرْقٌ بين الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَمْوَالِ أَنَّهُ
يَبِيعُ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَلَا يَبِيعُ سَائِرَ
الْأَمْوَالِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ من جِنْسٍ وَاحِدٍ من
وَجْهٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَكْمُلُ نِصَابُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ في بَابِ
الزَّكَاةِ والمؤدي عن أَحَدِهِمَا كان مؤديا ( ( ( مؤدى ) ) ) عن الْآخَرِ عِنْدَ
الْهَلَاكِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا مُجَانَسَةٌ من وَجْهٍ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا كَعَيْنِ الْآخَرِ حُكْمًا وَلَيْسَ بين الْعُرُوضِ وَبَيْنَ
الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مُجَانَسَةٌ بِوَجْهٍ فَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ
على الْمَحْبُوسِ بِبَيْعِهِمَا بها وَلِأَنَّ الْعُرُوضَ إذَا بِيعَتْ لِقَضَاءِ
الدَّيْنِ فَإِنَّهَا لَا تشتري مِثْلَ ما تشتري في سَائِرِ الْأَوْقَاتِ بَلْ
دُونَ
____________________
(7/174)
ذلك
وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِ وَلَا ضَرَرَ في الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّهَا لَا
تَتَفَاوَتُ وَهَذَا بِخِلَافِ ما بَعْدَ الْمَوْتِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَبِيعُ
جَمِيعَ مَالِهِ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ لِأَنَّ بَيْعَ الْقَاضِي ليس تَصَرُّفًا على
الْمَيِّتِ لِبُطْلَانِ أَهْلِيَّتِهِ بِالْمَوْتِ وَلِأَنَّهُ رضي بِذَلِكَ في
آخَرِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ
هذا هو الظَّاهِرُ لِأَنَّ قَضَاءَ الدُّيُونِ من حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ
فَكَانَ رَاضِيًا بِقَضَاءِ الدَّيْنِ من أَيِّ مَالٍ كان تَخْلِيصًا لِنَفْسِهِ
عن عُهْدَةِ الدَّيْنِ عِنْدَمَا سَدَّهُ عن حَيَاتِهِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَيُنْفِقُ الْمَحْبُوسُ على نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَأَقَارِبِهِ وَلَا يُمْنَعُ
من ذلك وَلَا عن شَيْءٍ من التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فصل وَأَمَّا حَبْسُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ فَالْمَحْبُوسُ بِالدَّيْنِ في
الْأَصْلِ على نَوْعَيْنِ مَحْبُوسٌ هو مَضْمُونٌ وَمَحْبُوسٌ هو أَمَانَةٌ
وَالْمَضْمُونُ على نَوْعَيْنِ أَيْضًا
مَضْمُونٍ بِالثَّمَنِ وَمَضْمُونٍ بِالْقِيمَةِ فَالْمَضْمُونُ بِالثَّمَنِ
كَالْمَبِيعِ في يَدِ الْبَائِعِ حتى لو هَلَكَ سَقَطَ الثَّمَنُ لِأَنَّهُ لو
بَقِيَ لَطَالَبَهُ الْبَائِعُ بِهِ فَيُطَالِبُهُ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ
الْمَبِيعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ بِإِزَاءِ تَمْلِيكٍ
وَتَسْلِيمٌ بِإِزَاءِ تَسْلِيمٍ وهو عَاجِزٌ عن التَّسْلِيمِ لِهَلَاكِ
الْمَبِيعِ فَلَا يَمْلِكُ مُطَالَبَتَهُ فَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ مُطَالَبَتَهُ
بِالثَّمَنِ فَيُسْقِطُ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْفَائِدَةِ في الْبَقَاءِ وَلِأَنَّ
الْمَبِيعَ في يَدِ الْبَائِعِ لَا يَكُونُ أَدْنَى حَالًا من الْمَقْبُوضِ على
سَوْمِ الشِّرَاءِ وَذَلِكَ مَضْمُونٌ فَهَذَا أَوْلَى إلَّا أَنَّ ذلك مَضْمُونٌ
بِالْقِيمَةِ وَهَذَا بِالثَّمَنِ لِوُجُودِ التَّسْمِيَةِ الصَّحِيحَةِ هَهُنَا
وَانْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ هُنَاكَ أَصْلًا
وَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ إذَا أَدَّى الثَّمَنَ من مَالِ نَفْسِهِ
فَحَبَسَ السِّلْعَةَ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ من الْمُوَكِّلِ فَهَلَكَ فَإِنْ
كان قبل الطَّلَبِ يَهْلِكُ أَمَانَةً عِنْدَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ
الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَهْلِكُ مَضْمُونًا وَلَوْ كان
بَعْدَ الطَّلَبِ يَهْلِكُ مَضْمُونًا لَكِنْ ضَمَانُ الْمَبِيعِ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ ضَمَانُ الرَّهْنِ وَعِنْدَ زُفَرَ
رَحِمَهُ اللَّهُ ضَمَانُ الْغَصْبِ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ
الْوَكَالَةِ
وَأَمَّا الْمَضْمُونُ بِالْقِيمَةِ فَكَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا إذَا لم
يَكُنْ من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ إذَا فَسَخَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ وَالْمَبِيعُ في
يَدِ الْمُشْتَرِي فَحَبَسَهُ لِيَرُدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ عليه فَهَلَكَ في
يَدِهِ يَهْلِكُ بِقِيمَتِهِ وَيَتَقَاصَّانِ وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ
وَكَذَا الْمَرْهُونُ مَضْمُونٌ عِنْدَنَا لَكِنْ بِالْأَقَلِّ من قِيمَتِهِ
وَمِنْ الدَّيْنِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى ليس بِمَضْمُونٍ أَصْلًا
وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الرَّهْنِ
وَأَمَّا الْمَحْبُوسُ الذي هو أَمَانَةٌ فَنَحْوُ نَمَاءِ الرَّهْنِ فإنه
مَحْبُوسٌ بِالدَّيْنِ لَكِنَّهُ أَمَانَةٌ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ حتى لو هَلَكَ
لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الدَّيْنِ
وَكَذَا الْمُسْتَأْجِرُ دَابَّةً إجَارَةً فَاسِدَةً إذَا كان عَجَّلَ
الْأُجْرَةَ فَحَبَسَهَا لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ حتى هَلَكَتْ
في يَدِهِ تَهْلِكُ أَمَانَةً وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ الْإِكْرَاهِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ
مَعْنَى الْإِكْرَاهِ لُغَةً وَشَرْعًا
وفي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الْإِكْرَاهِ وفي
بَيَانِ حُكْمِ ما يَقَعُ عليه الْإِكْرَاهُ إذَا أتى بِهِ الْمُكْرَهُ وفي
بَيَانِ ما عَدْلُ الْمُكْرَهِ إلَى غَيْرِ ما وَقَعَ عليه الْإِكْرَاهُ أو زَادَ
على ما وَقَعَ عليه الْإِكْرَاهُ أو نَقَصَ عنه
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْإِكْرَاهُ في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن إثْبَاتِ الْكُرْهِ
وَالْكُرْهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِالْمُكْرَهِ يُنَافِي الْمَحَبَّةَ وَالرِّضَا
وَلِهَذَا يُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَابِلَ الْآخَرِ قال اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شيئا وهو خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى
أَنْ تُحِبُّوا شيئا وهو شَرٌّ لَكُمْ } وَلِهَذَا قال أَهْلُ السُّنَّةِ إنَّ
اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَكْرَهُ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ أَيْ لَا
يُحِبُّهَا وَلَا يَرْضَى بها وَإِنْ كانت الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي بِإِرَادَةِ
اللَّهِ عز وجل وفي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عن الدُّعَاءِ إلَى الْفِعْلِ
بِالْإِيعَادِ وَالتَّهْدِيدِ مع وُجُودِ شَرَائِطِهَا التي نَذْكُرُهَا في
مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ فَنَقُولُ إنَّهُ نَوْعَانِ
نَوْعٌ يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ طَبْعًا كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ
وَالضَّرْبِ الذي يُخَافُ فيه تَلَفُ النَّفْسِ أو الْعُضْوِ قَلَّ الضَّرْبُ أو كَثُرَ
وَمِنْهُمْ من قَدَّرَهُ بِعَدَدِ ضَرَبَاتِ الْحَدِّ وَأَنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ
لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ عليه تَحَقُّقُ الضَّرُورَةِ فإذا تَحَقَّقَتْ فَلَا مَعْنَى
لِصُورَةِ الْعَدَدِ
وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى إكْرَاهًا تَامًّا وَنَوْعٌ لَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ
وَالِاضْطِرَارَ وهو الْحَبْسُ وَالْقَيْدُ وَالضَّرْبُ الذي لَا يُخَافُ منه
التَّلَفُ وَلَيْسَ فيه تَقْدِيرٌ لَازِمٌ سِوَى أَنْ يَلْحَقَهُ منه
الِاغْتِمَامُ الْبَيِّنُ من هذه الْأَشْيَاءِ أَعْنِي الْحَبْسَ وَالْقَيْدَ
وَالضَّرْبَ وَهَذَا النَّوْعُ من الْإِكْرَاهِ يُسَمَّى إكْرَاهًا نَاقِصًا
____________________
(7/175)
فَصْلٌ
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْإِكْرَاهِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرِهِ
وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرَهِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا على
تَحْقِيقِ ما أَوْعَدَ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا عِنْدَ
الْقُدْرَةِ
وَعَلَى هذا قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ
إلَّا من السُّلْطَانِ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنَّهُ
يَتَحَقَّقُ من السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن الْإِكْرَاهَ ليس إلَّا إيعَادٌ بِإِلْحَاقِ الْمَكْرُوهِ
وَهَذَا يَتَحَقَّقُ من كل مُسَلَّطٍ وأبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه يقول غَيْرُ
السُّلْطَانِ لَا يَقْدِرُ على تَحْقِيقِ ما أَوْعَدَ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ
يَسْتَغِيثُ بِالسُّلْطَانِ فَيُغِيثُهُ فإذا كان الْمُكْرَهُ هو السُّلْطَانُ
فَلَا يَجِدُ غَوْثًا
وَقِيلَ إنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ في الْمَعْنَى إنَّمَا هو خِلَافُ زَمَانٍ
فَفِي زَمَنِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لم يَكُنْ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ
قُدْرَةُ الْإِكْرَاهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ الْحَالُ في زَمَانِهِمَا فَغَيَّرَ
الْفَتْوَى على حَسَبِ الْحَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِتَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ حتى يَتَحَقَّقَ
من الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إذَا كان مُطَاعًا مُسَلَّطًا وَكَذَلِكَ الْعَقْلُ
وَالتَّمْيِيزُ الْمُطْلَقُ ليس بِشَرْطٍ فَيَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ من
الْبَالِغِ الْمُخْتَلَطِ الْعَقْلِ بَعْدَ أَنْ كان مُطَاعًا مُسَلَّطًا
وَأَمَّا النَّوْعُ الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرَهِ فَهُوَ أَنْ يَقَعَ في غَالِبِ
رَأْيِهِ وَأَكْثَرِ ظَنِّهِ أَنَّهُ لو لم يُجِبْ إلَى ما دُعِيَ إلَيْهِ
تَحَقَّقَ ما أُوعِدَ بِهِ لِأَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ حُجَّةٌ خُصُوصًا عِنْدَ
تَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَى التَّعَيُّنِ حتى إنه لو كان في أَكْثَرِ رَأْيِ
الْمُكْرَهِ أَنَّ الْمُكْرِهَ لَا يُحَقِّقُ ما أَوْعَدَهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ
الْإِكْرَاهِ شَرْعًا
وَإِنْ وَجَدَ صُورَةَ الْإِيعَادِ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لم تَتَحَقَّقْ
وَمِثْلُهُ لو أَمَرَهُ بِفِعْلٍ ولم يُوعِدْهُ عليه وَلَكِنْ في أَكْثَرِ رَأْيِ
الْمُكْرَهِ أَنَّهُ لو لم يَفْعَلْ تَحَقَّقَ ما أَوْعَدَ يَثْبُتُ حُكْمُ
الْإِكْرَاهِ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَلِهَذَا أنه لو كان في أَكْثَرِ رَأْيِهِ
أَنَّهُ لو امْتَنَعَ عن تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَصَبَرَ إلَى أَنْ يَلْحَقَهُ
الْجُوعُ الْمُهْلِكُ لَأُزِيلَ عنه الْإِكْرَاهُ لَا يُبَاحُ له أَنْ يُعَجِّلَ
بِتَنَاوُلِهَا وَإِنْ كان في أَكْثَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ وَإِنْ صَبَرَ إلَى
تِلْكَ الْحَالَةِ لَمَا أُزِيلَ عنه الْإِكْرَاهُ يُبَاحُ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا
لِلْحَالِ
دَلَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِغَالِبِ الرَّأْيِ وَأَكْثَرِ الظَّنِّ دُونَ صُورَةِ
الْإِيعَادِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ تعالى ( ( ( وتعالى ) ) ) أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَقَعُ عليه الْإِكْرَاهُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ
التَّوْفِيقُ ما يَقَعُ عليه الْإِكْرَاهُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ حِسِّيٌّ
وَشَرْعِيٌّ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على ضَرْبَيْنِ مُعَيَّنٍ وَمُخَيَّرٍ فيه
أَمَّا الْحِسِّيُّ الْمُعَيَّنُ في كَوْنِهِ مُكْرَهًا عليه فَالْأَكْلُ
وَالشُّرْبُ وَالشَّتْمُ وَالْكُفْرُ وَالْإِتْلَافُ وَالْقَطْعُ عَيْنًا
وَأَمَّا الشَّرْعِيُّ فَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالتَّدْبِيرُ وَالنِّكَاحُ
وَالرَّجْعَةُ وَالْيَمِينُ وَالنَّذْرُ وَالظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ وَالْفَيْءُ
في الْإِيلَاءِ وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْهِبَةُ وَالْإِجَارَةُ
وَالْإِبْرَاءُ عن الْحُقُوقِ وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ وَتَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ
وَتَرْكُ طَلَبِهَا وَنَحْوُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ ما يَقَعُ عليه الْإِكْرَاهُ فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الْحِسِّيَّةُ فَيَتَعَلَّقُ
بها حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ وَالثَّانِي يَرْجِعُ إلَى
الدُّنْيَا
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
التَّصَرُّفَاتُ الْحِسِّيَّةُ التي يَقَعُ عليها الْإِكْرَاهُ في حَقِّ أَحْكَامِ
الْآخِرَةِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ هو مُبَاحٌ وَنَوْعٌ هو مُرَخَّصٌ وَنَوْعٌ
هو حَرَامٌ ليس بِمُبَاحٍ وَلَا مُرَخَّصٍ
أَمَّا النَّوْعُ الذي هو مُبَاحٌ فَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ
الْخِنْزِيرِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ إذَا كان الْإِكْرَاهُ تَامًّا بِأَنْ كان
بِوَعِيدِ تَلَفٍ لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ مِمَّا تُبَاحُ عِنْدَ الإضرار ( ( (
الاضطرار ) ) ) قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إلَّا ما اُضْطُرِرْتُمْ
إلَيْهِ } أَيْ دَعَتْكُمْ شِدَّةُ الْمَجَاعَةِ إلَى أَكْلِهَا وَالِاسْتِثْنَاءُ
من التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ وقد تَحَقَّقَ الإضطرار بِالْإِكْرَاهِ فَيُبَاحُ له
التَّنَاوُلُ بَلْ لَا يُبَاحُ له الِامْتِنَاعُ عنه وَلَوْ امْتَنَعَ عنه حتى
قُتِلَ يُؤَاخَذُ بِهِ كما في حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ لِأَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ
عنه صَارَ مُلْقِيًا نَفْسَهُ في التَّهْلُكَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
نهى عن ذلك بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ
} وَإِنْ كان الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا لَا يَحِلُّ له الْإِقْدَامُ عليه وَلَا
يُرَخَّصُ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ لِلضَّرُورَةِ بَلْ لِدَفْعِ الْغَمِّ
عن نَفْسِهِ فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ بِحُكْمِهَا قَائِمَةً
وَكَذَلِكَ لو كان الْإِكْرَاهُ بِالْإِجَاعَةِ بِأَنْ قال لَتَفْعَلَنَّ كَذَا
وَإِلَّا لَأُجِيعَنَّكَ لَا يَحِلُّ له أَنْ يَفْعَلَ حتى يَجِيئَهُ من الْجُوعِ
ما يُخَافُ منه تَلَفُ النَّفْسِ أو الْعُضْوِ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا
تَتَحَقَّقُ إلَّا في تِلْكَ الْحَالَةِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا النَّوْعُ الذي هو مُرَخَّصٌ فَهُوَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ على
اللِّسَانِ مع اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ إذَا كان الْإِكْرَاهُ
تَامًّا وهو مُحَرَّمٌ في نَفْسِهِ مع ثُبُوتِ الرُّخْصَةِ فَأَثَرُ بالرخصة ( ( (
الرخصة ) ) ) في تَغَيُّرِ حُكْمِ الْفِعْلِ وهو الْمُؤَاخَذَةُ لَا في تَغَيُّرِ
وَصْفِهِ وهو الْحُرْمَةُ لِأَنَّ كَلِمَةَ الْكُفْرِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ
الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ قَائِمَةً إلَّا أَنَّهُ سَقَطَتْ
الْمُؤَاخَذَةُ لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { من كَفَرَ بِاَللَّهِ من بَعْدِ إيمَانِهِ
إلَّا من أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ من شَرَحَ
بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ من اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
____________________
(7/176)
إلَّا
من أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ على التَّقْدِيمِ
وَالتَّأْخِيرِ في الْكَلَامِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَالِامْتِنَاعُ عنه أَفْضَلُ من الْإِقْدَامِ عليه حتى لو امْتَنَعَ فَقُتِلَ كان
مَأْجُورًا لِأَنَّهُ جَادَ بِنَفْسِهِ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَرْجُو
أَنْ يَكُونَ له ثَوَابُ الْمُجَاهِدِينَ بِالنَّفْسِ هُنَا
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من قُتِلَ مُجْبَرًا في نَفْسِهِ فَهُوَ في
ظِلِّ الْعَرْشِ يوم الْقِيَامَةِ وَكَذَلِكَ التَّكَلُّمُ بِشَتْمِ النبي عليه
السلام مع اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ عَمَّارَ بن يَاسِرٍ رضي اللَّهُ عنهما لَمَّا
أَكْرَهَهُ الْكُفَّارُ وَرَجَعَ إلَى رسول اللَّهِ فقال له ما وَرَاءَك يا
عَمَّارُ فقال شَرٌّ يا رَسُولَ اللَّهِ ما تَرَكُونِي حتى نِلْتُ مِنْكَ فقال
رسول اللَّهِ إنْ عَادُوا فَعُدْ فَقَدْ رَخَّصَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في
إتْيَانِ الْكَلِمَةِ بِشَرِيطَةِ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ حَيْثُ
أَمَرَهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْعَوْدِ إلَى ما وُجِدَ منه لَكِنْ
الِامْتِنَاعُ أَفْضَلُ لِمَا مَرَّ
وَمِنْ هذا النَّوْعِ شَتْمُ الْمُسْلِمِ لِأَنَّ عِرْضَ الْمُسْلِمِ حَرَامُ
التَّعَرُّضِ في كل حَالٍ
قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلُّ الْمُسْلِمِ على الْمُسْلِمِ
حَرَامٌ دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ له لِعُذْرِ
الْإِكْرَاهِ وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ في سُقُوطِ الْمُؤَاخَذَةِ دُونَ الْحُرْمَةِ
وَالِامْتِنَاعُ عنه حِفْظًا لِحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ وَإِيثَارًا له على نَفْسِهِ
أَفْضَلُ وَمِنْ هذا النَّوْعِ إتْلَافُ مَالِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِ
الْمُسْلِمِ حُرْمَةُ دَمِهِ على لِسَانِ رسول اللَّهِ فَلَا يَحْتَمِلُ
السُّقُوطَ بِحَالٍ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ له الْإِتْلَافُ لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ
حَالَ الْمَخْمَصَةِ على ما نَذْكُرُ وَلَوْ امْتَنَعَ حتى قُتِلَ لَا يَأْثَمُ
بَلْ يُثَابُ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ قَائِمَةٌ فَهُوَ بِالِامْتِنَاعِ قَضَى حَقَّ
الْحُرْمَةِ فَكَانَ مَأْجُورًا لَا مَأْزُورًا
وَكَذَلِكَ إتْلَافُ مَالِ نَفْسِهِ مُرَخَّصٌ بِالْإِكْرَاهِ لَكِنْ مع قِيَامِ
الْحُرْمَةِ حتى إنه لو امْتَنَعَ فَقُتِلَ لَا يَأْثَمُ بَلْ يُثَابُ
لِأَنَّ حُرْمَةَ ماله لا تسقط بالإكراه
لو امتنع فقتل لا يأثم بل يثاب
لأن حرمة مَالِهِ لَا تَسْقُطُ بِالْإِكْرَاهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ أُبِيحَ له الدَّفْعُ قال النبي عليه السلام قَاتِلْ دُونَ
مَالِكَ وَكَذَا من أَصَابَتْهُ الْمَخْمَصَةُ فَسَأَلَ صَاحِبَهُ الطَّعَامَ
فَمَنَعَهُ فَامْتَنَعَ من التَّنَاوُلِ حتى مَاتَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ رَاعَى حَقَّ الْحُرْمَةِ
هذا إذَا كان الْإِكْرَاهُ تَامًّا فَإِنْ كان نَاقِصًا من الْحَبْسِ وَالْقَيْدِ
وَالضَّرْبِ الذي لَا يُخَافُ منه تَلَفُ النَّفْسِ وَالْعُضْوِ لَا يُرَخَّصُ له
أَصْلًا وَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ وَإِنْ قال كان قَلْبِي مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ
فَلَا يُصَدَّقُ في الْحُكْمِ على ما نَذْكُرُ
وَيَأْثَمُ بِشَتْمِ الْمُسْلِمِ وَإِتْلَافِ مَالِهِ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لم
تَتَحَقَّقْ
وَكَذَا إذَا كان الْإِكْرَاهُ تَامًّا وَلَكِنْ في أَكْبَرِ رَأْيِ الْمُكْرَهِ
إن الْمُكْرِهَ لَا يُحَقِّقُ ما أَوْعَدَهُ لَا يُرَخَّصُ له الْفِعْلُ أَصْلًا
وَلَوْ فَعَلَ يَأْثَمُ لِانْعِدَامِ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ لِانْعِدَامِ
الْإِكْرَاهِ شَرْعًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا النَّوْعُ الذي لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ بِالْإِكْرَاهِ أَصْلًا
فَهُوَ قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ سَوَاءٌ كان الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا أو
تَامًّا لِأَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ
بِحَالٍ قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ التي
حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ } وَكَذَا قَطْعُ عُضْوٍ من أَعْضَائِهِ
وَالضَّرْبُ الْمُهْلِكُ
قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ ما اكْتَسَبُوا فَقَدْ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا
وَإِثْمًا مُبِينًا } وَكَذَلِكَ ضَرْبُ الْوَالِدَيْنِ قَلَّ أو كَثُرَ قال
اللَّهُ تَعَالَى { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } وَالنَّهْيُ عن التَّأْفِيفِ
نَهْيٌ عن الضَّرْبِ دَلَالَةً بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ
قَائِمَةً بِحُكْمِهَا فَلَا يُرَخَّصُ الْإِقْدَامُ عليه وَلَوْ أَقْدَمَ
يَأْثَمُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا ضَرْبُ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ إذَا كان مِمَّا لَا يُخَافُ منه التَّلَفُ
كَضَرْبِ سَوْطٍ أو نَحْوِهِ فَيُرْجَى أَنْ لَا يؤاخذبه
وَكَذَا الْحَبْسُ وَالْقَيْدُ لِأَنَّ ضَرَرَهُ دُونَ ضَرَرِ الْمُكْرَهِ
بِكَثِيرٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَرْضَى بهذا الْقَدْرِ من الضَّرَرِ لِإِحْيَاءِ
أَخِيهِ وَلَوْ أَذِنَ له الْمُكْرَهُ عليه أو قَطَعَهُ أو ضَرَبَهُ فقال
لِلْمُكْرَهِ افْعَلْ لَا يُبَاحُ له أَنْ يَفْعَلَ لِأَنَّ هذا مِمَّا لَا
يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ وَلَوْ فَعَلَ فَهُوَ آثِمٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو فَعَلَ بِنَفْسِهِ أَثِمَ فَبِغَيْرِهِ أَوْلَى
وَكَذَا الزِّنَا من هذا الْقَبِيلِ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ لِلرَّجُلِ
بِالْإِكْرَاهِ وَإِنْ كان تَامًّا وَلَوْ فَعَلَ يَأْثَمُ لِأَنَّ حُرْمَةَ
الزِّنَا ثَابِتَةٌ في الْعُقُولِ
قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَلَا تَقْرَبُوا الزنى ( ( ( الزنا ) ) )
إنَّهُ كان فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا } فَدَلَّ أَنَّهُ كان فَاحِشَةً في
الْعَقْلِ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ بِحَالٍ كَقَتْلِ
الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَوْ أَذِنَتْ الْمَرْأَةُ بِهِ لَا يُبَاحُ أَيْضًا
حُرَّةً كانت أو أَمَةً أَذِنَ له ( ( ( لها ) ) ) مَوْلَاهَا لِأَنَّ الْفَرْجَ
لَا يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيُرَخَّصُ لها لِأَنَّ الذي
يُتَصَوَّرُ منها ليس إلَّا التَّمْكِينُ وَهِيَ مع ذلك مَدْفُوعَةٌ إلَيْهِ
وَهَذَا عِنْدِي فيه نَظَرٌ لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا كما يُتَصَوَّرُ من الرَّجُلِ
يُتَصَوَّرُ من الْمَرْأَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
____________________
(7/177)
سَمَّاهَا
زَانِيَةً إلَّا أَنَّ زِنَا الرَّجُلِ بِالْإِيلَاجِ وَزِنَاهَا بِالتَّمْكِينِ
وَالتَّمْكِينُ فِعْلٌ منها لَكِنَّهُ فِعْلُ سُكُوتٍ فَاحْتَمَلَ الْوَصْفَ
بِالْحَظْرِ وَالْحُرْمَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فيه حُكْمُ الرَّجُلِ
وَالْمَرْأَةِ فَلَا يُرَخَّصُ لِلْمَرْأَةِ كما لَا يُرَخَّصُ لِلرَّجُلِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْحُكْمُ الذي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا في الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ
أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَالْمُكْرَهُ على الشُّرْبِ لَا يَجِبُ عليه
الْحَدُّ إذَا كان الْإِكْرَاهُ تَامًّا لِأَنَّ الْحَدَّ شُرِعَ زَاجِرًا عن
الْجِنَايَةِ في الْمُسْتَقْبَلِ وَالشُّرْبُ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ جِنَايَةً
بِالْإِكْرَاهِ وَصَارَ مُبَاحًا بَلْ وَاجِبًا عليه على ما مَرَّ وإذا كان
نَاقِصًا يَجِبُ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لم يُوجِبْ تَغَيُّرَ الْفِعْلِ
عَمَّا كان عليه قبل الْإِكْرَاهِ بِوَجْهٍ ما فَلَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ حُكْمِهِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَالْمُكْرَهُ على الْكُفْرِ لَا يُحْكَمُ
بِكُفْرِهِ إذَا كان قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ
على الْإِيمَانِ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِيمَانِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا من
وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّ الْإِيمَانَ في الْحَقِيقَةِ تَصْدِيقٌ وَالْكُفْرَ
في الْحَقِيقَةِ تَكْذِيبٌ وَكُلُّ ذلك عَمَلُ الْقَلْبِ
وَالْإِكْرَاهُ لايعمل على الْقَلْبِ فَإِنْ كان مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ كان
مُؤْمِنًا لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَإِنْ كان مُكَذِّبًا بِقَلْبِهِ كان
كَافِرًا لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْكُفْرِ إلَّا أَنَّ عِبَارَةَ اللِّسَانِ جعل ( (
( جعلت ) ) ) دَلِيلًا على التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ ظَاهِرًا حَالَةَ
الطَّوْعِ وقد بَطَلَتْ هذه الدَّلَالَةُ بِالْإِكْرَاهِ فَبَقِيَ الْإِيمَانُ منه
وَالْكُفْرُ مُحْتَمَلًا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْكَمَ بِالْإِسْلَامِ
حَالَةَ الْإِكْرَاهِ مع الِاحْتِمَالِ كما لم يُحْكَمْ بِالْكُفْرِ فيها
بِالِاحْتِمَالِ إلَّا أَنَّهُ حُكِمَ بِذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّا
إنَّمَا قَبِلْنَا ظَاهِرَ إيمَانِهِ مع الْإِكْرَاهِ لِيُخَالِطَ الْمُسْلِمِينَ
فَيَرَى مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ فيؤول ( ( ( فيئول ) ) ) أَمْرُهُ إلَى
الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كنا لَا نَعْلَمُ بِإِيمَانِهِ لَا قَطْعًا وَلَا غَالِبًا
وَهَذَا جائر ( ( ( جائز ) ) )
أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تبارك ( ( ( تباك ) ) ) وَتَعَالَى أَمَرَنَا في
النِّسَاءِ الْمُهَاجِرَاتِ بِامْتِحَانِهِنَّ بَعْدَ وُجُودِ ظَاهِرِ الْكَلِمَةِ
مِنْهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ
الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } لِيَظْهَرَ لنا إيمَانُهُنَّ
بِالدَّلِيلِ الْغَالِبِ لِقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ
مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ } كَذَا هَهُنَا
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ في الْإِكْرَاهِ على الْكُفْرِ
وَالثَّانِي أَنَّ اعْتِبَارَ الدَّلِيلِ الْمُحْتَمَلِ في بَابِ الْإِسْلَامِ
يَرْجِعُ إلَى إعْلَاءِ الدِّينِ الْحَقِّ وإن اعْتِبَارَ الْغَالِبِ يَرْجِعُ
إلَى ضِدِّهِ وَإِعْلَاءُ الدِّينِ الْحَقِّ وَاجِبٌ
قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى
فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْمُحْتَمَلِ دُونَ الْغَالِبِ إعلاءا ( ( ( إعلاء ) ) )
لِدِينِ الْحَقِّ وَذَلِكَ في الْحُكْمِ بِإِيمَانِ الْمُكْرَهِ على الْإِيمَانِ
وَالْحُكْمِ بِعَدَمِ كُفْرِ الْمُكْرَهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ ثُمَّ رَجَعَ يُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ
وَلَا يُقْتَلُ بَلْ يُحْبَسُ وَلَكِنْ لَا يُقْتَلُ وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْتَلَ
لِوُجُودِ الرِّدَّةِ منه وَهِيَ الرُّجُوعُ 2 عن الْإِسْلَامِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّا إنَّمَا قَبِلْنَا كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ منه
ظَاهِرًا طَمَعًا لِلْحَقِيقَةِ لِيُخَالِطَ الْمُسْلِمِينَ فَيَرَى مَحَاسِنَ
الْإِسْلَامِ فَيَنْجَعَ التَّصْدِيقُ في قَلْبِهِ على ما مَرَّ فإذا رَجَعَ
تُبُيِّنَ أَنَّهُ لَا مَطْمَعَ لِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ فيه وَأَنَّهُ على
اعْتِقَادِهِ الْأَوَّلِ فلم يَكُنْ هذا رُجُوعًا عن الْإِسْلَامِ بَلْ إظْهَارًا
لِمَا كان في قَلْبِهِ من التَّكْذِيبِ فَلَا يُقْتَلُ
وَكَذَلِكَ الكافرإذا أَسْلَمَ وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ حتى حُكِمَ
بِإِسْلَامِهِمْ تَبَعًا لِأَبِيهِمْ فَبَلَغُوا كُفَّارًا يُجْبَرُونَ على
الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُونَ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منهم الْإِسْلَامُ حَقِيقَةً
فلم يَتَحَقَّقْ الرُّجُوعُ عنه وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أُكْرِهَ على أَنْ يُقِرَّ أَنَّهُ أَسْلَمَ أَمْسِ فَأَقَرَّ لايحكم
بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ لِمَا نَذْكُرُ
في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وإذا لم يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ بِإِجْرَاءِ الْكَلِمَةِ لَا تَثْبُتُ أَحْكَامُ
الْكُفْرِ حتى لَا تَبِينَ منه امْرَأَتُهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ تَثْبُتَ
الْبَيْنُونَةُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْفُرْقَةِ وهو الْكَلِمَةُ أو هِيَ من
أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ بِمَنْزِلَةِ كَلِمَةِ الطَّلَاقِ ثُمَّ حُكْمُ تِلْكَ لَا
يَخْتَلِفُ بِالطَّوْعِ وَالْكَرْهِ فَكَذَا حُكْمُ هذه
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ الرِّدَّةُ دُونَ نَفْسِ
الْكَلِمَةِ وَإِنَّمَا الْكَلِمَةُ دَلَالَةٌ عليها حَالَةَ الطَّوْعِ ولم يَبْقَ
دَلِيلًا حَالَةَ الْإِكْرَاهِ فلم تَثْبُتْ الرِّدَّةُ فَلَا تَثْبُتُ
الْبَيْنُونَةُ وَلَوْ قال الْمُكْرَهُ خَطَرَ بِبَالِي في قَوْلِي كَفَرْت
بِاَللَّهِ أَنْ أُخْبِرَ عن الْمَاضِي كَاذِبًا ولم أَكُنْ فَعَلْت لَا يُصَدَّقُ
في الْحُكْمِ وَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ لِأَنَّهُ دُعِيَ إلَى إنْشَاءِ الْكُفْرِ
وقدأخبر أَنَّهُ أتى بِالْإِخْبَارِ وهو غَيْرُ مُكْرَهٍ على الْإِخْبَارِ بَلْ هو
طَائِعٌ فيه وَلَوْ قال طَائِعًا كَفَرْت باللهثم قال عَنَيْت بِهِ الْإِخْبَارَ
عن الْمَاضِي كَاذِبًا ولم أَكُنْ فَعَلْت لَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ
كَذَا هذا وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ
يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَإِنْ كان خِلَافَ الظَّاهِرِ
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْإِخْبَارِ فِيمَا مَضَى ثُمَّ قال ما أَرَدْت بِهِ
الْخَبَرَ عن الْمَاضِي فَهُوَ كَافِرٌ في الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لم يُجِبْهُ إلَى ما دَعَاهُ إلَيْهِ بَلْ أَخْبَرَ
أَنَّهُ أَنْشَأَ الْكُفْرَ طَوْعًا
وَلَوْ قال لم
____________________
(7/178)
يَخْطِرْ
بِبَالِي شَيْءٌ آخَرُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ لِأَنَّهُ إذَا لم يُرِدْ شيئا
يُحْمَلُ على الْإِجَابَةِ إلَى ظَاهِرِ الْكَلِمَةِ مع اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ
بِالْإِيمَانِ فَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ
وَكَذَلِكَ لو أُكْرِهَ على الصَّلَاةِ لِلصَّلِيبِ فَقَامَ يُصَلِّي فَخَطَرَ
بِبَالِهِ أَنْ يُصَلِّيَ لِلَّهِ تَعَالَى وهو مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ أو
غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ الْقِبْلَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ بِالصَّلَاةِ أَنْ
تَكُونَ لِلَّهِ عز وجل فإذا قال نَوَيْت بِهِ ذلك لم يُصَدَّقْ في الْقَضَاءِ
وَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ لِأَنَّهُ أتى بِغَيْرِ ما دُعِيَ إلَيْهِ فَكَانَ طَائِعًا
وَالطَّائِعُ إذَا فَعَلَ ذلك وقال نَوَيْت بِهِ ذلك لَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ
كَذَا هذا وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز شَأْنُهُ لِأَنَّهُ
نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ فِعْلُهُ وَلَوْ صلى لِلصَّلِيبِ ولم يُصَلِّ لِلَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقد خَطَرَ بِبَالِهِ ذلك فَهُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ في
الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ صلى
لِلصَّلِيبِ طَائِعًا مع إمْكَانِ الصَّلَاةِ لِلَّهِ تَعَالَى
وَإِنْ كان مُسْتَقْبِلَ الصَّلِيبِ فَإِنْ لم يَخْطِرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ وَصَلَّى
لِلصَّلِيبِ ظَاهِرًا وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَا يُحْكَمُ
بِكُفْرِهِ وَيُحْمَلُ على الْإِجَابَةِ إلَى ظَاهِرِ ما دعى إلَيْهِ مع سُكُونِ
قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ
وَكَذَلِكَ لو أُكْرِهَ على سَبِّ النبي فَخَطَرَ بِبَالِهِ رَجُلٌ آخَرُ اسْمُهُ
مُحَمَّدٌ فَسَبَّهُ وَأَقَرَّ بِذَلِكَ لَا يُصَدَّقُ في الْحُكْمِ وَيُحْكَمُ
بِكُفْرِهِ لِأَنَّهُ إذَا خَطَرَ بِبَالِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَهَذَا طَائِعٌ في
سَبِّ النبي مُحَمَّدٍ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثُمَّ قال عَنَيْت بِهِ
غَيْرَهُ فَلَا يُصَدَّقُ في الْحُكْمِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يحتمله ( ( ( يحتمل ) ) ) كَلَامُهُ وَلَوْ لم
يَقْصِدْ بِالسَّبِّ رَجُلًا آخَرَ فَسَبَّ النبي فَهُوَ كَافِرٌ في الْقَضَاءِ
وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ
وَلَوْ لم يَخْطِرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ وَيُحْمَلُ على
جِهَةِ الْإِكْرَاهِ على ما مَرَّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْإِكْرَاهُ على الْكُفْرِ تَامًّا فَأَمَّا إذَا كان نَاقِصًا
يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ لِأَنَّهُ ليس بِمُكْرَهٍ في الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ ما
فَعَلَهُ لِلضَّرُورَةِ بَلْ لِدَفْعِ الْغَمِّ عن نَفْسِهِ وَلَوْ قال كان
قَلْبِي مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ لَا يُصَدَّقُ في الْحُكْمِ لِأَنَّهُ خِلَافُ
الظَّاهِرِ كَالطَّائِعِ إذَا أَجْرَى الْكَلِمَةَ ثُمَّ قال كان قَلْبِي
مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى
وَأَمَّا الْمُكْرَهُ على إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ إذَا أَتْلَفَهُ يَجِبُ
الضَّمَانُ على الْمُكْرِهِ دُونَ الْمُكْرَهِ إذَا كان الْإِكْرَاهُ تَامًّا
لِأَنَّ الْمُتْلِفَ هو الْمُكْرَهُ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَإِنَّمَا الْمُكْرَهُ
بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ على مَعْنَى أَنَّهُ مَسْلُوبُ الِاخْتِيَارِ إيثَارًا
وَارْتِضَاءً
وَهَذَا النَّوْعُ من الْفِعْلِ مِمَّا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ غَيْرِهِ
بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُكْرَهَ فيصر ( ( ( فيضربه ) ) ) به على الْمَالِ فَأَمْكَنَ
جَعْلُهُ آلَةَ الْمُكْرِهِ فَكَانَ التَّلَفُ حَاصِلًا بِإِكْرَاهِهِ فَكَانَ
الضَّمَانُ عليه وَإِنْ كان الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا فَالضَّمَانُ على الْمُكْرَهِ
لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَا يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ آلَةَ الْمُكْرِهِ
لِأَنَّهُ لَا يُسْلَبُ الِاخْتِيَارُ أَصْلًا فَكَانَ الْإِتْلَافُ من
الْمُكْرَهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عليه وَكَذَلِكَ لو أُكْرِهَ على أَنْ يَأْكُلَ
مَالَ غَيْرِهِ فَالضَّمَانُ عليه لِأَنَّ هذا النَّوْعَ من الْفِعْلِ وهو
الْأَكْلُ مِمَّا لَا يَعْمَلُ عليه الْإِكْرَاهُ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ
تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ غَيْرِهِ فَكَانَ طَائِعًا فيه فَكَانَ الضَّمَانُ عليه
وَلَوْ أُكْرِهَ على أَنْ يَأْكُلَ طَعَامَ نَفْسِهِ فَأَكَلَ أو على أَنْ
يَلْبَسَ ثَوْبَ نَفْسِهِ فَلَبِسَ حتى تَخَرَّقَ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ على
الْمُكْرِهِ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ على أَكْلِ مَالِ غير ( ( ( غيره ) ) ) لَمَّا
لم يُوجِبْ الضَّمَانَ على الْمُكْرِهِ فَعَلَى مَالِ نَفْسِهِ أَوْلَى مع ما
أَنَّ أَكْلَ مَالِ نَفْسِهِ وليس ( ( ( ولبس ) ) ) ثَوْبِ نَفْسِهِ لبس ( ( ( ليس
) ) ) من بَابِ الْإِتْلَافِ بَلْ هو صَرْفُ مَالِ نَفْسِهِ إلَى مَصْلَحَةِ
بَقَائِهِ وَمَنْ صَرَفَ مَالَ نَفْسِهِ إلَى مَصْلَحَتِهِ لَا ضَمَانَ له على
أَحَدٍ
وَلَوْ أَذِنَ صَاحِبُ الْمَالِ الْمُكْرَهُ بِإِتْلَافِ مَالِهِ من غَيْرِ
إكْرَاهٍ فَأَتْلَفَهُ لَا ضَمَانَ على أَحَدٍ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْإِتْلَافِ
يَعْمَلُ في الْأَمْوَالِ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مِمَّا تُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ
وَإِتْلَافُ مَالٍ مَأْذُونٍ فيه لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ فَأَمَّا الْمُكْرَهُ على الْقَتْلِ فَإِنْ كان
الْإِكْرَاهُ تَامًّا فَلَا قِصَاصَ عليه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رضي
اللَّهُ عنهما وَلَكِنْ يُعَزَّرُ وَيَجِبُ على الْمُكْرِهِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا
وَلَكِنْ تَجِبُ الدِّيَةُ على الْمُكْرِهِ
وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ على الْمُكْرَهِ دُونَ
الْمُكْرِهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقَتْلَ اسْمٌ لِفِعْلٍ
يُفْضِي إلَى زُهُوقِ الْحَيَاةِ عَادَةً وقد وُجِدَ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
إلَّا أَنَّهُ حَصَلَ من الْمُكْرَهِ مُبَاشَرَةً وَمِنْ الْمُكْرِهِ تَسْبِيبًا
فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا جميعا
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقَتْلَ وُجِدَ من الْمُكْرَهِ
حَقِيقَةً حِسًّا وَمُشَاهَدَةً وَإِنْكَارُ الْمَحْسُوسِ مُكَابَرَةٌ فَوَجَبَ
اعْتِبَارُهُ منه دُونَ الْمُكْرِهِ إذْ الْأَصْلُ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ لَا
يَجُوزُ الْعُدُولُ عنها إلَّا بِدَلِيلٍ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُكْرِهَ ليس بِقَاتِلٍ
حَقِيقَةً بَلْ هو مُسَبِّبٌ لِلْقَتْلِ
وَإِنَّمَا الْقَاتِلُ هو الْمُكْرَهُ حَقِيقَةً ثُمَّ لَمَّا لم يَجِبْ
الْقِصَاصُ عليه فَلَأَنْ لَا يَجِبَ على الْمُكْرَهِ أَوْلَى
____________________
(7/179)
وَجْهُ
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ ما رُوِيَ عن رسول
اللَّهِ أن قال عَفَوْتُ عن أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وما اُسْتُكْرِهُوا
عليه وَعَفْوُ الشَّيْءِ عَفْوٌ عن مُوجَبِهِ فَكَانَ مُوجَبُ الْمُسْتَكْرَهِ
عليه مَعْفُوًّا بِظَاهِرِ الحديث وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ هو الْمُكْرِهُ من حَيْثُ
الْمَعْنَى وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ من الْمُكْرَهِ صُورَةُ الْقَتْلِ فَأَشْبَهَ
الْآلَةَ إذْ الْقَتْلُ مِمَّا يُمْكِنُ اكْتِسَابُهُ بِآلَةِ الْغَيْرِ
كَإِتْلَافِ الْمَالِ ثُمَّ الْمُتْلِفُ هو الْمُكْرِهُ حتى كان الضَّمَانُ عليه
فَكَذَا الْقَاتِلُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أُكْرِهَ على قَطْعِ يَدِ نَفْسِهِ له أَنْ يَقْتَصَّ من
الْمُكْرِهِ وَلَوْ كان هو الْقَاطِعُ حَقِيقَةً لَمَا اقْتَصَّ وَلِأَنَّ مَعْنَى
الْحَيَاةِ أَمْرٌ لَا بُدَّ منه في بَابِ الْقِصَاصِ قال اللَّهُ تَعَالَى {
وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } وَمَعْنَى الْحَيَاةِ شَرْعًا وَاسْتِيفَاءً لَا
يَحْصُلُ بِشَرْعِ الْقِصَاصِ في حَقِّ الْمُكْرَهِ وَاسْتِيفَائِهِ منه على ما
مَرَّ في مَسَائِلِ الْخِلَافِ لِذَلِكَ وَجَبَ على الْمُكْرِهِ دُونَ الْمُكْرَهِ
وَإِنْ كان الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا وَجَبَ الْقِصَاصُ على الْمُكْرَهِ بِلَا
خِلَافٍ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ يَسْلُبُ الِاخْتِيَارَ أَصْلًا فَلَا
يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ
وَكَذَلِكَ لو كان الْمُكْرَهُ صَبِيًّا أو مَعْتُوهًا يَعْقِلُ ما أمره ( ( ( أمر
) ) ) بِهِ فَالْقِصَاصُ على الْمُكْرِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَا ذَكَرْنَا
وَلَوْ كان الصَّبِيُّ الْمُكْرَهُ يَعْقِلُ وهو مُطَاعٌ أو بَالِغٌ مُخْتَلَطُ
الْعَقْلِ وهو مُسَلَّطٌ لَا قِصَاصَ عليه وَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ لِأَنَّ
عَمْدَ الصَّبِيِّ خَطَأٌ
وَلَوْ قال الْمُكْرَهُ على قَتْلِهِ للمكره ( ( ( المكره ) ) ) اُقْتُلْنِي من
غَيْرِ إكْرَاهٍ فَقَتَلَهُ لَا قِصَاصَ عليه عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
لِأَنَّهُ لو قَتَلَهُ من غَيْرِ إذْنٍ لَا يَجِبُ عليه فَهَذَا أَوْلَى وَعِنْدَ
زُفَرَ يَجِبُ عليه الْقِصَاصُ
وَكَذَا لَا قِصَاصَ على الْمُكْرَهِ عِنْدَنَا
وفي وُجُوبِ الدِّيَةِ رِوَايَتَانِ وَمَوْضِعُ الْمَسْأَلَةِ كِتَابُ الدِّيَاتِ
وَمِنْ الْأَحْكَامِ التي تَتَعَلَّقُ بِالْإِكْرَاهِ على الْقَتْلِ أَنَّ
الْمُكْرَهَ على قَتْلِ مُوَرِّثِهِ لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَوْجُودَ من الْمُكْرَهِ صُورَةُ
الْقَتْلِ لَا حَقِيقَتُهُ بَلْ هو في مَعْنَى الْآلَةِ فَكَانَ الْقَتْلُ مُضَافًا
إلَى الْمُكْرَهِ وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ
وَلَا يوجوب ( ( ( وجوب ) ) ) الْكَفَّارَةِ فَلَا يُوجِبُ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُحْرَمُ
الْمِيرَاثَ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ وَأَمَّا الْمُكْرِهُ
فَيُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عليه وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَزُفَرَ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُحْرَمُ لِانْعِدَامِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عليه
وَالْكَفَّارَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْمُكْرِهُ بَالِغًا فَإِنْ كان صَبِيًّا وهو وَارِثُ الْمَقْتُولِ
لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لِأَنَّ من شَرْطِ كَوْنِ الْقَتْلِ جارما ( ( ( جازما )
) ) أَنْ يَكُونَ حَرَامًا وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ
وَلِهَذَا إذَا قَتَلَهُ بِيَدِ نَفْسِهِ لَا يُحْرَمُ فإذا قَتَلَهُ بِيَدِ
غَيْرِهِ أَوْلَى
وَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ على قَطْعِ يَدِ إنْسَانٍ إذَا قَطَعَ فَهُوَ على
الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في الْقَتْلِ غير أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ إذَا كان
أَذِنَ لِلْمُكْرَهِ بِقَطْعِ يَدِهِ من غَيْرِ إكْرَاهٍ فَقَطَعَ لَا ضَمَانَ على
أَحَدٍ
وفي بَابِ الْقَتْلِ إذَا أَذِنَ لمكره ( ( ( المكره ) ) ) على قَتْلِهِ المكره (
( ( للمكره ) ) ) بِالْقَتْلِ فَقَتَلَ فَهُوَ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ في وُجُوبِ
الدِّيَةِ على الْمُكْرَهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بها مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ في بَعْضِ
الْأَحْوَالِ وَالْإِذْنُ بِإِتْلَافِ الْمَالِ الْمَحْضِ مُبِيحٌ فالأذن
بِإِتْلَافِ مَالِهِ حُكْمُ الْمَالِ في الْجُمْلَةِ يُورِثُ شُبْهَةَ
الْإِبَاحَةِ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِخِلَافِ النَّفْسِ يَدُلُّ على
التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إذَا قال له لَتَقْطَعَنَّ يَدَك وَإِلَّا
لَأَقْتُلَنَّكَ كان في سِعَةٍ من ذلك وَلَا يَسَعُهُ ذلك في النَّفْسِ وَاَللَّهُ
عز وجل ( ( ( وتعالى ) ) ) أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْمُكْرَهُ على الزِّنَا فَقَدْ كان أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
يقول أَوَّلًا إذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ على الزِّنَا يَجِبُ عليه الْحَدُّ وهو
الْقِيَاسُ لِأَنَّ الزِّنَا من الرَّجُلِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِانْتِشَارِ
الْآلَةِ وَالْإِكْرَاهُ لَا يُؤَثِّرُ فيه فَكَانَ طَائِعًا في الزِّنَا فَكَانَ
عليه الْحَدُّ
ثُمَّ رَجَعَ وقال إذَا كان الْإِكْرَاهُ من السُّلْطَانِ لَا يَجِبُ بِنَاءً على
أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا من السُّلْطَانِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا
يَتَحَقَّقُ من السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ فإذا جاء من غَيْرِ السُّلْطَانِ ما
يَجِيءُ من السُّلْطَانِ لَا يَجِبُ
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ ما ذَكَرْنَا من قَبْلُ أَنَّ الْمُكْرَهَ
يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ إذَا كان الْإِكْرَاهُ من غَيْرِ السُّلْطَانِ وَلَا يَجِدُ
غَوْثًا إذَا كان الْإِكْرَاهُ منه
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِانْتِشَارِ الْآلَةِ
فَنَعَمْ لَكِنْ ليس كُلُّ من تَنْتَشِرُ آلَتُهُ يَفْعَلُ فَكَانَ فِعْلُهُ
بِنَاءً على إكْرَاهِهِ فَيَعْمَلُ فيه لِضَرُورَتِهِ مَدْفُوعًا إلَيْهِ خَوْفًا
من الْقَتْلِ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ وَلَكِنْ يَجِبُ الْعُقْرُ على
الْمُكْرَهِ لِأَنَّ الزِّنَا في دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو عن إحْدَى
الْغَرَامَتَيْنِ وَإِنَّمَا وجب ( ( ( يجب ) ) ) الْعُقْرُ على الْمُكْرَهِ دُونَ
الْمُكْرِهِ لِأَنَّ الزِّنَا مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ
____________________
(7/180)
بِآلَةِ
غَيْرِهِ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ ما لَا يُتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ
الْغَيْرِ فَضَمَانُهُ على الْمُكْرَهِ وما يُتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ
الْغَيْرِ فَضَمَانُهُ على الْمُكْرِهِ كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا أُكْرِهَتْ عل
الزِّنَا لَا حَدَّ عليها لِأَنَّهَا بِالْإِكْرَاهِ صَارَتْ مَحْمُولَةً على
التَّمْكِينِ خَوْفًا من مَضَرَّةِ السَّيْفِ فَيُمْنَعُ وُجُوبُ الْحَدِّ عليها
كما في جَانِبِ الرَّجُلِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَوْجُودَ منها ليس إلَّا
التَّمْكِينُ ثُمَّ الْإِكْرَاهُ لَمَّا أَثَّرَ في جَانِبِ الرَّجُلِ فَلَأَنْ
يُؤَثِّرَ في جَانِبِهَا أَوْلَى
هذا إذَا كان إكْرَاهُ الرَّجُلِ تَامًّا فَأَمَّا إذَا كان نَاقِصًا بِحَبْسٍ أو
قَيْدٍ أو ضَرْبٍ لَا يُخَافُ منه التَّلَفُ يَجِبُ عليه الْحَدُّ لِمَا مَرَّ
أَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَا يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ مَدْفُوعًا إلَى فِعْلِ
ما أُكْرِهَ فَبَقِيَ مُخْتَارًا مُطْلَقًا فَيُؤَاخَذُ بِحُكْمِ فِعْلِهِ
وَأَمَّا في حَقِّ الْمَرْأَةِ فَلَا فَرْقَ بين الْإِكْرَاهِ التَّامِّ
وَالنَّاقِصِ وَيُدْرَأُ الْحَدُّ عنها في نَوْعَيْ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّهُ لم
يُوجَدْ منها فِعْلُ الزِّنَا بَلْ الْمَوْجُودُ هو التَّمْكِينُ وقد خَرَجَ من
أَنْ يَكُونَ دَلِيلَ الرِّضَا بِالْإِكْرَاهِ فَيُدْرَأُ عنها الْحَدُّ
هذا الذي ذَكَرْنَا إذَا كان الْمُكْرَهُ عليه مُعَيَّنًا فَأَمَّا إذَا كان
مُخَيَّرًا فيه بِأَنْ أُكْرِهَ على أَحَدِ فِعْلَيْنِ من الْأَنْوَاعِ
الثَّلَاثَةِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ أَمَّا
الْحُكْمُ الذي يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ وهو ما ذَكَرْنَا من الْإِبَاحَةِ
وَالرُّخْصَةِ وَالْحُرْمَةِ الْمُطْلَقَةِ فَلَا يَخْتَلِفُ التَّخْيِيرُ بين
الْمُبَاحِ وَالْمُرَخَّصِ أَنَّهُ يَبْطُلُ حُكْمُ الرُّخْصَةِ أَعْنِي بِهِ
أَنَّ كُلَّ ما يُبَاحُ حَالَةَ التَّعْيِينِ يُبَاحُ حَالَةَ التَّخْيِيرِ وَكُلُّ
ما لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ حَالَةَ التَّعْيِينِ لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ
حَالَةَ التَّخْيِيرِ وَكُلُّ ما يُرَخَّصُ حَالَةَ التَّعْيِينِ يُرَخَّصُ
حَالَةَ التَّخْيِيرِ إلَّا إذَا كان التَّخْيِيرُ بين الْمُبَاحِ وَبَيْنَ
الْمُرَخَّصِ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا أُكْرِهَ على أَكْلِ مَيْتَةٍ أو قَتْلِ مُسْلِمٍ
يُبَاحُ له الْأَكْلُ وَلَا يُرَخَّصُ له الْقَتْلُ
وَكَذَا إذَا أُكْرِهَ على أَكْلِ مَيْتَةٍ أو أَكْلِ ما لايباح وَلَا يُرَخَّصُ
حَالَةَ التَّعْيِينِ من قَطْعِ الْيَدِ وَشَتْمِ الْمُسْلِمِ وَالزِّنَا
يُبَاحُ له الْأَكْلُ وَلَا يُبَاحُ شَيْءٌ من ذلك وَلَا يُرَخَّصُ كما في حَالَةِ
التَّعْيِينِ
وَلَوْ امْتَنَعَ من الْأَكْلِ حتى قُتِلَ يَأْثَمُ كما في حَالَةِ التَّعْيِينِ
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْقَتْلِ وَالزِّنَا لَا يُرَخَّصُ له أَنْ يَفْعَلَ
أَحَدَهُمَا
وَلَوْ امْتَنَعَ عنهما لَا يَأْثَمُ إذَا قُتِلَ بَلْ يُثَابُ كما في حَالَةِ
التَّعْيِينِ
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْقَتْلِ أو الْإِتْلَافِ لِمَالِ إنْسَانٍ رُخِّصَ له
الْإِتْلَافُ وَلَوْ لم يَفْعَلْ أَحَدَهُمَا حتى قُتِلَ لَا يَأْثَمُ بَلْ يُثَابُ
كما في حَالَةِ التَّعْيِينِ
وَكَذَا إذَا أُكْرِهَ على قَتْلِ إنْسَانٍ وَإِتْلَافِ مَالِ نَفْسِهِ يُرَخَّصُ
له الْإِتْلَافُ دُونَ الْقَتْلِ كما في حَالَةِ التَّعْيِينِ
وَلَوْ امْتَنَعَ عنهما حتى قُتِلَ لَا يَأْثَمُ
وَكَذَا لو أُكْرِهَ على الْقَتْلِ أو الْكُفْرِ يُرَخَّصُ له أَنْ يُجْرِيَ
كَلِمَةَ الْكُفْرِ إذَا كان قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ وَلَا يُرَخَّصُ
له الْقَتْلُ
وَلَوْ امْتَنَعَ حتى قُتِلَ فَهُوَ مَأْجُورٌ كما في حَالَةِ التَّعْيِينِ
فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ على أَكْلِ مَيْتَةٍ أو الْكُفْرِ
لم يُذْكَرْ هذا الْفَصْلُ في الْكِتَابِ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُرَخَّصَ له
كَلِمَةُ الْكُفْرِ أَصْلًا كما لَا يُرَخَّصُ له الْقَتْلُ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ
في إجْرَاءِ الْكَلِمَةِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَيُمْكِنُهُ دَفْعُ الضَّرُورَةِ
بِالْمُبَاحِ الْمُطْلَقِ وهو الْأَكْلُ فَكَانَ إجْرَاءُ الْكَلِمَةِ حَاصِلًا
بِاخْتِيَارِهِ مُطْلَقًا فَلَا يُرَخَّصُ له وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْحُكْمُ الذي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا فَقَدْ يَخْتَلِفُ
بِالتَّخْيِيرِ حتى إنه لو أُكْرِهَ على أَكْلِ الْمَيْتَةِ أو قَتْلِ الْمُسْلِمِ
فلم يَأْكُلْ وَقَتَلَ يَجِبُ الْقِصَاصُ على الْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ
دَفْعَ الضَّرُورَةِ بِتَنَاوُلِ الْمُبَاحِ فَكَانَ الْقَتْلُ حَاصِلًا
بِاخْتِيَارِهِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيُؤَاخَذُ بِالْقِصَاصِ
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْقَتْلِ أو الْكُفْرِ فلم يَأْتِ بِالْكَلِمَةِ وَقَتَلَ
فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ على الْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ في
الْقَتْلِ حَيْثُ آثَرَ الْحَرَامَ الْمُطْلَقَ على الْمُرَخَّصِ فيه وفي
الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عليه وَلَكِنْ تَجِبُ الدِّيَةُ في مَالِهِ
إنْ لم يَكُنْ عَالِمًا أَنَّ لَفْظَ الْكُفْرِ مُرَخَّصٌ له منهم من اسْتَدَلَّ
بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ على أَنَّهُ لو كان عَالِمًا وَمَعَ ذلك تَرَكَهُ وَقَتَلَ
يَجِبُ الْقِصَاصُ على الْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا مَخْرَجَ الشَّرْطِ
وَمِنْهُمْ من قال لَا يَجِبُ عَلِمَ أو لم يَعْلَمْ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ما ذُكِرَ في الْكِتَابِ أَنَّ أَمْرَ هذا الرَّجُلِ
مَحْمُولٌ على أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ على اللِّسَانِ
أَعْظَمُ حُرْمَةً من الْقَتْلِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةَ الرُّخْصَةِ في الْقَتْلِ
وَالْقِصَاصُ لَا يَجِبُ مع الشُّبُهَاتِ حتى لو كان عَالِمًا يَجِبُ الْقِصَاصُ
عِنْدَ بَعْضِهِمْ لِانْعِدَامِ الظَّنِّ الْمُورِثِ لِلشُّبْهَةِ وَعِنْدَ
بَعْضِهِمْ لَا يَجِبُ لِأَنَّهُ وَإِنْ عَلِمَ بِالرُّخْصَةِ فَقَدْ اسْتَعْظَمَ
حَرْفَ الْكُفْرِ بِالِامْتِنَاعِ عنه فَجُعِلَ اسْتِعْظَامُهُ شُبْهَةً دَارِئَةً
لِلْقِصَاصِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَإِنَّمَا وجبت ( ( (
وجب ) ) ) الدِّيَةُ في مَالِهِ لَا على الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ عَمْدٌ وقال عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا يَرْجِعُ على
الْمُكْرَهِ لِأَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ
عليه
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْقَتْلِ أو الزِّنَا فَزَنَا
الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ عليه الْحَدُّ وفي الِاسْتِحْسَانِ يُدْرَأُ عنه لِمَا مَرَّ
وَلَوْ قَتَلَ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ على الْمُكْرَهِ وَلَكِنَّهُ يُؤَدَّبُ
بِالْحَبْسِ وَالتَّعْزِيرِ وَيُقْتَصُّ من الْمُكْرِهِ كما في حَالَةِ
التَّعْيِينِ على ما مَرَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
هذا كُلُّهُ إذَا كان الْإِكْرَاهُ على الْأَفْعَالِ
____________________
(7/181)
الْحِسِّيَّةِ
فَأَمَّا إذَا كان على التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ
التَّوْفِيقُ التَّصَرُّفَاتُ الشَّرْعِيَّةُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ 2 إنْشَاءٌ
وَإِقْرَارٌ
وَالْإِنْشَاءُ نَوْعَانِ نَوْعٌ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَنَوْعٌ يَحْتَمِلُهُ
أَمَّا الذي لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالرَّجْعَةُ
وَالنِّكَاحُ وَالْيَمِينُ وَالنَّذْرُ والظاهر ( ( ( والظهار ) ) ) وَالْإِيلَاءُ
وَالْفَيْءُ في الْإِيلَاءِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْعَفْوِ عن الْقِصَاصِ
وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ جَائِزَةٌ مع الْإِكْرَاهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَجُوزُ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال عَفَوْت عن أُمَّتِي
الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وما اُسْتُكْرِهُوا عليه فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ
كل ما اُسْتُكْرِهَ عليه عَفْوًا وَلِأَنَّ الْقَصْدَ إلَى ما وُضِعَ له
التَّصَرُّفُ شَرْطُ جَوَازِهِ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُ الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ وَهَذَا الشَّرْطُ يَفُوتُ بِالْإِكْرَاهِ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَا
يَقْصِدُ بِالتَّصَرُّفِ ما وُضِعَ له وَإِنَّمَا يَقْصِدُ دَفْعَ مَضَرَّةِ
السَّيْفِ عن نَفْسِهِ
وَلَنَا أَنَّ عُمُومَاتِ النُّصُوصِ وَإِطْلَاقَهَا يَقْتَضِي شَرْعِيَّةَ هذه
التَّصَرُّفَاتِ من غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَتَقْيِيدٍ
أَمَّا الطَّلَاقُ فَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ } وَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ
إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ وَلِأَنَّ الْفَائِتَ بِالْإِكْرَاهِ ليس
إلَّا الرِّضَا طَبْعًا وَأَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فإن طَلَاقَ
الْهَازِلِ وَاقِعٌ وَلَيْسَ بِرَاضٍ بِهِ طَبْعًا
وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ قد يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ الْفَائِقَةَ حُسْنًا وَجَمَالًا
الرَّائِقَةَ تَغَنُّجًا وَدَلَالًا لِخَلَلٍ في دِينِهَا وَإِنْ كان لَا يَرْضَى
بِهِ طَبْعًا وَيَقَعُ الطَّلَاقُ عليها
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ منه الْإِكْرَاهُ على الْكُفْرِ
لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا حَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ وكان الْإِكْرَاهُ
على الْكُفْرِ ظَاهِرًا يَوْمَئِذٍ وكان يَجْرِي على أَلْسِنَتِهِمْ كَلِمَاتُ
الْكُفْرِ خَطَأً وَسَهْوًا فَعَفَا اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ عن ذلك عن هذه
الْأُمَّةِ على لِسَانِ رسول اللَّهِ مع ما أَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِ الحديث إن
كُلَّ مُسْتَكْرَهٍ عليه مَعْفُوٌّ عن هذه الْأُمَّةِ لَكِنَّا لَا نُسَلِّمُ
أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَكُلَّ تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ مُسْتَكْرَهٌ عليه
وَهَذَا لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَعْمَلُ على الْأَقْوَالِ كما يَعْمَلُ على
الِاعْتِقَادَاتِ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ على اسْتِعْمَالِ لِسَانِ غَيْرِهِ
بِالْكَلَامِ على تَغْيِيرِ ما يَعْتَقِدُهُ بِقَلْبِهِ جَبْرًا فَكَانَ كُلُّ
مُتَكَلِّمٍ مُخْتَارًا فِيمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ فَلَا يَكُونُ مُسْتَكْرَهًا عليه
حَقِيقَةً فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْحَدِيثُ
وَقَوْلُهُ الْقَصْدُ إلَى ما وُضِعَ له التَّصَرُّفُ بِشَرْطِ اعْتِبَارِ
التَّصَرُّفِ
قُلْنَا هذا بَاطِلٌ بِطَلَاقِ الْهَازِلِ ثُمَّ إنْ كان شَرْطًا فَهُوَ مَوْجُودٌ
هَهُنَا لِأَنَّهُ قَاصِدٌ دَفْعَ الْهَلَاكِ عن نَفْسِهِ وَلَا يَنْدَفِعُ عنه
إلَّا بِالْقَصْدِ إلَى ما وُضِعَ له فَكَانَ قَاصِدًا إلَيْهِ ضَرُورَةً ثُمَّ
لَا يَخْلُو إمَّا إن أُكْرِهَ على تَنْجِيزِ الطَّلَاقِ أو على تَعْلِيقِهِ
بِشَرْطٍ أو على تَحْصِيلِ الشَّرْطِ الذي عُلِّقَ بِهِ قوع ( ( ( وقوع ) ) )
الطَّلَاقِ وَحُكْمُ الْجَوَازِ لَا يَخْتَلِفُ في نَوْعَيْ التَّنْجِيزِ
وَالتَّعْلِيقِ وَحُكْمُ الضَّمَانِ يَتَّفِقُ مَرَّةً وَيَخْتَلِفُ أُخْرَى
وَسَنَذْكُرُ تَفْصِيلَ هذه الْجُمْلَةِ في فَصْلِ الْإِكْرَاهِ على الْإِعْتَاقِ
وَإِنَّمَا نَذْكُرُ ههنا حُكْمَ جَوَازِ التَّطْلِيقِ الْمُنَجَّزِ فَنَقُولُ
إذَا جَازَ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ فَإِنْ كان قبل الدُّخُولِ بها يَجِبُ عليه نِصْفُ
الْمَفْرُوضِ إنْ كان الْمَهْرُ مَفْرُوضًا وَالْمُتْعَةُ إذَا لم يَكُنْ
مَفْرُوضًا لِأَنَّ هذا حُكْمُ الطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ وَيَرْجِعُ بِهِ على
الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ هو الذي دَفَعَهُ إلَى مُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ وهو الطَّلَاقُ
فَكَانَ قَرَارُ الضَّمَانِ عليه
وإذا كان بَعْدَ الدُّخُولِ بها يَجْبُ عليه كَمَالُ الْمَهْرِ وَلَا سَبِيلَ له
على الْمُكْرِهِ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَتَأَكَّدُ بِاسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةِ
الْبُضْعِ على وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وهو الذي اسْتَوْفَى الْمُبْدَلَ
بِاخْتِيَارِهِ فَعَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ إذَا كان الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا لَا سَبِيلَ على الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ
لَا يُخِلُّ بِاخْتِيَارِ الْمُكْرَهِ أَصْلًا على ما مَرَّ
هذا إذَا كان الْإِكْرَاهُ على الطَّلَاقِ فَأَمَّا إذَا كان الْإِكْرَاهُ على
التَّوْكِيلِ بِالطَّلَاقِ فَفَعَلَهُ الْوَكِيلُ فَحُكْمُهُ يُذْكَرُ في فَصْلِ
الْإِكْرَاهِ على الْإِعْتَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا الْعَتَاقُ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى النبي وقال عَلِّمْنِي
عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فقال أعتق النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ
فقال أو ليسا وَاحِدًا فقال لَا
عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَفَرَّدَ بِعِتْقِهَا وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ
في عِتْقِهَا وَغَيْرُهُ من الْأَحَادِيثِ التي فيها النَّدْبُ إلَى الْإِعْتَاقِ
من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْمُكْرَهِ وَالطَّائِعِ وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ تَصَرُّفٌ
قَوْلِيٌّ فَلَا يُؤَثِّرُ فيه الْإِكْرَاهُ كَالطَّلَاقِ ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا
أَنْ كان على تَنْجِيزِ الْعِتْقِ أو على تعليقه بِشَرْطٍ أو على شَرْطِ الْعِتْقِ
الْمُعَلَّقِ بِهِ
أَمَّا إذَا كان الْإِكْرَاهُ على تَنْجِيزِ الْعِتْقِ فَأَعْتَقَ يَضْمَنُ
الْمُكْرِهُ قِيمَةَ الْعَبْدِ مُوسِرًا كان أو مُعْسِرًا وَلَا يَرْجِعُ
الْمُكْرَهُ على الْعَبْدِ بِالضَّمَانِ وَلَا سِعَايَةَ على الْعَبْدِ
وَالْوَلَاءُ لِمَوْلَاهُ
أَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ على الْمُكْرِهِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ آدَمِيٌّ هو مَالٌ
وَالْإِعْتَاقُ إتْلَافُ الْمَالِيَّةِ وَالْأَمْوَالُ مَضْمُونَةٌ على
الْمُكْرِهِ بِالْإِتْلَافِ فَكَانَ الضَّمَانُ على الْمُكْرِهِ كما في سَائِرِ
الْأَمْوَالِ وَيَسْتَوِي فيه يَسَارُهُ وَإِعْسَارُهُ
____________________
(7/182)
لِأَنَّ
ضَمَانَ الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَلَا يَرْجِعُ
على الْعَبْدِ بِالضَّمَانِ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ منه بِاخْتِيَارِهِ
فَلَا مَعْنَى لِلرُّجُوعِ إلَى غَيْرِهِ وَالْوَلَاءُ لَلْمُكْرِهِ لِأَنَّ
الْإِعْتَاقَ من حَيْثُ هو كَلَامٌ مُضَافٌ إلَى الْمُكْرِهِ لِاسْتِحَالَةِ وُرُودِ
الْإِكْرَاهِ على الْأَقْوَالِ فَكَانَ الْوَلَاءُ له وَلَا سِعَايَةَ على
الْعَبْدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يُسْتَسْعَى إمَّا لِتَخْرِيجِهِ إلَى
الْعِتْقِ تَكْمِيلًا له واما لِتَعْلِيقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ وقد عَتَقَ
كُلُّهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّكْمِيلِ وَكَذَا لَا حَقَّ لِأَحَدٍ تَعَلَّقَ
بِهِ فَلَا سِعَايَةَ عليه وَلَوْ أُكْرِهَ على شِرَاءِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه
عَتَقَ عليه لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ بِالنَّصِّ وَالْإِكْرَاهُ لَا
يَمْنَعُ جَوَازَ الْإِعْتَاقِ لَكِنْ لَا يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ هَهُنَا بِقِيمَةِ
الْعَبْدِ على الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ له عِوَضٌ وهو صِلَةُ الرَّحِمِ
وَلَوْ كان الْعَبْدُ مُشْتَرَكًا بين اثْنَيْنِ فَأُكْرِهَ أَحَدُهُمَا على
إعْتَاقِهِ فَأَعْتَقَهُ جَازَ عِتْقُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا
يَمْنَعُ جَوَازَ الْإِعْتَاقِ لَكِنْ يُعْتَقُ نِصْفُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي
اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا يُعْتَقُ كُلُّهُ بِنَاءً على أَنَّ الْإِعْتَاقَ
يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَلَا يَضْمَنُ الشَّرِيكُ
الْمُكْرَهُ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ نَصِيبَهُ وَلَكِنْ يَضْمَنُ الْمُكْرِهُ
نَصِيبَ الْمُكْرَهِ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ من حَيْثُ هو إتْلَافُ الْمَالِ مُضَافٌ
إلَى الْمُكْرِهِ فَكَانَ الْمُتْلِفُ من حَيْثُ الْمَعْنَى هو الْمُكْرِهُ
فَكَانَ الضَّمَانُ عليه سَوَاءٌ كان مُوسِرًا أو مُعْسِرًا وَهَذَا بِخِلَافِ
حَالَةِ الِاخْتِيَارِ إذَا أَعْتَقَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَنَّهُ لايضمن
لِشَرِيكِهِ السَّاكِتِ إذَا كان الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا وَهَهُنَا يَضْمَنُ
مُوسِرًا كان أو مُعْسِرًا لِأَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ على الْمُكْرَهِ ضَمَانُ
إتْلَافٍ على ما مَرَّ وَالْأَصْلُ أَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ
بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَالْوَاجِبُ على أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ حَالَةَ
الِاخْتِيَارِ ليس بِضَمَانِ إتْلَافٍ لِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ منه في نَصِيبِ
شَرِيكِهِ
أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا
يَعْتِقُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ وَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَإِنْ عَتَقَ لَكِنْ لَا
بِإِعْتَاقِهِ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ تَصَرُّفٌ في مِلْكِ نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ
عَتَقَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ عِنْدَ تَصَرُّفِهِ لَا بِتَصَرُّفِهِ فَلَا يَكُونُ
مُضَافًا إلَيْهِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا في دَارِ نَفْسِهِ فَوَقَعَ فيها غَيْرُهُ
أو سَقَى أَرْضَ نَفْسِهِ فَفَسَدَتْ أَرْضُ غَيْرِهِ حتى لَا يَجِبَ عليه
الضَّمَانُ إلَّا أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ على أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ حَالَةَ
الِاخْتِيَارِ عُرِفَ شَرْعًا وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهِ على الْمُوسِرِ
فَيُقْتَصَرُ على مَوْرِدِ الشَّرْعِ وَشَرِيكُ الْمُكْرَهِ بِالْخِيَارِ إنْ
شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَهُ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَهُ وَإِنْ
شَاءَ اسْتَسْعَاهُ مُعْسِرًا كان الْمُكْرَهُ أو مُوسِرًا وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ
الْمُكْرِهَ إنْ كان مُوسِرًا فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُكْرِهِ فَالْوَلَاءُ
بين الْمُكْرِهِ وَالْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَيْهِ
بِاخْتِيَارِ طَرِيقِ الضَّمَانِ وَإِنْ اخْتَارَ الْإِعْتَاقَ أو السِّعَايَةَ
فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رضي
اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا إنْ كان الْمُكْرِهُ مُوسِرًا فَلِشَرِيكِ الْمُكْرَهِ
أَنْ يُضَمِّنَهُ لَا غَيْرُ وَإِنْ كان مُعْسِرًا فَلَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ
الْعَبْدَ لَا غَيْرُ كما في حَالَةِ الِاخْتِيَارِ
وَمَوْضِعُ الْمَسْأَلَةِ في كِتَابِ الْعَتَاقِ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا بَعْضَ ما
يَخْتَصُّ بِالْإِكْرَاهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا التَّدْبِيرُ فَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَحْرِيرٌ قال النبي الْمُدَبَّرُ
لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وهو حُرٌّ من الثُّلُثِ إلَّا أَنَّهُ لِلْحَالِ
تَحْرِيرٌ من وَجْهٍ وَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ نَفَاذَ التَّحْرِيرِ من كل
وَجْهٍ فَلَا يَمْنَعُ نَفَاذَ التَّحْرِيرِ من وَجْهٍ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى
وَيَرْجِعُ الْمُكْرَهُ على الْمُكْرِهِ لِلْحَالِ بِمَا نَقَصَهُ التَّدْبِيرُ
وَبَعْدَ مَوْتِهِ يَرْجِعُ وَرَثَتُهُ على الْمُكْرِهِ بِبَقِيَّةِ قِيمَتِهِ
لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لِلْحَالِ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ من وَجْهٍ وَإِنَّمَا
تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ من كل وَجْهٍ في آخِرِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَكَانَ
الْإِكْرَاهُ على التَّدْبِيرِ إتْلَافًا لِمَالِ الْمُكْرِهِ لِلْحَالِ من وَجْهٍ
فَيَضْمَنُ بِقَدْرِهِ من النُّقْصَانِ ثُمَّ يَتَكَامَلُ الْإِتْلَافُ في آخِرِ
جُزْءٍ من أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَيَتَكَامَلُ الضَّمَانُ عِنْدَ ذلك
وَذَلِكَ بَقِيَّةُ قِيمَتِهِ فإذا مَاتَ الْمُكْرَهُ صَارَ ذلك مِيرَاثًا
لِوَرَثَتِهِ فَكَانَ لهم أَنْ يَرْجِعُوا بِهِ على الْمُكْرِهِ وَاَللَّهُ
تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
هذا إذَا أُكْرِهَ على تَنْجِيزِ الْعِتْقِ فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ على تَعْلِيقِ
الْعِتْقِ بِشَرْطٍ
أَمَّا حُكْمُ الْجَوَازِ فَلَا يَخْتَلِفُ في النَّوْعَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ فَقَدْ يَخْتَلِفُ
بَيَانُ ذلك إذَا أُكْرِهَ على تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ فإنه
يُنْظَرُ فَإِنْ كان فِعْلًا لَا بُدَّ منه بِأَنْ كان مَفْرُوضًا عليه أو يَخَافُ
من تَرْكِهِ الْهَلَاكَ على نَفْسِهِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَفَعَلَهُ حتى
عَتَقَ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على الْمُكْرِهِ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ على تَعْلِيقِ
الْعِتْقِ بِفِعْلٍ لَا بُدَّ له منه إكْرَاهٌ على ذلك الْفِعْلِ فَكَانَ مُضَافًا
إلَى الْمُكْرِهِ
وَإِنْ كان فِعْلًا له منه بُدٌّ كَتَقَاضِي دَيْنِ الْغَرِيمِ أو تَنَاوُلِ
شَيْءٍ له منه بُدٌّ فَفَعَلَ حتى عَتَقَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على
الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ إذَا كان له منه بُدٌّ لَا يَكُونُ مُضْطَرًّا إلَى
تَحْصِيلِهِ إذْ لَا يَلْحَقُهُ بِتَرْكِهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ فَأَشْبَهَ
الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ فَلَا يَكُونُ الْإِكْرَاهُ على تَعْلِيقِ
____________________
(7/183)
الْعِتْقِ
به إكْرَاهًا عليه فَلَا يَكُونُ تَلَفُ الْمَالِ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ فَلَا
يَرْجِعُ عليه بِالضَّمَانِ
وَلَوْ أُكْرِهَ على أَنْ يَقُولَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا
أَسْتَقْبِلُهُ فَهُوَ حُرٌّ فقال ذلك ثُمَّ مَلَكَ مَمْلُوكًا حتى عَتَقَ عليه
فَإِنْ مَلَكَ بِشِرَاءٍ أو هِبَةٍ أو صَدَقَةٍ أو وَصِيَّةٍ لَا ضَمَانَ على
الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَكَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَيَقْطَعُ إضَافَةَ
إكْرَاهِ الْإِتْلَافِ إلَى الْمُكْرِهِ وَإِنْ مَلَكَ بِإِرْثٍ فَكَذَلِكَ في
الْقِيَاسِ
وفي الِاسْتِحْسَانِ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لِلْمُكْرَهِ في الْإِرْثِ
فَبَقِيَ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ
وَلَوْ أُكْرِهَ على أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ إنْ شِئْت فَأَنْتَ حُرٌّ فقال شِئْت
حتى عَتَقَ ضَمِنَ الْمُكْرِهُ لِأَنَّ مَشِيئَةَ المكره ( ( ( العبد ) ) )
الْعِتْقَ تُوجَدُ غَالِبًا فَأَشْبَهَ التَّعْلِيقُ بِفِعْلٍ لَا بُدَّ منه
فَكَانَ الْإِكْرَاهُ على الْإِعْتَاقِ إكْرَاهًا عليه
هذا إذَا أُكْرِهَ على تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ
على تَحْصِيلِ الشَّرْطِ الذي عُلِّقَ بِهِ الْعِتْقُ عن طَوْعٍ بِأَنْ قال رَجُلٌ
لِعَبْدٍ إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ فَأُكْرِهَ على الشِّرَاءِ فَاشْتَرَاهُ
حتى عَتَقَ لَا يَرْجِعُ على الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْعِتْقَ لم يَثْبُتْ
بِالشَّرْطِ وهو الشِّرَاءُ وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ وهو
طَائِعٌ فيه
وَكَذَا إذَا قال لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَأُكْرِهَ على
الدُّخُولِ حتى عَتَقَ لَا ضَمَانَ على الْمُكْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ إنَّمَا
يَضْمَنُ الْمُكْرَهُ في جَمِيعِ ما وَصَفْنَا إذَا كان الْإِكْرَاهُ تَامًّا
فَأَمَّا إذَا كان نَاقِصًا فَلَا ضَمَانَ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ
النَّاقِصَ لَا يَقْطَعُ الْإِضَافَةَ عن الْمُكْرَهِ بِوَجْهٍ فَلَا يُوجِبُ
الضَّمَانَ على الْمُكْرِهِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
هذا الذي ذَكَرْنَا إذَا أُكْرِهَ على الْإِعْتَاقِ الْمُطْلَقِ عَيْنًا فَأَمَّا
إذَا أُكْرِهَ على أَحَدِهِمَا غَيْرِ عَيْنٍ بِأَنْ أُكْرِهَ على أَنْ يُعْتِقَ
عَبْدَهُ أو يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ فَإِنْ لم تَكُنْ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بها
فَفَعَلَ الْمُكْرَهُ أَحَدَهُمَا غَرِمَ الْمُكْرِهُ الْأَقَلَّ من قِيمَةِ
الْعَبْدِ وَمِنْ نِصْفِ مَهْرِ الْمَرْأَةِ
أَمَّا إذَا فَعَلَ أَقَلَّهُمَا ضَمَانًا فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ ما أَتْلَفَ عليه
إلَّا هذا الْقَدْرَ
وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ أَكْثَرَهُمَا ضَمَانًا لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ دَفْعَ
الضَّرُورَةِ بِأَقَلِّ الْفِعْلَيْنِ ضَمَانًا فإذا فَعَلَ أَكْثَرَهُمَا
ضَمَانًا كان مُخْتَارًا في الزِّيَادَةِ لِانْعِدَامِ الِاضْطِرَارِ في هذا
الْقَدْرِ فَلَا يَكُونُ تَلَفُ هذا الْقَدْرِ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ
وَإِنْ كانت الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بها فَفَعَلَ الْمُكْرَهُ أَحَدَهُمَا لَا
شَيْءَ على الْمُكْرِهِ أَمَّا إذَا طَلَّقَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ
الدُّخُولِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ على الْمُكْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا من قَبْلُ
وَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ دَفْعُ الضَّرُورَةِ بِمَا لَا
يَتَعَلَّقُ فيه ضَمَانٌ أَصْلًا وهو الطَّلَاقُ فَكَانَ مُخْتَارًا في
الْإِعْتَاقِ فَلَا يَكُونُ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ فَلَا
يَضْمَنُ
وَكَذَلِكَ إذَا كانت الْمَرْأَةُ غير مَدْخُولٍ بها وَلَكِنَّ الْإِكْرَاهَ
نَاقِصٌ فَفَعَلَ الْمُكْرَهُ أَحَدَهُمَا لَا ضَمَانَ على الْمُكْرِهِ لِمَا
مَرَّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَا يَقْطَعُ إضَافَةَ الْفِعْلِ إلَى
الْمُكْرِهِ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ بِهِ فَكَانَ مُخْتَارًا
مُطْلَقًا فيه فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ الْمُكْرِهُ
هذا إذَا أُكْرِهَ على الْإِعْتَاقِ فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ على التَّوْكِيلِ
بِالْإِعْتَاقِ فَوَكَّلَ غَيْرَهُ بِهِ فَفَعَلَ الْوَكِيلُ فَالْقِيَاسُ أَنْ
لَا يَصِحَّ التَّوْكِيلُ وَلَا يَجُوزُ إعْتَاقُ الْوَكِيلِ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ
تَصَرُّفٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ
وَلِهَذَا يُبْطِلُهُ الْهَزْلُ كَالْبَيْعِ فَلَا يَصِحُّ مع الْإِكْرَاهِ كما
لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ
وفي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ
الْإِعْتَاقِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ بِخِلَافِ
الْبَيْعِ فإن الْإِكْرَاهَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ
التَّوْكِيلِ بِهِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أنه يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالْهَزْلَ فَنَعَمْ لَكِنَّهُ
تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ فَلَا يَعْمَلُ عليه الْإِكْرَاهُ كما لَا يَعْمَلُ على
الْإِعْتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وغيرها ( ( ( وغيرهما ) ) ) بِخِلَافِ
الْبَيْعِ فإنه اسْمٌ لِلْمُبَادَلَةِ حَقِيقَةً
وَحَقِيقَةُ الْمُبَادَلَةِ بِالتَّعَاطِي وَإِنَّمَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ
دَلِيلٌ عليه حَالَةَ الطَّوْعِ فَيَعْمَلُ عليه الْإِكْرَاهُ على ما نذكر ( ( (
نذكره ) ) ) في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وإذا نَفَذَ إعْتَاقُ
الْوَكِيلِ يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ على الْمُكْرِهِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَرْجِعَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ من الْمُكْرِهِ الْإِكْرَاهُ
على التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ لَا على الْإِعْتَاقِ وَإِنَّمَا الْإِعْتَاقُ
حَصَلَ بِاخْتِيَارِ الْوَكِيلِ وَرِضَاهُ فَلَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى
الْمُكْرِهِ كَشُهُودِ التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ إذَا رَجَعُوا لَا يَضْمَنُونَ
لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْوَكَالَةِ بِالْإِعْتَاقِ
كَذَا هَهُنَا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ على التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ
إكْرَاهٌ على الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ إذَا وَكَّلَ بِالْإِعْتَاقِ مَلَكَ
الْوَكِيلُ إعْتَاقَهُ عَقِيبَ التَّوْكِيلِ بِلَا فَصْلٍ فَيَعْتِقُهُ فَيَتْلَفُ
مَالُهُ فَكَانَ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ فَيُؤَاخَذُ بِضَمَانِهِ
وَلَا ضَمَانَ على الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ فَعَلَ بِأَمْرِهِ أَمْرًا صَحِيحًا وَإِنْ
كان الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا فَلَا ضَمَانَ على الْمُكْرِهِ لِمَا مَرَّ غير مَرَّةٍ
وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَأَنْكِحُوا
الْأَيَامَى مِنْكُمْ } وَغَيْرِهِ من عُمُومَاتِ النِّكَاحِ من غَيْرِ تَخْصِيصٍ
وَلِأَنَّ النِّكَاحَ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ فَلَا يُؤَثِّرُ فيه الْإِكْرَاهُ
كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ثُمَّ إذَا جَازَ النِّكَاحُ مع الْإِكْرَاهِ فَلَا
يَخْلُو إمَّا إن أُكْرِهَ الزَّوْجُ أو الْمَرْأَةُ فَإِنْ أُكْرِهَ الزَّوْجُ
____________________
(7/184)
فَلَا
يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى في النِّكَاحِ مِقْدَارَ مَهْرِ الْمِثْلِ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ من مَهْرِ الْمِثْلِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أكثر
منه فَإِنْ كان الْمُسَمَّى قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ أو أَقَلَّ منه يَجِبُ
الْمُسَمَّى وَلَا يَرْجِعُ بِهِ على الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ ما أَتْلَفَ عليه
مَالَهُ حَيْثُ عَوَّضَهُ بمثله لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ جُعِلَتْ أَمْوَالًا
مُتَقَوِّمَةً شَرْعًا عِنْدَ دُخُولِهَا في مِلْكِ الزَّوْجِ لِكَوْنِهَا سَبَبًا
لِحُصُولِ الْآدَمِيِّ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ وَصِيَانَةً له عن الِابْتِذَالِ
وإذا لم يُوجَدْ الْإِتْلَافُ فَلَا يَجِبُ عليه الضَّمَانُ وَإِنْ كان
الْمُسَمَّى أَكْثَرَ من مَهْرِ الْمِثْلِ يَجِبُ قَدْرُ مَهْرِ الْمِثْلِ
وَتَبْطُلُ الزِّيَادَةُ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الزِّيَادَةِ على قَدْرِ مَهْرِ
الْمِثْلِ لم تَصِحَّ مع الْإِكْرَاهِ فَبَطَلَتْ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لم يُفْرَضْ
إلَّا قَدْرُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ وَقَعَ على
النِّكَاحِ وَعَلَى إيجَابِ الْمَالِ إلَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُؤَثِّرُ في
النِّكَاحِ وَيُؤَثِّرُ في إيجَابِ الْمَالِ كما يُؤَثِّرُ في الْإِقْرَارِ
بِالْمَالِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ أَصْلًا
إلَّا أنها صَحَّتْ في قَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ شَرْعًا لِأَنَّ الشَّرْعَ لو
أَبْطَلَ هذا الْقَدْرَ لَأَثْبَتَهُ ثَانِيًا فلم يَكُنْ الْإِبْطَالُ مُفِيدًا
فلم يَبْطُلْ لِئَلَّا يَخْرُجَ الْإِبْطَالُ مَخْرَجَ الْعَيْبِ وَلَا ضَرُورَةَ
في الزِّيَادَةِ فَلَا تَصِحُّ تَسْمِيَتُهَا
هذا إذَا أُكْرِهَ الزَّوْجُ على النِّكَاحِ فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ
فَإِنْ كان الْمُسَمَّى في النِّكَاحِ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ أو أَكْثَرَ منه
جَازَ النِّكَاحُ وَلَزِمَ وَإِنْ كان الْمُسَمَّى أَقَلَّ من مَهْرِ الْمِثْلِ
بِأَنْ أُكْرِهَتْ على النِّكَاحِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا عَشْرَةُ
آلَافٍ فَزَوَّجَهَا أَوْلِيَاؤُهَا وَهُمْ مُكْرَهُونَ جَازَ النِّكَاحُ لِمَا ذَكَرْنَا
وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ على الْمُكْرِهِ من مَهْرِ مِثْلِهَا شَيْءٌ لِأَنَّ
الْمُكْرِهَ ما أَتْلَفَ عليها مَالًا لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لَيْسَتْ
بِمُتَقَوِّمَةٍ بِأَنْفُسِهَا وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُتَقَوِّمَةً بِالْعَقْدِ
وَالْعَقْدُ قَوَّمَهَا بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى فلم يُوجَدْ من الْمُكْرِهِ
إتْلَافُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ عليها فَلَا يَجِبُ عليه الضَّمَانُ وَلَا يَجِبُ على
الشُّهُودِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمَّا لم يَجِبْ على الْمُكْرِهِ فَلَأَنْ لَا
يَجِبَ على الشُّهُودِ أَوْلَى ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان الزَّوْجُ كفءا فقال
لِلزَّوْجِ إنْ شِئْت فَكَمِّلْ لها مَهْرَ مِثْلِهَا وَإِلَّا فَنُفَرِّقُ
بَيْنَكُمَا فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَ النِّكَاحُ وَإِنْ أَبَى تَكْمِيلَ مَهْرِ
الْمِثْلِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إنْ لم تَرْضَ بِالنُّقْصَانِ
لِأَنَّ لها في كَمَالِ مَهْرِ مِثْلِهَا حَقًّا لِأَنَّهَا تُعَيَّرُ بِنُقْصَانِ
مَهْرِ الْمِثْلِ فَيَلْحَقُهَا ضَرَرُ الْعَارِ
وإذا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا قبل الدُّخُولِ بها لَا شَيْءَ على الزَّوْجِ لِأَنَّ
الْفُرْقَةَ جَاءَتْ من قِبَلِهَا قبل الدُّخُولِ بها
وَلَوْ رَضِيَتْ بِالنُّقْصَانِ صَرِيحًا أو دَلَالَةً بِأَنْ دخل بها عن طَوْعٍ
منها فَلَهَا الْمُسَمَّى وَبَطَلَ حَقُّهَا في التَّفْرِيقِ لَكِنْ بَقِيَ حَقُّ
الْأَوْلِيَاءِ فيه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلَهُمْ أَنْ يُفَرِّقُوا وَعِنْدَهُمَا
ليس للألياء ( ( ( للأولياء ) ) ) حَقُّ التَّفْرِيقِ لِنُقْصَانِ الْمَهْرِ على
ما عُرِفَ في كِتَابِ النِّكَاحِ
وَلَوْ دخل بها على كُرْهٍ منها لَزِمَهُ تَكْمِيلُ مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّ ذلك
دَلَالَةُ اخْتِيَارِ التَّكْمِيلِ وَإِنْ لم يَكُنْ الزَّوْجُ كفءا
فَلِلْمَرْأَةِ خِيَارُ التَّفْرِيقِ لِانْعِدَامِ الْكَفَاءَةِ وَنُقْصَانِ
مَهْرِ الْمِثْلِ أَيْضًا وَكَذَا الْأَوْلِيَاءُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا لهم خِيَارُ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ
أما لَا خِيَارَ لهم لِنُقْصَانِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَإِنْ سَقَطَ أَحَدُ
الْخِيَارَيْنِ عنها يَبْقَى لها حَقُّ التَّفْرِيقِ لِبَقَاءِ الْخِيَارِ
الْآخَرِ وَإِنْ سَقَطَ الْخِيَارَانِ جميعا فَلِلْأَوْلِيَاءِ خِيَارُ عَدَمِ
الْكَفَاءَةِ بِالْإِجْمَاعِ
وفي خِيَارِ نُقْصَانِ الْمَهْرِ خِلَافٌ على ما عُرِفَ حتى أَنَّ الزَّوْجَ إذَا
دخل بها قبل التَّفْرِيقِ على كُرْهٍ منها حتى لَزِمَهُ التَّكْمِيلُ بَطَلَ
خِيَارُ النُّقْصَانِ وَبَقِيَ لها عَدَمُ خِيَارِ الْكَفَاءَةِ وَلَوْ رَضِيَتْ
بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ أَيْضًا صَرِيحًا وَدَلَالَةً بِأَنْ دخل بها الزَّوْجُ على
طَوْعٍ منها سَقَطَ الْخِيَارَانِ جميعا وَبَطَلَ حَقُّهَا في التَّفْرِيقِ
أَصْلًا
لَكِنْ لِلْأَوْلِيَاءِ الْخِيَارَانِ جميعا
وَعِنْدَهُمَا أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ
وَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا قبل الدُّخُولِ بها لَا شَيْءَ على الزَّوْجِ لِأَنَّ
الْفُرْقَةَ ما جَاءَتْ من قِبَلِهِ بَلْ من قِبَلِ غَيْرِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ
شَيْءٌ
وَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَلِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } عَامًّا من غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَلِأَنَّ
الرَّجْعَةَ لَا تَخْلُو من أَنْ تَكُونَ بِالْقَوْلِ أو بِالْفِعْلِ وهو
الْوَطْءُ وَاللَّمْسُ عن شَهْوَةٍ وَالنَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ عن شَهْوَةٍ
وَالْإِكْرَاهُ لَا يَعْمَلُ على النَّوْعَيْنِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَهَا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْيَمِينُ وَالنَّذْرُ بِأَنْ أُكْرِهَ على أَنْ يُوجِبَ على نَفْسِهِ
صَدَقَةً أو حَجًّا أو شيئا من وُجُوهِ الْقُرَبِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ
وَالْفَيْءِ في الْإِيلَاءِ فَلِعُمُومَاتِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ في هذه
الْأَبْوَابِ من غَيْرِ تَخْصِيصِ الطَّبَائِعِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } وقال
سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } وقال جَلَّ شَأْنُهُ { يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } أَيْ بِالْعُهُودِ وَلِأَنَّ
النَّذْرَ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ على لِسَانِ رسول اللَّهِ
وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ من نِسَائِهِمْ }
وقال جَلَّتْ عَظَمَتُهُ وَكِبْرِيَاؤُهُ { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ من نِسَائِهِمْ
تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤوا ( ( ( فاءوا ) ) ) فإن اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فإن اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
وَلِأَنَّ هذه تَصَرُّفَاتٌ قَوْلِيَّةٌ وقد مَرَّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ
____________________
(7/185)
لَا
يَعْمَلُ على الْأَقْوَالِ وَالْفَيْءُ في الْإِيلَاءِ في حَقِّ الْقَادِرِ
بِالْجِمَاعِ وفي حَقِّ الْعَاجِزِ بِالْقَوْلِ
وَالْإِكْرَاهُ لَا يُؤَثِّرُ في النَّوْعَيْنِ جميعا فَكَانَ طَائِعًا في
الْفَيْءِ فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَلَا تَلْزَمُهُ في هذه التَّصَرُّفَاتِ من
الْكَفَّارَةِ وَالْقُرْبَةِ الْمَنْذُورِ بها على لسان الْمُكْرَهِ لِأَنَّ
الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ على الْمُكْرَهِ على سَبِيلِ التوسيع ( ( ( التوسع ) ) )
وَكَذَا الْمَنْذُورُ بِهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بها مُطْلَقٌ عن الْوَقْتِ وَهُمَا
مِمَّا لَا يُجْبَرُ على فِعْلِهِمَا أَيْضًا فَلَوْ وَجَبَ على الْمُكْرِهِ
لَكَانَ لَا يَخْلُو من أَنْ يَجِبَ عليه على الْوَجْهِ الذي وَجَبَ على
الْمُكْرَهِ أو على الْوَجْهِ الذي وَجَبَ عليه
وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْإِيجَابَ على هذا الْوَجْهِ لَا يُفِيدُ
الْمُكْرِهَ شيئا فَلَا مَعْنًى لِرُجُوعِهِ عليه وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي
لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ الْمَشْرُوعِ من وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا جَعْلُ
الموصل ( ( ( الموسع ) ) ) مُضَيَّقًا
وَالثَّانِي جَعْلُ ما لَا يُجْبَرُ على فِعْلِهِ مَجْبُورًا على فِعْلِهِ وَكُلُّ
ذلك تَغْيِيرٌ وَلَا يَجُوزُ تغير ( ( ( تغيير ) ) ) الْمَشْرُوعِ من وَجْهٍ
فَكَيْفَ يَجُوزُ من وَجْهَيْنِ
وَكَذَا في الْإِيلَاءِ إذَا لم يَقْرَبْهَا حتى بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ لَا
يَرْجِعُ بِمَا لَزِمَهُ على الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُ تَرْكُ
الْقُرْبَانِ وهو مُخْتَارٌ في تَرْكِهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْرَبَهَا في
الْمُدَّةِ حتى لَا تَبِينَ فَلَا يَلْزَمُهُ
فإذا لم يَقْرَبْ كان تَرْكُ الْقُرْبَانِ حَاصِلًا باختيار ( ( ( باختياره ) ) )
فَلَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أُكْرِهَ على كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لم يَرْجِعْ على الْمُكْرِهِ
لِأَنَّهَا لَزِمَتْهُ بِفِعْلِهِ وَلَوْ أُكْرِهَ على أَنْ يَعْتِقَ عَبْدَهُ عن
ظِهَارِهِ يُنْظَرُ إنْ كانت قِيمَتُهُ قِيمَةَ عَبْدٍ وَسَطٍ لايرجع على
الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ لِأَنَّ ذلك وَجَبَ عليه بِفِعْلِهِ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ
عليه وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَكْثَرَ من ذلك يَرْجِعُ عليه بِالزِّيَادَةِ
لِأَنَّهُ أَتْلَفَ ذلك الْقَدْرَ عليه لِأَنَّ الزِّيَادَةَ على عَبْدٍ وَسَطٍ
لَا تَجِبُ عليه بِالظِّهَارِ وَلَا تَجْزِيهِ عن الظِّهَارِ لِأَنَّهُ إعْتَاقٌ
دَخَلَهُ عِوَضٌ وَالْإِعْتَاقُ بِعِوَضٍ وَإِنْ قَلَّ لَا يجزيه ( ( ( يجزي ) ) )
عن التَّكْفِيرِ
وَأَمَّا الْعَفْوُ عن دَمِ الْعَمْدِ فَلِعُمُومَاتِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ له } وقوله ( ( ( ولقوله )
) ) { بِهِ } أَيْ بِالْقِصَاصِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِ وَالتَّصَدُّقُ
بِالْقِصَاصِ هو الْعَفْوُ
وَقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوْا
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } فَقَدْ نَدَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى الْعَفْوِ
عَامًّا وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ فَلَا يُؤَثِّرُ فيه الْإِكْرَاهُ وَلَا
ضَمَانَ على الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه إتْلَافُ الْمَالِ لِأَنَّ
الْقِصَاصَ ليس بِمَالٍ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ على شُهُودِ الْعَفْوِ
إذَا رَجَعُوا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا النَّوْعُ الذي يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ
وَالْهِبَةُ وَالْإِجَارَةُ وَنَحْوُهَا فَالْإِكْرَاهُ يُوجِبُ فَسَادَ هذه
التَّصَرُّفَاتِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُوجِبُ تَوَقُّفَهَا على الْإِجَازَةِ كَبَيْعِ
الْفُضُولِيِّ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُوجِبُ بُطْلَانَهَا
أَصْلًا
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الرِّضَا شَرْطُ الْبَيْعِ شَرْعًا قال اللَّهُ
تَعَالَى { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عن تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَالْإِكْرَاهُ
يَسْلُبُ الرِّضَا
يَدُلُّ عليه أَنَّهُ لو أَجَازَ الْمَالِكُ يَجُوزُ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ لَا
يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِالْإِجَازَةِ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ
فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ وَهَذِهِ شُبْهَةُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَلَنَا ظَوَاهِرُ نُصُوصِ الْبَيْعِ عَامًّا مُطْلَقًا من غَيْرِ تَخْصِيصٍ
وَتَقْيِيدٍ وَلِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ وهو الْمُبَادَلَةُ صَدَرَ مُطْلَقًا من
أَهْلِ الْبَيْعِ في مَحَلٍّ وهو مَالُ مَمْلُوكِ الْبَائِعِ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ
عِنْدَ التَّسْلِيمِ كما في سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ وَلَا فَرْقَ
سِوَى أَنَّ الْمُفْسِدَ هُنَاكَ لِمَكَانِ الْجَهَالَةِ أو الرِّبَا أو غَيْرِ
ذلك وهذا ( ( ( وهنا ) ) ) الفساد ( ( ( الفاسد ) ) ) لِعَدَمِ الرِّضَا طَبْعًا
فَكَانَ الرِّضَا طَبْعًا شَرْطَ الصِّحَّةِ لَا شَرْطَ الْحُكْمِ وَانْعِدَامُ
شَرْطِ الصِّحَّةِ لَا يُوجِبُ انْعِدَامَ الْحُكْمِ كما في سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ
الْفَاسِدَةِ إلَّا أَنَّ سَائِرَ الْبِيَاعَاتِ لَا تَلْحَقُهَا الْإِجَازَةُ
لِأَنَّ فَسَادَهَا لَحِقَ الشَّرْعَ من حُرْمَةِ الرِّبَا وَنَحْوِ ذلك فَلَا
يَزُولُ بِرِضَا الْعَبْدِ وههنا ( ( ( وهنا ) ) ) الْفَسَادُ لَحِقَ الْعَبْدَ
وهو عَدَمُ رِضَاهُ فَيَزُولُ بِإِجَازَتِهِ وَرِضَاهُ
وإذا فَسَدَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ بِالْإِكْرَاهِ فَلَا بُدَّ من بَيَانِ ما
يَتَعَلَّقُ بِهِ من الإحكام في الْجُمْلَةِ وَالْجُمْلَةُ فيه أَنَّ الْأَمْرَ
لَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إنْ كان الْمُكْرَهُ هو الْبَائِعُ
وَإِمَّا إن كان هو الْمُشْتَرِيَ وَإِمَّا إن كَانَا جميعا مُكْرَهَيْنِ فَإِنْ
كان الْمُكْرَهُ هو الْبَائِعُ فَلَا يَخْلُو الْأَمْرُ فيه من وَجْهَيْنِ إمَّا
إن كان مُكْرَهًا على الْبَيْعِ طَائِعًا في التَّسْلِيمِ وَإِمَّا إنْ كان
مُكْرَهًا على الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ جميعا فَإِنْ كان مُكْرَهًا على الْبَيْعِ
طَائِعًا في التَّسْلِيمِ فَبَاعَ مُكْرَهًا وسلم طَائِعًا جَازَ لِأَنَّ
الْبَيْعَ في الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِلْمُبَادَلَةِ فإذاسلم طَائِعًا فَقَدْ أتى
بِحَقِيقَةِ الْبَيْعِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَجُوزُ بِطَرِيقِ التَّعَاطِي فَكَانَ ما
أتى بِهِ من لَفْظِ الْبَيْعِ بِالْإِكْرَاهِ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ
وَاحِدَةٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ التَّسْلِيمُ منه طَائِعًا إجَازَةً لِذَلِكَ
الْبَيْعِ بَلْ يَكُونُ هذا بَيْعًا مُبْتَدَأً بِطَرِيقِ التَّعَاطِي
وَالثَّانِي أَنَّ التَّسْلِيمَ منه إجَازَةٌ لِذَلِكَ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ ليس من
شَرْطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ صِحَّةُ التَّسْلِيمِ حتى يَكُونَ الْإِكْرَاهُ على
الْبَيْعِ إكْرَاهًا على ما لَا صِحَّةَ له بِدُونِهِ
إذْ الْبَيْعُ يَصِحُّ بِدُونِ التَّسْلِيمِ فَكَانَ طَائِعًا في التَّسْلِيمِ
فَصَلُحَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا لِلْإِجَازَةِ بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ
____________________
(7/186)
على
الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ إذَا سَلَّمَ طَائِعًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَا يَكُونُ
التَّسْلِيمُ إجَازَةً لِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا
أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَا يَصِحَّانِ بِدُونِ الْقَبْضِ فَكَانَ الْإِكْرَاهُ
عَلَيْهِمَا إكْرَاهًا على الْقَبْضِ فلم يَصِحَّ التَّسْلِيمُ دَلِيلًا على
الْإِجَازَةِ فَهُوَ الْفَرْقُ
هذا إذَا كان مُكْرَهًا على الْبَيْعِ طَائِعًا في التَّسْلِيمِ فَأَمَّا إذَا كان
مُكْرَهًا عَلَيْهِمَا جميعا فَبَاعَ مُكْرَهًا وسلم مُكْرَهًا كان الْبَيْعُ
فَاسِدًا لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ هو الْمُبَادَلَةُ وَالْإِكْرَاهُ يُؤَثِّرُ
فيها بِالْفَسَادِ وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا حتى لو كان
المشتري عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ نَفَذَ إعْتَاقُهُ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ
لِأَنَّ بِالْإِعْتَاقِ تَعَذَّرَ عليه الْفَسْخُ إذْ الْإِعْتَاقُ مِمَّا لَا
يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَتَقَرَّرَ الْهَلَاكُ فَتَقَرَّرَتْ عليه الْقِيمَةُ
فَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ عليه كَالْبَائِعِ وَالْمُكْرَهُ
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَجَعَ على الْمُكْرِهِ بِقِيمَتِهِ ثُمَّ الْمُكْرِهُ
يَرْجِعُ على الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ على الْمُشْتَرِي
أَمَّا حَقُّ الرُّجُوعِ على الْمُكْرِهِ فَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ عليه مَالَهُ
بِإِزَالَةِ يَدِهِ عنه فَأَشْبَهَ الْغَاصِبَ فَيَرْجِعُ عليه بِضَمَانِ ما
أَتْلَفَهُ كَالْغَاصِبِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَهُ على الْمُشْتَرِي
لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ
وَأَمَّا حَقُّ الرُّجُوعِ على الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّهُ في حَقِّ الْبَائِعِ
بِمَنْزِلَةِ غَاصِبِ الْغَاصِبِ وَلِلْمَالِكِ وِلَايَةُ تَضْمِينِ غَاصِبِ
الْغَاصِبِ
كَذَا هذا
وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي قبل الْقَبْضِ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ لِأَنَّ
الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ قبل الْقَبْضِ وَالْإِعْتَاقُ لَا
يَنْفُذُ في غَيْرِ الْمِلْكِ فَإِنْ أَجَازَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ بَعْدَ
الْإِعْتَاقِ نَفَذَ الْبَيْعُ ولم يَنْفُذْ الْإِعْتَاقُ
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ من حَيْثُ الظَّاهِرُ تَدُلُّ على أَنَّ الْمِلْكَ
يَثْبُتُ بِالْإِجَازَةِ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ في حُكْمِ الْإِنْشَاءِ
وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ السَّابِقِ عِنْدَ
الْإِجَازَةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَالْمُسْتَنِدُ مُقْتَصِرٌ من وَجْهٍ
ظَاهِرٌ من وَجْهٍ فَجَازَ أَنْ لَا يَظْهَرَ في حَقِّ الْمُعَلَّقِ بَلْ
يُقْتَصَرَ وَلِلْبَائِعِ خِيَارُ الْفَسْخِ
وَالْإِجَازَةِ في هذا الْبَيْعِ قبل الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ
وَإِنْ ثَبَتَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَكِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَجْلِ الْفَسَادِ
فَيَثْبُتُ له خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ قبل الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ دَفْعًا
لِلْفَسَادِ
وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلَهُ حَقُّ الْفَسْخِ قبل الْقَبْضِ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ
لِهَذَا الْبَيْعِ قبل الْقَبْضِ وَلَيْسَ له حَقُّ الْفَسْخِ بَعْدَ الْقَبْضِ
لِأَنَّهُ طَائِعٌ في الشِّرَاءِ فَكَانَ لَازِمًا في جَانِبِهِ لَكِنْ إنَّمَا
يَمْلِكُ الْبَائِعُ فَسْخَ هذا القعد ( ( ( العقد ) ) ) إذَا كان بِمَحَلِّ
الْفَسْخِ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ بِأَنْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي تَصَرُّفًا لَا
يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ لَا
يَمْلِكُ الْفَسْخَ وَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ وَإِنْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا
يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْكَفَالَةِ وَنَحْوِهَا
يَمْلِكُ الْفَسْخَ بِخِلَافِ سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ فَإِنْ
تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الْفَسْخِ
أَيَّ تَصَرُّفٍ كان
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ هُنَاكَ ثَبَتَ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى
الْمَمْلُوكِ من الزِّيَادَةِ وَالْجَهَالَةِ وَنَحْوِ ذلك وقد زَالَ ذلك
الْمَعْنَى بِزَوَالِ الْمَمْلُوكِ عن مِلْكِ الْمُشْتَرِي بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ
فلما ثَبَتَ حَقُّ الْفَسْخِ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَالِكِ وهو كَرَاهَتُهُ
وَفَوَاتُ رِضَاهُ وَأَنَّهُ قَائِمٌ فَكَانَ حَقُّ الْفَسْخِ ثَابِتًا
وَكَذَلِكَ لو بَاعَهُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي حتى تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي له
أَنْ يَفْسَخَ الْعُقُودَ كُلَّهَا لِمَا ذَكَرْنَا
وَكَذَا إنَّمَا يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ إذَا كان يمحل ( ( ( بمحل ) ) )
الْإِجَازَةِ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ بِأَنْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي تَصَرُّفًا
لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا تَجُوزُ إجَازَتُهُ حتى لَا يَجِبَ الثَّمَنُ على
الْمُشْتَرِي بَلْ تَجِبُ عليه قِيمَةُ الْعَبْدِ لِأَنَّ قِيَامَ الْمَحَلِّ
وَقْتَ الْإِجَازَةِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْإِجَازَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ في
الْمَحَلِّ ثُمَّ يُسْتَنَدُ وَالْهَالِكُ لَا يَحْتَمِلُ الْمِلْكَ فَلَا
يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ وَالْمَحَلُّ بِالْإِعْتَاقِ صَارَ في حُكْمِ الْهَالِكِ
وَتَقَرَّرَ هَلَاكُهُ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَيَتَقَرَّرُ على
الْمُشْتَرِي قِيمَتُهُ وَإِنْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ
كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ يَمْلِكْ الْإِجَازَةَ وَإِنْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي
وإذا أَجَازَ وَاحِدًا من الْعُقُودِ جَازَتْ الْعُقُودُ كُلُّهَا ما بَعْدَ هذا
الْعَقْدِ وما قَبْلَهُ أَيْضًا بِخِلَافِ الْغَاصِبِ إذَا بَاعَ الْمَغْصُوبَ
ثُمَّ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي هَكَذَا حتى تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي وَتَوَقَّفَتْ
الْعُقُودُ كُلُّهَا فَأَجَازَ الْمَالِكُ وَاحِدًا منها أنما كان يَجُوزُ ذلك
الْعَقْدُ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ
وَلَوْ لم يُجِزْ الْمَالِكُ شيئا من الْعُقُودِ وَلَكِنَّهُ ضَمِنَ وَاحِدًا منهم
يَجُوزُ ما بَعْدَ عَقْدِهِ دُونَ ما قَبْلَهُ
وَالْفَرْقُ أَنَّ في بَابِ الْغَصْبِ لم يَنْفُذْ شَيْءٌ من الْعُقُودِ بَلْ
تَوَقَّفَ نَفَاذُ الْكُلِّ على الْإِجَازَةِ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ شَرْطَ
النَّفَاذِ فَيَنْفُذُ ما لَحِقَهُ الشَّرْطُ دُونَ غَيْرِهِ
أَمَّا هَهُنَا فَالْعُقُودُ ما تَوَقَّفَ نَفَاذُهَا على الْإِجَازَةِ
لِوُقُوعِهَا نَافِذَةً قبل الْإِجَازَةِ إذْ الْفَسَادُ لَا يَمْنَعُ النَّفَاذَ
فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ إزَالَةَ الْإِكْرَاهِ من الْأَصْلِ وَمَتَى جَازَ
الْإِكْرَاهُ من الْأَصْلِ جَازَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ فيجوز ( ( ( فتجوز ) ) )
الْعُقُودُ كُلُّهَا فَهُوَ الْفَرْقُ وَبِخِلَافِ ما إذَا ضَمِنَ الْمَغْصُوبُ
منه أَحَدَهُمْ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَغْصُوبَ عِنْدَ اخْتِيَارِ أَخْذِ
الضَّمَانِ منه من وَقْتِ جِنَايَتِهِ وهو الْقَبْضُ إمَّا
____________________
(7/187)
بِطَرِيقِ
الظُّهُورِ وَإِمَّا بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ على ما عُرِفَ في مَسَائِلِ
الْخِلَافِ فَلَا يَظْهَرُ فِيمَا قَبْلَهُ من الْعُقُودِ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ
على ما مَرَّ
وإذا قال الْبَائِعُ أَجَزْت جَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْمَانِعَ من الْجَوَازِ هو
الْإِكْرَاهُ وَالْإِجَازَةُ إزَالَةُ الْإِكْرَاهِ
وَكَذَا إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ
كَالْفُضُولِيِّ إذَا بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ فَقَبَضَ الْمَالِكُ الثَّمَنَ
وَلَوْ لم يَعْتِقْهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ وَلَكِنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي
قبل الْإِجَازَةِ نَفَذَ إعْتَاقُهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ له بِالشِّرَاءِ
وَسَوَاءٌ كان قَبَضَ الْعَبْدَ أو لَا لِأَنَّ شِرَاءَهُ صَحِيحٌ فَيُفِيدُ
الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ قبل الْقَبْضِ
لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ بَلْ بِوَاسِطَةِ
الْقَبْضِ
وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي الْأَخِيرُ ثُمَّ أَجَازَ الْبَائِعُ الْعَقْدَ
الْأَوَّلَ لم تَجُزْ إجَازَتُهُ حتى لَا يَمْلِكَ الْمُطَالَبَةَ بِالثَّمَنِ
بَلْ تَجِبُ الْقِيمَةُ
وهو بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَجَعَ بها على الْمُكْرِهِ وَالْمُكْرِهُ يَرْجِعُ
على الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ على أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ
أَيَّهُمَا كان
إما الرُّجُوعُ على الْمُكْرِهِ فَلِمَا ذَكَرْنَا في إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي
الْأَوَّلِ أَنَّهُ أَتْلَفَ عليه مِلْكَهُ مَعْنًى فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ منه
ضَمَانَ الْإِتْلَافِ وَلِلْمُكْرِهِ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ على الْمُشْتَرِي
الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَضْمُونَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَنَزَلَ
مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ وكان لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ عليه بِالضَّمَانِ فَكَذَا
له
وَيَصِحُّ كُلُّ عَقْدٍ وُجِدَ بَعْدَ ذلك وَإِنْ شَاءَ الْمُكْرَهُ رَجَعَ على
أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ أَيَّهُمَا شَاءَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في
حَقِّ الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ غَاصِبِ الْغَاصِبِ فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ
الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ برىء الْمُكْرِهُ وَصَحَّتْ الْبِيَاعَاتِ كُلُّهَا
لِأَنَّهُ مِلْكُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بِاخْتِيَارِ تَضْمِينِهِ فَتُبُيِّنَ
أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَصَحَّ فَيَصِحُّ كُلُّ بَيْعٍ وُجِدَ بَعْدَ ذلك
إن إخبار ( ( ( اختار ) ) ) تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي الْآخَرِ صَحَّ كُلُّ بَيْعٍ
وُجِدَ بَعْدَ ذلك وَبَطَلَ كُلُّ بَيْعٍ كان قَبْلَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ
تَضْمِينَهُ فَقَدْ خَصَّهُ بِمِلْكِ الْمَضْمُونِ فَتُبُيِّنَ أَنَّ كُلَّ بَيْعٍ
كان قَبْلَهُ كان بَيْعُ ما لَا يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ فَبَطَلَ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْمُكْرَهُ هو الْبَائِعُ فَأَمَّا إذَا كان الْمُكْرَهُ هو
الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْفَسْخِ قبل
الْقَبْضِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ حَقُّ الْفَسْخِ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ
لِمَا ذَكَرْنَا في إكْرَاهِ الْبَائِعِ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُجِيزَ هذا
الْعَقْدَ كما لِلْبَائِعِ إذَا كان مُكْرَهًا
وَلَوْ أُكْرِهَ على الشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ وَدَفَعَ الثَّمَنَ والمشتري عَبْدٌ
فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي فَذَلِكَ إجَازَةٌ لِلْبَيْعِ لِأَنَّ هذه
التَّصَرُّفَاتِ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ وُجُودِهَا فَكَانَ الْإِقْدَامُ
عليها الْتِزَامًا لِلْمَالِكِ كَالْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ إذَا فَعَلَ
شيئا من ذلك
وَكَذَلِكَ لو كان المشتري أَمَةً فَوَطِئَهَا أو قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ فَهُوَ
إجَازَةٌ لِلْبَيْعِ لِأَنَّهُ لو نُقِضَ الْبَيْعُ لَتُبُيِّنَ أَنَّ الْوَطْءَ
صَادَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ وَذَلِكَ حَرَامٌ وَالظَّاهِرُ من حَالِ الْمُسْلِمِ
التَّحَرُّزُ عن الْحَرَامِ فَكَانَ إقْدَامُهُ عليه الْتِزَامًا لِلْبَيْعِ
دَلَالَةً
وَلَوْ لم يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي حتى أَعْتَقَهُ الْبَائِعُ نَفَذَ إعْتَاقُهُ
لِأَنَّهُ على مِلْكِهِ قبل التَّسْلِيمِ وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي نَفَذَ
إعْتَاقُهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَنْفُذَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ ما لَا يَمْلِكُهُ ولاعتق فِيمَا
لَا يَمْلِكُهُ ابن آدَمَ على لِسَانِ رسول اللَّهِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ إجَازَةَ هذا الْبَيْعِ
فَإِقْدَامُهُ على الْإِعْتَاقِ إجَازَةٌ له تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ وَهَذَا
لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ تَجِبُ صِيَانَتُهُ عن الْإِلْغَاءِ ما أَمْكَنَ
وَلَا صِحَّةَ لِتَصَرُّفِهِ إلَّا بِالْمِلْكِ وَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ قبل الْقَبْضِ
إلَّا بِالْإِجَازَةِ فَيَقْتَضِي الْإِعْتَاقُ إجَازَةَ هذا الْعَقْدِ سَابِقًا
عليه أو مُقَارِنًا له تَصْحِيحًا له كما في قَوْلِهِ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك
عَنِّي على أَلْفِ دِرْهَمٍ وَلِهَذَا نَفَذَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي بِشَرْطِ
الْخِيَارِ
كَذَا هذا
هذا إذَا أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ وَلَوْ أَعْتَقَاهُ جميعا مَعًا قبل
الْقَبْضِ فَإِعْتَاقُ الْبَائِعِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّ مِلْكَ
الْبَائِعِ ثَابِتٌ مقصودا ( ( ( مقصود ) ) ) وَمِلْكَ الْمُشْتَرِي يَثْبُتُ
ضِمْنًا لِلْإِجَازَةِ الثَّابِتَةِ ضِمْنًا لِلْإِعْتَاقِ فَكَانَ تَنْفِيذُ
إعْتَاقِ الْبَائِعِ أَوْلَى
وَالثَّانِي أَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ ثَابِتٌ في الْحَالِ وَمِلْكَ الْمُشْتَرِي
يَثْبُتُ في الثَّانِي فَاعْتِبَارُ الْمَوْجُودِ لِلْحَالِ أَوْلَى
هذا إذَا كان الْمُكْرَهُ وهو الْبَائِعُ أو الْمُشْتَرِي فَأَمَّا إذَا كَانَا
جميعا مُكْرَهَيْنِ على الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ لِأَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ في حَقِّهِمَا
وَالثَّابِتُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ بِمَحَلِّ
الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ فَإِنْ أَجَازَا جميعا جَازَ وَإِنْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا
دُونَ الْآخَرِ جَازَ في جَانِبِهِ وَبَقِيَ الْخِيَارُ في حَقِّ صَاحِبِهِ
وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي قبل وُجُودِ الْإِجَازَةِ من أَحَدِهِمَا أَصْلًا
نَفَذَ إعْتَاقُهُ وَلَزِمَهُ الْقِيمَةُ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ تَصَرُّفٌ لَا
يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَكَانَ إقْدَامُهُ عليه الْتِزَامًا لِلْبَيْعِ في
جَانِبِهِ وَلَا تَجُوزُ إجَازَةُ الْبَائِعِ بَعْدَ ذلك لِأَنَّهُ خَرَجَ من أَنْ
يَكُونَ مَحَلًّا لِلْإِجَازَةِ بِالْإِعْتَاقِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قِيَامَ
الْمَحَلِّ وَقْتَ الْإِجَازَةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِجَازَةِ وقد هَلَكَ
بِالْإِعْتَاقِ
وَلَوْ لم يَعْتِقْهُ الْمُشْتَرِي وَلَكِنْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ ثُمَّ
أَعْتَقَاهُ مَعًا نَفَذَ لإعتاق ( ( ( إعتاق ) ) ) الْبَائِعِ وَبَطَلَ
____________________
(7/188)
إعْتَاقُ
الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا إن كانت الْإِجَازَةُ من الْمُشْتَرِي
أو من الْبَائِعِ فَإِنْ كانت من الْمُشْتَرِي نَفَذَ إعْتَاقُ الْبَائِعِ لِأَنَّ
إجَازَةَ الْمُشْتَرِي لم تَعْمَلْ في جَانِبِ الْبَائِعِ فَبَقِيَ الْبَائِعُ على
خِيَارِهِ فإذا أَعْتَقَ نَفَذَ إعْتَاقُهُ وَبَطَلَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي
لِأَنَّهُ أَبْطَلَ خِيَارَهُ بِالْإِجَازَةِ وَإِنْ كانت الْإِجَازَةُ من
الْبَائِعِ فَتَنْفِيذُ إعْتَاقِهِ أَوْلَى أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا من الْوَجْهَيْنِ
في إكْرَاهِ الْمُشْتَرِي
وَلَوْ أَجَازَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ ثُمَّ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَعْتَقَ
الْبَائِعُ بَعْدَهُ نَفَذَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي وَلَزِمَهُ الثَّمَنُ وَلَا
يَنْفُذُ إعْتَاقُ الْبَائِعِ
أَمَّا نُفُوذُ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي فَلِبَقَاءِ الْخِيَارِ له وَأَمَّا عَدَمُ
نُفُوذِ إعْتَاقِ الْبَائِعِ فَلِسُقُوطِ خِيَارِهِ بِالْإِجَازَةِ
وَأَمَّا لُزُومُ الثَّمَنِ الْمُشْتَرِيَ فَلِلُزُومِ الْبَيْعِ في
الْجَانِبَيْنِ جميعا
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَيَسْتَوِي أَيْضًا في بَابِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ الْإِكْرَاهُ التَّامُّ
وَالنَّاقِصُ لِأَنَّ كُلَّ ذلك يُفَوِّتُ الرِّضَا وَيَسْتَوِي في الْإِكْرَاهِ
على الْبَائِعِ تَسْمِيَةُ الْمُشْتَرِي وَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ حتى يَفْسُدَ
الْبَيْعُ في الْحَالَيْنِ جميعا لِأَنَّ غَرَضَ الْمُكْرِهِ في الْحَالَيْنِ
جميعا وَاحِدٌ
وهو إزَالَةُ مِلْكِ الْبَائِعِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْبَيْعِ من أَيِّ إنْسَانٍ
كان
وَلَوْ أَوْعَدَهُ بِضَرْبِ سَوْطٍ أو الْحَبْسِ يَوْمًا أو الْقَيْدِ يَوْمًا
فَلَيْسَ ذلك من الْإِكْرَاهِ في شَيْءٍ لِأَنَّ ذلك لَا يُغَيِّرُ حَالَ
الْمُكْرَهِ عَمَّا كان عليه من قَبْلِ
هذا إذَا وَرَدَ الْإِكْرَاهُ على الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ فَأَمَّا إذَا وَرَدَ
على التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ فَبَاعَ الْوَكِيلُ وسلم وهو طَائِعٌ
وَالْمَبِيعُ عَبْدُهُ فَمَوْلَى الْعَبْدِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ
الْمُكْرِهَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ أو الْمُشْتَرِيَ فَإِنْ ضَمَّنَ
الْوَكِيلَ رَجَعَ على الْمُشْتَرِي وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ على
أَحَدٍ
أَمَّا وِلَايَةُ تَضْمِينِ الْمُكْرِهِ فَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ على التَّوْكِيلِ
بِالْبَيْعِ إكْرَاهٌ على الْبَيْعِ لَكِنْ بِوَاسِطَةِ التَّوْكِيلِ لِأَنَّ
التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ تَسْبِيبٌ إلَى إزَالَةِ الْيَدِ وَأَنَّهُ إتْلَافٌ
مَعْنًى فَكَانَ التَّلَفُ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ
فَكَانَ له وِلَايَةُ تَضْمِينِ الْمُكْرِهِ
وَأَمَّا تَضْمِينُ الْوَكِيلِ فَلِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ
وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي وَقَبْضُ مَالِ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ رِضَاهُ سَبَبٌ
لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَكَانَ له وِلَايَةُ تَضْمِينِ أَيِّهِمَا شَاءَ فَإِنْ
ضَمَّنَ الْوَكِيلَ يَرْجِعُ عن الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ
لَمَّا أَدَّى الضَّمَانَ فَقَدْ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ فَيَمْلِكُ
تَضْمِينَهُ كَالْبَائِعِ وَلَكِنْ لَا يَنْفُذُ ذلك الْبَيْعُ بِأَدَاءِ
الضَّمَانِ لِأَنَّهُ ما مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ لم يَبِعْهُ
لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ وهو الْمَالِكُ فَيَقِفُ نَفَاذُهُ على إجَازَةِ من
وَقَعَ له الْعَقْدُ وهو الْمَالِكُ لَا على فِعْلٍ يُوجَدُ منه وهو أَدَاءُ
الضَّمَانِ
وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا بَاعَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ ثُمَّ أَدَّى الضَّمَانَ
أَنَّهُ يَنْفُذُ بَيْعُهُ لِأَنَّ هُنَاكَ بَاعَهُ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ وهو
الْمَالِكُ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَجَازَ وُقُوفُهُ على
فِعْلِهِ وهو أَدَاءُ الضَّمَانِ وَجَازَ وُقُوفُهُ على فِعْلِ مَالِكِهِ أَيْضًا
قبل أَدَاءِ الضَّمَانِ لِأَنَّ الْغَاصِبَ إنَّمَا يَمْلِكُهُ بِأَدَاءِ
الضَّمَانِ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ لَا يَخْتَارَ الْمَالِكُ الضَّمَانَ فَلَا
يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ لِذَلِكَ وَقَفَ على إجَازَةِ الْمَالِكِ
وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي على أَحَدٍ
لِأَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلُ الْمَبِيعِ وقد سَلَّمَ له الْمُبْدَلَ
ثُمَّ إنْ كان الْبَائِعُ قَبَضَ الثَّمَنَ من الْمُشْتَرِي يَسْتَرِدُّهُ منه
وَإِنْ كان لم يَقْبِضْهُ فَلَا شَيْءَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
هذا إذَا كان كالإكراه ( ( ( الإكراه ) ) ) تَامًّا فَإِنْ كان نَاقِصًا لَا
يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ بِالضَّمَانِ على الْمُكْرِهِ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ
النَّاقِصَ لَا يُوجِبُ نِسْبَةَ الْإِتْلَافِ إلَيْهِ على ما بَيَّنَّا
وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ أو الْمُشْتَرِي لِمَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ على الْهِبَةِ فَيُوجِبُ فَسَادَهَا كَالْإِكْرَاهِ على
الْبَيْعِ حتى إنه لو وَهَبَ مُكْرَهًا وسلم مُكْرَهًا ثَبَتَ الْمِلْكُ كما في
الْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ من وَجْهٍ وهو أَنَّ في بَابِ الْبَيْعِ
إذَا بَاعَ مُكْرَهًا وسلم طَائِعًا يَجُوزُ الْبَيْعُ وفي بَابِ الْهِبَةِ
مُكْرَهًا لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ سَلَّمَ مُكْرَهًا أو طَائِعًا
وقد بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَكَذَلِكَ تَسْلِيمُ
الشُّفْعَةِ من هذا الْقَبِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مع الْإِكْرَاهِ لِأَنَّ
الشُّفْعَةَ في مَعْنَى الْبَيْعِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ صِحَّتُهُ بِاللِّسَانِ كَالْبَيْعِ حتى
تَبْطُلَ الشُّفْعَةُ بِالسُّكُوتِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ
ثُمَّ الْبَيْعُ يَعْمَلُ عليه الْإِكْرَاهُ فَكَذَلِكَ تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ
وَمِنْ هذا الْقَبِيلِ الْإِكْرَاهُ على الْإِبْرَاءِ عن الْحُقُوقِ لِأَنَّ
الْإِبْرَاءَ فيه مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ
بِالشَّرْطِ وَلَا يَصِحُّ في الْمَجْهُولِ كَالْبَيْعِ ثُمَّ الْبَيْعُ يَعْمَلُ
عليه الْإِكْرَاهُ فَكَذَلِكَ الْإِبْرَاءُ عن الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إبْرَاءٌ
عن حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ الذي هو وَسِيلَةُ الْمَالِ
فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْبَيْعِ الذي هو تَمْلِيكُ الْمَالِ فَيَعْمَلُ عليه
الْإِكْرَاهُ كما يَعْمَلُ على الْبَيْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْإِكْرَاهُ على الْإِنْشَاءِ فَأَمَّا إذَا كان على الْإِقْرَارِ
فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ سَوَاءٌ كان الْمُقَرُّ بِهِ مُحْتَمِلًا
لِلْفَسْخِ أو لم يَكُنْ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ وَصِحَّةُ الْإِخْبَارِ عن
الْمَاضِي بِوُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ سَابِقًا على الْإِخْبَارِ وَالْمُخْبَرُ
بِهِ هَهُنَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ جهة ( ( (
جنبة ) ) ) الْوُجُودِ على جهة ( ( ( جنبة ) ) ) الْعَدَمِ
____________________
(7/189)
بِالصِّدْقِ
وَحَالُ الْإِكْرَاهِ لَا يَدُلُّ على الصِّدْقِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا
يَتَحَرَّجُ عن الْكَذِبِ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ فَلَا يَثْبُتُ الرُّجْحَانُ
وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ من بَابِ الشَّهَادَةِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ }
وَالشَّهَادَةُ على أَنْفُسِهِمْ ليس إلَّا الْإِقْرَارُ على أَنْفُسِهِمْ
وَالشَّهَادَةُ تَرِدُ بِالتُّهْمَةِ وهو مُتَّهَمٌ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِمَا قُلْنَا بَلْ
أَوْلَى لِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ فَأَمَّا
الْمَالُ فَلَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ فلما لم يَصِحَّ هُنَاكَ فَلَأَنْ لَا
يَصِحَّ هَهُنَا أَوْلَى
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ قبل أَنْ
يُقِرَّ بِهِ ثُمَّ أَخَذَهُ فَأَقَرَّ بِهِ من غَيْرِ تَجْدِيدِ الْإِكْرَاهِ
فَهَذَا على وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ تَوَارَى عن بَصَرِ الْمُكْرِهِ حين ما خَلَّى
سَبِيلَهُ وَإِمَّا إن لم يَتَوَارَ عن بَصَرِهِ حتى بَعَثَ من أَخَذَهُ وَرَدَّهُ
إلَيْهِ فَإِنْ كان قد تَوَارَى عن بَصَرِهِ ثُمَّ أَخَذَهُ فَأَقَرَّ إقْرَارًا
مُسْتَقْبَلًا جَازَ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا خَلَّى سَبِيلَهُ حتى تَوَارَى
عن بَصَرِهِ فَقَدْ زَالَ الْإِكْرَاهُ عنه فإذا أَقَرَّ بِهِ من غَيْرِ إكْرَاهٍ جَدِيدٍ
فَقَدْ أَقَرَّ طَائِعًا فَصَحَّ
وَإِنْ لم يَتَوَارَ عن بَصَرِهِ بَعْدُ حتى رَدَّهُ إلَيْهِ فَأَقَرَّ بِهِ من
غَيْرِ تَجْدِيدِ الْإِكْرَاهِ لم يَصِحَّ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ إذَا لم يَتَوَارَ
عن بَصَرِهِ فَهُوَ على الْإِكْرَاهِ الْأَوَّلِ
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْإِقْرَارِ بِالْقِصَاصِ فَأَقَرَّ بِهِ فَقَتَلَهُ حين ما
أَقَرَّ بِهِ من غَيْرِ بَيِّنَةٍ فَإِنْ كان الْمُقِرُّ مَعْرُوفًا
بِالذِّعَارَةِ يُدْرَأْ عنه الْقِصَاصُ اسْتِحْسَانًا
وَإِنْ لم يَكُنْ مَعْرُوفًا بها يَجِبْ الْقِصَاصُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ
الْقِصَاصُ كيفما كان
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْإِقْرَارَ زال عنه الْإِكْرَاهُ لَمَّا لم يَصِحَّ
شَرْعًا صَارَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَصَارَ كما لو
قَتَلَهُ ابْتِدَاءً
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِقْرَارَ إنْ كان لَا يَصِحُّ مع الْإِكْرَاهِ
لَكِنْ لِهَذَا الْإِقْرَارِ شُبْهَةُ الصِّحَّةِ إذَا كان الْمُقِرُّ مَعْرُوفًا
بِالذِّعَارَةِ لِوُجُودِ دَلِيلِ الصِّدْقِ في الْجُمْلَةِ وَذَا يُورِثُ
شُبْهَةً في وُجُوبِ الْقِصَاصِ فَبَدَأَ لِلشُّبْهَةِ
وإذا لم يَكُنْ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ فَإِقْرَارُهُ لَا يُورِثُ شُبْهَةً في
الْوُجُوبِ فَيَجِبُ
وَمِثَالُ هذا إذَا دخل رَجُلٌ على رَجُلٍ في مَنْزِلِهِ فَخَافَ صَاحِبُ
الْمَنْزِلِ أَنَّهُ ذَاعِرٌ دخل عليه لِيَقْتُلَهُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ
فَبَادَرَهُ وَقَتَلَهُ فَإِنْ كان الدَّاخِلُ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ لَا
يَجِبُ الْقِصَاصُ على صَاحِبِ الْمَنْزِلِ
وَإِنْ لم يَكُنْ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ يَجِبْ الْقِصَاصُ عليه
كَذَا هذا
وإذا لم يَجِبْ الْقِصَاصُ يَجِبُ الْأَرْشُ
لِأَنَّ سُقُوطَ الْقِصَاصِ لِلشُّبْهَةِ وإنها لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ لَا يَجِبُ
الْأَرْشُ أَيْضًا إذَا كان مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ ما عَدْلُ الْمُكْرَهِ إلَى غَيْرِ ما وَقَعَ عليه
الْإِكْرَاهُ أو زَادَ على ما وَقَعَ عليه الْإِكْرَاهُ أو نَقَصَ عنه فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْعُدُولُ عَمَّا وَقَعَ عليه الْإِكْرَاهُ إلَى
غَيْرِهِ لَا يَخْلُو من وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْعَقْدِ في
الِاعْتِقَادَاتِ أو بِالْفِعْلِ في الْمُعَامَلَاتِ أَمَّا حُكْمُ الْعُدُولِ
عَمَّا وَقَعَ عليه الْإِكْرَاهُ بِالْعَقْدِ في الِاعْتِقَادَاتِ فَقَدْ ذكرناها
( ( ( ذكرناه ) ) ) فِيمَا تَقَدَّمَ
وَأَمَّا الْعُدُولُ إلَى غَيْرِ ما وَقَعَ عليه الْإِكْرَاهُ بِالْفِعْلِ في
الْمُعَامَلَاتِ فَنَقُولُ إذَا عَدَلَ الْمُكْرَهُ إلَى غَيْرِ ما وَقَعَ عليه
الْإِكْرَاهُ بِالْفِعْلِ جَازَ ما فَعَلَ لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِيمَا عَدَلَ
إلَيْهِ حتى لو أُكْرِهَ على بَيْعِ جَارِيَتِهِ فَوَهَبَهَا جَازَ لِأَنَّهُ
عَدَلَ عَمَّا أُكْرِهَ عليه لِتَغَايُرِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ
وَكَذَلِكَ لو طُولِبَ بِمَالٍ وَذَلِكَ الْمَالُ أَصْلُهُ بَاطِلٌ وَأُكْرِهَ على
أَدَائِهِ ولم يذكر له بَيْعَ الْجَارِيَةِ فَبَاعَ جَارِيَتَهُ جَازَ الْبَيْعُ
لِأَنَّهُ في بَيْعِ الْجَارِيَةِ طَائِعٌ
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْإِقْرَارِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ بِمِائَةِ دِينَارٍ
أو صِنْفٍ آخَرَ غَيْرِ ما أُكْرِهَ عليه جَازَ لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِيمَا أَقَرَّ
بِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا أُكْرِهَ على أَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ من فُلَانٍ
بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ منه بِمِائَةِ دِينَارٍ إن الْبَيْعَ فَاسِدٌ
اسْتِحْسَانًا جَائِزٌ قِيَاسًا فَقَدْ اعْتَبَرَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ
جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ في الْإِقْرَارِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا
وَاعْتَبَرَهَا جِنْسًا وَاحِدًا في الْإِنْشَاءِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُمَا
جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُمَا جُعِلَا جِنْسًا في مَوْضِعِ
الْإِنْشَاءِ بَلْ مُخَالَفَةُ الْحَقِيقَةِ لِمَعْنًى هو مُنْعَدِمٌ في
الْإِقْرَارِ وهو أَنَّ الْفَائِتَ بِالْإِكْرَاهِ هو الرِّضَا طَبْعًا
وَالْإِكْرَاهُ على الْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كما يَعْدَمُ الرِّضَا
بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يَعْدَمُ الرِّضَا بِالْبَيْعِ بِمِائَةِ دِينَارٍ
قِيمَتُهُ أَلْفٌ لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ منها وهو الثَّمَنِيَّةَ فَكَانَ
انْعِدَامُ الرِّضَا بِالْبَيْعِ بِأَحَدِهِمَا دليل ( ( ( دليلا ) ) ) على
انْعِدَامِ الرِّضَا بِالْبَيْعِ بِالْآخَرِ فَكَانَ الْإِكْرَاهُ على الْبَيْعِ
بِأَحَدِهِمَا إكْرَاهًا على الْبَيْعِ بِالْآخَرِ بِخِلَافِ ما إذَا أُكْرِهَ على
الْبَيْعِ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ بِمَكِيلٍ أو مَوْزُونٍ آخَرَ سِوَى الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَقْصُودُ مُخْتَلَفٌ فلم يَكُنْ كَرَاهَةُ
الْبَيْعِ بِأَحَدِهِمَا كَرَاهَةَ الْبَيْعِ بِالْآخَرِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا
يُوجَدُ في الْإِقْرَارِ لِأَنَّ بُطْلَانَ إقْرَارِ الْمُكْرَهِ لِانْعِدَامِ
رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ على جَانِبِ الْكَذِبِ في اخْتِيَارِهِ بِدَلَالَةِ
الْإِكْرَاهِ فيختصر ( ( ( فيختص ) ) ) بِمَوْرِدِ الْإِكْرَاهِ وهو الدَّرَاهِمُ
فَكَانَ
____________________
(7/190)
صَادِقًا
في الْإِقْرَارِ بِالدَّنَانِيرِ لِانْعِدَامِ الْمَانِعِ من الرُّجْحَانِ فيه
فَهُوَ الْفَرْقُ
وَأَمَّا إذَا زَادَ على ما وَقَعَ عليه الْإِكْرَاهُ بِأَنْ أُكْرِهَ على
الْإِقْرَارِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ بِأَلْفَيْنِ جَازَ إقْرَارُهُ بِأَلْفٍ
وَبَطَلَ بِأَلْفٍ لِأَنَّهُ في الْإِقْرَارِ بِالْأَلْفِ الزَّائِدِ طَائِعٌ
فَصَحَّ
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْإِقْرَارِ لِفُلَانٍ فَأَقَرَّ له وَلِغَيْرِهِ فَإِنْ
صَدَّقَهُ الْغَيْرُ في الشَّرِكَةِ لم يَجُزْ أَصْلًا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ
كَذَّبَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
يَجُوزُ في نَصِيبِ الْغَيْرِ خَاصَّةً
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَانِعَ من الصِّحَّةِ عِنْدَ التَّصْدِيقِ هو
الشَّرِكَةُ في مَالٍ لم يَصِحَّ الْإِقْرَارُ بِنِصْفِهِ شَائِعًا فإذا كَذَّبَهُ
لم يثبت ( ( ( تثبت ) ) ) الشَّرِكَةُ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ لِلْغَيْرِ إذْ هو
فِيمَا أَقَرَّ له بِهِ طَائِعٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ وَصِحَّةُ الْإِخْبَارِ عن
الْمَاضِي بِوُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ سَابِقًا على الْإِخْبَارِ وَالْمُخْبَرُ
بِهِ أَلْفٌ مُشْتَرَكَةٌ فَلَوْ صَحَّ إقْرَارُهُ لِغَيْرِ الْمُقَرِّ له
بِالْإِكْرَاهِ لم يَكُنْ الْمُخْبَرُ بِهِ على وَصْفِ الشَّرِكَةِ فلم يَصِحَّ
إخْبَارُهُ عن الْمُشْتَرَكِ فلم يَصِحَّ إقْرَارُهُ وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ
اخْتِلَافِهِمْ في الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ إذَا أَقَرَّ لِوَارِثِهِ
وَلِأَجْنَبِيٍّ بِالدَّيْنِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ أَصْلًا
بِالْإِجْمَاعِ إنْ صَدَّقَهُ الْأَجْنَبِيُّ بِالشَّرِكَةِ وَإِنْ كَذَّبَهُ
فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا
وَلَوْ أُكْرِهَ على هِبَةِ عَبْدِهِ لِعَبْدِ اللَّهِ فَوَهَبَهُ لِعَبْدِ
اللَّهِ وَزَيْدٍ فَسَدَتْ الْهِبَةُ في حِصَّةِ عبد اللَّهِ وَصَحَّتْ في حِصَّةِ
زَيْدٍ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ في حِصَّةِ عبد اللَّهِ لِوُرُودِ الْإِكْرَاهِ على كل
الْعَبْدِ وَالْإِكْرَاهُ على كل الشَّيْءِ إكْرَاهٌ على بَعْضِهِ فلم تَصِحَّ
الْهِبَةُ في حِصَّتِهِ طَائِعٌ في حِصَّةِ زَيْدٍ وَأَنَّهُ هِبَةُ الْمُشَاعِ
فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَصَحَّتْ في حِصَّتِهِ
وَلَوْ كان مَكَانَ الْعَبْدِ أَلْفٌ فَالْهِبَةُ في الْكُلِّ فَاسِدَةٌ
بِالْإِجْمَاعِ بين أَصْحَابِنَا
أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَظَاهِرٌ لِأَنَّ هِبَةَ
الطَّائِعِ من اثْنَيْنِ لَا تَصِحُّ عِنْدَهُ فَهِبَةُ الْمُكْرَهِ أَوْلَى
وَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّهُ لَمَّا وُهِبَ الْأَلْفُ مِنْهُمَا
وَالْهِبَةُ من أَحَدِهِمَا لَا تَصِحُّ بِحُكْمِ الْإِكْرَاهِ كان وَاهِبًا
نِصْفَ الْأَلْفِ من الْآخَرِ وَهَذِهِ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ
الْقِسْمَةَ وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا بِخِلَافِ
حَالَةِ الطَّوَاعِيَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا زَادَ على ما وَقَعَ عليه الْإِكْرَاهُ
فَأَمَّا إذَا نَقَصَ عنه بِأَنْ أُكْرِهَ على الْإِقْرَارِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ
فَأَقَرَّ بِخَمْسِمِائَةٍ فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ
لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ على أَلْفٍ إكْرَاهٌ على خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهَا بَعْضُ
الْأَلْفِ وَالْإِكْرَاهُ على كل شَيْءٍ إكْرَاهٌ على بَعْضِهِ فَكَانَ مُكْرَهًا
بِالْإِقْرَارِ بِخَمْسِمِائَةٍ فلم يَصِحَّ
وَلَوْ أُكْرِهَ على بَيْعِ جَارِيَتِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ
جَازَ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ بَاعَهَا بِأَقَلَّ من أَلْفٍ فَالْبَيْعُ
فَاسِدٌ اسْتِحْسَانًا جَائِزٌ قِيَاسًا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُكْرَهَ عليه هو الْبَيْعُ بِأَلْفٍ فإذا بَاعَ
بِأَقَلَّ منه فَقَدْ عَقَدَ عَقْدًا آخَرَ إذْ الْبَيْعُ بِأَلْفٍ غَيْرُ
الْبَيْعِ بِخَمْسِمِائَةٍ فَكَانَ طَائِعًا فيه فَجَازَ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ غَرَضَ الْمُكْرِهِ هو الْإِضْرَارُ بِالْبَائِعِ
بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ وَإِنْ قَلَّ الثَّمَنُ فَكَانَ الْإِكْرَاهُ على الْبَيْعِ
بِأَلْفٍ إكْرَاهًا على الْبَيْعِ بِأَقَلَّ منه فَبَطَلَ
بِخِلَافِ ما إذَا بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ لِأَنَّ حَالَ الْمُكْرِهِ دَلِيلٌ على
أَنَّهُ لَا يَأْمُرُهُ بِالْبَيْعِ بِأَوْفَرِ الثَّمَنَيْنِ فَكَانَ طَائِعًا في
الْبَيْعِ بِأَلْفَيْنِ فَجَازَ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ الْمَأْذُونِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في
بَيَانِ رُكْنِ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي
بَيَانِ ما يَظْهَرُ بِهِ الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ وفي بَيَانِ ما يَمْلِكُ
الْمَأْذُونُ من التَّصَرُّفِ وما لَا يَمْلِكُ وفي بَيَانِ ما يَمْلِكُ
الْمَوْلَى من التَّصَرُّفِ في الْمَأْذُونِ وَكَسْبِهِ وما لَا يَمْلِكُ حُكْمَ
تَصَرُّفِهِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْغُرُورِ في الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وفي بَيَانِ
حُكْمِ الدَّيْنِ الذي يَلْحَقُ الْمَأْذُونَ وفي بَيَانِ ما يَبْطُلُ بِهِ
الْإِذْنُ وَيَصِيرُ مَحْجُورًا وفي بَيَانِ حُكْمِ تَصَرُّفِ الْمَحْجُورِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ رُكْنُ الْإِذْنِ
بِالتِّجَارَةِ نَوْعَانِ صَرِيحٌ وَدَلَالَةٌ وَالصَّرِيحُ نَوْعَانِ خَاصٌّ
وَعَامٌّ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ مُنَجَّزٌ وَمُعَلَّقٌ
بِشَرْطٍ وَمُضَافٌ إلَى وَقْتٍ
أَمَّا الْخَاصُّ الْمُنَجَّزُ فَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ له في شَيْءٍ بِعَيْنِهِ
مِمَّا لَا يُؤْذَنُ في مِثْلِهِ لِلتِّجَارَةِ عَادَةً بِأَنْ يَقُولَ له اشْتَرِ
لي بِدِرْهَمٍ لَحْمًا أو اشْتَرِ لي طَعَامًا رِزْقًا لي أو لِأَهْلِي أو لك أو
اشْتَرِ لي ثَوْبًا أو لِأَهْلِي أو لِأَهْلِكَ أو اشْتَرِ ثَوْبًا أقطعه قَمِيصًا
وَنَحْوَ ذلك مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِهِ التِّجَارَةُ عَادَةً وَيَصِيرُ مَأْذُونًا
فِيمَا تَنَاوَلَهُ الْإِذْنُ خَاصَّةً اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَصِيرَ
مَأْذُونًا بِالتِّجَارَاتِ كُلِّهَا لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ مِمَّا لَا
يجزى فَكَانَ الْإِذْنُ في تِجَارَةٍ إذْنًا في الْكُلِّ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِذْنَ على هذا الْوَجْهِ لَا يُوجَدُ إلَّا على
وَجْهِ الِاسْتِخْدَامِ عُرْفًا وَعَادَةً فَيُحْمَلُ على الْمُتَعَارَفِ وهو
الِاسْتِخْدَامُ دُونَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ مع أَنَّهُ لو جَعَلَ الْإِذْنَ
بمثله إذْنًا
____________________
(7/191)
بِالتِّجَارَاتِ
كُلِّهَا لَصَارَ الْمَأْذُونُ بِشِرَاءِ الْبَقْلِ مَأْذُونًا في التِّجَارَةِ
وَفِيهِ سَدُّ بَابِ اسْتِخْدَامِ الْمَمَالِيكِ وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَيْهِ
فَاقْتُصِرَ على مَوْرِدِ الضَّرُورَةِ
وَأَمَّا الْعَامُّ الْمُنَجَّزُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَذِنْت لَك في
التِّجَارَاتِ أو في التِّجَارَةِ وَيَصِيرُ مَأْذُونًا في الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا
بِالْإِجْمَاعِ
وَأَمَّا إذَا أَذِنَ له في نَوْعٍ بِأَنْ قال اتَّجِرْ في الْبُرِّ أو في
الطَّعَامِ أو في الدَّقِيقِ يَصِيرُ مَأْذُونًا في التِّجَارَاتِ كُلِّهَا
عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَصِيرُ
مَأْذُونًا إلَّا في النَّوْعِ الذي تَنَاوَلَهُ ظَاهِرُ الْإِذْنِ وَكَذَلِكَ
إذَا قال له اتَّجِرْ في الْبُرِّ وَلَا تَتَّجِرْ في الْخُبْزِ لَا يَصِحُّ
نَهْيُهُ وَتَصَرُّفُهُ وَيَصِيرُ مَأْذُونًا في التِّجَارَاتِ كُلِّهَا
وَعَلَى هذا إذَا أَذِنَ له في ضَرْبٍ من الصَّنَائِعِ بِأَنْ قال له اُقْعُدْ
قَصَّارًا أو صَبَّاغًا يَصِيرُ مَأْذُونًا في التِّجَارَاتِ وَالصَّنَائِعِ
كُلِّهَا حتى كان له أَنْ يَقْعُدَ صَيْرَفِيًّا وَصَائِغًا وَكَذَلِكَ إذَا
أَذِنَ له أَنْ يَتَّجِرَ شَهْرًا أو سَنَةً يَصِيرُ مَأْذُونًا أَبَدًا ما لم
يُحْجَرْ عليه
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَبْدَ مُتَصَرِّفٌ عن إذْنٍ فَلَا يَتَعَدَّى
تَصَرُّفُهُ مَوْرِدَ الْإِذْنِ كَالْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ
حُكْمُ تَصَرُّفِهِ لِمَوْلَاهُ
وَلَنَا أَنَّ تَقْيِيدَ الْإِذْنِ بِالنَّوْعِ غَيْرُ مُفِيدٍ فَيَلْغُو
اسْتِدْلَالًا بِالْمُكَاتَبِ وَهَذَا لِأَنَّ فَائِدَةَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ
تَمْكِينُ الْعَبْدِ من تَحْصِيلِ النَّفْعِ الْمَطْلُوبِ من التِّجَارَةِ وهو
الرِّبْحُ وَهَذَا في النَّوْعَيْنِ على نَمَطٍ وَاحِدٍ وَكَذَا الضَّرَرُ الذي
يَلْزَمُهُ في الْعَقْدِ عَسَى لَا يَتَفَاوَتُ فَكَانَ الرِّضَا بِالضَّرَرِ في
أَحَدِ النَّوْعَيْنِ رِضًا بِهِ في النَّوْعِ الْآخَرِ فلم يَكُنْ التَّقْيِيدُ
بِالنَّوْعِ مُفِيدًا فَيَلْغُو وَيَبْقَى الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ عَامًّا فَيَتَنَاوَلُ
الْأَنْوَاعَ كُلَّهَا مع ما أَنَّهُ وُجِدَ الْإِذْنُ في النَّوْعِ الْآخَرِ
دَلَالَةً لِأَنَّ الْغَرَضَ من الْإِذْنِ هو حُصُولُ الرِّبْحِ وَالنَّوْعَانِ في
احْتِمَالِ الرِّبْحِ على السَّوَاءِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِأَحَدِهِمَا إذْنًا
بِالْآخَرِ دَلَالَةً وَلِهَذَا يَمْلِكُ قَبُولَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ من
غَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى صَرِيحًا لِوُجُودِهِ دَلَالَةً كَذَا هَهُنَا
وَأَمَّا الْخَاصُّ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ
فَاشْتَرِ لي بِدِرْهَمٍ لَحْمًا وَنَحْوَ ذلك وَالْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ أَنْ
يَقُولَ اشْتَرِ لي بِدِرْهَمٍ لَحْمًا غَدًا أو رَأْسَ شَهْرِ كَذَا
وَأَمَّا الْعَامُّ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ
فَقَدْ أَذِنْت لَك بِالتِّجَارَةِ وَالْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ أَنْ يَقُولَ أَذِنْت
لَك بِالتِّجَارَةِ غَدًا أو رَأْسَ شَهْرِ كَذَا وَكُلُّ وَاحِدٍ من
النَّوْعَيْنِ يَصِحُّ مُعَلَّقًا وَمُضَافًا كما يَصِحُّ مُطْلَقًا بِخِلَافِ
الْحَجْرِ في أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ وَلَا إضافته ( ( ( إضافة
) ) ) إلَى وَقْتٍ بِأَنْ يَقُولَ لِلْمَأْذُونِ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَأَنْتَ
مَحْجُورٌ أو فَقَدْ حَجَرْت عَلَيْك غَدًا أو رَأْسَ شَهْرِ كَذَا
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْإِذْنَ تَصَرُّفُ إسْقَاطٍ لِأَنَّ انْحِجَارَ
الْعَبْدِ ثَبَتَ حَقًّا لِمَوْلَاهُ وَبِالْإِذْنِ أَسْقَطَهُ وَالْإِسْقَاطَاتُ
تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ وَالْإِضَافَةَ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهِمَا
فَأَمَّا الْحَجْرُ فَإِثْبَاتُ الْحَقِّ وَإِعَادَتُهُ وَالْإِثْبَاتُ لَا
يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ وَالْإِضَافَةَ كَالرَّجْعَةِ وَنَحْوِهَا وَلِهَذَا قال
أَصْحَابُنَا إنَّ الْإِذْنَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ حتى لو أَذِنَ
لِعَبْدِهِ بِالتِّجَارَةِ شَهْرًا أو سَنَةً يَصِيرُ مَأْذُونًا أَبَدًا ما لم
يُوجَدْ الْمُبْطِلُ لِلْإِذْنِ كَالْحَجْرِ وَغَيْرِهِ إلَّا أَنْ يُؤَقَّتَ
الْإِذْنُ إلَى وَقْتِ إضَافَةِ الْحَجْرِ إلَيْهِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إذَا مَضَى
شَهْرٌ أو سَنَةٌ فَقَدْ حَجَرْت عَلَيْك أو حَجَرْت عَلَيْك رَأْسَ شَهْرِ كَذَا
وَالْحَجْرُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ فَلَغَتْ الْإِضَافَةُ
وَبَقِيَ الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ مُطْلَقًا إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُبْطِلُ
وَأَمَّا الْإِذْنُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَنَحْوُ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ يَبِيعُ
وَيَشْتَرِي فَلَا يَنْهَاهُ وَيَصِيرُ مَأْذُونًا في التِّجَارَةِ عِنْدَنَا
إلَّا في الْبَيْعِ الذي صَادَفَهُ السُّكُوتُ وَأَمَّا في الشِّرَاءِ فَيَصِيرُ
مَأْذُونًا وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَصِيرُ
مَأْذُونًا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ السُّكُوتَ يَحْتَمِلُ الرِّضَا وَيَحْتَمِلُ السُّخْطَ
فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلُ الْإِذْنِ مع الِاحْتِمَالِ وَلِهَذَا لم يَنْفُذْ
تَصَرُّفُهُ الذي صَادَفَهُ السُّكُوتُ
وَلَنَا أَنَّهُ يُرَجَّحُ جَانِبُ الرِّضَا على جَانِبِ السُّخْطِ لِأَنَّهُ لو
لم يَكُنْ رَاضِيًا لَنَهَاهُ إذْ النَّهْيُ عن الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ فَكَانَ
احْتِمَالُ السُّخْطِ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا فَكَانَ سَاقِطَ الِاعْتِبَارِ
شَرْعًا
وَأَمَّا التَّصَرُّفُ الذي صَادَفَهُ السُّكُوتُ فَإِنْ كان شِرَاءً يَنْفُذْ
وَإِنْ كان بَيْعًا قَائِمًا لم يَنْفُذْ لإنعدام الْمَقْصُودِ من الْإِذْنِ
بِالتِّجَارَةِ على ما نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَسَوَاءٌ رَآهُ
يَبِيعُ بَيْعًا صَحِيحًا أو بَيْعًا فَاسِدًا إذَا سَكَتَ ولم يَنْهَهُ يَصِيرُ
مَأْذُونًا لِأَنَّ وَجْهَ دَلَالَةِ السُّكُوتِ على الْإِذْنِ لَا يَخْتَلِفُ
وَكَذَلِكَ لو رَآهُ الْمَوْلَى يَبِيعُ مَالَ أَجْنَبِيٍّ فَسَكَتَ يَصِيرُ
مَأْذُونًا وَإِنْ لم يَجُزْ الْبَيْعُ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ لو بَاعَ مَالَ مَوْلَاهُ وَالْمَوْلَى حَاضِرٌ فَسَكَتَ لم يَجُزْ ذلك
الْبَيْعُ وَيَصِيرُ مَأْذُونًا في التِّجَارَةِ لِأَنَّ غَرَضَ الْمَوْلَى من
الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ حُصُولُ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الْمَضَرَّةِ وَذَلِكَ
بِاكْتِسَابِ ما لم يَكُنْ لَا بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ عن مَالٍ كَائِنٍ وَلَا
يَنْجَبِرُ هذا الضَّرَرُ بِالثَّمَنِ لِأَنَّ الناس رَغَائِبُ في الْأَعْيَانِ ما
ليس في أَبْدَالِهَا حتى لو كان شِرَاءً يَنْفُذُ لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ ثُمَّ
لَا حُكْمَ لِلسُّكُوتِ إلَّا في مَوَاضِعَ
____________________
(7/192)
منها
سُكُوتُ الْمَوْلَى عِنْدَ تَصَرُّفِ الْعَبْدِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وقد
ذَكَرْنَاهُ
وَمِنْهَا سُكُوتُ الْبَالِغَةِ الْبِكْرِ عِنْدَ استثمار ( ( ( استئمار ) ) )
الْوَلِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ إذْنًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ يَكُونُ إجَازَةً
وَمِنْهَا سُكُوتُ الشَّفِيعِ إذَا عَلِمَ بِالشِّرَاءِ أَنَّهُ يَكُونُ
تَسْلِيمًا لِلشُّفْعَةِ
وَمِنْهَا سُكُوتُ الْوَاهِبِ أو الْمُتَصَدِّقِ عِنْدَ قَبْضِ الْمَوْهُوبِ له
وَالْمُتَصَدَّقِ عليه بِحَضْرَتِهِ أَنْ يَكُونَ إذْنًا بِالْقَبْضِ
وَمِنْهَا سُكُوتُ الْمَجْهُولِ النَّسَبِ إذَا بَاعَهُ إنْسَانٌ بِحَضْرَتِهِ
وقال له قُمْ فَاذْهَبْ مع مَوْلَاك فَقَامَ وَسَكَتَ أَنَّهُ يَكُونُ إقْرَارًا
منه بِالرِّقِّ حتى لَا تَسْمَعَ دَعْوَاهُ الْحُرِّيَّةَ بَعْدَ ذلك
وَأَمَّا سُكُوتُ الْبَائِعِ بَيْعًا صَحِيحًا بِثَمَنٍ حَالٍّ عِنْدَ قَبْضِ
الْمُشْتَرِي بِحَضْرَتِهِ هل يَكُونُ إذْنًا بِالْقَبْضِ ذَكَرَ فيها ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إذْنًا بِالْقَبْضِ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَكُونُ إذْنًا كما في الْبَيْعِ
الْفَاسِدِ وَدَلَائِلُ هذه الْمَسَائِلِ نَذْكُرُهَا في مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى
وَعَلَى هذا إذَا قال لِعَبْدِهِ أَدِّ إلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ كَذَا أو كُلَّ شَهْرٍ
كَذَا يَصِيرُ مَأْذُونًا لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ من أَدَاءِ الْغَلَّةِ إلَّا
بِالْكَسْبِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِأَدَاءِ الْغَلَّةِ إذْنًا بِالتِّجَارَةِ
وَكَذَلِكَ لو قال لِعَبْدِهِ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ أو قال إنْ
أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ يَصِيرُ مَأْذُونًا لِأَنَّ غَرَضَهُ
حَمْلُ الْعَبْدِ على الْعِتْقِ بِوَاسِطَةِ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ وَلَا
يَتَمَكَّنُ من تَحْصِيلِهِ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ فَكَانَ التَّعْلِيقُ دَلِيلًا
على الْإِذْنِ
وَكَذَلِكَ إذَا قال له أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ
سَوَاءٌ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ في التَّعْلِيقِ عُرْفًا وَعَادَةً
وَلَوْ قال له أَدِّ وَأَنْتَ حُرٌّ لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا وَيُعْتَقُ لِلْحَالِ
لِأَنَّ هذا تَنْجِيزٌ وَلَيْسَ بِتَعْلِيقٍ وَعَلَى هذا إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ
يَصِيرُ مَأْذُونًا لِأَنَّهُ لَمَّا كَاتَبَهُ فَقَدْ جَعَلَهُ أَحَقَّ
بِكَسْبِهِ وَلَا يَكُونُ ذلك إلَّا بِالتِّجَارَةِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ
لِمَنْ يَعْقِلُ التِّجَارَةَ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ لِمَنْ لَا
يَعْقِلُ سَفَهٌ فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِذْنِ
فَيَصِحُّ الْإِذْنُ لِلْعَبْدِ بَالِغًا كان أو صَبِيًّا بَعْدَ أَنْ كان
يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ كان يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ من غَيْرِ فَصْلٍ فَدَلَّ
الْحَدِيثُ على جَوَازِ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ ما كان لِيُجِيبَ دَعْوَةَ الْمَحْجُورِ وَيَأْكُلَ من كَسْبِهِ
فَتَعَيَّنَ الْمَأْذُونُ
وَكَذَا الْإِذْنُ لِلْأَمَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ بَعْدَ أَنْ
عَقَلُوا التِّجَارَةَ لِأَنَّ اسْمَ الْمَمْلُوكِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ
وَكَذَا يَجُوزُ الْإِذْنُ لِلصَّبِيِّ الْحُرِّ بِالتِّجَارَةِ إذَا كان يَعْقِلُ
التِّجَارَةَ
وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِذْنُ لِلصَّبِيِّ
بِالتِّجَارَةِ بِحَالٍ حُرًّا كان أو عَبْدًا وَكَذَا سَلَامَةُ الْعَقْلِ عن
الْفَسَادِ أَصْلًا ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِذْنِ عِنْدَنَا حتى يَجُوزَ
الْإِذْنُ لِلْمَعْتُوهِ الذي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِالتِّجَارَةِ
وَعِنْدَهُ شَرْطٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الصَّبِيَّ ليس من أَهْلِ التِّجَارَةِ فَلَا يَصِحُّ
الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ وَهَذَا لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ التِّجَارَةِ بالعقل ( ( (
بالعقد ) ) ) الْكَامِلِ لأنها تَصَرُّفٌ دَائِرٌ بين الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ فَلَا
بُدَّ لها من كَمَالِ الْعَقْلِ وَعَقْلُ الصَّبِيِّ نَاقِصٌ فَلَا يَكْفِي لِأَهْلِيَّةِ
التِّجَارَةِ وَلِهَذَا لم يُعْتَبَرْ عَقْلُهُ في الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ
وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ
كَذَا هَهُنَا
وَلَنَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى } أَمَرَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأَوْلِيَاءَ بِابْتِلَاءِ الْيَتَامَى والإبتلاء هو
الْإِظْهَارُ فَابْتِلَاءُ الْيَتِيمِ إظْهَارُ عَقْلِهِ بِدَفْعِ شَيْءٍ من
أَمْوَالِهِ إلَيْهِ لِيَنْظُرَ الْوَلِيُّ أَنَّهُ هل يَقْدِرُ على حِفْظِ
أَمْوَالِهِ عِنْدَ النَّوَائِبِ وَلَا يَظْهَرُ ذلك إلَّا بِالتِّجَارَةِ فَكَانَ
الْأَمْرُ بِالِابْتِلَاءِ إذْنًا بِالتِّجَارَةِ وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ إذَا كان
يَعْقِلُ التِّجَارَةَ يَعْقِلُ النَّافِعَ من الضَّارِّ فَيَخْتَارُ
الْمَنْفَعَةَ على الْمَضَرَّةِ ظَاهِرًا فَكَانَ أَهْلًا لِلتِّجَارَةِ
كَالْبَالِغِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهَا
لِأَنَّهَا من التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ لِكَوْنِهَا إزَالَةَ
مِلْكٍ لَا إلَى عِوَضٍ فلم يُجْعَلْ الصَّبِيُّ أَهْلًا لها نَظَرًا دَفْعًا
لِلضَّرَرِ عنه
وَمِنْهَا الْعِلْمُ بِالْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ في أَحَدِ نَوْعَيْ الْإِذْنِ
بِلَا خِلَافٍ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ الْإِذْنَ بِالْإِضَافَةِ إلَى الناس ضَرْبَانِ إذْنُ
إسْرَارٍ وَإِذْنُ إعْلَانٍ وهو الْمُسَمَّى بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ في
الْكِتَابِ فَالْخَاصُّ أَنْ يَقُولَ أَذِنْت لِعَبْدِي في التِّجَارَةِ لَا على
وَجْهٍ يُنَادِي أَهْلَ السُّوقِ فيقول بَايِعُوا عَبْدِي فُلَانًا فَإِنِّي قد
أَذِنْت له في التِّجَارَةِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ الْعِلْمَ بِالْإِذْنِ شَرْطٌ
لِصِحَّةِ الْإِذْنِ في هذا النَّوْعِ لِأَنَّ الْإِذْنَ هو الْإِعْلَامُ قال
اللَّهُ تَعَالَى { وَأَذَانٌ من اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أَيْ إعْلَامٌ وَالْفِعْلُ
لَا يُعْرَفُ إعْلَامًا إلَّا بَعْدَ تَعَلُّقِهِ بالمعلم ( ( ( بالعلم ) ) )
وَلِأَنَّ إذْنَ الْعَبْدِ يُعْتَبَرُ بِإِذْنِ الشَّرْعِ ثُمَّ حُكْمُ الْإِذْنِ
من الشَّرْعِ لَا يَثْبُتُ في حَقِّ الْمَأْذُونِ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ
فَعَلَى ذلك إذْنُ الْعَبْدِ وَلِهَذَا كان الْعِلْمُ بِالْوَكَالَةِ شَرْطًا
لِصِحَّتِهَا على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْوَكَالَةِ
كَذَا هذا حتى لم يَصِحَّ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ قبل الْعِلْمِ بِالْوَكَالَةِ
وَأَمَّا في الْإِذْنِ الْعَامِّ فَقَدْ ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْمَأْذُونِ
أَنَّهُ يَصِيرُ مَأْذُونًا وَإِنْ لم يَعْلَمْ بِهِ الْعَبْدُ
وَذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ فِيمَنْ قال لِأَهْلِ السُّوقِ بَايِعُوا ابْنِي
فُلَانًا فَبَايَعُوهُ وَالصَّبِيُّ لَا يَعْلَمُ ===