ح4. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ قَدْرِ صَلَاةِ
الْعِيدَيْنِ وَكَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا فَنَقُولُ يُصَلِّي الْإِمَامُ
رَكْعَتَيْنِ فَيُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ ثُمَّ يَسْتَفْتِحُ فيقول
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَى آخِرِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وَعِنْدَ ابْنِ أبي لَيْلَى يَأْتِي بِالثَّنَاءِ بَعْدَ التَّكْبِيرَاتِ وَهَذَا
غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الِاسْتِفْتَاحَ كَاسْمِهِ وُضِعَ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ
فَكَانَ مَحِلُّهُ ابْتِدَاءَ الصَّلَاةِ ثُمَّ يَتَعَوَّذُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُؤَخِّرُ التَّعَوُّذَ عن
التَّكْبِيرَاتِ بِنَاءً على أَنَّ التَّعَوُّذَ سُنَّةُ الِافْتِتَاحِ أو سُنَّةُ
الْقِرَاءَةِ على ما ذَكَرْنَا ثُمَّ يَقْرَأُ ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ
الرُّكُوعِ فإذا قام إلَى الثَّانِيَةِ يَقْرَأُ أَوَّلًا ثُمَّ يُكَبِّرُ
ثَلَاثًا وَيَرْكَعُ بِالرَّابِعَةِ
فَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ عِنْدَنَا يُكَبِّرُ في صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ تِسْعَ
تَكْبِيرَاتٍ سِتَّةٌ من الزَّوَائِدِ وثلاث ( ( ( وثلاثة ) ) ) أَصْلِيَّاتٌ
تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَتَا الرُّكُوعِ وَيُوَالِي بين
الْقِرَاءَتَيْنِ فَيَقْرَأُ في الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَعْدَ التَّكْبِيرَاتِ وفي
الثَّانِيَةِ قبل التَّكْبِيرَاتِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً سَبْعًا
في الْأُولَى وَخَمْسًا في الثَّانِيَةِ فَتَكُونُ الزَّوَائِدُ تِسْعًا خَمْسٌ في
الْأُولَى وَأَرْبَعٌ في الثَّانِيَةِ وَثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ وَيَبْدَأُ بالتكبير
( ( ( بالتكبيرات ) ) ) في كل وَاحِدَةٍ من الرَّكْعَتَيْنِ
وقال الشَّافِعِيُّ يُكَبِّرُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً سَبْعًا في
الْأُولَى وَخَمْسًا في الثَّانِيَةِ سِوَى الْأَصْلِيَّاتِ وهو قَوْلُ مَالِكٍ
وَيَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرَاتِ قبل الْقِرَاءَةِ في الرَّكْعَتَيْنِ جميعا
وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رُوِيَ عن عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ
بن مَسْعُودٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ
وَحُذَيْفَةَ بن الْيَمَانِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا مِثْلَ قَوْلِ
أَصْحَابِنَا
وَرُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ فَرَّقَ بين الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى
فقال في الْفِطْرِ يُكَبِّرُ إحْدَى عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً ثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ
وَثَمَانٍ زَوَائِدُ في كل رَكْعَةٍ أَرْبَعَةٌ وفي الْأَضْحَى يُكَبِّرُ خَمْسَ
تَكْبِيرَاتٍ ثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ وَتَكْبِيرَتَانِ زَائِدَتَانِ وَعِنْدَهُ
يُقَدِّمُ الْقِرَاءَةَ على التَّكْبِيرَاتِ في الرَّكْعَتَيْنِ جميعا
وعن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ رُوِيَ عنه كَقَوْلِ
ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَنَّهُ شَاذٌّ وَالْمَشْهُورُ عنه رِوَايَتَانِ
إحْدَاهُمَا أَنَّهُ يُكَبِّرُ في الْعِيدَيْنِ ثَلَاثَةَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً
ثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ وَعَشْرَةٌ زَوَائِدُ في كل رَكْعَةٍ خَمْسُ تَكْبِيرَاتٍ
وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ يُكَبِّرُ اثْنَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً كما قال أبو
يُوسُفَ وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يُقَدِّمُ الْقِرَاءَةَ على
التَّكْبِيرَاتِ في الرَّكْعَتَيْنِ جميعا وَالْمُخْتَارُ في الْمَذْهَبِ
عِنْدَنَا مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ لِاجْتِمَاعِ الصَّحَابَةِ عليه فإنه رُوِيَ
أَنَّ الْوَلِيدَ بن عُقْبَةَ أَتَاهُمْ فقال غَدًا الْعِيدُ فَكَيْفَ
تَأْمُرُونِي أَنْ أَفْعَلَ فَقَالُوا لِابْنِ مَسْعُودٍ عَلِّمْهُ فَعَلَّمَهُ
هذه الصِّفَةَ وَوَافَقُوهُ على ذلك وَقِيلَ أنه مُخْتَارُ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
وَلِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرَاتِ بِدْعَةٌ في الْأَصْلِ فَبِقَدْرِ
ما ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ لم تَبْقَ بِدْعَةً بِيَقِينٍ وما دخل تَحْتَ
الِاخْتِلَافِ كان تَوَهُّمَ الْبِدْعَةِ وَإِنَّمَا الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ
أَوْلَى وَأَحْوَطُ إلَّا أَنَّ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ ظَهَرَ الْعَمَلُ
بِأَكْثَرِ بِلَادِنَا لِأَنَّ الْخِلَافَةَ في بَنِي الْعَبَّاسِ فَيَأْمُرُونَ
عُمَّالَهُمْ بِالْعَمَلِ بِمَذْهَبِ جَدِّهِمْ
وَبَيَانُ هذه الْفُصُولِ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ ولم يُبَيِّنْ في الْأَصْلِ
مِقْدَارَ الْفَصْلِ بين التَّكْبِيرَاتِ وقد رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ
يَسْكُتُ بين كل تَكْبِيرَتَيْنِ مقدار ( ( ( قدر ) ) ) ثَلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ
وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ
روى ( ( ( وحكى ) ) ) أبو عِصْمَةَ عن أبي يُوسُفَ إنه لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ في
شَيْءٍ منها لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان
لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ في الصَّلَاةِ إلَّا في تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ
وَلِأَنَّهَا سُنَّةٌ فَتَلْتَحِقُ بِجِنْسِهَا وهو تَكْبِيرَتَا الرُّكُوعِ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا من الحديث الْمَشْهُورِ لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا في
سَبْعِ مَوَاطِنَ وَذَكَرَ من جُمْلَتِهَا تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَلِأَنَّ
الْمَقْصُودَ هو إعْلَامُ ( وهو ( ( ( الأصم ) ) ) ) لَا يَحْصُلُ إلَّا
بِالرَّفْعِ فَيَرْفَعُ كَتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وتكبير ( ( ( وتكبيرات ) ) )
الْقُنُوتِ بِخِلَافِ تَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ لِأَنَّهُ يُؤْتَى بِهِمَا في
حَالِ الِانْتِقَالِ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالرُّؤْيَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى
رَفْعِ الْيَدِ لِلْإِعْلَامِ وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ مَحْمُولٌ على الصَّلَاةِ
الْمَعْهُودَةِ الْمَكْتُوبَةِ وَيَقْرَأُ في الرَّكْعَتَيْنِ أَيَّ سُورَةٍ شَاءَ
وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ كان يَقْرَأُ في
صَلَاةِ الْعِيدِ { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى } وَ { هل أَتَاك حَدِيثُ
الْغَاشِيَةِ } فَإِنْ تَبَرَّكَ بِالِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم في قِرَاءَةِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ في أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ
فَحَسَنٌ لَكِنْ يُكْرَهُ أَنْ ( يتخذهما ( ( ( يتحد ) ) ) ) حَتْمًا لَا يُقْرَأُ
فيها غَيْرُهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا في الْجُمُعَةِ ويجهر ( ( ( وبجهر ) ) )
بالقراءة ( ( ( القراءة ) ) ) كَذَا وَرَدَ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ عن النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم بِالْجَهْرِ بِهِ وَبِهِ جَرَى التَّوَارُثُ من الصَّدْرِ
الْأَوَّلِ إلَى يَوْمِنَا هذا
ثُمَّ الْمُقْتَدِي يُتَابِعُ الْإِمَامَ في التَّكْبِيرَاتِ على رَأْيِهِ وَإِنْ
كَبَّرَ أَكْثَرَ من تِسْعٍ ما لم يُكَبِّرْ تَكْبِيرًا لم يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ من
الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِإِمَامِهِ فَيَجِبُ عليه
مُتَابَعَتُهُ وَتَرْكُ رَأْيِهِ بِرَأْيِ الْإِمَامِ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ
____________________
(1/277)
فَلَا
تَخْتَلِفُوا ( عليه )
وَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَابِعْ إمَامَك على أَيِّ حَالٍ وَجَدْته ما لم
يَظْهَرْ خطأه بِيَقِينٍ كان اتِّبَاعُهُ وَاجِبًا وَلَا يَظْهَرُ ذلك في
الْمُجْتَهَدَاتِ
فَأَمَّا إذَا خَرَجَ عن أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ فَقَدْ ظَهَرَ خطأه بِيَقِينٍ
فَلَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ إذْ لَا مُتَابَعَةَ في الخطأ وَلِهَذَا لو اقْتَدَى
بِمَنْ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَرَفْعِ الرَّأْسِ منه أو بِمَنْ
يَقْنُتُ في الْفَجْرِ أو بِمَنْ يَرَى خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ في صَلَاةِ
الْجِنَازَةِ لَا يُتَابِعُهُ لِظُهُورِ خَطَئِهِ بِيَقِينٍ لِأَنَّ ذلك كُلَّهُ
مَنْسُوخٌ
ثُمَّ إلَى كَمْ يُتَابِعُهُ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فيه قال عَامَّتُهُمْ أنه
يُتَابِعُهُ إلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً ثُمَّ يَسْكُتُ بَعْدَ ذلك
قال بَعْضُهُمْ يُتَابِعُهُ إلَى سِتَّةَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً لِأَنَّ فِعْلَهُ
إلَى هذا الْمَوْضِعِ مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ فَلَعَلَّ هذا الْقَائِلَ ذَهَبَ
إلَى أن ابْنَ عَبَّاسٍ أَرَادَ بِقَوْلِهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً
الزَّوَائِدَ فإذا ضَمَمْت إلَيْهَا تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَتَيْ
الرُّكُوعِ صَارَتْ ستة ( ( ( ست ) ) ) عشر تَكْبِيرَةً لَكِنْ هذا إذَا كان
يَقْرُبُ من الْإِمَامِ يَسْمَعُ التَّكْبِيرَاتِ منه فَأَمَّا إذَا كان يَبْعُدُ
منه يَسْمَعُ من الْمُكَبِّرِينَ يَأْتِي بِجَمِيعِ ما يَسْمَعُ وَإِنْ خَرَجَ عن
أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ لِجَوَازِ أَنَّ الْغَلَطَ من الْمُكَبِّرِينَ فَلَوْ
تَرَكَ شيئا منها رُبَّمَا كان الْمَتْرُوكُ ما أتى بِهِ الْإِمَامُ
وَالْمَأْتِيُّ بِهِ ما أَخْطَأَ فيه الْمُكَبِّرُونَ فَيُتَابِعُهُمْ
لِيَتَأَدَّى ما يَأْتِيه الْإِمَامُ بِيَقِينٍ وَلِهَذَا قِيلَ إذَا كان
الْمُقْتَدِي يَبْعُدُ من الْإِمَامِ يَسْمَعُ من الْمُكَبِّرِينَ يَنْبَغِي أَنْ
يَنْوِيَ بِكُلٍّ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ لِجَوَازِ أَنَّ ما سمع قبل هذه كان
غَلَطًا من الْمُنَادِي وَإِنَّمَا كَبَّرَ الْإِمَامُ لِلِافْتِتَاحِ الْآنَ
وَلَوْ شَرَعَ الْإِمَامُ في صَلَاةِ الْعِيدِ فَجَاءَ رَجُلٌ وَاقْتَدَى بِهِ
فَإِنْ كان قبل التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ يُتَابِعُ الْإِمَامَ على مَذْهَبِهِ
وَيَتْرُكُ رَأْيَهُ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ أَدْرَكَهُ بعدما كَبَّرَ الْإِمَامُ الزَّوَائِدَ
وَشَرَعَ في الْقِرَاءَةِ فإنه يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ وَيَأْتِي
بِالزَّوَائِدِ بِرَأْيِ نَفْسِهِ لَا بِرَأْيِ الْإِمَامِ
لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ وَإِنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ في الرُّكُوعِ
فَإِنْ لم يَخَفْ فَوْتَ الرُّكُوعِ مع الْإِمَامِ يُكَبِّرُ لِلِافْتِتَاحِ
قَائِمًا
وَيَأْتِي بِالزَّوَائِدِ ثُمَّ يُتَابِعُ الْإِمَامَ في الرُّكُوعِ
وَإِنْ كان الِاشْتِغَالُ بِقَضَاءِ ما سُبِقَ بِهِ الْمُصَلِّي قبل الْفَرَاغِ
بِمَا أَدْرَكَهُ مَنْسُوخًا لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيمَا
يَتَمَكَّنُ من قَضَائِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ
فَأَمَّا ما لَا يَتَمَكَّنُ من قَضَائِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ فلم يَثْبُتْ
فيه النَّسْخُ
وَلِأَنَّهُ لو تَابَعَ الْإِمَامَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِهَذِهِ
التَّكْبِيرَاتِ أو لَا يَأْتِي بها
فَإِنْ كان لَا يَأْتِي بها فَهَذَا تَفْوِيتُ الْوَاجِبِ وَإِنْ كان يَأْتِي بها
فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ فِيمَا هو مَحَلٌّ له من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَكَانَ
فيه تَفْوِيتُهُ عن مَحِلِّهِ من وَجْهٍ
وَلَا شَكَّ أَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ فِيمَا هو مَحِلٌّ له من وَجْهٍ أَوْلَى من
تَفْوِيتِهِ رَأْسًا
وَإِنْ خَافَ إنْ كَبَّرَ يَرْفَعُ الْإِمَامُ رَأْسَهُ من الرُّكُوعِ كَبَّرَ
لِلِافْتِتَاحِ وَكَبَّرَ لِلرُّكُوعِ وَرَكَعَ لِأَنَّهُ لو لم يَرْكَعْ
يَفُوتُهُ الرُّكُوعُ فَتَفُوتُهُ الرَّكْعَةُ بِفَوْتِهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ
التَّكْبِيرَاتِ أَيْضًا فَاتَتْهُ فَيَصِيرُ بِتَحْصِيلِ التَّكْبِيرَاتِ
مُفَوِّتًا لها وَلِغَيْرِهَا من أَرْكَانِ الرَّكْعَةِ
وَهَذَا لَا يَجُوزُ
ثُمَّ إذَا رَكَعَ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ في الرُّكُوعِ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وقال أبو يُوسُفَ لَا يُكَبِّرُ لِأَنَّهُ فَاتَ عن مَحِلِّهَا وهو الْقِيَامُ
فَيَسْقُطُ كَالْقُنُوتِ
وَلَهُمَا أَنَّ لِلرُّكُوعِ حُكْمُ الْقِيَامِ
أَلَا تَرَى أَنَّ مُدْرِكَهُ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ فَكَانَ مَحِلُّهَا
قَائِمًا فَيَأْتِي بها وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ بِخِلَافِ الْقُنُوتِ لِأَنَّهُ
بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ فَكَانَ مَحِلُّهُ الْقِيَامَ الْمَحْضَ وقد فَاتَ
ثُمَّ إنْ أَمْكَنَهُ الْجَمْعُ بين التَّكْبِيرَاتِ وَالتَّسْبِيحَاتِ جَمَعَ
بَيْنَهُمَا وَإِنْ لم يُمْكِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يأتي بِالتَّكْبِيرَاتِ
دُونَ التَّسْبِيحَاتِ لِأَنَّ التَّكْبِيرَاتِ وَاجِبَةٌ وَالتَّسْبِيحَاتِ
سُنَّةٌ وَالِاشْتِغَالُ بِالْوَاجِبِ أَوْلَى فَإِنْ رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ
من الرُّكُوعِ قبل أَنْ يُتِمَّهَا رَفَعَ رَأْسَهُ لِأَنَّ مُتَابَعَةَ
الْإِمَامِ وَاجِبَةٌ وَسَقَطَ عنه ما بَقِيَ من التَّكْبِيرَاتِ لِأَنَّهُ فَاتَ
مَحِلُّهَا
وَلَوْ رَكَعَ الْإِمَامُ بَعْدَ فَرَاغِهِ من الْقِرَاءَةِ في الرَّكْعَةِ
الْأُولَى فَتَذَكَّرَ إنه لم يُكَبِّرْ فإنه يَعُودُ وَيُكَبِّرُ وقد انْتَقَضَ
رُكُوعُهُ وَلَا يُعِيدُ الْقِرَاءَةَ
فَرْقٌ بين الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي حَيْثُ أَمَرَ الْإِمَامَ بِالْعَوْدِ إلَى
الْقِيَامِ ولم يَأْمُرْهُ بِأَدَاءِ التَّكْبِيرَاتِ في حَالَةِ الرُّكُوعِ
وفي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَمَرَ الْمُقْتَدِيَ بِالتَّكْبِيرَاتِ في
حَالَةِ الرُّكُوعِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ مَحِلَّ التَّكْبِيرَاتِ في الْأَصْلِ الْقِيَامُ الْمَحْضُ
وَإِنَّمَا أَلْحَقْنَا حَالَةَ الرُّكُوعِ بِالْقِيَامِ في حَقِّ الْمُقْتَدِي
ضَرُورَةَ وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لم تَتَحَقَّقْ في حَقِّ
الْإِمَامِ فَبَقِيَ مَحِلُّهَا الْقِيَامُ الْمَحْضُ فَأُمِرَ بِالْعَوْدِ
إلَيْهِ
ثُمَّ من ضَرُورَةِ الْعَوْدِ إلَى الْقِيَامِ ارْتِفَاضُ الرُّكُوعِ كما لو
تَذَكَّرَ الْفَاتِحَةَ في الرُّكُوعِ أَنَّهُ يَعُودُ وَيَقْرَأُ وَيَرْتَفِضُ
رُكُوعُهُ كَذَا هَهُنَا وَلَا يُعِيدُ الْقِرَاءَةَ لِأَنَّهَا تَمَّتْ
بِالْفَرَاغِ عنها وَالرُّكْنُ بَعْدَ تَمَامِهِ وَالِانْتِقَالُ عنه غَيْرُ
قَابِلٍ لِلنَّقْضِ وَالْإِبْطَالِ فَبَقِيَتْ على ما تَمَّتْ
هذا إذَا تَذَكَّرَ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْقِرَاءَةِ فَأَمَّا إنْ تَذَكَّرَ قبل
الْفَرَاغِ عنها بِأَنْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ دُونَ السُّورَةِ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ
وَيَأْتِي بِالتَّكْبِيرَاتِ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَ بِالْقِرَاءَةِ قبل أَوَانِهَا
فَيَتْرُكُهَا وَيَأْتِي بِمَا هو الْأَهَمُّ لِيَكُونَ الْمَحِلُّ مَحِلًّا له
ثُمَّ يُعِيدُ الْقِرَاءَةَ
____________________
(1/278)
لِأَنَّ
الرُّكْنَ مَتَى تُرِكَ قبل تَمَامِهِ يُنْتَقَضُ من الْأَصْلِ لِأَنَّهُ لَا
يَتَجَزَّأُ في نَفْسِهِ وما لَا يَتَجَزَّأُ في الْحُكْمِ فَوُجُودُهُ مُعْتَبَرٌ
بِوُجُودِ الْجُزْءِ الذي بِهِ تَمَامُهُ في الْحُكْمِ وَنَظِيرُهُ من تَذَكَّرَ
سَجْدَةً في الرُّكُوعِ خَرَّ لها وَيُعِيدُ الرُّكُوعَ لِمَا مَرَّ
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
هذا إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ في الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَإِنْ أَدْرَكَهُ في
الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ كَبَّرَ لِلِافْتِتَاحِ وَتَابَعَ إمَامَهُ في
الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَتْبَعُ فيها رَأْيَ إمَامِهِ لِمَا قُلْنَا فإذا
فَرَغَ الْإِمَامُ من صَلَاتِهِ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ ما سُبِقَ بِهِ
ثُمَّ إنْ كان رَأْيُهُ يُخَالِفُ رَأْيَ الْإِمَامِ يَتْبَعُ رَأْيَ نَفْسِهِ
لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يَقْضِي بِخِلَافِ اللَّاحِقِ لِأَنَّهُ في الْحُكْمِ
كَأَنَّهُ خَلْفُ الْإِمَامِ وَإِنْ كان رَأْيُهُ مُوَافِقًا لِرَأْيِ إمَامِهِ
بِأَنْ كان إمَامُهُ يَرَى رَأْيَ ابْنِ مَسْعُودٍ وهو كَذَلِكَ بَدَأَ
بِالْقِرَاءَةِ ثُمَّ بِالتَّكْبِيرَاتِ كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ
وَالزِّيَادَاتِ
وفي نَوَادِرِ أبي سُلَيْمَانَ في أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ وقال في الْمَوْضِعِ
الْآخَرِ يَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ بِالْقِرَاءَةِ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال ما ذُكِرَ في الْأَصْلِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ
عِنْدَهُ ما يَقْضِي الْمَسْبُوقُ آخِرَ صَلَاتِهِ وَعِنْدَنَا في الرَّكْعَةِ
الثَّانِيَةِ يَقْرَأُ ثُمَّ يُكَبِّرُ وما ذُكِرَ في النَّوَادِرِ قَوْلُ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا ما يَقْضِيهِ الْمَسْبُوقُ أَوَّلَ
صَلَاتِهِ وَعِنْدَنَا في الرَّكْعَةِ الْأُولَى يُكَبِّرُ ثُمَّ يَقْرَأُ
وَمِنْهُمْ من قال لَا خِلَافَ في الْمَسْأَلَةِ بين أَصْحَابِنَا بَلْ فيها
اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ
وَجْهُ رِوَايَةِ النوادر ( ( ( والنوادر ) ) ) ما ذَكَرْنَا أَنَّ ما يَقْضِيهِ
الْمَسْبُوقُ أَوَّلَ صَلَاتِهِ لِأَنَّهُ يَقْضِي ما فَاتَهُ فَيَقْضِيهِ كما
فَاتَهُ وقد فَاتَهُ على وَجْهٍ يُقَدِّمُ التَّكْبِيرَ فيه على الْقِرَاءَةِ
فَيَقْضِيهِ كَذَلِكَ وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ إن الْمَقْضِيَّ وَإِنْ كان
أَوَّلَ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَلَكِنَّهُ الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ صُورَةً
وَفِيمَا أَدْرَكَ مع الْإِمَامِ قَرَأَ ثُمَّ كَبَّرَ لِأَنَّهَا ثَانِيَةُ
الْإِمَامِ فَلَوْ قَدَّمَ هَهُنَا ما يقضى أَدَّى ذلك إلَى الْمُوَالَاةِ بين
التكبيرات ( ( ( التكبيرتين ) ) ) ولم يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ من الصَّحَابَةِ فَلَا
يَفْعَلُ كَذَلِكَ احْتِرَازًا عن مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ بِصُورَةِ هذا
الْفِعْلِ
وَلَوْ بَدَأَ بِالْقِرَاءَةِ لَكَانَ فيه تَقْدِيمُ الْقِرَاءَةِ في
الرَّكْعَتَيْنِ لَكِنْ هذا مَذْهَبُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وَلَا شَكَّ أَنَّ
الْعَمَلَ بِمَا قَالَهُ أَحَدٌ من الصَّحَابَةِ أَوْلَى من الْعَمَلِ بِمَا لم
يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ إذْ هو بَاطِلٌ بِيَقِينٍ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُفْسِدُهَا وَبَيَانُ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ أو
فَاتَتْ عن وَقْتِهَا فَكُلُّ ما يُفْسِدُ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ وما يُفْسِدُ
الْجُمُعَةَ يُفْسِدُ صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ من خُرُوجِ الْوَقْتِ في خِلَالِ
الصَّلَاةِ أو بعد ما قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَفَوْتِ الْجَمَاعَةِ على
التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في الْجُمُعَةِ غير إنها إنْ
فَسَدَتْ بِمَا يَفْسُدُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ من الْحَدَثِ الْعَمْدِ
وَغَيْرِ ذلك يَسْتَقْبِلُ الصَّلَاةَ على شَرَائِطِهَا وَإِنْ فَسَدَتْ بِخُرُوجِ
الْوَقْتِ أو فَاتَتْ عن وَقْتِهَا مع الْإِمَامِ سَقَطَتْ وَلَا يَقْضِيهَا
عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ يُصَلِّيهَا وَحْدَهُ كما يُصَلِّي الْإِمَامُ يُكَبِّرُ فيها
تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِهَذِهِ
الصِّفَةِ ما عُرِفَتْ قُرْبَةً إلَّا بِفِعْلِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم كَالْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ما فَعَلَهَا إلَّا
بِالْجَمَاعَةِ كَالْجُمُعَةِ فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا إلَّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ
وَلِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِشَرَائِطَ يَتَعَذَّرُ تَحْصِيلُهَا في الْقَضَاءِ
فَلَا تُقْضَى كَالْجُمُعَةِ وَلَكِنَّهُ يُصَلِّي أَرْبَعًا مِثْلَ صَلَاةِ
الضُّحَى إنْ شَاءَ لِأَنَّهَا إذَا فَاتَتْ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهَا
بِالْقَضَاءِ لِفَقْدِ الشَّرَائِطِ فَلَوْ صلى مِثْلَ صَلَاةِ الضُّحَى لِيَنَالَ
الثَّوَابَ كان حَسَنًا لَكِنْ لَا يَجِبُ لفقد ( ( ( لعدم ) ) ) دَلِيلِ
الْوُجُوبِ
وقد رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قال من فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ صلى
أَرْبَعًا
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسْتَحَبُّ في يَوْمِ الْعِيدِ فَيُسْتَحَبُّ فيه
أَشْيَاءُ منها ما قال أبو يُوسُفَ أنه يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَاكَ وَيَغْتَسِلَ
وَيَطْعَمَ شيئا وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ وَيَمَسَّ طِيبًا وَيُخْرِجَ
فِطْرَتَهُ قبل أَنْ يَخْرُجَ
أَمَّا الِاغْتِسَالُ وَالِاسْتِيَاكُ وَمَسُّ الطِّيبِ وَلُبْسُ أَحْسَنِ الثِّيَابِ
جَدِيدًا كان أو غَسِيلًا فَلِمَا ذَكَرْنَا في الْجُمُعَةِ
وَأَمَّا إخْرَاجُهُ الْفِطْرَةَ قبل الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى في عِيدِ
الْفِطْرِ فَلِمَا روى أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يُخْرِجُ قبل أَنْ
يَخْرُجَ إلَى الْمُصَلَّى وَلِأَنَّهُ مُسَارَعَةٌ إلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ
فَكَانَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ وَأَمَّا الذَّوْقُ فيه فَلِكَوْنِ الْيَوْمِ يوم
فِطْرٍ
وَأَمَّا في عِيدِ الْأَضْحَى فَإِنْ شَاءَ ذَاقَ وَإِنْ شَاءَ لم يَذُقْ
وَالْأَدَبُ أَنَّهُ لَا يَذُوقُ شيئا إلَى وَقْتِ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ حتى
يَكُونَ تَنَاوُلُهُ من الْقَرَابِينَ
وَمِنْهَا أَنْ يَغْدُوَ إلَى الْمُصَلَّى جَاهِرًا بِالتَّكْبِيرِ في عِيدِ
الْأَضْحَى فإذا انْتَهَى إلَى الْمُصَلَّى تَرَكَ لِمَا روى عن النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَنَّهُ كان يُكَبِّرُ في الطَّرِيقِ
وَأَمَّا في عِيدِ الْفِطْرِ فَلَا يُجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ في قول أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يُجْهَرُ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ
يُجْهَرُ في الْعِيدَيْنِ جميعا و ( ( ( واحتجوا ) ) ) ( احتجا ) بِقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ على ما هَدَاكُمْ }
وَلَيْسَ بَعْدَ إكْمَالِ الْعِدَّةِ إلَّا
____________________
(1/279)
ذا
التَّكْبِيرُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ حَمَلَهُ
قَائِدُهُ يوم الْفِطْرِ فَسَمِعَ الناس يُكَبِّرُونَ فقال لِقَائِدِهِ أَكَبَّرَ
الْإِمَامُ قال لَا قال أَفَجُنَّ الناس وَلَوْ كان الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ
سُنَّةً لم يَكُنْ لِهَذَا الْإِنْكَارِ مَعْنًى وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في
الْأَذْكَارِ هو الْإِخْفَاءُ إلَّا فِيمَا وَرَدَ التَّخْصِيصُ فيه وقد وَرَدَ في
عِيدِ الْأَضْحَى فَبَقِيَ الْأَمْرُ في عِيدِ الْفِطْرِ على الْأَصْلِ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ منه صَلَاةُ الْعِيدِ على أَنَّ
الْآيَةَ تَتَعَرَّضُ لِأَصْلِ التَّكْبِيرِ وَكَلَامُنَا في وَصْفِ التَّكْبِيرِ
من الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ وَالْآيَةُ سَاكِتَةٌ عن ذلك وَمِنْهَا أَنْ
يَتَطَوَّعَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ أَيْ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْخُطْبَةِ لِمَا
رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
قال من صلى بَعْدَ الْعِيدِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كَتَبَ اللَّهُ له بِكُلِّ نَبْتٍ
نَبَتَ وَبِكُلِّ وَرَقَةٍ حَسَنَةً
وَأَمَّا قبل صَلَاةِ الْعِيدِ فَلَا يَتَطَوَّعُ في الْمُصَلَّى وَلَا في
بَيْتِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا لِمَا نَذْكُرُ في بَيَانِ الْأَوْقَاتِ
التي يُكْرَهُ فيها التَّطَوُّعُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا خَرَجَ إلَى الْجَبَّانَةِ
لِصَلَاةِ الْعِيدِ أَنْ يَخْلُفَ رَجُلًا يُصَلِّي بِأَصْحَابِ الْعِلَلِ في
الْمِصْرِ صَلَاةَ الْعِيدِ لِمَا روى عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَمَّا
قَدِمَ الْكُوفَةَ اسْتَخْلَفَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ لِيُصَلِّيَ
بِالضَّعَفَةِ صَلَاةَ الْعِيدِ في الْمَسْجِدِ وَخَرَجَ إلَى الْجَبَّانَةِ مع
خَمْسِينَ شَيْخًا يَمْشِي وَيَمْشُونَ وَلِأَنَّ في هذا إعَانَةً لِلضَّعَفَةِ
على إحْرَازِ الثَّوَابِ فَكَانَ حَسَنًا وَإِنْ لم يَفْعَلْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ
لِأَنَّهُ لم يُنْقَلْ ذلك عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا عن
الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ سِوَى عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وَلِأَنَّهُ لَا
صَلَاةَ على الضَّعَفَةِ وَلَكِنْ لو خَلَّفَ كان أَفْضَلَ لِمَا بَيَّنَّا وَلَا
يُخْرَجُ الْمِنْبَرُ في الْعِيدَيْنِ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم لم يَفْعَلْ ذلك وقد صَحَّ أَنَّهُ كان يَخْطُبُ في الْعِيدَيْنِ على
نَاقَتِهِ وَبِهِ جَرَى التَّوَارُثُ من لَدُنْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا وَلِهَذَا اتَّخَذُوا في الْمُصَلَّى مِنْبَرًا على
حِدَةٍ من اللَّبِنِ وَالطِّينِ وَاتِّبَاعُ ما اُشْتُهِرَ الْعَمَلُ بِهِ في
الناس وَاجِبٌ
فَصْلٌ وَأَمَّا صَلَاةُ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ أَمَّا صَلَاةُ الْكُسُوفِ
فَالْكَلَامُ في صَلَاةِ الْكُسُوفِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أنها وَاجِبَةٌ أَمْ
سُنَّةٌ وفي بَيَانِ قَدْرِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا وفي بَيَانِ مَوْضِعِهَا وفي
بَيَانِ وَقْتِهَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في
الْأَصْلِ ما يَدُلُّ على عَدَمِ الْوُجُوبِ فإنه قال وَلَا تُصَلَّى نَافِلَةٌ في
جَمَاعَةٍ إلَّا قِيَامَ رَمَضَانَ وَصَلَاةَ الْكُسُوفِ فَاسْتَثْنَى صَلَاةَ
الْكُسُوفِ من الصَّلَوَاتِ النَّافِلَةِ وَالْمُسْتَثْنَى من جِنْسِ
الْمُسْتَثْنَى منه فَيَدُلُّ على كَوْنِهَا نَافِلَةً
وَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ بن زِيَادٍ ما يَدُلُّ عليه فإنه رَوَى عن أبي حَنِيفَةَ
أَنَّهُ قال في كُسُوفِ الشَّمْسِ إنْ شاؤوا صَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ شاؤوا
صَلَّوْا أَرْبَعًا وَإِنْ شاؤوا أَكْثَرَ من ذلك وَالتَّخْيِيرُ يَكُونُ في
النَّوَافِلِ لَا في الْوَاجِبَاتِ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّهَا وَاجِبَةٌ لِمَا روى عن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ
قال كَسَفَتْ الشَّمْسُ على عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يوم مَاتَ
ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ
فقال الناس إنَّمَا انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ فَسَمِعَ رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم فقال أَلَا إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ من آيَاتِ
اللَّهِ تَعَالَى لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فإذا
رَأَيْتُمْ من هذا شيئا فَاحْمَدُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوهُ وَسَبِّحُوهُ وَصَلُّوا
حتى تَنْجَلِيَ وفي رِوَايَةِ أبي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ فإذا رَأَيْتُمُوهَا
فَقُومُوا وَصَلُّوا وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ
وَعَنْ أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قال انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ في زَمَنِ
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَقَامَ فَزِعًا فَخَشِيَ أَنْ تَكُونَ
السَّاعَةَ حتى أتى الْمَسْجِدَ فَقَامَ فَصَلَّى فَأَطَالَ الْقِيَامَ
وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وقال إنَّ هذه الْآيَاتِ تُرْسَلُ لَا تَكُونُ لِمَوْتِ
أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرْسِلُهَا لِيُخَوِّفَ بها
عِبَادَهُ
فإذا رَأَيْتُمْ منها شيئا فَارْغَبُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ
وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَافْزَعُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ
وَتَسْمِيَةُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إيَّاهَا نَافِلَةً لَا يَنْفِي
الْوُجُوبَ لِأَنَّ النَّافِلَةَ عِبَارَةٌ عن الزِّيَادَةِ وَكُلُّ وَاجِبٍ
زِيَادَةٌ على الْفَرَائِضِ الْمُوَظَّفَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قرنها ( ( ( قربها ) ) ) بِقِيَامِ رَمَضَانَ وهو
التَّرَاوِيحُ وإنها سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَهِيَ في مَعْنَى الْوَاجِبِ
وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ لَا تَنْفِي الْوُجُوبَ
لِأَنَّ التَّخْيِيرَ قد يَجْرِي بين الْوَاجِبَاتِ
كما في قَوْله تَعَالَى { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ من
أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أو كِسْوَتُهُمْ أو تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ }
فَصْلٌ وَأَمَّا الْكَلَامُ في قَدْرِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا فَيُصَلِّي
رَكْعَتَيْنِ كُلُّ رَكْعَةٍ بِرُكُوعٍ وَسَجْدَتَيْنِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ
وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَكْعَتَانِ كُلُّ رَكْعَةٍ بِرُكُوعَيْنِ وَقَوْمَتَيْنِ
وَسَجْدَتَيْنِ يَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ثُمَّ يَقْرَأُ
ثُمَّ يَرْكَعُ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنهما
أَنَّهُمَا قَالَا كَسَفَتْ الشَّمْسُ على عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
____________________
(1/280)
عليه
وسلم فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا من سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ رَكَعَ
رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وهو دُونَ
الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وهو دُونَ الرُّكُوعِ
الْأَوَّلِ وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
وَلَنَا ما رَوَى مُحَمَّدٌ بِإِسْنَادِهِ عن أبي بَكْرَةَ أَنَّهُ قال كَسَفَتْ
الشَّمْسُ على عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَخَرَجَ رسول اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم يَجُرُّ ثَوْبَهُ حتى دخل الْمَسْجِدَ فَصَلَّى
رَكْعَتَيْنِ فَأَطَالَهُمَا حتى تَجَلَّتْ الشَّمْسُ وَذَلِكَ حين مَاتَ وَلَدُهُ
إبْرَاهِيمُ ثُمَّ قال إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ من آيَاتِ اللَّهِ
تَعَالَى وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فإذا
رَأَيْتُمْ من هذه الْأَفْزَاعِ شيئا فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ
لِيَنْكَشِفَ ما بِكُمْ وَمُطْلَقُ اسْمِ الصَّلَاةِ يَنْصَرِفُ إلَى الصَّلَاةِ
الْمَعْهُودَةِ وفي رِوَايَةٍ عن أبي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم صلى رَكْعَتَيْنِ نحو صَلَاةِ أَحَدِكُمْ
وَرَوَى الْجَصَّاصُ عن عَلِيٍّ وَالنُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن
عُمَرَ وَسَمُرَةَ بن جُنْدُبٍ وَالْمُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى في الْكُسُوفِ رَكْعَتَيْنِ كَهَيْئَةِ
صَلَاتِنَا
وَالْجَوَابُ عن تَعَلُّقِهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ
عنهما أَنَّ رِوَايَتَهُمَا قد تَعَارَضَتْ روى كما قُلْتُمْ
وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ في أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ وَالْمُتَعَارَضُ
لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا أو نَقُولُ تَعَاضَدَ ما رَوَيْنَا بِالِاعْتِبَارِ
بِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَكَانَ الْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى أو نَحْمِلُ ما رَوَيْتُمْ
على أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ كَثِيرًا
زِيَادَةً على قَدْرِ رُكُوعِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لِمَا روى أَنَّهُ عُرِضَ عليه
الْجَنَّةُ وَالنَّارُ في تِلْكَ الصَّلَاةِ فَرَفَعَ أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ
رؤوسهم ظَنًّا منهم أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم رَفَعَ رَأْسَهُ من الرُّكُوعِ
فَرَفَعَ من خَلْفَهُمْ فلما رَأَى أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ رَسُولَ صلى
اللَّهُ عليه وسلم رَاكِعًا رَكَعُوا وَرَكَعَ من خَلْفَهُمْ فلما رَفَعَ رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم رَأْسَهُ من الرُّكُوعِ رَفَعَ الْقَوْمُ رؤوسهم
فَمَنْ كان خَلْفَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ ظَنُّوا أَنَّهُ رَكَعَ رُكُوعَيْنِ
فَرَوَوْا على حَسَبِ ما وَقَعَ عِنْدَهُمْ وَعَلِمَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ
حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فَنَقَلُوا على حَسَبِ ما عَلِمُوهُ وَمِثْلُ هذا
الِاشْتِبَاهِ قد يَقَعُ لِمَنْ كان في آخِرِ الصُّفُوفِ وَعَائِشَةُ رضي اللَّهُ
عنها كانت وَاقِفَةً في خَيْرِ صُفُوفِ النِّسَاءِ وابن عَبَّاسٍ في صَفِّ
الصِّبْيَانِ في ذلك الْوَقْتِ فَنَقَلَا كما وَقَعَ عِنْدَهُمَا فَيُحْمَلُ على
هذا تَوْفِيقًا بين الرِّوَايَتَيْنِ كَذَا وَفَّقَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في
صَلَاةِ الْأَثَرِ
وَذَكَرَ الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ أَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ خَرَجَ مَخْرَجَ
التَّنَاسُخِ لَا مَخْرَجَ التَّخْيِيرِ لِاخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ في ذلك وَلَوْ
كان على التَّخْيِيرِ لَمَا اخْتَلَفُوا ثَمَّ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ قد ظَهَرَ
انْتِسَاخُ زِيَادَاتٍ كانت في الِابْتِدَاءِ في الصَّلَوَاتِ وَاسْتَقَرَّتْ
الصَّلَاةُ على الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ الْيَوْمَ عِنْدَنَا فَكَانَ صَرْفُ
النَّسْخِ إلَى ما ظَهَرَ انْتِسَاخُهُ أَوْلَى من صَرْفِهِ إلَى ما لم يَظْهَرْ أَنَّهُ
نَسَخَهُ غَيْرُهُ
وَرَوَى الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ عن أبي عبد اللَّهِ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قال إنَّ
الزِّيَادَةَ ثَبَتَتْ في صَلَاةِ الْكُسُوفِ لَا لِلْكُسُوفِ بَلْ لِأَحْوَالٍ
اعْتَرَضَتْ حتى رُوِيَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم تَقَدَّمَ في الرُّكُوعِ
حتى كان كَمَنْ يَأْخُذُ شيئا ثُمَّ تَأَخَّرَ كَمَنْ يَنْفِرُ عن شَيْءٍ
فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ منه بِاعْتِرَاضِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ فَمَنْ
لَا يَعْرِفُهَا لَا يَسَعُهُ التَّكَلُّمُ فيها
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذلك لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فلما أَشْكَلَ الْأَمْرُ
لم يَعْدِلْ عن الْمُعْتَمَدِ عليه إلَّا بِيَقِينٍ والله أعلم ثم هذه الصَّلَاةُ
تُقَامُ بِالْجَمَاعَةِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَقَامَهَا
بِالْجَمَاعَةِ وَلَا يُقِيمُهَا إلَّا الْإِمَامُ الذي يُصَلِّي بِالنَّاسِ
الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ فَأَمَّا أَنْ يُقِيمَهَا كُلُّ قَوْمٍ في
مَسْجِدِهِمْ فَلَا وروى عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال إنْ كان لِكُلِّ مَسْجِدٍ
إمَامٌ يُصَلِّي بِجَمَاعَةٍ لِأَنَّ هذه الصَّلَاةَ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ
بِالْمِصْرِ فَلَا تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِالسُّلْطَانِ كَغَيْرِهَا من
الصَّلَوَاتِ
وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ أَدَاءَ هذه الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ
عُرِفَ بِإِقَامَةِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَلَا يُقِيمُهَا إلَّا من
هو قَائِمٌ مَقَامَهُ وَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ تَعَلُّقِهَا بِالْمِصْرِ لِأَنَّ
مَشَايِخَنَا قالوا أنها مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمِصْرِ فَكَانَتْ مُتَعَلِّقَةً
بِالسُّلْطَانِ فَإِنْ لم يُقِمْهَا الْإِمَامُ حِينَئِذٍ صلى الناس فُرَادَى إنْ
شاؤوا رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ شاؤا أَرْبَعًا وَالْأَرْبَعُ أَفْضَلُ ثُمَّ إنْ شاؤا
طَوَّلُوا الْقِرَاءَةَ وَإِنْ شاؤا قَصَرُوا واشتغلو ( ( ( واشتغلوا ) ) )
بِالدُّعَاءِ حتى تَنْجَلِيَ الشَّمْسُ لِأَنَّ عليهم الِاشْتِغَالَ
بِالتَّضَرُّعِ إلَى أَنْ تَنْجَلِيَ الشَّمْسُ وَذَلِكَ بِالدُّعَاءِ تَارَةً
وَبِالْقِرَاءَةِ أُخْرَى وقد صَحَّ في الحديث أَنَّ قِيَامَ رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم في الرَّكْعَةِ الْأُولَى كان بِقَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وفي
الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِقَدْرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فَالْأَفْضَلُ تَطْوِيلُ
الْقِرَاءَةِ فيها وَلَا يُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ في صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ في
كُسُوفِ الشَّمْسِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُجْهَرُ بها
وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ ذَكَرَ في عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ قَوْلَهُ مع
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَجْهُ قَوْلِ من خَالَفَ أَبَا
____________________
(1/281)
حَنِيفَةَ
ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم صلى صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَجَهَرَ فيها بِالْقِرَاءَةِ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ
تُقَامُ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ فَيُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فيها كَالْجُمُعَةِ
وَالْعِيدَيْنِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى حَدِيثُ سَمُرَةَ بن جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قام قِيَامًا طَوِيلًا لم يُسْمَعْ له صَوْتٌ
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما قال صَلَّيْتُ مع رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَكُنْتُ إلَى جَنْبِهِ فلم
أَسْمَعْ منه حَرْفًا
وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ أَيْ ليس فيها قِرَاءَةٌ
مَسْمُوعَةٌ وَلِأَنَّ الْقَوْمَ لَا يَقْدِرُونَ على التَّأَمُّلِ في
الْقِرَاءَةِ لِتَصِيرَ ثَمَرَةُ الْقِرَاءَةِ مُشْتَرَكَةً لِاشْتِغَالِ
قُلُوبِهِمْ بهذا الْفَزَعِ كما لَا يَقْدِرُونَ على التَّأَمُّلِ في سَائِرِ
الْأَيَّامِ في صَلَوَاتِ النَّهَارِ لِاشْتِغَالِ قُلُوبِهِمْ بِالْمَكَاسِبِ
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ تَعَارَضَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَبَقِيَ لنا الِاعْتِبَارُ
الذي ذَكَرْنَا مع ظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ وَنَحْمِلُ ذلك على أَنَّهُ
جَهَرَ بِبَعْضِهَا اتِّفَاقًا كما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان
يُسْمِعُ الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ في صَلَاةِ الظُّهْرِ أَحْيَانًا وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
وَلَيْسَ في هذه الصَّلَاةِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ لِأَنَّهُمَا من خَوَاصِّ
الْمَكْتُوبَاتِ وَلَا خُطْبَةَ فيها عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ يَخْطُبُ
خُطْبَتَيْنِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم صلى في كُسُوفِ الشَّمْسِ ثُمَّ خَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ عز وجل
وَأَثْنَى عليه
وَلَنَا أَنَّ الْخُطْبَةَ لم تُنْقَلْ على عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم وَمَعْنَى قَوْلِهَا خَطَبَ أَيْ دَعَا أو لِأَنَّهُ احْتَاجَ إلَى
الْخُطْبَةِ رَدًّا لِقَوْلِ الناس إنَّمَا كَسَفَتْ الشَّمْسُ لِمَوْتِ
إبْرَاهِيمَ لَا لِلصَّلَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا خُسُوفُ الْقَمَرِ فَالصَّلَاةُ فيها حَسَنَةٌ لِمَا رَوَيْنَا عن النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا رَأَيْتُمْ من هذه الْأَفْزَاعِ شيئا
فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ وَهِيَ لَا تصلي بِجَمَاعَةٍ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تصلي بِجَمَاعَةٍ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ صلى
بِالنَّاسِ في خُسُوفِ الْقَمَرِ وقال صَلَّيْتُ كما رأيت رَسُولَ اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم
وَلَنَا أَنَّ الصَّلَاةَ بِجَمَاعَةٍ في خُسُوفِ الْقَمَرِ لم تُنْقَلْ عن النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم مع أَنَّ خُسُوفَهُ كان أَكْثَرَ من كُسُوفِ الشَّمْسِ
وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ غير الْمَكْتُوبَةِ لَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ قال النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم صَلَاةُ الرَّجُلِ في بَيْتِهِ أَفْضَلُ إلَّا
الْمَكْتُوبَةَ إلَّا إذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ كما في الْعِيدَيْنِ وَقِيَامِ
رَمَضَانَ وَكُسُوفِ الشَّمْسِ وَلِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ بِاللَّيْلِ متعذرا ( ( (
متعذر ) ) ) وسبب الْوُقُوعِ في الْفِتْنَةِ
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِهِ لِكَوْنِهِ خَبَرَ آحَادٍ في
مَحَلِّ الشُّهْرَةِ وَكَذَا تُسْتَحَبُّ الصَّلَاةُ في كل فَزَعٍ كَالرِّيحِ
الشَّدِيدَةِ وَالزَّلْزَلَةِ وَالظُّلْمَةِ وَالْمَطَرِ الدَّائِمِ لِكَوْنِهَا
من الْأَفْزَاعِ وَالْأَهْوَالِ
وقد رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ صلى للزلزلة ( ( ( لزلزلة
) ) ) بِالْبَصْرَةِ وَأَمَّا مَوْضِعُ الصَّلَاةِ أَمَّا في خُسُوفِ الْقَمَرِ
فَيُصَلُّونَ في مَنَازِلِهِمْ لِأَنَّ السُّنَّةَ فيها أَنْ يُصَلُّوا وُحْدَانًا
على ما بَيَّنَّا وَأَمَّا في كُسُوفِ الشَّمْسِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي في
شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يصلي في الْمَوْضِعِ الذي يُصَلَّى فيه
الْعِيدُ أو الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ وَلِأَنَّهَا من شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ
فَتُؤَدَّى في الْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ وَلَوْ اجْتَمَعُوا
في مَوْضِعٍ آخَرَ وَصَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ أَجْزَأَهُمْ وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ
لِمَا مَرَّ
وَأَمَّا وَقْتُهَا فَهُوَ الْوَقْتُ الذي يُسْتَحَبُّ فيه أَدَاءُ سَائِرِ
الصَّلَوَاتِ دُونَ الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَلِأَنَّ هذه الصَّلَاةَ إنْ
كانت نَافِلَةً فَالنَّوَافِلُ في هذه الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهَةٌ وَإِنْ كانت لها
أَسْبَابٌ عِنْدَنَا كَرَكْعَتَيْ التَّحِيَّةِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ لِمَا
نَذْكُرُ في مَوْضِعِهِ وَإِنْ كانت وَاجِبَةً فَأَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ في هذه
الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهَةٌ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَغَيْرِهَا
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عن أبي حَنِيفَةَ
أَنَّهُ قال لَا صَلَاةَ في الِاسْتِسْقَاءِ وَإِنَّمَا فيه الدُّعَاءُ وَأَرَادَ
بِقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ في الِاسْتِسْقَاءِ الصَّلَاةَ بِجَمَاعَةٍ أَيْ لَا
صَلَاةَ فيه بِجَمَاعَةٍ بِدَلِيلِ ما روى عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال سَأَلْت
أَبَا حَنِيفَةَ عن الِاسْتِسْقَاءِ هل فيه صَلَاةٌ أو دُعَاءٌ مُوَقَّتٌ أو
خُطْبَةٌ فقال أَمَّا صلاة بِجَمَاعَةٍ فَلَا وَلَكِنْ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ
وَإِنْ صَلَّوْا وُحْدَانًا فَلَا بَأْسَ بِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ
وقال مُحَمَّدٌ يُصَلِّي الْإِمَامُ أو نَائِبُهُ في الِاسْتِسْقَاءِ رَكْعَتَيْنِ
بِجَمَاعَةٍ كما في الْجُمُعَةِ
ولم يذكر في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلَ أبي يُوسُفَ وَذَكَرَ في بَعْضِ
الْمَوَاضِعِ قَوْلَهُ مع قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلَهُ مع قَوْلِ مُحَمَّدٍ وهو الْأَصَحُّ وَاحْتَجَّا
بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى بِجَمَاعَةٍ في
الِاسْتِسْقَاءِ رَكْعَتَيْنِ
وَالْمَرْوِيُّ في حديث عبد اللَّهِ بن عَامِرِ بن رَبِيعَةَ أَنَّ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم صلى فيه رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى { فقلت اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كان
غَفَّارًا } وَالْمُرَادُ منه الِاسْتِغْفَارُ في الاستسقاء بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {
يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } أَمْرٌ بِالِاسْتِغْفَارِ في
الِاسْتِسْقَاءِ فَمَنْ زَادَ عليه الصَّلَاةَ
____________________
(1/282)
فَلَا
بُدَّ له من دَلِيلٍ
وَكَذَا لم يُنْقَلْ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في الرِّوَايَاتِ
الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ صلى في الِاسْتِسْقَاءِ فإنه رُوِيَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ
عليه وسلم صلى الْجُمُعَةَ فَقَامَ رَجُلٌ فقال يا رَسُولَ اللَّهِ أَجْدَبَتْ
الْأَرْضُ وَهَلَكَتْ الْمَوَاشِي فَاسْقِ لنا الْغَيْثَ فَرَفَعَ رسول اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ وَدَعَا فما ضَمَّ يَدَيْهِ حتى
مَطَرَتْ السَّمَاءُ فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِلَّهِ دَرُّ أبي
طَالِبٍ لو كان في الْأَحْيَاءِ لَقَرَّتْ عَيْنَاهُ فقال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه
تَعْنِي يا رَسُولَ اللَّهِ قَوْلَهُ وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ
بِوَجْهِهِ ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ فقال صلى اللَّهُ عليه
وسلم أَجَلْ وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قام ذلك الْأَعْرَابِيُّ وَأَنْشَدَ فقال
أَتَيْنَاك وَالْعَذْرَاءُ يَدْمَى لَبَانُهَا وقد شُغِلَتْ أُمُّ الصَّبِيِّ عن
الطِّفْلِ وقال في آخِرِهِ وَلَيْسَ لنا إلَّا إلَيْك فِرَارُنَا وَلَيْسَ فِرَارُ
الناس إلَّا إلَى الرُّسُلِ فَبَكَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حتى أخضلت
لِحْيَتُهُ الشَّرِيفَةُ ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهُ وَأَثْنَى
عليه وَرَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ وقال اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا
مُغِيثًا عَذْبًا طَيِّبًا نَافِعًا غير ضَارٍّ عَاجِلًا غير آجِلٍ فما رَدَّ رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَدَهُ إلَى صَدْرِهِ حتى مَطَرَتْ السَّمَاءُ جاء
( ( ( وجاء ) ) ) وأهل ( ( ( أهل ) ) ) الْبَلَدِ يَصِيحُونَ الْغَرَقَ الْغَرَقَ
يا رَسُولَ اللَّهِ
فَضَحِكَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حتى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فقال
اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا فَانْجَابَتْ السَّحَابَةُ حتى
أَحْدَقَتْ بِالْمَدِينَةِ كَالْإِكْلِيلِ فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
لِلَّهِ دَرُّ أبي طَالِبٍ لو كان حَيًّا لَقَرَّتْ عَيْنَاهُ من يُنْشِدُنَا
قَوْلَهُ فَقَامَ عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه وَأَنْشَدَ الْبَيْتَ الْمُتَقَدِّمَ
أَوَّلًا وما رُوِيَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى
وَعَنْ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ خَرَجَ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ ولم يُصَلِّ
بِجَمَاعَةٍ بَلْ صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وما زَادَ عليه
فَقَالُوا ما اسْتَسْقَيْتَ يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
فقال لقد اسْتَسْقَيْتُ بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ التي بها يُسْتَنْزَلُ الْغَيْثُ
وَتَلَا قول الله تَعَالَى { اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كان غَفَّارًا
يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا }
وَرُوِيَ أَنَّهُ خَرَجَ بِالْعَبَّاسِ فَأَجْلَسَهُ على الْمِنْبَرِ وَوَقَفَ
بِجَنْبِهِ يَدْعُو وَيَقُولُ اللَّهُمَّ إنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ
نَبِيُّكَ صلى الله عليه وسلم وَدَعَا بِدُعَاءٍ طَوِيلٍ فما نَزَلَ عن
الْمِنْبَرِ حتى سُقُوا
وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ اسْتَسْقَى ولم يُصَلِّ وما رُوِيَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ
عليه وسلم صلى بِجَمَاعَةٍ حَدِيثٌ شَاذٌّ وَرَدَ في مَحِلِّ الشُّهْرَةِ لِأَنَّ
الِاسْتِسْقَاءَ يَكُونُ بِمَلَأٍ من الناس
وَمِثْلُ هذا الحديث يُرَجَّحُ كَذِبُهُ على صِدْقِهِ أو وَهْمُهُ على ضَبْطِهِ
فَلَا يَكُونُ مَقْبُولًا مع أَنَّ هذا مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى في
دِيَارِهِمْ وما تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَيَحْتَاجُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ إلَى
مَعْرِفَتِهِ لَا يُقْبَلُ فيه الشَّاذُّ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ثُمَّ عِنْدَهُمَا يَقْرَأُ في الصَّلَاةِ ما شَاءَ جَهْرًا كما في صَلَاةِ
الْعِيدَيْنِ لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَقْرَأَ ب { سبح اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى
}
و { هل أَتَاك حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان
يقرأهما ( ( ( يقرؤهما ) ) ) في صَلَاةِ الْعِيدِ وَلَا يُكَبِّرُ فيها في
الْمَشْهُورِ من الرِّوَايَةِ عنهما
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُكَبِّرُ وَلَيْسَ في الِاسْتِسْقَاءِ أَذَانٌ
وَلَا إقَامَةٌ
أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلَا يُشْكِلُ لِأَنَّهُ ليس فيه صَلَاةُ
الْجَمَاعَةِ وَإِنْ شَاءُوا صَلَّوْا فُرَادَى وَذَلِكَ في مَعْنَى الدُّعَاءِ
وَعِنْدَهُمَا إنْ كان فيه صَلَاةٌ بِالْجَمَاعَةِ وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ
بِمَكْتُوبَةٍ وَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ من خَوَاصِّ الْمَكْتُوبَاتِ كَصَلَاةِ
الْعِيدِ ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الصَّلَاةِ يَخْطُبُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ لَا يَخْطُبُ وَلَكِنْ لو صَلَّوْا وُحْدَانًا يَشْتَغِلُونَ
بِالدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ من تَوَابِعِ الصَّلَاةِ
بِجَمَاعَةٍ وَالْجَمَاعَةُ غَيْرُ مَسْنُونَةٍ في هذه الصَّلَاةِ عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا سُنَّةٌ فَكَذَا الْخُطْبَةُ
ثُمَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِالْجِلْسَةِ
كما في صَلَاةِ الْعِيدِ وَعَنْ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَخْطُبُ خُطْبَةً وَاحِدَةً
لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منها الدُّعَاءُ فَلَا يَقْطَعُهَا بِالْجِلْسَةِ وَلَا
يُخْرِجُ الْمِنْبَرَ في الِاسْتِسْقَاءِ وَلَا يَصْعَدُهُ لو كان في مَوْضِعِ
الدُّعَاءِ مِنْبَرٌ لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ وقد عَابَ الناس على مَرْوَانَ
بن الْحَكَمِ عِنْدَ إخْرَاجِهِ الْمِنْبَرَ في الْعِيدَيْنِ وَنَسَبُوهُ إلَى
خِلَافِ السُّنَّةِ على ما بَيَّنَّا وَلَكِنْ يَخْطُبُ على الْأَرْضِ مُعْتَمِدًا
على قَوْسٍ أو سَيْفٍ ولو تَوَكَّأَ على عَصًا فَحَسَنٌ لِأَنَّ خُطْبَتَهُ
تَطُولُ فَيَسْتَعِينُ بِالِاعْتِمَادِ على عَصًا وَيَخْطُبُ مُقْبِلًا بِوَجْهِهِ
إلَى الناس وَهُمْ مُقْبِلُونَ عليه لِأَنَّ الْإِسْمَاعَ وَالِاسْتِمَاعَ إنَّمَا
يَتِمُّ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ وَيَسْتَمِعُونَ الْخُطْبَةَ وَيُنْصِتُونَ لِأَنَّ
الْإِمَامَ يَعِظُهُمْ فيها فَلَا بُدَّ من الْإِنْصَاتِ وَالِاسْتِمَاعِ وإذا
فَرَغَ من الْخُطْبَةِ جَعَلَ ظَهْرَهُ إلَى الناس وَوَجْهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ
وَيَشْتَغِلُ بِدُعَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ وَالنَّاسُ قُعُودٌ مُسْتَقْبِلُونَ
بِوُجُوهِهِمْ إلَى الْقِبْلَةِ في الْخُطْبَةِ وَالدُّعَاءِ لِأَنَّ الدُّعَاءَ
مُسْتَقْبِلَ
____________________
(1/283)
الْقِبْلَةِ
أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ فَيَدْعُو اللَّهَ وَيَسْتَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ
وَيُجَدِّدُونَ التَّوْبَةَ وَيَسْتَسْقُونَ
وَهَلْ يَقْلِبُ الْإِمَامُ رِدَاءَهُ لَا يَقْلِبُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا يَقْلِبُ إذَا مَضَى صَدْرٌ من خُطْبَتِهِ فَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ
أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قَلَبَ رِدَاءَهُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رُوِيَ أَنَّهُ عليه السَّلَامُ اسْتَسْقَى يوم
الْجُمُعَةِ ولم يَقْلِبْ الرِّدَاءَ وَلِأَنَّ هذا دُعَاءٌ فَلَا مَعْنَى
لِتَغْيِيرِ الثَّوْبِ فيه كما في سَائِرِ الْأَدْعِيَةِ وما رُوِيَ أَنَّهُ
قَلَبَ الرِّدَاءَ مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَغَيَّرَ عليه فَأَصْلَحَهُ
فَظَنَّ الرَّاوِي إنه قَلَبَ أو يُحْتَمَلُ إنه عَرَفَ من طَرِيقِ الْوَحْيِ
أَنَّ الْحَالَ يَنْقَلِبُ من الْجَدْبِ إلَى الْخِصْبِ مَتَى قَلَبَ الرِّدَاءَ
بِطَرِيقِ التَّفَاؤُلِ فَفَعَلَ وَهَذَا لَا يُوجَدُ في حَقِّ غَيْرِهِ
وَكَيْفِيَّةُ تَقْلِيبِ الرِّدَاءِ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ كان مُرَبَّعًا جَعَلَ
أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ وَأَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ وَإِنْ كان مُدَوَّرًا جَعَلَ
الْجَانِبَ الْأَيْمَنَ على الْأَيْسَرِ وَالْأَيْسَرَ على الْأَيْمَنِ وَأَمَّا
الْقَوْمُ فَلَا يَقْلِبُونَ أَرْدِيَتَهُمْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وَعِنْدَ مَالِكٍ يَقْلِبُونَ أَيْضًا
وَاحْتَجَّ بِمَا روى عن عبد اللَّهِ بن زيد ( ( ( يزيد ) ) ) أَنَّ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم حَوَّلَ رِدَاءَهُ وَحَوَّلَ الناس أَرْدِيَتَهُمْ وَهُمَا
يَقُولَانِ إنَّ تَحْوِيلَ الرِّدَاءِ في حَقِّ الْإِمَامِ أَمْرٌ ثَبَتَ
بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ على ما ذَكَرْنَا فَنَقْتَصِرُ على مَوْرِدِ
النَّصِّ وما رُوِيَ من الحديث شَاذٌّ على أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ صلى اللَّهُ
عليه وسلم عَرَفَ ذلك فلم يُنْكِرْ عليهم فَيَكُونُ تَقْرِيرًا
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لم يَعْرِفْ لِأَنَّهُ كان مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ
مُسْتَدْبِرًا القوم ( ( ( لهم ) ) ) فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ
ثُمَّ إنْ شَاءَ رَفَعَ يَدَيْهِ نحو السَّمَاءِ عِنْدَ الدُّعَاءِ وَإِنْ شَاءَ
أَشَارَ بِأُصْبُعِهِ
كَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ لِأَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاءِ
سُنَّةٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَدْعُو بِعَرَفَاتٍ
بَاسِطًا يَدَيْهِ كَالْمُسْتَطْعِمِ الْمِسْكِينِ
ثم الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الدُّعَاءِ
الْإِجَابَةُ وَالثَّلَاثَةُ مُدَّةٌ وصنعت ( ( ( ضربت ) ) ) لِإِبْلَاءِ
الْأَعْذَارِ
وَإِنْ أَمَرَ الإمام الناس بِالْخُرُوجِ ولم يَخْرُجْ بِنَفْسِهِ خَرَجُوا لِمَا
رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا شَكَوْا إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْقَحْطَ
فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْثُوا على الرُّكَبِ ولم يَخْرُجْ بِنَفْسِهِ
وإذا خَرَجُوا اشْتَغَلُوا بِالدُّعَاءِ ولم يُصَلُّوا بِجَمَاعَةٍ إلَّا إذَا
أَمَرَ الْإِمَامُ إنْسَانًا أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ جَمَاعَةً لِأَنَّ هذا دُعَاءٌ
فَلَا يُشْتَرَطُ له حُضُورُ الْإِمَامِ وَإِنْ خَرَجُوا بِغَيْرِ إذْنِهِ جَازَ لِأَنَّهُ
دُعَاءٌ فَلَا يُشْتَرَطُ له إذْنُ الْإِمَامِ وَلَا يُمَكَّنُ أَهْلُ الذِّمَّةِ
من الْخُرُوجِ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ إنْ خَرَجُوا لم يُمْنَعُوا وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ
الْمُسْلِمِينَ بِخُرُوجِهِمْ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ ينتظرون ( ( ( ينظرون ) ) )
نُزُولَ الرَّحْمَةِ عليهم وَالْكُفَّارُ مَنَازِلُ اللَّعْنَةِ وَالسَّخْطَةِ
فَلَا يُمَكَّنُونَ من الْخُرُوجِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الصَّلَاةُ الْمَسْنُونَةُ فَهِيَ السُّنَنُ الْمَعْهُودَةُ
لِلصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ وَالْكَلَامُ فيها يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ
مَوَاقِيتِ هذه السُّنَنِ وَمَقَادِيرِهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا وفي بَيَانِ
صِفَةِ الْقِرَاءَةِ فيها
وفي بَيَانِ ما يُكْرَهُ فيها
وفي بَيَانِ أنها إذَا فَاتَتْ عن وَقْتِهَا هل تُقْضَى أَمْ لَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَوَقْتُ جُمْلَتِهَا وَقْتُ الْمَكْتُوبَاتِ لِأَنَّهَا
تَوَابِعُ لِلْمَكْتُوبَاتِ فَكَانَتْ تَابِعَةً لها في الْوَقْتِ وَمِقْدَارُ
جُمْلَتِهَا اثنا ( ( ( اثنتا ) ) ) عشر رَكْعَةً رَكْعَتَانِ وَأَرْبَعٌ
وَرَكْعَتَانِ وَرَكْعَتَانِ وَرَكْعَتَانِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَأَمَّا مِقْدَارُ كل وَاحِدَةٍ منها وَوَقْتُهَا على التَّفْصِيلِ فَرَكْعَتَانِ
قبل الْفَجْرِ وَأَرْبَعٌ قبل الظُّهْرِ لَا يُسَلِّمُ إلَّا في آخِرِهِنَّ
وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهُ وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ
الْعِشَاءِ
كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ وَذَكَرَ في الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ إنْ
تَطَوَّعَ بِأَرْبَعٍ قَبْلَهُ فَحَسَنٌ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ هَكَذَا
إلَّا أَنَّهُ قال في الْعَصْرِ وَأَرْبَعٌ قبل الْعَصْرِ وفي الْعِشَاءِ وَأَرْبَعٌ
بَعْدَ الْعِشَاءِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ وَرَكْعَتَانِ قبل الْعَصْرِ
وَالْعَمَلُ فِيمَا رَوَيْنَا على الْمَذْكُورِ في الْأَصْلِ
وَالْأَصْلُ في السُّنَنِ ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها عن رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من ثَابَرَ على اثني ( ( ( اثنتي ) ) )
عَشْرَةَ رَكْعَةً في الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَنَى اللَّهُ له بَيْتًا في
الْجَنَّةِ رَكْعَتَيْنِ قبل الْفَجْرِ وَأَرْبَعٌ قبل الظُّهْرِ
وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا وركعتين بعد المغرب وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ
وقد وَاظَبَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عليها ولم يَتْرُكْ شيئا منها
إلَّا مَرَّةً أو مَرَّتَيْنِ لِعُذْرٍ
وَهَذَا تَفْسِيرُ السُّنَّةِ
وَأَقْوَى السُّنَنِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِالتَّرْغِيبِ
فِيهِمَا ما لم يَرِدْ في غَيْرِهِمَا فإنه روى عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها
أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ من الدُّنْيَا
وما فيها
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما في تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى { وَإِدْبَارَ
النُّجُومِ } أَنَّهُ رَكْعَتَا الْفَجْرِ
وَرُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال صَلُّوهُمَا فإن فِيهِمَا
لَرَغَائِبَ
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال صَلُّوهُمَا وَلَوْ طَرَدَتْكُمْ الْخَيْلُ
وروي جَمَاعَةٌ من الصَّحَابَةِ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ كان
يُصَلِّي بَعْدَ الزَّوَالِ في كل يَوْمٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ منهم أبو أَيُّوبَ
الْأَنْصَارِيُّ
____________________
(1/284)
رضي
اللَّهُ عنه
وروي عنه أَيْضًا قَوْلًا على ما نَذْكُرُ
وَعَنْ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ أَنَّهُ قال ما اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم على شَيْءٍ كَاجْتِمَاعِهِمْ على مُحَافَظَةِ
الْأَرْبَعِ قبل الظُّهْرِ وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتِ في عِدَّةِ الْأُخْتِ
ثُمَّ هذه الْأَرْبَعِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِتَسْلِيمَتَيْنِ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي
اللَّهُ عنه أَنَّهُ ذَكَرَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً كما ذَكَرَتْ عَائِشَةُ
إلَّا أَنَّهُ زَادَ وَأَرْبَعًا قبل الظُّهْرِ بِتَسْلِيمَتَيْنِ
وَلَنَا حَدِيثُ أبي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قال كان النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم يُصَلِّي بَعْدَ الزَّوَالِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَقُلْت ما هذه
الصَّلَاةُ التي تُدَاوِمُ عليها يا رَسُولَ اللَّهِ فقال هذه سَاعَةٌ تُفْتَحُ
فيها أَبْوَابُ السَّمَاءِ فَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لي فيها عَمَلٌ صَالِحٌ فقلت
أَفِي كُلِّهِنَّ قِرَاءَةٌ قال نعم فقلت بِتَسْلِيمَةٍ أَمْ بِتَسْلِيمَتَيْنِ
فقال بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
وَالتَّسْلِيمُ في حديث ابْنِ عُمَرَ عِبَارَةٌ عن التَّشَهُّدِ لِمَا فيه من
السَّلَامِ كما فيه من الشَّهَادَةِ على ما مَرَّ وَإِنَّمَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ
أن التَّطَوُّعَ بِالْأَرْبَعِ قبل الْعَصْرِ حَسَنٌ لِأَنَّ كَوْنَ الْأَرْبَعِ
من السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ غير ثَابِتٍ لِأَنَّهَا لم تُذْكَرْ في حديث عَائِشَةَ
ولم يُرْوَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يُوَاظِبُ على ذلك وكذا ( ( ( ولذا
) ) ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ في فَصْلِهِ إيَّاهَا روى ( ( ( وروي ) ) ) في
بَعْضِهَا أَنَّهُ صلى أَرْبَعًا
وفي بَعْضِهَا رَكْعَتَيْنِ
فَإِنْ صلى أَرْبَعًا كان حَسَنًا
لِحَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ رضي اللَّهُ عنها عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال من صلى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قبل الْعَصْرِ كانت له جُنَّةً من النَّارِ
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ
وَإِنْ تَطَوَّعَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِسِتِّ ركعات ( فهو أفضل لما روي عن عمر عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من صلى بعد المغرب ست رَكَعَاتٍ كُتِبَ من
الْأَوَّابِينَ
وَتَلَا قَوْله تَعَالَى { فإنه ( ( ( إنه ) ) ) كان لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا }
وَإِنَّمَا قال في الْأَصْلِ إنَّ التَّطَوُّعَ بِالْأَرْبَعِ قبل الْعِشَاءِ
حَسَنٌ
لِأَنَّ التَّطَوُّعَ بها لم يَثْبُتْ أَنَّهُ من السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ
وَلَوْ فَعَلَ ذلك فَحَسَنٌ
لِأَنَّ الْعِشَاءَ نَظِيرُ الظُّهْرِ في أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَبْلَهَا
وَبَعْدَهَا
وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ في الْأَرْبَعِ بَعْدَ الْعِشَاءِ ما رُوِيَ عن
ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه مَوْقُوفًا عليه وَمَرْفُوعًا إلَى رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من صلى بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كُنَّ
له كَمِثْلِهِنَّ من لَيْلَةِ الْقَدْرِ
وروى عن عَائِشَةَ أنها سُئِلَتْ عن قِيَامِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
في لَيَالِي رَمَضَانَ فقالت كان قِيَامُهُ في رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ سَوَاءً كان
يُصَلِّي بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعًا لَا تَسْأَلْ عن حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ
ثُمَّ أَرْبَعًا لَا تَسْأَلْ عن حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ كان يُوتِرُ
بِثَلَاثٍ
وَأَمَّا السُّنَّةُ قبل الْجُمُعَةِ وَبَعْدَهَا فَقَدْ ذُكِرَ في الْأَصْلِ
وَأَرْبَعٌ قبل الْجُمُعَةِ وَأَرْبَعٌ بَعْدَهَا وَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال يُصَلِّي بَعْدَهَا سِتًّا
وَقِيلَ هو مَذْهَبُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وما ذَكَرْنَا أَنَّهُ كان يُصَلِّي
أَرْبَعًا مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في كِتَابِ الصَّوْمِ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يَمْكُثُ في
الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ مِقْدَارَ ما يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أو سِتَّ
رَكَعَاتٍ أَمَّا الْأَرْبَعُ قبل الْجُمُعَةِ
فَلِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم كان يَتَطَوَّعُ قبل الْجُمُعَةِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ
نَظِيرُ الظُّهْرِ ثُمَّ التَّطَوُّعُ قبل الظُّهْرِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ كَذَا
قَبْلَهَا
وَأَمَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَوَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أن فِيمَا قُلْنَا
جَمْعًا بين قَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَبَيْنَ فِعْلِهِ فإنه رُوِيَ
أَنَّهُ أَمَرَ بِالْأَرْبَعِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَجَمَعْنَا بين قَوْلِهِ
وَفِعْلِهِ
قال أبو يُوسُفَ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ كَذَا
رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه كيلا يَصِيرَ مُتَطَوِّعًا بَعْدَ صَلَاةِ
الْفَرْضِ بِمِثْلِهَا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ما رُوِيَ عن النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من كان مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ
أَرْبَعًا وما رُوِيَ من فِعْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَلَيْسَ فيه ما يَدُلُّ
على الْمُوَاظَبَةِ وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ من يُصَلِّي بَعْدَهَا كَمْ شَاءَ غير
أَنَّا نَقُولُ السُّنَّةُ بَعْدَهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ لَا غَيْرُ لِمَا
رَوَيْنَا
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الْقِرَاءَةِ فيها فَالْقِرَاءَةُ في السُّنَنِ في
الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فَرْضٌ لِأَنَّ السُّنَّةَ تَطَوُّعٌ وَكُلُّ شَفْعٍ من
التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ على حِدَةٍ لِمَا نَذْكُرُ في صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَكَانَ
كُلُّ شَفْعٍ منها بِمَنْزِلَةِ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ من الْفَرَائِضِ وقد
رَوَيْنَا في حديث أبي أَيُّوبَ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم عن الْأَرْبَعِ قبل الظُّهْرِ أَفِي كُلِّهِنَّ قِرَاءَةٌ قال نعم وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُكْرَهُ منها فَيُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ
شيئا من السُّنَنِ في الْمَكَانِ الذي صلى فيه الْمَكْتُوبَةَ لِمَا ذَكَرْنَا
فِيمَا تَقَدَّمَ وقد رَوَيْنَا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
أَيَعْجِزُ أحدكم إذَا صلى أَنْ يَتَقَدَّمَ أو يَتَأَخَّرَ
وَلَا يُكْرَهُ ذلك لِلْمَأْمُومِ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ في حَقِّ الْإِمَامِ
لِلِاشْتِبَاهِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ في حَقِّ الْمَأْمُومِ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ له
أَنْ يَتَنَحَّى أَيْضًا حتى تَنْكَسِرَ الصُّفُوفُ وَيَزُولَ الِاشْتِبَاهُ على
الدَّاخِلِ من كل وَجْهٍ على ما مَرَّ وَيُكْرَهُ أَنْ
____________________
(1/285)
يُصَلِّي
شيئا منها وَالنَّاسُ في الصَّلَاةِ أو أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ في الْإِقَامَةِ إلَّا
رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فإنه يُصَلِّيهِمَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَإِنْ فَاتَتْهُ
رَكْعَةٌ من الْفَجْرِ فَإِنْ خَافَ أَنْ تَفُوتَهُ الْفَجْرُ تَرَكَهُمَا
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الدَّاخِلَ إذَا دخل الْمَسْجِدَ لِلصَّلَاةِ لَا
يَخْلُو إمَّا إن كان يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ وَإِمَّا إن كان لم يُصَلِّ
وَإِمَّا إن كان لم يُصَلِّهَا فَلَا يَخْلُو إمَّا إن دخل الْمَسْجِدَ وقد أَخَذَ
الْمُؤَذِّنُ في الْإِقَامَةِ أو دخل الْمَسْجِدَ وَشَرَعَ في الصَّلَاةِ
ثُمَّ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ في الْإِقَامَةِ
فَإِنْ دخل وقد كان الْمُؤَذِّنُ أَخَذَ في الْإِقَامَةِ يُكْرَهُ له التَّطَوُّعُ
في الْمَسْجِدِ
سَوَاءٌ كان رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أو غَيْرِهِمَا من التَّطَوُّعَاتِ
لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ بِأَنَّهُ لَا يَرَى صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ
وقد قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من كان يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ
وَأَمَّا خَارِجُ الْمَسْجِدِ فَكَذَلِكَ في سَائِرِ التَّطَوُّعَاتِ
وَأَمَّا في رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَالْأَمْرُ فيه على التَّفْصِيلِ الذي
ذَكَرْنَا
لِأَنَّ إدْرَاكَ فَضِيلَةِ الِافْتِتَاحِ أَوْلَى من الِاشْتِغَالِ بِالنَّفْلِ
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ خَيْرٌ من الدُّنْيَا
وما فيها وَلَيْسَتْ هذه الْمَرْتَبَةُ لِسَائِرِ النَّوَافِلِ وفي الِاشْتِغَالِ
بِاسْتِدْرَاكِهَا فَوَاتُ النَّوَافِلِ وفي الِاشْتِغَالِ بِاسْتِدْرَاكِ
النَّوَافِلِ فَوْتُهَا وَهِيَ أَعْظَمُ ثَوَابًا فَكَانَ إحْرَازُ فَضِيلَتِهَا
أَوْلَى بِخِلَافِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فإن التَّرْغِيبَ فِيهِمَا قد وُجِدَ
حَسْبَمَا وُجِدَ في تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ
قال صلى اللَّهُ عليه وسلم رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ من الدُّنْيَا وما فيها
فَقَدْ اسْتَوَيَا في الدَّرَجَةِ
وَاخْتَلَفَ تَخْرِيجُ مَشَايِخِنَا في ذلك
منهم من قال مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا انْتَهَى إلَى
الْإِمَامِ وقد سَبَقَهُ بِالتَّكْبِيرِ وَشَرَعَ في قِرَاءَةِ السُّورَةِ
فَيَأْتِي بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لِيَنَالَ هذه الْفَضِيلَةَ عِنْدَ فَوْتِ
تِلْكَ الْفَضِيلَةِ لِأَنَّ إدْرَاكَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ غَيْرُ مَوْهُومٍ
فإذا عَجَزَ عن إحْرَازِ ( إحْدَى ) الْفَضِيلَتَيْنِ يُحْرِزُ الْأُخْرَى فإذا
كان الْإِمَامُ لم يَأْتِ بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ بَعْدُ يَشْتَغِلُ
بِإِحْرَازِهَا لِأَنَّهَا عِنْدَ التَّعَارُضِ تَأَيَّدَتْ بِالِانْضِمَامِ إلَى
فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ إحْرَازُهَا أَوْلَى غير أَنَّ مَوْضُوعَ
الْمَسْأَلَةِ على خِلَافِ هذا فإن مُحَمَّدًا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا
أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ في الْإِقَامَةِ وَمَعَ ذلك قال أنه يَشْتَغِلُ
بِالتَّطَوُّعِ إذَا كان يَرْجُو إدْرَاكَ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ اسْتَوَيَا
في الدَّرَجَةِ على ما مَرَّ وَالْوَجْهُ فيه أَنَّهُ لو اشْتَغَلَ بِإِحْرَازِ
فَضِيلَةِ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ لَفَاتَتْهُ فَضِيلَةُ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ
أَصْلًا وَلَوْ اشْتَغَلَ بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لَمَا فَاتَتْهُ فَضِيلَةُ
تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ من جَمِيعِ الْوُجُوهِ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ من كل
وَجْهٍ ما دَامَتْ الصَّلَاةُ بَاقِيَةً لِأَنَّ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ هِيَ
التَّحْرِيمَةُ وَهِيَ تَبْقَى ما دَامَتْ الْأَرْكَانُ بَاقِيَةً فَكَانَتْ
تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ بَاقِيَةً بِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ من وَجْهٍ فَصَارَ
مُدْرِكًا من وَجْهٍ وَصَارَ مُدْرِكًا أَيْضًا فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من أَدْرَكَ رَكْعَةً من الْفَجْرِ فَقَدْ
أَدْرَكَهَا وَلِأَنَّهُ أَدْرَكَ أَكْثَرَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْفَائِتَ رَكْعَةٌ
لَا غَيْرُ وَالْمُسْتَدْرَكُ رَكْعَةٌ وَقَعْدَةٌ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ
فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَوْلَى بِخِلَافِ ما إذَا كان
يَخَافُ فَوْتَ الرَّكْعَتَيْنِ جميعا لِأَنَّهُمَا إذَا فَاتَتَا لم يَبْقَ
شَيْءٌ من الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ وَلَوْ بَقِيَ شَيْءٌ قَلِيلٌ لَا عِبْرَةَ
له بِمُقَابَلَةِ ما فَاتَ لِأَنَّهُ أَقَلُّ وَالْفَائِتُ أَكْثَرُ
وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فَعَجَزَ عن إحْرَازِهِمَا فَيَخْتَارُ
تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ لِمَا انْضَمَّ إلَى إحْرَازِهَا فَضِيلَةُ
الْجَمَاعَةِ في الْفَرْضِ وَالنَّبِيُّ صلى اللَّهُ عليه وسلم يقول تَفْضُلُ
الصَّلَاةُ بِجَمَاعَةٍ على صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً
وفي رِوَايَةٍ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً فَكَانَ هذا أَوْلَى وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
أَمَّا إذَا دخل الْمَسْجِدَ وَشَرَعَ في الصَّلَاةِ ثُمَّ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ في
الْإِقَامَةِ فَهَذَا أَيْضًا على وَجْهَيْنِ إمَّا إنْ شَرَعَ في التَّطَوُّعِ
وَإِمَّا إنْ شَرَعَ في الْفَرْضِ فَإِنْ شَرَعَ في التَّطَوُّعِ ثُمَّ أُقِيمَتْ
الصَّلَاةُ أَتَمَّ الشَّفْعَ الذي هو فيه
وَلَا يَزِيدُ عليه أَمَّا إتْمَامُ الشَّفْعِ فَلِأَنَّ صَوْنَهُ عن الْبُطْلَانِ
وَاجِبٌ وقد أَمْكَنَهُ ذلك وَلَا يَزِيدُ عليه لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ
بِالشُّرُوعِ في التَّطَوُّعِ زِيَادَةٌ على الشَّفْعِ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ
عليه كَابْتِدَاءِ تَطَوُّعٍ آخَرَ وقد ذَكَرْنَا أَنَّ ابْتِدَاءَ التَّطَوُّعِ
في الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْإِقَامَةِ مَكْرُوهٌ
وَأَمَّا إذَا شَرَعَ في الْفَرْضِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَإِنْ كان في
صَلَاةِ الْفَجْرِ يَقْطَعُهَا ما لم يُقَيِّدْ الثَّانِيَةَ بِالسَّجْدَةِ لِأَنَّ
الْقَطْعَ وَإِنْ كان نَقْصًا صُورَةً فَلَيْسَ بِنَقْصٍ مَعْنًى لِأَنَّهُ
لِلْأَدَاءِ على وَجْهِ الْأَكْمَلِ وَالْهَدْمُ ليبنى أَكْمَلُ يُعَدُّ إصْلَاحًا
لَا هَدْمًا أَلَا تَرَى أَنَّ من هَدَمَ مَسْجِدًا لِيَبْنِيَ أَحْسَنَ من
الْأَوَّلِ لَا يَأْثَمُ وإذا قَيَّدَ الثَّانِيَةَ بِالسَّجْدَةِ لم يَقْطَعْ
لِأَنَّهُ أتى بِالْأَكْثَرِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ وَالْفَرْضُ بَعْدَ
إتْمَامِهِ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ وَلَا يَدْخُلُ في صَلَاةِ الْإِمَامِ
لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ مَكْرُوهٌ وَإِنْ كان في صَلَاةِ
الظُّهْرِ فَإِنْ كان صلى رَكْعَةً ضَمَّ إلَيْهَا أُخْرَى لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ
صَوْنُ الْمُؤَدَّى وَاسْتِدْرَاكُ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ صَلَاةُ
الرَّجُلِ بِالْجَمَاعَةِ تَزِيدُ على صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً
____________________
(1/286)
على
لِسَانِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَإِنْ صلى رَكْعَتَيْنِ تَشَهَّدَ
وسلم لِمَا قُلْنَا
وَكَذَا إذَا قام إلَى الثَّالِثَةِ قبل أَنْ يُقَيِّدَهَا بِالسَّجْدَةِ يَعُودُ
إلَى التَّشَهُّدِ وَيُسَلِّمُ
وَلَا يُسَلِّمُ على حَالِهِ قَائِمًا
لِأَنَّ ما أتى بِهِ من الْقَعْدَةِ كانت سُنَّةً وَقَعْدَةُ الفرض ( ( ( الختم )
) ) ختم ( ( ( فرض ) ) ) فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى الْقَعْدَةِ
ثُمَّ يُسَلِّمُ لِيَكُونَ مُتَنَفِّلًا بِرَكْعَتَيْنِ
فَإِنْ كان قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ أَتَمَّهَا
لِأَنَّهُ أَدَّى الْأَكْثَرَ فَلَا يُمْكِنُهُ الْقَطْعُ وَيَدْخُلُ مع
الْإِمَامِ فَيَجْعَلُهَا تَطَوُّعًا لِمَا روى عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم أَنَّهُ صلى في مَسْجِدِ الْخَيْفِ فَرَأَى رَجُلَيْنِ خَلْفَ الصَّفِّ فقال
عَلَيَّ بِهِمَا فَجِيءَ بِهِمَا تَرْتَعِدُ فَرَائِصُهُمَا فقال ما لَكُمَا لم
تُصَلِّيَا مَعَنَا فَقَالَا كنا صَلَّيْنَا في رِحَالِنَا
فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا صَلَّيْتُمَا في رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا
إمَامَ قَوْمٍ فَصَلِّيَا معه وَاجْعَلَا ذلك سُبْحَةً أَيْ نَافِلَةً وكان ذلك في
الظُّهْرِ
كَذَا روى عن أبي يُوسُفَ في الْإِمْلَاءِ وَلَوْ كان في الرَّكْعَةِ الْأُولَى
ولم يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ لم يُذْكَرْ في الْكِتَابِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقْطَعُهَا لِيَدْخُلَ مع الْإِمَامِ فَيُحْرِزَ ثَوَابَ
تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ لِأَنَّ ما دُونَ الرَّكْعَةِ ليس له حُكْمُ الصَّلَاةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَعُودُ من الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ ما لم يُقَيِّدْهَا
بِالسَّجْدَةِ وَكَذَا الْجَوَابُ في الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ إلَّا أَنَّهُ لَا
يَدْخُلُ في الْعَصْرِ مع الْإِمَامِ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَهُ مَكْرُوهٌ
وَيَخْرُجُ من الْمَسْجِدِ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ في الْخُرُوجِ أَقَلُّ منها في
الْمُكْثِ
وَأَمَّا في الْمَغْرِبِ فَإِنْ صلى رَكْعَةً قَطَعَهَا لِأَنَّهُ لو ضَمَّ
إلَيْهَا أُخْرَى لَأَدَّى الْأَكْثَرَ فَلَا يُمْكِنُهُ الْقَطْعُ وَلَوْ قَطَعَ
كان بِهِ مُتَنَفِّلًا بِرَكْعَتَيْنِ قبل الْمَغْرِبِ وهو مَنْهِيٌّ عنه وَإِنْ
قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ مَضَى فيها ما قُلْنَا وَلَا يَدْخُلُ مع
الْإِمَامِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَقْتَصِرَ على الثَّلَاثِ كما
يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ وَالتَّنَفُّلُ بِالثَّلَاثِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَإِمَّا
أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا فَيَصِيرُ مُخَالِفًا لِإِمَامِهِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ يَدْخُلُ مع الْإِمَامِ فإذا فَرَغَ
الْإِمَامُ يُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى لِتَصِيرَ شَفْعًا له وقال بِشْرٌ
الْمَرِيسِيِّ يُسَلِّمُ مع الْإِمَامِ لِأَنَّ هذا التغير ( ( ( التغيير ) ) )
بِحُكْمِ الِاقْتِدَاءِ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَالْمَسْبُوقِ يُدْرِكُ الْإِمَامَ في
الْقَعْدَةِ أَنَّهُ يَقْعُدُ معه وَابْتِدَاءُ الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ
بِالْقَعْدَةِ ثُمَّ جَازَ هذا التغير ( ( ( التغيير ) ) ) بِحُكْمِ الِاقْتِدَاءِ
كَذَا هذا فَإِنْ دخل مع الْإِمَامِ صلى أَرْبَعًا كما قال أبو يُوسُفَ لِأَنَّ
بِالْقِيَامِ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ صَارَ مُلْتَزِمًا لِلرَّكْعَتَيْنِ
لِخُرُوجِ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ عن جَوَازِ التَّنَفُّلِ بها
قال ابن مَسْعُودٍ وَاَللَّهِ ما أَجْزَأَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ فَلِذَلِكَ يُتِمُّ
أَرْبَعًا لو دخل مع الْإِمَامِ هذا إذَا كان لم يُصَلِّ الْمَكْتُوبَةَ فَإِنْ
كان قد صَلَّاهَا ثُمَّ دخل الْمَسْجِدَ فَإِنْ كان صَلَاةً لَا يُكْرَهُ
التَّطَوُّعُ بَعْدَهَا شَرَعَ في صَلَاةِ الْإِمَامِ وَإِلَّا فَلَا
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ السُّنَّةَ إذَا فَاتَتْ عن وَقْتِهَا هل تُقْضَى
أَمْ لَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ لَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا في
سَائِرِ السُّنَنِ سِوَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أنها إذَا فَاتَتْ عن وَقْتِهَا لَا
تُقْضَى سَوَاءٌ فَاتَتْ وَحْدَهَا أو مع الْفَرِيضَةِ
وقال الشَّافِعِيُّ في قَوْلٍ تُقْضَى قِيَاسًا على الْوِتْرِ
وَلَنَا ما رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم دخل
حُجْرَتِي بَعْدَ الْعَصْرِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فقلت يا رَسُولَ اللَّهِ ما
هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ اللَّتَانِ لم تَكُنْ تُصَلِّيهِمَا من قَبْلُ فقال رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم رَكْعَتَانِ كنت أُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الظُّهْرِ
وفي رِوَايَةٍ رَكْعَتَا الظُّهْرِ شَغَلَنِي عنهما الْوَفْدُ فَكَرِهْتُ أَنْ
أُصَلِّيَهُمَا بِحَضْرَةِ الناس فَيَرَوْنِي فقلت أَفَأَقْضِيهِمَا إذَا فَاتَتَا
فقال لَا وَهَذَا نَصٌّ على أَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ على الْأُمَّةِ
وَإِنَّمَا هو شَيْءٌ اُخْتُصَّ بِهِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا شَرِكَةَ
لنا في خَصَائِصِهِ وَقِيَاسُ هذا الحديث أَنْ لَا يَجِبَ قَضَاءُ رَكْعَتَيْ
الْفَجْرِ أَصْلًا إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْقَضَاءَ إذَا فَاتَتَا مع
الْفَرْضِ لِحَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ وَلِأَنَّ سُنَّةَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم عِبَارَةٌ عن طَرِيقَتِهِ وَذَلِكَ بِالْفِعْلِ في وَقْتٍ خَاصٍّ على
هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ على ما فَعَلَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَالْفِعْلُ في
وَقْتٍ آخَرَ لَا يَكُونُ سُلُوكَ طَرِيقَتِهِ فَلَا يَكُونُ سُنَّةً بَلْ يَكُونُ
تَطَوُّعًا مُطْلَقًا
وَأَمَّا رَكْعَتَا الْفَجْرِ إذَا فَاتَتَا مع الْفَرْضِ فَقَدْ فَعَلَهُمَا
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مع الْفَرْضِ لَيْلَةَ التَّعْرِيسِ فَنَحْنُ
نَفْعَلُ ذلك لِنَكُونَ على طَرِيقَتِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْوِتْرِ لِأَنَّهُ
وَاجِبٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ على ما ذَكَرْنَا وَالْوَاجِبُ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ
في حَقِّ الْعَمَلِ وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كان سُنَّةً مُؤَكَّدَةً لَكِنَّهُمَا
عَرَفَا وُجُوبَ الْقَضَاءِ بِالنَّصِّ الذي رَوَيْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وأما سُنَّةُ الْفَجْرِ فَإِنْ فَاتَتْ مع الْفَرْضِ تُقْضَى مع الْفَرْضِ
اسْتِحْسَانًا لِحَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ فإن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
لَمَّا نَامَ في ذلك الْوَادِي ثُمَّ اسْتَيْقَظَ بِحَرِّ الشَّمْسِ فَارْتَحَلَ
منه ثُمَّ نَزَلَ وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ثُمَّ
أَمَرَهُ فَأَقَامَ فَصَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ وَأَمَّا إذَا فَاتَتْ وَحْدَهَا
لَا تُقْضَى عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ تُقْضَى إذَا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ قبل الزَّوَالِ
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم
قَضَاهُمَا بَعْدَ
____________________
(1/287)
طُلُوعِ
الشَّمْسِ قبل الزَّوَالِ فَصَارَ ذاك ( ( ( ذلك ) ) ) وَقْتَ قَضَائِهِمَا
وَلَهُمَا أَنَّ السُّنَنَ شُرِعَتْ تَوَابِعَ لِلْفَرَائِضِ فَلَوْ قُضِيَتْ في
وَقْتٍ لَا أَدَاءَ فيه لِلْفَرَائِضِ لَصَارَتْ السُّنَنُ أَصْلًا وَبَطَلَتْ
التَّبَعِيَّةُ فلم تَبْقَ سنة ( ( ( سنن ) ) ) مُؤَكَّدَةٌ لِأَنَّهَا كانت
سُنَّةً بِوَصْفِ التَّبَعِيَّةِ وَلَيْلَةُ التَّعْرِيسِ فَاتَتَا مع الْفَرْضِ
فَقُضِيَتَا تَبَعًا لِلْفَرْضِ وَلَا كَلَامَ فيه إنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا
فَاتَتَا وَحْدَهُمَا وَلَا وَجْهَ إلَى قَضَائِهِمَا وَحْدَهُمَا لِمَا بَيَّنَّا
وَلِهَذَا لَا يُقْضَى غَيْرُهُمَا من السُّنَنِ وَلَا هُمَا يُقْضَيَانِ بَعْدَ
الزَّوَالِ والله أعلم
وَأَمَّا الذي هو سُنَنُ الصَّحَابَةِ فَصَلَاةُ التَّرَاوِيحِ في لَيَالِي
رَمَضَانَ وَالْكَلَامُ في صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ
وَقْتِهَا وفي بَيَانِ صِفَتِهَا وفي بَيَانِ قَدْرِهَا وفي سُنَنِهَا وفي بَيَانِ
أنها إذَا فَاتَتْ عن وَقْتِهَا هل تُقْضَى أَمْ لَا
أَمَّا صِفَتُهَا فَهِيَ سُنَّةٌ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ
قال الْقِيَامُ في شَهْرِ رَمَضَانَ سُنَّةٌ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهَا وَكَذَا
رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال التَّرَاوِيحُ سُنَّةٌ إلَّا أنها لَيْسَتْ
بِسُنَّةِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَنَّ سُنَّةَ رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم ما وَاظَبَ عليه ولم يَتْرُكْهُ إلَّا مَرَّةً أو مَرَّتَيْنِ
لِمَعْنًى من الْمَعَانِي وَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ما وَاظَبَ
عليها بَلْ أَقَامَهَا في بَعْضِ اللَّيَالِي روى أَنَّهُ صَلَّاهَا
لِلَيْلَتَيْنِ بِجَمَاعَةٍ ثُمَّ تَرَكَ وقال أَخْشَى أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ
لَكِنْ الصَّحَابَةُ وَاظَبُوا عليها فَكَانَتْ سُنَّةَ الصَّحَابَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا قَدْرُهَا فَعِشْرُونَ رَكْعَةً في عَشْرِ تَسْلِيمَاتٍ في خَمْسِ
تَرْوِيحَاتٍ كُلُّ تَسْلِيمَتَيْنِ تَرْوِيحَةٌ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ في قَوْلٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ رَكْعَةً وفي قَوْلٍ سِتَّةٌ
وَعِشْرُونَ رَكْعَةً وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ
رضي اللَّهُ عنه جَمَعَ أَصْحَابَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في شَهْرِ
رَمَضَانَ على أُبَيِّ بن كَعْبٍ فَصَلَّى بِهِمْ في كل لَيْلَةٍ عِشْرِينَ
رَكْعَةً ولم يُنْكِرْ عليه أحد فَيَكُونُ إجْمَاعًا منهم على ذلك
وَأَمَّا وَقْتُهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فيه
قال بَعْضُهُمْ وَقْتُهَا ما بين الْعِشَاءِ وَالْوِتْرِ فَلَا تَجُوزُ قبل
الْعِشَاءِ وَلَا بَعْدَ الْوِتْرِ وقال عَامَّتُهُمْ وَقْتُهَا ما بَعْدَ
الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا تَجُوزُ قبل الْعِشَاءِ لِأَنَّهَا
تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ فَلَا تَجُوزُ قَبْلَهَا كَسُنَّةِ الْعِشَاءِ
وَذَكَرَ النَّاطِفِيُّ في إمَامٍ صلى بِقَوْمٍ صَلَاةَ الْعِشَاءِ على غَيْرِ
وُضُوءٍ نَاسِيًا ثُمَّ صلى بِهِمْ إمَامٌ آخَرُ التَّرَاوِيحَ مُتَوَضِّئًا ثُمَّ
عَلِمَ أَنَّ الْأَوَّلَ كان على غَيْرِ وُضُوءٍ أَنَّ عليهم أَنْ يُعِيدُوا
الْعِشَاءَ وَالتَّرَاوِيحَ جميعا أَمَّا الْعِشَاءُ فَلَا شَكَّ فيها وَأَمَّا
التَّرَاوِيحُ فَلِأَنَّهَا تُصَلَّى إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ لِأَنَّ ذلك
وَقْتُهَا
وَهَلْ يُكْرَهُ تَأْخِيرُهَا إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ قال بَعْضُهُمْ يُكْرَهُ
لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ
فَكَذَا تَأْخِيرُهَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهَا قِيَامُ
اللَّيْلِ وَقِيَامُ اللَّيْلِ في آخِرِ اللَّيْلِ أَفْضَلُ
فَصْلٌ وَأَمَّا سُنَنُهَا فَمِنْهَا الْجَمَاعَةُ وَالْمَسْجِدُ لِأَنَّ النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم قَدْرَ ما صلى من التَّرَاوِيحِ صلى بِجَمَاعَةٍ في
الْمَسْجِدِ فَكَذَا الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ صَلَّوْهَا بِجَمَاعَةٍ في
الْمَسْجِدِ فَكَانَ أَدَاؤُهَا بِالْجَمَاعَةِ في الْمَسْجِدِ سُنَّةً
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في كَيْفِيَّةِ سُنَّةِ الْجَمَاعَةِ وَالْمَسْجِدِ
أنها سُنَّةُ عَيْنٍ أَمْ سُنَّةُ كِفَايَةٍ
قال بَعْضُهُمْ أنها سُنَّةٌ على سَبِيلِ الْكِفَايَةِ إذَا قام بها بَعْضُ أَهْلِ
الْمَسْجِدِ في الْمَسْجِدِ بِجَمَاعَةٍ سَقَطَ عن الْبَاقِينَ
وَلَوْ تَرَكَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ كلهم إقَامَتَهَا في الْمَسْجِدِ بِجَمَاعَةٍ
فَقَدْ أساؤا ( ( ( أساءوا ) ) ) وَأَثِمُوا
وَمَنْ صَلَّاهَا في بَيْتِهِ وَحْدَهُ أو بِجَمَاعَةٍ لَا يَكُونُ له ثَوَابُ
سُنَّةِ التَّرَاوِيحِ لِتَرْكِهِ ثَوَابَ سُنَّةِ الْجَمَاعَةِ وَالْمَسْجِدِ
وَمِنْهَا نِيَّةُ التَّرَاوِيحِ أو نِيَّةُ قِيَامِ رَمَضَانَ أو نِيَّةُ سُنَّةِ
الْوَقْتِ وَلَوْ نَوَى الصَّلَاةَ مُطْلَقًا أو نَوَى التَّطَوُّعَ
قال بَعْضُ الْمَشَايِخِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ وَالسُّنَّةُ لَا
تَتَأَدَّى بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ أو نِيَّةِ التَّطَوُّعِ وَاسْتَدَلُّوا
بِمَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لَا
تَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ السُّنَّةِ
وقال عَامَّةُ مَشَايِخِنَا إنَّ التَّرَاوِيحَ وَسَائِرَ السُّنَنِ تَتَأَدَّى
بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ لأنها ( ( ( ولأنها ) ) ) وَإِنْ كانت سُنَّةً لَا تَخْرُجُ
عن كَوْنِهَا نَافِلَةً وَالنَّوَافِلُ تَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ إلَّا
أَنَّ الِاحْتِيَاطَ أَنْ يَنْوِيَ التَّرَاوِيحَ أو سُنَّةَ الْوَقْتِ أو قِيَامَ
رَمَضَانَ احْتِرَازًا عن مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَلَوْ اقْتَدَى من يُصَلِّي
التَّرَاوِيحَ بِمَنْ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ أو النَّافِلَةَ
قِيلَ يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ وَيَكُونُ مُؤَدِّيًا للتراويح ( ( ( التراويح ) ) )
وَقِيلَ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ هو الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ
لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِعَمَلِ السَّلَفِ
وَلَوْ اقْتَدَى من يُصَلِّي التَّسْلِيمَةَ الْأُولَى بِمَنْ يُصَلِّي
التَّسْلِيمَةَ الثَّانِيَةَ
قِيلَ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُ
وَقِيلَ يَجُوزُ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُتَّحِدَةٌ فَكَانَ نِيَّةُ
الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ لَغْوًا
وَلِهَذَا صَحَّ اقْتِدَاءُ مُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ بِمُصَلِّي الْأَرْبَعِ
قَبْلَهُ فَكَذَا هذا
وَمِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ يَأْتِي
بِالثَّنَاءِ وَالتَّعَوُّذِ وَالتَّسْمِيَةِ في الرَّكْعَةِ الْأُولَى
وَالْمُقْتَدِي أَيْضًا يَأْتِي بِالثَّنَاءِ
وفي التَّعَوُّذِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ بِنَاءً على أَنَّ التَّعَوُّذَ تَبَعُ
الثَّنَاءِ أو تَبَعُ الْقِرَاءَةِ على ما ذَكَرْنَا
____________________
(1/288)
في
مَوْضِعِهِ وَلَا يَزِيدُ الْإِمَامُ على قَدْرِ التَّشَهُّدِ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ
يَثْقُلُ على الْقَوْمِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَثْقُلُ على الْقَوْمِ يَزِيدُ
عليه وَيَأْتِي بِالدَّعَوَاتِ الْمَشْهُورَةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَقْرَأَ في كل رَكْعَةٍ عَشْرَ آيَاتٍ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن
أبي حَنِيفَةَ وَقِيلَ يَقْرَأُ فيها كما يَقْرَأُ في أَخَفِّ الْمَكْتُوبَاتِ
وَهِيَ الْمَغْرِبُ وَقِيلَ يَقْرَأُ كما يَقْرَأُ في الْعِشَاءِ لِأَنَّهَا
تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ وَقِيلَ يَقْرَأُ في كل رَكْعَةٍ من عِشْرِينَ إلَى ثَلَاثِينَ
لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه دَعَا بِثَلَاثَةٍ من الْأَئِمَّةِ
فَاسْتَقْرَأَهُمْ وَأَمَرَ أَوَّلَهُمْ أَنْ يَقْرَأَ في كل رَكْعَةٍ
بِثَلَاثِينَ آيَةً وَأَمَرَ الثَّانِيَ أَنْ يَقْرَأَ في كل رَكْعَةٍ خَمْسَةً
وَعِشْرِينَ آيَةً وَأَمَرَ الثَّالِثَ أَنْ يَقْرَأَ في كل رَكْعَةٍ عِشْرِينَ
آيَةً
وما قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ سُنَّةٌ إذْ السُّنَّةُ أَنْ يُخْتَمَ الْقُرْآنُ
مَرَّةً في التَّرَاوِيحِ وَذَلِكَ فِيمَا قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ وما أَمَرَ بِهِ
عُمَرُ فَهُوَ من بَابِ الْفَضِيلَةِ وهو أَنْ يُخْتَمَ الْقُرْآنُ مَرَّتَيْنِ أو
ثَلَاثًا وَهَذَا في زَمَانِهِمْ
وَأَمَّا في زَمَانِنَا فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقْرَأَ الْإِمَامُ على حَسَبِ حَالِ
الْقَوْمِ من الرَّغْبَةِ وَالْكَسَلِ فَيَقْرَأُ قَدْرَ ما لَا يُوجِبُ تَنْفِيرَ
الْقَوْمِ عن الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ تَكْثِيرَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ من تَطْوِيلِ
الْقِرَاءَةِ وَالْأَفْضَلُ تَعْدِيلُ الْقِرَاءَةِ في التَّرْوِيحَاتِ كُلِّهَا
وَإِنْ لم يُعَدِّلْ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَكَذَا الْأَفْضَلُ تَعْدِيلُ
الْقِرَاءَةِ في الرَّكْعَتَيْنِ في التَّسْلِيمَةِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُطَوِّلُ الْأُولَى على الثَّانِيَةِ كما في الْفَرَائِضِ
وَمِنْهَا أَنْ يُصَلِّيَ كُلَّ رَكْعَتَيْنِ بِتَسْلِيمَةٍ على حِدَةٍ
وَلَوْ صلى تَرْوِيحَةً بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَعَدَ في الثَّانِيَةِ قَدْرَ
التَّشَهُّدِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَجُوزُ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ صَلَوَاتٍ
كَثِيرَةً تَتَأَدَّى بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ بِنَاءً على أَنَّ التَّحْرِيمَةَ
شَرْطٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لَكِنْ اخْتَلَفَ
الْمَشَايِخُ أَنَّهُ هل يَجُوزُ عن تَسْلِيمَتَيْنِ أو لَا يَجُوزُ إلَّا عن
تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ قال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ إلَّا عن تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ
لِأَنَّهُ خَالَفَ السُّنَّةَ الْمُتَوَارَثَةَ بِتَرْكِ التَّسْلِيمَةِ
وَالتَّحْرِيمَةِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّعَوُّذِ وَالتَّسْمِيَةِ فَلَا يَجُوزُ
إلَّا عن تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ
وقال عَامَّتُهُمْ أنه يَجُوزُ عن تَسْلِيمَتَيْنِ وهو الصَّحِيحُ
وَعَلَى هذا لو صلى التَّرَاوِيحَ كُلَّهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَعَدَ في
كل رَكْعَتَيْنِ إن الصَّحِيحَ أَنَّهُ يَجُوزُ عن الْكُلِّ لِأَنَّهُ قد أتى
بِجَمِيعِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَشَرَائِطِهَا لِأَنَّ تَجْدِيدَ التَّحْرِيمَةِ
لِكُلِّ رَكْعَتَيْنِ ليس بِشَرْطٍ عِنْدَنَا هذا إقعد على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ
قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَأَمَّا إذَا لم يَقْعُدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ
مُحَمَّدٍ
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ يصلى
التَّطَوُّعَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إذَا لم يَقْعُدْ في الثَّانِيَةِ قَدْرَ
التَّشَهُّدِ وَقَامَ وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا
عِنْدَهُمَا وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ قِيَاسًا ثُمَّ إذَا جَازَ
عِنْدَهُمَا فَهَلْ يَجُوزُ عن تَسْلِيمَتَيْنِ أو لَا يَجُوزُ إلَّا عن
تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا عن تَسْلِيمَةٍ
وَاحِدَةٍ لِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَكُونَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ كَامِلًا
وَكَمَالُهُ بِالْقَعْدَةِ ولم تُوجَدْ وَالْكَامِلُ لَا يَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ
وَلَوْ صلى ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ ولم يَقْعُدْ في
الثَّانِيَةِ
قال بَعْضُهُمْ لَا يُجْزِئُهُ أَصْلًا بِنَاءً على أَنَّ من تَنَفَّلَ بِثَلَاثِ
رَكَعَاتٍ ولم يَقْعُدْ إلَّا في آخِرِهَا جَازَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ لِأَنَّهُ لو
كان فَرْضًا وهو الْمَغْرِبُ جَازَ فَكَذَا النَّفَلُ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ
بَعْضِهِمْ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ على رَأْسِ الثَّالِثَةِ في النَّوَافِلِ غَيْرُ
مَشْرُوعَةٍ بِخِلَافِ الْمَغْرِبِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لم يَقْعُدْ فيها وَلَوْ لم
يَقْعُدْ فيها لم تَجُزْ النَّافِلَةُ فَكَذَا في التَّرَاوِيحِ ثُمَّ إنْ كان
سَاهِيًا في الثَّالِثَةِ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ شَيْءٍ لِأَنَّهُ شَرَعَ في
صَلَاةٍ مَظْنُونَةٍ وَلِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ وَإِنْ كان عَمْدًا فَعَلَى قَوْلِ من قال بِالْجَوَازِ يَلْزَمُهُ
رَكْعَتَانِ لِأَنَّ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ قد صَحَّتْ لِبَقَاءِ
التَّحْرِيمَةِ
وَإِنْ لم يُكْمِلْهَا بضم ( ( ( يضم ) ) ) رَكْعَةً أُخْرَى إلَيْهَا
فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ
وَعَلَى قَوْلِ من قال بِعَدَمِ الْجَوَازِ يَلْزَمُهُ رَكْعَتَانِ عِنْدَ أبي
يُوسُفَ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ قد
فَسَدَتْ بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَشَرَعَ في
الثَّالِثَةِ بِلَا تَحْرِيمَةٍ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ
وَعَلَى هذا لو صلى عَشْرَ تَسْلِيمَاتٍ كُلُّ تَسْلِيمَةٍ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ
بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ
وَلَوْ صلى التَّرَاوِيحَ كُلَّهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ ولم يَقْعُدْ إلَّا في
آخِرِهَا
قال بَعْضُهُمْ يُجْزِئُهُ عن التَّرَاوِيحِ كُلِّهَا
وقال بَعْضُهُمْ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا عن تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وهو الصَّحِيحُ
لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِكُلِّ شَفْعٍ بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ
وَمِنْهَا أَنْ يُصَلِّيَ كُلَّ تَرْوِيحَةٍ إمَامٌ وَاحِدٌ وَعَلَيْهِ عَمَلُ
أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَعَمَلُ السَّلَفِ وَلَا يُصَلِّي التَّرْوِيحَةَ
الْوَاحِدَةَ إمَامَانِ لِأَنَّهُ خِلَافُ عَمَلِ السَّلَفِ وَيَكُونُ تَبْدِيلُ
الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ الِانْتِظَارِ بين التَّرْوِيحَتَيْنِ وَأَنَّهُ غَيْرُ
مُسْتَحَبٍّ وَلَا يُصَلِّي إمَامٌ وَاحِدٌ التَّرَاوِيحَ في مَسْجِدَيْنِ في كل
مَسْجِدٍ على الْكَمَالِ وَلَا له فِعْلٌ وَلَا يُحْتَسَبُ التَّالِي من
التَّرَاوِيحِ وَعَلَى الْقَوْمِ أَنْ يُعِيدُوا لِأَنَّ صَلَاةَ إمَامِهِمْ
نَافِلَةٌ وَصَلَاتُهُمْ سُنَّةٌ وَالسُّنَّةُ أَقْوَى فلم يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ
لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَتَكَرَّرُ في وَقْتٍ وَاحِدٍ وما صلى في الْمَسْجِدِ
الْأَوَّلِ مَحْسُوبٌ وَلَيْسَ على الْقَوْمِ أَنْ يُعِيدُوا وَلَا
____________________
(1/289)
بَأْسَ
لِغَيْرِ الْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ التَّرَاوِيحَ في مَسْجِدَيْنِ لِأَنَّهُ
اقْتِدَاءُ الْمُتَطَوِّعِ بِمَنْ يُصَلِّي السُّنَّةَ وَأَنَّهُ جَائِزٌ كما لو
صلى الْمَكْتُوبَةَ ثُمَّ أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ وَدَخَلَ فيها وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ إذَا صَلَّوْا التَّرَاوِيحَ ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوهَا ثَانِيًا
يُصَلُّونَ فُرَادَى لَا بِجَمَاعَةٍ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ تَطَوُّعٌ مُطْلَقٌ
وَالتَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ بِجَمَاعَةٍ مَكْرُوهٌ وَيَجُوزُ التَّرَاوِيحُ
قَاعِدًا من غَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ
لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمُتَوَارَثَةِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ من صلى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ قَاعِدًا
من غَيْرِ عُذْرٍ لَا يَجُوزُ وَكَذَا لو صَلَّاهَا على الدَّابَّةِ من غَيْرِ
عُذْرٍ وهو يَقْدِرُ على النُّزُولِ لِاخْتِصَاصِ هذه السُّنَّةِ بِزِيَادَةِ
تَوْكِيدٍ وَتَرْغِيبٍ بِتَحْصِيلِهَا وَتَرْهِيبٍ وَتَحْذِيرٍ على تَرْكِهَا
فَالْتَحَقَتْ بِالْوَاجِبَاتِ كَالْوِتْرِ
وَمِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ كُلَّمَا صلى تَرْوِيحَةً قَعَدَ بين
التَّرْوِيحَتَيْنِ قَدْرَ تَرْوِيحَةٍ يُسَبِّحُ وَيُهَلِّلُ وَيُكَبِّرُ
وَيُصَلِّي على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَيَدْعُو وَيَنْتَظِرُ أَيْضًا
بَعْدَ الْخَامِسَةِ قَدْرَ تَرْوِيحَةٍ لِأَنَّهُ مُتَوَارَثٌ من السَّلَفِ
وَأَمَّا الِاسْتِرَاحَةُ بَعْدَ خَمْسِ تَسْلِيمَاتٍ فَهَلْ يُسْتَحَبُّ
قال بَعْضُهُمْ نعم
وقال بَعْضُهُمْ لَا يُسْتَحَبُّ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ خِلَافُ عَمَلِ
السَّلَفِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ أَدَائِهَا إذَا فَاتَتْ عن وَقْتِهَا هل تُقْضَى أَمْ
لَا فَقَدْ قِيلَ أنها تُقْضَى وَالصَّحِيحُ أنها لَا تُقْضَى لِأَنَّهَا لَيْسَتْ
بِآكَدَ من سُنَّةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَتِلْكَ لَا تُقْضَى فَكَذَلِكَ هذه
فَصْلٌ وَأَمَّا صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فَالْكَلَامُ فيها يَقَعُ في مَوَاضِعَ في
بَيَانِ أَنَّ التَّطَوُّعَ هل يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ وفي بَيَانِ مِقْدَارِ ما
يَلْزَمُ منه بِالشُّرُوعِ وفي بَيَانِ أَفْضَلِ التَّطَوُّعِ وفي بَيَانِ ما
يُكْرَهُ من التَّطَوُّعِ وفي بَيَانِ ما يُفَارِقُ التَّطَوُّعُ الْفَرْضَ فيه
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قال أَصْحَابُنَا إذَا شَرَعَ في التَّطَوُّعِ
يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فيه وإذا أَفْسَدَهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ في التَّطَوُّعِ وَلَا الْقَضَاءُ
بِالْإِفْسَادِ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن التَّطَوُّعَ تَبَرُّعٌ وَأَنَّهُ يُنَافِي الْوُجُوبَ وإذا لم
يَجِبْ الْمُضِيُّ فيه لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ
تَسْلِيمٌ مِثْلُ الْوَاجِبِ
وَلَنَا أَنَّ الْمُؤَدَّى عِبَادَةٌ وَإِبْطَالُ الْعِبَادَةِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } فَيَجِبُ صِيَانَتُهَا عن
الْإِبْطَالِ وذلك ( ( ( وذا ) ) ) طريقة ( ( ( بلزوم ) ) ) الْمُضِيِّ فيها وإذا
أَفْسَدَهَا فَقَدْ أَفْسَدَ عِبَادَةً وَاجِبَةَ الْأَدَاءِ فَيَلْزَمُهُ
الْقَضَاءُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ كما في الْمَنْذُورِ وَالْمَفْرُوضِ وقد خَرَجَ
الْجَوَابُ كما ذَكَرَهُ أَنَّهُ تَبَرُّعٌ لِأَنَّا نَقُولُ نعم قبل الشُّرُوعِ
وَأَمَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ فَقَدْ صَارَ وَاجِبًا لِغَيْرِهِ وهو صِيَانَةُ
الْمُؤَدَّى عن الْبُطْلَانِ وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ مع الْإِمَامِ وهو
يَنْوِي التَّطَوُّعَ وَالْإِمَامُ في الظُّهْرِ ثُمَّ قَطَعَهَا فَعَلَيْهِ
قَضَاؤُهَا لِمَا قُلْنَا فَإِنْ دخل معه فيها يَنْوِي التَّطَوُّعَ فَهَذَا على
ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَنْوِيَ قَضَاءَ الْأُولَى أو لم يَكُنْ له
نِيَّةٌ أَصْلًا أو نَوَى صَلَاةً أُخْرَى فَفِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ
يَسْقُطُ عنه وَتَنُوبُ هذه عن قَضَاءِ ما لَزِمَهُ بِالْإِفْسَادِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ وَجْهُ قَوْلِهِ أن ما لَزِمَهُ بِالْإِفْسَادِ
صَارَ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ كَالصَّلَاةِ الْمَنْذُورَةِ فَلَا يَتَأَدَّى خَلْفَ
إمَامٍ يُصَلِّي صَلَاةً أُخْرَى
وَلَنَا أَنَّهُ لو أَتَمَّهَا حين شَرَعَ فيها لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ
فَكَذَا إذَا أَتَمَّهَا بِالشُّرُوعِ الثَّانِي لِأَنَّهُ ما الْتَزَمَ
بِالشُّرُوعِ إلَّا أَدَاءَ هذه الصَّلَاةِ مع الْإِمَامِ وقد أَدَّاهَا وَإِنْ نَوَى
تَطَوُّعًا آخَرَ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ يَنُوبُ عَمَّا لَزِمَهُ
بِالْإِفْسَادِ وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَذُكِرَ في زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَنُوبُ
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا نَوَى صَلَاةً أُخْرَى فَقَدْ أَعْرَضَ عَمَّا كان
دَيْنًا عليه بِالْإِفْسَادِ فَلَا يَنُوبُ هذا الْمُؤَدَّى عنه بِخِلَافِ
الْأَوَّلِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ ما الْتَزَمَ في الْمَرَّتَيْنِ إلَّا
أَدَاءَ هذه الصَّلَاةِ مع الْإِمَامِ وقد أَدَّاهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ثُمَّ الشُّرُوعُ في التَّطَوُّعِ في الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ
في كَوْنِهِ سَبَبًا لِلُّزُومِ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ الشُّرُوعُ في التَّطَوُّعِ في الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ غَيْرُ
مُلْزِمٍ حتى لو قَطَعَهَا لَا شَيْءَ عليه عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا الْأَفْضَلُ أَنْ
يَقْطَعَ وَإِنْ أَتَمَّ فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا قَضَاءَ عليه لِأَنَّهُ أَدَّاهَا
كما وَجَبَتْ وإذا قَطَعَهَا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ
وَأَمَّا الشُّرُوعُ في الصَّوْمِ في الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ فَغَيْرُ مُلْزِمٍ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رحمهما الله تعالى وَعِنْدَهُمَا مُلْزِمٌ فَهُمَا
سَوَّيَا بين الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَجَعَلَا الشُّرُوعَ فِيهِمَا مُلْزِمًا
كَالنَّذْرِ لِكَوْنِ الْمُؤَدَّى عِبَادَةً وَزُفَرُ سَوَّى بَيْنَهُمَا
بِعِلَّةِ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ وَجَعَلَ الشُّرُوعَ فِيهِمَا غير مُلْزِمٍ
وأبو حَنِيفَةَ فَرَّقَ وَالْفَرْقُ له من وُجُوهٍ
أَحَدُهَا ما لَا بُدَّ له من تَقْدِيمِ مُقَدِّمَةٍ وَهِيَ أَنَّ ما تَرَكَّبَ من
أَجْزَاءٍ مُتَّفِقَةٍ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْكُلِّ فيه على الْبَعْضِ كَالْمَاءِ
فإن مَاءَ الْبَحْرِ يُسَمَّى مَاءً ( وَقَطْرَةٌ منه تُسَمَّى مَاءً ) وَكَذَا
الْخَلُّ وَالزَّيْتُ وَكُلُّ مَائِعٍ وما تَرَكَّبَ من أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ
لَا يَكُونُ لِلْبَعْضِ منه اسْمُ الْكُلِّ كالسنجبين ( ( ( كالسكنجبين ) ) ) لَا
يُسَمَّى الْخَلَّ وَحْدَهُ وَلَا السُّكْرَ وَحْدَهُ سكنجبينا ( ( ( سكنجيبا ) )
)
وَكَذَا الْأَنْفُ وَحْدَهُ لَا يُسَمَّى وَجْهًا وَلَا الْخَدُّ
____________________
(1/290)
وَحْدَهُ
وَلَا الْعَظْمُ وَحْدَهُ يُسَمَّى آدَمِيًّا ثُمَّ الصَّوْمُ يَتَرَكَّبُ من
أَجْزَاءٍ مُتَّفِقَةٍ فَيَكُونُ لِكُلِّ جُزْءٍ اسْمُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةُ
تَتَرَكَّبُ من أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ وَهِيَ الْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ
وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فَلَا يَكُونُ لِلْبَعْضِ اسْمُ الْكُلِّ
وَمِنْ هذا قال أَصْحَابُنَا إنَّ من حَلَفَ لَا يَصُومُ ثُمَّ شَرَعَ في
الصَّوْمِ فَكَمَا شَرَعَ يَحْنَثُ وَلَوْ حَلَفَ أن لَا يُصَلِّي فما لم
يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَا يَحْنَثُ وإذا تَقَرَّرَ هذا الْأَصْلُ
فَنَقُولُ أنه نَهْيٌ عن الصَّوْمِ فَكَمَا شَرَعَ بَاشَرَ الْفِعْلَ الْمَنْهِيَّ
وَنَهَى عن الصَّلَاةِ فما لم يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لم يُبَاشِرْ
منهيا فما ( ( ( فيما ) ) ) انْعَقَدَ انْعَقَدَ قُرْبَةً خَالِصَةً غير مَنْهِيٍّ
عنها
فَبَعْدَ هذا يقول بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ الشُّرُوعَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وهو في
الصَّوْمِ مَنْهِيٌّ فَفَسَدَ في نَفْسِهِ فلم يَصِرْ سَبَبَ الْوُجُوبِ
وفي الصَّلَاةِ ليس بِمَنْهِيٍّ فَصَارَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ
وإذا تَحَقَّقَ هذا فَنَقُولُ وُجُوبُ الْمُضِيِّ في التَّطَوُّعِ لِصِيَانَةِ ما
انْعَقَدَ قُرْبَةً
وفي بَابِ الصَّوْمِ ما انْعَقَدَ انْعَقَدَ مَعْصِيَةً من وَجْهٍ
وَالْمُضِيُّ أَيْضًا مَعْصِيَةٌ
وَالْمُضِيُّ لو وَجَبَ وَجَبَ لِصِيَانَةِ ما انْعَقَدَ وما انْعَقَدَ عِبَادَةٌ
وهو مَنْهِيٌّ عنه وَتَقْرِيرُ الْعِبَادَةِ وَصِيَانَتُهَا وَاجِبٌ
وَتَقْرِيرُ الْمَعْصِيَةِ وَصِيَانَتُهَا مَعْصِيَةٌ فَالصِّيَانَةُ وَاجِبَةٌ من
وَجْهٍ مَحْظُورَةٌ من وَجْهٍ
فلم تَجِبْ الصِّيَانَةُ عِنْدَ الشَّكِّ وَتَرَجَّحَتْ جِهَةُ الْحَظْرِ على ما
هو الْأَصْلُ
وَالصِّيَانَةُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَا هو عِبَادَةٌ وَبِمَا هو مَعْصِيَةٌ
وَإِيجَابُ الْعِبَادَةِ مُمْكِنٌ
وَإِيجَابُ الْمَعْصِيَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ
فلم يَجِبْ الْمُضِيُّ عِنْدَ التَّعَارُضِ بَلْ يُرَجَّحُ جَانِبُ الْحَظْرِ
فَأَمَّا في بَابِ الصَّلَاةِ فما انْعَقَدَ انْعَقَدَ عِبَادَةً خَالِصَةً لَا
حَظْرَ فيها فَوَجَبَ تَقْرِيرُهَا وَصِيَانَتُهَا ثُمَّ صِيَانَتُهَا
وَإِنْ كانت بِالْمُضِيِّ وَبِالْمُضِيِّ يَقَعُ في الْمَحْظُورِ
لكن ( ( ( ولكن ) ) ) لو مَضَى تَقَرَّرَتْ الْعِبَادَةُ
وتقرير ( العبادة ) وَاجِبٌ
وما يَأْتِي بِهِ عِبَادَةٌ
وَمَحْظُورٌ أَيْضًا
فَكَانَ مُحَصِّلًا لِلْعِبَادَةِ من وَجْهَيْنِ وَمُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ من
وَجْهٍ فَتَرَجَّحَتْ جِهَةُ الْعِبَادَةِ
وَلَوْ امْتَنَعَ عن الْمُضِيِّ امْتَنَعَ عن تَحْصِيلِ ما هو مَنْهِيٌّ
وَلَكِنْ امْتَنَعَ أَيْضًا عن تَحْصِيلِ ما هو عِبَادَةٌ وَأَبْطَلَ الْعِبَادَةَ
الْمُتَقَرِّرَةَ وَإِبْطَالُهَا مَحْظُورٌ مَحْضٌ
فَكَانَ الْمُضِيُّ لِلصِّيَانَةِ أَوْلَى من الِامْتِنَاعِ فلزمه ( ( ( فيلزمه )
) ) الْمُضِيُّ
فإذا أَفْسَدَهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ
وَمِنْهُمْ من فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فقال إنَّ النَّهْيَ عن الصَّلَاةِ في هذه
الْأَوْقَاتِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ فيه شُبْهَةُ الْعَدَمِ وهو خَبَرُ الْوَاحِدِ
وقد اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في صِحَّتِهِ وَوُرُودِهِ فَكَانَ في ثُبُوتِهِ شَكٌّ
وَشُبْهَةٌ وما كان هذا سَبِيلُهُ كان قَبُولُهُ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ
وَالِاحْتِيَاطُ في حَقِّ إيجَابِ الْقَضَاءِ على من أَفْسَدَ بِالشُّرُوعِ أَنْ
يُجْعَلَ كَأَنَّهُ ما وَرَدَ بِخِلَافِ النَّهْيِ عن الصَّوْمِ
لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ
وَتَلَقَّتْهُ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى بِالْقَبُولِ فَكَانَ النَّهْيُ ثَابِتًا من
جَمِيعِ الْوُجُوهِ
فلم يَصِحَّ الشُّرُوعُ
فلم يَجِبْ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ
وَالْفَقِيهُ الْجَلِيلُ أبو أَحْمَدَ الْعِيَاضِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ ذَكَرَ
هذه الْفُرُوقَ
وَأَشَارَ إلَى فَرْقٍ آخَرَ وهو أَنَّ الصَّوْمَ وُجُوبُهُ بِالْمُبَاشَرَةِ وهو
فِعْلٌ من الصَّوْمِ الْمَنْهِيِّ عنه
فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَوُجُوبُهَا بِالتَّحْرِيمَةِ وَهِيَ قَوْلٌ وَلَيْسَتْ من
الصَّلَاةِ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
غير أَنَّهُ لو أفسد ( ( ( أفسدها ) ) ) مع هذا وَقَضَى في وَقْتٍ آخَرَ كان
أَحْسَنَ لِأَنَّ الْإِفْسَادَ لِيُؤَدِّيَ أَكْمَلُ لَا يُعَدُّ إفْسَادًا
وَهَهُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يؤدي خَالِيًا عن اقْتِرَانِ النَّهْيِ بِهِ
وَلَكِنْ لو صلى مع هذا جَازَ لِأَنَّهُ ما لَزِمَهُ إلَّا هذه الصَّلَاةُ وقد
أَسَاءَ حَيْثُ أَدَّى مَقْرُونًا بِالنَّهْيِ
وَلَوْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَطَعَهَا ثُمَّ
قَضَاهَا وَقْتَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ نَاقِصَةً
وَأَدَّاهَا كما وَجَبَتْ فَيَجُوزُ كما لو أَتَمَّهَا في ذلك الْوَقْتِ ثُمَّ
الشُّرُوعُ إنَّمَا يَكُونُ سَبَبَ الْوُجُوبِ إذَا صَحَّ فَأَمَّا إذَا لم
يَصِحَّ فَلَا حتى لو شَرَعَ في التَّطَوُّعِ على غَيْرِ وُضُوءٍ أو في ثَوْبٍ
نَجِسٍ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَكَذَا القارىء إذَا شَرَعَ في صَلَاةِ
الْأُمِّيِّ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ أو في صَلَاةِ امْرَأَةٍ أو جُنُبٍ أو
مُحْدِثٍ ثُمَّ أَفْسَدَهَا على نَفْسِهِ لَا قَضَاءَ عليه لِأَنَّ شُرُوعَهُ في
الصَّلَاةِ لم يَصِحَّ حَيْثُ اقْتَدَى بِمِنْ لَا يَصْلُحُ إمَامًا له وَكَذَا
الشُّرُوعُ في الصَّلَاةِ الْمَظْنُونَةِ غَيْرُ مُوجِبٍ حتى لو شَرَعَ في
الصَّلَاةِ على ظَنِّ أنها عليه ثُمَّ تَبَيَّنَ أنها لَيْسَتْ عليه لَا
يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ وَلَوْ أَفْسَدَ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ وفي بَابِ الْحَجِّ يَلْزَمُهُ
التَّطَوُّعُ بِالشُّرُوعِ مَعْلُومًا كان أو مَظْنُونًا وَالْفَرْقُ يُذْكَرُ في
كِتَابِ الصَّوْمِ إنْ شَاءَ الله ( ( ( لله ) ) ) تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ ما يَلْزَمُ منه بِالشُّرُوعِ فَنَقُولُ لَا
يَلْزَمُهُ بِالِافْتِتَاحِ أَكْثَرُ من رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ من
ذلك في ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ عن أَصْحَابِنَا إلَّا بِعَارِضِ الِاقْتِدَاءِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ رَوَى بِشْرُ بن الْوَلِيدِ عنه
أَنَّهُ قال فِيمَنْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ يَنْوِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ
أَفْسَدَهَا قَضَى أَرْبَعًا ثُمَّ رَجَعَ وقال يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ
وَرَوَى بِشْرُ بن أبي الْأَزْهَرِ عنه أَنَّهُ قال فِيمَنْ افْتَتَحَ
النَّافِلَةَ يَنْوِي عَدَدًا يَلْزَمُهُ بِالِافْتِتَاحِ ذلك الْعَدَدُ وَإِنْ
كان مِائَةَ رَكْعَةٍ
وَرَوَى غَسَّانُ
____________________
(1/291)
عنه
أَنَّهُ قال إنْ نَوَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَزِمَهُ
وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ من ذلك لم يَلْزَمْهُ
وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ ما تَنَاوَلَهُ وَإِنْ كَثُرَ
وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ أبي الْأَزْهَرِ عنه أَنَّ الشُّرُوعَ في كَوْنِهِ سَبَبًا
لِلُّزُومِ كَالنَّذْرِ ثُمَّ يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ جَمِيعُ ما تَنَاوَلَهُ كذا
بِالشُّرُوعِ
وَجْهُ رِوَايَةِ غَسَّانَ عنه أَنَّ ما وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى
بِنَاءً على مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْوُجُوبِ من الْعَبْدِ دُونَ ما وَجَبَ
بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً وَذَا لَا يَزِيدُ على الْأَرْبَعِ
فَهَذَا أَوْلَى
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوُجُوبَ بِسَبَبِ الشُّرُوعِ ما ثَبَتَ
وَضْعًا بَلْ ضَرُورَةُ صِيَانَةِ المؤدى عن الْبُطْلَانِ وَمَعْنَى الصِّيَانَةِ
يَحْصُلُ بِتَمَامِ الرَّكْعَتَيْنِ فَلَا تَلْزَمُ الزِّيَادَةُ من غَيْرِ
ضَرُورَةٍ بِخِلَافِ النَّذْرِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْوُجُوبِ بِصِيغَتِهِ وَضْعًا
فَيَتَقَدَّرُ الْوُجُوبُ بِقَدْرِ ما تَنَاوَلَهُ السَّبَبُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الشُّرُوعَ سَبَبُ الْوُجُوبِ كَالنَّذْرِ فَنَقُولُ نعم
لَكِنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ ما وُجِدَ الشُّرُوعُ فيه ولم يُوجَدْ الشُّرُوعُ في
الشَّفْعِ الثَّانِي فَلَا يَجِبُ وَلِأَنَّهُ ما وُضِعَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ بَلْ
الْوُجُوبُ لِمَا ذَكَرْنَا من الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ في حَقِّ الشَّفْعِ
الثَّانِي بِخِلَافِ النَّذْرِ فإنه الْتَزَمَ صَرِيحًا فَيَلْزَمُهُ بِقَدْرِ ما
الْتَزَمَ
وَكَذَا الْجَوَابُ في السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالشُّرُوعِ
فيها إلَّا رَكْعَتَيْنِ حتى لو قَطَعَهَا قَضَى رَكْعَتَيْنِ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ عن أَصْحَابِنَا لِأَنَّهُ نَفْلٌ وَعَلَى رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ
قَضَى أَرْبَعًا في كل مَوْضِعٍ يَقْضِي في التَّطَوُّعِ أَرْبَعًا وَمِنْ
الْمُتَأَخِّرِينَ من مَشَايِخِنَا اخْتَارَ قَوْلَ أبي يُوسُفَ فِيمَا يؤدى من
الْأَرْبَعِ منها بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وهو الْأَرْبَعُ قبل الظُّهْرِ
وقال لو قَطَعَهَا يَقْضِي أَرْبَعًا وَلَوْ أُخْبِرَ بِالْبَيْعِ فَانْتَقَلَ
إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ وَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ
وهو الشَّيْخُ الْإِمَامُ أبو بَكْرٍ محمد بن الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ وإذا عُرِفَ
هذا الْأَصْلُ فَنَقُولُ من وَجَبَ عليه رَكْعَتَانِ بِالشُّرُوعِ فَفَرَغَ
مِنْهُمَا وَقَعَدَ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ على
قَصْدِ الْأَدَاءِ يَلْزَمُهُ إتْمَامُ رَكْعَتَيْنِ أُخْرَاوَيْنِ ويبنيهما ( ( (
وبينهما ) ) ) على التَّحْرِيمَةِ الْأُولَى لِأَنَّ قَدْرَ الْمُؤَدَّى صَارَ
عِبَادَةً فَيَجِبُ عليه إتْمَامُ الرَّكْعَتَيْنِ صِيَانَةً له عن الْبُطْلَانِ
وَالْقِيَامُ إلَى الثَّالِثَةِ على قَصْدِ الْأَدَاءِ بِنَاءً منه الشَّفْعُ
الثَّانِي على التَّحْرِيمَةِ الْأَوْلَى وَأَمْكَنَ الْبِنَاءُ عليها لِأَنَّ
التَّحْرِيمَةَ شَرْطُ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا
وَالشَّرْطُ الْوَاحِدُ يَكْفِي لِأَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ كَالطَّهَارَةِ الْوَاحِدَةِ
أنها تَكْفِي لِصَلَوَاتٍ كَثِيرَةٍ وَيَلْزَمُهُ في هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ
الْقِرَاءَةُ كما في الْأُولَيَيْنِ لأن كُلَّ شَفْعٍ من التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ على
حِدَةٍ وَلِهَذَا قالوا إنَّ الْمُتَنَفِّلَ إذَا قام إلَى الثالثة ( ( ( الثالث )
) ) لِقَصْدِ الْأَدَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَفْتِحَ فَيَقُولَ سُبْحَانَك
اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَخْ كما يَسْتَفْتِحُ في الِابْتِدَاءِ لِأَنَّ هذا
بِنَاءُ الِافْتِتَاحِ
وكل رَكْعَتَيْنِ من النَّفْلِ صَلَاةٌ على حِدَةٍ لَكِنْ بِنَاءً على
التَّحْرِيمَةِ الْأُولَى فَيَأْتِي بِالثَّنَاءِ الْمَسْنُونِ فيه وَلَوْ صلى
رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا فَسَهَا فِيهِمَا فَسَجَدَ لِسَهْوِهِ بَعْدَ السَّلَامِ
ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِمَا رَكْعَتَيْنِ أُخْرَاوَيْنِ ليس له ذلك
لِأَنَّهُ لو فَعَلَ ذلك لَوَقَعَ سُجُودُهُ لِلسَّهْوِ في وَسَطِ الصَّلَاةِ
وَأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ إذَا صلى الظُّهْرَ
رَكْعَتَيْنِ وَسَهَا فِيهِمَا فَسَجَدَ لِلسَّهْوِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ
حَيْثُ يَصِحُّ وَيَقُومُ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ وَإِنْ كان يَقَعُ سَهْوُهُ في
وَسَطِ الصَّلَاةِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ السَّلَامَ مُحَلَّلٌ في الشَّرْعِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ
مَنَعَهُ عن الْعَمَلِ في هذه الْحَالَةِ أو حَكَمَ بِعَوْدِ التَّحْرِيمَةِ
ضَرُورَةَ تَحْصِيلِ السُّجُودِ لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ لَا يُؤْتَى بِهِ إلَّا
في تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ إذ ( ( ( والضرورة ) ) ) الضرورة في حَقِّ تِلْكَ
الصَّلَاةِ وَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى إكْمَالِهَا فَظَهَرَ بَقَاءُ التَّحْرِيمَةِ
أو عَوْدُهَا في حَقِّهَا لَا في حَقِّ صَلَاةٍ أُخْرَى وَلَا ضَرُورَةَ في
صَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ صَلَاةٌ على حِدَةٍ فَيَعْمَلُ
التَّسْلِيمُ عَمَلَهُ في التَّحْلِيلِ وكان الْقِيَاسُ في الْمُتَنَفِّلِ
بِالْأَرْبَعِ إذَا تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأُولَى أَنْ تَفْسُدَ صَلَاتُهُ وهو
قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ لَمَّا كان صَلَاةً على حِدَةٍ كانت
الْقَعْدَةُ عَقِيبَهُ فَرْضًا كَالْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ في ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ
من الْفَرَائِضِ إلَّا أَنَّ في الِاسْتِحْسَانِ لَا تَفْسُدُ وهو قَوْلُ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ لَمَّا قام إلَى الثَّالِثَةِ قبل
الْقَعْدَةِ فَقَدْ جَعَلَهَا صَلَاةً وَاحِدَةً شَبِيهَةً بِالْفَرْضِ
وَاعْتِبَارُ النَّفْلِ بِالْفَرْضِ مَشْرُوعٌ في الْجُمْلَةِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ
لِلْفَرْضِ فَصَارَتْ الْقَعْدَةُ الْأُولَى فَاصِلَةً بين الشَّفْعَيْنِ
وَالْخَاتِمَةُ هِيَ الْفَرِيضَةُ فَأَمَّا الْفَاصِلَةُ فَوَاجِبَةٌ وَهَذَا
بِخِلَافِ ما إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الْأُولَيَيْنِ في التَّطَوُّعِ وَقَامَ
إلَى الْأُخْرَيَيْنِ وَقَرَأَ فِيهِمَا حَيْثُ يَفْسُدُ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ
بِالْإِجْمَاعِ ولم نَجْعَلْ هذه الصَّلَاةَ صَلَاةً وَاحِدَةً في حَقِّ
الْقِرَاءَةِ بِمَنْزِلَةِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ إنَّمَا
صَارَتْ فَرْضًا لِغَيْرِهَا وهو الْخُرُوجُ فإذا قام إلَى الثَّالِثَةِ وَصَارَتْ
الصَّلَاةُ من ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ لم يَأْتِ أَوَانُ الْخُرُوجِ فلم تَبْقَ
الْقَعْدَةُ فَرْضًا
فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فَهِيَ رُكْنٌ بِنَفْسِهَا فإذا تَرَكَهَا في الشَّفْعِ
الْأَوَّلِ فَسَدَ فلم يَصِحَّ بِنَاءُ الشَّفْعِ الثَّانِي عليه
وَعَلَى هذا قالوا إذَا صلى التَّطَوُّعَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ
____________________
(1/292)
وَاحِدَةٍ
يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ اعْتِبَارًا لِلتَّطَوُّعِ بِالْفَرْضِ وهو صَلَاةُ
الْمَغْرِبِ إذَا صَلَّاهَا بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ لِأَنَّ ما اتَّصَلَ بِهِ الْقَعْدَةُ وَهِيَ الرَّكْعَةُ الْأَخِيرَةُ
فَسَدَتْ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بِالرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ
فَيَفْسُدُ ما قَبْلَهَا وَلَوْ تَطَوَّعَ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ لِأَنَّهَا لَمَّا جَازَتْ بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ
وَتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فتجوز ( ( ( فيجوز ) ) ) بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْضًا
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّا إنَّمَا اسْتَحْسَنَّا جَوَازَ
الْأَرْبَعِ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ اعْتِبَارًا بِالْفَرِيضَةِ وَلَيْسَ في
الْفَرَائِضِ سِتُّ رَكَعَاتٍ يَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَعُودُ
الْأَمْرُ فيه إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ثُمَّ إنَّمَا يَجِبُ بِإِفْسَادِ التَّطَوُّعِ قَضَاءُ الشَّفْعِ الذي اتَّصَلَ
بِهِ الْمُفْسَدُ دُونَ الشَّفْعِ الذي مَضَى على الصِّحَّةِ حتى لو صلى أَرْبَعًا
فَتَكَلَّمَ في الثَّالِثَةِ أو الرَّابِعَةِ قَضَى الشَّفْعَ الثَّانِيَ دُونَ
الْأَوَّلِ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ صَلَاةٌ على حِدَةٍ فَفَسَادُ الثَّانِي لَا
يُوجِبُ فَسَادَ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْفَرْضِ لِأَنَّهُ كُلَّهُ صَلَاةٌ
وَاحِدَةٌ فَفَسَادُ الْبَعْضِ يُوجِبُ فَسَادَ الْكُلِّ وَلَوْ اقْتَدَى
الْمُتَطَوِّعُ بمصلى الظُّهْرِ في أَوَّلِ الصَّلَاةِ ثُمَّ قَطَعَهَا أو
اقْتَدَى بِهِ في الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ
لِأَنَّهُ بِالِاقْتِدَاءِ الْتَزَمَ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَهِيَ أَرْبَعُ
رَكَعَاتٍ
وَمَنْ نَوَى أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ سِتًّا لم يَلْزَمْهُ رَكْعَتَانِ لِأَنَّ
الشُّرُوعَ لم يُوجَدْ في الرَّكْعَتَيْنِ وَإِنَّمَا وُجِدَ في الظُّهْرِ وَهِيَ
أَرْبَعٌ ولم يُوجَدْ في حَقِّ الرَّكْعَتَيْنِ إلَّا مُجَرَّدُ النِّيَّةِ
وَمُجَرَّدُ النِّيَّةِ لَا يُلْزِمُ شيئا وَكَذَا الْمُسَافِرُ إذَا نَوَى أَنْ
يُصَلِّيَ الظُّهْرَ أَرْبَعًا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ
لِأَنَّ الظُّهْرَ في حَقِّ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ فَكَانَتْ نِيَّةُ
الزِّيَادَةِ لَغْوًا هذا إذَا أَفْسَدَ التَّطَوُّعَ بِشَيْءٍ من أَضْدَادِ
الصَّلَاةِ في الْوَضْعِ من الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ وَالْقَهْقَهَةِ
وَعَمَلٍ كَثِيرٍ ليس من أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَأَمَّا إذَا أَفْسَدَهُ بِتَرْكِ
الْقِرَاءَةِ بِأَنْ صلى للتطوع ( ( ( التطوع ) ) ) أَرْبَعًا ولم يَقْرَأْ
فِيهِنَّ شيئا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ عليه قَضَاءُ الْأَرْبَعِ وَهِيَ من
الْمَسَائِلِ الْمَعْرُوفَةِ بِثَمَانِ مَسَائِلَ
وَالْأَصْلُ فيها أَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ مَتَى فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ
تَبْقَى التَّحْرِيمَةُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ
الثَّانِي وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مَتَى فَسَدَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ لَا تَبْقَى
التَّحْرِيمَةُ فَلَا يَصِحُّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي وَعِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ إنْ فَسَدَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا
بَطَلَتْ التَّحْرِيمَةُ فَلَا يَصِحُّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي وَإِنْ
فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ في إحْدَاهُمَا بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ فَيَصِحُّ
الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ في كل شَفْعٍ من النَّفْلِ في
الرَّكْعَتَيْنِ جميعا فَكَمَا يَفْسُدُ الشَّفْعُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا
يَفْسُدُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ في إحْدَاهُمَا لِفَوَاتِ ما هو رُكْنٌ كما لو
تَرَكَ الرُّكُوعَ أو السُّجُودَ إنه لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بين التَّرْكِ في
الرَّكْعَتَيْنِ أو في إحْدَاهُمَا
كَذَا هذا وَصَارَ تَرْكُ الْقِرَاءَةِ في الْإِفْسَادِ وَالْحَدَثِ الْعَمْدِ
وَالْكَلَامِ سَوَاءً فإذا فَسَدَتْ الْأَفْعَالُ لم تَبْقَ التَّحْرِيمَةُ
لِأَنَّهَا تَبْقَى لِتَوْحِيدِ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فإذا فَسَدَتْ
الْأَفْعَالُ لَا تَبْقَى هِيَ فلم يَصِحَّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي
لِعَدَمِ التَّحْرِيمَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْفَسَادُ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَفْعَالَ وَإِنْ بَطَلَتْ بِتَرْكِ القراءة لكون
الْقِرَاءَةِ رُكْنًا لكن ( ( ( ولكن ) ) ) بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ لِأَنَّهَا ما
عُقِدَتْ لِهَذَا الشَّفْعِ خَاصَّةً بَلْ له وللشفع ( ( ( الشفع ) ) ) الثَّانِي
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو قَرَأَ يَصِحُّ بِنَاءُ الشَّفْعِ الثَّانِي عليه فإذا لم
تَبْطُلْ التَّحْرِيمَةُ صَحَّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي
ثُمَّ يَفْسُدُ هو أَيْضًا بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فيه
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلتَّحْرِيمَةِ مع بُطْلَانِ
الْأَفْعَالِ كما إذَا تَرَكَ رُكْنًا آخر ( ( ( آخرا ) ) ) أو ( ( ( وتكلم ) ) )
تكلم أو أَحْدَثَ عَمْدًا لِأَنَّهَا لِلْجَمْعِ بين الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ
لِتَجْعَلَهَا كُلَّهَا عِبَادَةً وَاحِدَةً فَتَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الْأَفْعَالِ
كما قال مُحَمَّدٌ غير أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الشَّفْعِ الْأَوَّلِ
في الرَّكْعَتَيْنِ جميعا عَلِمَ فَسَادَ الشَّفْعِ بِيَقِينٍ لِتَرْكِ الرُّكْنِ
بِيَقِينٍ
وأما إذَا قَرَأَ في إحْدَى الْأُولَيَيْنِ لم يَعْلَمْ يَقِينًا بِفَسَادِ هذا
الشَّفْعِ لِأَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ كان يقول بِجَوَازِ الصَّلَاةِ
بِوُجُودِ الْقِرَاءَةِ في رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ
وَقَوْلُهُ وَإِنْ كان فَاسِدًا لَكِنْ إنَّمَا عَرَفْنَا فَسَادَهُ بِدَلِيلٍ
اجْتِهَادِيٍّ غَيْرِ مُوجِبٍ عِلْمَ الْيَقِينِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
الصَّحِيحُ قَوْلَهُ غير أَنَّا عَرَفْنَا صِحَّةَ ما ذَهَبْنَا إلَيْهِ وَفَسَادَ
ما ذَهَبَ إلَيْهِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ فلم يحكم ( ( ( نحكم ) ) ) بِبُطْلَانِ
التَّحْرِيمَةِ الثَّانِيَةِ بِيَقِينٍ بِالشَّكِّ وَلِأَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ
مَتَى دَارَ بين الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ كان الِاحْتِيَاطُ في الْحُكْمِ
بِفَسَادِهِ لِيَجِبَ عليه الْقَضَاءُ وَبِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ لِيَصِحَّ
الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي لِيَجِبَ عليه الْقَضَاءُ بِوُجُودِ مُفْسِدٍ
في هذا الشَّفْعِ أَيْضًا
إذَا عَرَفْت هذا الْأَصْلَ فَنَقُولُ إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الْأَرْبَعِ
كُلِّهَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وَزُفَرَ ( رحمهم الله تعالى ) لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ قد بَطَلَتْ بِفَسَادِ
الشَّفْعِ الْأَوَّلِ بِيَقِينٍ فلم يَصِحَّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي
فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ لِعَدَمِ الْإِفْسَادِ وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ عليه قَضَاءُ الْأَرْبَعِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ بَقِيَتْ وَإِنْ فَسَدَ
الشَّفْعُ
____________________
(1/293)
الْأَوَّلُ
فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي ثُمَّ يَفْسُدُ بِتَرْكِ
الْقِرَاءَةِ أَيْضًا فَيَجِبُ قَضَاءُ الشَّفْعَيْنِ جميعا
وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ
أو قَرَأَ في إحْدَى الْأُولَيَيْنِ فَحَسْبُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ
الشَّفْعِ الْأَوَّلِ لَا غَيْرُ لِأَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ فَسَدَ بِتَرْكِ
الْقِرَاءَةِ في إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ من هذا الشَّفْعِ فَبَطَلَتْ
التَّحْرِيمَةُ فلم يَصِحَّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ
أَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَلِعَدَمِ بُطْلَانِ التَّحْرِيمَةِ بِفَسَادِ
الصَّلَاةِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِكَوْنِ الْفَسَادِ غير ثَابِتٍ بِدَلِيلٍ
مَقْطُوعٍ بِهِ فَبَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ فَصَحَّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ
الثَّانِي ثُمَّ فَسَدَ الشَّفْعُ الثَّانِي بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ في
الرَّكْعَتَيْنِ أو في إحْدَاهُمَا
وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الْأُولَيَيْنِ وَقَرَأَ في الْأُخْرَيَيْنِ
يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ وهو الشَّفْعُ الْأَوَّلُ بِالْإِجْمَاعِ
لِأَنَّهُ فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ في الرَّكْعَتَيْنِ فَيَلْزَمُهُ
قَضَاؤُهُ
فَأَمَّا الشَّفْعُ الثَّانِي فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى صَلَاةٌ
كَامِلَةٌ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فيه قد صَحَّ لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ وقد وُجِدَتْ
الْقِرَاءَةُ في الرَّكْعَتَيْنِ جميعا فَصَحَّ
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَمَّا بَطَلَتْ التَّحْرِيمَةُ لم
يَصِحَّ الشُّرُوعُ في الشَّفْعِ الثَّانِي فلم تَكُنْ صَلَاةً فلم ( ( ( فلا ) )
) يَجِبُ إلَّا قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ وَالْأُخْرَيَانِ لَا يَكُونَانِ
قَضَاءً عن الْأُولَيَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ
أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ ( رحمهم الله تعالى ) فَلِأَنَّ
الشَّفْعَ الثَّانِيَ ليس بِصَلَاةٍ لِانْعِدَامِ التَّحْرِيمَةِ وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ وَإِنْ كان صَلَاةً لَكِنَّهُ بَنَاهُ على تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ وإنها
انْعَقَدَتْ لِلْأَدَاءِ وَالتَّحْرِيمَةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَتَّسِعُ فيها
الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ
وَلَوْ قَرَأَ في إحْدَى الْأُولَيَيْنِ لَا غَيْرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ
قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ
وَذَكَرَ في بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أبي حَنِيفَةَ مع
مُحَمَّدٍ وَالصَّحِيحُ ما ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ
وَلَوْ قَرَأَ في إحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ لَا غَيْرُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ
يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ لَا غَيْرُ وَلَوْ قَرَأَ في
الْأُولَيَيْنِ لَا غَيْرُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَخِيرِ عِنْدَ
الْكُلِّ وَكَذَا لو تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في إحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ وَهَذَا
كُلُّهُ إذَا قَعَدَ بين الشَّفْعَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَأَمَّا إذَا لم
يَقْعُدْ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ
وَلَا تَتَأَتَّى هذه التَّفْرِيعَاتُ عِنْدَهُ وَلَوْ كان خَلْفَهُ رَجُلٌ
اقْتَدَى بِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ إمَامِهِ يَقْضِي ما يَقْضِي إمَامُهُ لِأَنَّ
صَلَاةَ الْمُقْتَدِي مُتَعَلِّقَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ صِحَّةً وَفَسَادًا
وَلَوْ تَكَلَّمَ الْمُقْتَدِي وَمَضَى الْإِمَامُ في صَلَاتِهِ حتى صلى أَرْبَعَ
رَكَعَاتٍ وَقَرَأَ في الْأَرْبَعِ كُلِّهَا وَقَعَدَ بين الشَّفْعَيْنِ فَإِنْ
تَكَلَّمَ قبل أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ
الْأُولَيَيْنِ فَقَطْ لِأَنَّهُ لم يَلْتَزِمْ الشَّفْعَ الْأَخِيرَ لِأَنَّ
الِالْتِزَامَ بِالشُّرُوعِ ولم يَشْرَعْ فيه وَإِنَّمَا وُجِدَ منه الشُّرُوعُ في
الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَقَطْ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ بِالْإِفْسَادِ لَا غَيْرُ
وَإِنْ تَكَلَّمَ بعد ما قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قبل أَنْ يَقُومَ إلَى
الثَّالِثَةِ لَا شَيْءَ عليه لِأَنَّهُ أَدَّى ما الْتَزَمَ بِوَصْفِ الصِّحَّةِ
وَأَمَّا إذَا قام إلَى الثَّالِثَةِ ثُمَّ تَكَلَّمَ الْمُقْتَدِي لم يذكر هذه
الْمَسْأَلَةَ في الْأَصْلِ
وَذَكَرَ عِصَامُ بن يُوسُفَ في مُخْتَصَرِهِ أَنَّ عليه قَضَاءَ أَرْبَعِ
رَكَعَاتٍ
قال الشَّيْخُ الْإِمَامُ الأجل الزَّاهِدُ صَدْرُ الدِّينِ أبو الْمُعِينِ
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هذا الْجَوَابُ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
رحمهما الله تعالى لِأَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ هذا كُلَّهُ صَلَاةً وَاحِدَةً
بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لم يَحْكُمَا بِفَسَادِهَا بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ الْأُولَى
وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَقَدْ بَقِيَ كُلُّ شَفْعٍ صَلَاةً على حِدَةٍ حتى
حُكِمَ بِافْتِرَاضِ الْقَعْدَةِ الْأُولَى فَكَانَ هذا الْمُقْتَدِي مُفْسِدًا
لِلشَّفْعِ الْأَخِيرِ لَا غَيْرُ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ لَا غَيْرُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ أَفْضَلِ التَّطَوُّعِ فَأَمَّا في النَّهَارِ فَأَرْبَعٌ
أَرْبَعٌ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا رحمهم الله تعالى
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى مَثْنَى مَثْنَى بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
جميعا
وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى عُمَارَةُ بن رُوَيْبَةَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ كان يَفْتَتِحُ صَلَاةَ الضُّحَى بِرَكْعَتَيْنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صلى
اللَّهُ عليه وسلم كان يَخْتَارُ من الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا وَلِأَنَّ في
التَّطَوُّعِ بِالْمَثْنَى زِيَادَةُ تَكْبِيرٍ وَتَسْلِيمٍ فَكَانَ أَفْضَلَ
وَلِهَذَا قال في الْأَرْبَعِ قبل الظُّهْرِ إنَّهَا بِتَسْلِيمَتَيْنِ
وَلَنَا ما رَوَى ابن مَسْعُودٍ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ كان
يُوَاظِبُ في صَلَاةِ الضُّحَى على أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ
ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَوْلَى من الْأَخْذِ بِرِوَايَةِ عُمَارَةِ بن رُوَيْبَةَ
لِأَنَّهُ يَرْوِي الْمُوَاظَبَةَ وَعُمَارَةُ لَا يَرْوِيهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ
الْأَخْذَ بِالْمُفَسَّرِ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْأَرْبَعَ أَدْوَمُ وَأَشَقُّ على
الْبَدَنِ وَسُئِلَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ
فقال أَحْمَزُهَا أَيْ أَشَقُّهَا على الْبَدَنِ
وَأَمَّا في اللَّيْلِ فَأَرْبَعٌ أَرْبَعٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَثْنَى مَثْنَى وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمهما الله تعالى
احْتَجَّا بِمَا رَوَى ابن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم أَنَّهُ قال صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى وَبَيْنَ كل رَكْعَتَيْنِ
فَسَلِّمْ أَمَرَ بِالتَّسْلِيمِ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ
____________________
(1/294)
وما
أَرَادَ بِهِ الْإِيجَابَ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فَتَعَيَّنَ الِاسْتِحْبَابُ
مُرَادًا بِهِ وَلِأَنَّ عَمَلَ الْأُمَّةِ في التَّرَاوِيحِ قد ( ( ( فظهر ) ) )
ظهر مَثْنَى مَثْنَى من لَدُنْ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه إلَى يَوْمِنَا هذا فَدَلَّ
أَنَّ ذلك أَفْضَلُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى ما رَوَيْنَا عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها
أنها سُئِلَتْ عن قِيَامِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في لَيَالِي
رَمَضَانَ فقالت كان قِيَامُهُ في رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ سَوَاءً لِأَنَّهُ كان
يُصَلِّي بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَا تَسْأَلْ عن حُسْنِهِنَّ
وَطُولِهِنَّ ثُمَّ أَرْبَعًا لَا تَسْأَلْ عن حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ كان
يُوتِرُ بِثَلَاثٍ
وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أنها سُئِلَتْ عن ذلك فقالت وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ ذلك
ثُمَّ ذَكَرَتْ الحديث
وَكَلِمَةُ كان عِبَارَةٌ عن الْعَادَةِ وَالْمُوَاظَبَةِ وما كان رسول اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم يُوَاظِبُ إلَّا على أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَحَبِّهَا
إلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَفِيهِ دَلَالَةٌ على أَنَّهُ ما كان يُسَلِّمُ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ إذْ
لو كان كَذَلِكَ لم يَكُنْ لِذِكْرِ الْأَرْبَعِ فَائِدَةٌ
وَلِأَنَّ الْوَصْلَ بين الشَّفْعَيْنِ بِمَنْزِلَةِ التَّتَابُعِ في بَابِ
الصَّوْمِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا بِتَسْلِيمَةٍ فَصَلَّى
بِتَسْلِيمَتَيْنِ لَا يَخْرُجُ عن الْعُهْدَةِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في
الزِّيَادَاتِ كما في صِفَةِ التَّتَابُعِ في بَابِ الصَّوْمِ
ثُمَّ الصَّوْمُ مُتَتَابِعًا أَفْضَلُ فَكَذَا الصَّلَاةُ
وَالْمَعْنَى فيه ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَشَقُّ على الْبَدَنِ فَكَانَ أَفْضَلَ
وَمَعْنَى قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَسَلَّمَ أَيْ فَتَشَهَّدَ
لِأَنَّ التَّحِيَّاتِ تُسَمَّى تَشَهُّدًا لِمَا فيها من الشَّهَادَةِ
وَهِيَ قَوْلُهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
وَكَذَا تُسَمَّى تَسْلِيمًا لِمَا فيها من التَّسْلِيمِ بِقَوْلِهِ السَّلَامُ
عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ
وَحَمْلُهُ على هذا أَوْلَى لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّسْلِيمِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ
لِلْوُجُوبِ وَالتَّسْلِيمُ ليس بِوَاجِبٍ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو صلى أَرْبَعًا جَازَ
أَمَّا التَّشَهُّدُ فَوَاجِبٌ فَكَانَ الْحَمْلُ عليه أَوْلَى
فَأَمَّا التَّرَاوِيحُ فَإِنَّمَا تُؤَدَّى مَثْنَى مَثْنَى
لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ
فَتُؤَدَّى على وَجْهِ السُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ لِمَا فِيهِمْ من الْمَرِيضِ
وَذِي الْحَاجَةِ
وَلَا كَلَامَ فيه
وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا إذَا كان وَحْدَهُ والله أعلم
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُكْرَهُ من التَّطَوُّعِ فَالْمَكْرُوهُ منه
نَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْقَدْرِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْقَدْرِ فَأَمَّا في النَّهَارِ فَتُكْرَهُ
الزِّيَادَةُ على الْأَرْبَعِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وفي اللَّيْلِ لَا تُكْرَهُ
وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ سِتًّا وَثَمَانِيًا
ذَكَرَهُ في الْأَصْلِ
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ في صَلَاةِ اللَّيْلِ إنْ شِئْت فَصَلِّ
بِتَكْبِيرَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ شِئْت أَرْبَعًا وَإِنْ شِئْت سِتًّا ولم
يَزِدْ عليه وَالْأَصْلُ في ذلك أَنَّ النَّوَافِلَ شُرِعَتْ تَبَعًا
لِلْفَرَائِضِ وَالتَّبَعُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ فَلَوْ زِيدَتْ على
الْأَرْبَعِ في النَّهَارِ لَخَالَفَتْ الْفَرَائِضَ وَهَذَا هو الْقِيَاسُ في
اللَّيْلِ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ على الْأَرْبَعِ إلَى الثَّمَانِ أو إلَى
السِّتِّ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ
وهو ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ كان يُصَلِّي بِاللَّيْلِ
خَمْسَ رَكَعَاتٍ سَبْعَ رَكَعَاتٍ تِسْعَ رَكَعَاتٍ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً
ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَالثَّلَاثُ من كل وَاحِدٍ من هذه الْأَعْدَادِ
الْوِتْرُ وَرَكْعَتَانِ من ثَلَاثَةَ عَشَرَ سُنَّةُ الْفَجْرِ فَيَبْقَى
رَكْعَتَانِ وَأَرْبَعٌ وَسِتٌّ وَثَمَانٍ فَيَجُوزُ إلَى هذا الْقَدْرِ
بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ من غَيْرِ كَرَاهَةٍ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في الزِّيَادَةِ على الثَّمَانِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ
قال بَعْضُهُمْ يُكْرَهُ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ على هذا لم تُرْوَ عن رسول اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم
وقال بَعْضُهُمْ لَا يُكْرَهُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ
السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى قال لِأَنَّ فيه وَصْلَ الْعِبَادَةِ
بِالْعِبَادَةِ فَلَا يُكْرَهُ وَهَذَا يُشْكِلُ بِالزِّيَادَةِ على الْأَرْبَعِ
في النَّهَارِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا ذَكَرْنَا وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ
وَلَوْ زَادَ على الْأَرْبَعِ في النَّهَارِ أو على الثَّمَانِ في اللَّيْلِ
يَلْزَمُهُ لِوُجُودِ سَبَبِ اللُّزُومِ وهو الشُّرُوعُ
ثُمَّ اُخْتُلِفَ في أَنَّ الْأَفْضَلَ في التَّطَوُّعِ طُولُ الْقِيَامِ في
الْأَرْبَعِ وَالْمَثْنَى على حَسَبِ ما اُخْتُلِفَ فيه أو ( ( ( أم ) ) )
كَثْرَةُ الصَّلَاةِ
قال أَصْحَابُنَا طُولُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ
وقال الشَّافِعِيُّ كَثْرَةُ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ
وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ إن طُولَ الْقُنُوتِ أَفْضَلُ أَمْ كَثْرَةُ السُّجُودِ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ سُئِلَ عن أَفْضَلِ الصَّلَاةِ فقال طُولُ الْقُنُوتِ أَيْ الْقِيَامِ
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قال في قَوْله تَعَالَى { وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ } إنَّ الْقُنُوتَ طُولُ الْقِيَامِ وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى { أم ( (
( أمن ) ) ) من هو قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ }
وروى عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال إذَا لم يَكُنْ له وِرْدٌ فَطُولُ الْقِيَامِ
أَفْضَلُ
وَأَمَّا إذَا كان له وِرْدٌ من الْقُرْآنِ يقرأه ( ( ( يقرؤه ) ) ) فَكَثْرَةُ
السُّجُودِ أَفْضَلُ لِأَنَّ الْقِيَامَ لَا يَخْتَلِفُ وَيُضَمُّ إلَيْهِ
زِيَادَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ فَيُكْرَهُ التَّطَوُّعُ في الْأَوْقَاتِ
الْمَكْرُوهَةِ وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بَعْضُهَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فيها
لِمَعْنًى في الْوَقْتِ
وَبَعْضُهَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فيها لِمَعْنًى في غَيْرِ الْوَقْتِ
أَمَّا الذي يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فيها لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ
فَثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ أَحَدُهَا ما بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ
تَرْتَفِعَ وَتَبْيَضَّ
وَالثَّانِي عِنْدَ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ تَزُولَ
وَالثَّالِثُ عِنْدَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ
وهو احْمِرَارُهَا وَاصْفِرَارُهَا إلَى أَنْ تَغْرُبَ
فَفِي هذه
____________________
(1/295)
الْأَوْقَاتِ
الثَّلَاثَةِ يُكْرَهُ كُلُّ تَطَوُّعٍ في جَمِيعِ الْأَزْمَانِ يوم الْجُمُعَةِ
وَغَيْرِهِ
وفي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا
وَسَوَاءٌ كان تَطَوُّعًا مُبْتَدَأً لَا سَبَبَ له أو تَطَوُّعًا له سَبَبٌ
كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَرَكْعَتَيْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِمَا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالتَّطَوُّعِ
وَقْتَ الزَّوَالِ يوم الْجُمُعَةِ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا بَأْسَ بِالتَّطَوُّعِ في هذه الْأَوْقَاتِ بِمَكَّةَ
احْتَجَّ أبو يُوسُفَ رحمه الله تعالى بِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن الصَّلَاةِ وَقْتَ الزَّوَالِ إلَّا يوم الْجُمُعَةِ وَاحْتَجَّ
الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن الصَّلَاةِ في هذه الْأَوْقَاتِ إلَّا بِمَكَّةَ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عُقْبَةَ بن عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قال
ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَنْهَانَا أَنْ
نُصَلِّيَ فيها وَأَنْ نَقْبُرَ فيها مَوْتَانَا إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ حتى
تَرْتَفِعَ وإذا تَضَيَّقَتْ لِلْمَغِيبِ وَعِنْدَ الزَّوَالِ
وَرُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى
عن الصَّلَاةِ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ وقال لِأَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ
وَتَغْرُبُ بين قَرْنَيْ شَيْطَانٍ
وَرَوَى الصالحي ( ( ( الصنابحي ) ) ) أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن
الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقال إنَّهَا تَطْلُعُ بين قَرْنَيْ
شَيْطَانٍ يُزَيِّنُهَا في عَيْنِ من يَعْبُدُهَا حتى يَسْجُدَ لها فإذا
ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا فإذا كانت عِنْدَ قَائِمِ الظَّهِيرَةِ قَارَنَهَا فإذا
مَالَتْ فَارَقَهَا فإذا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا فإذا غَرَبَتْ فَارَقَهَا
فَلَا تُصَلُّوا في هذه الْأَوْقَاتِ
فَالنَّبِيُّ صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن الصَّلَاةِ في هذه الْأَوْقَاتِ من
غَيْرِ فَصْلٍ فَهُوَ على الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ وَنَبَّهَ على مَعْنَى
النَّهْيِ وهو طُلُوعُ الشَّمْسِ بين قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ وَذَلك لِأَنَّ
عَبَدَةَ الشَّمْسِ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ وَيَسْجُدُونَ لها عِنْدَ الطُّلُوعِ
تَحِيَّةً لها وَعِنْدَ الزَّوَالِ لِاسْتِتْمَامِ عُلُوِّهَا وَعِنْدَ الْغُرُوبِ
وَدَاعًا لها فَيَجِيءُ الشَّيْطَانُ فَيَجْعَلُ الشَّمْسَ بين قَرْنَيْهِ
لِيَقَعَ سُجُودُهُمْ نحو الشَّمْسِ له فَنَهَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عن
الصَّلَاةِ في هذه الْأَوْقَاتِ لِئَلَّا يَقَعَ التشبه ( ( ( التشبيه ) ) )
بِعَبَدَةِ الشَّمْسِ وَهَذَا الْمَعْنَى يَعُمُّ الْمُصَلِّينَ أَجْمَعَ فَقَدْ
عَمَّ النَّهْيُ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ وما رُوِيَ
من النَّهْيِ إلَّا بِمَكَّةَ شَاذٌّ لَا يُقْبَلُ في مُعَارَضَةِ الْمَشْهُورِ
وَكَذَا رِوَايَةُ اسْتِثْنَاءِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ غَرِيبَةٌ فَلَا يَجُوزُ
تَخْصِيصُ الْمَشْهُورِ بها
وَأَمَّا الْأَوْقَاتُ التي يُكْرَهُ فيها التَّطَوُّعُ لِمَعْنًى في غَيْرِ
الْوَقْتِ فَمِنْهَا ما بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ وما
بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وما بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ
إلَى مَغِيبِ الشَّمْسِ فَلَا خِلَافَ في أَنَّ قَضَاءَ الْفَرَائِضِ
وَالْوَاجِبَاتِ في هذه الْأَوْقَاتِ جَائِزٌ من غَيْرِ كَرَاهَةٍ وَلَا خِلَافَ
في أَنَّ أَدَاءَ التَّطَوُّعِ المبتدأ مَكْرُوهٌ فيها
وَأَمَّا التَّطَوُّعُ الذي له سَبَبٌ كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَرَكْعَتَيْ
تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَمَكْرُوهٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله
تعالى لَا يُكْرَهُ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا دخل
أحدكم الْمَسْجِدَ فَلْيُحَيِّهِ بِرَكْعَتَيْنِ من غَيْرِ فَصْلٍ
وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى
بَعْدَ الْعَصْرِ
وَعَنْ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ صلى صلاة الصُّبْحَ فَسَمِعَ صَوْتَ حَدَثٍ
مِمَّنْ خَلْفَهُ فقال عَزَمْت على من أَحْدَثَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُعِيدَ
صَلَاتَهُ فلم يَقُمْ أحد فقال جَرِيرُ بن عبد اللَّهِ الْبَجَلِيُّ يا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت لو تَوَضَّأْنَا جميعا وَأَعَدْنَا الصَّلَاةَ
فَاسْتَحْسَنَ ذلك عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه وقال له كُنْت سَيِّدًا في
الْجَاهِلِيَّةِ فَقِيهًا في الْإِسْلَامِ فَقَامُوا وَأَعَادُوا الْوُضُوءَ
وَالصَّلَاةَ وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ مِمَّنْ لم يُحْدِثْ كانت
نَافِلَةً وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْفَرَائِضُ في هذه الْأَوْقَاتِ
كَذَا النَّوَافِلُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قال شَهِدَ عِنْدِي
رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم قال لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حتى تُشْرِقَ الشَّمْسُ
وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ حتى تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَهُوَ على
الْعُمُومِ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ وَكَذَا رُوِيَ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال ذلك
وَرُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ طَافَ بَعْدَ طُلُوعِ
الْفَجْرِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ ولم يُصَلِّ حتى خَرَجَ إلَى ذِي طِوًى وَصَلَّى
ثَمَّةَ بَعْدَ ما طَلَعَتْ الشَّمْسُ وقال رَكْعَتَانِ مَكَانَ رَكْعَتَيْنِ
وَلَوْ كان أَدَاءُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ بَعْدَ طُلُوعِ الفجر ( ( ( الشمس ) ) )
جَائِزًا من غَيْرِ كَرَاهَةٍ لَمَا أَخَّرَ لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ
أَفْضَلُ خُصُوصًا رَكْعَتَا الطَّوَافِ
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَقَدْ كان النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مَخْصُوصًا
بِذَلِكَ دَلَّ عليه ما رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أن
عَائِشَةَ تَرْوِي أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى بَعْدَ الْعَصْرِ فقال
إنَّهُ فَعَلَ ما أُمِرَ ونحن نَفْعَلُ ما أُمِرْنَا أَشَارَ إلَى أَنَّهُ كان
مَخْصُوصًا بِذَلِكَ وَلَا شِرْكَةَ في مَوْضِعِ الْخُصُوصِ
أَلَا تَرَى إلَى ما رُوِيَ عن أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
صلى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَسَأَلَتْهُ عن ذلك فقال شَغَلَنِي وَفْدٌ عن
رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ فَقَضَيْتُهُمَا فقالت وَنَحْنُ نَفْعَلُ كَذَلِكَ فقال لَا
أَشَارَ إلَى الْخُصُوصِيَّةِ لِأَنَّهُ كُتِبَتْ عليه
____________________
(1/296)
السُّنَنُ
الرَّاتِبَةُ
وَمَذْهَبُنَا مَذْهَبُ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَعَائِشَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وما روى عن عُمَرَ
فَغَرِيبٌ لَا يُقْبَلُ على أَنَّ عُمَرَ إنَّمَا فَعَلَ ذلك لِإِخْرَاجِ
الْمُحْدِثِ عن عُهْدَةِ الْفَرْضِ وَلَا بَأْسَ بِمُبَاشَرَةِ المكروه ( ( (
المكر ) ) ) لِمِثْلِهِ وَالِاعْتِبَارُ بِالْفَرَائِضِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ
الْكَرَاهَةَ في هذه الْأَوْقَاتِ لَيْسَتْ لِمَعْنًى في الْوَقْتِ بَلْ لِمَعْنًى
في غَيْرِهِ وهو إخْرَاجُ ما بَقِيَ من الْوَقْتِ عن كَوْنِهِ تَبَعًا لِفَرْضِ
الْوَقْتِ لِشَغْلِهِ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ وَمَعْنَى الِاسْتِتْبَاعِ لَا
يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ في حَقِّ الْفَرْضِ فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ
وَكَذَا أَدَاءُ الْوَاجِبِ الذي وَجَبَ بِصُنْعِ الْعَبْدِ من النَّذْرِ
وَقَضَاءِ التَّطَوُّعِ الذي أَفْسَدَهُ في هذه الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهٌ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ
فَصَارَ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَنْذُورَ عَيْنُهُ ليس بِوَاجِبٍ بَلْ هو
نَفْلٌ في نَفْسِهِ وَكَذَا عَيْنُ الصَّلَاةِ لَا تَجِبُ بِالشُّرُوعِ وَإِنَّمَا
الْوَاجِبُ صِيَانَةُ الْمُؤَدَّاةِ عن الْبُطْلَانِ فَبَقِيَتْ الصَّلَاةُ
نَفْلًا في نَفْسِهَا فَتُكْرَهُ في هذه الْأَوْقَاتِ
وَمِنْهَا ما بَعْدَ الْغُرُوبِ يُكْرَهُ فيه النَّفَلُ وَغَيْرُهُ لِأَنَّ فيه
تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَمِنْهَا ما بَعْدَ شُرُوعِ
الْإِمَامِ في الصَّلَاةِ وَقَبْلَ شُرُوعِهِ بَعْدَ ما أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ في
الْإِقَامَةِ يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ في ذلك الْوَقْتِ قَضَاءً لِحَقِّ
الْجَمَاعَةِ كما تُكْرَهُ السُّنَّةُ إلَّا في سُنَّةِ الْفَجْرِ على
التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا في السُّنَنِ
وَمِنْهَا وَقْتُ الْخُطْبَةِ يوم الْجُمُعَةِ يُكْرَهُ فيه الصَّلَاةُ لِأَنَّهَا
سَبَبٌ لِتَرْكِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ تَحِيَّةَ
الْمَسْجِدِ وَالْمَسْأَلَةُ قد مَرَّتْ في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ
وَمِنْهَا ما بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ لِلْخُطْبَةِ يوم الْجُمُعَةِ قبل أَنْ
يَشْتَغِلَ بها وما بَعْدَ فَرَاغِهِ منها قبل أَنْ يَشْرَعَ في الصَّلَاةِ
يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فيه وَالْكَلَامُ وَجَمِيعُ ما يُكْرَهُ في حَالَةِ
الْخُطْبَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى
وَعِنْدَهُمَا لَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ وقد مَرَّ
الْكَلَامُ فيها في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ
وَمِنْهَا ما قبل صَلَاةِ الْعِيدِ يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فيه لِأَنَّ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم لم يَتَطَوَّعْ قبل الْعِيدَيْنِ مع شِدَّةِ حِرْصِهِ على
الصَّلَاةِ وَعَنْ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ خَرَجَ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ
فَوَجَدَ الناس يُصَلُّونَ فقال إنَّهُ لم يَكُنْ قبل الْعِيدِ صَلَاةٌ فَقِيلَ له
أَلَا تَنْهَاهُمْ فقال لَا فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ أَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى
{ أَرَأَيْتَ الذي يَنْهَى عَبْدًا إذَا صلى }
وَعَنْ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا كَانَا
يَنْهَيَانِ الناس عن الصَّلَاةِ قبل الْعِيدِ وَلِأَنَّ الْمُبَادَرَةَ إلَى
صَلَاةِ الْعِيدِ مَسْنُونَةٌ وفي الِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ تأخيرها ( ( (
تأخير ) ) ) وَلَوْ اشْتَغَلَ بِأَدَاءِ التَّطَوُّعِ في بَيْتِهِ يَقَعُ في
وَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَكِلَاهُمَا مَكْرُوهَانِ وقال محمد بن مُقَاتِلٍ
الرَّازِيّ
من أَصْحَابِنَا إنَّمَا يُكْرَهُ ذلك في الْمُصَلَّى كيلا يَشْتَبِهَ على الناس
أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ الْعِيدَ قبل صَلَاةِ الْعِيدِ فَأَمَّا في بَيْتِهِ فَلَا
بَأْسَ بِأَنْ يَتَطَوَّعَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ
وَعَامَّةُ أَصْحَابِنَا على أَنَّهُ لَا يُتَطَوَّعُ قبل صَلَاةِ الْعِيدِ لَا في
الْمُصَلَّى وَلَا في بَيْتِهِ فَأَوَّلُ الصَّلَاةِ في هذا الْيَوْمِ صَلَاةُ
الْعِيدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُفَارِقُ التَّطَوُّعُ الْفَرْضَ فيه فَنَقُولُ
إنَّهُ يُفَارِقُهُ في أَشْيَاءَ منها أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَاعِدًا مع
الْقُدْرَةِ على الْقِيَامِ وَلَا يَجُوزُ ذلك في الْفَرْضِ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ
خَيْرٌ دَائِمٌ فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ الْقِيَامَ يَتَعَذَّرُ عليه إدَامَةُ هذا
الْخَيْرِ فَأَمَّا الْفَرْضُ فإنه يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَلَا يَكُونُ
في إلْزَامِهِ مع الْقُدْرَةِ عليه حَرَجٌ وَالْأَصْلُ في جَوَازِ النَّفْلِ
قَاعِدًا مع الْقُدْرَةِ على الْقِيَامِ ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يُصَلِّي قَاعِدًا فإذا أَرَادَ
أَنْ يَرْكَعَ قام فَقَرَأَ آيَاتٍ
ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْقُعُودِ وَكَذَا لو افْتَتَحَ
الْفَرْضَ قَائِمًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْعُدَ ليس له ذلك بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ
افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَائِمًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْعُدَ من غَيْرِ عُذْرٍ
فَلَهُ ذلك عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى اسْتِحْسَانًا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رحمهما الله تعالى لَا يَجُوزُ وهو الْقِيَاسُ
لِأَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ
رَكْعَتَيْنِ قَائِمًا لَا يَجُوزُ له الْقُعُودُ من غَيْرِ عُذْرٍ فَكَذَا إذَا
شَرَعَ قَائِمًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ وهو
مُخَيَّرٌ بين الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ في الِابْتِدَاءِ فَكَذَا بَعْدَ
الشُّرُوعِ لِكَوْنِهِ مُتَبَرِّعًا أَيْضًا
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا إنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ فَنَقُولُ إنَّ الشُّرُوعَ ليس
بِمُلْزِمٍ وَضْعًا وَإِنَّمَا يُلْزِمُ لِضَرُورَةِ صِيَانَةِ ما انْعَقَدَ
عِبَادَةً عن الْبُطْلَانِ وما انْعَقَدَ يَتَعَلَّقُ بَقَاؤُهُ عِبَادَةً
بِوُجُودِ أَصْلِ ما بَقِيَ من الصَّلَاةِ لَا بِوُجُودِ وَصْفِ ما بَقِيَ فإن
التَّطَوُّعَ قَاعِدًا جَائِزٌ في الْجُمْلَةِ فلم يَلْزَمْ تَحْصِيلُ وَصْفِ
الْقِيَامِ فِيمَا بَقِيَ لِأَنَّ لُزُومَ ما بَقِيَ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَلَا
ضَرُورَةَ في حَقِّ وَصْفِ الْقِيَامِ وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ من
رَكْعَتَيْنِ لِاسْتِغْنَاءِ الْمُؤَدَّى عن الزِّيَادَةِ بِخِلَافِ النَّذْرِ
فإنه مَوْضُوعٌ لِلْإِيجَابِ شَرْعًا فإذا أَوْجَبَ مع الْوَصْفِ وَجَبَ كَذَلِكَ
حتى لو أَطْلَقَ النَّذْرَ لَا رِوَايَةَ فيه فَقِيلَ أنه على هذا الْخِلَافِ الذي
ذَكَرْنَا في
____________________
(1/297)
الشُّرُوعِ
وَقِيلَ لَا يَلْزَمُهُ بِصِفَةِ الْقِيَامِ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ لم يَتَنَاوَلْ
الْقِيَامَ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عليه كَالتَّتَابُعِ في بَابِ
الصَّوْمِ وَقِيلَ يَلْزَمُهُ قَائِمًا لِأَنَّ النَّذْرَ وُضِعَ لِلْإِيجَابِ
فَيُعْتَبَرُ ما أَوْجَبَهُ على نَفْسِهِ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عليه مُطْلَقًا
وَهُنَاكَ يَلْزَمُهُ بِصِفَةِ الْقِيَامِ إلَّا من عُذْرٍ فكذا ههنا
وَأَمَّا الشُّرُوعُ فَلَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لِلْوُجُوبِ وَإِنَّمَا جُعِلَ مُوجِبًا
بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ في حَقِّ الْأَصْلِ دُونَ الْوَصْفِ على ما
مَرَّ ولو افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا فَأَدَّى بَعْضَهَا قَاعِدًا
وَبَعْضَهَا قَائِمًا أَجْزَأَهُ لِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها
أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَفْتَتِحُ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا
فَيَقْرَأُ وِرْدَهُ حتى إذَا بَقِيَ عَشْرُ آيَاتٍ أو نَحْوُهَا قام فَأَتَمَّ
قِرَاءَتَهُ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهَكَذَا كان يَفْعَلُ في الرَّكْعَةِ
الثَّانِيَةِ فَقَدْ انْتَقَلَ من الْقُعُودِ إلَى الْقِيَامِ وَمِنْ الْقِيَامِ
إلَى الْقُعُودِ فَدَلَّ أَنَّ ذلك جَائِزٌ في صَلَاةِ التَّطَوُّعِ
ومنها أَنَّهُ يَجُوزُ التَّنَفُّلُ على الدَّابَّةِ مع الْقُدْرَةِ على
النُّزُولِ وَأَدَاءُ الْفَرْضِ على الدَّابَّةِ مع الْقُدْرَةِ على النُّزُولِ
لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَمِنْهَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ في التَّطَوُّعِ في الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فَرْضٌ
وَالْمَفْرُوضُ من الْقِرَاءَةِ في ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ من الْمَكْتُوبَاتِ في
رَكْعَتَيْنِ منها فَقَطْ حتى لو تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في الشَّفْعِ الْأَوَّلِ من
الْفَرْضِ لَا يُفْسِدُ الشَّفْعَ الثَّانِيَ بَلْ يَقْضِيهَا في الشَّفْعِ
الثَّانِي أو يُؤَدِّيَهَا بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ
شَفْعٍ من التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ على حِدَةٍ
وقد روى عن عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ مَوْقُوفًا عليهم
وَمَرْفُوعًا إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يُصَلَّى
بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلُهَا
قال مُحَمَّدٌ تَأْوِيلُهُ لَا يصلي بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلُهَا من التَّطَوُّعِ على
هَيْئَةِ الْفَرِيضَةِ في الْقِرَاءَةِ أَيْ رَكْعَتَانِ بِقِرَاءَةٍ
وَرَكْعَتَانِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ أَيْ لَا يُصَلِّي بَعْدَ أَرْبَعِ الْفَرِيضَةَ
أَرْبَعًا من التَّطَوُّعِ يَقْرَأُ في رَكْعَتَيْنِ وَلَا يَقْرَأُ في
رَكْعَتَيْنِ وَالنَّهْيُ عن الْفِعْلِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ فَكَانَ هذا أمرا ( ( (
أمر ) ) ) بِالْقِرَاءَةِ في الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا في التَّطَوُّعِ وَلَا
يُحْمَلُ على الْمُمَاثَلَةِ في أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ لِأَنَّ ذلك غَيْرُ
مَنْهِيٍّ بِالْإِجْمَاعِ كَالْفَجْرِ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ وَالظُّهْرِ بَعْدَ
الْأَرْبَعِ في حَقِّ الْمُقِيمِ وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ في حَقِّ
الْمُسَافِرِ
وَتَأْوِيلُ أبي يُوسُفَ أَيْ لَا تُعَادُ الْفَرَائِضُ الْفَوَائِتُ لِأَنَّهُ في
بِدَايَةِ الْإِسْلَامِ كانت الْفَرَائِضُ تُقْضَى ثُمَّ تُعَادُ من الْغَدِ لِوَقْتِهَا
فَنَهَى النبي عن ذلك وَمِصْدَاقُ هذا التَّأْوِيلِ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من نَامَ عن صَلَاةٍ أو نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا
إذَا ذَكَرَهَا أو اسْتَيْقَظَ من الْغَدِ لِوَقْتِهَا ثُمَّ نُسِخَ هذا
الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ لَا يُصَلَّى بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلُهَا وَيُمْكِنُ حَمْلُ
الحديث على النَّهْيِ عن قَضَاءِ الْفَرْضِ بَعْدَ أَدَائِهِ مَخَافَةَ دُخُولِ
فَسَادٍ فيه بِحُكْمِ الْوَسْوَسَةِ وَتَكُونُ فَائِدَةُ الحديث على هذا
التَّأْوِيلِ وُجُوبَ دَفْعِ الْوَسْوَسَةِ وَالنَّهْيَ عن اتِّبَاعِهَا وَيَجُوزُ
أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ على النَّهْيِ عن تَكْرَارِ الْجَمَاعَةِ في مَسْجِدٍ
وَاحِدٍ وَعَلَى هذا التَّأْوِيلِ يَكُونُ الْحَدِيثُ حُجَّةً لنا على
الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنَّ الْقَعْدَةَ على رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ في ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ
في الْفَرَائِضِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ بِلَا خِلَافٍ حتى لَا يَفْسُدَ بِتَرْكِهَا
وفي التَّطَوُّعِ اخْتِلَافٌ على ما مَرَّ وَلَوْ قام إلَى الثَّالِثَةِ قبل أَنْ
يَقْعُدَ سَاهِيًا في الْفَرْضِ فَإِنْ اسْتَتَمَّ قَائِمًا لم يُعِدْ وَإِنْ لم
يَسْتَتِمَّ قَائِمًا عَادَ وَقَعَدَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ
وَأَمَّا في التَّطَوُّعِ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رحمه الله تعالى أَنَّهُ إذَا
نَوَى أَنْ يَتَطَوَّعَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَقَامَ ولم يَسْتَتِمَّ قَائِمًا
أَنَّهُ يَعُودُ ولم يذكر أَنَّهُ إذَا اسْتَتَمَّ قَائِمًا هل يَعُودُ أَمْ لَا
قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا يَعُودُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى
الْأَرْبَعَ الْتَحَقَ بِالظُّهْرِ وَبَعْضُهُمْ قال يَعُودُ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ
صَلَاةٌ على حِدَةٍ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ وَلَوْ كان نَوَى أَنْ يَتَطَوَّعَ
بِرَكْعَتَيْنِ فَقَامَ من الثَّانِيَةِ إلَى الثَّالِثَةِ قبل أَنْ يَقْعُدَ
فَيَعُودُ هَهُنَا بِلَا خِلَافٍ بين مَشَايِخِنَا لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ
بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الْفَجْرِ
وَمِنْهَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ في التَّطَوُّعِ لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ إلَّا في
قِيَامِ رَمَضَانَ وفي الْفَرْضِ وَاجِبَةٌ أو سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِقَوْلِ النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم صَلَاةُ الْمَرْءِ في بَيْتِهِ أَفْضَلُ من صَلَاتِهِ في
مَسْجِدِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ
وَرُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ في
بَيْتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الْمَسْجِدِ وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ من شَعَائِرِ
الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْفَرَائِضِ أو الْوَاجِبَاتِ دُونَ
التَّطَوُّعَاتِ وَإِنَّمَا عَرَفْنَا الْجَمَاعَةَ سُنَّةً في التَّرَاوِيحِ
بِفِعْلِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
التَّرَاوِيحَ في الْمَسْجِدِ لَيْلَتَيْنِ وَصَلَّى الناس بِصَلَاتِهِ وَعُمَرُ
رضي اللَّهُ عنه في خِلَافَتِهِ اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ أَنْ يَجْمَعَ الناس على
قارىء ( ( ( قارئ ) ) ) وَاحِدٍ فلم يُخَالِفُوهُ فَجَمَعَهُمْ على أُبَيِّ بن
كَعْبٍ
وَمِنْهَا أَنَّ التَّطَوُّعَ غَيْرُ مؤقت بِوَقْتٍ خَاصٍّ وَلَا مُقَدَّرٍ
بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ فَيَجُوزُ في أَيِّ وَقْتٍ كان على أَيِّ مِقْدَارٍ كان
إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ
____________________
(1/298)
في
بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَعَلَى بَعْضِ الْمَقَادِيرِ على ما مَرَّ وَالْفَرْضُ
مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ مؤقت بِأَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ فَلَا تَجُوزُ
الزِّيَادَةُ على قَدْرِهِ وَتَخْصِيصُ جَوَازِهِ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ
بَعْضٍ على ما مَرَّ في مَوْضِعِهِ
وَمِنْهَا أَنَّ التَّطَوُّعَ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَالْفَرْضُ لَا
يَتَأَدَّى إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ وقد ذَكَرْنَا الْفَرْقَ في مَوْضِعِهِ
وَمِنْهَا أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ يَخْتَصُّ بِالْفَرَائِضِ دُونَ
التَّطَوُّعَاتِ حتى لو شَرَعَ في التَّطَوُّعِ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَائِتَةً
مَكْتُوبَةً لم يَفْسُدْ تَطَوُّعُهُ
وَلَوْ كان في الْفَرْضِ تَفْسُدُ الْفَرِيضَةُ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ لِلْفَرْضِ
كَوْنُهُ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ قبل وَقْتِهِ وَلَيْسَ لِلتَّطَوُّعِ وَقْتٌ
مَخْصُوصٌ بِخِلَافِ الْفَرْضِ وَلِأَنَّهُ لو تَذَكَّرَ فَائِتَةً عليه في
صَلَاةِ الْفَرْضِ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ تَطَوُّعًا وَلَا يَبْطُلُ أَصْلًا فإذا تَذَكَّرَ
في التَّطَوُّعِ لَأَنْ يَبْقَى تَطَوُّعًا وَلَا يَبْطُلُ كان أَوْلَى وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَالْكَلَامُ في الْجَنَائِزِ يَقَعُ في
الْأَصْلِ في سِتَّةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في غُسْلِ الْمَيِّتِ
وَالثَّانِي في تَكْفِينِهِ
وَالثَّالِثُ في حَمْلِ جِنَازَتِهِ
وَالرَّابِعُ في الصَّلَاةِ عليه
وَالْخَامِسُ في دَفْنِهِ
وَالسَّادِسُ في الشَّهِيدِ وَقَبْلَ أَنْ نَشْتَغِلَ بِبَيَانِ ذلك نَبْدَأُ
بِمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْعَلَ بِالْمَرِيضِ الْمُحْتَضَرِ وما يُفْعَلُ بَعْدَ
مَوْتِهِ إلَى أَنْ يُغَسَّلَ فَنَقُولُ إذَا اُحْتُضِرَ الْإِنْسَانُ
فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ على شِقِّهِ الْأَيْمَنِ كما
يُوَجَّهُ في الْقَبْرِ لِأَنَّهُ قَرُبَ مَوْتُهُ فَيُضْجَعُ كما يُضْجَعُ
الْمَيِّتُ في اللَّحْدِ وَيُلَقَّنُ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ لِقَوْلِ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالْمُرَادُ من
الْمَيِّتِ الْمُحْتَضَرُ لِأَنَّهُ قَرُبَ مَوْتُهُ فَسُمِّيَ مَيِّتًا
لِقُرْبِهِ من الْمَوْتِ
قال اللَّهُ تَعَالَى { إنَّك مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ }
وإذا قَضَى نَحْبَهُ تُغْمَضُ عَيْنَاهُ وَيُشَدُّ لَحْيَاهُ لِأَنَّهُ لو تُرِكَ
كَذَلِكَ لَصَارَ كَرِيهَ الْمَنْظَرِ في نَظَرِ الناس كَالْمُثْلَةِ وقد رُوِيَ
عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ دخل على أبي سَلَمَةَ وقد شُقَّ بَصَرُهُ
نغمضه ( ( ( فغمضه ) ) ) وَلَا بَأْسَ بِإِعْلَامِ الناس بِمَوْتِهِ من
أَقْرِبَائِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَجِيرَانِهِ لِيُؤَدُّوا حَقَّهُ بِالصَّلَاةِ
عليه وَالدُّعَاءِ وَالتَّشْيِيعِ
وقد رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال في الْمِسْكِينَةِ التي
كانت في نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ إذَا مَاتَتْ فَآذِنُونِي وَلِأَنَّ في
الْإِعْلَامِ تَحْرِيضًا على الطَّاعَةِ وَحَثًّا على الِاسْتِعْدَادِ لها
فَيَكُونُ من بَابِ الْإِعَانَةِ على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالتَّسَبُّبِ إلَى
الْخَيْرِ وَالدَّلَالَةِ عليه وقد قال اللَّهُ تَعَالَى { وَتَعَاوَنُوا على
الْبِرِّ وَالتَّقْوَى }
وقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الدَّالُّ على الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ إلَّا
أَنَّهُ يُكْرَهُ النِّدَاءُ في الْأَسْوَاقِ وَالْمَحَالِّ لِأَنَّ ذلك يُشْبِهُ
عَزَاءَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْرَعَ في جِهَازِهِ لِمَا
رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال عَجِّلُوا
بِمَوْتَاكُمْ فَإِنْ يَكُ خَيْرًا قَدَّمْتُمُوهُ إلَيْهِ وَإِنْ يَكُ شَرًّا
فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّارِ نَدَبَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى
التَّعْجِيلِ وَنَبَّهَ على الْمَعْنَى فَيُبْدَأُ بِغُسْلِهِ
فَصْلٌ وَالْكَلَامُ في الْغُسْلِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنَّهُ وَاجِبٌ
وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ وفي بَيَانِ
شَرَائِطِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ من يُغَسِّلُ وَمَنْ لَا يُغَسِّلُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ على وُجُوبِهِ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ
وَالْمَعْقُولُ أَمَّا النَّصُّ فما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال لِلْمُسْلِمِ على الْمُسْلِمِ سِتُّ حُقُوقٍ وَذَكَرَ من جُمْلَتِهَا أَنْ
يُغَسِّلَهُ بَعْد مَوْتِهِ وَعَلَى كَلِمَةُ إيجَابٍ
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ آدَم صَلَوَاتُ اللَّهِ عليه غَسَّلَتْهُ
الْمَلَائِكَةُ ثُمَّ قالت لِوَلَدِهِ هذه سُنَّةُ مَوْتَاكُمْ وَالسُّنَّةُ
الْمُطْلَقَةُ في مَعْنَى الْوَاجِبِ وَكَذَا الناس تَوَارَثُوا ذلك من لَدُنْ
آدَمَ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا فَكَانَ تَارِكُهُ مُسِيئًا
لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَارَثَةَ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ على وُجُوبِهِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ فيه عِبَارَاتُ مَشَايِخِنَا ذَكَرَ محمد
بن شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّ الْآدَمِيَّ لَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ
بِتَشَرُّبِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ في أَجْزَائِهِ كَرَامَةً له لِأَنَّهُ لو
تَنَجَّسَ لَمَا حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ بِالْغُسْلِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ التي
حُكِمَ بِنَجَاسَتِهَا بِالْمَوْتِ وَالْآدَمِيُّ يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ حتى رُوِيَ
عن مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَيِّتَ لو وَقَعَ في الْبِئْرِ قبل الْغُسْلِ يُوجِبُ
تَنْجِيسَ الْبِئْرِ وَلَوْ وَقَعَ بَعْدَ الْغُسْلِ لَا يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ
فَعُلِمَ أَنَّهُ لم يَتَنَجَّسْ بِالْمَوْتِ وَلَكِنْ وَجَبَ غُسْلُهُ لِلْحَدَثِ
لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَخْلُو عن سَابِقَةِ حَدَثٍ لِوُجُودِ اسْتِرْخَاءِ
الْمَفَاصِلِ وَزَوَالِ الْعَقْلِ وَالْبَدَنُ في حَقِّ التَّطْهِيرِ لَا
يَتَجَزَّأُ فَوَجَبَ غُسْلُهُ كُلُّهُ إلَّا أَنَّا اكْتَفَيْنَا بِغُسْلِ هذه
الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ حَالَةَ الْحَيَاةِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ لِغَلَبَةِ
وُجُودِ الْحَدَثِ في كل وَقْتٍ حتى إنَّ خُرُوجَ الْمَنِيِّ عن شَهْوَةٍ لَمَّا
كان لَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ لم يُكْتَفَ فيه إلَّا بِالْغُسْلِ وَلَا حَرَجَ
بَعْدَ الْمَوْتِ فَوَجَبَ غُسْلُ الْكُلِّ وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قالوا إنَّ
بِالْمَوْتِ يَتَنَجَّسُ الْمَيِّتُ لِمَا فيه من الدَّمِ الْمَسْفُوحِ كما
يَتَنَجَّسُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ التي لها دَمٌ سَائِلٌ بِالْمَوْتِ وَلِهَذَا
لو وَقَعَ في الْبِئْرِ يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا غُسِّلَ يُحْكَمُ
بِطَهَارَتِهِ كَرَامَةً له فَكَانَتْ الْكَرَامَةُ عِنْدَهُمْ في
____________________
(1/299)
الْحُكْمِ
بِالطَّهَارَةِ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُطَهِّرِ في الْجُمْلَةِ وهو
الْغُسْلُ لَا في الْمَنْعِ من حُلُولِ النَّجَاسَةِ وَعِنْدَ الْبَلْخِيّ
الْكَرَامَةُ في امْتِنَاعِ حُلُولِ النَّجَاسَةِ وَحُكْمِهَا وَقَوْلُ
الْعَامَّةِ أَظْهَرُ لِأَنَّ فيه عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ إثْبَاتُ النَّجَاسَةِ
عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ النَّجَاسَةِ وَالْحُكْمُ بِالطَّهَارَةِ عِنْدَ وُجُودِ ما
له أَثَرٌ في التَّطْهِيرِ في الْجُمْلَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هذا في الْجُمْلَةِ
أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ من مَنْعِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ أَصْلًا مع وُجُودِ
السَّبَبِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ على سَبِيلِ
الْكِفَايَةِ إذَا قام بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عن الْبَاقِينَ لِحُصُولِ
الْمَقْصُودِ بِالْبَعْضِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ على سَبِيلِ الْكِفَايَةِ
وَكَذَا الْوَاجِبُ هو الْغُسْلُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالتَّكْرَارُ سُنَّةٌ
وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ حتى لو اكْتَفَى بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ أو غَمْسَةٍ وَاحِدَةٍ في
مَاءٍ جَارٍ جَازَ لِأَنَّ الْغُسْلَ إنْ وَجَبَ لِإِزَالَةِ الْحَدَثِ كما ذَهَبَ
إلَيْهِ الْبَعْضُ فَقَدْ حَصَلَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ كما في غُسْلِ
الْجَنَابَةِ وَإِنْ وَجَبَ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْمُتَشَرِّبَةِ فيه
كَرَامَةً له على ما ذَهَبَ إلَيْهِ الْعَامَّةُ فَالْحُكْمُ بِالزَّوَالِ
بِالْغُسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَقْرَبُ إلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ وَلَوْ
أَصَابَهُ الْمَطَرُ لَا يجزىء عن الْغُسْلِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِعْلُ الْغُسْلِ
ولم يُوجَدْ وَلَوْ غَرِقَ في الْمَاءِ فَأُخْرِجَ إنْ كان الْمُخْرِجُ حَرَّكَهُ
كما يُحَرَّكُ الشَّيْءُ قي الْمَاءِ بِقَصْدِ التَّطْهِيرِ سَقَطَ الْغُسْلُ
وَإِلَّا فَلَا لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ فَنَقُولُ يُجَرَّدُ الْمَيِّتُ
إذَا أُرِيدَ غُسْلُهُ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
لَا يُجَرَّدُ بَلْ يُغَسَّلُ وَعَلَيْهِ ثَوْبُهُ اسْتِدْلَالًا بِغُسْلِ النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم حَيْثُ غُسِّلَ في قَمِيصِهِ
وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ من الْغُسْلِ هو التَّطْهِيرُ وَمَعْنَى التَّطْهِيرِ
لَا يَحْصُلُ بِالْغُسْلِ وَعَلَيْهِ الثَّوْبُ لِتَنَجُّسِ الثَّوْبِ
بِالْغُسَالَاتِ التي تَنَجَّسَتْ بِمَا عليه من النَّجَاسَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ
وَتَعَذُّرُ عَصْرِهِ وحصوله بِالتَّجْرِيدِ أَبْلَغُ فَكَانَ أَوْلَى
وَأَمَّا غُسْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في قَمِيصِهِ فَقَدْ كان مَخْصُوصًا
بِذَلِكَ لِعِظَمِ حُرْمَتِهِ فإنه رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَصَدُوا أَنْ
يَنْزِعُوا قَمِيصَهُ قَيَّضَ اللَّهُ عز وجل السِّنَةَ عليهم فما فِيهِمْ أَحَدٌ
إلَّا ضُرِبَ ذَقَنُهُ على صَدْرِهِ حتى نُودُوا من نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لَا تُجَرِّدُوا
نَبِيَّكُمْ وَرُوِيَ غَسِّلُوا نَبِيَّكُمْ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ فَدَلَّ أَنَّهُ
كان مَخْصُوصًا بِذَلِكَ وَلَا شِرْكَةَ لنا في خَصَائِصِهِ وَلِأَنَّ
الْمَقْصُودَ من التَّجْرِيدِ هو التَّطْهِيرُ وَأَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم
كان طَاهِرًا حتى قال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه حين تَوَلَّى غُسْلَهُ طِبْت حَيًّا
وَمَيِّتًا وَيُوضَعُ على التَّخْتِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْغُسْلُ إلَّا
بِالْوَضْعِ عليه لِأَنَّهُ لو غُسِّلَ على الْأَرْضِ لَتَلَطَّخَ ثُمَّ لم يذكر
في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَيْفِيَّةَ وَضْعِ التَّخْتِ أَنَّهُ يُوضَعُ إلَى
الْقِبْلَةِ طُولًا أو عَرْضًا فَمِنْ أَصْحَابِنَا من اخْتَارَ الْوَضْعَ طُولًا
كما يَفْعَلُ في مَرَضِهِ إذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ بِالْإِيمَاءِ وَمِنْهُمْ من
اخْتَارَ الْوَضْعَ عَرْضًا كما يُوضَعُ في قَبْرِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُوضَعُ
كما تَيَسَّرَ لِأَنَّ ذلك يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ وَتُسْتَرُ
عَوْرَتُهُ بِخِرْقَةٍ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ بَاقِيَةٌ
بَعْدَ الْمَوْتِ
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تَنْظُرُوا إلَى فَخِذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ
وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ لِلْأَجْنَبِيِّ غُسْلُ الْأَجْنَبِيَّةِ دَلَّ عليه ما
رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قالت كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ
وهو حَيٌّ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْآدَمِيَّ مُحْتَرَمٌ حَيًّا وَمَيِّتًا وَحُرْمَةُ
النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ من بَابِ الِاحْتِرَامِ
وروى ( ( ( وقد ) ) ) الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رحمهما الله تعالى أَنَّهُ
يُؤَزَّرُ بِإِزَارٍ سَابِغٍ كما يَفْعَلُهُ في حَيَاتِهِ إذَا أَرَادَ
الِاغْتِسَالَ وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عليهم غَسْلُ
ما تَحْتَ الْإِزَارِ ثُمَّ الْخِرْقَةُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ سَاتِرَةً ما بين
السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ لِأَنَّ كُلَّ ذلك عَوْرَةٌ وَبِهِ أُمِرَ في
الْأَصْلِ حَيْثُ قال وَتُطْرَحُ على عَوْرَتِهِ خِرْقَةٌ هَكَذَا ذَكَرَ عن أبي (
( ( أبو ) ) ) عبد اللَّهِ الْبَلْخِيّ نَصًّا في نَوَادِرِهِ ثُمَّ تُغَسَّلُ
عَوْرَتُهُ تَحْتَ الْخِرْقَةِ بَعْدَ أَنْ يَلُفَّ على يَدِهِ خِرْقَةً كَذَا
ذَكَرَ الْبَلْخِيّ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَسِّ عَوْرَةِ الْغَيْرِ فَوْقَ حُرْمَةِ
النَّظَرِ فَتَحْرِيمُ النَّظَرِ يَدُلُّ على تَحْرِيمِ الْمَسِّ بِطَرِيقِ
الْأَوْلَى ولم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ هل يستنجي أَمْ لَا
وَذُكِرَ في صَلَاةِ الْأَثَرِ أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى يستنجي
وَعَلَى قولهما ( ( ( قول ) ) ) لَا يستنجي هو ( ( ( هما ) ) ) يقول ( ( ( يقولان
) ) ) قَلَّمَا يَخْلُو مَوْضِعُ الِاسْتِنْجَاءِ عن النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ
فَلَا بُدَّ من إزَالَتِهَا وأبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ إنَّ الْمُسْكَةَ
تَسْتَرْخِي بِالْمَوْتِ فَلَوْ اسْتَنْجَى رُبَّمَا يَزْدَادُ الِاسْتِرْخَاءُ
فَتَخْرُجُ زِيَادَةُ نَجَاسَةٍ فَكَانَ السَّبِيلُ فيه هو التَّرْكُ
وَالِاكْتِفَاءُ بِوُصُولِ الْمَاءِ إلَيْهِ وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لم
يَذْكُرْهُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلَعَلَّ مُحَمَّدًا رَجَعَ وَعَرَفَ أَيْضًا
رُجُوعَ أبي حَنِيفَةَ حَيْثُ لم يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
ثُمَّ يُوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم أَنَّهُ قال لِلَّاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا
وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ منها وَلِأَنَّ هذا سُنَّةُ الِاغْتِسَالِ في حَالَةِ
الْحَيَاةِ فَكَذَا
____________________
(1/300)
بَعْدَ
الْمَمَاتِ لِأَنَّ الْغُسْلَ في الْمَوْضِعَيْنِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ إلَّا
أَنَّهُ لَا يُمَضْمَضُ الْمَيِّتُ وَلَا يُسْتَنْشَقُ لِأَنَّ إدَارَةَ الْمَاءِ
في الْمَيِّتِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ثُمَّ يَتَعَذَّرُ إخْرَاجُهُ من الْفَمِ إلَّا
بِالْكَبِّ وَذَا مثلة مع أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسِيلَ منه شَيْءٌ لو فُعِلَ
ذلك بِهِ وَكَذَا الْمَاءُ لَا يَدْخُلُ الْخَيَاشِيمَ إلَّا بِالْجَذْبِ
بِالنَّفَسِ وَذَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ من الْمَيِّتِ وَلَوْ كُلِّفَ الْغَاسِلُ
ذلك لَوَقَعَ في الْحَرَجِ وَكَذَا لَا يُؤَخَّرُ غَسْلُ رِجْلَيْهِ عِنْدَ
التَّوْضِئَةِ بِخِلَافِ حَالَةِ الْحَيَاةِ لِأَنَّ هُنَاكَ الْغُسَالَةُ
تَجْتَمِعُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَلَا تَجْتَمِعُ الْغُسَالَةُ على التَّخْتِ فلم
يَكُنْ التَّأْخِيرُ مُفِيدًا وَكَذَا لَا يُمْسَحُ رَأْسُهُ
وَيُمْسَحُ في حَالَةِ الْحَيَاةِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْمَسْحَ
هُنَاكَ سُنَّ تَعَبُّدًا لَا تَطْهِيرًا وَهَهُنَا لو سُنَّ لَسُنَّ تَطْهِيرًا
لَا تَعَبُّدًا وَالتَّطْهِيرُ لَا يَحْصُلُ بِالْمَسْحِ ثُمَّ يُغَسَّلُ رَأْسُهُ
وَلِحْيَتُهُ بِالْخِطْمِيِّ لِأَنَّ ذلك أَبْلَغُ في التَّنْظِيفِ فَإِنْ لم
يَكُنْ فَبِالصَّابُونِ وما أَشْبَهَهُ فَإِنْ لم يَكُنْ فَيَكْفِيهِ الْمَاءُ
الْقَرَاحُ وَلَا يُسَرَّحُ لِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ أنها رَأَتْ قَوْمًا
يُسَرِّحُونَ مَيِّتًا فقالت عَلَامَ تَنُصُّونَ مَيِّتَكُمْ أَيْ تُسَرِّحُونَ
شَعْرَهُ وَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ عنها ولم يُرْوَ عن غَيْرِهَا خِلَافُ ذلك فَحَلَّ
مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّهُ لو سُرِّحَ رُبَّمَا يَتَنَاثَرُ شَعْرُهُ
وَالسُّنَّةُ أَنْ يُدْفَنَ الْمَيِّتُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَلِهَذَا لَا
تُقَصُّ أَظْفَارُهُ وَشَارِبُهُ وَلِحْيَتُهُ وَلَا يُخْتَنُ وَلَا يُنْتَفُ
إبْطُهُ وَلَا تُحْلَقُ عَانَتُهُ وَلِأَنَّ ذلك يُفْعَلُ لِحَقِّ الزِّينَةِ
وَالْمَيِّتُ ليس بِمَحَلِّ الزِّينَةِ وَلِهَذَا لَا يُزَالُ عنه شَيْءٌ مِمَّا
ذَكَرْنَا وَإِنْ كان فيه حُصُولُ زِينَةٍ وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى يُسَرَّحُ وَيُزَالُ عنه شَعْرُ
الْعَانَةِ وَالْإِبْطِ إذَا كَانَا طَوِيلَيْنِ وَشَعْرُ الرَّأْسِ يُزَالُ إنْ
كان يَتَزَيَّنُ بِإِزَالَةِ الشَّعْرِ وَلَا يُحْلَقُ في حَقِّ من كان لَا
يَحْلِقُ في حَالِ الْحَيَاةِ وكان يَتَزَيَّنُ بِالشَّعْرِ
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
قال اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ ما تَصْنَعُونَ بِعَرَائِسِكُمْ ثُمَّ هذه
الْأَشْيَاءُ تُصْنَعُ بِالْعَرُوسِ فَكَذَا بِالْمَيِّتِ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا عن عَائِشَةَ وَذَكَرْنَا من الْمَعْقُولِ وَبِهِ تَبَيَّنَ
أَنَّ ما رَوَاهُ يَنْصَرِفُ إلَى زِينَةٍ ليس فيها إزَالَةُ شَيْءٍ من أَجْزَاءِ
الْمَيِّتِ كَالطِّيبِ وَالتَّنْظِيفِ من الدَّرَنِ وَنَحْوِ ذلك بِدَلِيلِ ما
رَوَيْنَا ثُمَّ يُضْجِعُهُ على شِقِّهِ الْأَيْسَرِ لِتَحْصُلَ الْبِدَايَةُ
بِجَانِبِهِ الْأَيْمَنِ إذْ السُّنَّةُ هِيَ الْبِدَايَةُ بِالْمَيَامِنِ على ما
مَرَّ فَيُغَسِّلُهُ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ حتى يُنَقِّيَهُ وَيَرَى أَنَّ
الْمَاءَ قد خَلَصَ إلَى ما يَلِي التَّخْتَ منه ثُمَّ قد كان أُمِرَ الْغَاسِلُ
قبل ذلك أَنْ يَغْلِيَ الْمَاءَ بِالسِّدْرِ فَإِنْ لم يَكُنْ سِدْرٌ فَحُرْضٌ
فَإِنْ لم يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَالْمَاءُ الْقَرَاحُ ثُمَّ يُضْجِعُهُ على
شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَيُغَسِّلُهُ بِمَاءِ السِّدْرِ أو الْحُرْضِ أو الْمَاءِ
الْقَرَاحِ حتى يَرَى أَنَّ الْمَاءَ قد وَصَلَ إلَى ما يَلِي التَّخْتَ منه ثُمَّ
يُقْعِدُهُ وَيُسْنِدُهُ إلَى صَدْرِهِ أو يَدِهِ فَيَمْسَحُ بَطْنَهُ مَسْحًا
رَفِيقًا حتى إنْ بَقِيَ شَيْءٌ عِنْدَ الْمَخْرَجِ يَسِيلُ منه
هَكَذَا ذُكِرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أن
يُقْعِدُهُ وَيَمْسَحُ بَطْنَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يُغَسِّلُهُ بَعْدَ ذلك وَوَجْهُهُ
أَنَّهُ قد يَكُونُ في بَطْنِهِ شَيْءٌ فَيَمْسَحُ حتى لو سَالَ منه شَيْءٌ
يَغْسِلْهُ بَعْدَ ذلك ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَطْهُرُ
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَيِّتَ قد يَكُونُ في بَطْنِهِ نَجَاسَةٌ
مُنْعَقِدَةٌ لَا تَخْرُجُ بِالْمَسْحِ قبل الْغُسْلِ وَتَخْرُجُ بَعْد ما غُسِّلَ
مَرَّتَيْنِ بِمَاءٍ حَارٍّ فَكَانَ الْمَسْحُ بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ أَوْلَى
وَالْأَصْلُ في الْمَسْحِ ما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا
تَوَلَّى غُسْلَهُ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ وَالْفَضْلُ بن الْعَبَّاسِ وَصَالِحُ
مولى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَعَلِيٌّ أَسْنَدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم إلَى نَفْسِهِ وَمَسَحَ بَطْنَهُ مَسْحًا رَفِيقًا فلم يَخْرُجْ
منه شَيْءٌ فقال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه طِبْت حَيًّا وَمَيِّتًا
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا مَسَحَ بَطْنَهُ فَاحَ رِيحُ الْمِسْكِ في الْبَيْتِ
ثُمَّ إذَا مَسَحَ بَطْنَهُ فَإِنْ سَالَ منه شَيْءٌ يَمْسَحْهُ كيلا يَتَلَوَّثَ
الْكَفَنُ وَيَغْسِلُ ذلك الْمَوْضِعَ تَطْهِيرًا له عن النَّجَاسَةِ
الْحَقِيقِيَّةِ ولم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ سِوَى الْمَسْحِ وَلَا
يُعِيدُ الْغُسْلَ وَلَا الْوُضُوءَ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ يُعِيدُ الْوُضُوءَ
اسْتِدْلَالًا بِحَالَةِ الْحَيَاةِ
وَلَنَا أَنَّ الْمَوْتَ أَشَدُّ من خُرُوجِ النَّجَاسَةِ ثُمَّ هو لم يَمْنَعْ
حُصُولَ الطَّهَارَةِ فَلَأَنْ لَا يَرْفَعَهَا الْخَارِجُ مع أَنَّ الْمَنْعَ
أَسْهَلُ أَوْلَى ثُمَّ يُضْجِعُهُ على شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَيُغَسِّلُهُ
بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ حتى يُنَقِّيَهُ لِيَتِمَّ عَدَدُ الْغُسْلِ ثَلَاثًا لِمَا
رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال للاتي ( ( ( للائي ) ) )
غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أو خَمْسًا أو سَبْعًا وَلِأَنَّ
الثَّلَاثَ هو الْعَدَدُ الْمَسْنُونُ في الْغُسْلِ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا
بَعْدَ الْمَوْتِ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُغَسَّلُ في الْمَرَّةِ الْأُولَى
بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ لِيَبْتَلَّ الدَّرَنُ وَالنَّجَاسَةُ ثُمَّ في الْمَرَّةِ
الثَّانِيَةِ بِمَاءِ السِّدْرِ أو ما يَجْرِي مَجْرَاهُ في التَّنْظِيفِ لِأَنَّ
ذلك أَبْلَغُ في التَّطْهِيرِ وَإِزَالَةِ الدَّرَنِ ثُمَّ في الْمَرَّةِ
الثَّالِثَةِ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ وَشَيْءٍ من الْكَافُورِ
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى في الْمَرَّةِ الْأُولَى لَا يُغَسَّلُ
بِالْمَاءِ الْحَارِّ لِأَنَّهُ يَزِيدُهُ اسْتِرْخَاءً فَيَنْبَغِي أَنْ
يُغَسِّلَهُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا
يُغَسِّلُهُ لِيَسْتَرْخِيَ فَيَزُولَ عنه ما عليه من الدَّرَنِ وَالنَّجَاسَةِ
ثُمَّ يُنَشِّفُهُ في ثَوْبٍ كيلا تَبْتَلَّ أَكْفَانُهُ كما يُفْعَلُ في حَالَةِ
الْحَيَاةِ بَعْدَ الْغُسْلِ
____________________
(1/301)
وَحُكْمُ
الْمَرْأَةِ في الْغُسْلِ حُكْمُ الرَّجُلِ وَكَذَا الصَّبِيُّ في الْغُسْلِ
كَالْبَالِغِ لِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ لِلصَّلَاةِ عليه وَالصَّبِيُّ
وَالْمَرْأَةُ يُصَلَّى عَلَيْهِمَا إلَّا أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا كان لَا يَعْقِلُ
الصَّلَاةَ لَا يُوَضَّأُ عِنْدَ غُسْلِهِ لِأَنَّ حَالَةَ الْمَوْتِ مُعْتَبَرَةٌ
بِحَالَةِ الْحَيَاةِ وفي حَالَةِ الْحَيَاةِ لَا يُعْتَبَرُ وُضُوءُ من لَا
يَعْقِلُ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَكَذَا الْمُحْرِمُ وَغَيْرُ الْمُحْرِمِ
سَوَاءٌ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ في حَقِّ أَحْكَامِ
الدُّنْيَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِهِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا مَاتَ
بَعْدَ الْوِلَادَةِ حتى لو وُلِدَ مَيِّتًا لم يُغَسَّلْ كَذَا رُوِيَ عن أبي
حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ قال إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ سُمِّيَ
وَغُسِّلَ وَصُلِّيَ عليه وَوَرِثَ وَوُرِثَ عنه وإذا لم يَسْتَهِلَّ لم يُسَمَّ
ولم يُغَسَّلْ ولم يَرِثْ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُسَمَّى وَلَا يُصَلَّى
عليه وَهَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُسَمَّى وَلَا
يُصَلَّى عليه وهكذا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ
وقال مُحَمَّدٌ في السِّقْطِ الذي اسْتَبَانَ خَلْقُهُ أَنَّهُ يُغَسَّلُ
وَيُكَفَّنُ وَيُحَنَّطُ وَلَا يُصَلَّى عليه
فَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ على أَنَّهُ لَا يُصَلَّى على من وُلِدَ مَيِّتًا
وَالْخِلَافُ في الْغُسْلِ
وَجْهُ ما اخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الْمَوْلُودَ مَيِّتًا نَفْسٌ
مُؤْمِنَةٌ فَيُغَسَّلُ وَإِنْ كان لَا يُصَلَّى عليه كَالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ
الطَّرِيقِ وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ ما رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي
اللَّهُ عنه عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا اسْتَهَلَّ
الْمَوْلُودُ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عليه وَوَرِثَ وَإِنْ لم يَسْتَهِلَّ لم يُغَسَّلْ
ولم يُصَلَّ عليه ولم يَرِثْ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْغُسْلِ بِالشَّرْعِ وَأَنَّهُ
وَرَدَ بِاسْمِ الْمَيِّتِ وَمُطْلَقُ اسْمِ الْمَيِّتِ في الْعُرْفِ لَا يَقَعُ
على من وُلِدَ مَيِّتًا وَلِهَذَا لَا يُصَلَّى عليه
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى إنْ أُسْقِطَ قبل أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا
يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عليه قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كان لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
من وَقْتِ الْعُلُوقِ وقد اسْتَبَانَ خَلْقُهُ فَلَهُ فيه قَوْلَانِ وَالصَّحِيحُ
قَوْلُنَا لِمَا ذَكَرْنَا وَهَذَا إذَا لم يَسْتَهِلَّ فَأَمَّا إذَا اسْتَهَلَّ
بِأَنْ حَصَلَ منه ما يَدُلُّ على حَيَاتِهِ من بُكَاءٍ أو تَحْرِيكِ عُضْوٍ أو
طَرَفٍ أو غَيْرِ ذلك فإنه يُغَسَّلُ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّ
الِاسْتِهْلَالَ دَلَالَةُ الْحَيَاةِ فَكَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ ولاته ( ( ( ولادته
) ) ) حَيًّا فَيُغَسَّلُ وَلَوْ شَهِدَتْ الْقَابِلَةُ أو الْأُمُّ على
الِاسْتِهْلَالِ تُقْبَلُ في حَقِّ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ عليه لِأَنَّ خَبَرَ
الْوَاحِدِ في بَابِ الدِّيَانَاتِ مَقْبُولٌ إذَا كان عَدْلًا وَأَمَّا في حَقِّ
الْمِيرَاثِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْأُمِّ بِالْإِجْمَاعِ لِكَوْنِهَا
مُتَّهَمَةً لِجَرِّهَا الْمَغْنَمِ إلَى نَفْسِهَا وَكَذَا شَهَادَةُ
الْقَابِلَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى
وَقَالَا تُقْبَلُ إذَا كانت عَدْلَةٌ على ما يُعْرَفُ في مَوْضِعِهِ وَعَلَى هذا
يُخَرَّجُ ما إذَا وُجِدَ طَرَفٌ من أَطْرَافِ الْإِنْسَانِ كَيَدٍ أو رِجْلٍ
أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِغُسْلِ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتُ
اسْمٌ لِكُلِّهِ وَلَوْ وُجِدَ الْأَكْثَرُ منه غُسِّلَ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ
حُكْمَ الْكُلِّ وَإِنْ وُجِدَ الْأَقَلُّ منه أو النِّصْفُ لم يُغَسَّلْ كَذَا
ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ لِأَنَّ هذا الْقَدْرَ
ليس بِمَيِّتٍ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَلِأَنَّ الْغُسْلَ لِلصَّلَاةِ وما لم يَزِدْ
على النِّصْفِ لَا يُصَلَّى عليه فَلَا يُغَسَّلُ أَيْضًا
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ
النِّصْفُ وَمَعَهُ الرَّأْسُ يُغَسَّلُ وَإِنْ لم يَكُنْ معه الرَّأْسُ لَا
يُغْسَلُ فَكَأَنَّهُ جَعَلَهُ مع الرَّأْسِ في حُكْمِ الْأَكْثَرِ لِكَوْنِهِ
مُعْظَمَ الْبَدَنِ وَلَوْ وُجِدَ نِصْفُهُ مَشْقُوقًا لَا يُغْسَلُ لِمَا قُلْنَا
وَلِأَنَّهُ لو غُسِّلَ الْأَقَلُّ أو النِّصْفُ يُصَلَّى عليه لِأَنَّ الْغُسْلَ
لِأَجْلِ الصَّلَاةِ وَلَوْ صلى عليه لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُوجَدَ الْبَاقِي فيصلي
عليه فَيُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الصَّلَاةِ على مَيِّتٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ
مَكْرُوهٌ عِنْدَنَا أو يَكُونُ صَاحِبُ الطَّرَفِ حَيًّا فيصلي على بَعْضِهِ وهو
حَيٌّ وَذَلِكَ فَاسِدٌ وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى إنْ وُجِدَ عُضْوٌ يُغَسَّلُ ويصلي عليه
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ طَائِرًا أَلْقَى يَدًا بِمَكَّةَ زَمَنَ وَقْعَةِ
الْجَمَلِ فَغَسَّلَهَا أَهْلُ مَكَّةَ وَصَلَّوْا عليها وَقِيلَ أنها يَدُ
طَلْحَةَ أو يَدُ عبد الرحمن بن عَتَّابِ بن أُسَيْدٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ صلى على عِظَامٍ بِالشَّامِ
وَعَنْ أبي عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ صلى على رؤوس
وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ شُرِعَتْ لِحُرْمَةِ الْآدَمِيِّ وَكَذَا
الْغُسْلُ وَكُلُّ جُزْءٍ منه مُحْتَرَمٌ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما
أَنَّهُمَا قَالَا لَا يُصَلَّى على عُضْوٍ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ لَا
يُغَسَّلُ لِأَنَّ الْغُسْلَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ وَلِمَا ذَكَرْنَا من
الْمَعَانِي أَيْضًا
وَأَمَّا حَدِيثُ أَهْلِ مَكَّةَ فَلَا حُجَّةَ فيه لِأَنَّ الرَّاوِيَ لم يَرْوِ
أَنَّ الذي صلى عليه من هو حتى نَنْظُرَ أَهُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا
أو نَحْمِلُ الصَّلَاةَ على الدُّعَاءِ
وَكَذَا حَدِيثُ عُمَرَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ رضي اللَّهُ عنهما
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِظَامَ لَا يُصَلَّى عليها بِالْإِجْمَاعِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ مُسْلِمًا حتى لَا يَجِبَ غُسْلُ الْكَافِرِ
لِأَنَّ الْغُسْلَ وَجَبَ كَرَامَةً وَتَعْظِيمًا لِلْمَيِّتِ وَالْكَافِرُ ليس من
أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ وَالتَّعْظِيمِ لَكِنْ إذَا كان ذَا رَحِمٍ
مَحْرَمٍ
____________________
(1/302)
من
الْمُسْلِمِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُغَسِّلَهُ وَيُكَفِّنَهُ وَيَتْبَعُ جِنَازَتَهُ
وَيَدْفِنَهُ لِأَنَّ الِابْنَ ما نُهِيَ عن الْبِرِّ بِمَكَانِ أبيه الْكَافِرِ
بَلْ أُمِرَ بِمُصَاحَبَتِهِمَا بِالْمَعْرُوفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {
وَصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } وَمِنْ الْبِرِّ الْقِيَامُ بِغُسْلِهِ
وَدَفْنِهِ وَتَكْفِينِهِ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ أبو
طَالِبٍ جاء إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال يا رَسُولَ اللَّهِ
إنَّ عَمَّكَ الضَّالَّ قد تُوُفِّيَ فقال اذْهَبْ وَغَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ
وَوَارِهِ وَلَا تُحْدِثَنَّ حَدَثًا حتى تَلْقَانِي
قال فَفَعَلْت ذلك وَأَتَيْته فَأَخْبَرْته فَدَعَا لي بِدَعَوَاتٍ ما أُحِبُّ
أَنْ يَكُونَ لي بها حُمْرُ النَّعَمِ
وقال سَعِيدُ بن جُبَيْرٍ سَأَلَ رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ فقال إنَّ
امْرَأَتِي مَاتَتْ نَصْرَانِيَّةً
فقال اغسلها وَكَفِّنْهَا وَادْفِنْهَا
وَعَنْ الْحَارِثِ بن أبي رَبِيعَةَ إن أُمَّهُ مَاتَتْ نَصْرَانِيَّةً فَتَبِعَ
جِنَازَتَهَا في نَفَرٍ من الصَّحَابَةِ ثُمَّ إنَّمَا يَقُومُ ذُو الرَّحِمِ
بِذَلِكَ إذَا لم يَكُنْ هُنَاكَ من يَقُومُ بِهِ من المشركين ( ( ( أهل ) ) )
فَإِنْ كان خلي الْمُسْلِمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لِيَصْنَعُوا بِهِ ما
يَصْنَعُونَ بِمَوْتَاهُمْ
وَإِنْ مَاتَ مُسْلِمٌ وَلَهُ أَبٌ كَافِرٌ هل يُمَكَّنُ من الْقِيَامِ
بِتَغْسِيلِهِ وَتَجْهِيزِهِ
لم يُذْكَرْ في الْكِتَابِ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكَّنَ من ذلك بَلْ
يُغَسِّلُهُ الْمُسْلِمُونَ لِأَنَّ الْيَهُودِيَّ لَمَّا آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ ما قام رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
حتى مَاتَ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ تَوَلَّوْا أَخَاكُمْ ولم
يُخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ الْيَهُودِيِّ وَلِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ
شُرِعَ كَرَامَةً له وَلَيْسَ من الْكَرَامَةِ أَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرُ
غُسْلَهُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَادِلًا حتى لَا يُغَسَّلَ الْبَاغِي إذَا قُتِلَ وَلَا
يُصَلَّى عليه
وكذا رَوَى الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ رحمهما الله تعالى وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عليه
وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ
وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو الْحَسَنِ الرُّسْتُغْفَنِيُّ صَاحِبُ الشَّيْخِ أبي
مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عليه وَفَرَّقَ
بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْغُسْلَ حَقُّهُ وَالصَّلَاةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فما
كان من حَقِّهِ يُؤْتَى بِهِ وما كان من حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُؤْتَى بِهِ
إهَانَةً له وَلِهَذَا يُغَسَّلُ الْكَافِرُ وَلَا يُصَلَّى عليه وَلَوْ اجْتَمَعَ
الْمَوْتَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ يُنْظَرُ إنْ كان بِالْمُسْلِمِينَ
عَلَامَةٌ يُمْكِنُ الْفَصْلُ بها يُفْصَلُ وَعَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ أَرْبَعَةُ
أَشْيَاءَ الْخِتَانُ وَالْخِضَابُ وَلُبْسُ السَّوَادِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ
وَإِنْ لم يَكُنْ بِهِمْ عَلَامَةٌ يُنْظَرُ إنْ كان الْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ
غُسِّلُوا وَكُفِّنُوا وَدُفِنُوا في مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَصُلِّيَ عليهم
وينوى بِالدُّعَاءِ المسلمون ( ( ( المسلمين ) ) ) وَإِنْ كان الْكُفَّارُ
أَكْثَرَ يُغَسَّلُوا وَلَا يُصَلَّى عليهم كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في
شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إنْ كانت
الْغَلَبَةُ لِمَوْتَى الْكُفَّارِ لَا يُصَلَّى عليهم لَكِنْ يُغَسَّلُونَ
وَيُكَفَّنُونَ وَيُدْفَنُونَ في مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ
وَوَجْهُهُ أَنَّ غُسْلَ الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ وَغُسْلَ الْكَافِرِ جَائِزٌ في
الْجُمْلَةِ فَيُؤْتَى بِالْجَائِزِ في الْجُمْلَةِ لِتَحْصِيلِ الْوَاجِبِ
وَأَمَّا إذَا كَانُوا على السَّوَاءِ فَلَا يُشْكِلُ أَنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فيه تَحْصِيلَ الْوَاجِبِ مع الْإِتْيَانِ بِالْجَائِزِ في
الْجُمْلَةِ وَهَذَا أَوْلَى من تَرْكِ الْوَاجِبِ رَأْسًا وَهَلْ يصلي عليهم
قال بَعْضُهُمْ لَا يصلي عليهم
لِأَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ على الْمُسْلِمِ أَوْلَى من الصَّلَاةِ على الْكَافِرِ
لِأَنَّ الصَّلَاةَ على الْكَافِرِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ أَصْلًا قال اللَّهُ
تَعَالَى { وَلَا تُصَلِّ على أَحَدٍ منهم مَاتَ أَبَدًا } وَتَرْكُ الصَّلَاةِ
على الْمُسْلِمِ مَشْرُوعَةٌ في الْجُمْلَةِ كَالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ
فَكَانَ التَّرْكُ أَهْوَنَ
وقال بَعْضُهُمْ يصلي عليهم وينوى بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ الْمُسْلِمِينَ
لِأَنَّهُمْ إنْ عَجَزُوا عن تَعْيِينِ الْعَمَلِ لِلْمُسْلِمِينَ لم يَعْجَزُوا
عن تَمْيِيزِ الْقَصْدِ في الدُّعَاءِ لهم
وَأَمَّا الدَّفْنُ فَلَا رِوَايَةَ فيه في الْمَبْسُوطِ وَذَكَرَ الْحَاكِمُ
الْجَلِيلُ في مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُمْ يُدْفَنُونَ في مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ يُدْفَنُونَ في مَقَابِرِ
الْمُسْلِمِينَ وقال بَعْضُهُمْ في مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ
وقال بَعْضُهُمْ تُتَّخَذُ لهم مَقْبَرَةٌ على حِدَةٍ وَتُسَوَّى قُبُورُهُمْ
وَلَا تُسَنَّمُ وهو قَوْلُ الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ وهو
أَحْوَطُ وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ في كِتَابِيَّةٍ تَحْتَ مُسْلِمٍ حَبِلَتْ ثُمَّ
مَاتَتْ وفي بَطْنِهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ لَا يُصَلَّى عليها بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ
الصَّلَاةَ على الْكَافِرَةِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ وما في بَطْنِهَا لَا يَسْتَحِقُّ
الصَّلَاةَ عليه وَلَكِنَّهَا تُغَسَّلُ وَتُكَفَّنُ وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ في
الدَّفْنِ
قال بَعْضُهُمْ تُدْفَنُ في مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ
الْوَلَدِ
وقال بَعْضُهُمْ في مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْوَلَدَ في حُكْمِ جُزْءٍ
منها ما دَامَ في الْبَطْنِ
وقال وَاثِلَةُ بن الْأَسْقَعِ يُتَّخَذُ لها مَقْبَرَةٌ على حِدَةٍ وَهَذَا
أَحْوَطُ وَلَوْ وُجِدَ مَيِّتٌ أو قَتِيلٌ في دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ كان عليه
سِيمَا الْمُسْلِمِينَ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عليه وَيُدْفَنُ في مَقَابِرِ
الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا ظَاهِرٌ وَإِنْ لم يَكُنْ معه سِيمَا الْمُسْلِمِينَ
فَفِيهِ رِوَايَتَانِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عليه وَيُدْفَنُ
في مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ لِحُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِكَوْنِهِ مُسْلِمًا
بِدَلَالَةِ
____________________
(1/303)
الْمَكَانِ
وَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ وَلَوْ وُجِدَ في دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ كان معه
سِيمَا الْمُسْلِمِينَ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عليه وَيُدْفَنُ في مَقَابِرِ
الْمُسْلِمِينَ بِالْإِجْمَاعِ
وَإِنْ لم يَكُنْ معه سِيمَا الْمُسْلِمِينَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عليه وَلَا يُدْفَنُ في
مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْجَمْعُ بين السِّيمَا وَدَلِيلِ
الْمَكَانِ بَلْ يُعْمَلُ بِالسِّيمَا وَحْدَهُ بِالْإِجْمَاعِ
وَهَلْ يُعْمَلُ بِدَلِيلِ الْمَكَانِ وَحْدَهُ فيه رِوَايَتَانِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِهِ لِحُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ عِنْدَهُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ سَاعِيًا في الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَلَا يُغَسَّلُ
الْبُغَاةُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ وَالْمُكَاثِرُونَ وَالْخَنَّاقُونَ إذَا
قُتِلُوا لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يُغَسَّلُ كَرَامَةً له وَهَؤُلَاءِ لَا
يَسْتَحِقُّونَ الْكَرَامَةَ بَلْ الْإِهَانَةَ
وَعَنْ الْفَقِيهِ أبي الْحَسَنِ الرُّسْتُغْفَنِيِّ صَاحِبِ أبي مَنْصُورٍ
الْمَاتُرِيدِيِّ أَنَّ الْبَاغِيَ يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عليه لِأَنَّ
الْغُسْلَ حَقُّهُ فَيُؤْتَى بِهِ وَالصَّلَاةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا
يُصَلَّى عليه إهَانَةً له كَالْكَافِرِ أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عليه
كَذَا ذَكَرَهُ في الْعُيُونِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ من قُتِلَ مَظْلُومًا لَا
يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عليه وَمَنْ قُتِلَ ظَالِمًا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عليه
وَالْبَاغِي قُتِلَ ظَالِمًا فَيُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عليه
وَمِنْهَا وُجُودُ الْمَاءِ لِأَنَّ وُجُودَ الْفِعْلِ مُقَيَّدٌ بِالْوُسْعِ
وَلَا وُسْعَ مع عَدَمِ الْمَاءِ فَسَقَطَ الْغُسْلُ وَلَكِنْ يُيَمَّمُ
بِالصَّعِيدِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ صَلُحَ بَدَلًا عن الْغُسْلِ في حَالِ
الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ غير أَنَّ الْجِنْسَ يمم ( ( ( ييمم ) ) )
الْجِنْسَ بيده لِأَنَّهُ يُبَاحُ له مَسُّ مَوَاضِعِ التَّيَمُّمِ منه من غَيْرِ
شَهْوَةٍ كما في حَالَةِ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَمَّا غَيْرُ
الْجِنْسِ فَإِنْ كَانَا ذَوِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَكَذَلِكَ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ
كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ فَإِنْ لم يَكُونَا زَوْجَيْنِ يُيَمِّمُهُ بِخِرْقَةٍ
تَسْتُرُ يَدَهُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَسِّ بَيْنَهُمَا ثَابِتَةٌ كما في حَالَةِ
الْحَيَاةِ إلَّا إذَا كان أَحَدُهُمَا مِمَّا لَا يُشْتَهَى كَالصَّغِيرِ أو
الصَّغِيرَةِ فَيُيَمِّمُهُ من غَيْرِ خِرْقَة وَإِنْ كَانَا زَوْجَيْنِ
فَالْمَرْأَةُ تُيَمِّمُ زَوْجَهَا بِلَا خِرْقَةٍ لِأَنَّهَا تُغَسِّلُهُ بِلَا
خِرْقَةٍ فَالتَّيَمُّمُ أَوْلَى إذَا لم تَبِنْ منه في حَالِ حَيَاتِهِ
بِالْإِجْمَاعِ وَلَا حَدَثَ بَعْدَ وَفَاتِهِ ما يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ عِنْدَ
أصحابنا ( ( ( علمائنا ) ) ) الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ على ما نَذْكُرُ
لِأَنَّهَا تُغَسِّلُهُ بِلَا خِرْقَةٍ فَالتَّيَمُّمُ أَوْلَى وَأَمَّا الزَّوْجُ
فَلَا يُيَمِّمُ زَوْجَتَهُ بِلَا خِرْقَةٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ
رحمه الله على ما نَذْكُرُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَيِّتُ شَهِيدًا لِأَنَّ الْغُسْلَ سَاقِطٌ عن
الشَّهِيدِ بِالنَّصِّ على ما نَذْكُرُ في فَصْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ الْكَلَامِ فِيمَنْ يُغَسِّلُ فَنَقُولُ الْجِنْسُ
يُغَسِّلُ الْجِنْسَ فَيُغَسِّلُ الذَّكَرُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى الْأُنْثَى
لِأَنَّ حِلَّ الْمَسِّ من غَيْرِ شَهْوَةٍ ثَابِتٌ لِلْجِنْسِ حَالَةَ الْحَيَاةِ
فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَسَوَاءٌ كان الْغَاسِلُ جُنُبًا أو حَائِضًا لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ وهو التَّطْهِيرُ حَاصِلٌ فَيَجُوزُ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ
كَرِهَ لِلْحَائِضِ الْغُسْلَ لِأَنَّهَا لو اغْتَسَلَتْ بِنَفْسِهَا لم تَعْتَدَّ
بِهِ فَكَذَا إذَا غَسَّلَتْ وَلَا يُغَسِّلُ الْجِنْسَ خِلَافُ الْجِنْسِ لِأَنَّ
حُرْمَةَ الْمَسِّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ثَابِتَةٌ حَالَةَ الْحَيَاةِ
فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَجْبُوبُ وَالْخَصِيُّ في ذلك مِثْلُ الْفَحْلِ
كما في حَالَةِ الْحَيَاةِ لِأَنَّ كُلَّ ذلك مَنْهِيٌّ إلَّا الْمَرْأَةَ
لِزَوْجِهَا إذَا لم تَثْبُتْ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُمَا في حَالَةِ حَيَاتِهِ
وَلَا حَدَثَ بَعْدَ وَفَاتِهِ ما يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ أو الصَّغِيرَ
وَالصَّغِيرَةَ فَبَيَانُ ذلك في الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ
أَمَّا الرَّجُلُ فَنَقُولُ إذَا مَاتَ رَجُلٌ في سَفَرٍ فَإِنْ كان معه رِجَالٌ
يُغَسِّلُهُ الرَّجُلُ وَإِنْ كان معه نِسَاءٌ لَا رَجُلَ فِيهِنَّ فَإِنْ كان
فِيهِنَّ امْرَأَتُهُ غَسَّلَتْهُ وَكَفَّنَتْهُ وَصَلَّيْنَ عليه وَتَدْفِنُهُ
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتُغَسِّلُ زَوْجَهَا لِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ
عنها أنها قالت لو اسْتَقْبَلْنَا من الْأَمْرِ ما اسْتَدْبَرْنَا لَمَا غَسَّلَ
رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَّا نِسَاؤُهُ وَمَعْنَى ذلك أنها لم
تَكُنْ عَالِمَةً وَقْتَ وَفَاةِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِإِبَاحَةِ
غُسْلِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا ثُمَّ عَلِمَتْ بَعْدَ ذلك
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي اللَّهُ عنه أَوْصَى إلَى
امْرَأَتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنْ تُغَسِّلَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ
وَهَكَذَا فَعَلَ أبو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَلِأَنَّ إبَاحَةَ الْغُسْلِ
مُسْتَفَادَةٌ بِالنِّكَاحِ فَتَبْقَى ما بَقِيَ النِّكَاحُ وَالنِّكَاحُ بَعْدَ
الْمَوْتِ بَاقٍ إلَى وَقْتِ انْقِطَاعِ الْعِدَّةِ بِخِلَافِ ما إذَا مَاتَتْ
الْمَرْأَةُ حَيْثُ لَا يُغَسِّلُهَا الزَّوْجُ لِأَنَّ هُنَاكَ انْتَهَى مِلْكُ
النِّكَاحِ لِانْعِدَامِ الْمَحِلِّ فَصَارَ الزَّوْجُ أَجْنَبِيًّا فَلَا يَحِلُّ
له غُسْلُهَا وَاعْتُبِرَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ حَيْثُ لَا يَنْتَفِي عن الْمَحَلِّ
بِمَوْتِ الْمَالِكِ وَيَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَحَلِّ فَكَذَا هذا وَهَذَا إذَا لم
تَثْبُتْ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُمَا في حَالِ حَيَاةِ الزَّوْجِ فَأَمَّا إذَا
ثَبَتَتْ بِأَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أو بَائِنًا وَهِيَ في الْعِدَّةِ لَا
يُبَاحُ لها غُسْلُهُ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ ارْتَفَعَ بِالْإِبَانَةِ وَكَذَا
إذَا قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ في الْعِدَّةِ لِأَنَّ
الْحُرْمَةَ ثَبَتَتْ بِالتَّقْبِيلِ على سَبِيلِ التَّأْبِيدِ فيبطل ( ( ( فبطل )
) ) مِلْكُ النِّكَاحِ ضَرُورَةً وَكَذَا لو ارْتَدَّتْ عن الْإِسْلَامِ
وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّ الرِّدَّةَ
تُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ النِّكَاحِ وَلَوْ طَلَّقَهَا
____________________
(1/304)
طَلَاقًا
رَجْعِيًّا ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ في الْعِدَّةِ لها أَنْ تُغَسِّلَهُ لِأَنَّ
الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُزِيلُ مِلْكَ النِّكَاحِ
وَأَمَّا إذَا حَدَثَ بَعْدَ وَفَاةِ الزَّوْجِ ما يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ لَا
يُبَاحُ لها أَنْ تُغَسِّلَهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ رحمه الله تعالى يُبَاحُ
بِأَنْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الرِّدَّةَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا تَرْفَعُ النِّكَاحَ
لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ بِالْمَوْتِ فَبَقِيَ حِلُّ الْغُسْلِ كما كان بِخِلَافِ
الرِّدَّةِ في حَالَةِ الْحَيَاةِ
وَلَنَا أَنَّ زَوَالَ النِّكَاحِ مَوْقُوفٌ على انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَانَ
النِّكَاحُ قَائِمًا فَيَرْتَفِعُ بِالرِّدَّةِ وَإِنْ لم يَبْقَ مُطْلَقًا فَقَدْ
بَقِيَ في حَقِّ حِلِّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ وَكَمَا تَرْفَعُ الرِّدَّةُ مُطْلَقَ
الْحِلِّ تَرْفَعُ ما بَقِيَ منه وهو حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ وَعَلَى هذا
الْخِلَافِ إذَا طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أو قَبَّلَتْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أو
وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ بَعْدَ مَوْتِهِ فَوَجَبَ عليها الْعِدَّةُ ليس لها أَنْ
تُغَسِّلَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رحمه الله تعالى وَلَوْ مَاتَ للزوج ( (
( الزوج ) ) ) وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ من وَطْءِ شُبْهَةٍ ليس لها أَنْ تُغَسِّلَهُ
وَكَذَا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا من ذلك الْغَيْرِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِأَبِي
يُوسُفَ لِأَنَّهُ لم يَثْبُتْ لها حِلُّ الْغُسْلِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَلَا
يَثْبُتُ بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ إذَا دخل الزَّوْجُ بِأُخْتِ امْرَأَتِهِ بِشُبْهَةٍ
وَوَجَبَتْ عليها الْعِدَّةُ ثُمَّ مَاتَ فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ
فَهُوَ على هذا الْخِلَافِ وَكَذَلِكَ الْمَجُوسِيُّ إذَا أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ
ثُمَّ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ الْمَجُوسِيَّةُ لم تُغَسِّلْهُ عِنْدَنَا خِلَافًا
لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله تعالى كَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزاهد
السَّرَخْسِيُّ رحمه الله تعالى الْخِلَافَ في هذه الْمَسَائِلِ الثَّلَاث
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ
تُغَسِّلَهُ في هذه الْمَوَاضِعِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ رحمه الله تعالى ليس
لها أَنْ تُغَسِّلَهُ والله أعلم وَلَوْ لم يَكُنْ فِيهِنَّ امْرَأَتُهُ وَلَكِنْ
مَعَهُنَّ رَجُلٌ كَافِرٌ علمته ( ( ( علمنه ) ) ) غُسْلَ الْمَيِّتِ وَيُخَلِّينَ
بَيْنَهُمَا حتى يُغَسِّلَهُ وَيُكَفِّنَهُ ثُمَّ يُصَلِّينَ عليه وَيَدْفِنَّهُ
لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ أَخَفُّ وَإِنْ لم يَكُنْ بَيْنَهُمَا
مُوَافَقَةٌ في الدِّينِ فَإِنْ لم يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ لَا مُسْلِمٌ وَلَا
كَافِرٌ فَإِنْ كان مَعَهُنَّ صَبِيَّةٌ صَغِيرَةٌ لم تَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ
وَأَطَاقَتْ الْغُسْلَ عَلَّمْنَهَا الْغُسْلَ وَيُخَلِّينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا
حتى تُغَسِّلَهُ وَتُكَفِّنَهُ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَوْرَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ في
حَقِّهَا وَإِنْ لم يَكُنْ مَعَهُنَّ ذلك فَإِنَّهُنَّ لَا يُغَسِّلْنَهُ سَوَاءٌ
كُنَّ ذَوَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه أو لَا لِأَنَّ الْمَحْرَمَ في حُكْمِ
النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ وَالْأَجْنَبِيَّةَ سَوَاءٌ فَكَمَا لَا تُغَسِّلُهُ
الْأَجْنَبِيَّةُ فَكَذَا ذَوَاتُ مَحَارِمِهِ وَلَكِنْ يُيَمِّمْنَهُ غير أَنَّ
الْمُيَمِّمَةَ إذَا كانت ذَاتَ رَحِمِ مَحْرَمٍ منه تُيَمِّمُهُ بِغَيْرِ
خِرْقَةٍ وَإِنْ لم تَكُنْ ذَاتَ رَحِمِ مَحْرَمٍ منه تُيَمِّمُهُ بِخِرْقَةٍ
تَلُفُّهَا على كَفِّهَا لِأَنَّهُ لم يَكُنْ لها أَنْ تَمَسَّهُ في حَيَاتِهِ
فَكَذَا بَعْدَ وَفَاتِهِ وَكَذَا لو كان فِيهِنَّ أُمُّ وَلَدِهِ لم تُغَسِّلْهُ
في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ الْآخَرِ وفي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَالشَّافِعِيِّ رحمهما الله تعالى لها أَنْ تُغَسِّلَهُ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ
فَأَشْبَهَتْ الْمَنْكُوحَةَ
وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَبْقَى فيها بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ
فيها كان مِلْكَ يَمِينٍ وهو يَعْتِقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ وَالْحُرِّيَّةُ
تُنَافِي مِلْكَ الْيَمِينِ فَلَا يَبْقَى بِخِلَافِ الْمَنْكُوحَةِ فإن
حُرِّيَّتَهَا لَا تُنَافِي مِلْكَ النِّكَاحِ كما في حَالِ حَيَاةِ الزَّوْجِ
وَكَذَا لو كان فِيهِنَّ أَمَتُهُ أو مُدَبَّرَتُهُ
أَمَّا الْأَمَةُ فَلِأَنَّهَا زَالَتْ عن مِلْكِهِ بِالْمَوْتِ إلَى الْوَرَثَةِ
وَلَا يُبَاحُ لِأَمَةِ الْغَيْرِ عَوْرَتُهُ غير أنها لو يَمَّمَتْهُ تُيَمِّمُهُ
بِغَيْرِ خِرْقَةٍ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لِلْجَارِيَةِ مَسُّ مَوْضِعِ التَّيَمُّمِ
بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّهَا تَعْتِقُ وَتَلْتَحِقُ بِسَائِرِ
الْحَرَائِرِ الْأَجْنَبِيَّاتِ
وَأَمَّا الْمُدَبَّرَةُ فَلِأَنَّهَا تَعْتِقُ وَلَا يَجِبُ عليها الْعِدَّةُ
ثُمَّ أُمُّ الْوَلَدِ لَا تُغَسِّلُهُ فَلَأَنْ لَا تُغَسِّلَهُ هذه أَوْلَى وقال
الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى الْأَمَةُ تُغَسِّلُ مَوْلَاهَا لِأَنَّهُ
يَحْتَاجُ إلَى من يُغَسِّلُهُ فَبَقِيَ الْمِلْكُ له فيها حُكْمًا وَهَذَا غَيْرُ
سَدِيدٍ لِأَنَّ حَاجَتَهُ تَنْدَفِعُ بِالْجِنْسِ أو بِالتَّيَمُّمِ والله أعلم
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَنَقُولُ إذَا مَاتَتْ امْرَأَةٌ في سَفَرٍ فَإِنْ كان
مَعَهَا نِسَاءٌ غَسَّلْنَهَا وَلَيْسَ لِزَوْجِهَا أَنْ يُغَسِّلَهَا عِنْدَنَا
خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله
عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم دخل عليها وَهِيَ تَقُولُ
وَارَأْسَاهْ فقال وأنا وَارَأْسَاهْ لَا عَلَيْكِ أَنَّكِ إذَا مِتِّ غَسَّلْتُكِ
وَكَفَّنْتُكِ وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ وما جَازَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم يَجُوزُ لِأُمَّتِهِ هو الْأَصْلُ إلَّا ما قام عليه الدَّلِيلُ
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا غَسَّلَ فَاطِمَةَ بَعْدَ مَوْتِهَا لأن النِّكَاحَ
جُعِلَ قَائِمًا حُكْمًا لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ إلَى الْغُسْلِ كما إذَا مَاتَ
الزَّوْجُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم سُئِلَ عن امْرَأَةٍ تَمُوتُ بين رِجَالٍ فقال تُيَمَّمُ
بِالصَّعِيدِ ولم يَفْصِلْ بين أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ زَوْجُهَا أو لَا يَكُونُ
وَلِأَنَّ النِّكَاحَ ارْتَفَعَ بِمَوْتِهَا فَلَا يَبْقَى حِلُّ الْمَسِّ
وَالنَّظَرِ كما لو طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أنها صَارَتْ
مُحَرَّمَةً على التَّأْبِيدِ وَالْحُرْمَةُ على التَّأْبِيدِ تُنَافِي النِّكَاحَ
ابْتِدَاءً وَبَقَاءً وَلِهَذَا جَازَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا
وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا وإذا زَالَ النِّكَاحُ صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً فَبَطَلَ حِلُّ
الْمَسِّ وَالنَّظَرِ بِخِلَافِ ما إذَا مَاتَ الزَّوْجُ لِأَنَّ هُنَاكَ مِلْكَ
النِّكَاحِ قَائِمٌ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَالِكٌ وَالْمَرْأَةُ مَمْلُوكَةٌ
وَالْمِلْكُ لَا يَزُولُ عن الْمَحَلِّ بِمَوْتِ الْمَالِكِ وَيَزُولُ بِمَوْتِ
الْمَحَلِّ كما في مِلْكِ الْيَمِينِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها مَحْمُولٌ على الْغُسْلِ تَسَبُّبًا فَمَعْنَى
قَوْلِهِ غَسَّلْتُكِ قُمْتُ بِأَسْبَابِ غُسْلِك كما يُقَالُ بَنَى الْأَمِيرُ
دَارًا حَمَلْنَاهُ على
____________________
(1/305)
هذا
صِيَانَةً لِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ عَمَّا يُورِثُ شُبْهَةَ نَفْرَةِ الطِّبَاعِ
عنه وَتَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ على أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان مَخْصُوصًا
بِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ نِكَاحُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِقَوْلِهِ كُلُّ سَبَبٍ
وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ إلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ رضي
اللَّهُ عنها غَسَّلَتْهَا أُمُّ أَيْمَنَ وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ عَلِيًّا
غَسَّلَهَا فَقَدْ أَنْكَرَ عليه ابن مَسْعُودٍ حتى قال عَلِيٌّ أَمَا عَلِمْت
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال إنَّ فَاطِمَةَ زَوْجَتُكَ في
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَدَعْوَاهُ الْخُصُوصِيَّةَ دَلِيلٌ على أَنَّهُ كان
مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُغَسِّلُ زَوْجَتَهُ وَإِنْ لم يَكُنْ
هُنَاكَ نِسَاءٌ مُسْلِمَاتٌ وَمَعَهُمْ امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ عَلَّمُوهَا
الْغُسْلَ وَيُخَلُّونَ بَيْنَهُمَا حتى تُغَسِّلَهَا وَتُكَفِّنَهَا ثُمَّ
يُصَلِّي عليها الرِّجَالُ ويدفنونها ( ( ( ويدفنوها ) ) ) لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ
لم يَكُنْ مَعَهُمْ نِسَاءٌ لَا مُسْلِمَةٌ وَلَا كَافِرَةٌ فَإِنْ كان مَعَهُمْ
صَبِيٌّ لم يَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ وَأَطَاقَ الْغُسْلَ عَلَّمُوهُ الْغُسْلَ
فَيُغَسِّلُهَا وَيُكَفِّنُهَا لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ لم يَكُنْ مَعَهُمْ ذلك
فَإِنَّهَا لَا تُغَسَّلُ وَلَكِنَّهَا تُيَمَّمُ لِمَا ذَكَرْنَا غير أَنَّ
الْمُيَمِّمَ لها إنْ كان مَحْرَمًا لها يُيَمِّمُهَا بِغَيْرِ خِرْقَةٍ وَإِنْ لم
يَكُنْ مَحْرَمًا لها فَمَعَ الْخِرْقَةِ يَلُفُّهَا على كَفِّهِ لِمَا مَرَّ
وَيُعْرِضُ بِوَجْهِهِ عن ذِرَاعَيْهَا لِأَنَّ في حَالَةِ الْحَيَاةِ ما كان
لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى ذِرَاعَيْهَا فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا
بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا كما في حَالَةِ الْحَيَاةِ وَلَوْ مَاتَ
الصَّبِيُّ الذي لَا يُشْتَهَى لَا بَأْسَ أَنْ تُغَسِّلَهُ النِّسَاءُ وَكَذَلِكَ
الصَّبِيَّةُ التي لَا تُشْتَهَى إذَا مَاتَتْ لَا بَأْسَ أَنْ يُغَسِّلَهَا
الرِّجَالُ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَوْرَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ في حَقِّ الصَّغِيرِ
وَالصَّغِيرَةِ ثُمَّ إذَا غُسِّلَ الْمَيِّتُ يُكَفَّنُ
فَصْلٌ وَالْكَلَامُ في تَكْفِينِهِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ وُجُوبِ التَّكْفِينِ
وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ كَمِّيَّةِ الْكَفَنِ وفي بَيَانِ
صِفَتِهِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ التَّكْفِينِ وفي بَيَانِ من يَجِبُ عليه
الْكَفَنُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ على وَجْهِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ
وَالْمَعْقُولِ أَمَّا النَّصُّ فما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال الْبَسُوا هذه الثِّيَابَ الْبِيضَ فَإِنَّهَا خَيْرُ ثِيَابِكُمْ
وَكَفِّنُوا فيها مَوْتَاكُمْ وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ وَرُوِيَ
أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا غَسَّلَتْ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليه كَفَّنُوهُ
وَدَفَنُوهُ ثُمَّ قالت لِوَلَدِهِ هذه سُنَّةُ مَوْتَاكُمْ وَالسُّنَّةُ
الْمُطْلَقَةُ في مَعْنَى الْوَاجِبِ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ على وُجُوبِهِ
وَلِهَذَا تَوَارَثَهُ الناس من لَدُنْ وَفَاةِ آدَمَ ( صَلَوَاتُ اللَّهِ
وَسَلَامُهُ عليه ) إلَى يَوْمِنَا هذا وَذَا دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَأَمَّا
الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ إنَّمَا وَجَبَ كَرَامَةً له وَتَعْظِيمًا
وَمَعْنَى التَّعْظِيمِ والكرامة إنَّمَا يَتِمُّ بِالتَّكْفِينِ فَكَانَ وَاجِبًا
فَصْلٌ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِهِ فَوُجُوبُهُ على سَبِيلِ الْكِفَايَةِ
قَضَاءً لِحَقِّ الْمَيِّتِ حتى إذَا قام بِهِ الْبَعْضُ يَسْقُطُ عن الْبَاقِينَ
لِأَنَّ حَقَّهُ صَارَ مَقْضِيًّا كما في الْغُسْلِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ في كَمِّيَّةِ الْكَفَنِ فَنَقُولُ أَكْثَرُ ما يُكَفَّنُ فيه
الرَّجُلُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ إزَارٌ وَرِدَاءٌ وَقَمِيصٌ وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى لَا يُسَنُّ الْقَمِيصُ في الْكَفَنِ
وَإِنَّمَا الْكَفَنُ ثَلَاثُ لَفَائِفَ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي
الله عنها أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كُفِّنَ في ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ
بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ ليس فيها قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مُغَفَّلٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال
كَفِّنُونِي في قَمِيصِي فإن رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كُفِّنَ في
قَمِيصِهِ الذي تُوُفِّيَ فيه وَهَكَذَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنها
أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كُفِّنَ في ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ أَحَدُهَا
الْقَمِيصُ الذي تُوُفِّيَ فيه وَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْلَى من
الْأَخْذِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَضَرَ تَكْفِينَ رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَدَفْنَهُ وَعَائِشَةُ ما حَضَرَتْ ذلك على أَنَّ
مَعْنَى قَوْلِهَا ليس فيها ( ( ( فيه ) ) ) قَمِيصٌ أَيْ لم يَتَّخِذْ قَمِيصًا
جَدِيدًا وَرُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كَفَنُ الْمَرْأَةِ
خَمْسَةُ أَثْوَابٍ وَكَفَنُ الرَّجُلِ ثَلَاثَةٌ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ
لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلِأَنَّ حَالَ ما بَعْدَ الْمَوْتِ يُعْتَبَرُ
بِحَالِ حَيَاتِهِ وَالرَّجُلُ في حَالِ حَيَاتِهِ يَخْرُجُ في ثَلَاثَةِ
أَثْوَابٍ عَادَةً قَمِيصٌ وَسَرَاوِيلُ وَعِمَامَةٌ فَالْإِزَارُ بَعْدَ
الْمَوْتِ قَائِمٌ مَقَامَ السَّرَاوِيلِ في حَالِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُ في حَالِ
حَيَاتِهِ إنَّمَا كان يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ لِئَلَّا تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ
عِنْدَ الْمَشْيِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأُقِيمَ
الْإِزَارُ مَقَامَهُ وكذا ( ( ( ولذا ) ) ) لم يذكر الْعِمَامَةَ في الْكَفَنِ
وقد كَرِهَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لِأَنَّهُ لو فَعَلَ ذلك لَصَارَ الْكَفَنُ
شَفْعًا وَالسُّنَّةُ فيه أَنْ يَكُونَ وِتْرًا وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ
مَشَايِخِنَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كان يُعَمِّمُ الْمَيِّتَ وَيَجْعَلُ
ذَنَبَ الْعِمَامَةِ على وَجْهِهِ
بِخِلَافِ حَالِ الْحَيَاةِ فإنه يُرْسِلُ ذَنَبَ الْعِمَامَةِ من قِبَلِ الْقَفَا
لِأَنَّ ذلك لِمَعْنَى الزِّينَةِ وقد انْقَطَعَ ذلك بِالْمَوْتِ وَالدَّلِيلُ على
أَنَّ السُّنَّةَ في حَقِّ الرَّجُلِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ ما رُوِيَ عن النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ كُفِّنَ في بُرْدٍ وَحُلَّةٍ وَالْحُلَّةُ اسْمٌ
لِلزَّوْجِ من الثِّيَابِ وَالْبُرْدُ اسْمٌ لِلْفَرْدِ منها وَأَدْنَى ما
يُكَفَّنُ فيه في حَالَةِ الِاخْتِيَارِ
____________________
(1/306)
ثَوْبَانِ
إزَارٌ وَرِدَاءٌ لِقَوْلِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه كَفِّنُونِي في ثَوْبَيَّ
هَذَيْنِ وَلِأَنَّ أَدْنَى ما يَلْبَسُهُ الرَّجُلُ في حَالِ حَيَاتِهِ ثَوْبَانِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ له أَنْ يَخْرُجَ فِيهِمَا وَيُصَلِّيَ فِيهِمَا من
غَيْرِ كَرَاهَةٍ فَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِمَا أَيْضًا وَيُكْرَهُ
أَنْ يُكَفَّنَ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ في حَالَةِ الْحَيَاة تَجُوزُ صَلَاتُهُ
في ثَوْبٍ وَاحِدٍ مع الْكَرَاهَةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ يُكْرَهُ أَنْ
يُكَفَّنَ فيه إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِأَنْ كان لَا يُوجَدُ غَيْرُهُ لِمَا
رُوِيَ أَنَّ مُصْعَبَ بن عُمَيْرٍ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ كُفِّنَ في نَمِرَةٍ
فَكَانَ إذَا غُطِّيَ بها رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ وإذا غُطِّيَ بها رِجْلَاهُ
بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ يُغَطَّى بها رَأْسُهُ
وَيُجْعَلَ على رِجْلَيْهِ شَيْءٌ من الْإِذْخِرِ
وَكَذَا رُوِيَ أَنَّ حَمْزَةَ رضي اللَّهُ عنه لَمَّا اُسْتُشْهِدَ كُفِّنَ في
ثَوْبٍ وَاحِدٍ لم يُوجَدْ له غَيْرُهُ فَدَلَّ على الْجَوَازِ عِنْدَ
الضَّرُورَةِ وَالْغُلَامُ الْمُرَاهِقُ كَالرَّجُلِ يُكَفَّنُ فِيمَا يُكَفَّنُ
فيه الرَّجُلُ لِأَنَّ الْمُرَاهِقَ في حَالِ حَيَاتِهِ يَخْرُجُ فِيمَا يَخْرُجُ
فيه الْبَالِغُ عَادَةً فَكَذَا يُكَفَّنُ فِيمَا يُكَفَّنُ فيه وَإِنْ كان
صَبِيًّا لم يُرَاهِقْ فَإِنْ كُفِّنَ في خِرْقَتَيْنِ إزَارٍ وَرِدَاءٍ فَحَسَنٌ
وَإِنْ كُفِّنَ في إزَارٍ وَاحِدٍ جَازَ لِأَنَّ في حَالِ حَيَاتِهِ كان يَجُوزُ
الِاقْتِصَارُ على ثَوْبٍ وَاحِدٍ في حَقِّهِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَأَكْثَرُ ما تُكَفَّنُ فيه خَمْسَةُ أَثْوَابٍ دِرْعٌ
وَخِمَارٌ وَإِزَارٌ وَلِفَافَةٌ وَخِرْقَةٌ هو السُّنَّةُ في كَفَنِ الْمَرْأَةِ
لِمَا رُوِيَ عن أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم نَاوَلَ
اللَّوَاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ في كَفَنِهَا ثَوْبًا ثَوْبًا حتى نَاوَلَهُنَّ
خَمْسَةَ أَثْوَابٍ آخِرُهُنَّ خِرْقَةٌ تَرْبِطُ بها ثَدْيَيْهَا وَلِمَا
رَوَيْنَا عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ في حَالِ حَيَاتِهَا
تَخْرُجُ في خَمْسَةِ أَثْوَابٍ عَادَةً دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَإِزَارٌ وَمُلَاءَةٌ
وَنِقَابٌ
فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ تُكَفَّنُ في خَمْسَةِ أَثْوَابٍ
ثُمَّ الْخِرْقَةُ تُرْبَطُ فَوْقَ الْأَكْفَانِ عِنْدَ الصَّدْرِ فَوْقَ
الثَّدْيَيْنِ وَالْبَطْنِ كيلا يَنْتَشِرَ عليها الْكَفَنُ إذَا حُمِلَتْ على
السَّرِيرِ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رَوَيْنَا في حديث أُمِّ عَطِيَّةَ أنها قالت
آخِرُهُنَّ خِرْقَةٌ تَرْبِطُ بها ثَدْيَيْهَا وَأَدْنَى ما تُكَفَّنُ فيه
الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ إزَارٌ وَرِدَاءٌ وَخِمَارٌ لِأَنَّ مَعْنَى
السَّتْرِ في حَالَةِ الْحَيَاةِ يَحْصُلُ بِثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ حتى يَجُوزَ لها
أَنْ تُصَلِّيَ فيها وَتَخْرُجَ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيُكْرَهُ أَنْ
تُكَفَّنَ الْمَرْأَةُ في ثَوْبَيْنِ
وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُكَفَّنَ في ثَوْبَيْنِ
وَالْجَارِيَةُ الْمُرَاهِقَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغَةِ في الْكَفَنِ لِمَا
ذَكَرْنَا وَالسِّقْطُ يُلَفُّ في خِرْقَةٍ لِأَنَّهُ ليس له حُرْمَةٌ كَامِلَةٌ
وَلِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا وَرَدَ بِتَكْفِينِ الْمَيِّتِ وَاسْمُ الْمَيِّتِ
لَا يَنْطَلِقُ عليه كما لَا يَنْطَلِقُ على بَعْضِ الْمَيِّتِ وَكَذَا من وُلِدَ
مَيِّتًا أو وُجِدَ طَرَفٌ من أَطْرَافِ الْإِنْسَانِ أو نِصْفُهُ مَشْقُوقًا
طُولًا أو نِصْفُهُ مَقْطُوعًا عَرْضًا لَكِنْ ليس معه الرَّأْسُ لِمَا قُلْنَا
فَإِنْ كان معه الرَّأْسُ ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ
أَنَّهُ يُكَفَّنُ وَعَلَى قِيَاسِ ما ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ
مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ في الْغُسْلِ يُلَفُّ في خِرْقَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا في
فَصْلِ الْغُسْلِ وَإِنْ وُجِدَ أَكْثَرُهُ يُكَفَّنُ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ
الْكُلِّ وَكَذَا الْكَافِرُ إذَا مَاتَ وَلَهُ ذُو رَحِمِ مَحْرَمٍ مُسْلِمٌ
يُغَسِّلُهُ وَيُكَفِّنُهُ لَكِنْ في خِرْقَةٍ لِأَنَّ التَّكْفِينَ على وَجْهِ
السُّنَّةِ من بَابِ الْكَرَامَةِ لِلْمَيِّتِ وَلَا يُكَفَّنُ الشَّهِيدُ كَفَنًا
جَدِيدًا غير ثِيَابِهِ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم زَمِّلُوهُمْ
بِثِيَابِهِمْ وَكُلُومِهِمْ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الْكَفَنِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ التَّكْفِينُ
بِالثِّيَابِ الْبِيضِ لِمَا رُوِيَ عن جَابِرِ بن عبد اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ
رضي الله عنه عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال أَحَبُّ
الثِّيَابِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْبِيضُ فَلْيَلْبَسْهَا أَحْيَاؤُكُمْ
وَكَفِّنُوا فيها مَوْتَاكُمْ وقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حَسِّنُوا
أَكْفَانَ الْمَوْتَى فَإِنَّهُمْ يَتَزَاوَرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ
وَيَتَفَاخَرُونَ بِحُسْنِ أَكْفَانِهِمْ
وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا وَلِيَ أحدكم أَخَاهُ مَيِّتًا فَلْيُحْسِنْ
كَفَنَهُ وَالْبُرُودُ وَالْكَتَّانُ وَالْقَصَبُ كُلُّ ذلك حَسَنٌ
وَالْخَلَقُ إذَا غُسِلَ وَالْجَدِيدُ سَوَاءٌ
لِمَا رُوِيَ عن أبي بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال اغْسِلُوا ثَوْبَيَّ
هَذَيْنِ وَكَفِّنُونِي فِيهِمَا فَإِنَّهُمَا لِلْمُهْلِ وَالصَّدِيدِ
وَإِنَّ الْحَيَّ أَحْوَجُ إلَى الْجَدِيدِ من الْمَيِّتِ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ ما يَجُوزُ لِكُلِّ جِنْسٍ أَنْ يَلْبَسَهُ في حَيَاتِهِ
يَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ فيه بَعْدَ مَوْتِهِ حتى يُكْرَهَ أَنْ يُكَفَّنَ
الرَّجُلُ في الْحَرِيرِ وَالْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ وَلَا يُكْرَهُ
لِلنِّسَاءِ ذلك اعْتِبَارًا بِاللِّبَاسِ في حَالِ الْحَيَاةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّكْفِينِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُجَمَّرَ
الْأَكْفَانُ أَوَّلًا وِتْرًا أَيْ مَرَّةً أو ثَلَاثًا أو خَمْسًا وَلَا يَزِيدُ
عليه لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا
أَجْمَرْتُمْ الْمَيِّتَ فَأَجْمِرُوهُ وِتْرًا وَلِأَنَّ الثَّوْبَ الْجَدِيدَ أو
الْغَسِيلَ مِمَّا يُطَيَّبُ وَيُجَمَّرُ في حَالَةِ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ
الْمَمَاتِ وَالْوِتْرُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ في ذلك لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وِتْرٌ يُحِبُّ
____________________
(1/307)
الْوِتْرَ
ثُمَّ تُبْسَطُ اللِّفَافَةُ وَهِيَ الرِّدَاءُ طُولًا ثُمَّ يُبْسَطُ الْإِزَارُ
عليها طُولًا ثُمَّ يُلْبِسُهُ الْقَمِيصَ إنْ كان له قَمِيصٌ وَإِنْ لم يَكُنْ له
( ( ( سرواله ) ) ) السراويل لِأَنَّ اللُّبْسَ بَعْدَ الْوَفَاةِ مُعْتَبَرٌ
بِحَالِ الْحَيَاةِ إلَّا أَنَّ في حَيَاتِهِ كان يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ حتى لَا
تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ عِنْدَ الْمَشْيِ وَلَا حَاجَةَ إلَى ذلك بَعْدَ مَوْتِهِ
فَأُقِيمَ الْإِزَارُ مَقَامَ السَّرَاوِيلِ إلَّا أَنَّ الْإِزَارَ في حَالِ
حَيَاتِهِ تَحْتَ الْقَمِيصِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ فَوْقَ الْقَمِيصِ من الْمَنْكِبِ
إلَى الْقَدَمِ لِأَنَّ الْإِزَارَ تَحْتَ الْقَمِيصِ حَالَةَ الْحَيَاةِ
لِيَتَيَسَّرَ عليه الْمَشْيُ وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُحْتَاجُ إلَى الْمَشْيِ
ثُمَّ يُوضَعُ الْحَنُوطُ في رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ آدَمَ صلى
( ( ( صلوات ) ) ) اللَّهِ عليه ( ( ( وسلامه ) ) ) وسلم عليه لَمَّا تُوُفِّيَ
غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَحَنَّطُوهُ وَيُوضَعُ الْكَافُورُ على مَسَاجِدِهِ
يَعْنِي جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ وَيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَقَدَمَيْهِ لِمَا
رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قال وَتُتْبَعُ مَسَاجِدُهُ
بِالطِّيبِ يَعْنِي بِالْكَافُورِ وَلِأَنَّ تَعْظِيمَ الْمَيِّتِ وَاجِبٌ وَمِنْ
تَعْظِيمِهِ أَنْ يُطَيَّبَ لِئَلَّا تَجِيءَ منه رَائِحَةٌ مُنْتِنَةٌ
وَلِيُصَانَ عن سُرْعَةِ الْفَسَادِ وَأَوْلَى الْمَوَاضِعِ بِالتَّعْظِيمِ
مَوَاضِعُ السُّجُودِ وَكَذَا الرَّأْسُ وَاللِّحْيَةُ هُمَا من أَشْرَفِ
الْأَعْضَاءِ لِأَنَّ الرَّأْسَ مَوْضِعُ الدِّمَاغِ وَمَجْمَعُ الْحَوَاسِّ
وَاللِّحْيَةُ من الْوَجْهِ وَالْوَجْهُ من أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ
وَعَنْ زُفَرَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ قال يُذَرُّ الْكَافُورُ على عَيْنَيْهِ
وَأَنْفِهِ وَفَمِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَتَبَاعَدَ الدُّودُ من
الْمَوْضِعِ الذي يُذَرُّ عليه الْكَافُورُ فَخَصَّ هذه الْمَحَالَّ من بَدَنِهِ
لِهَذَا وَإِنْ لم يَجِدْ ذلك لم يَضُرَّهُ
وَلَا بَأْسَ بِسَائِرِ الطِّيبِ غَيْرِ الزَّعْفَرَانِ وَالْوَرْسِ في حَقِّ
الرَّجُلِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ نهى الرِّجَالَ عن
الْمُزَعْفَرِ ولم يذكر في الْأَصْلِ أَنَّهُ هل تحتشي ( ( ( تحشى ) ) )
مَحَارِقُهُ وَقَالُوا إنْ خُشِيَ خُرُوجَ شَيْءٍ يُلَوِّثُ الْأَكْفَانَ فَلَا
بَأْسَ بِذَلِكَ في أَنْفِهِ وَفَمِهِ وقد جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى
في دُبُرِهِ أَيْضًا وَاسْتَقْبَحَ ذلك مَشَايِخُنَا وَإِنْ لم يُخْشَ جَازَ
التَّرْكُ لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ثُمَّ يُعْطَفُ الْإِزَارُ عليه من
قِبَلِ شِقِّهِ الْأَيْسَرِ وَإِنْ كان الْإِزَارُ طَوِيلًا حتى يُعْطَفَ على
رَأْسِهِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ فَهُوَ أَوْلَى ثُمَّ يُعْطَفُ من قِبَلِ شِقِّهِ
الْأَيْمَنِ كَذَلِكَ فَيَكُونُ الْأَيْمَنُ فَوْقَ الْأَيْسَرِ ثُمَّ تُعْطَفُ
اللِّفَافَةُ وَهِيَ الرِّدَاءُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنْتَقِبَ في حَالَةِ
الْحَيَاةِ هَكَذَا يَفْعَلُ إذَا تَحَزَّمَ بَدَأَ بِعَطْفِ شِقِّهِ الْأَيْسَرِ
على الْأَيْمَنِ ثُمَّ يَعْطِفُ الْأَيْمَنَ على الْأَيْسَرِ فَكَذَا يُفْعَلُ
بِهِ بَعْدَ الْمَمَاتِ
فَإِنْ خِيفَ أَنْ تَنْتَشِرَ أَكْفَانُهُ تُعْقَدُ وَلَكِنْ إذَا وُضِعَ في
قَبْرِهِ تُحَلُّ الْعُقَدُ لِزَوَالِ ما لِأَجْلِهِ عُقِدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيُبْسَطُ لها اللِّفَافَةُ وَالْإِزَارُ وَاللِّفَافَةُ
فَوْقَ الْخِمَارِ وَالْخِرْقَةُ يربط ( ( ( تربط ) ) ) فَوْقَ الْأَكْفَانِ
عِنْدَ الصَّدْرِ فَوْقَ الثَّدْيَيْنِ وَالْبَطْنِ كَيْ لَا يَنْتَشِرَ الْكَفَنُ
بِاضْطِرَابِ ثَدْيَيْهَا عِنْدَ الْحَمْلِ على السَّرِيرِ وَعَرْضُ الْخِرْقَةِ
ما بين الثَّدْيِ وَالسُّرَّةِ هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رحمه الله تعالى في غَيْرِ
رِوَايَةِ الْأُصُولِ وَيُسْدَلُ شَعْرُهَا ما بين ثَدْيَيْهَا من الْجَانِبَيْنِ
جميعا تَحْتَ الْخِمَارِ وَلَا يُسْدَلُ شَعْرُهَا خَلْفَ ظَهْرِهَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى يُسْدَلُ خَلْفَ ظَهْرِهَا وَاحْتَجَّ
بِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ أنها قالت لَمَّا تُوُفِّيَتْ رُقَيَّةُ بِنْتُ رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ضَفَّرْنَا شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ فُرُوقٍ في
نَاصِيَتِهَا وَقَرْنَيْهَا وَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا فَدَلَّ أَنَّ السُّنَّةَ
هَكَذَا
وَلَنَا أَنَّ إلْقَاءَهَا إلَى ظَهْرِهَا من بَابِ الزِّينَةِ وَهَذِهِ لَيْسَتْ
بِحَالِ زِينَةٍ وَلَا حُجَّةَ في حديث أُمِّ عَطِيَّةَ لِأَنَّ ذلك كان فِعْلَ
أُمِّ عَطِيَّةَ وَلَيْسَ في الحديث أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عَلِمَ ذلك
ثُمَّ الْمُحْرِمُ يُكَفَّنُ كما يُكَفَّنُ الْحَلَالُ عِنْدَنَا أَيْ تغطى ( ( (
يغطى ) ) ) رَأْسُهُ وَوَجْهُهُ وَيُطَيَّبُ
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى لَا يُخَمَّرُ رَأْسُهُ وَلَا يُقَرَّبُ منه
طِيبٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم سُئِلَ عن مُحْرِمٍ وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ وَانْدَقَّ
عُنُقُهُ فقال اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ في ثَوْبِهِ وَلَا
تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فإنه يُبْعَثُ يوم الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا وفي رِوَايَةٍ
قال وَلَا تَقْرَبُوا منه طِيبًا
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَطَاءٍ عن ابْنِ عَبَّاسٍ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال في الْمُحْرِمِ يَمُوتُ خَمِّرُوهُمْ وَلَا تُشَبِّهُوهُمْ
بِالْيَهُودِ
وَرُوِيَ عن عَلِيٍّ أَنَّهُ قال في الْمُحْرِمِ إذَا مَاتَ انْقَطَعَ إحْرَامُهُ
وَلِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال إذَا مَاتَ ابن آدَمَ انْقَطَعَ
عَمَلُهُ إلَّا من ثَلَاثَةٍ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو له وَصَدَقَةٌ جَارِيَةٌ
وَعِلْمٌ عَلَّمَهُ الناس يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَالْإِحْرَامُ ليس من هذه
الثَّلَاثَةِ وما رُوِيَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَيْنَا في الْمُحْرِمِ فَبَقِيَ لنا
الْحَدِيثُ الْمُطْلَقُ الذي رَوَيْنَا أَنَّ هذا الْعَمَلَ مُنْقَطِعٌ على أَنَّ
ذلك الحديث مَحْمُولٌ على مُحْرِمٍ خَاصٍّ جَعَلَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
مَخْصُوصًا بِهِ بِدَلِيلِ ما رَوَيْنَا والله أعلم
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يَجِبُ عليه الْكَفَنُ فَنَقُولُ كَفَنُ الْمَيِّتِ في
مَالِهِ إنْ كان له مَالٌ وَيُكَفَّنُ من جَمِيعِ مَالِهِ قبل الدَّيْنِ
وَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ لِأَنَّ هذا من أُصُولِ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ
فَصَارَ كَنَفَقَتِهِ في حَالِ حَيَاتِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ فَكَفَنُهُ
على من تَجِبُ عليه نَفَقَتُهُ كما تَلْزَمُهُ كِسْوَتُهُ في حَالِ حَيَاتِهِ
إلَّا الْمَرْأَةَ فإنه لَا يَجِبُ كَفَنُهَا على زَوْجِهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ
لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ
____________________
(1/308)
انْقَطَعَتْ
بِالْمَوْتِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ وعند ( ( ( وعن ) ) ) أبي يُوسُفَ يَجِبُ
عليه كَفَنُهَا كما تَجِبُ عليه كِسْوَتُهَا في حَالِ حَيَاتِهَا
وَلَا يَجِبُ على الْمَرْأَةِ كَفَنُ زَوْجِهَا بِالْإِجْمَاعِ كما لَا يَجِبُ
عليها كِسْوَتُهُ في حَالِ الْحَيَاةِ وَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ وَلَا من
يُنْفِقُ عليه فَكَفَنُهُ في بَيْتِ الْمَالِ كَنَفَقَتِهِ في حَالِ حَيَاتِهِ
لِأَنَّهُ أُعِدَّ لِحَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى هذا إذَا نُبِشَ الْمَيِّتُ
وهو طَرِيٌّ لم يَتَفَسَّخْ بَعْدُ كُفِّنَ ثَانِيًا من جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّ
حَاجَتَهُ إلَى الْكَفَنِ في الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَحَاجَتِهِ إلَيْهِ في
الْمَرَّةِ الْأُولَى فَإِنْ قُسِمَ الْمَالُ فَهُوَ على الْوَارِثِ دُونَ
الْغُرَمَاءِ وَأَصْحَابِ الْوَصَايَا لِأَنَّ بِالْقَسْمِ انْقَطَعَ حَقُّ
الْمَيِّتِ عنه فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ وَلَا مَالَ له فَيُكَفِّنُهُ وَارِثُهُ
إنْ كان له مَالٌ وَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ وَلَا من تُفْتَرَضُ عليه نَفَقَتُهُ
فَكَفَنُهُ في بَيْتِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ نَفَقَتِهِ في حَالِ حَيَاتِهِ وَإِنْ
نُبِشَ بَعْدَمَا تَفَسَّخَ وَأُخِذَ كَفَنُهُ كُفِّنَ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ
لِأَنَّهُ إذَا تَفَسَّخَ خَرَجَ عن حُكْمِ الْآدَمِيِّينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ
لَا يُصَلَّى عليه فَصَارَ كَالسَّقْطِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ إذَا كُفِّنَ
الْمَيِّتُ يُحْمَلُ على الْجِنَازَةِ
فَصْلٌ وَالْكَلَامُ في حَمْلِهِ على الْجِنَازَةِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ
كَمِّيَّةِ من يَحْمِلُ الْجِنَازَةِ وَكَيْفِيَّةِ حَمْلِهَا وَتَشْيِيعِهَا
وَوَضْعِهَا وما يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِمَّا يُسَنُّ وما يُكْرَهُ
أَمَّا بَيَانُ كَمِّيَّةِ من يَحْمِلُ الْجِنَازَةِ وَكَيْفِيَّةِ حَمْلِهَا
فَالسُّنَّةُ في حَمْلِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَحْمِلَهَا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ من جَوَانِبِهَا
الْأَرْبَعِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى السُّنَّةُ حَمْلُهَا بين الْعَمُودَيْنِ وهو
أَنْ يَحْمِلَهَا رَجُلَانِ يَتَقَدَّمُ أَحَدُهُمَا فَيَضَعُ جَانِبَيْ
الْجِنَازَةِ على كَتِفَيْهِ وَيَتَأَخَّرُ الْآخَرُ فَيَفْعَلُ مِثْلَ ذلك
وَهَذَا النَّوْعُ من الْحَمْلِ مَكْرُوهٌ كذا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ في
الْمُجَرَّدِ
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى بِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم حَمَلَ جِنَازَةَ سَعْدِ بن مُعَاذٍ بين الْعَمُودَيْنِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ أَنَّهُ قال السُّنَّةُ أَنْ
تُحْمَلَ الْجِنَازَةُ من جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما كان يَدُورُ على الْجِنَازَةِ من
جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ وَلِأَنَّ عَمَلَ الناس اشْتَهَرَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ
وهو آمَنُ من سُقُوطِ الْجِنَازَةِ وَأَيْسَرُ على الْحَامِلِينَ
الْمُتَدَاوِلِينَ بَيْنَهُمْ وَأَبْعَدُ من تَشْبِيهِ حَمْلِ الْجِنَازَةِ
بِحَمْلِ الْأَثْقَالِ وقد أُمِرْنَا بِذَلِكَ وَلِهَذَا يُكْرَهُ حَمْلُهَا على
الظَّهْرِ أو على الدَّابَّةِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كان
لِضِيقِ الْمَكَانِ أو لِعَوَزِ الْحَامِلِينَ وَمَنْ أَرَادَ إكْمَالَ السُّنَّةِ
في حَمْلِ الْجِنَازَةِ يَنْبَغِي له أَنْ يَحْمِلَهَا من الْجَوَانِبِ
الْأَرْبَعِ لِمَا رَوَيْنَا عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ كان
يَدُورُ على الْجِنَازَةِ على جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ فَيَضَعُ مُقَدَّمَ
الْجِنَازَةِ على يَمِينِهِ ثُمَّ مُؤَخَّرَهَا على يَمِينِهِ ثُمَّ مُقَدَّمَهَا
على يَسَارِهِ ثُمَّ مُؤَخَّرَهَا على يَسَارِهِ كما بَيَّنَ في الْجَامِعِ
الصَّغِيرِ وَهَذَا لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يُحِبُّ التَّيَامُنَ
في كل شَيْءٍ
وإذا حَمَلَ هَكَذَا حَصَلَتْ الْبِدَايَةُ بِيَمِينِ الْحَامِلِ وَيَمِينِ
الْمَيِّتِ وَإِنَّمَا بَدَأْنَا بِالْأَيْمَنِ الْمُقَدَّمِ دُونَ الْمُؤَخَّرِ
لِأَنَّ الْمُقَدَّمَ أَوَّلُ الْجِنَازَةِ وَالْبِدَايَةُ بِالشَّيْءِ إنَّمَا
تَكُونُ من أَوَّلِهِ ثُمَّ يَضَعُ مُؤَخَّرَهَا الْأَيْمَنَ على يَمِينِهِ
لِأَنَّهُ لو وَضَعَ مُقَدَّمَهَا الْأَيْسَرَ على يَسَارِهِ لَاحْتَاجَ إلَى
الْمَشْيِ أَمَامَهَا وَالْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ وَلِأَنَّهُ لو فَعَلَ ذلك
أو وَضَعَ مُؤَخَّرَهَا الْأَيْسَرَ على يَسَارِهِ لَقَدَّمَ الْأَيْسَرَ على
الْأَيْمَنِ ثُمَّ يَضَعُ مُقَدَّمَهَا الْأَيْسَرَ على يَسَارِهِ لِأَنَّهُ لو
فَعَلَ كَذَلِكَ يَقَعُ الْفَرَاغُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ فَيَمْشِي خَلْفَهَا وهو
أَفْضَلُ كَذَلِكَ كان الْحَمْلُ وَلِكَمَالِ السُّنَّةِ كما وَصَفْنَا من
التَّرْتِيبِ
وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلَ من كل جَانِبٍ عَشْرَ خُطُوَاتٍ لِمَا رُوِيَ في الحديث
من حَمَلَ جِنَازَةً أَرْبَعِينَ خُطْوَةً كَفَّرَتْ أَرْبَعِينَ كَبِيرَةً
وَأَمَّا جِنَازَةُ الصَّبِيِّ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَحْمِلَهَا الرِّجَالُ
وَيُكْرَهُ أَنْ تُوضَعَ جِنَازَتُهُ على دَابَّةٍ لِأَنَّ الصَّبِيَّ مُكَرَّمٌ
مُحْتَرَمٌ كَالْبَالِغِ وَلِهَذَا يُصَلَّى عليه كما يُصَلَّى على الْبَالِغِ
وَمَعْنَى الْكَرَامَةِ وَالِاحْتِرَامِ في الْحَمْلِ على الْأَيْدِي فَأَمَّا
الْحَمْلُ على الدَّابَّةِ فَإِهَانَةٌ له لِأَنَّهُ يُشْبِهُ حَمْلَ
الْأَمْتِعَةِ وَإِهَانَةُ الْمُحْتَرَمِ مَكْرُوهٌ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ
يَحْمِلَهُ رَاكِبٌ على دَابَّتِهِ وهو أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ له رَاكِبًا
لِأَنَّ مَعْنَى الْكَرَامَةِ حَاصِلٌ
وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى في الرَّضِيعِ وَالْفَطِيمِ لَا بَأْسَ
بِأَنْ يحمل ( ( ( يحمله ) ) ) في طَبَقٍ يَتَدَاوَلُونَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَالْإِسْرَاعُ بِالْجِنَازَةِ أَفْضَلُ من الْإِبْطَاءِ لِمَا رُوِيَ عن النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال عَجِّلُوا بِمَوْتَاكُمْ فَإِنْ يَكُ خَيْرًا
قَدَّمْتُمُوهُ إلَيْهِ وَإِنْ يَكُ شَرًّا أَلْقَيْتُمُوهُ عن رِقَابِكُمْ وفي
رِوَايَةٍ فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّارِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ
الْإِسْرَاعُ دُونَ الْخَبَبِ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه
أَنَّهُ قال سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن الْمَشْيِ
بِالْجِنَازَةِ فقال ما دُونَ الْخَبَبِ وَلِأَنَّ الْخَبَبَ يُؤَدِّي إلَى
الْإِضْرَارِ بِمُشَيِّعِي الْجِنَازَةِ وَيُقَدَّمُ الرَّأْسُ في حَالِ حَمْلِ
الْجِنَازَةِ لِأَنَّهُ من أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ فَكَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى
وَلِأَنَّ مَعْنَى الْكَرَامَةِ في التَّقْدِيمِ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ
التَّشْيِيعِ فَالْمَشْيُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ أَفْضَلُ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى الْمَشْيُ أَمَامَهَا أَفْضَلُ وَاحْتَجَّ
بِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عن سَالِمٍ عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ
____________________
(1/309)
كَانُوا
يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ وَهَذَا حِكَايَةُ عَادَةٍ وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ
اخْتِيَارَ الْأَفْضَلِ وَلِأَنَّهُمْ شُفَعَاءُ الْمَيِّتِ وَالشَّفِيعُ أَبَدًا
يَتَقَدَّمُ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ لِلصَّلَاةِ لِمَا فيه من التَّحَرُّزِ عن
احْتِمَالِ الْفَوْتِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا عليه وَمَرْفُوعًا إلَى رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال الْجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ وَلَيْسَتْ
بِتَابِعَةٍ ليس مَعَهَا من تَقَدَّمَهَا
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ( ( ( السلام ) ) ) كان يَمْشِي خَلْفَ
جِنَازَةِ سَعْدِ بن مُعَاذٍ وَرَوَى مَعْمَرُ عن طَاوُسٍ عن أبيه قال ما مَشَى
رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حتى مَاتَ إلَّا خَلْفَ الْجِنَازَةِ
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فَضْلُ الْمَشْيِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ على الْمَشْيِ
أَمَامَهَا كَفَضْلِ الْمَكْتُوبَةِ على النَّافِلَةِ وَلِأَنَّ الْمَشْيَ
خَلْفَهَا أَقْرَبُ إلَى الِاتِّعَاظِ لِأَنَّهُ يُعَايِنُ الْجِنَازَةَ
فَيَتَّعِظُ فَكَانَ أَفْضَلَ وَالْمَرْوِيُّ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَتَسْهِيلِ الْأَمْرِ على الناس عِنْدَ الِازْدِحَامِ وهو
تَأْوِيلُ فِعْلِ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما
وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ عن عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى أَنَّهُ قال بَيْنَا
أنا أَمْشِي مع عَلِيٍّ خَلْفَ الْجِنَازَةِ وأبو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَمْشِيَانِ
أَمَامَهَا فقلت لِعَلِيٍّ ما بَالُ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشِيَانِ أَمَامَ
الْجِنَازَةِ
فقال إنَّهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَفْضَلُ من الْمَشْيِ
أَمَامَهَا إلَّا أَنَّهُمَا يسهلان على الناس وَمَعْنَاهُ أَنَّ الناس
يَتَحَرَّزُونَ عن الْمَشْيِ أَمَامَهَا تَعْظِيمًا لها فَلَوْ اخْتَارَ الْمَشْيَ
خَلْفَ الْجِنَازَةِ لَضَاقَ الطَّرِيقُ على مُشَيِّعِيهَا
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الناس شُفَعَاءُ الْمَيِّتِ فَيَنْبَغِي أَنْ
يَتَقَدَّمُوا فَيُشْكِلُ هذا بِحَالَةِ الصَّلَاةِ فإن حَالَةَ الصَّلَاةِ
حَالَةُ الشَّفَاعَةِ وَمَعَ ذلك لَا يَتَقَدَّمُونَ الْمَيِّتَ بَلْ الْمَيِّتُ
قُدَّامُهُمْ وَقَوْلُهُ هذا أَحْوَطُ لِلصَّلَاةِ قُلْنَا عِنْدَنَا إنَّمَا
يَكُونُ الْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ إذَا كان بِقُرْبٍ منها بِحَيْثُ
يُشَاهِدُهَا وفي مِثْلِ هذا لَا تَفُوتُ الصَّلَاةُ وَلَوْ مَشَى قُدَّامَهَا كان
وَاسِعًا لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي
اللَّهُ عنهما فَعَلُوا ذلك في الْجُمْلَةِ على ما ذَكَرْنَا غير أَنَّهُ يُكْرَهُ
أَنْ يَتَقَدَّمَ الْكُلُّ عليها لِأَنَّ فيه إبْطَالُ مَتْبُوعِيَّةِ
الْجِنَازَةِ من كل وَجْهٍ وَلَا بَأْسَ بِالرُّكُوبِ إلَى صَلَاةِ الْجِنَازَةِ
وَالْمَشْيُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ وَأَلْيَقُ
بِالشَّفَاعَةِ وَيُكْرَهُ لِلرَّاكِبِ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْجِنَازَةَ لِأَنَّ ذلك
لَا يَخْلُو عن الضَّرَرِ بِالنَّاسِ
وَلَا تُتْبَعُ الْجِنَازَةُ بِنَارٍ إلَى قَبْرِهِ يَعْنِي الْإِجْمَارَ في
قَبْرِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم خَرَجَ في جِنَازَةٍ
فَرَأَى امْرَأَةً في يَدِهَا مِجْمَرٌ فَصَاحَ عليها وَطَرَدَهَا حتى توارت ( ( (
توارث ) ) ) بالآكام وَرُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَا
تَحْمِلُوا مَعِي مِجْمَرًا وَلِأَنَّهَا آلَةُ الْعَذَابِ فَلَا تُتْبَعُ معه
تَفَاؤُلًا
قال إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ زَادِهِ من الدُّنْيَا
نَارًا وَلِأَنَّ هذا فِعْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيُكْرَهُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ من يَتْبَعُ الْجِنَازَةَ حتى يُصَلِّيَ لِأَنَّ
الِاتِّبَاعَ كان لِلصَّلَاةِ عليها فَلَا يَرْجِعُ قبل حُصُولِ الْمَقْصُودِ
وَلَا يَنْبَغِي لِلنِّسَاءِ أَنْ يَخْرُجْنَ في الْجِنَازَةِ لِأَنَّ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم نَهَاهُنَّ عن ذلك وقال انْصَرِفْنَ مَأْزُورَاتٍ غير
مَأْجُورَاتٍ
وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُومَ لِلْجِنَازَةِ إذَا أتى بها بين يَدَيْهِ
إلَّا أَنْ يُرِيدَ اتِّبَاعَهَا وَيُكْرَهُ النَّوْحُ وَالصِّيَاحُ في
الْجِنَازَةِ وَمَنْزِلِ الْمَيِّتِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ نهى عن الصَّوْتَيْنِ الْأَحْمَقَيْنِ صَوْتِ النَّائِحَةِ
وَالْمُغَنِّيَةِ فَأَمَّا الْبُكَاءُ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ عن النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم بَكَى على ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ وقال الْعَيْنُ تَدْمَعُ
وَالْقَلْبُ يَخْشَعُ وَلَا نَقُولُ ما يُسْخِطُ الرَّبَّ وَإِنَّا عَلَيْكَ يا
إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ وإذا كان مع الْجِنَازَةِ نَائِحَةٌ أو صَائِحَةٌ
زُجِرَتْ فَإِنْ لم تَنْزَجِرْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتْبَعَ الْجِنَازَةَ مَعَهَا
ولا ( ( ( ويمتنع ) ) ) يمتنع لِأَجْلِهَا لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْجِنَازَةِ سُنَّةٌ
فَلَا يُتْرَكُ بِبِدْعَةٍ من غَيْرِهِ
وَيُطِيلُ الصَّمْتَ إذَا أتبع الْجِنَازَةَ
وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ لِمَا رُوِيَ عن قَيْسِ بن عُبَادَةَ
أَنَّهُ قال كان أَصْحَابُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَكْرَهُونَ
الصَّوْتِ عِنْدَ ثَلَاثَةٍ عِنْدَ الْقِتَالِ وَعِنْدَ الْجِنَازَةِ وَالذِّكْرِ
وَلِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ مَكْرُوهًا
وَيُكْرَهُ لِمُتَّبِعِي الْجِنَازَةِ أَنْ يَقْعُدُوا قبل وَضْعِ الْجِنَازَةِ
لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعُ الْجِنَازَةِ وَالتَّبَعُ لَا يَقْعُدُ قبل قُعُودِ
الْأَصْلِ وَلَأَنَّهُمْ إنَّمَا حَضَرُوا تَعْظِيمًا لِلْمَيِّتِ وَلَيْسَ من
التَّعْظِيمِ الْجُلُوسُ قبل الْوَضْعِ فَأَمَّا بَعْدَ الْوَضْعِ فَلَا بَأْسَ
بِذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عن عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ أن ( ( ( رضي ) ) ) النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم كان لَا يَجْلِسُ حتى يُوضَعَ الْمَيِّتُ في اللَّحْدِ وكان
قَائِمًا مع أَصْحَابِهِ على رَأْسِ قَبْرٍ فقال يَهُودِيٌّ هَكَذَا نَفْعَلُ
بِمَوْتَانَا فَجَلَسَ صلى اللَّهُ عليه وسلم وقال لِأَصْحَابِهِ خَالِفُوهُمْ
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْوَضْعِ فَنَقُولُ إنَّهَا تُوضَعُ عَرْضًا لِلْقِبْلَةِ
هَكَذَا تَوَارَثَهُ الناس وَاَللَّهَ أَعْلَمُ ثُمَّ إذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ
يُصَلَّى عليها
فَصْلٌ وَالْكَلَامُ في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أنها
فَرِيضَةٌ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّتِهَا وفي بَيَانِ من يصلي عليه وفي
بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ وفي بَيَانِ ما تَصِحُّ بِهِ الصَّلَاةُ وما
يُفْسِدُهَا وما يُكْرَهُ وفي بَيَانِ من له وِلَايَةُ الصَّلَاةِ
أَمَّا
____________________
(1/310)
الْأَوَّلُ
فَالدَّلِيلُ على فَرْضِيَّتِهَا ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال صَلُّوا على كل بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَرُوِيَ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال لِلْمُسْلِمِ على الْمُسْلِمِ سِتُّ حُقُوقٍ وَذَكَرَ من جُمْلَتِهَا
أَنَّهُ يصلي على جِنَازَتِهِ وَكَلِمَةُ على لِلْإِيجَابِ وَكَذَا مُوَاظَبَةُ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْأُمَّةِ من
لَدُنْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا عليها دَلِيلُ
الْفَرْضِيَّةِ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ على فَرْضِيَّتِهَا أَيْضًا إلَّا أنها
فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قام بِهِ الْبَعْضُ يَسْقُطُ عن الْبَاقِينَ لِأَنَّ ما هو
الْفَرْضُ وهو قَضَاءُ حَقِّ الْمَيِّتِ يَحْصُلُ بِالْبَعْضِ وَلَا يُمْكِنُ
إيجَابُهَا على كل وَاحِدٍ من آحَادِ الناس فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْجِهَادِ
لَكِنْ لَا يَسَعُ الِاجْتِمَاعُ على تَرْكِهَا كَالْجِهَادِ
وَأَمَّا بَيَانُ من يُصَلَّى عليه فَكُلُّ مُسْلِمٍ مَاتَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ
يُصَلَّى عليه صَغِيرًا كان أو كَبِيرًا ذَكَرًا كان أو أُنْثَى حُرًّا كان أو
عَبْدًا إلَّا الْبُغَاةَ وَقُطَّاعَ الطَّرِيقِ وَمَنْ بِمِثْلِ حَالِهِمْ
لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صَلُّوا على كل بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَقَوْلُهُ
لِلْمُسْلِمِ سِتُّ حُقُوقٍ وَذَكَرَ من جُمْلَتِهَا أَنْ يُصَلَّى على
جِنَازَتِهِ من غَيْرِ فَصْلٍ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ وَالْبُغَاةُ وَمَنْ
بِمِثْلِ حَالِهِمْ مَخْصُوصُونَ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا يُصَلَّى على من ولد
مَيِّتًا وقد ذَكَرْنَاهُ في بَابِ الْغُسْلِ وَإِنْ مَاتَ في حَالِ وِلَادَتِهِ
فَإِنْ كان خَرَجَ أَكْثَرُهُ صلى عليه وَإِنْ كان أَقَلَّهُ لم يُصَلَّ عليه
اعْتِبَارًا لِلْأَغْلَبِ وَإِنْ كان خَرَجَ نِصْفُهُ لم يذكر في الْكِتَابِ
وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هذا على قِيَاسِ ما ذَكَرْنَا من الصَّلَاةِ على نِصْفِ
الْمَيِّتِ وَلَا يُصَلَّى على بَعْضِ الْإِنْسَانِ حتى يُوجَدَ الْأَكْثَرُ منه
عِنْدَنَا
لِأَنَّا لو صَلَّيْنَا على هذا الْبَعْضِ يَلْزَمُنَا الصَّلَاةُ على الْبَاقِي
إذَا وَجَدْنَاهُ فَيُؤَدِّي إلَى التَّكْرَارِ وَأَنَّهُ ليس بِمَشْرُوعٍ
عِنْدَنَا بِخِلَافِ الْأَكْثَرِ لِأَنَّهُ إذَا صلى عليه لم يُصَلَّ على
الْبَاقِي إذَا وُجِدَ وقد ذَكَرْنَاهُ في بَابِ الْغُسْلِ وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ
رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ في النِّصْفِ الْمَقْطُوعِ
وَلَا يُصَلَّى على مَيِّتٍ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لَا جَمَاعَةً وَلَا
وُحْدَانًا عِنْدَنَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ صَلَّوْا عليها أَجَانِبَ
بِغَيْرِ أَمْرِ الْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ حَضَرَ الْوَلِيُّ فَحِينَئِذٍ له أَنْ
يُعِيدَهَا
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى يَجُوزُ لِمَنْ لم يُصَلِّ أَنْ يُصَلِّيَ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلي على النَّجَاشِيِّ
وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كان صلى عليه
وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم مَرَّ بِقَبْرٍ جَدِيدٍ فَسَأَلَ عنه
فَقِيلَ قَبْرُ فُلَانَةَ فقال هَلَّا آذَنْتُمُونِي بِالصَّلَاةِ عليها فَقِيلَ
إنَّهَا دُفِنَتْ لَيْلًا فَخَشِينَا عَلَيْكَ هَوَامَّ الْأَرْضِ فقال صلى
اللَّهُ عليه وسلم إذَا مَاتَ إنْسَانٌ فَآذِنُونِي فإن صَلَاتِي عليه رَحْمَةٌ
وَقَامَ وَجَعَلَ الْقَبْرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ وَصَلَّى عليه وَكَذَا
الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ صَلَّوْا على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
وجماعة ( ( ( جماعة ) ) ) بَعْدَ جَمَاعَةٍ وَلِأَنَّهَا دُعَاءٌ وَلَا بَأْسَ
بِتَكْرَارِ الدُّعَاءِ وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَيِّتِ وَإِنْ قضى فَلِكُلِّ مُسْلِمٍ
في الصَّلَاةِ حَقٌّ وَلِأَنَّهُ يُثَابُ بِذَلِكَ وَعَسَى أَنْ يُغْفَرَ له
بِبَرَكَةِ هذا الْمَيِّتِ كَرَامَةً له ولم يَقْضِ هذا الْحَقَّ في حَقِّ كل
شَخْصٍ فَكَانَ له أَنْ يَقْضِيَ حَقَّهُ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى على جِنَازَةٍ فلما
فَرَغَ جاء عُمَرُ وَمَعَهُ قَوْمٌ فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ ثَانِيًا فقال له
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الصَّلَاةُ على الْجِنَازَةِ لَا تُعَادُ وَلَكِنْ
اُدْعُ لِلْمَيِّتِ وَاسْتَغْفِرْ له وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ وَرُوِيَ أَنَّ
ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَاتَتْهُمَا
صَلَاةٌ على جِنَازَةٍ فلما حَضَرَا ما زَادَا على الِاسْتِغْفَارِ له
وَرُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن سَلَامٍ أَنَّهُ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ على جِنَازَةِ
عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فلما حَضَرَ قال إنْ سَبَقْتُمُونِي بِالصَّلَاةِ عليه
فَلَا تَسْبِقُونِي بِالدُّعَاءِ له وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الْأُمَّةَ
تَوَارَثَتْ تَرْكَ الصَّلَاةِ على رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَعَلَى
الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالصَّحَابَةِ رضوان ( ( ( رضي ) ) ) اللَّهُ عليهم (
( ( عنهم ) ) ) أجمعين وَلَوْ جَازَ لَمَا تَرَكَ مُسْلِمٌ الصَّلَاةَ عليهم
خُصُوصًا على رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَنَّهُ في قَبْرِهِ كما
وُضِعَ فإن لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ حَرَامٌ على الْأَرْضِ بِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ وَتَرْكُهُمْ
ذلك إجْمَاعًا منهم دَلِيلٌ على عَدَمِ جَوَازِ التَّكْرَارِ وَلِأَنَّ الْفَرْضَ
قد سَقَطَ بِالْفِعْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِكَوْنِهَا فَرْضَ كِفَايَةٍ وَلِهَذَا
إنَّ من لم يُصَلِّ لو تَرَكَ الصَّلَاةَ ثَانِيًا لَا يَأْثَمُ وَإِذًا سَقَطَ
الْفَرْضُ فَلَوْ صلى ثَانِيًا كان نَفْلًا وَالتَّنَفُّلُ بِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ
غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِدَلِيلِ أَنَّ من صلى مَرَّةً لَا يُصَلِّي ثَانِيًا وَهَذَا
بِخِلَافِ ما إذَا تَقَدَّمَ غَيْرُ الْوَلِيِّ فَصَلَّى لأن لِلْوَلِيِّ أَنْ
يُصَلِّيَ عليه لِأَنَّهُ إذَا لم يَجُزْ الْأَوَّلُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَوَّلَ
لم يَقَعْ فَرْضًا لِأَنَّ حَقَّ التَّقَدُّمِ كان له فإذا تَقَدَّمَ غَيْرُهُ
بِغَيْرِ إذْنِهِ كان له أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ في التَّقَدُّمِ فَيَقَعُ
الْأَوَّلُ فَرْضًا فَهُوَ الْفَرْقُ وَالنَّبِيُّ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّمَا
أَعَادَ لِأَنَّ وِلَايَةَ الصَّلَاةِ كانت له فإنه كان أَوْلَى الْأَوْلِيَاءِ
قال اللَّهُ تَعَالَى { النبي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ من أَنْفُسِهِمْ }
وَرُوِيَ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يُصَلِّي على مَوْتَاكُمْ
غَيْرِي ما دُمْتُ بين أَظْهُرِكُمْ فلم يَسْقُطْ الفرض بِأَدَاءِ غَيْرِهِ
وَهَذَا هو تَأْوِيلُ فِعْلِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإن
____________________
(1/311)
الْوَلَايَةَ
كانت لِأَبِي بَكْرٍ لِأَنَّهُ هو الْخَلِيفَةُ إلَّا أَنَّهُ كان مَشْغُولًا
بِتَسْوِيَةِ الْأُمُورِ وَتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ فَكَانُوا يُصَلُّونَ عليه قبل
حُضُورِهِ فلما فَرَغَ صلى عليه ثُمَّ لم يُصَلَّ بَعْدَهُ عليه وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
وَأَمَّا حَدِيثُ النَّجَاشِيِّ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ دُعَاءٌ لِأَنَّ الصَّلَاةَ
تُذْكَرُ وَيُرَادُ بها الدُّعَاءُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَصَّهُ بِذَلِكَ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أن لِكُلِّ وَاحِدٍ من الناس حَقًّا في الصَّلَاةِ عليه قُلْنَا
نعم لَكِنْ لَا وَجْهَ لِاسْتِدْرَاكِ ذلك لِسُقُوطِ الْفَرْضِ وَعَدَمِ جَوَازِ
التَّنَفُّلِ بها وهو الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ أنها دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ لِأَنَّ
التَّنَفُّلَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ مَشْرُوعٌ وَبِالصَّلَاةِ على
الْجِنَازَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ
وَعَلَى هذا قال أَصْحَابُنَا لَا يُصَلَّى على مَيِّتٍ غَائِبٍ
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى يُصَلَّى عليه اسْتِدْلَالًا بِصَلَاةِ النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم على النَّجَاشِيِّ وهو غَائِبٌ وَلَا حُجَّةَ له فيه لِمَا
بَيَّنَّا على أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْأَرْضَ طُوِيَتْ له وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ
ذلك في حَقِّ غَيْرِهِ ثُمَّ ما ذَكَرَهُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إنْ
كان في جَانِبِ الْمَشْرِقِ فَإِنْ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ في الصَّلَاةِ عليه
كان الْمَيِّتُ خَلْفَهُ وَإِنْ اسْتَقْبَلَ الْمَيِّتَ كان مُصَلِّيًا لِغَيْرِ
الْقِبْلَةِ وَكُلُّ ذلك لَا يَجُوزُ وَلَا يُصَلَّى على صَبِيٍّ وهو على
الدَّابَّةِ وَعَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ حتى يُوضَعَ لِأَنَّ الْمَيِّتَ
بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ لهم فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا وَهُمْ على
الْأَرْضِ وَلَا يُصَلَّى على الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى يُصَلَّى عليهم لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ قال
اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ طَائِفَتَانِ من الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } الْآيَةَ
فَدَخَلُوا تَحْتَ قَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صَلُّوا على كل بَرٍّ
وَفَاجِرٍ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ لم يُغَسِّلْ أَهْلَ نَهْرَوَانَ
ولم يُصَلِّ عليهم فَقِيلَ له أَكُفَّارٌ هُمْ فقال لَا وَلَكِنْ هُمْ إخْوَانُنَا
بَغَوْا عَلَيْنَا أَشَارَ إلَى تَرْكِ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ عليهم إهَانَةً لهم
لِيَكُونَ زَجْرًا لِغَيْرِهِمْ وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ
عنه ( ( ( عنهم ) ) ) ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وهو نَظِيرُ
الْمَصْلُوبِ يترك ( ( ( ترك ) ) ) على خَشَبَتِهِ إهَانَةً له وَزَجْرًا
لِغَيْرِهِ كَذَا هذا
وإذا ثَبَتَ الْحُكْمُ في الْبُغَاةِ ثَبَتَ في قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لِأَنَّهُمْ
في مَعْنَاهُمْ إذْ هُمْ يَسْعَوْنَ في الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ كَالْبُغَاةِ
فَكَانُوا في اسْتِحْقَاقِ الْإِهَانَةِ مِثْلَهُمْ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ
الْبُغَاةَ وَمَنْ بِمِثْلِهِمْ مَخْصُوصُونَ عن الحديث بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ
وَكَذَلِكَ الذي يُقْتَلُ بِالْخَنْقِ كَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رحمه الله
تعالى
وقال أبو يُوسُفَ رحمه الله تعالى يصلى عليه وَكَذَلِكَ من يُقْتَلُ على مَتَاعٍ
يَأْخُذُهُ والمكابرون ( ( ( والمكاثرون ) ) ) في الْمِصْرِ بِالسِّلَاحِ
لِأَنَّهُمْ يَسْعَوْنَ في الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَيُلْحَقُونَ بِالْبُغَاةِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ على الْجِنَازَةِ فَيَنْبَغِي
أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ عِنْدَ الصَّلَاةِ بِحِذَاءِ الصَّدْرِ من الرَّجُلِ
وَالْمَرْأَةِ
وَرَوَى الْحَسَنُ في كِتَابِ صَلَاتِهِ عن أبي حَنِيفَةَ أرحمه الله تعالى نه قال
في الرَّجُلِ يَقُومُ بِحِذَاءِ وَسَطِهِ وَمِنْ الْمَرْأَةِ بِحِذَاءِ صَدْرِهَا
وهو قَوْلُ ابْنِ أبي لَيْلَى
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ في الْقِيَامِ بِحِذَاءِ الْوَسَطِ تَسْوِيَةً
بين الْجَانِبَيْنِ في الْحَظِّ من الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ في الْمَرْأَةِ يَقُومُ
بِحِذَاءِ صَدْرِهَا لِيَكُونَ أَبْعَدَ عن عَوْرَتِهَا الْغَلِيظَةِ وَجْهُ
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الصَّدْرَ هو وَسَطُ الْبَدَنِ لِأَنَّ الرِّجْلَيْنِ
وَالرَّأْسَ من جُمْلَةِ الْأَطْرَافِ فَيَبْقَى الْبَدَنُ من الْعَجِيزَةِ إلَى الرَّقَبَةِ
فَكَانَ وَسَطُ الْبَدَنِ هو الصَّدْرُ وَالْقِيَامُ بِحِذَاءِ الْوَسَطِ أَوْلَى
لِيَسْتَوِيَ الْجَانِبَانِ في الْحَظِّ من الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ الْقَلْبَ
مَعْدِنُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فَالْوُقُوفُ بِحِيَالِهِ أَوْلَى وَلَا نَصَّ
عن الشَّافِعِيِّ في كَيْفِيَّةِ الْقِيَامِ وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ يَقُومُ
بِحِذَاءِ رَأْسِ الرَّجُلِ وَبِحِذَاءِ عَجُزِ الْمَرْأَةِ وَيَكُونُ هذا
مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ لِمَا رُوِيَ عن أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ صلى على
امْرَأَةٍ فَوَقَفَ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا وَصَلَّى على رَجُلٍ فَقَامَ عِنْدَ
رَأْسِهِ فَقِيلَ له أَكَانَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يُصَلِّي
كَذَلِكَ قال نعم
قالوا وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ فَيَكُونُ هذا
مَذْهَبَهُ وَإِنْ لم يُرْوَ عنه وَلَكِنَّا نَقُولُ هذا مُعَارَضٌ بِمَا رَوَى
سَمُرَةُ بن جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى على أُمِّ
قِلَابَةَ مَاتَتْ في نِفَاسِهَا فَقَامَ وَسَطَهَا وَهَذَا مُوَافِقٌ
لِمَذْهَبِنَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَقُومُ بِحِذَاءِ صَدْرِ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا لِأَنَّ الصَّدْرَ وَسَطُ الْبَدَنِ أو نُؤَوِّلُ فَنَقُولُ يُحْتَمَلُ
أَنَّهُ وَقَفَ بِحِذَاءِ الْوَسَطِ إلَّا أَنَّهُ مَالَ في أَحَدِ
الْمَوْضِعَيْنِ إلَى الرَّأْسِ وفي الْآخَرِ إلَى الْعَجُزِ فَظَنَّ الرَّاوِي
أَنَّهُ فَرَّقَ بين الْأَمْرَيْنِ ثُمَّ يُكَبِّرُ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ وكان
ابن أبي لَيْلَى يقول خَمْسُ تَكْبِيرَاتٍ وهو رِوَايَةٌ عن أبي يُوسُفَ رحمهما
الله تعالى
وقد اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ في فِعْلِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
فَرُوِيَ عنه الْخَمْسُ وَالسَّبْعُ وَالتِّسْعُ وَأَكْثَرُ من ذلك إلَّا أَنَّ آخِرَ
فِعْلِهِ كان أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ لِمَا رُوِيَ عن عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ
جَمَعَ الصَّحَابَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ حين اخْتَلَفُوا في عَدَدِ
التَّكْبِيرَاتِ وقال لهم إنَّكُمْ اخْتَلَفْتُمْ فَمَنْ يَأْتِي بَعْدَكُمْ
يَكُونُ أَشَدَّ اخْتِلَافًا منكم فَانْظُرُوا آخِرَ صَلَاةٍ صلاها رسول اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم على جِنَازَةٍ فَخُذُوا بِذَلِكَ فوجدوه ( ( ( فوجده ) ) )
صلى على امْرَأَةٍ كَبَّرَ عليها أَرْبَعًا فَاتَّفَقُوا على ذلك فَكَانَ ذلك
دَلِيلًا على كَوْنِ التَّكْبِيرَاتِ
____________________
(1/312)
في
صَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَرْبَعًا لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عليها حتى قال عبد اللَّهِ
بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه حين سُئِلَ عن تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ كُلُّ ذلك قد
كان وَلَكِنِّي رأيت الناس أَجْمَعُوا على أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ وَالْإِجْمَاعُ
حُجَّةٌ وَكَذَا رَوَوْا عنه أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم كَذَا كان يَفْعَلُ
ثُمَّ أَخْبَرُوا أَنَّ آخِرَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم كانت بِأَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّنَاسُخِ حَيْثُ
لم تَحْمِلْ الْأُمَّةُ الْأَفْعَالَ الْمُخْتَلِفَةَ على التَّخْيِيرِ فَدَلَّ
أَنَّ ما تَقَدَّمَ نُسِخَ بِهَذِهِ التي صَلَّاهَا آخِرَ صَلَاتِهِ وَلِأَنَّ
كُلَّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ وَلَيْسَ في الْمَكْتُوبَاتِ
زِيَادَةٌ على أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ إلَّا أَنَّ ابْنَ أبي لَيْلَى يقول
التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى لِلِافْتِتَاحِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا
أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ كُلُّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ
وَالرَّافِضَةُ زَعَمَتْ أَنَّ عَلِيًّا كان يُكَبِّرُ على أَهْلِ بَيْتِهِ خَمْسَ
تَكْبِيرَاتٍ وَعَلَى سَائِرِ الناس أَرْبَعًا وَهَذَا افْتِرَاءٌ منهم عليه فإنه
رُوِيَ عنه أَنَّهُ كَبَّرَ على فَاطِمَةَ أَرْبَعًا وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى على
فَاطِمَةَ أبو بَكْرٍ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا وَعُمَرُ صلى على أبي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا فإذا كَبَّرَ الْأُولَى أَثْنَى على اللَّهِ
تَعَالَى وهو أَنْ يَقُولَ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَى آخِرِهِ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا اسْتِفْتَاحَ فيه وَلَكِنَّ النَّقْلَ
وَالْعَادَةَ أَنَّهُمْ يَسْتَفْتِحُونَ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ كما
يَسْتَفْتِحُونَ في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وإذا كَبَّرَ الثَّانِيَةَ يَأْتِي
بِالصَّلَاةِ على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَهِيَ الصَّلَاةُ الْمَعْرُوفَةُ
وَهِيَ أَنْ يَقُولَ ( اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ )
إلَى قَوْلِهِ ( إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) وإذا كَبَّرَ الثَّالِثَةَ
يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمَيِّتِ وَيَشْفَعُونَ وَهَذَا لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ
دُعَاءٌ لِلْمَيِّتِ وَالسُّنَّةُ في الدُّعَاءِ أَنْ يُقَدِّمَ الْحَمْدَ ثُمَّ
الصَّلَاةَ على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ثُمَّ الدُّعَاءَ بَعْدَ ذلك لِيَكُونَ
أَرْجَى أَنْ يُسْتَجَابَ وَالدُّعَاءُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ
لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا إنْ كان يُحْسِنُهُ وَإِنْ لم يُحْسِنْهُ يَذْكُرُ ما
يَدْعُو بِهِ في التَّشَهُّدِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ إلَى آخره ( ( ( آخر ) ) ) هذا إذَا كان بَالِغًا فَأَمَّا إذَا
كان صَبِيًّا فإنه يقول اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لنا فَرَطًا وَذُخْرًا وَشَفِّعْهُ
فِينَا كَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى وهو الْمَرْوِيُّ عن النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم ثُمَّ يُكَبِّرُ التَّكْبِيرَةَ الرَّابِعَةَ وَيُسَلِّمُ
تَسْلِيمَتَيْنِ لِأَنَّهُ جاء أَوَانُ التَّحَلُّلِ وَذَلِكَ بِالسَّلَامِ وَهَلْ
يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّسْلِيمِ لم يَتَعَرَّضْ له في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَذَكَرَ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّسْلِيمِ في صَلَاةِ
الْجِنَازَةِ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ مَشْرُوعٌ لِلْإِعْلَامِ وَلَا حَاجَةَ
إلَى الْإِعْلَامِ بِالتَّسْلِيمِ في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ
عَقِبَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ بِلَا فَصْلٍ وَلَكِنَّ الْعَمَلَ في
زَمَانِنَا هذا يُخَالِفُ ما يَقُولُهُ الْحَسَنُ وَلَيْسَ في ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ
بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ دُعَاءٌ سِوَى السَّلَامِ وقد اخْتَارَ بَعْضُ
مَشَايِخِنَا ما يُخْتَمُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ ( اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا
في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الْآخِرَةِ حَسَنَةً إلى ( ( ( إلخ ) ) ) آخره )
فَإِنْ كَبَّرَ الْإِمَامُ خَمْسًا لم يُتَابِعْهُ الْمُقْتَدِي في الْخَامِسَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ يُتَابِعُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا مُجْتَهَدٌ فيه فَيُتَابِعُ الْمُقْتَدِي إمَامَهُ كما
في تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ
وَلَنَا أَنَّ هذا عَمَلٌ بِالْمَنْسُوخِ لِأَنَّ ما زَادَ على أَرْبَعِ
تَكْبِيرَاتٍ ثَبَتَ انْتِسَاخُهُ بِمَا رَوَيْنَا فَظَهَرَ خطأه بِيَقِينٍ فيه
فَلَا يُتَابِعُهُ في الْخَطَأِ بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ لِأَنَّهُ لم
يَظْهَرْ خطأه بِيَقِينٍ حتى لو ظَهَرَ لَا يُتَابِعُهُ على ما ذَكَرْنَا في
صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عن أبي حَنِيفَةَ رحمه الله
تعالى أَنَّ الْمُقْتَدِيَ مَاذَا يَفْعَلُ إذَا لم يُتَابِعْهُ في التَّكْبِيرَةِ
الزَّائِدَةِ في رِوَايَةٍ قال يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ حتى يُتَابِعَهُ في
التَّسْلِيمِ لِأَنَّ الْبَقَاءَ في حُرْمَةِ الصَّلَاةِ ليس بِخَطَأٍ إنَّمَا
الْخَطَأُ مُتَابَعَتُهُ في التكبير ( ( ( التكبيرة ) ) ) فَيَنْتَظِرُهُ وَلَا
يُتَابِعُ وفي رِوَايَةٍ قال يُسَلِّمُ وَلَا يَنْتَظِرُ لِأَنَّ الْبَقَاءَ في
التَّحْرِيمَةِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ خَطَأٌ لِأَنَّ التَّحْلِيلَ
عَقِيبَهَا هو الْمَشْرُوعُ بِلَا فَصْلٍ فَلَا يُتَابِعُهُ في الْبَقَاءِ كما لَا
يُتَابِعُهُ في التَّكْبِيرَةِ الزَّائِدَةِ وَلَا يَقْرَأُ في الصَّلَاةِ على
الْجِنَازَةِ بِشَيْءٍ من الْقُرْآنِ
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى يُفْتَرَضُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فيها
وَذَلِكَ عَقِيبَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى بَعْدَ الثَّنَاءِ وَعِنْدَنَا لو
قَرَأَ الْفَاتِحَةَ على سَبِيلِ الدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ لم يُكْرَهْ
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا صَلَاةَ إلَّا
بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
وَقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ وَهَذِهِ صَلَاةٌ بِدَلِيلِ شَرْطِ
الطَّهَارَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فيها
وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كَبَّرَ على مَيِّتٍ أَرْبَعًا
وَقَرَأَ بفاتحة ( ( ( فاتحة ) ) ) الْكِتَابِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ صلى على جِنَازَةٍ فَقَرَأَ فيها
بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَجَهَرَ بها وقال إنَّمَا جَهَرْتُ لِتَعْلَمُوا أنها
سُنَّةٌ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عن صَلَاةِ
الْجِنَازَةِ هل يُقْرَأُ فيها فقال لم يُوَقِّتْ لنا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم قَوْلًا وَلَا قِرَاءَةً وفي رِوَايَةٍ دُعَاءً وَلَا قِرَاءَةً كَبِّرْ
ما كَبَّرَ الْإِمَامُ وَاخْتَرْ من أَطْيَبِ الْكَلَامِ ما شِئْت وفي رِوَايَةٍ
وَاخْتَرْ من الدُّعَاءِ أَطْيَبَهُ
وَرُوِيَ عن عبد الرحمن بن عَوْفٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم أَنَّهُمَا قَالَا
ليس فيها قِرَاءَةُ شَيْءٍ من الْقُرْآنِ
____________________
(1/313)
وَلِأَنَّهَا
شُرِعَتْ لِلدُّعَاءِ وَمُقَدِّمَةُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ
وَالصَّلَاةُ على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا الْقِرَاءَةُ وَقَوْلُهُ صلى
الله عليه وسلم ( ( ( السلام ) ) ) لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
وَلَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ لَا يَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لِأَنَّهَا
لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ على ( ( ( حقيقة ) ) ) الحقيقة إنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ
وَاسْتِغْفَارٌ لِلْمَيِّتِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ ليس فيها الْأَرْكَانُ التي تَتَرَكَّبُ منها الصَّلَاةُ من
الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَّا أنها تُسَمَّى صَلَاةً
لِمَا فيها من الدُّعَاءِ وَاشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ
فيها لَا يَدُلُّ على كَوْنِهَا صَلَاةً حَقِيقِيَّةً كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ
وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ
الِاسْمِ
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ
وَابْنِ عَوْفٍ وَتَأْوِيلُ حديث جَابِرٍ أَنَّهُ كان قَرَأَ على سَبِيلِ
الثَّنَاءِ لَا على سَبِيلِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَذَلِكَ ليس بِمَكْرُوهٍ
عِنْدَنَا وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا في التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى وَكَثِيرٌ
من أَئِمَّةِ بَلْخٍ اخْتَارُوا رَفْعَ الْيَدِ في كل تَكْبِيرَةٍ من صَلَاةِ
الْجِنَازَةِ وكان نُصَيْرُ بن يحيى يَرْفَعُ تَارَةً وَلَا يَرْفَعُ تَارَةً
وَجْهُ قَوْلِ من اخْتَارَ الرَّفْعَ أَنَّ هذه تَكْبِيرَاتٌ يُؤْتَى بها في
قِيَامٍ مُسْتَوِي فَيَرْفَعُ الْيَدَ عِنْدَهَا كَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ
وَتَكْبِيرِ الْقُنُوتِ وَالْجَامِعُ الْحَاجَةُ إلَى إعْلَامِ من خَلْفَهُ من
الْأَصَمِّ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تُرْفَعُ
الْأَيْدِي إلَّا في سَبْعِ مَوَاطِنَ وَلَيْسَ فيها صَلَاةُ الْجِنَازَةِ
وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهم أَنَّهُمَا قَالَا لَا تُرْفَعُ
الْأَيْدِي فيها إلَّا عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ لِأَنَّ كُلَّ
تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ ثُمَّ لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي في سَائِرِ
الصَّلَوَاتِ إلَّا عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ عِنْدَنَا فَكَذَا في
صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَلَا يَجْهَرُ بِمَا يَقْرَأُ عَقِيبَ كل تَكْبِيرَةٍ
لِأَنَّهُ ذكروا السنة ( ( ( والسنة ) ) ) فيه الْمُخَافَتَةُ وإذا صَلَّيْنَ
النِّسَاءُ جَمَاعَةً على جِنَازَةٍ قَامَتْ الْإِمَامَةُ وَسَطَهُنَّ كما في
الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ الْمَعْهُودَةِ وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ تَكْبِيرَةً
أو تَكْبِيرَتَيْنِ أو ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ ثُمَّ جاء رَجُلٌ لَا يُكَبِّرُ
وَلَكِنَّهُ يَنْتَظِرُ حتى يُكَبِّرَ الْإِمَامُ فَيُكَبِّرَ معه ثُمَّ إذَا
سَلَّمَ الْإِمَامُ قَضَى ما عليه قبل أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ وَهَذَا قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رحمهما الله تعالى وقال أبو يُوسُفَ رحمه الله تعالى
يُكَبِّرُ وَاحِدَةً حين يَحْضُرُ ثُمَّ إنْ كان الْإِمَامُ كَبَّرَ وَاحِدَةً لم
يَقْضِ شيئا وَإِنْ كان كَبَّرَ ثِنْتَيْنِ قَضَى وَاحِدَةً وَلَا يَقْضِي
تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ هو يقول أنه مَسْبُوقٌ فَلَا بُدَّ من أَنْ يَأْتِيَ
بِتَكْبِيرَةِ الِائْتِمَامِ حين انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ كما في سَائِرِ
الصَّلَوَاتِ وَكَمَا لو كان حَاضِرًا مع الْإِمَامِ وَوَقَعَ تَكْبِيرُ
الِافْتِتَاحِ سَابِقًا عليه أَنَّهُ يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ وَلَا يَنْتَظِرُ
أَنْ يُكَبِّرَ الْإِمَامُ الثَّانِيَةَ بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هذا
وَلَهُمَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قال في الذي
انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ وهو في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وقد سَبَقَهُ الْإِمَامُ
بِتَكْبِيرَةٍ أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِقَضَاءِ ما سَبَقَهُ الْإِمَامُ بَلْ
يُتَابِعُهُ وَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ عنه ولم يُرْوَ عن غَيْرِهِ خِلَافُهُ فَحَلَّ
مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ من هذه الصَّلَاةِ قَائِمَةٌ
مَقَامَ رَكْعَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو تَرَكَ تَكْبِيرَةً منها تَفْسُدُ
صَلَاتُهُ كما لو تَرَكَ رَكْعَةً من ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَالْمَسْبُوقُ
بِرَكْعَةٍ يُتَابِعُ الْإِمَامَ في الْحَالَةِ التي أَدْرَكَهَا وَلَا يَشْتَغِلُ
بِقَضَاءِ ما فَاتَهُ أَوَّلًا لِأَنَّ ذَاكَ أَمْرٌ مَنْسُوخٌ كَذَا هَهُنَا
وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا كان حَاضِرًا لِأَنَّ من كان خَلْفَ الْإِمَامِ فَهُوَ
في حُكْمِ الْمُدْرِكِ لِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ
أَلَا تَرَى أَنَّ في تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ يُكَبِّرُونَ بَعْدَ الْإِمَامِ
وَيَقَعُ ذلك أَدَاءً لَا قَضَاءً فَيَأْتِي بها حين حَضَرَتْهُ النِّيَّةُ
بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ فإنه غَيْرُ مُدْرِكٍ لِلتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى وَهِيَ
قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ فَلَا يَشْتَغِلُ بِقَضَائِهَا قبل سَلَامِ الْإِمَامِ
كَسَائِرِ التَّكْبِيرَاتِ ثُمَّ عِنْدَهُمَا يَقْضِي ما فَاتَهُ لِأَنَّ
الْمَسْبُوقَ يَقْضِي الْفَائِتَ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنْ قبل أَنْ تُرْفَعَ
الْجِنَازَةُ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ بِدُونِ الْجِنَازَةِ لَا تُتَصَوَّرُ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى إنْ كان الْإِمَامُ كَبَّرَ وَاحِدَةً لم
يَقْضِ شيئا وَإِنْ كَبَّرَ اثنتين قَضَى وَاحِدَةً لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ جاء
بَعْدَمَا كَبَّرَ الْإِمَامُ الرَّابِعَةَ قبل السَّلَامِ لم يَدْخُلْ معه وقد
فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رحمهما الله تعالى
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى يُكَبِّرُ وَاحِدَةً وإذا سَلَّمَ
الْإِمَامُ قَضَى ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ كما لو كان حَاضِرًا خَلْفَ الْإِمَامِ ولم
يُكَبِّرْ شيئا حتى كَبَّرَ الْإِمَامُ الرَّابِعَةَ
والصحيح ( ( ( الصحيح ) ) ) قَوْلُهُمَا لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى أَنْ يُكَبِّرَ
وَحْدَهُ لِمَا قُلْنَا والإمام ( ( ( الإمام ) ) ) لَا يُكَبِّرُ بَعْدَ هذا
لِتَتَابُعِهِ وَالْأَصْلُ في الْبَابِ عِنْدَهُمَا أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يَدْخُلُ
بِتَكْبِيرَةِ الْإِمَامِ فإذا فَرَغَ الْإِمَامُ من الرَّابِعَةِ تَعَذَّرَ عليه
الدُّخُولُ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى يَدْخُلُ إذَا بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ
وَذَكَرَ عِصَامُ بن يُوسُفَ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هَهُنَا يُكَبِّرُ أَيْضًا
بِخِلَافِ ما إذَا جاء وقد كَبَّرَ الْإِمَامُ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ حَيْثُ لَا
يُكَبِّرُ بَلْ يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ حتى يُكَبِّرَ الرَّابِعَةَ عِنْدَ
مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِقَضَاءِ ما سَبَقَ قبل فَرَاغِ
الْإِمَامِ إنْ كان لَا يَجُوزُ لَكِنْ جَوَّزْنَا هَهُنَا لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ
لِأَنَّهُ لو انْتَظَرَ الْإِمَامَ هَهُنَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ بِخِلَافِ تِلْكَ
الصُّورَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
____________________
(1/314)
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما تَصِحُّ بِهِ وما تَفْسُدُ وما يُكْرَهُ أَمَّا ما
تَصِحُّ بِهِ فَكُلُّ ما يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِصِحَّةِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ من
الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْحُكْمِيَّةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ
وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالنِّيَّةِ يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا
حتى أَنَّهُمْ لو صَلَّوْا على جِنَازَةٍ
وَالْإِمَامُ غَيْرُ طَاهِرٍ فَعَلَيْهِمْ إعَادَتُهَا لِأَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ
غَيْرُ جَائِزَةٍ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ
فَكَذَا صَلَاتُهُمْ لِأَنَّهَا بِنَاءً على صَلَاتِهِ
وَلَوْ كان الْإِمَامُ على الطَّهَارَةِ وَالْقَوْمُ على غَيْرِ طَهَارَةٍ جَازَتْ
صَلَاةُ الْإِمَامِ ولم يَكُنْ عليهم إعَادَتُهَا
لِأَنَّ حَقَّ الْمَيِّتِ تَأَدَّى بِصَلَاةِ الْإِمَامِ
وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ على أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ في هذه
الصَّلَاةِ
وَلَوْ أخطأوا ( ( ( أخطئوا ) ) ) بِالرَّأْسِ فَوَضَعُوهُ في مَوْضِعِ
الرِّجْلَيْنِ وَصَلَّوْا عليها جَازَتْ الصَّلَاةُ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ
الْجَوَازِ وَإِنَّمَا الْحَاصِلُ بِغَيْرِ صِفَةِ الْوَضْعِ
وَذَا لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ إلَّا أَنَّهُمْ إنْ تَعَمَّدُوا ذلك فَقَدْ أساؤوا
( ( ( أساءوا ) ) ) لِتَغْيِيرِهِمْ السُّنَّةَ المتواترة ( ( ( المتوارثة ) ) )
وَلَوْ تَحَرَّوْا على جِنَازَةٍ فأخطأوا ( ( ( فأخطئوا ) ) ) الْقِبْلَةَ جَازَتْ
صَلَاتُهُمْ
لِأَنَّ الْمَكْتُوبَةَ تَجُوزُ فَهَذِهِ أَوْلَى
وَإِنْ تَعَمَّدُوا خلافهم ( ( ( خلافها ) ) ) لم تَجُزْ كما في اعْتِبَارِ شَرْطِ
الْقِبْلَةِ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ كما في سَائِرِ
الصَّلَوَاتِ
وَلَوْ صلى رَاكِبًا أو قَاعِدًا من غَيْرِ عُذْرٍ لم تُجْزِهِمْ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ تُجْزِئَهُمْ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ منها الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ
وهو لايختلف
وَالْأَرْكَانُ فيها التَّكْبِيرَاتُ
وَيُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا في حَالَةِ الرُّكُوبِ كما يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا في
حَالَةِ الْقِيَامِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ إن الشَّرْعَ ما وَرَدَ بها إلَّا في حَالَةِ الْقِيَامِ
فيراعي فيها ما وَرَدَ بِهِ النَّصُّ
وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْخَلَلِ في شَرَائِطِهَا
فَكَذَا في الرُّكْنِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الرُّكْنَ أَهَمُّ من الشَّرْطِ
وَلِأَنَّ الْأَدَاءَ قُعُودًا أو رُكْبَانًا يُؤَدِّي إلَى الِاسْتِخْفَافِ
بِالْمَيِّتِ وَهَذِهِ الصَّلَاةُ شُرِعَتْ لِتَعْظِيمِ الْمَيِّتِ وَلِهَذَا
تَسْقُطُ في حَقِّ من تَجِبُ إهَانَتُهُ كَالْبَاغِي وَالْكَافِرِ وَقَاطِعِ
الطَّرِيقِ فَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ ما شُرِعَ لِلتَّعْظِيمِ على وَجْهٍ يُؤَدِّي
إلَى الِاسْتِخْفَافِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَعُودَ على مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْصِ
وَذَلِكَ بَاطِلٌ
وَلَوْ كان وَلِيُّ الْمَيِّتِ مَرِيضًا فَصَلَّى قَاعِدًا وَصَلَّى الناس
خَلْفَهُ قِيَامًا أَجْزَأَهُمْ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رحمه
الله تعالى
وقال مُحَمَّدٌ رحمه الله تعالى يجزىء الْإِمَامَ وَلَا يجزىء الْمَأْمُومَ
بِنَاءً على اقْتِدَاءِ الْقَائِمِ بِالْقَاعِدِ وقد مَرَّ ذلك
وَلَوْ ذَكَرُوا بَعْدَ الصَّلَاةِ على الْمَيِّتِ إنهم لم يُغَسِّلُوهُ فَهَذَا
على وَجْهَيْنِ أما إن ذَكَرُوا قبل الدَّفْنِ أو بَعْدَهُ فَإِنْ كان قبل
الدَّفْنِ غَسَّلُوهُ وَأَعَادُوا الصَّلَاةَ عليه لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَيِّتِ
شَرْطٌ لِجَوَازِ الصَّلَاةِ عليه كما أَنَّ طَهَارَةَ الْإِمَامِ شَرْطٌ
لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ فَتُعْتَبَرُ طَهَارَتُهُ فإذا فُقِدَتْ لم
يُعْتَدَّ بِالصَّلَاةِ فَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عليه وَإِنْ ذَكَرُوا بَعْدَ
الدَّفْنِ لم يَنْبُشُوا عنه لِأَنَّ النَّبْشَ حَرَامٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى
فَيَسْقُطُ الْغُسْلُ وَلَا تُعَادُ الصَّلَاةُ عليه لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَيِّتِ
شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ عليه لِمَا بَيَّنَّا
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى أَنَّهُ يُخْرَجُ ما لم يُهِيلُوا عليه
التُّرَابَ لِأَنَّ ذلك ليس بِنَبْشٍ فَإِنْ أَهَالُوا التُّرَابَ لم يُخْرَجْ
وَتُعَادُ الصَّلَاةُ عليه لِأَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ لم تُعْتَبَرْ لِتَرْكِهِمْ
الطَّهَارَةَ مع الْإِمْكَانِ وَالْآنَ فَاتَ الْإِمْكَانُ فَسَقَطَتْ الطَّهَارَةُ
فَيُصَلَّى عليه وَلَوْ دُفِنَ بَعْدَ الْغُسْلِ قبل الصَّلَاةِ عليه صلى عليه في
الْقَبْرِ ما لم يُعْلَمْ أَنَّهُ تَفَرَّقَ
وفي الْأَمَالِي عن أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ قال يصلي عليه إلَى
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ هَكَذَا ذَكَرَ ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ
أَمَّا قبل مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم صلى على قَبْرِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ
فلما جَازَتْ الصَّلَاةُ على الْقَبْرِ بَعْدَ ما صلى على الْمَيِّتِ مَرَّةً
فَلَأَنْ تَجُوزَ في مَوْضِعٍ لم يُصَلَّ عليه أَصْلًا أَوْلَى
وَأَمَّا بَعْدَ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يصلي لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَشْرُوعَةٌ
على الْبَدَنِ وَبَعْدَ مُضِيِّ الثَّلَاثِ يَنْشَقُّ وَيَتَفَرَّقُ فَلَا يَبْقَى
الْبَدَنُ
وَهَذَا لِأَنَّ في الْمُدَّةِ الْقَلِيلَةِ لَا يَتَفَرَّقُ
وفي الْكَثِيرَةِ يَتَفَرَّقُ فَجُعِلَتْ الثَّلَاثُ في حَدِّ الْكَثْرَةِ
لِأَنَّهَا جَمْعٌ
وَالْجَمْعُ ثَبَتَ بِالْكَثْرَةِ
وَلِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمُعْتَادِ
وَالْغَالِبُ في الْعَادَةِ أَنَّ بِمُضِيِّ الثَّلَاثِ يَتَفَسَّخُ وَيَتَفَرَّقُ
أَعْضَاؤُهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّ هذا ليس بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ
لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ في الْحَرِّ وَالْبَرْدِ
وَبِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَيِّتِ في السِّمَنِ وَالْهُزَالِ وَبِاخْتِلَافِ
الْأَمْكِنَةِ فَيُحَكَّمُ فيه غَالِبُ الرَّأْيِ وَأَكْبَرُ الظَّنِّ
فَإِنْ قِيلَ رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ صلى على شُهَدَاءِ
أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ دَعَا لهم
قال اللَّهُ تَعَالَى { وَصَلِّ عليهم إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لهم } وَالصَّلَاةُ
في الْآيَةِ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ
وَقِيلَ إنَّهُمْ لم تَتَفَرَّقْ أَعْضَاؤُهُمْ فإن مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَرَادَ
أَنْ يُحَوِّلَهُمْ وَجَدَهُمْ كما دُفِنُوا فَتَرَكَهُمْ
وتجوز الصَّلَاةُ على الْجَمَاعَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً
فإذا اجْتَمَعَتْ الْجَنَائِزُ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ صلى عليهم
دَفْعَةً وَاحِدَةً وَإِنْ شَاءَ صلى على كل جِنَازَةٍ على حِدَةٍ لِمَا رُوِيَ
أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى يوم أُحُدٍ على كل عَشَرَةٍ من
الشُّهَدَاءِ صَلَاةً وَاحِدَةً وَلِأَنَّ ما هو الْمَقْصُودُ وهو الدُّعَاءُ وَالشَّفَاعَةُ
لِلْمَوْتَى يَحْصُلُ بِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ
فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ على كل وَاحِدَةٍ على حِدَةٍ فَالْأَوْلَى أَنْ
يُقَدِّمَ الْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ فَإِنْ لم يَفْعَلْ فَلَا بَأْسَ بِهِ
ثُمَّ كَيْفَ تُوضَعُ الْجَنَائِزُ إذَا اجْتَمَعَتْ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا
____________________
(1/315)
إن
كانت من جِنْسٍ وَاحِدٍ أو اخْتَلَفَ الْجِنْسُ فَإِنْ كان الْجِنْسُ مُتَّحِدًا
فَإِنْ شاؤا جَعَلُوهَا صَفًّا وَاحِدًا كما يَصْطَفُّونَ في حَالِ حَيَاتِهِمْ
عِنْدَ الصَّلَاةِ
وَإِنْ شاؤا وَضَعُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ لِيَقُومَ
الْإِمَامُ بِحِذَاءِ الْكُلِّ
هذا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ
الثَّانِيَ أَوْلَى من الْأَوَّلِ لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ قِيَامُ الْإِمَامِ
بِحِذَاءِ الْمَيِّتِ هو يَحْصُلُ في الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ
وإذا وَضَعُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَفْضَلُهُمْ
مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ
كَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ يُوضَعُ أَفْضَلُهُمَا
مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَأَسَنُّهُمَا
وقال أبو يُوسُفَ رحمه الله تعالى وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ أَهْلُ
الْفَضْلِ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ
لقوله ( ( ( لقول ) ) ) صلى اللَّهُ عليه وسلم لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو
الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ إنْ وُضِعَ رَأْسُ كل وَاحِدٍ منهم بِحِذَاءِ
رَأْسِ صَاحِبِهِ فَحَسَنٌ
وَإِنْ وُضِعَ شِبْهَ الدَّرَجِ كما قال ابن أبي لَيْلَى وهو أَنْ يَكُونَ رَأْسُ
الثَّانِي عِنْدَ مَنْكِبِ الْأَوَّلِ فَحَسَنٌ كَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ
أَنَّهُ إنْ وُضِعَ هَكَذَا فَحَسَنٌ أَيْضًا لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَصَاحِبَيْهِ رضي الله عنهما دُفِنُوا على هذه الصِّفَةِ فَيَحْسُنُ الْوَضْعُ
لِلصَّلَاةِ على هذا التَّرْتِيبِ أَيْضًا
وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ بِأَنْ كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً تُوضَعُ
الرِّجَالُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَالنِّسَاءُ خَلْفَ الرِّجَالِ مِمَّا يَلِي
الْقِبْلَةَ لِأَنَّهُمْ هَكَذَا يَصْطَفُّونَ خَلْفَ الْإِمَامِ في حَالِ
الْحَيَاةِ ثُمَّ إنَّ الرِّجَالَ يَكُونُونَ أَقْرَبَ إلَى الْإِمَامِ من
النِّسَاءِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ من قال تُوضَعُ
النِّسَاءُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَالرِّجَالُ خَلْفَهُنَّ لِأَنَّ في
الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ في حَالِ الْحَيَاةِ صَفُّ النِّسَاءِ خَلْفَ صَفِّ
الرِّجَالِ إلَى الْقِبْلَةِ فَكَذَا في وَضْعِ الْجَنَائِزِ وَلَوْ اجْتَمَعَ جِنَازَةُ
رَجُلٍ وَصَبِيٍّ وَخُنْثَى وَامْرَأَةٍ وَصَبِيَّةٍ وُضِعَ الرَّجُلُ مِمَّا
يَلِي الْإِمَامَ وَالصَّبِيُّ وَرَاءَهُ ثُمَّ الْخُنْثَى ثُمَّ الْمَرْأَةُ
ثُمَّ الصَّبِيَّةُ وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أولو ( ( ( أولوا ) ) ) الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ
الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ وَلِأَنَّهُمْ هَكَذَا
يَقُومُونَ في الصَّفِّ خَلْفَ الْإِمَامِ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَيُوضَعُونَ
كَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ على جِنَازَةٍ ثُمَّ أتى
بِجِنَازَةٍ أُخْرَى فَوُضِعَتْ مَعَهَا مَضَى على الْأُولَى وَيَسْتَأْنِفُ
الصَّلَاةَ على الْأُخْرَى لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ انْعَقَدَتْ لِلصَّلَاةِ على
الْأُولَى فَيُتِمُّهَا فَإِنْ كَبَّرَ الثَّانِيَةَ يَنْوِيهِمَا فَهِيَ
لِلْأُولَى لِأَنَّهُ لم يَقْصِدْ الْخُرُوجَ عن الْأُولَى فَبَقِيَ فيها ولم
يَقَعْ لِلثَّانِيَةِ
وَإِنْ كَبَّرَ يَنْوِي الثَّانِيَةَ وَحْدَهَا فَهِيَ لِلثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ
خَرَجَ عن الْأُولَى بِالتَّكْبِيرَةِ مع النِّيَّةِ كما إذَا كان في الظُّهْرِ
فَكَبَّرَ يَنْوِي الْعَصْرَ صَارَ مُنْتَقِلًا من الظُّهْرِ فَكَذَا هذا
بِخِلَافِ ما إذَا نَوَاهُمَا جميعا لِأَنَّهُ ما رَفَضَ الْأُولَى فَبَقِيَ فيها
فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا في الثَّانِيَةِ ثُمَّ إذَا صَارَ شَارِعًا في
الثَّانِيَةِ فإذا فَرَغَ منها أَعَادَ الصَّلَاةَ على الْأُولَى أَيْ
يَسْتَقْبِلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما تَفْسُدُ بِهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَنَقُولُ إنَّهَا
تَفْسُدُ بِمَا تَفْسُدُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ وهو ما ذَكَرْنَا من الْحَدَثِ
الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ وَالْقَهْقَهَةِ وَغَيْرِهَا من نَوَاقِضِ الصَّلَاةِ
إلَّا الْمُحَاذَاةَ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُفْسِدَةٍ في هذه الصَّلَاةِ لِأَنَّ
فَسَادَ الصَّلَاةِ بِالْمُحَاذَاةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ في
الصَّلَاةِ الْمُطْلَقَةِ فَلَا يَلْحَقُ بها غَيْرُهَا وَلِهَذَا لم يَلْحَقْ بها
سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ حتى لم تَكُنْ الْمُحَاذَاةُ فيها مُفْسِدَةً وَكَذَا
الْقَهْقَهَةُ في هذه الصَّلَاةِ لَا تَنْقُضُ الطَّهَارَةَ لِأَنَّا عَرَفْنَا
الْقَهْقَهَةَ حَدَثًا بِالنَّصِّ الْوَارِدِ في صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ فَلَا
يُجْعَلُ وَارِدًا في غَيْرِهَا فَرْقٌ بين هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَبَيْنَ
الْبِنَاءِ فإنه لو سَبَقَهُ الْحَدَثُ في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ يَبْنِي
وَإِنْ عَرَفَ الْبِنَاءَ بِالنَّصِّ وَأَنَّهُ وَارِدٌ في صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقَهْقَهَةَ جُعِلَتْ حَدَثًا لِقُبْحِهَا في الصَّلَاةِ
وَقُبْحُهَا يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ
حُرْمَةَ الصَّلَاةِ الْمُطْلَقَةِ فَوْقَ حُرْمَةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فكنا ( (
( فكان ) ) ) قُبْحُهَا في تِلْكَ الصَّلَاةِ فَوْقَ قُبْحِهَا في هذه فَجَعْلُهَا
حَدَثًا هُنَاكَ لَا يَدُلُّ على جَعْلِهَا حَدَثًا هَهُنَا وَكَذَا الْمُحَاذَاةُ
جُعِلَتْ مُفْسِدَةً في تِلْكَ الصَّلَاةِ تَعْظِيمًا لها وَلَيْسَتْ هذه مِثْلَ
تِلْكَ في مَعْنَى التَّعْظِيمِ بِخِلَافِ الْبِنَاءِ
لِأَنَّ الْجَوَازَ وَتَحَمُّلَ الْمَشْيِ في أَعْلَى الْعِبَادَتَيْنِ يُوجِبُ
التَّحَمُّلَ
وَالْجَوَازَ في أَدْنَاهُمَا دَلَالَةً وَلِأَنَّا لو لم نُجَوِّزْ الْبِنَاءَ
هَهُنَا تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ أَصْلًا لِأَنَّ الناس يَفْرُغُونَ من الصَّلَاةِ
قبل رُجُوعِهِ من التوضأ وَلَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِدْرَاكُ بِالْإِعَادَةِ لِمَا مَرَّ
وَلَوْ لم نُجَوِّزْ الْبِنَاءَ هُنَاكَ لَفَاتَتْهُ الصَّلَاةُ أَصْلًا فلما
جَازَ الْبِنَاءُ هُنَاكَ فَلَأَنْ يَجُوزَ هَهُنَا أَوْلَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُكْرَهُ فيها فَنَقُولُ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ على
الْجِنَازَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا وَنِصْفِ النَّهَارِ
لِمَا رَوَيْنَا من حديث عُقْبَةَ بن عَامِرٍ أَنَّهُ قال ثَلَاثُ سَاعَاتٍ
نَهَانَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ نُصَلِّيَ فيها وَأَنْ نَقْبُرَ
فيها مَوْتَانَا وَالْمُرَادُ من قَوْلِهِ أَنْ نَقْبُرَ فيها مَوْتَانَا الصَّلَاةُ
على الْجِنَازَةِ دُونَ الدَّفْنِ إذْ لَا بَأْسَ بِالدَّفْنِ في هذه
____________________
(1/316)
الْأَوْقَاتِ
فَإِنْ صَلَّوْا في أَحَدِ هذه الْأَوْقَاتِ لم يَكُنْ عليهم إعَادَتُهَا
لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا يَتَعَيَّنُ لِأَدَائِهَا وَقْتٌ فَفِي أَيِّ
وَقْتٍ صُلِّيَتْ وَقَعَتْ أَدَاءً لَا قَضَاءً وَمَعْنَى الْكَرَاهَةِ في هذه
الْأَوْقَاتِ يَمْنَعُ جَوَازَ الْقَضَاءِ فيها دُونَ الْأَدَاءِ كما إذَا أَدَّى
عَصْرَ يَوْمِهِ عِنْدَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ على الْجِنَازَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَبَعْدَ
صَلَاةِ الْعَصْرِ قبل تَغَيُّرِ الشَّمْسِ
لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ في هذه الْأَوْقَاتِ لَيْسَتْ لِمَعْنًى في الْوَقْتِ فَلَا
يَظْهَرُ في حَقِّ الْفَرَائِضِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ
أَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا على جِنَازَةٍ وقد غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَالْأَفْضَلُ
أَنْ يبدؤا ( ( ( يبدءوا ) ) ) بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ ثُمَّ يُصَلُّونَ على
الْجِنَازَةِ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ آكَدُ من صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَكَانَ
تَقْدِيمُهُ أَوْلَى وَلِأَنَّ في تَقْدِيمِ الْجِنَازَةِ تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ
وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من له وِلَايَةُ الصَّلَاةِ على الْمَيِّتِ فذكر في
الْأَصْلِ أَنَّ إمَامَ الْحَيِّ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ على الْمَيِّتِ وَرَوَى
الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رحمهما الله تعالى أَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ
أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ إنْ حَضَرَ فَإِنْ لم يَحْضُرْ فَأَمِيرُ الْمِصْرِ وَإِنْ
لم يَحْضُرْ فَإِمَامُ الْحَيِّ فَإِنْ لم يَحْضُرْ فَالْأَقْرَبُ من ذَوِي
قَرَابَاتِهِ وَهَذَا هو حَاصِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا وَالتَّوْفِيقُ بين
الرِّوَايَتَيْنِ مُمْكِنٌ لِأَنَّ السُّلْطَانَ إذَا حَضَرَ فَهُوَ أَوْلَى
لِأَنَّهُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ فَإِنْ لم يَحْضُرْ فَالْقَاضِي لِأَنَّهُ
نَائِبُهُ فَإِنْ لم يَحْضُرْ فَإِمَامُ الْحَيِّ لِأَنَّهُ رضي بِإِمَامَتِهِ في
حَالِ حَيَاتِهِ فَيَدُلُّ على الرِّضَا بِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ وَلِهَذَا لو
عَيَّنَ الْمَيِّتُ أَحَدًا في حَالِ حَيَاتِهِ فَهُوَ أَوْلَى من الْقَرِيبِ
لِرِضَاهُ بِهِ إلَّا أَنَّهُ بَدَأَ في كِتَابِ الصَّلَاةِ بِإِمَامِ الْحَيِّ
لِأَنَّ السُّلْطَانَ قَلَّمَا يَحْضُرُ الْجَنَائِزَ ثُمَّ الْأَقْرَبِ
فَالْأَقْرَبِ من عَصَبَتِهِ وَذَوِي قَرَابَاتِهِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقِيَامِ
بِمَصَالِحِ الْمَيِّتِ له وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
رحمهما الله تعالى فَأَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفَ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
الْقَرِيبُ أَوْلَى من السُّلْطَانِ لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ هذا
أَمْرٌ مَبْنِيٌّ على الْوَلَايَةِ
وَالْقَرِيبُ في مِثْلِ هذا مُقَدَّمٌ على السُّلْطَانِ كما في النِّكَاحِ
وَغَيْرِهِ من التَّصَرُّفَاتِ وَلِأَنَّ هذه الصَّلَاةَ شُرِعَتْ لِلدُّعَاءِ
وَالشَّفَاعَةِ لِلْمَيِّتِ وَدُعَاءُ الْقَرِيبِ أَرْجَى لِأَنَّهُ يُبَالِغُ في
إخْلَاصِ الدُّعَاءِ وَإِحْضَارِ الْقَلْبِ بِسَبَبِ زِيَادَةِ شَفَقَتِهِ
وَتُوجَدُ منه زِيَادَةُ رِقَّةٍ وَتَضَرُّعٍ فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ما رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ بن عَلِيٍّ رضي الله
عنهما لَمَّا مَاتَ قَدَّمَ الْحُسَيْنُ بن عَلِيٍّ سَعِيدَ بن الْعَاصِ
لِيُصَلِّيَ عليه وكان وَالِيًا بِالْمَدِينَةِ
وقال لَوْلَا السُّنَّةُ ما قَدَّمْتُكَ وفي رِوَايَةٍ قال لَوْلَا أَنَّ النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن التَّقَدُّمِ لَمَا قَدَّمْتُكَ وَلِأَنَّ هذا من
الْأُمُورِ الْعَامَّةِ فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالسُّلْطَانِ كَإِقَامَةِ
الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فإنه من الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ
وَضَرَرُهُ وَنَفْعُهُ يَتَّصِلُ بِالْوَلِيِّ لَا بِالسُّلْطَانِ فَكَانَ
إثْبَاتُ الْوَلَايَةِ لِلْقَرِيبِ أَنْفَعَ لِلْمُوَلَّى عليه وَتِلْكَ وِلَايَةُ
نَظَرٍ ثَبَتَتْ حَقًّا لِلْمُوَلَّى عليه قيل ( ( ( قبل ) ) ) الْوَلِيِّ
بِخِلَافِ ما نَحْنُ فيه
أَمَّا قَوْلُهُ إنَّ دُعَاءَ الْقَرِيبِ وَشَفَاعَتَهُ أَرْجَى فَنَقُولُ
بِتَقَدُّمِ الْغَيْرِ لَا يَفُوتُ دُعَاءُ الْقَرِيبِ وَشَفَاعَتُهُ مع أَنَّ
دُعَاءَ الْإِمَامِ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ على ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ثَلَاثٌ لَا يُحْجَبُ دُعَاؤُهُمْ وَذَكَرَ فِيهِمْ
الْإِمَامَ ثُمَّ تَقَدُّمُ إمَامِ الْحَيِّ ليس بِوَاجِبٍ وَلَكِنَّهُ أَفْضَلُ
لِمَا ذكرنا أَنَّهُ رَضِيَهُ في حَالِ حَيَاتِهِ
وَأَمَّا تَقْدِيمُ السُّلْطَانِ فَوَاجِبٌ لِأَنَّ تَعْظِيمَهُ مَأْمُورٌ بِهِ
وَلِأَنَّ تَرْكَ تَقْدِيمِهِ لَا يَخْلُو عن فَسَادِ التَّجَاذُبِ وَالتَّنَازُعِ
على ما ذَكَرْنَا في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَلَوْ كان لِلْمَيِّتِ
وَلِيَّانِ في دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَكْبَرُهُمَا سِنًّا أَوْلَى لِأَنَّ النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمَرَ بِتَقْدِيمِ الْأَسَنِّ في الصَّلَاةِ
وَلَهُمَا أَنْ يُقَدِّمَا غَيْرَهُمَا وَلَوْ قَدَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
رَجُلًا على حِدَةٍ فَاَلَّذِي قَدَّمَهُ الْأَكْبَرُ أَوْلَى وَلَيْسَ
لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُقَدِّمَ إنْسَانًا إلَّا بِإِذْنِ الْآخَرِ لِأَنَّ
الْوَلَايَةَ ثَابِتَةٌ لَهُمَا إلَّا أَنَّا قَدَّمْنَا الْأَسَنَّ لِسِنِّهِ
فإذا أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ غَيْرَهُ كان الْآخَرُ أَوْلَى فَإِنْ تَشَاجَرَ
الْوَلِيَّانِ فَتَقَدَّمَ أَجْنَبِيٌّ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا فَصَلَّى يُنْظَرُ إنْ
صلى الْأَوْلِيَاءُ معه جَازَتْ الصَّلَاةُ وَلَا تُعَادُ وَإِنْ لم يُصَلُّوا معه
فَلَهُمْ إعَادَةُ الصَّلَاةِ
وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ من الْآخَرِ فَالْوِلَايَةُ إلَيْهِ وَلَهُ أَنْ
يُقَدِّمَ من شَاءَ
لِأَنَّ الْأَبْعَدَ مَحْجُوبٌ بِهِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ
كان الْأَقْرَبُ غَائِبًا بِمَكَانٍ تَفُوتُ الصَّلَاةُ بِحُضُورِهِ بَطَلَتْ
وَلَايَتُهُ وَتَحَوَّلَتْ الْوَلَايَةُ إلَى الْأَبْعَدِ
وَلَوْ قَدَّمَ الْغَائِبُ غَيْرَهُ بِكِتَابٍ كان لِلْأَبْعَدِ أَنْ يَمْنَعَهُ
وَلَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ أو يُقَدِّمَ من شَاءَ
لِأَنَّ وَلَايَةَ الْأَقْرَبِ قد سَقَطَتْ لِمَا أَنَّ في التَّوْقِيفِ على
حُضُورِهِ ضررا ( ( ( ضرر ) ) ) بِالْمَيِّتِ وَالْوِلَايَةُ تَسْقُطُ مع ضَرَرِ
الْمُوَلَّى عليه فَتُنْقَلُ إلَى الْأَبْعَدِ وَالْمَرِيضُ في الْمِصْرِ
بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ يُقَدِّمُ من شَاءَ وَلَيْسَ لِلْأَبْعَدِ مَنْعُهُ
وَلِأَنَّ وِلَايَتَهُ قَائِمَةٌ
أَلَا تَرَى أَنَّ له أَنْ يَتَقَدَّمَ مع مَرَضِهِ فَكَانَ له حَقُّ التَّقْدِيمِ
وَلَا حَقَّ لِلنِّسَاءِ وَالصِّغَارِ وَالْمَجَانِينِ في التَّقْدِيمِ
لِانْعِدَامِ وَلَايَةِ التَّقَدُّمِ
وَلَوْ مَاتَتْ امْرَأَةٌ وَلَهَا زَوْجٌ وَابْنٌ بَالِغٌ عَاقِلٌ فَالْوِلَايَةُ
لِلِابْنِ دُونَ الزَّوْجِ لِمَا رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ
مَاتَتْ له امْرَأَةٌ
____________________
(1/317)
فقال
لِأَوْلِيَائِهَا كنا أَحَقَّ بها حين كانت حَيَّةً فَأَمَّا إذَا مَاتَتْ
فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بها وَلِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ
وَالْقَرَابَةَ لَا تَنْقَطِعُ لَكِنْ يُكْرَهُ لِلِابْنِ أَنْ يَتَقَدَّمَ
أَبَاهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَهُ مُرَاعَاةً لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ
قال أبو يُوسُفَ رحمه الله تعالى وَلَهُ في حُكْمِ الْوَلَايَةِ أَنْ يُقَدِّمَ
غَيْرَهُ لِأَنَّ الْوَلَايَةَ له وَإِنَّمَا مُنِعَ من التَّقَدُّمِ حتى لَا
يستخق ( ( ( يستخف ) ) ) بِأَبِيهِ فلم تَسْقُطْ وَلَايَتُهُ في التَّقْدِيمِ
وَإِنْ كان لها ابْنٌ من زَوْجٍ آخَرَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَقَدَّمَ على هذا
الزَّوْجِ لِأَنَّهُ هو أولى ( ( ( الولي ) ) ) وَتَعْظِيمُ زَوْجِ أُمِّهِ غَيْرُ
وَاجِبٍ عليه وَسَائِرُ الْقَرَابَاتِ أَوْلَى من الزَّوْجِ وَكَذَا مولى
الْعَتَاقَةِ وابن الْمَوْلَى وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ
السَّبَبَ قد انْقَطَعَ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَإِنْ تَرَكَتْ أَبًا وَزَوْجًا
وَابْنًا من هذا الزَّوْجِ فَلَا وَلَايَةَ لِلزَّوْجِ لِمَا بَيَّنَّا
وَأَمَّا الْأَبُ وَالِابْنُ فَقَدْ ذَكَرَ في كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْأَبَ
أَحَقُّ من غَيْرِهِ وَقِيلَ هو قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى
وَأَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى فَالِابْنُ أَحَقُّ إلَّا أَنَّهُ
يُقَدِّمُ الْأَبَ تَعْظِيمًا له وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى الْوَلَايَةُ
لِلْأَبِ وَقِيلَ هو قَوْلُهُمْ جميعا في صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِأَنَّ لِلْأَبِ
فَضِيلَةً على الِابْنِ وَزِيَادَةَ سِنٍّ وَالْفَضِيلَةُ تُعْتَبَرُ تَرْجِيحًا
في اسْتِحْقَاقِ الْإِمَامَةِ كما في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ بِخِلَافِ سَائِرِ
الْوَلَايَاتِ وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ أَحَقُّ من الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهُ
الْتَحَقَ بِالْقَرِيبِ بِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ وَلَوْ مَاتَ الِابْنُ وَلَهُ أَبٌ
وَأَبُ الْأَبِ فَالْوَلَايَةُ لِأَبِيهِ وَلَكِنَّهُ يُقَدِّمُ أَبَاهُ الذي هو
جَدُّ الْمَيِّتِ تَعْظِيمًا له
وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ إذَا مَاتَ ابْنُهُ أو عَبْدُهُ وَمَوْلَاهُ حاضر ( ( (
حاضرا ) ) ) فَالْوَلَايَةُ لِلْمُكَاتَبِ لَكِنَّهُ يُقَدِّمُ مَوْلَاهُ
احْتِرَامًا له ثُمَّ إذَا صلى على الْمَيِّتِ يُدْفَنُ
فَصْلٌ وَالْكَلَامُ في الدَّفْنِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ وُجُوبِهِ
وَكَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ سُنَّةِ الْحَفْرِ وَالدَّفْنِ وما يَتَّصِلُ
بِهِمَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ على وُجُوبِهِ تَوَارُثُ الناس من لَدُنْ
آدَمَ صلى ( ( ( صلوات ) ) ) اللَّهِ عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا مع النَّكِيرِ
على تَارِكِهِ وَذَا دَلِيلُ الْوُجُوبِ إلَّا أَنَّ وُجُوبَهُ على سَبِيلِ
الْكِفَايَةِ حتى إذَا قام بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عن الْبَاقِينَ لِحُصُولِ
الْمَقْصُودِ
فَصْلٌ وَأَمَّا سُنَّةُ الْحَفْرِ فَالسُّنَّةُ فيه اللَّحْدُ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الشَّقُّ وَاحْتَجَّ أَنَّ تَوَارُثَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
الشَّقُّ دُونَ اللَّحْدِ وَتَوَارُثُهُمْ حُجَّةٌ
وَلَنَا قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم اللَّحْدُ لنا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا
وفي رِوَايَةٍ اللَّحْدُ لنا وَالشَّقُّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ
وَرُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا تُوُفِّيَ اخْتَلَفَ الناس
أَنْ يُشَقَّ له أو يُلْحَدَ وكان أبو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ لَحَّادًا وأبو
عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ شَاقًّا فَبَعَثُوا رَجُلًا إلَى أبي عُبَيْدَةَ
وَرَجُلًا إلَى أبي طَلْحَةَ فقال الْعَبَّاسُ بن عبد الْمُطَّلِبِ اللَّهُمَّ
خِرْ لِنَبِيِّكَ أَحَبَّ الْأَمْرَيْنِ إلَيْك فَوَجَدَ أَبَا طَلْحَةَ من كان
بُعِثَ إلَيْهِ ولم يَجِدْ أَبَا عُبَيْدَةَ من بُعِثَ إلَيْهِ وَالْعَبَّاسُ رضي
اللَّهُ عنه كان مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ إنَّمَا
تَوَارَثُوا الشَّقَّ لِضَعْفِ أَرَاضِيهِمْ بِالْبَقِيعِ وَلِهَذَا اخْتَارَ
أَهْلُ بُخَارَى الشَّقَّ دُونَ اللَّحْدِ لِتَعَذُّرِ اللَّحْدِ لِرَخَاوَةِ
أَرَاضِيهِمْ
وَصِفَةُ اللَّحْدِ أَنْ يُحْفَرَ الْقَبْرُ ثُمَّ يُحْفَرُ في جَانِبِ
الْقِبْلَةِ منه حَفِيرَةٌ فَيُوضَعُ فيه الْمَيِّتُ
وَصِفَةُ الشَّقِّ أَنْ يُحْفَرَ حَفِيرَةٌ في وَسَطِ الْقَبْرِ فَيُوضَعُ فيه
الْمَيِّتُ وَيُجْعَلُ على اللَّحْدِ اللَّبِنُ وَالْقَصَبُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ
وُضِعَ على قَبْرِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم طُنٌّ من قَصَبٍ
وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم رَأَى فُرْجَةً في قَبْرٍ فَأَخَذَ مدرة (
( ( مدورة ) ) ) وَنَاوَلَهَا الْحَفَّارَ وقال سُدَّ بها تِلْكَ الْفُرْجَةَ فإن
اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ من كل صَانِعٍ أَنْ يُحْكِمَ صَنْعَتَهُ وَالْمَدَرَةُ
قِطْعَةٌ من اللَّبِنِ
وَرُوِيَ عن سَعِيدِ بن الْعَاصِ أَنَّهُ قال اجْعَلُوا على قَبْرِي اللَّبِنَ
وَالْقَصَبَ كما جُعِلَ على قَبْرِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَقَبْرِ
أبي بَكْرٍ وَقَبْرِ عُمَرَ وَلِأَنَّ اللَّبِنَ وَالْقَصَبَ لَا بُدَّ مِنْهُمَا
لِيَمْنَعَا ما يُهَالُ من التُّرَابِ على الْقَبْرِ من الْوُصُولِ إلَى
الْمَيِّتِ وَيُكْرَهُ الْآجُرُّ وَدُفُوفُ الْخَشَبِ لِمَا رُوِيَ عن إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيّ أَنَّهُ قال كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ اللَّبِنَ وَالْقَصَبَ على
الْقُبُورِ وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الْآجُرَّ
وَرُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى أَنْ تُشَبَّهَ الْقُبُورُ
بِالْعُمْرَانِ وَالْآجُرُّ وَالْخَشَبُ لِلْعُمْرَانِ وَلِأَنَّ الْآجُرَّ مِمَّا
يُسْتَعْمَلُ لِلزِّينَةِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا لِلْمَيِّتِ وَلِأَنَّهُ مِمَّا
مَسَّتْهُ النَّارُ فَيُكْرَهُ أَنْ يُجْعَلَ على الْمَيِّتِ تَفَاؤُلًا كما
يُكْرَهُ أَنْ يُتْبَعَ قَبْرُهُ بِنَارٍ تَفَاؤُلًا وكان الشَّيْخُ الإمام أبو
بَكْرٍ محمد بن الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ يقول لَا بَأْسَ بِالْآجُرِّ في
دِيَارِنَا لِرَخَاوَةِ الْأَرَاضِي وكان أَيْضًا يُجَوِّزُ دُفُوفَ الْخَشَبِ
وَاِتِّخَاذَ التَّابُوتِ لِلْمَيِّتِ حتى قال لو اتَّخَذُوا تَابُوتًا من حَدِيدٍ
لم أَرَ بِهِ بَأْسًا في هذه الدِّيَارِ
فَصْلٌ وَأَمَّا سُنَّةُ الدَّفْنِ فَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنْ يُدْخَلَ
الْمَيِّتُ من قِبَلِ الْقِبْلَةِ وهو أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ في جَانِبِ
الْقِبْلَةِ من الْقَبْرِ وَيُحْمَلُ منه الْمَيِّتُ فَيُوضَعُ في اللَّحْدِ
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى السُّنَّةُ أَنْ يُسَلَّ إلَى قَبْرِهِ
وَصُورَةُ السَّلِّ أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ على يَمِينِ الْقِبْلَةِ وَتُجْعَلَ
رِجْلَا الْمَيِّتِ إلَى الْقَبْرِ طُولًا ثُمَّ تُؤْخَذُ رِجْلُهُ وَتُدْخَلُ
رِجْلَاهُ في الْقَبْرِ وَيُذْهَبُ
____________________
(1/318)
بِهِ
إلَى أَنْ تَصِيرَ رِجْلَاهُ إلَى مَوْضِعِهِمَا وَيُدْخَلُ رَأْسُهُ الْقَبْرَ
احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم أُدْخِلَ في الْقَبْرِ سَلًّا
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى في كِتَابِهِ وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ
يُسْتَغْنَى فيه عن رِوَايَةِ الحديث فإنه نَقَلَتْهُ الْعَامَّةُ عن الْعَامَّةِ
بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَخَذَ أَبَا
دُجَانَةَ من قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم أُدْخِلَ في الْقَبْرِ من قِبَلِ الْقِبْلَةِ فَصَارَ هذا
مُعَارِضًا لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ على أَنَّا نَقُولُ أنه صلى اللَّهُ عليه
وسلم إنَّمَا أُدْخِلَ إلَى الْقَبْرِ سَلًّا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ لِأَنَّ النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم مَاتَ في حُجْرَةِ عَائِشَةَ من قِبَلِ الْحَائِطِ
وَكَانَتْ السُّنَّةُ في دَفْنِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السَّلَامُ في الْمَوْضِعِ
الذي قُبِضُوا فيه فَكَانَ قَبْرُهُ لَزِيقَ الْحَائِطِ وَاللَّحْدُ تَحْتَ
الْحَائِطِ فَتَعَذَّرَ إدْخَالُهُ من قِبَلِ الْقِبْلَةِ فَسُلَّ إلَى قَبْرِهِ
سَلًّا لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهم أَنَّهُمَا قَالَا
يُدْخَلُ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ من قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَلِأَنَّ جَانِبَ
الْقِبْلَةِ مُعَظَّمٌ فَكَانَ إدْخَالُهُ من هذا الْجَانِبِ أَوْلَى وَقَوْلُ
الشَّافِعِيِّ هذا أَمْرٌ مَشْهُورٌ
قُلْنَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ عن حَمَّادٍ رحمهما الله تعالى عن إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيّ أَنَّهُ قال حدثني من رَأَى أَهْلَ الْمَدِينَةِ في الزَّمَنِ
الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُدْخِلُونَ الْمَيِّتَ من قِبَلِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ
أَحْدَثُوا السَّلَّ لِضَعْفِ أَرَاضِيهِمْ بِالْبَقِيعِ فَإِنَّهَا كانت أَرْضًا
سَبْخَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَا يَضُرُّ وِتْرٌ دخل قَبْرَهُ أَمْ شَفْعٌ
عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى السُّنَّةُ هِيَ الْوِتْرُ اعْتِبَارًا
بِعَدَدِ الْكَفَنِ وَالْغُسْلِ والأجمار
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا دُفِنَ أَدْخَلَهُ
الْعَبَّاسُ وَالْفَضْلُ بن الْعَبَّاسِ وَعَلِيٌّ وَصُهَيْبٌ رضي الله عنهم
وَقِيلَ في الرَّابِعِ إنَّهُ الْمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ وَقِيلَ إنَّهُ أبو
رَافِعٍ فَدَلَّ أَنَّ الشَّفْعَ سُنَّةٌ وَلِأَنَّ الدُّخُولَ في الْقَبْرِ
لِلْحَاجَةِ إلَى الْوَضْعِ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَالْوِتْرُ
وَالشَّفْعُ فيه سَوَاءٌ وَلِأَنَّهُ مِثْلُ حَمْلِ الْمَيِّتِ وَيَحْمِلُهُ على
الْجِنَازَةِ أَرْبَعَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ اثْنَانِ وَإِنْ كان شَفْعًا
فَكَذَا هَهُنَا
ما ( ( ( وما ) ) ) ذُكِرَ من الِاعْتِبَارِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِانْتِقَاضِهِ
بِحَمْلِ الْجِنَازَةِ وَمُخَالَفَتِهِ فِعْلَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مع
أَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِهِمْ تَرْكُ السُّنَّةِ خُصُوصًا في دَفْنِ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْكَافِرُ قَبْرَ أَحَدٍ من
قَرَابَتِهِ من الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الذي فيه الْكَافِرُ تَنْزِلُ
فيه السَّخْطَةُ وَاللَّعْنَةُ فَيُنَزَّهُ قَبْرُ الْمُسْلِمِ عن ذلك وَإِنَّمَا
يَدْخُلُ قَبْرَهُ الْمُسْلِمُونَ لِيَضَعُوهُ على سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ
وَيَقُولُوا عِنْدَ وَضْعِهِ بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رسول اللَّهِ وإذا
وُضِعَ في اللَّحْدِ قال وَاضِعُهُ بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رسول اللَّهِ
وَذَكَرَ الْحَسَنُ في الْمُجَرَّدِ عن أبي حَنِيفَةَ رحمهما الله تعالى أَنَّهُ
يقول بِاسْمِ اللَّهِ وفي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رسول اللَّهِ لِمَا
رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ أَنَّهُ قال كان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم إذَا أَدْخَلَ مَيِّتًا قَبْرَهُ وَضَعَهُ في اللَّحْدِ قال بِاسْمِ اللَّهِ
وَبِاَللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رسول اللَّهِ
وَهَكَذَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ أَنَّهُ كان إذَا دَفَنَ مَيِّتًا أو نَامَ قال
بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رسول اللَّهِ وكان يقول النَّوْمُ
وَفَاةٌ
قال الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ مَعْنَى هذا بِاسْمِ اللَّهِ
دَفَنَّاهُ وَعَلَى مِلَّةِ رسول اللَّهِ دَفَنَّاهُ وَلَيْسَ هذا بِدُعَاءٍ
لِلْمَيِّتِ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ على مِلَّةِ رسول اللَّهِ لم يَجُزْ أَنْ تُبَدَّلَ
عليه الْحَالَةُ وَإِنْ مَاتَ على غَيْرِ ذلك لم يُبَدَّلْ إلَى مِلَّةِ رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنِينَ شُهَدَاءُ اللَّهِ في
الْأَرْضِ فَيَشْهَدُونَ بِوَفَاتِهِ على الْمِلَّةِ وَعَلَى هذا جَرَتْ
السُّنَّةُ وَيُوضَعُ على شِقِّهِ الْأَيْمَنِ مُتَوَجِّهًا إلَى الْقِبْلَةِ
لِمَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال شَهِدَ رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم جِنَازَةَ رَجُلٍ فقال يا عَلِيُّ اسْتَقْبِلْ بِهِ
اسْتِقْبَالًا وَقُولُوا جميعا بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رسول اللَّهِ
وَضَعُوهُ لِجَنْبِهِ وَلَا تَكُبُّوهُ لِوَجْهِهِ وَلَا تُلْقُوهُ لِظَهْرِهِ
وَتُحَلُّ عُقَدُ أَكْفَانِهِ إذَا وُضِعَ في الْقَبْرِ لِأَنَّهَا عُقِدَتْ
لِئَلَّا تَنْتَشِرَ أَكْفَانُهُ وقد زَالَ هذا الْمَعْنَى بِالْوَضْعِ
وَلَوْ وُضِعَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَإِنْ كان قبل إهَالَةِ التُّرَابِ عليه وقد
سَرَّحُوا اللَّبِنَ أَزَالُوا ذلك لِأَنَّهُ ليس بِنَبْشٍ وَإِنْ أُهِيلَ عليه
التُّرَابُ تُرِكَ ذلك لِأَنَّ النَّبْشَ حَرَامٌ وَلَا يُدْفَنُ الرَّجُلَانِ أو
أَكْثَرُ في قَبْرٍ وَاحِدٍ
هَكَذَا جَرَتْ السُّنَّةُ من لَدُنْ آدَمَ إلَى يَوْمِنَا هذا فَإِنْ احْتَاجُوا
إلَى ذلك قَدَّمُوا أَفْضَلَهُمَا وَجَعَلُوا بَيْنَهُمَا حَاجِزًا من الصَّعِيدِ
لِمَا روى عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ بِدَفْنِ قَتْلَى أُحُدٍ
وكان يُدْفَنُ في الْقَبْرِ رَجُلَانِ أو ثَلَاثَةٌ وقال قَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ
قُرْآنًا وَإِنْ كان رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ قُدِّمَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي
الْقِبْلَةَ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْحَيَاةِ
وَلَوْ اجْتَمَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وصبي وَخُنْثَى وَصَبِيَّةٌ دُفِنَ الرَّجُلُ
مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ ثُمَّ الصَّبِيُّ خَلْفَهُ ثُمَّ الْخُنْثَى ثُمَّ
الْأُنْثَى ثُمَّ الصَّبِيَّةُ لِأَنَّهُمْ هَكَذَا يَصْطَفُّونَ خَلْفَ
الْإِمَامِ حَالَةَ الْحَيَاةِ وَهَكَذَا تُوضَعُ جَنَائِزُهُمْ عِنْدَ الصَّلَاةِ
عليها فَكَذَا في الْقَبْرِ وَيُسَجَّى قَبْرُ الْمَرْأَةِ بِثَوْبٍ لِمَا رُوِيَ
أَنَّ فَاطِمَةَ رضي اللَّهُ عنها سُجِّيَ
____________________
(1/319)
قَبْرُهَا
بِثَوْبٍ وَنَعْشٍ على جِنَازَتِهَا
لِأَنَّ مَبْنَى حَالِهَا على السَّتْرِ فَلَوْ لم يُسَجَّ رُبَّمَا انْكَشَفَتْ
عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ فَيَقَعُ بَصَرُ الرِّجَالِ عليها وَلِهَذَا يُوضَعُ
النَّعْشُ على جِنَازَتِهَا دُونَ جِنَازَةِ الرَّجُلِ وَذُو الرَّحِمِ
الْمَحْرَمِ أَوْلَى بِإِدْخَالِ الْمَرْأَةِ الْقَبْرَ من غَيْرِهِ لِأَنَّهُ
يَجُوزُ له مَسُّهَا حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَكَذَا ذُو
الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ منها أَوْلَى من الْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ لم يَكُنْ فِيهِمْ
ذُو رَحِمٍ فَلَا بَأْسَ لِلْأَجَانِبِ وَضْعُهَا في قَبْرِهَا وَلَا يُحْتَاجُ
إلَى إتْيَانِ النِّسَاءِ لِلْوَضْعِ
وَأَمَّا قَبْرُ الرَّجُلِ فَلَا يُسَجَّى عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى يُسَجَّى احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وقبر ( ( ( أقبر ) ) ) سَعْدَ بن مُعَاذٍ وَمَعَهُ
أُسَامَةُ بن زَيْدٍ فَسَجَّى قَبْرَهُ وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ أَنَّهُ
مَرَّ بِمَيِّتٍ يُدْفَنُ وقد سُجِّيَ قَبْرُهُ فَنَزَعَ ذلك عنه وقال إنَّهُ
رَجُلٌ وفي رِوَايَةٍ قال لَا تُشَبِّهُوهُ بِالنِّسَاءِ
وَأَمَّا حَدِيثُ سَعْدِ بن مُعَاذٍ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إنَّمَا سُجِّيَ لِأَنَّ
الْكَفَنَ كان لَا يَعُمُّهُ فَسُتِرَ الْقَبْرُ حتى لَا يَبْدُوَ منه شَيْءٌ
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان لِضَرُورَةٍ أُخْرَى من دَفْعِ مَطَرٍ أو حَرٍّ عن
الدَّاخِلِينَ في الْقَبْرِ
وَعِنْدَنَا لَا بَأْسَ بِذَلِكَ في حَالَةِ الضَّرُورَةِ
وَيُسَنَّمُ الْقَبْرُ وَلَا يُرَبَّعُ
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى يُرَبَّعُ وَيُسَطَّحُ لِمَا رَوَى
الْمُزَنِيّ بِإِسْنَادِهِ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ لَمَّا
تُوُفِّيَ ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ جَعَلَ قَبْرَهُ مُسَطَّحًا
وَلَنَا ما رُوِيَ عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قال أخبرني من رَأَى قَبْرَ
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَقَبْرَ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ أنها
مُسَنَّمَةٌ
وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ لَمَّا مَاتَ بِالطَّائِفِ صلى عليه
محمد بن الْحَنَفِيَّةِ وَكَبَّرَ عليه أَرْبَعًا وَجَعَلَ له لَحْدًا
وَأَدْخَلَهُ الْقَبْرَ من قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَجَعَلَ قَبْرَهُ مُسَنَّمًا
وَضَرَبَ عليه فُسْطَاطًا وَلِأَنَّ التَّرْبِيعَ من صَنِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَالتَّشْبِيهُ بِهِمْ فِيمَا منه بُدٌّ مَكْرُوهٌ وما رُوِيَ من الحديث مَحْمُولٌ
على أَنَّهُ سَطَّحَ قَبْرَهُ أَوَّلًا ثُمَّ جَعَلَ التَّسْنِيمَ في وَسَطِهِ
حَمَلْنَاهُ على هذا بِدَلِيلِ ما رَوَيْنَا وَمِقْدَارُ التَّسْنِيمِ أَنْ
يَكُونَ مُرْتَفِعًا من الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ أو أَكْثَرَ قَلِيلًا
وَيُكْرَهُ تَجْصِيصُ الْقَبْرِ وَتَطْيِينُهُ وَكَرِهَ أبو حَنِيفَةَ الْبِنَاءَ
على الْقَبْرِ وإن يُعَلَّمَ بِعَلَامَةٍ وَكَرِهَ أبو يُوسُفَ الْكِتَابَةَ عليه
ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ لِمَا رُوِيَ عن جَابِرِ بن عبد اللَّهِ عن النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا تُجَصِّصُوا الْقُبُورَ وَلَا تَبْنُوا عليها
وَلَا تَقْعُدُوا وَلَا تَكْتُبُوا عليها وَلِأَنَّ ذلك من بَابِ الزِّينَةِ وَلَا
حَاجَةَ بِالْمَيِّتِ إلَيْهَا
وَلِأَنَّهُ تَضْيِيعُ الْمَالِ بِلَا فَائِدَةٍ فَكَانَ مَكْرُوهًا وَيُكْرَهُ
أَنْ يُزَادَ على تُرَابِ الْقَبْرِ الذي خَرَجَ منه لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عليه
بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ ولا بَأْسَ بِرَشِّ الْمَاءِ على الْقَبْرِ لِأَنَّهُ
تَسْوِيَةٌ له
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ كَرِهَ الرَّشَّ لِأَنَّهُ
يُشْبِهُ التَّطْيِينَ وَكَرِهَ أبو حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى أَنَّ يُوطَأَ على
قَبْرٍ أو يُجْلَسَ عليه أو يُنَامَ عليه أو تُقْضَى عليه حَاجَةٌ من بَوْلٍ أو
غَائِطٍ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن الْجُلُوسِ
على الْقُبُورِ وَيُكْرَهُ أَنْ يصلي على الْقَبْرِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ نهى أَنْ يُصَلَّى على الْقَبْرِ
قال أبو حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يصلي على مَيِّتٍ بين
الْقُبُورِ وكان عَلِيٌّ وابن عَبَّاسٍ يَكْرَهَانِ ذلك وَإِنْ صَلَّوْا
أَجْزَأَهُمْ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ صَلَّوْا على عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ بين
مَقَابِرِ الْبَقِيعِ وَالْإِمَامُ أبو هُرَيْرَةَ وَفِيهِمْ ابن عُمَرَ ولا ( ( (
رضي ) ) ) بَأْسَ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالدُّعَاءِ لِلْأَمْوَاتِ إنْ كَانُوا
مُؤْمِنِينَ من غَيْرِ وَطْءِ الْقُبُورِ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
إنِّي كنت نَهَيْتُكُمْ عن زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا
تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ وَلِعَمَلِ الْأُمَّةِ من لَدُنْ رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّهِيدُ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في
بَيَانِ من يَكُونُ شَهِيدًا في الْحُكْمِ وَمَنْ لَا يَكُونُ
وَالثَّانِي في بَيَانِ حُكْمِ الشَّهَادَةِ في الدُّنْيَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فمبني ( ( ( فبني ) ) ) على شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ
أَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ مَقْتُولًا حتى لو مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أو تَرَدَّى
من مَوْضِعٍ أو احْتَرَقَ بِالنَّارِ أو مَاتَ تَحْتَ هَدْمٍ أو غَرِقَ لَا
يَكُونُ شَهِيدًا لِأَنَّهُ ليس بِمَقْتُولٍ فلم يَكُنْ في مَعْنَى شُهَدَاءِ
أُحُدٍ وَبِأَيِّ شَيْءٍ قُتِلَ في الْمَعْرَكَةِ من سِلَاحٍ أو غَيْرِهِ فَهُوَ
سَوَاءٌ في حُكْمِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ ما قُتِلَ كلهم بِسِلَاحٍ
بَلْ منهم من قُتِلَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ وَأَمَّا في الْمِصْرِ فَيَخْتَلِفُ
الْحُكْمُ فيه على ما نَذْكُرُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا حتى لو قُتِلَ بِحَقٍّ في قِصَاصٍ أو رُجِمَ
لَا يَكُونُ شَهِيدًا لِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ قُتِلُوا مَظْلُومِينَ وَرُوِيَ
أَنَّهُ لَمَّا رُجِمَ مَاعِزٌ جاء عَمُّهُ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال
قُتِلَ مَاعِزٌ كما تُقْتَلُ الْكِلَابُ فَمَاذَا تَأْمُرنِي أَنْ أَصْنَعَ بِهِ
فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تَقُلْ هذا فَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لو
قُسِمَتْ تَوْبَتُهُ على أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَسِعَتْهُمْ اذْهَبْ فَاغْسِلْهُ
وَكَفِّنْهُ وَصَلِّ عليه وَكَذَلِكَ من مَاتَ من حَدٍّ أو تَعْزِيرٍ أو عَدَا على
قَوْمٍ ظُلْمًا فَقَتَلُوهُ لَا يَكُونُ شَهِيدًا لِأَنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ
وَكَذَا لو
____________________
(1/320)
قَتَلَهُ
سَبُعٌ لِانْعِدَامِ تَحَقُّقِ الظُّلْمِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَخْلُفَ عن نَفْسِهِ بَدَلًا هو مَالٌ حتى لو كان مَقْتُولًا
خَطَأً أو شِبْهَ عَمْدٍ بِأَنْ قَتَلَهُ في الْمِصْرِ نَهَارًا بِعَصًا صَغِيرَةٍ
أو سَوْطٍ أو وَكَزَهُ بِالْيَدِ أو لَكَزَهُ بِالرِّجْلِ لَا يَكُونُ شَهِيدًا
لِأَنَّ الْوَاجِبَ في هذه الْمَوَاضِعِ هو الْمَالُ دُونَ الْقِصَاصِ وَذَا
دَلِيلُ خِفَّةِ الْجِنَايَةِ فلم يَكُنْ في مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ لأن غير
السِّلَاحِ مِمَّا يَلْبَثَ فَكَانَ بِحَالٍ لو اسْتَغَاثَ لَحِقَهُ الْغَوْثُ
فإذا لم يَسْتَغِثْ جُعِلَ كَأَنَّهُ أَعَانَ على قَتْلِ نَفْسِهِ بِخِلَافِ ما
إذَا قُتِلَ في الْمَفَازَةِ بِغَيْرِ السِّلَاحِ
لِأَنَّ ذلك يُوجِبُ الْقَتْلَ بِحُكْمِ قَطْعِ الطَّرِيقِ لَا الْمَالِ لأنه ( (
( ولأنه ) ) ) لو اسْتَغَاثَ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ فلم يَصِرْ بِتَرْكِ
الِاسْتِغَاثَةِ مُعِينًا على قَتْلِ نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَهُ بِعَصًا
كَبِيرَةٍ أو بِمِدَقَّةِ الْقَصَّارِينَ أو بِحَجَرٍ كَبِيرٍ أو بِخَشَبَةٍ
عَظِيمَةٍ أو خَنَقَهُ أو غَرَّقَهُ في الْمَاءِ أو أَلْقَاهُ من شَاهِقِ الْجَبَلِ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى لِأَنَّ هذا كُلَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ عِنْدَهُ
فَكَانَ الْوَاجِبُ فيه الدِّيَةَ دُونَ الْقِصَاصِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ الْوَاجِبُ هو الْقِصَاصُ فَكَانَ الْمَقْتُولُ شَهِيدًا
وَلَوْ نَزَلَ عليه اللُّصُوصُ لَيْلًا في الْمِصْرِ فَقُتِلَ بِسِلَاحٍ أو
غَيْرِهِ أو قَتَلَهُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ خَارِجَ الْمِصْرِ بِسِلَاحٍ أو
غَيْرِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ لِأَنَّ الْقَتِيلَ لم يَخْلُفْ في هذه الْمَوَاضِعِ
بَدَلًا هو مَالٌ
وَلَوْ قُتِلَ في الْمِصْرِ نَهَارًا بِسِلَاحٍ ظُلْمًا بِأَنْ قُتِلَ بِحَدِيدَةٍ
أو ما يُشْبِهُ الْحَدِيدَةَ كَالنُّحَاسِ وَالصُّفْرِ وما أَشْبَهَ ذلك أو ما
يَعْمَلُ عَمِلَ الْحَدِيدُ من جُرْحٍ أو قَطْعٍ أو طُعِنَ بِأَنْ قَتَلَهُ
بِزُجَاجَةٍ أو بُلَيْطَةِ قَصَبٍ أو طَعَنَهُ بِرُمْحٍ لَا زُجَّ له أو رَمَاهُ
بِنُشَّابَةٍ لَا نَصْلَ لها أو أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ
وفي الْجُمْلَةِ كُلُّ قَتْلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ كان ( ( (
فالقتيل ) ) ) شَهِيدٌ
وقال الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى لَا يَكُونُ شَهِيدًا وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ
أَنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا غُسِّلَا وَلِأَنَّ هذا قَتِيلٌ أَخْلَفَ بَدَلًا وهو
الْمَالُ أو الْقِصَاصُ فما هو في مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ كالقتيل ( ( ( كالقتل
) ) ) خَطَأً أو شِبْهَ عَمْدٍ
وَلَنَا أَنَّ وُجُوبَ هذا الْبَدَلِ دَلِيلُ انْعِدَامِ الشُّبْهَةِ وَتَحَقُّقِ
الظُّلْمِ من جَمِيعِ الْوُجُوهِ إذْ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ مع الشُّبْهَةِ
فَصَارَ في مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ بِخِلَافِ ما إذَا أَخْلَفَ بَدَلًا هو مَالٌ
لِأَنَّ ذلك أَمَارَةُ خِفَّةِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ إلَّا
عِنْدَ تَحَقُّقِ الشُّبْهَةِ في الْقَتْلِ فلم يَكُنْ في مَعْنَى شُهَدَاءِ
أُحُدٍ وَلِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عن الْمَقْتُولِ فإذا وَصَلَ إلَيْهِ الْبَدَلُ
صَارَ الْمُبْدَلُ كَالْبَاقِي من وَجْهٍ لِبَقَاءِ بَدَلِهِ فَأَوْجَبَ خَلَلًا
في الشَّهَادَةِ فَأَمَّا الْقِصَاصُ فَلَيْسَ بِبَدَلٍ عن الْمَحَلِّ بَلْ هو
جَزَاءُ الْفِعْلِ على طَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ
الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا غُسِّلَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ لِأَنَّهُمَا اُرْتُثَّا
وَالِارْتِثَاثُ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ على ما نَذْكُرُ
وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ في مَحَلَّةٍ أو مَوْضِعٍ يَجِبُ فيه الْقَسَامَةُ
وَالدِّيَةُ لم يَكُنْ شَهِيدًا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ وَجَبَ الْقِصَاصُ ثُمَّ
انْقَلَبَ مَالًا بِالصُّلْحِ لَا تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ لم يَتَبَيَّنْ
أَنَّهُ أَخْلَفَ بَدَلًا هو مَالٌ وَكَذَا الْأَبُ إذَا قَتَلَ ولده ( ( ( ابنه )
) ) عَمْدًا كان شَهِيدًا لأن أَخْلَفَ الْقِصَاصَ ثُمَّ انْقَلَبَ مَالًا
وَفَائِدَةُ الْوُجُوبِ شَهَادَةُ الْمَقْتُولِ
وَمِنْهَا أَنْ لا يَكُونَ مُرْتَثًّا في شَهَادَتِهِ وهو أَنْ لَا يَخْلَقَ
شَهَادَتُهُ مَأْخُوذٌ من الثَّوْبِ الرَّثِّ وهو الْخَلَقُ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لَمَّا طُعِنَ حُمِلَ إلَى
بَيْتِهِ فَعَاشَ يَوْمَيْنِ ثُمَّ مَاتَ فَغُسِّلَ وكان شَهِيدًا وَكَذَا عَلِيٌّ
حُمِلَ حَيًّا بَعْد ما طُعِنَ ثُمَّ مَاتَ فَغُسِّلَ وكان شَهِيدًا وَعُثْمَانُ
أُجْهِزَ عليه في مَصْرَعِهِ ولم برتث ( ( ( يرتث ) ) ) فلم يُغَسَّلْ وَسَعْدُ بن
مُعَاذٍ ارْتَثَّ فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بَادِرُوا إلَى غُسْلِ
صَاحِبِكُمْ سَعْدٍ كيلا تَسْبِقَنَا الْمَلَائِكَةُ بِغُسْلِهِ كما سَبَقَتْنَا
بِغُسْلِ حَنْظَلَةَ وَلِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ مَاتُوا على مَصَارِعِهِمْ ولم
يُرْتَثُّوا حتى رُوِيَ أَنَّ الْكَأْسَ كان يُدَارُ عليهم فلم يَشْرَبُوا خَوْفًا
من نُقْصَانِ الشَّهَادَةِ فإذا اُرْتُثَّ لم يَكُنْ في مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ
وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا اُرْتُثَّ وَنُقِلَ من مَكَانِهِ يَزِيدُهُ النَّقْلُ
ضَعْفًا وَيُوجِبُ حُدُوثَ آلَامٍ لم تَحْدُثْ لَوْلَا النَّقْلُ
وَالْمَوْتُ يَحْصُلُ عَقِيبَ تَرَادُفِ الْآلَامِ
فَيَصِيرُ النَّقْلُ مُشَارِكًا لِلْجِرَاحَةِ في إثَارَةِ الْمَوْتِ
وَلَوْ تَمَّ الْمَوْتُ بِالنَّقْلِ لَسَقَطَ الْغُسْلُ
وَلَوْ تَمَّ بِإِيلَامٍ سِوَى الْجُرْحِ لَا يَسْقُطُ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ
وَلِأَنَّ الْقَتْلَ لم يَتَمَحَّضْ بِالْجُرْحِ بَلْ حَصَلَ بِهِ وَبِغَيْرِهِ
وهو النَّقْلُ وَالْجُرْحُ مَحْظُورٌ وَالنَّقْلُ مُبَاحٌ فلم يمتب ( ( ( يمت ) )
) سبب ( ( ( بسبب ) ) ) تَمَحَّضَ حَرَامًا
فلم يَصِرْ في مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ
ثُمَّ الْمُرْتَثُّ من خَرَجَ عن صِفَةِ الْقَتْلَى وَصَارَ إلَى حَالِ الدُّنْيَا
بِأَنْ جَرَى عليه شَيْءٌ من أَحْكَامِهَا أو وَصَلَ إلَيْهِ شَيْءٌ من
مَنَافِعِهَا وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ من حُمِلَ من الْمَعْرَكَةِ حَيًّا ثُمَّ
مَاتَ في بَيْتِهِ أو على أَيْدِي الرِّجَالِ فَهُوَ مُرْتَثٌّ وَكَذَلِكَ إذَا
أَكَلَ أو شَرِبَ أو بَاعَ أو ابْتَاعَ أو تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ أو قام من
مَكَانِهِ ذلك أو تَحَوَّلَ من مَكَانِهِ إلَى مَكَان آخَرَ وَبَقِيَ على مَكَانِهِ
ذلك حَيًّا يَوْمًا كَامِلًا أو لَيْلَةً كَامِلَةً وهو يَعْقِلُ فَهُوَ مُرْتَثٌّ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى إذَا بَقِيَ وَقْتُ صَلَاةٍ كَامِلٌ حتى
صَارَتْ الصَّلَاةُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ وهو يَعْقِلُ فَهُوَ مُرْتَثٌّ وَإِنْ
بَقِيَ في مَكَانَهُ لَا يَعْقِلُ فَلَيْسَ بِمُرْتَثٍّ
وقال مُحَمَّدٌ رحمه الله تعالى إنْ بَقِيَ يَوْمًا فَهُوَ مُرْتَثٌّ وَلَوْ
أَوْصَى
____________________
(1/321)
كان
ارْتِثَاثًا عِنْدَ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَقِيلَ لَا
خِلَافَ بَيْنَهُمَا في الْحَقِيقَةِ فَجَوَابُ أبي يُوسُفَ رحمه الله تعالى
خَرَجَ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِشَيْءٍ من أُمُورِ الدُّنْيَا وَذَلِكَ يُوجِبُ
الِارْتِثَاثَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِأُمُورِ الدُّنْيَا من
أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَمَصَالِحِهَا فَيَنْقُضُ ذلك مَعْنَى الشَّهَادَةِ
وَجَوَابُ مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى مَحْمُولٌ على ما إذَا أَوْصَى بِشَيْءٍ من
أُمُورِ الْآخِرَةِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الِارْتِثَاثَ بِالْإِجْمَاعِ
كَوَصِيَّةِ سَعْدِ بن الرَّبِيعِ وهو ما رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أُصِيبَ
الْمُسْلِمُونَ يوم أُحُدٍ وَوَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا قال رسول اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم هل من رَجُلٍ يَنْظُرُ ما فَعَلَ سَعْدُ بن الرَّبِيعِ
فَنَظَرَ عبد اللَّهِ بن عبد الرحمن من بَنِي النَّجَّارِ فَوَجَدَهُ جَرِيحًا في
الْقَتْلَى وَبِهِ رَمَقٌ فقال له إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ في الْأَحْيَاءِ أنت أَمْ في الْأَمْوَاتِ فقال أنا في
الْأَمْوَاتِ فَأَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عَنِّي السَّلَامَ
وَقُلْ له إنَّ سَعْدَ بن الرَّبِيعِ يقول جَزَاكَ اللَّهُ عَنَّا خَيْرَ ما يجزي
نَبِيٌّ عن أُمَّتِهِ وَأَبْلِغْ قَوْمَكَ عَنِّي السَّلَامَ وَقُلْ لهم إنَّ
سَعْدًا يقول لَا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَخْلُصَ إلَى
نَبِيِّكُمْ وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرُفُ
قال ثُمَّ لم أَبْرَحْ حتى مَاتَ فلم يُغَسَّلْ وَصُلِّيَ عليه
وَذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ إنْ أَوْصَى بِمِثْلِ وَصِيَّةِ سَعْدِ بن
مُعَاذٍ فَلَيْسَ بِارْتِثَاثٍ وَالصَّلَاةُ ارْتِثَاثٌ لِأَنَّهَا من أَحْكَامِ
الدُّنْيَا وَلَوْ جُرَّ بِرِجْلِهِ من بَيْنِ الصَّفَّيْنِ حتى تَطَؤُهُ
الْخُيُولُ فَمَاتَ لم يَكُنْ مُرْتَثًّا لِأَنَّهُ ما نَالَ شيئا من رَاحَةِ
الدُّنْيَا بِخِلَافِ ما إذَا مَرِضَ في خَيْمَتِهِ أو في بَيْتِهِ لِأَنَّهُ قد
نَالَ الرَّاحَةَ بِسَبَبِ ما مَرِضَ فَصَارَ مُرْتَثًّا ثُمَّ الْمُرْتَثُّ
وَإِنْ لم يَكُنْ شَهِيدًا في حُكْمِ الدُّنْيَا فَهُوَ شَهِيدٌ في حَقِّ الثَّوَابِ
حتى أنه يَنَالُ ثَوَابَ الشُّهَدَاءِ كَالْغَرِيقِ وَالْحَرِيقِ وَالْمَبْطُونِ
وَالْغَرِيبِ أنهم شُهَدَاءُ بِشَهَادَةِ رسول ( ( ( الرسول ) ) ) الله صلى
اللَّهُ عليه وسلم لهم بِالشَّهَادَةِ وَإِنْ لم يَظْهَرْ حُكْمُ شَهَادَتِهِمْ في
الدُّنْيَا
ومنها كَوْنُ الْمَقْتُولِ مُسْلِمًا فَإِنْ كان كَافِرًا كَالذِّمِّيِّ إذَا
خَرَجَ مع الْمُسْلِمِينَ لِلْقِتَالِ فَقُتِلَ يُغَسَّلُ لِأَنَّ سُقُوطَ
الْغُسْلِ عن الْمُسْلِمِ إنَّمَا ثَبَتَ كَرَامَةً له وَالْكَافِرُ لَا
يَسْتَحِقُّ الْكَرَامَةَ
وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَقْتُولِ مُكَلَّفًا هو شَرْطُ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى فَلَا يَكُونُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ
شَهِيدَيْنِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رحمهما الله تعالى ليس
بِشَرْطٍ وَيَلْحَقُهُمَا حُكْمُ الشَّهَادَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ مَقْتُولٌ ظُلْمًا ولم يَخْلُفْ بَدَلًا هو مَالٌ
فَكَانَ شَهِيدًا كَالْبَالِغِ الْعَاقِلِ وَلِأَنَّ الْقَتْلَ ظُلْمًا لَمَّا
أَوْجَبَ تَطْهِيرَ من ليس بِطَاهِرٍ لِارْتِكَابِهِ الْمَعَاصِيَ وَالذُّنُوبَ
فَلَأَنْ يُوجِبَ تَطْهِيرَ من هو طَاهِرٌ أَوْلَى
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِسُقُوطِ الْغُسْلِ
في حَقِّهِمْ كَرَامَةً لهم فَلَا يُجْعَلُ وَارِدًا فِيمَنْ لَا يُسَاوِيهِمْ في
اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ وما ذَكَرُوا من مَعْنَى الطَّهَارَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ
لِأَنَّ سُقُوطَ الْغُسْلِ غَيْرُ مَبْنِيٍّ على الطَّهَارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ
الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهم غُسِّلُوا وَرَسُولُنَا سَيِّدُ الْبَشَرِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم غُسِّلَ وَالْأَنْبِيَاءُ أَطْهَرُ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى
فَلَا وَجْهَ لِتَعْلِيقِ ذلك بِالتَّطْهِيرِ مع أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لِلصَّبِيِّ
يُطَهِّرُهُ السَّيْفُ فَكَانَ الْقَتْلُ في حَقِّهِ وَالْمَوْتُ حَتْفَ أَنْفِهِ
سَوَاءً
وَمِنْهَا الطَّهَارَةُ عن الْجَنَابَةِ شَرْطٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رحمه الله
تعالى وَعِنْدَهُمَا ليس بِشَرْطٍ حتى لو قُتِلَ جُنُبًا لم يَكُنْ شَهِيدًا
عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَتْلَ على طَرِيقِ الشَّهَادَةِ أُقِيمَ مَقَامَ
الْغُسْلِ كَالذَّكَاةِ أُقِيمَتْ مَقَامَ غَسْلِ الْعُرُوقِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ
يَرْفَعُ الْحَدَثَ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى ما رُوِيَ أَنَّ حَنْظَلَةَ اُسْتُشْهِدَ
جُنُبًا فَغَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ حتى قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
إنَّ صَاحِبَكُمْ لَتُغَسِّلُهُ الْمَلَائِكَةُ فَاسْأَلُوا أَهْلَهُ ما بَالُهُ
فَسُئِلَتْ صَاحِبَتُهُ فقالت خَرَجَ وهو جُنُبٌ حين سمع الْهَيْعَةَ فقال صلى
اللَّهُ عليه وسلم لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ أَشَارَ إلَى أَنَّ
الْجَنَابَةَ عِلَّةُ الْغُسْلِ وَالْمَعْنَى فيه إن الشَّهَادَةَ عُرِفَتْ
مَانِعَةً من حُلُولِ نَجَاسَةِ الْمَوْتِ لَا رَافِعَةً لنجاسة ( ( ( لنجاسته ) )
) كانت كَالذَّكَاةِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ من حُلُولِ نَجَاسَةِ الْمَوْتِ فِيمَا
كان حَلَالًا إمَّا لَا تَرْفَعُ حُرْمَةً كانت ثَابِتَةً وَهَذَا لِأَنَّهَا
عُرِفَتْ مَانِعَةً بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا تَكُونُ رَافِعَةً لِأَنَّ
الْمَنْعَ أَدْوَنُ من الرَّفْعِ فَأَمَّا الْحَدَثُ فَإِنَّمَا تَرْفَعُهُ
ضَرُورَةُ الْمَنْعِ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَخْلُو عن الْحَدَثِ إذْ لَا بُدَّ من
زَوَالِ الْعَقْلِ سَابِقًا على الْمَوْتِ فَيَثْبُتُ الْحَدَثُ لَا مَحَالَةَ
وَالشَّهَادَةُ مَانِعَةٌ من نَجَاسَةِ الْمَوْتِ فَلَوْ لم يَرْتَفِعْ الْحَدَثُ
بِالشَّهَادَةِ لَاحْتِيجَ إلَى غَسْلِ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ فلم يَظْهَرْ
أَثَرُ مَنْعِ الشَّهَادَةِ حُلُولَ النَّجَاسَةِ فَقُلْنَا إنَّ الشَّهَادَةَ
تَرْفَعُ ذلك الْحَدَثَ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ في الْجَنَابَةِ
لِأَنَّهَا لَا تُوجَدُ لَا مَحَالَةَ لِيَنْعَدِمَ أَثَرُ الشَّهَادَةِ بَلْ
تُوجَدُ في النُّدْرَةِ فلم يَرْفَعْ
وَأَمَّا الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ إذَا اُسْتُشْهِدَتَا فَإِنْ كان ذلك بَعْدَ
انْقِطَاعِ الدَّمِ وَطَهَارَتِهِمَا قبل الِاغْتِسَالِ فَالْكَلَامُ فِيهِمَا وفي
الْجُنُبِ سَوَاءٌ وَإِنْ كان قبل انْقِطَاعِ الدَّمِ فَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رحمه
الله تعالى فيه رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ يُغَسَّلَانِ كَالْجُنُبِ
____________________
(1/322)
لِوُجُودِ
شَرْطِ الِاغْتِسَالِ وهو الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ وفي رِوَايَةٍ لَا يُغَسَّلَانِ
لِأَنَّهُ لم يَكُنْ وَجَبَ بَعْدُ قبل الْمَوْتِ قبل انْقِطَاعِ الدَّمِ فَلَوْ
وَجَبَ وَجَبَ بِالْمَوْتِ وَالِاغْتِسَالُ الذي يَجِبُ بِالْمَوْتِ يَسْقُطُ
بِالشَّهَادَةِ وَلَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ لِصِحَّةِ الشَّهَادَةِ بِالْإِجْمَاعِ
لِأَنَّ النِّسَاءَ مُخَاطَبَاتٌ يُخَاصِمْنَ يوم الْقِيَامَةِ من قَتَلَهُنَّ
فَيَبْقَى عَلَيْهِنَّ أَثَرُ الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ شَاهِدًا لَهُنَّ
كَالرِّجَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وإذا عُرِفَ شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ فَنَقُولُ إذَا قُتِلَ الرَّجُلُ في الْمَعْرَكَةِ
أو غَيْرِهَا وهو يُقَاتِلُ أَهْلَ الْحَرْبِ أو قُتِلَ مُدَافِعًا عن نَفْسِهِ أو
مَالِهِ أو أَهْلِهِ أو وَاحِدٍ من الْمُسْلِمِينَ أو أَهْلِ الذِّمَّةِ فَهُوَ
شَهِيدٌ سَوَاءٌ قُتِلَ بِسِلَاحٍ أو غَيْرِهِ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ
الشَّهَادَةِ في حَقِّهِ فَالْتَحَقَ بِشُهَدَاءِ أُحُدٍ وَكَذَلِكَ إذَا صَارَ
مَقْتُولًا من جِهَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ قُتِلَ ظُلْمًا لم يَخْلُفْ
بَدَلًا هو مَالٌ دَلَّ عليه قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من قُتِلَ
دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَهَذَا قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَيَكُونُ شَهِيدًا
بِشَهَادَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَكَذَا إذَا قُتِلَ في مُحَارَبَةِ
أَهْلِ الْبَغْيِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى يُغَسَّلُ في أَحَدِ
قَوْلَيْهِ لِأَنَّ على أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَجِبُ الْقِصَاصُ على الْبَاغِي
فَهَذَا قَتِيلٌ أَخْلَفَ بَدَلًا وهو الْقِصَاصُ وَهَذَا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ
عِنْدَهُ على ما مَرَّ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَمَّارٍ أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ بِصِفِّينَ تَحْتَ
رَايَةِ عَلِيٍّ فقال لَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا وَلَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا
فَإِنِّي أَلْتَقِي وَمُعَاوِيَةُ بِالْجَادَّةِ وكان قَتِيلَ أَهْلِ الْبَغْيِ
على ما قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ
وَرُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بن صُوحَانَ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ يوم الْجَمَلِ فقال لَا
تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا وَلَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا فَإِنِّي رَجُلٌ
مُحَاجٌّ أُحَاجُّ يوم الْقِيَامَةَ من قَتَلَنِي
وَعَنْ عَلِيٍّ عنه أَنَّهُ كان لَا يُغَسِّلُ من قُتِلَ من أَصْحَابِهِ
وَلِأَنَّهُ في مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ لِأَنَّهُ قُتِلَ قَتْلًا تَمَحَّضَ
ظُلْمًا ولم يَخْلُفْ بَدَلًا هو مَالٌ وَوُجُوبُ الْقِصَاصِ في قَتْلِ الْبَاغِي
مَمْنُوعٌ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم إن كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ
بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَقَتِيلُ غَيْرِ الْبَاغِي وَإِنْ وَجَبَ
عليه الْقِصَاصُ لَكِنَّ ذلك أَمَارَةٌ تُغَلِّظُ الْجِنَايَةَ على ما مَرَّ فَلَا
يُوجِبُ قَدْحًا في الشَّهَادَةِ بِخِلَافِ وُجُوبِ الدِّيَةِ وَلَوْ وُجِدَ في
الْمَعْرَكَةِ فَإِنْ لم يَكُنْ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ من جِرَاحَةٍ أو خَنْقٍ أو
ضَرْبٍ أو خُرُوجِ الدَّمِ لم يَكُنْ شَهِيدًا لِأَنَّ الْمَقْتُولَ إنَّمَا
يُفَارِقُ الْمَيِّتَ حَتْفَ أَنْفِهِ بِالْأَثَرِ فإذا لم يَكُنْ بِهِ أَثَرٌ
فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لم يَكُنْ بِفِعْلٍ مُضَافٍ إلَى الْعَدُوِّ بَلْ لَمَّا
الْتَقَى الصَّفَّانِ انْخَلَعَ قِنَاعُ قَلْبِهِ من شِدَّةِ الْفَزَعِ وقد
يُبْتَلَى الْجَبَانُ بهذا فَإِنْ كان بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ كان شَهِيدًا لِأَنَّ
الظَّاهِرَ أَنَّ مَوْتَهُ كان بِذَلِكَ السَّبَبِ وَإِنَّهُ كان من الْعَدُوِّ
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحُكْمَ مَتَى ظَهَرَ عَقِيبَ سَبَبٍ يُحَالُ عليه وَإِنْ كان
الدَّمُ يَخْرُجُ من مَحَارِقِهِ يُنْظَرُ إنْ كان مَوْضِعًا يَخْرُجُ الدَّمُ منه
من غَيْرِ آفَةٍ في الْبَاطِنِ كَالْأَنْفِ وَالذَّكَرِ وَالدُّبُرِ لم يَكُنْ
شَهِيدًا لِأَنَّ الْمَرْءَ قد يُبْتَلَى بِالرُّعَافِ وقد يَبُولُ دَمًا
لِشِدَّةِ الْفَزَعِ وقد يَخْرُجُ الدَّمُ من الدُّبُرِ من غَيْرِ جُرْحٍ في
الْبَاطِنِ فَوَقَعَ الشَّكُّ في سُقُوطِ الْغُسْلِ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ
وَإِنْ كان الدَّمُ يَخْرُجُ من أُذُنِهِ أو عَيْنِهِ كان شَهِيدًا لِأَنَّ
الدَّمَ لَا يَخْرُجُ من هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ عَادَةً إلَّا لِآفَةٍ في
الْبَاطِنِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ضُرِبَ على رَأْسِهِ حتى خَرَجَ الدَّمُ من
أُذُنِهِ أو عَيْنِهِ وَإِنْ كان الدَّمُ يَخْرُجُ من فَمِهِ فَإِنْ كان يَنْزِلُ
من رَأْسِهِ لم يَكُنْ شَهِيدًا لِأَنَّ ما يَنْزِلُ من الرَّأْسِ فَنُزُولُهُ من
جَانِبِ الْفَمِ أو من جَانِبِ الْأَنْفِ سَوَاءٌ وَإِنْ كان يَعْلُو من جَوْفِهِ
كان شَهِيدًا لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَصْعَدُ من الْجَوْفِ إلَّا لِجُرْحٍ في
الْبَاطِنِ وَإِنَّمَا نُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا بِلَوْنِ الدَّمِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
وَلَوْ وُجِدَ في عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ كَانُوا لَقَوْا الْعَدُوَّ
فَهُوَ شَهِيدٌ وَلَيْسَ فيه قَسَامَةٌ وَلَا دِيَةٌ لِأَنَّهُ قَتِيلُ الْعَدُوِّ
ظاهرا ( ( ( وظاهرا ) ) ) كما لو وُجِدَ قَتِيلًا في الْمَعْرَكَةِ وَإِنْ كَانُوا
لم يَلْقَوْا الْعَدُوَّ لم يَكُنْ شَهِيدًا لِأَنَّهُ ليس قَتِيلَ الْعَدُوِّ
أَلَا تَرَى أَنَّ فيه الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ وَلَوْ وَطِئَتْهُ دَابَّةُ
الْعَدُوِّ وَهُمْ رَاكِبُوهَا أو سَائِقُوهَا أو قَائِدُوهَا فَمَاتَ أو نَفَّرَ
الْعَدُوُّ دَابَّتَهُ أو نَخَسَهَا فَأَلْقَتْهُ فَمَاتَ أو رَمَاهُ الْعَدُوُّ
بِالنَّارِ فَاحْتَرَقَ أو كان الْمُسْلِمُونَ في سَفِينَةٍ فَرَمَاهُمْ
الْعَدُوُّ بِالنَّارِ فَاحْتَرَقُوا أو تَعَدَّى هذا الْحَرِيقُ إلَى سَفِينَةٍ
أُخْرَى فيها مُسْلِمُونَ فَاحْتَرَقُوا أو سَيَّلُوا عليهم الْمَاءَ حتى غَرِقُوا
أو أَلْقَوْهُمْ في الْخَنْدَقِ أو من السُّورِ بِالطَّعْنِ بِالرُّمْحِ
وَالدَّفْعِ حتى مَاتُوا أو أَلْقَوْا عليهم الْجِدَارَ كَانُوا شُهَدَاءَ لِأَنَّ
مَوْتَهُمْ حَصَلَ بِفِعْلٍ مُضَافٍ إلَى الْعَدُوِّ فَيَلْحَقُهُمْ حُكْمُ
الشَّهَادَةِ
وَلَوْ نَفَرَتْ دَابَّةُ مُسْلِمٍ من دَابَّةِ الْعَدُوِّ أو من سَوَادِهِمْ من غَيْرِ
تَنْفِيرٍ منهم فَأَلْقَتْهُ فَمَاتَ أو انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ فالقوا
أَنْفُسَهُمْ في الْخَنْدَقِ أو من السُّورِ حتى مَاتُوا لم يَكُونُوا شُهَدَاءَ
لِأَنَّ مَوْتَهُمْ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى فِعْلِ الْعَدُوِّ وَكَذَلِكَ إذَا حَمَلَ
على الْعَدُوِّ فَسَقَطَ عن فَرَسِهِ أو كان الْمُسْلِمُونَ يَنْقُبُونَ عليهم
الْحَائِطَ فَسَقَطَ عليهم فَمَاتُوا لم يَكُونُوا شُهَدَاءَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ
خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَأَصَّلَ مُحَمَّدٌ رحمه الله تعالى في الزِّيَادَاتِ
في
____________________
(1/323)
هذه
الْمَسَائِلِ أَصْلًا فقال إذَا صَارَ مَقْتُولًا بِفِعْلٍ يُنْسَبُ إلَى
الْعَدُوِّ كان شَهِيدًا وَإِلَّا فَلَا وَالْأَصْلُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ
إذَا صَارَ مَقْتُولًا بِعَمَلِ الْحِرَابِ وَالْقِتَالِ كان شَهِيدًا وَإِلَّا
فَلَا سَوَاءٌ كان مَنْسُوبًا إلَى الْعَدُوِّ أو لَا وَالْأَصْلُ عِنْدَ
الْحَسَنِ بن زِيَادٍ أَنَّهُ إذَا صَارَ مَقْتُولًا بِمُبَاشَرَةِ الْعَدُوِّ
بِحَيْثُ لو وُجِدَ ذلك الْقَتْلُ فِيمَا بين الْمُسْلِمِينَ في دَارِ
الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو عن وُجُوبِ قِصَاصٍ أو كَفَّارَةٍ كان شَهِيدًا وإذا صَارَ
مَقْتُولًا بِالتَّسَبُّبِ لم يَكُنْ شَهِيدًا وَجِنْسُ هذه الْمَسَائِلِ في
الزِّيَادَاتِ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الشَّهَادَةِ في الدُّنْيَا فَنَقُولُ إنَّ الشَّهِيدَ
كَسَائِرِ الْمَوْتَى في أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُمْ في
حُكْمَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يُغَسَّلُ لِأَنَّ الْغُسْلَ كَرَامَةٌ لِبَنِي آدَمَ
وَالشَّهِيدُ يَسْتَحِقُّ الْكَرَامَةَ حَسْبَمَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ بَلْ
أَشَدُّ فَكَانَ الْغُسْلُ في حَقِّهِ أَوْجَبَ وَلِهَذَا يُغَسَّلُ الْمُرْتَثُّ
وَمَنْ قُتِلَ بِحَقٍّ فَكَذَا الشَّهِيدُ وَلِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ وَجَبَ
تَطْهِيرًا له
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنَّمَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عليه بَعْدَ غُسْلِهِ لَا
قَبْلَهُ وَالشَّهِيدُ يُصَلَّى عليه فَيُغَسَّلُ أَيْضًا تَطْهِيرًا له
وَإِنَّمَا لم تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ تَخْفِيفًا على الْأَحْيَاءِ لِكَوْنِ
أَكْثَرِ الناس كان مَجْرُوحًا لِمَا أَنَّ ذلك الْيَوْمَ كان يوم بَلَاءٍ
وَتَمْحِيصٍ فلم يَقْدِرُوا على غُسْلِهِمْ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال في شُهَدَاءِ
أُحُدٍ زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يوم
الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ
رِيحُ الْمِسْكِ
وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ فإنه
ما من جَرِيحٍ يُجْرَحُ في سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا وهو يَأْتِي يوم الْقِيَامَةِ
وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ
الْمِسْكِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَعَمُّ فَالنَّبِيُّ صلى اللَّهُ عليه وسلم لم
يَأْمُرْ بِالْغُسْلِ وَبَيَّنَ الْمَعْنَى وهو أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يوم
الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا فَلَا يُزَالُ عَنْهُمْ الدَّمُ
بِالْغُسْلِ لِيَكُونَ شَاهِدًا لهم يوم الْقِيَامَةِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ
تَرْكَ غُسْلِ الشَّهِيدِ من بَابِ الْكَرَامَةِ له وإن الشَّهَادَةَ جُعِلَتْ
مَانِعَةً عن حُلُولِ نَجَاسَةِ الْمَوْتِ كما في شُهَدَاءِ أُحُدٍ
وما ذُكِرَ من تَعَذُّرِ الْغُسْلِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمَرَ بِأَنْ يُزَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَبَيَّنَ
الْمَعْنَى وَلِأَنَّ الْجِرَاحَاتِ التي أَصَابَتْهُمْ لَمَّا لم تَكُنْ
مَانِعَةً لهم من الْحَفْرِ وَالدَّفْنِ كَيْفَ صَارَتْ مَانِعَةً من الْغُسْلِ
وهو أَيْسَرُ من الْحَفْرِ وَالدَّفْنِ وَلِأَنَّ تَرْكَ الْغُسْلِ لو كان
لِلتَّعَذُّرِ لَأَمَرَ أَنْ يتيمموا ( ( ( ييمموا ) ) ) كما لو تَعَذَّرَ غُسْلُ
الْمَيِّتِ في زَمَانِنَا لِعَدَمِ الْمَاءِ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ كما لم
تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ لم تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ بَدْرٍ وَالْخَنْدَقِ
وَخَيْبَرَ وما ذُكِرَ من التَّعَذُّرِ لم يَكُنْ يَوْمَئِذٍ وَلِذَا لم يُغَسَّلْ
عُثْمَانُ وَعَمَّارٌ وكان بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ فَدَلَّ أَنَّهُمْ فَهِمُوا
من تَرْكِ الْغُسْلِ على قَتْلَى أُحُدٍ غير ما فَهِمَ الْحَسَنُ
وَالثَّانِي أَنَّهُ يُكَفَّنُ في ثِيَابِهِ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وقد رُوِيَ في ثِيَابِهِمْ وَرَوَيْنَا عن عَمَّارٍ
وَزَيْدِ بن صُوحَانَ أَنَّهُمَا قَالَا لَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا الحديث غير
أَنَّهُ يُنْزَعُ عنه الْجِلْدُ وَالسِّلَاحُ وَالْفَرْوُ وَالْحَشْوُ وَالْخُفُّ
وَالْمِنْطَقَةُ وَالْقَلَنْسُوَةُ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُنْزَعُ عنه شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا لِقَوْلِهِ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال تَنْزِعُ عنه
الْعِمَامَةَ وَالْخُفَّيْنِ وَالْقَلَنْسُوَةَ وَهَذَا لِأَنَّ ما يُتْرَكُ
يُتْرَكُ لِيَكُونَ كَفَنًا وَالْكَفَنُ ما يُلْبَسُ لِلسَّتْرِ وَهَذِهِ
الْأَشْيَاءُ تُلْبَسُ إمَّا لِلتَّجَمُّلِ وَالزِّينَةِ أو لِدَفْعِ الْبَرْدِ أو
لِدَفْعِ مغرة ( ( ( معرة ) ) ) السِّلَاحِ وَلَا حَاجَةَ لِلْمَيِّتِ إلَى شَيْءٍ
من ذلك فلم يَكُنْ شَيْءٌ من ذلك كَفَنًا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ من
قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ الثِّيَابُ التي
يُكَفَّنُ بها وَتُلْبَسُ لِلسَّتْرِ وَلِأَنَّ هذا عَادَةُ أَهْلِ
الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْفِنُونَ أَبْطَالَهُمْ بِمَا عليهم من
الْأَسْلِحَةِ وقد نُهِينَا عن التَّشَبُّهِ بِهِمْ وَيَزِيدُونَ في أَكْفَانِهِمْ
ما شاؤوا وَيُنْقِصُونَ ما شاؤوا لِمَا رُوِيَ أَنَّ حَمْزَةَ رضي اللَّهُ عنه كان
عليه نَمِرَةٌ لو غُطِّيَ رَأْسُهُ بها بَدَتْ رِجْلَاهُ وَلَوْ غُطِّيَتْ بها
رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ
يُغَطَّى بها رَأْسُهُ وَيُوضَعُ على رِجْلَيْهِ شَيْءٌ من الْإِذْخِرِ وَذَاكَ
زِيَادَةٌ في الْكَفَنِ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ على ما عليه حتى يَبْلُغَ عَدَدَ
السُّنَّةِ من بَابِ الْكَمَالِ فَكَانَ لهم ذلك وَالنُّقْصَانُ من بَابِ دَفْعِ
الضَّرَرِ عن الْوَرَثَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عليه من الثِّيَابِ ما يَضُرُّ
تَرْكُهُ بِالْوَرَثَةِ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذلك فَهُوَ كَغَيْرِهِ من
الْمَوْتَى
وقال الشَّافِعِيُّ أنه لَا يُصَلَّى عليه كما لَا يُغَسَّلُ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن جَابِرٍ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ما صلى على
أَحَدٍ من شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ على الْمَيِّتِ شَفَاعَةٌ له
وَدُعَاءٌ لِتَمْحِيصِ ذُنُوبِهِ وَالشَّهِيدُ قد تَطَهَّرَ بِصِفَةِ الشَّهَادَةِ
عن دَنَسِ الذُّنُوبِ على ما قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم السَّيْفُ مَحَّاءٌ
لِلذُّنُوبِ فاستغنى عن ذلك كما استغنى عن الْغُسْلِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
وَصَفَ
____________________
(1/324)
الشُّهَدَاءَ
بِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ في كِتَابِهِ وَالصَّلَاةُ على الْمَيِّتِ لَا على الْحَيِّ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صلى على شُهَدَاءِ أُحُدٍ
صَلَاةَ الْجِنَازَةِ حتى رُوِيَ أَنَّهُ صلى على حَمْزَةَ سَبْعِينَ صَلَاةً
وَبَعْضُهُمْ أَوَّلُوا ذلك بِأَنَّهُ كان يؤتي بِوَاحِدٍ وَاحِدٍ فَيُصَلِّي عليه
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَحَمْزَةُ رضي اللَّهُ عنه بين يَدَيْهِ
فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ كان يُصَلِّي على حَمْزَةَ في كل مَرَّةٍ فروي أَنَّهُ
صلى عليه سَبْعِينَ صَلَاةً وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان ذلك على حَسَبِ الرِّوَايَةِ
وكان مَخْصُوصًا بِتِلْكَ الْكَرَامَةِ وما رُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه
فَغَيْرُ صَحِيحٍ وَقِيلَ أنه كان يَوْمَئِذٍ مَشْغُولًا فإنه قُتِلَ أَبُوهُ
وَأَخُوهُ وَخَالُهُ فَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لِيُدَبِّرَ كَيْفَ يَحْمِلُهُمْ
إلَى الْمَدِينَةِ فلم يَكُنْ حَاضِرًا حين صلى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عليهم
فَلِهَذَا روي ما روي وَمَنْ شَاهَدَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قد رُوِيَ
أَنَّهُ صلى عليهم ثُمَّ سمع جَابِرٌ مُنَادِيَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم أَنْ تُدْفَنَ الْقَتْلَى في مَصَارِعِهِمْ فَرَجَعَ فَدَفَنَهُمْ فيها
وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ على الْمَيِّتِ لِإِظْهَارِ كَرَامَتِهِ وَلِهَذَا اُخْتُصَّ
بها الْمُسْلِمُونَ دُونَ الْكَفَرَةِ وَالشَّهِيدُ أَوْلَى بِالْكَرَامَةِ وما
ذُكِرَ من حُصُولِ الطَّهَارَةِ بِالشَّهَادَةِ فَالْعَبْدُ وَإِنْ جَلَّ قَدْرُهُ
لَا يستغنى عن الدُّعَاءِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ صَلَّوْا على رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا
شَكَّ أَنَّ دَرَجَتَهُ كانت فَوْقَ دَرَجَةِ الشُّهَدَاءِ وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ
بِالْحَيَاةِ في حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {
بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } فَأَمَّا في حَقِّ أَحْكَامِ
الدُّنْيَا فَالشَّهِيدُ مَيِّتٌ يُقْسَمُ مَالُهُ وَتُنْكَحُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ
انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَوُجُوبُ الصَّلَاةِ عليه من أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَكَانَ
مَيِّتًا فيه فَيُصَلَّى عليه وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ
الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ
____________________
(1/325)
كِتَابُ الزَّكَاةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في الْأَصْلِ في مَوْضِعَيْنِ في
بَيَانِ أَنْوَاعِ الزَّكَاةِ وفي بَيَانِ حُكْمِ كل نَوْعٍ منها
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالزَّكَاةُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ فَرْضٌ وَوَاجِبٌ
فَالْفَرْضُ زَكَاةُ الْمَالِ وَالْوَاجِبُ زَكَاةُ الرَّأْسِ وَهِيَ صَدَقَةُ
الْفِطْرُ
وَزَكَاةُ الْمَالِ نَوْعَانِ زَكَاةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَمْوَالِ
التِّجَارَةِ وَالسَّوَائِمِ وَزَكَاةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَهِيَ الْعُشْرُ
أو نِصْفُ الْعُشْرِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْكَلَامُ فيها يَقَعُ في مَوَاضِعَ في
بَيَانِ فَرْضِيَّتِهَا وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ وفي بَيَانِ
سَبَبِ الْفَرْضِيَّةِ وفي بَيَانِ رُكْنِهَا وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي
بَيَانِ ما يُسْقِطُهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ على فَرْضِيَّتِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ
وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ أما الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَآتُوا
الزَّكَاةَ }
وَقَوْلُهُ عز وجل { خُذْ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ
بها }
وَقَوْلُهُ عز وجل { في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ
} وَالْحَقُّ الْمَعْلُومُ هو الزَّكَاةُ
وَقَوْلُهُ { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا
يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ اللَّهِ } الْآيَةَ فَكُلُّ مَالٍ لم تُؤَدَّ زَكَاتُهُ
فَهُوَ كَنْزٌ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال كُلُّ
مَالٍ أُدِّيَتْ الزَّكَاةُ عنه فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كان تَحْتَ سَبْعِ
أَرْضِينَ وَكُلُّ مَالٍ لم تُؤَدَّ الزَّكَاةُ عنه فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ كان على
وَجْهِ الْأَرْضِ فَقَدْ أُلْحِقَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ بِمَنْ كَنَزَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ ولم يُنْفِقْهَا في سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَكُونُ ذلك إلَّا
بِتَرْكِ الْفَرْضِ
وقَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا من طَيِّبَاتِ ما
كَسَبْتُمْ } وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ إنْفَاقٌ في سَبِيلِ اللَّهِ وقَوْله تَعَالَى
{ وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
وقَوْله تَعَالَى { وَتَعَاوَنُوا على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } وَإِيتَاءُ
الزَّكَاةِ من بَابِ الْإِحْسَانِ وَالْإِعَانَةِ على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما وَرَدَ في الْمَشَاهِيرِ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَنَّهُ قال بُنِيَ الْإِسْلَامُ على خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ
الزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ من اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا
وَرُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَ
رَبِّكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بها أَنْفُسُكُمْ تَدْخُلُوا
جَنَّةَ رَبِّكُمْ
وَرُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ما من
صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إلَّا جُعِلَتْ له يوم
الْقِيَامَةِ صَفَائِحُ ثُمَّ أُحْمِيَ عليها في نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بها
جَنْبُهُ وَجَبْهَتُهُ وَظَهْرُهُ في يَوْمٍ كان مِقْدَارُهُ
____________________
(2/2)
خَمْسِينَ
أَلْفَ سَنَةٍ حتى يُقْضَى بين الناس فَيَرَى سَبِيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ
وَإِمَّا إلَى النَّارِ وما من صَاحِبِ بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا
إلَّا أُتِيَ بها يوم الْقِيَامَةِ تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ
بِقُرُونِهَا
ثُمَّ ذَكَرَ فيه ما ذَكَرَ في الْأَوَّلِ قالوا يا رَسُولَ اللَّهِ فَصَاحِبُ
الْخَيْلِ قال الْخَيْلُ ثَلَاثٌ لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَلِرَجُلٍ
وِزْرٌ فَأَمَّا من رَبَطَهَا عُدَّةً في سَبِيلِ اللَّهِ فإنه لو طُوِّلَ لها في
مَرْجٍ خِصْبٍ أو في رَوْضَةٍ كَتَبَ اللَّهُ له عَدَدَ ما أَكَلَتْ حَسَنَاتٍ
وَعَدَدَ أَرْوَاثِهَا حَسَنَاتٍ وَإِنْ مَرَّتْ بِنَهْرٍ عَجَّاجٍ لَا يُرِيدُ
منه السَّقْيَ فَشَرِبَتْ كَتَبَ اللَّهُ له عَدَدَ ما شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ وَمَنْ
ارْتَبَطَهَا عِزًّا وَفَخْرًا على الْمُسْلِمِينَ كانت له وِزْرًا يوم
الْقِيَامَةِ وَمَنْ ارْتَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا ثُمَّ لم يَنْسَ حَقَّ
اللَّهِ تَعَالَى في رِقَابِهَا وَظُهُورِهَا كانت له سِتْرًا من النَّارِ يوم
الْقِيَامَةِ
وَرُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ما من صَاحِبِ غَنَمٍ لَا
يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلَّا بُطِحَ لها يوم الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تطؤه ( (
( تطؤها ) ) ) بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا
وَرُوِيَ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال في مَانِعِي زَكَاةِ الْغَنَمِ
وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْفَرَسِ لا ( ( ( لألفين ) ) ) ألفين أَحَدَكُمْ
يَأْتِي يوم الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ شَاةٌ تَيْعَرُ يقول يا محمد يا محمد
فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لك من اللَّهِ شيئا أَلَا قد بَلَّغْتُ ولا ( ( ( ولألفين
) ) ) ألفين أَحَدَكُمْ يَأْتِي يوم الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ بَعِيرٌ له
رُغَاءٌ فيقول يا محمد يا محمد فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لك من اللَّهِ شيئا أَلَا
قد بَلَّغْتُ ولا ( ( ( ولألفين ) ) ) ألفين أَحَدَكُمْ يَأْتِي يوم الْقِيَامَةِ
وَعَلَى عَاتِقِهِ بَقَرَةٌ لها خُوَارٌ فيقول يا محمد يا محمد فَأَقُولُ لَا
أَمْلِكُ لك من اللَّهِ شيئا أَلَا قد بَلَّغْتُ ولا ( ( ( ولألفين ) ) ) ألفين
أَحَدَكُمْ يوم الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ فَرَسٌ له حَمْحَمَةٌ فيقول يا
محمد يا محمد فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَك من اللَّهِ شيئا أَلَا قد بَلَّغْتُ
وَالْأَحَادِيثُ في الْبَابِ كَثِيرَةٌ
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ على فَرْضِيَّتِهَا
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ من
بَابِ إعَانَةِ الضَّعِيفِ وَإِغَاثَةِ اللَّهِيفِ وَإِقْدَارِ الْعَاجِزِ
وَتَقْوِيَتِهِ على أَدَاءِ ما افْتَرَضَ اللَّهُ عز وجل عليه من التَّوْحِيدِ
وَالْعِبَادَاتِ وَالْوَسِيلَةُ إلَى أَدَاءِ الْمَفْرُوضِ مَفْرُوضٌ
وَالثَّانِي أَنَّ الزَّكَاةَ تُطَهِّرُ نَفْسَ الْمُؤَدِّي عن أَنْجَاسِ
الذُّنُوبِ وَتُزَكِّي أَخْلَاقَهُ بِتَخَلُّقِ الْجُودُ وَالْكَرَمِ وَتَرْكِ
الشُّحِّ وَالضَّنِّ إذْ الْأَنْفُسُ مَجْبُولَةٌ على الضَّنِّ بِالْمَالِ
فَتَتَعَوَّدُ السَّمَاحَةَ وَتَرْتَاضُ لِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَإِيصَالِ
الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحَقِّيهَا وقد تَضَمَّنَ ذلك كُلَّهُ قَوْله تَعَالَى {
خُذْ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بها }
وَالثَّالِثُ إن اللَّهَ تَعَالَى قد أَنْعَمَ على الْأَغْنِيَاءِ وَفَضَّلَهُمْ
بِصُنُوفِ النِّعْمَةِ وَالْأَمْوَالِ الْفَاضِلَةِ عن الْحَوَائِجِ
الْأَصْلِيَّةِ وَخَصَّهُمْ بها فَيَتَنَعَّمُونَ وَيَسْتَمْتِعُونَ بِلَذِيذِ
الْعَيْشِ وَشُكْرُ النِّعْمَةِ فَرْضٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ
إلَى الْفَقِيرِ من بَابِ شُكْرِ النِّعْمَةِ فَكَانَ فَرْضًا
فَصْلٌ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ فَرْضِيَّتِهَا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيها ذَكَرَ
الْكَرْخِيُّ أنها على الْفَوْرِ وَذُكِرَ في الْمُنْتَقَى ما يَدُلُّ عليه فإنه
قال إذَا لم يُؤَدِّ الزَّكَاةَ حتى مَضَى حَوْلَانِ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَثِمَ ولم
يَحِلَّ له ما صَنَعَ وَعَلَيْهِ زَكَاةُ حَوْلٍ وَاحِدٍ وَعَنْ مُحَمَّدٍ إن من
لم يُؤَدِّ الزَّكَاةَ لم تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ وَرُوِيَ عنه أَنَّ التَّأْخِيرَ
لَا جوز ( ( ( يجوز ) ) ) وَهَذَا نَصٌّ على الْفَوْرِ وهو ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أنها على التَّرَاخِي وَاسْتَدَلَّ بِمَنْ عليه الزَّكَاةُ
إذَا هَلَكَ نِصَابُهُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ وَالتَّمَكُّنِ من الْأَدَاءِ
أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ وَلَوْ كانت وَاجِبَةً على الْفَوْرِ لَضَمِنَ كَمَنْ
أَخَّرَ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ عن وَقْتِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عليه الْقَضَاءُ
وَذَكَرَ أبو عبد اللَّهِ الثَّلْجِيُّ عن أَصْحَابِنَا أنها تَجِبُ وُجُوبًا
مُوَسَّعًا
وقال عَامَّةُ مَشَايِخِنَا أنها على سَبِيلِ التَّرَاخِي وَمَعْنَى التَّرَاخِي
عِنْدَهُمْ أنها تَجِبُ مُطْلَقًا عن الْوَقْتِ غير عَيْنٍ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ
أَدَّى يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ وَيَتَعَيَّنُ ذلك الْوَقْتُ لِلْوُجُوبِ
وإذا لم يُؤَدِّ إلَى آخِرِ عُمُرِهِ يَتَضَيَّقُ عليه الْوُجُوبُ بِأَنْ بَقِيَ
من الْوَقْتِ قَدْرُ ما يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ فيه وَغَلَبَ على ظَنِّهِ أَنَّهُ
لو لم يُؤَدِّ فيه يَمُوتُ فَيَفُوتُ فَعِنْدَ ذلك يَتَضَيَّقُ عليه الْوُجُوبُ
حتى أَنَّهُ لو لم يُؤَدِّ فيه حتى مَاتَ يَأْثَمُ
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ عن الْوَقْتِ هل يَقْتَضِي
وُجُوبَ الْفِعْلِ على الْفَوْرِ أَمْ على التَّرَاخِي كَالْأَمْرِ بِقَضَاءِ
صَوْمِ رَمَضَانَ وَالْأَمْرِ بِالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ
وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا
وقال إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ
أنه يَجِبُ تَحْصِيلُ لفعل ( ( ( الفعل ) ) ) على الْفَوْرِ وهو الْفِعْلُ في
أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ وَلَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا على طَرِيقِ
التَّعْيِينِ بَلْ مع الِاعْتِقَادِ الْمُبْهَمِ أَنَّ ما أَرَادَ اللَّهُ بِهِ من
الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي فَهُوَ حَقٌّ وَهَذِهِ من مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ
وَيَجُوزُ أَنْ تُبْنَى مَسْأَلَةُ هَلَاكِ النِّصَابِ على هذا الْأَصْلِ لِأَنَّ
الْوُجُوبَ لَمَّا كان على التَّرَاخِي عِنْدَنَا لم يَكُنْ بِتَأْخِيرِهِ
الْأَدَاءَ عن أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ مُفَرِّطًا فَلَا يَضْمَنُ
وَعِنْدَهُ لَمَّا كان الْوُجُوبُ على الْفَوْرِ صَارَ مُفَرِّطًا ( لِتَأْخِيرِهِ
) فَيُضْمَنُ وَيَجُوزُ
____________________
(2/3)
أَنْ
تُبْنَى على أَصْلٍ آخَرَ نَذْكُرُهُ في بَيَانِ صِفَةِ الْوَاجِبِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا سَبَبُ فَرْضِيَّتِهَا فَالْمَالُ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ شُكْرًا
لِنِعْمَةِ الْمَالِ وَلِذَا تُضَافُ إلَى الْمَالِ فَيُقَالُ زَكَاةُ الْمَالِ
وَالْإِضَافَةُ في مِثْلِ هذا يُرَادُ بها السَّبَبِيَّةُ كما يُقَالُ صَلَاةُ
الظُّهْرِ وَصَوْمُ الشَّهْرِ وَحَجُّ الْبَيْتِ وَنَحْوِ ذلك
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الْفَرْضِيَّةِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى من
عليه وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَالِ أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى من عليه
فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا منها إسْلَامُهُ حتى لَا تَجِبَ على الْكَافِرِ في حَقِّ
أَحْكَامِ الْآخِرَةِ عِنْدَنَا لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَالْكُفَّارُ غَيْرُ
مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ هو الصَّحِيحُ من مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا
خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَهِيَ من مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَأَمَّا في حَقِّ
أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَلَا خِلَافَ في أنها لَا تَجِبُ على الْكَافِرِ
الْأَصْلِيِّ حتى لَا يُخَاطَبَ بِالْأَدَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَالصَّوْمِ
وَالصَّلَاةِ وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا حتى إذَا مَضَى عليه
الْحَوْلُ وهو مُرْتَدٌّ فَلَا زَكَاةَ عليه حتى لَا يَجِبَ عليه أَدَاؤُهَا إذَا
أَسْلَمَ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ عليه في حَالِ الرِّدَّةِ وَيُخَاطَبُ بِأَدَائِهَا
بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الصَّلَاةُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْوُجُوبِ لِقُدْرَتِهِ على الْأَدَاءِ بِوَاسِطَةِ
الطَّهَارَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُخَاطَبَ الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ
بِالْأَدَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ عنه الْأَدَاءُ رَحْمَةً
عليه وَتَخْفِيفًا له وَالْمُرْتَدُّ لَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ لِأَنَّهُ
رَجَعَ بَعْدَ ما عَرَفَ مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ فَكَانَ كُفْرُهُ أَغْلَظُ فَلَا
يُلْحَقُ بِهِ
وَلَنَا قَوْلُ النبي الْإِسْلَامُ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ
عِبَادَةٌ وَالْكَافِرُ ليس من أَهْلِ الْعِبَادَةِ لِعَدَمِ شَرْطِ
الْأَهْلِيَّةِ وهو الْإِسْلَامُ فَلَا يَكُونُ من أَهْلِ وُجُوبِهَا كَالْكَافِرِ
الْأَصْلِيِّ
وَقَوْلُهُ إنه قَادِرٌ على الْأَدَاءِ بِتَقْدِيمِ شَرْطِهِ وهو الْإِيمَانُ
فَاسِدٌ لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَصْلٌ وَالْعِبَادَاتِ تَوَابِعُ له بِدَلِيلِ
أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ الْفِعْلُ عِبَادَةً بِدُونِهِ وَالْإِيمَانُ عِبَادَةٌ
بِنَفْسِهِ وَهَذِهِ آيَةُ التَّبَعِيَّةِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ
الْإِيمَانُ عن الْخَلَائِقِ بِحَالٍ من الْأَحْوَالِ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
مع ارْتِفَاعِ غَيْرِهِ من الْعِبَادَاتِ فَكَانَ هو عِبَادَةً بِنَفْسِهِ وَغَيْرُهُ
عِبَادَةً بِهِ فَكَانَ تَبَعًا له فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا
من الْعِبَادَاتِ بِنَاءً على تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ جَعَلَ التَّبَعَ مَتْبُوعًا
وَالْمَتْبُوعَ تَابِعًا وَهَذَا قَلْبُ الْحَقِيقَةِ وَتَغْيِيرُ الشَّرِيعَةِ
بِخِلَافِ الصَّلَاةِ مع الطَّهَارَةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَصْلٌ وَالطَّهَارَةَ
تَابِعَةٌ لها فَكَانَ إيجَابُ الْأَصْلِ إيجَابًا لِلتَّبَعِ وهو الْفَرْقُ
وَمِنْهَا الْعِلْمُ بِكَوْنِهَا فَرِيضَةً عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وَلَسْنَا نَعْنِي بِهِ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ بَلْ السَّبَبَ الْمُوصِلَ إلَيْهِ
وَعِنْدَ زُفَرَ ليس بِشَرْطٍ حتى إن الْحَرْبِيَّ لو أَسْلَمَ في دَارِ الْحَرْبِ
ولم يُهَاجِرْ إلَيْنَا وَمَكَثَ هُنَاكَ سِنِينَ وَلَهُ سَوَائِمُ وَلَا عِلْمَ
له بِالشَّرَائِعِ لَا يَجِبُ عليه زَكَاتُهَا حتى لَا يُخَاطَبَ بِأَدَائِهَا
إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وقد ذَكَرْنَا
الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ الصَّلَاةِ وَهَلْ تَجِبُ عليه إذَا بَلَّغَهُ رَجُلٌ
وَاحِدٌ في دَارِ الْحَرْبِ أو يُحْتَاجُ فيه إلَى الْعَدَدِ
وقد ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فيه في كِتَابِ الصَّلَاةِ
وَمِنْهَا الْبُلُوغُ عِنْدَنَا فَلَا تَجِبُ على الصَّبِيِّ وهو قَوْلُ عَلِيٍّ
وابن عَبَّاسٍ فَإِنَّهُمَا قَالَا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ على الصَّبِيِّ حتى
تَجِبَ عليه الصَّلَاةُ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ليس بِشَرْطٍ وَتَجِبُ الزَّكَاةُ في مَالِ الصَّبِيِّ
وَيُؤَدِّيهَا الْوَلِيُّ وهو قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما
وكان ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه يقول يُحْصِي الْوَلِيُّ أَعْوَامَ الْيَتِيمِ
فإذا بَلَغَ أخبره وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ لَكِنْ ليس لِلْوَلِيِّ
وِلَايَةُ الْأَدَاءِ وهو قَوْلُ ابن أبي لَيْلَى حتى قال لو أَدَّاهَا الْوَلِيُّ
من مَالِهِ ضُمِنَ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من بَنَى الْمَسْأَلَةَ على أَصْلٍ وهو
أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ عِنْدَنَا وَالصَّبِيُّ ليس من أَهْلِ وُجُوبِ
الْعِبَادَةِ فَلَا تَجِبُ عليه كما لَا يَجِبُ عليه الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَقُّ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ من أَهْلِ وُجُوبِ حُقُوقِ
الْعِبَادِ كَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَنَفَقَةِ
الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ وَالْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ ولئن
( ( ( ولإن ) ) ) كانت عِبَادَةً فَهِيَ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ تجري فيها
النِّيَابَةُ حتى تَتَأَدَّى بِأَدَاءِ الْوَكِيلِ وَالْوَلِيُّ نَائِبُ
الصَّبِيِّ فيها فَيَقُومُ مَقَامَهُ في إقَامَةِ هذا الْوَاجِبِ بِخِلَافِ
الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ لِأَنَّهَا لَا تَجْرِي فيها النِّيَابَةُ
وَمِنْهُمْ من تَكَلَّمَ فيها ابْتِدَاءً
أَمَّا الْكَلَامُ فيها على وَجْهِ الْبِنَاءِ فَوَجْهُ قَوْلِهِ النَّصُّ
وَدَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْحَقِيقَةُ أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {
إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ }
وَقَوْلُهُ عز وجل { في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ
} وَالْإِضَافَةُ بِحَرْفِ اللَّامِ تَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِجِهَةِ الْمِلْكِ
إذَا كان الْمُضَافُ إلَيْهِ من أَهْلِ الْمِلْكِ
وَأَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا على أَنَّ من عليه
الزَّكَاةُ إذَا وَهَبَ جَمِيعَ النِّصَابِ من الْفَقِيرِ ولم تَحْضُرْهُ
النِّيَّةُ تَسْقُطُ عنه الزَّكَاةُ وَالْعِبَادَةُ لَا تَتَأَدَّى بِدُونِ
النِّيَّةِ وَلِذَا يجري فيها الْجَبْرُ والاستخلاف ( ( ( والاستحلاف ) ) ) من
السَّاعِي
____________________
(2/4)
وَإِنَّمَا
يَجْرِيَانِ في حُقُوقِ الْعِبَادِ وَكَذَا يَصِحُّ تَوْكِيلُ الذِّمِّيِّ
بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالذِّمِّيُّ ليس من أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَأَمَّا
الْحَقِيقَةُ فإن الزَّكَاةَ تَمْلِيكُ الْمَالِ من الْفَقِيرِ وَالْمُنْتَفِعُ
بها هو الْفَقِيرُ فَكَانَتْ حَقَّ الْفَقِيرِ وَالصِّبَا لَا يَمْنَعُ حُقُوقَ
الْعِبَادِ على ما بَيَّنَّا
وَلَنَا قَوْلُ النبي بُنِيَ الْإِسْلَامُ على خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ
وَحَجِّ الْبَيْتِ من اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا وما بُنِيَ عليه الْإِسْلَامُ
يَكُونُ عِبَادَةً وَالْعِبَادَاتُ التي تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ تُقَدَّرُ في
الْجُمْلَةِ فَلَا تَجِبُ على الصِّبْيَانِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ من الصَّدَقَةِ الْمَذْكُورَةِ فيها مَحِلُّ
الصَّدَقَةِ وهو الْمَالُ لَا نَفْسُ الصَّدَقَةِ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِلْفِعْلِ وهو
إخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا
حَقُّ الْفَقِيرِ وَكَذَلِكَ الْحَقُّ الْمَذْكُورُ في الْآيَةِ الْأُخْرَى
الْمُرَادُ منه الْمَالُ وَذَا ليس بِزَكَاةٍ بَلْ هو مَحِلُّ الزَّكَاةِ
وَسُقُوطُ الزَّكَاةِ بِهِبَةِ النِّصَابِ من الْفَقِيرِ لِوُجُودِ النِّيَّةِ
دَلَالَةٌ وَالْجَبْرُ على الْأَدَاءِ لِيُؤَدِّيَ من عليه بِنَفْسِهِ لَا
يُنَافِي الْعِبَادَةَ حتى لو مَدَّ يَدَهُ وَأَخَذَهُ من غَيْرِ أَدَاءِ من عليه
لَا تَسْقُطُ عنه الزَّكَاةُ عِنْدَنَا وَجَرَيَانُ الِاسْتِخْلَافِ لِثُبُوتِ
وِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ لِلسَّاعِي لِيُؤَدِّيَ من عليه بِاخْتِيَارِهِ وَهَذَا
لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الزَّكَاةِ حَقَّ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا جَازَتْ بِأَدَاءِ
الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْمُؤَدِّي في الْحَقِيقَةِ هو الْمُوَكِّلُ وَالْخَرَاجُ ليس
بِعِبَادَةٍ بَلْ هو مُؤْنَةُ الْأَرْضِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مَمْنُوعَةٌ على
قَوْلِ حمد ( ( ( محمد ) ) ) وَأَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
فَلِأَنَّهَا مُؤْنَةٌ من وَجْهٍ قال النبي أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ فَتَجِبُ
بِوَصْفِ الْمُؤْنَةِ لَا بِوَصْفِ الْعِبَادَةِ وهو الْجَوَابُ عن الْعُشْرِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ في الْمَسْأَلَةِ على وَجْهِ الِابْتِدَاءِ فَالشَّافِعِيُّ
احْتَجَّ بِمَا روى عن النبي أَنَّهُ قال ابْتَغُوا في أَمْوَالِ الْيَتَامَى
خَيْرًا كيلا تَأْكُلَهَا الصَّدَقَةُ وَلَوْ لم تَجِبْ الزَّكَاةُ في مَالِ
الْيَتِيمِ ما كانت الصَّدَقَةُ تَأْكُلُهَا
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال من وَلِيَ يَتِيمًا فَلْيُؤَدِّ زَكَاةَ مَالِهِ
وَرُوِيَ من وَلِيَ يَتِيمًا فَلْيُزَكِّ مَالَهُ وَلِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ من
غَيْرِ فَصْلٍ بين الْبَالِغِينَ وَالصِّبْيَانِ وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ
الزَّكَاةِ مِلْكُ النِّصَابِ وقد وُجِدَ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فيه كَالْبَالِغِ
وَلَنَا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ على الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ مَرْفُوعُ
الْقَلَمِ بِالْحَدِيثِ وَلِأَنَّ إيجَابَ الزَّكَاةِ إيجَابُ الْفِعْلِ
وَإِيجَابُ الْفِعْلِ على الْعَاجِزِ عن الْفِعْلِ تَكْلِيفُ ما ليس في الْوُسْعِ
وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ على الْوَلِيِّ لِيُؤَدِّيَ من مَالِ الصَّبِيِّ
لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَنْهِيٌّ عن قُرْبَانِ مَالِ الْيَتِيمِ إلَّا على وَجْهِ
الْأَحْسَنِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ من مَالِهِ قُرْبَانُ
مَالِهِ لَا على وَجْهِ الْأَحْسَنِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْخِلَافِيَّاتِ
وَالْحَدِيثَانِ غَرِيبَانِ أو من الْآحَادِ فَلَا يُعَارِضَانِ الْكِتَابَ مع ما
أَنَّ اسْمَ الصَّدَقَةِ يُطْلَقُ على النَّفَقَةِ قال نَفَقَةُ الرَّجُلِ على
نَفْسِهِ صَدَقَةٌ وَعَلَى عِيَالِهِ صَدَقَةٌ وفي الحديث ما يَدُلُّ عليه
لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَكْلَ إلَى جَمِيعِ الْمَالِ وَالنَّفَقَةُ هِيَ التي
تَأْكُلُ الْجَمِيعَ لَا الزَّكَاةُ أو تُحْمَلُ الصَّدَقَةُ وَالزَّكَاةُ على
صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِأَنَّهَا تُسَمَّى زَكَاةً
وَأَمَّا قَوْلُهُ من وَلِيَ يَتِيمًا فَلْيُزَكِّ مَالَهُ أَيْ لِيَتَصَرَّفْ في
مَالِهِ كَيْ يَنْمُوَ مَالُهُ إذْ التَّزْكِيَةُ هِيَ التَّنْمِيَةُ تَوْفِيقًا
بين الدَّلَائِلِ وَعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ لَا تَتَنَاوَلُ الصِّبْيَانَ أو هِيَ
مَخْصُوصَةٌ فَتَخُصُّ الْمُتَنَازِعَ فيه بِمَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْعَقْلُ عِنْدَنَا فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ في مَالِ الْمَجْنُونِ
جُنُونًا أَصْلِيًّا وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْجُنُونَ نَوْعَانِ
أَصْلِيٌّ وطارىء ( ( ( وطارئ ) ) ) أَمَّا الْأَصْلِيُّ وهو أَنْ يَبْلُغَ
مَجْنُونًا فَلَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُمْنَعُ انْعِقَادُ الْحَوْلِ
على النِّصَابِ حتى لَا يَجِبَ عليه أَدَاءُ زَكَاةِ ما مَضَى من الْأَحْوَالِ
بَعْدَ الْإِفَاقَةِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْحَوْلِ من وَقْتِ
الْإِفَاقَةِ لِأَنَّهُ الْآنَ صَارَ أَهْلًا لَأَنْ يَنْعَقِدَ الْحَوْلُ على مَالِهِ
كَالصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه أَدَاءُ زَكَاةِ ما مَضَى من
زَمَانِ الصِّبَا وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْحَوْلِ على مَالِهِ من
وَقْتِ الْبُلُوغِ عِنْدَنَا كَذَا هذا وَلِهَذَا مُنِعَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ
وَالصَّوْمِ كَذَا الزَّكَاةَ
وَأَمَّا الْجُنُونُ الطارىء فَإِنْ دَامَ سَنَةً كَامِلَةً فَهُوَ في حُكْمِ
الْأَصْلِيِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ في حَقِّ الصَّوْمِ كَذَلِكَ كَذَا في حَقِّ
الزَّكَاةِ لِأَنَّ السَّنَةَ في الزَّكَاةِ كَالشَّهْرِ في الصَّوْمِ
وَالْجُنُونُ الْمُسْتَوْعِبُ لِلشَّهْرِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الصَّوْمِ
فَالْمُسْتَوْعِبُ لِلسَّنَةِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ وَلِهَذَا يَمْنَعُ
وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ فَكَذَا الزَّكَاةُ وَإِنْ كان في بَعْضِ السَّنَةِ
ثُمَّ أَفَاقَ رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في النَّوَادِرِ أَنَّهُ إنْ أَفَاقَ في شَيْءٍ
من السَّنَةِ وَإِنْ كان سَاعَةً من الْحَوْلِ من أَوَّلِهِ أو وَسَطِهِ أو
آخِرِهِ تَجِبُ زَكَاةُ ذلك الْحَوْلِ وهو رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عن أبي
يُوسُفَ أَيْضًا
وَرَوَى هِشَامٌ عنه أَنَّهُ قال إنْ أَفَاقَ أَكْثَرَ السَّنَةِ وَجَبَتْ وَإِلَّا
فَلَا
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إذَا كان في أَكْثَرُ السَّنَةِ مُفِيقًا
فَكَأَنَّهُ كان مُفِيقًا في جَمِيعِ السَّنَةِ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ
الْكُلِّ في كَثِيرٍ من الْأَحْكَامِ خُصُوصًا فِيمَا يُحْتَاطُ فيه
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ هو اعْتِبَارُ
____________________
(2/5)
الزَّكَاةِ
بِالصَّوْمِ وهو اعْتِبَارٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ السَّنَةَ لِلزَّكَاةِ كَالشَّهْرِ
لِلصَّوْمِ ثُمَّ الْإِفَاقَةُ في جُزْءٍ من الشَّهْرِ يَكْفِي لِوُجُوبِ صَوْمِ
الشَّهْرِ كَذَا الْإِفَاقَةُ في جُزْءٍ من السَّنَةِ تَكْفِي لِانْعِقَادِ
الْحَوْلِ على الْمَالِ
وَأَمَّا الذي يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَهُوَ كَالصَّحِيحِ وهو بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ
وَالْمُغْمَى عليه
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ لِأَنَّ الْمِلْكَ من شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لِمَا
نَذْكُرُ وَالْمَمْلُوكُ لَا مِلْكَ له حتى لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ على الْعَبْدِ
وَإِنْ كان مَأْذُونًا له في التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ إنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ
فَكَسْبُهُ لِمَوْلَاهُ وَعَلَى الْمَوْلَى زَكَاتُهُ وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ
مُحِيطٌ بِكَسْبِهِ فَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ
الْمَدْيُونِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلَا زَكَاةَ فيه على أَحَدٍ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ كان يَمْلِكُهُ لَكِنَّهُ مَشْغُولٌ
بِالدَّيْنِ وَالْمَالُ الْمَشْغُولُ بِالدَّيْنِ لَا يَكُونُ مَالَ الزَّكَاةِ
وَكَذَا الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لَا زَكَاةَ على
الْمُكَاتَبِ في كَسْبِهِ لِأَنَّهُ ليس مِلْكَهُ حَقِيقَةً لِقِيَامِ الرِّقِّ
فيه بِشَهَادَةِ النبي الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ وَالْعَبْدُ
اسْمٌ لِلْمَرْقُوقِ وَالرِّقُّ يُنَافِي الْمِلْكَ
وَأَمَّا الْمُسْتَسْعَى فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُكَاتَبِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا هو حُرٌّ مَدْيُونٌ فَيَنْظُرُ إنْ كان فَضَلَ عن سِعَايَتِهِ ما
يَبْلُغُ نِصَابًا تَجِبُ الزَّكَاةُ عليه وَإِلَّا فَلَا
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ عليه دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ من جِهَةِ الْعِبَادِ
عِنْدَنَا فَإِنْ كان فإنه يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ بِقَدْرِهِ حَالًّا كان أو
مُؤَجَّلًا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هذا ليس بِشَرْطٍ وَالدَّيْنُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ
الزَّكَاةِ كَيْفَمَا كان احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ من
غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِلْكُ النِّصَابِ وَشَرْطُهُ
أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا لِلتِّجَارَةِ أو لِلْإِسَامَةِ وقد وُجِدَ أَمَّا
الْمِلْكُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ مَالِكٌ لِمَالِهِ لِأَنَّ دَيْنَ
الْحُرِّ الصَّحِيحِ يَجِبُ في ذِمَّتِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ وَلِهَذَا
يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيه كَيْفَ شَاءَ وَأَمَّا الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ أو
الْإِسَامَةِ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يُنَافِي ذلك وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ (
لَا يَمْنَعُ ) وُجُوبَ الْعُشْرِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ خَطَبَ في شَهْرِ رَمَضَانَ
وقال في خُطْبَتِهِ أَلَا إنَّ شَهْرَ زَكَاتِكُمْ قد حَضَرَ فَمَنْ كان له مَالٌ
وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَحْسِبْ مَالَهُ بِمَا عليه ثُمَّ لِيُزَكِّ بَقِيَّةَ
مَالِهِ وكان بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ منهم فَكَانَ
ذلك إجْمَاعًا منهم على أَنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ في الْقَدْرِ الْمَشْغُولِ
بِالدَّيْنِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَالَ الْمَدْيُونِ خَارِجٌ عن عُمُومَاتِ
الزَّكَاةِ وَلِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى هذا الْمَالِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً لِأَنَّ
قَضَاءَ الدَّيْنِ من الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْمَالُ الْمُحْتَاجُ
إلَيْهِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً لَا يَكُونُ مَالَ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ لَا
يَتَحَقَّقُ بِهِ الغني وَلَا صَدَقَةَ إلَّا عن ظَهْرِ غِنًى على لِسَانِ رسول
اللَّهِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ أَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ الْوُجُوبِ
وَشَرْطَهُ لِأَنَّ صِفَةَ الْغِنَى مع ذلك شَرْطٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ مع الدَّيْنِ
مع ما أَنَّ مِلْكَهُ في النِّصَابِ نَاقِصٌ بِدَلِيلِ أَنَّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ
إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ أَنْ يأخذ ( ( ( يأخذه ) ) ) من غَيْرِ قَضَاءٍ
وَلَا رضاء ( ( ( إرضاء ) ) )
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ له ذلك في الْجِنْسِ وَخِلَافِ الْجِنْسِ وَذَا آيَةُ
عَدَمِ الْمِلْكِ كما في الْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ فَلَأَنْ يَكُونَ دَلِيلَ
نُقْصَانِ الْمِلْكِ أَوْلَى
وَأَمَّا الْعُشْرُ فَقَدْ رَوَى ابن الْمُبَارَكِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ
الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعُشْرِ فَيُمْنَعُ على هذه الرِّوَايَةِ وَأَمَّا
على ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلِأَنَّ الْعُشْرَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ
كَالْخَرَاجِ فَلَا يُعْتَبَرُ فيه غِنَى الْمَالِكِ وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فيه
أَصْلُ الْمِلْكِ عِنْدَنَا حتى يَجِبَ في الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةِ وَأَرْضِ
الْمُكَاتَبِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فإنه لَا بُدَّ فيها من غِنَى الْمَالِكِ
وَالْغِنَى لَا يُجَامِعُ الدَّيْنَ وَعَلَى هذا يُخْرَجُ مَهْرُ الْمَرْأَةِ فإنه
يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عِنْدَنَا مُعَجَّلًا كان أو مُؤَجَّلًا لِأَنَّهَا
إذَا طَالَبَتْهُ يُؤَاخَذُ بِهِ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ الْمُؤَجَّلَ لَا يَمْنَعُ لِأَنَّهُ غَيْرُ
مُطَالَبٍ بِهِ عَادَةً فَأَمَّا الْمُعَجَّلُ فَيُطَالَبُ بِهِ عَادَةً
فَيَمْنَعُ وقال بَعْضُهُمْ إنْ كان الزَّوْجُ على عَزْمٍ من قَضَائِهِ يَمْنَعُ
وَإِنْ لم يَكُنْ على عَزْمِ الْقَضَاءِ لَا يَمْنَعُ لِأَنَّهُ لَا يَعُدُّهُ
دَيْنًا وَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ الْمَرْءُ بِمَا عِنْدَهُ في الْأَحْكَامِ
وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أبو بَكْرٍ محمد بن الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ في
الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ التي تَعَارَفَهَا أَهْلُ بُخَارَى أَنَّ الزَّكَاةَ في
الْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ تَجِبُ على الْآجِرِ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ قبل الْفَسْخِ
وَإِنْ كان يَلْحَقُهُ دَيْنٌ بَعْدَ الْحَوْلِ بِالْفَسْخِ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا أنه يَجِبُ على الْمُسْتَأْجَرِ أَيْضًا لِأَنَّهُ
يَعُدُّ ذلك مَالًا مَوْضُوعًا عِنْدَ الْآجِرِ وَقَالُوا في الْبَيْعِ الذي
اعْتَادَهُ أَهْلُ سَمَرْقَنْدَ وهو بَيْعُ الْوَفَاءِ إنَّ الزَّكَاةَ على
الْبَائِعِ في ثَمَنِهِ إنْ بَقِيَ حَوْلًا لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَبَعْضُ
مَشَايِخِنَا قالوا يَجِبُ أَنْ يُلْزَمَ الْمُشْتَرِي أَيْضًا لِأَنَّهُ
يَعُدُّهُ مَالًا مَوْضُوعًا عِنْدَ الْبَائِعِ فَيُؤَاخَذُ ( بِمَا عِنْدَهُ )
وَقَالُوا فِيمَنْ ضَمِنَ الدَّرَكَ فَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ أنه إنْ كان في
الْحَوْلِ يَمْنَعُ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَارَنَ الْمُوجِبَ فَيُمْنَعُ الْوُجُوبُ
فَأَمَّا إذَا اسْتَحَقَّ بَعْدَ الْحَوْلِ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ لِأَنَّهُ
دَيْنٌ حَادِثٌ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُقْتَصِرٌ على حَالَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ
كان الضَّمَانُ سَبَبًا حتى
____________________
(2/6)
اُعْتُبِرَ
من جَمِيعِ الْمَالِ وإذا اقْتَصَرَ وُجُوبُ الدَّيْنِ لم يَمْنَعْ وُجُوبَ
الزَّكَاةِ قَبْلَهُ
وَأَمَّا نَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ فما لم يَصِرْ دَيْنًا إمَّا بِفَرْضِ الْقَاضِي
أو بِالتَّرَاضِي لَا يَمْنَعُ لِأَنَّهَا تَجِبُ شيئا فَشَيْئًا فَتَسْقُطُ إذَا
لم يُوجَدْ قَضَاءُ الْقَاضِي أو التَّرَاضِي وَتَمْنَعُ إذَا فُرِضَتْ بِقَضَاءِ
الْقَاضِي أو بِالتَّرَاضِي لِصَيْرُورَتِهِ دَيْنًا وَكَذَا نَفَقَةُ الْمَحَارِمِ
تَمْنَعُ إذَا فَرَضَهَا الْقَاضِي في مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ نحو ما دُونَ الشَّهْرِ
فَتَصِيرُ دَيْنًا فَأَمَّا إذَا كانت الْمُدَّةُ طَوِيلَةً فَلَا تَصِيرُ دَيْنًا
بَلْ تَسْقُطُ لِأَنَّهَا صِلَةٌ مَحْضَةٌ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ إلَّا
أَنَّ الْقَاضِي يَضْطَرُّ إلَى الْفَرْضِ في الْجُمْلَةِ في نَفَقَةِ
الْمَحَارِمِ أَيْضًا لَكِنَّ الضَّرُورَةَ تَرْتَفِعُ بِأَدْنَى الْمُدَّةِ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ نَفَقَةَ الْمَحَارِمِ تَصِيرُ دَيْنًا أَيْضًا
بِالتَّرَاضِي في الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ
وَقَالُوا دَيْنُ الْخَرَاجِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ
بِهِ وَكَذَا إذَا صَارَ الْعُشْرُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ بِأَنْ أَتْلَفَ
الطَّعَامَ الْعُشْرِيَّ صَاحِبُهُ
فَأَمَّا وُجُوبُ الْعُشْرِ فَلَا يَمْنَعُ لِأَنَّهُ مُتَعَلَّقٌ بِالطَّعَامِ
يَبْقَى بِبَقَائِهِ وَيَهْلِكُ بِهَلَاكِهِ وَالطَّعَامُ ليس مَالَ التِّجَارَةِ
حتى يَصِيرَ مُسْتَحَقًّا بِالدَّيْنِ
وَأَمَّا الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ في النِّصَابِ أو دَيْنِ الزَّكَاةِ بِأَنْ
أُتْلِفَ مَالُ الزَّكَاةِ حتى انْتَقَلَ من الْعَيْنِ إلَى الذِّمَّةِ فَكُلُّ
ذلك يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ سَوَاءٌ كان
في الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ أو الْبَاطِنَةِ
وقال زُفَرُ لَا يَمْنَعُ كِلَاهُمَا
وقال أبو يُوسُفَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ في النِّصَابِ يَمْنَعُ فَأَمَّا دَيْنُ
الزَّكَاةِ فَلَا يَمْنَعُ هَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ قَوْلَ زُفَرَ ولم
يَفْصِلْ بين الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ هذا مَذْهَبُهُ في
الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ من الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ
وَوَجْهُ هذا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ الْبَاطِنَةَ لَا يُطَالَبُ
الْإِمَامُ بِزَكَاتِهَا فلم يَكُنْ لِزَكَاتِهَا مُطَالِبٌ من جِهَةِ الْعِبَادِ
سَوَاءٌ كانت في الْعَيْنِ أو في الذِّمَّةِ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ
كَدُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى من الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا بِخِلَافِ
الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُطَالَبُ بِزَكَاتِهَا
وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ فَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ قُرْبَةٌ فَلَا
يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَدَيْنِ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ
وَلِأَبِي يُوسُفَ الْفَرْقُ بين وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَبَيْنَ دَيْنِهَا هو أَنَّ
دَيْنَ الزَّكَاةِ في الذِّمَّةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّصَابِ فَلَا يَمْنَعُ
الْوُجُوبَ كَدَيْنِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَأَمَّا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فَمُتَعَلِّقٌ
بِالنِّصَابِ إذْ الْوَاجِبُ جُزْءٌ من النِّصَابِ وَاسْتِحْقَاقُ جُزْءٍ من
النِّصَابِ يُوجِبُ النِّصَابَ إذْ الْمُسْتَحَقُّ كَالْمَصْرُوفِ
وَحُكِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي يُوسُفَ ما حُجَّتُكَ على زُفَرَ فقال ما حُجَّتِي
على من يُوجِبُ في مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَالْأَمْرُ على
ما قَالَهُ أبو يُوسُفَ لِأَنَّهُ إذَا كان له مِائَتَا دِرْهَمٍ فلم يُؤَدِّ
زَكَاتَهَا سِنِينَ كَثِيرَةً يُؤَدِّي إلَى إيجَابِ الزَّكَاةِ في الْمَالِ
أَكْثَرَ منه بِأَضْعَافِهِ وأنه قَبِيحٌ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ
كُلَّ ذلك دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ من جِهَةِ الْعِبَادِ
أَمَّا زَكَاةُ السَّوَائِمِ فَلِأَنَّهَا يُطَالَبُ بها من جِهَةِ السُّلْطَانِ
عَيْنًا كان أو دَيْنًا وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُ إذَا أَنْكَرَ الْحَوْلَ أو
أَنْكَرَ كَوْنَهُ لِلتِّجَارَةِ أو ما أَشْبَهَ ذلك فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ دُيُونِ
الْعِبَادِ
وَأَمَّا زَكَاةُ التِّجَارَةِ فَمُطَالَبٌ بها أَيْضًا تَقْدِيرًا لِأَنَّ حَقَّ
الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ وكان يَأْخُذُهَا رسول اللَّهِ وأبو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي
الله عنهما إلَى زَمَنِ عُثْمَانَ رضي الله عنه فلما كَثُرَتْ الْأَمْوَالُ في
زَمَانِهِ وَعَلِمَ أَنَّ في تَتَبُّعِهَا زِيَادَةُ ضَرَرٍ بِأَرْبَابِهَا رَأَى
الْمَصْلَحَةَ في أَنْ يُفَوِّضَ الْأَدَاءَ إلَى أَرْبَابِهَا بِإِجْمَاعِ
الصَّحَابَةِ فَصَارَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ كَالْوُكَلَاءِ عن الْإِمَامِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قال من كان عليه دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ وليزك ( ( ( وليترك ) )
) ما بَقِيَ من مَالِهِ فَهَذَا تَوْكِيلٌ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بِإِخْرَاجِ
الزَّكَاةِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الْإِمَامِ عن الْأَخْذِ
وَلِهَذَا قال أَصْحَابُنَا إنَّ الْإِمَامَ إذَا عَلِمَ من أَهْلِ بَلْدَةٍ
أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ من الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ فإنه
يُطَالِبُهُمْ بها لَكِنْ إذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِنَفْسِهِ من
غَيْرِ تُهْمَةِ التَّرْكِ من أَرْبَابِهَا ليس له ذلك لِمَا فيه من مُخَالِفَةِ
إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّهُ إذَا كان لِرَجُلٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ أو عشرون ( ( ( عشرين
) ) ) مِثْقَالٍ ذَهَبٍ فلم يُؤَدِّ زَكَاتَهُ سَنَتَيْنِ يُزَكِّي السَّنَةَ
الْأُولَى وَلَيْسَ عليه لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ شَيْءٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ يُؤَدِّي زَكَاةَ سَنَتَيْنِ وَكَذَا هذا في مَالِ التِّجَارَةِ
وَكَذَا في السَّوَائِمِ إذَا كان له خَمْسٌ من الْإِبِلِ السَّائِمَةِ مَضَى
عليها سَنَتَانِ ولم يُؤَدِّ زَكَاتَهَا أَنَّهُ يُؤَدِّي زَكَاةَ السَّنَةِ
الْأُولَى وَذَلِكَ شَاةٌ وَلَا شَيْءَ عليه لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَلَوْ كانت
عَشْرًا وَحَالَ عليها حَوْلَانِ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى شَاتَانِ
وَلِلثَّانِيَةِ شَاةٌ وَلَوْ كانت الْإِبِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ يَجِبُ
لِلسَّنَةِ الْأُولَى بِنْتُ مَخَاضٍ وَلِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَرْبَعُ شِيَاهٍ
وَلَوْ كان له ثَلَاثُونَ من الْبَقَرِ السَّوَائِمِ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى
تَبِيعٌ أو تَبِيعَةٌ وَلَا شَيْءَ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَة وَإِنْ كانت
أَرْبَعِينَ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى مُسِنَّةٌ وَلِلثَّانِيَةِ تَبِيعٌ أو
تَبِيعَةٌ وَإِنْ كان له أَرْبَعُونَ من الْغَنَمِ عليه لِلسَّنَةِ الْأُولَى
شَاةٌ وَلَا شَيْءَ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَإِنْ كانت مِائَةً
____________________
(2/7)
وَإِحْدَى
وَعِشْرِينَ عليه لِلسَّنَةِ الْأُولَى شَاتَانِ وَلِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ شَاةٌ
وَلَوْ لَحِقَهُ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ من جِهَةِ الْعِبَادِ في خِلَالِ الْحَوْلِ
هل يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ
قال أبو يُوسُفَ لَا يَنْقَطِعُ حتى إذَا سَقَطَ بِالْقَضَاءِ أو بِالْإِبْرَاءِ
قبل تَمَامِ الْحَوْلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ إذَا تَمَّ الْحَوْلُ
وقال زُفَرُ يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ بِلُحُوقِ الدَّيْنِ وَالْمَسْأَلَةُ
مَبْنِيَّةٌ على نُقْصَانِ النِّصَابِ في خِلَالِ الْحَوْلِ لِأَنَّ بِالدَّيْنِ
يَنْعَدِمُ كَوْنُ الْمَالِ فَاضِلًا عن الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَتَنْعَدِمُ
صِفَةُ الْغِنَى في الْمَالِكِ فَكَانَ نَظِيرَ نُقْصَانِ النِّصَابِ في أَثْنَاءِ
الْحَوْلِ وَعِنْدَنَا نُقْصَانُ النِّصَابِ في خِلَالِ الْحَوْلِ لَا يَقْطَعُ
الْحَوْلَ وَعِنْدَ زُفَرَ يَقْطَعُ على ما نَذْكُرُ فَهَذَا مِثْلُهُ
وَأَمَّا الدُّيُونُ التي لَا مَطَالِبَ لها من جِهَةِ الْعِبَادَاتِ كَالنُّذُورِ
وَالْكَفَّارَاتِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَوُجُوبِ الْحَجِّ وَنَحْوِهَا لَا
يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ لِأَنَّ أَثَرَهَا في حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وهو
الثَّوَابُ بِالْأَدَاءِ وَالْإِثْمُ بِالتَّرْكِ فَأَمَّا لَا أَثَرَ له في
أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ وَلَا يُحْبَسُ فَلَا
يَظْهَرُ في حَقِّ حُكْمٍ من أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَكَانَتْ مُلْحَقَةً
بِالْعَدَمِ في حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا
ثُمَّ إذَا كان على الرَّجُلِ دَيْنٌ وَلَهُ مَالُ الزَّكَاةِ وَغَيْرُهُ من
عَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَدُورِ السُّكْنَى فإن الدَّيْنَ
يُصْرَفُ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كان من جِنْسِ الدَّيْنِ أو لَا
وَلَا يُصْرَفُ إلَى غَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ وَإِنْ كان من جِنْسِ الدَّيْنِ
وقال زُفَرُ يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى الْجِنْسِ وَإِنْ لم يَكُنْ مَالَ الزَّكَاةِ
حتى أَنَّهُ لو تَزَوَّجَ امْرَأَةً على خَادِمٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَلَهُ
مِائَتَا دِرْهَمٍ وَخَادِمٌ فَدَيْنُ الْمَهْرِ يُصْرَفُ إلَى الْمِائَتَيْنِ
دُونَ الْخَادِمِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُصْرَفُ إلَى الْخَادِمِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ من الْجِنْس أَيْسَرُ فَكَانَ
الصَّرْفُ إلَيْهِ أَوْلَى
وَلَنَا أَنَّ عَيْنَ مَالِ الزَّكَاةِ مُسْتَحَقٌّ كَسَائِرِ الْحَوَائِجِ
وَمَالُ الزَّكَاةِ فَاضِلٌ عنها فَكَانَ الصَّرْفُ إلَيْهِ أَيْسَرُ وَأَنْظُرُ
بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَلِهَذَا لَا يُصْرَفُ إلَى ثِيَابِ بَدَنِهِ وَقُوتِهِ
وَقُوتِ عِيَالِهِ وَإِنْ كان من جِنْسِ الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ أَرَأَيْتَ لو تَصَدَّقَ عليه لم يَكُنْ مَوْضِعًا
لِلصَّدَقَةِ وَمَعْنَى هذا الْكَلَامِ إن مَالَ الزَّكَاةِ مَشْغُولٌ بِحَاجَةِ
الدَّيْنِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ وَمِلْكُ الدَّارِ وَالْخَادِمِ لَا
يُحَرِّمُ عليه أَخْذَ الصَّدَقَةِ فَكَانَ فَقِيرًا وَلَا زَكَاةَ على الْفَقِيرِ
وَلَوْ كان في يَدِهِ من أَمْوَالِ الزَّكَاةِ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ من
الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَالسَّوَائِمِ فإنه
يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ
دُونَ السَّوَائِمِ لِأَنَّ زَكَاةَ هذه الْجُمْلَةِ يُؤَدِّيهَا أَرْبَابُ
الْأَمْوَالِ وَزَكَاةُ السَّوَائِمِ يَأْخُذُهَا الْإِمَامُ وَرُبَّمَا
يُقَصِّرُونَ في الصَّرْفِ إلَى الْفُقَرَاءِ ضَنًّا بمالهم فَكَانَ صَرْفُ
الدَّيْنِ إلَى الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ لِيَأْخُذَ السُّلْطَانُ زَكَاةَ
السَّوَائِمِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ وَهَذَا أَيْضًا عِنْدَنَا
وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى الْجِنْسِ وَإِنْ كان من
السَّوَائِمِ حتى إنَّ من تَزَوَّجَ امْرَأَةً على خَمْسٍ من الْإِبِلِ
السَّائِمَةِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا وَلَهُ أَمْوَالُ التِّجَارَةِ وَإِبِلٌ
سَائِمَةٌ فإن عِنْدَهُ يُصْرَفُ الْمَهْرُ إلَى الْإِبِلِ وَعِنْدَنَا يُصْرَفُ
إلَى مَالِ التِّجَارَةِ لِمَا مَرَّ
وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ هذا إذَا حَضَرَ الْمُصَدِّقُ
فَإِنْ لم يَحْضُرْ فَالْخِيَارُ لِصَاحِبِ الْمَالِ إنْ شَاءَ صَرَفَ الدَّيْنَ
إلَى السَّائِمَةِ وَأَدَّى الزَّكَاةَ من الدَّرَاهِمِ وَإِنْ شَاءَ صَرَفَ
الدَّيْنَ إلَى الدَّرَاهِمِ وَأَدَّى الزَّكَاةَ من السَّائِمَةِ لِأَنَّ في
حَقِّ صَاحِبِ الْمَالِ هُمَا سَوَاءٌ لَا يُخْتَلَفُ وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ في
حَقِّ الْمُصْدِقِ فإن له وِلَايَةَ أَخْذِ الزَّكَاةِ من السَّائِمَةِ دُونَ
الدَّرَاهِمِ فَلِهَذَا إذَا حَضَرَ صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى الدَّرَاهِمِ وَأَخَذَ
الزَّكَاةَ من السَّائِمَةِ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ له مَالُ الزَّكَاةِ سِوَى
السَّوَائِمِ فإن الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَيْهَا وَلَا يُصْرَفُ إلَى أَمْوَالِ
الْبِذْلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ يَنْظُرُ إنْ كان له أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ من
السَّوَائِمِ فإن الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَى أَقَلِّهَا زَكَاةً حتى يَجِبَ
الْأَكْثَرُ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ بِأَنْ كان له خَمْسٌ من الْإِبِلِ
وَثَلَاثُونَ من الْبَقَرِ
____________________
(2/8)
وَأَرْبَعُونَ
شَاةً فإن الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَى الْإِبِلِ أو الْغَنَمِ دُونَ الْبَقَرِ حتى
يَجِبَ التَّبِيعُ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ قِيمَةً من الشَّاةِ وَهَذَا إذَا صُرِفَ
الدَّيْنُ إلَى الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ بِحَيْثُ لَا يَفْضُلُ شَيْءٌ منه فَأَمَّا
إذَا اسْتَغْرَقَ أَحَدُهُمَا وَفَضَلَ منه شَيْءٌ وَإِنْ صُرِفَ إلَى الْبَقَرِ
لَا يَفْضُلُ منه شَيْءٌ فإنه يُصْرَفُ إلَى الْبَقَرِ لِأَنَّهُ إذَا فَضَلَ
شَيْءٌ منه يُصْرَفُ إلَى الْغَنَمِ فَانْتَقَصَ النِّصَابُ بِسَبَبِ الدَّيْنِ
فَامْتَنَعَ وُجُوبُ شَاتَيْنِ وَلَوْ صُرِفَ إلَى الْبَقَرِ وَامْتَنَعَ وُجُوبُ
التَّبِيعِ تَجِبُ الشَّاتَانِ لِأَنَّهُ لو صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى الْغَنَمِ
يَبْقَى نِصَابُ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ كَامِلًا وَالتَّبِيعُ أَقَلُّ قِيمَةً من
شَاتَيْنِ
وَلَوْ لم يَكُنْ له إلَّا الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ ذَكَرَ في الْجَامِعِ أَنَّ
لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَصْرِفَ الدَّيْنَ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ
لِاسْتِوَائِهِمَا في قَدْرِ الْوَاجِبِ وهو الشَّاةُ وَذَكَرَ في نَوَادِرِ
الزَّكَاةِ أَنَّ لِلْمُصْدِقِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّكَاةَ من الْإِبِلِ دُونَ
الْغَنَمِ لِأَنَّ الشَّاةَ الْوَاجِبَةَ في الْإِبِلِ لَيْسَتْ من نَفْسِ
النِّصَابِ فَلَا يَنْتَقِصُ النِّصَابُ بِأَخْذِهَا وَلَوْ صُرِفَ الدَّيْنُ إلَى
الْإِبِلِ يَأْخُذُ الشَّاةَ من الْأَرْبَعِينَ فَيَنْتَقِصُ النِّصَابُ فَكَانَ
هذا أَنْفَعَ لِلْفُقَرَاءِ وَلَوْ كان له خَمْسٌ وَعِشْرُونَ من الْإِبِلِ
وَثَلَاثُونَ بَقَرًا وَأَرْبَعُونَ شَاةً فَإِنْ كان الدَّيْنُ لَا يَفْضُلُ عن
الْغَنَمِ يُصْرَفُ إلَى الشَّاةِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ زَكَاةً فَإِنْ فَضَلَ منه
يُنْظَرُ إنْ كان بِنْتُ مَخَاضٍ وَسَطٍ أَقَلَّ قِيمَةً من الشَّاةِ وَتَبِيعٌ
وَسْطٌ يُصْرَفُ إلَى الْإِبِلِ وَإِنْ كان أَكْثَرَ قِيمَةً منها يُصْرَفُ إلَى
الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ لِأَنَّ هذا أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ فَالْمَدَارُ على هذا
الْحَرْفِ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ له مَالٌ لِلزَّكَاةِ فإنه يُصْرَفُ الدَّيْنُ
إلَى عُرُوضِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ أَوَّلًا ثُمَّ إلَى الْعَقَارِ لِأَنَّ
الْمِلْكَ مِمَّا يُسْتَحْدَثُ في الْعُرُوضِ سَاعَةً فَسَاعَةً فَأَمَّا
الْعَقَارُ فَمِمَّا لَا يُسْتَحْدَثُ فيه الْمِلْكُ غَالِبًا فَكَانَ فيه
مُرَاعَاةُ النَّظَرِ لَهُمَا جميعا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ التي تَرْجِعُ إلَى الْمَالِ فَمِنْهَا الْمِلْكُ
فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ في سَوَائِمِ الْوَقْفِ وَالْخَيْلِ الْمُسَبَّلَةِ
لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَهَذَا لِأَنَّ في الزَّكَاةِ تَمْلِيكًا وَالتَّمْلِيكُ في
غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يُتَصَوَّرُ وإلا تَجِبُ الزَّكَاةُ في الْمَالِ الذي
اسْتَوْلَى عليه الْعَدُوُّ وَأَحْرَزُوهُ بديارهم ( ( ( بدراهم ) ) ) عِنْدَنَا
لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ عِنْدَنَا فَزَالَ مِلْكُ الْمُسْلِمِ عنها
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِ بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ
وَالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ قَائِمٌ وَإِنْ زَالَتْ يَدُهُ عنه وَالزَّكَاةُ
وَظِيفَةُ الْمِلْكِ عِنْدَهُ
وَمِنْهَا الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ وهو أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا له رَقَبَةً وَيَدًا
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ الْيَدُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ
وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ في الْمَالِ الضِّمَارِ
عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُمَا
وَتَفْسِيرُ مَالِ الضِّمَارِ هو كُلُّ مَالٍ غَيْرُ مَقْدُورٍ الِانْتِفَاعُ بِهِ
مع قِيَامِ أَصْلِ الْمِلْكِ كَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالضَّالِّ وَالْمَالِ
الْمَفْقُودِ وَالْمَالِ السَّاقِطِ في الْبَحْرِ وَالْمَالِ الذي أَخَذَهُ
السُّلْطَانُ مُصَادَرَةً وَالدَّيْنِ الْمَجْحُودِ إذَا لم يَكُنْ لِلْمَالِكِ
بَيِّنَةٌ وَحَالَ الْحَوْلُ ثُمَّ صَارَ له بَيِّنَةٌ بِأَنْ أَقَرَّ عِنْدَ
الناس وَالْمَالِ الْمَدْفُونِ في الصَّحْرَاءِ إذَا خَفِيَ على الْمَالِكِ
مَكَانُهُ فَإِنْ كان مَدْفُونًا في الْبَيْتِ تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ
بِالْإِجْمَاعِ
وفي الْمَدْفُونِ في الْكَرْمِ وَالدَّارِ الْكَبِيرَةِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ
احتجا ( ( ( احتجاجا ) ) ) بِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ من غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّ
وُجُوبَ الزَّكَاةِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ دُونَ الْيَدِ بِدَلِيلِ ابْنِ
السَّبِيلِ فإنه تَجِبُ الزَّكَاةُ في مَالِهِ وَإِنْ كانت يَدُهُ فَائِتَةً
لِقِيَامِ مِلْكِهِ
وَتَجِبُ الزَّكَاةُ في الدَّيْنِ مع عَدَمِ الْقَبْضِ وَتَجِبُ في الْمَدْفُونِ
في الْبَيْتِ فَثَبَتَ أَنَّ الزَّكَاةَ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ
مَوْجُودٌ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فيه إلَّا أَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ
لِلْحَالِ لِعَجْزِهِ عن الْأَدَاءِ لِبُعْدِ يَدِهِ عنه وَهَذَا لَا يَنْفِي
الْوُجُوبَ كما في ابْنِ السَّبِيلِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه مَوْقُوفًا عليه وَمَرْفُوعًا إلَى
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا زَكَاةَ في مَالِ الضِّمَارِ
وهو الْمَالُ الذي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مع قِيَامِ الْمِلْكِ مَأْخُوذٌ من
الْبَعِيرِ الضَّامِرِ الذي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لِشِدَّةِ هُزَالِهِ مع كَوْنِهِ
حَيًّا وَهَذِهِ الْأَمْوَالُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بها في حَقِّ الْمَالِكِ لِعَدَمِ
وُصُولِ يَدِهِ إلَيْهَا فَكَانَتْ ضِمَارًا وَلِأَنَّ الْمَالَ إذَا لم يَكُنْ
مَقْدُورَ الِانْتِفَاعِ بِهِ في حَقِّ الْمَالِكِ لَا يَكُونُ الْمَالِكُ بِهِ
غَنِيًّا وَلَا زَكَاةَ على غَيْرِ الغني بِالْحَدِيثِ الذي رَوَيْنَا وَمَالُ ابن
السَّبِيلِ مَقْدُورُ الِانْتِفَاعِ بِهِ في حَقِّهِ بِيَدِ نَائِبِهِ وَكَذَا
الْمَدْفُونُ في الْبَيْتِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِالنَّبْشِ
بِخِلَافِ الْمَفَازَةِ لِأَنَّ نَبْشَ كل الصَّحْرَاءِ غَيْرُ مَقْدُورٍ له
وَكَذَا الدَّيْنُ الْمُقَرُّ بِهِ إذَا كان الْمُقِرُّ مَلِيًّا فَهُوَ مُمْكِنُ
الْوُصُولِ إلَيْهِ
وَأَمَّا الدَّيْنُ الْمَجْحُودُ فَإِنْ لم يَكُنْ له بَيِّنَةٌ فَهُوَ على
الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كان له بَيِّنَةٌ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ
تَجِبُ الزَّكَاةُ فيه لِأَنَّهُ يمكن ( ( ( يتمكن ) ) ) الْوُصُولُ إلَيْهِ
بِالْبَيِّنَةِ فإذا لم يُقِمْ الْبَيِّنَةَ فَقَدْ ضَيَّعَ الْقُدْرَةَ فلم
يُعْذَرْ وقال بَعْضُهُمْ لَا تَجِبُ لِأَنَّ الشَّاهِدَ قد يَفْسُقُ إلَّا إذَا
كان الْقَاضِي عَالِمًا بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ يقضي بِعِلْمِهِ فَكَانَ مَقْدُورَ
الِانْتِفَاعِ بِهِ وَإِنْ كان الْمَدْيُونُ يُقِرُّ في السِّرِّ وَيَجْحَدُ في
الْعَلَانِيَةِ فَلَا زَكَاةَ فيه كَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ لِأَنَّهُ لَا
يَنْتَفِعُ بِإِقْرَارِهِ في السِّرِّ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْجَاحِدِ سِرًّا
وَعَلَانِيَةً وَإِنْ كان الْمَدْيُونُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ لَكِنَّهُ مُفْلِسٌ
فَإِنْ لم يَكُنْ مَقْضِيًّا عليه بِالْإِفْلَاسِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فيه في
قَوْلِهِمْ جميعا
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ لَا زَكَاةَ فيه لِأَنَّ الدَّيْنَ على الْمُعْسِرِ
غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَكَانَ ضِمَارًا وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُمْ لِأَنَّ
الْمُفْلِسَ قَادِرٌ على الْكَسْبِ وَالِاسْتِقْرَاضِ مع إن الْإِفْلَاسَ
مُحْتَمَلُ الزَّوَالِ سَاعَةً فَسَاعَةً إذْ الْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٌ وَإِنْ كان
مَقْضِيًّا عليه بِالْإِفْلَاسِ فَكَذَلِكَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ لَا زَكَاةَ فيه فَمُحَمَّدٌ مَرَّ على أَصْلِهِ لِأَنَّ
التَّفْلِيسَ عِنْدَهُ يَتَحَقَّقُ وَأَنَّهُ يُوجِبُ زِيَادَةَ عَجْزٍ لِأَنَّهُ
يَسُدُّ عليه بَابَ التَّصَرُّفِ لِأَنَّ الناس لَا يُعَامِلُونَهُ بِخِلَافِ الذي
لم يُقْضَ عليه بِالْإِفْلَاسِ وأبو حَنِيفَةَ مَرَّ على أَصْلِهِ لِأَنَّ
الْإِفْلَاسَ عِنْدَهُ لَا يَتَحَقَّقُ في حَالِ الْحَيَاةِ وَالْقَضَاءُ بِهِ
بَاطِلٌ وأبو يُوسُفَ وَإِنْ كان يَرَى التَّفْلِيسَ لَكِنَّ الْمُفْلِسَ قَادِرٌ
في الْجُمْلَةِ بِوَاسِطَةِ الِاكْتِسَابِ فَصَارَ الدَّيْنُ مَقْدُورَ
الِانْتِفَاعِ في الْجُمْلَةِ فَكَانَ أَثَرُ التَّفْلِيسِ في تَأْخِيرِ
الْمُطَالَبَةِ إلَى وَقْتِ الْيَسَارِ فَكَانَ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ فَتَجِبُ
الزَّكَاةُ فيه
وَلَوْ دَفَعَ إلَى إنْسَانٍ وَدِيعَةً ثُمَّ نَسِيَ
____________________
(2/9)
الْمُودَعُ
فَإِنْ كان الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ من مَعَارِفِهِ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِمَا
مَضَى إذَا تَذَكَّرَ لِأَنَّ نِسْيَانَ الْمَعْرُوفِ نَادِرٌ فَكَانَ طَرِيقُ
الْوُصُولِ قَائِمًا وَإِنْ كان مِمَّنْ لَا يَعْرِفُهُ فَلَا زَكَاةَ عليه فِيمَا
مَضَى لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ وَلَا زَكَاةَ في دَيْنِ الْكِتَابَةِ
وَالدِّيَةِ على الْعَاقِلَةِ لِأَنَّ دَيْنَ الْكِتَابَةِ ليس بِدَيْنٍ حَقِيقَةً
لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى على عَبْدِهِ دَيْنٌ فَلِهَذَا لم تَصِحَّ
الْكَفَالَةُ بِهِ وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ إذ هو مِلْكُ
الْمَوْلَى من وَجْهٍ وَمِلْكُ الْمُكَاتَبِ من وَجْهٍ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ في
اكْتِسَابِهِ كَالْحُرِّ فلم يَكُنْ بَدَلَ الْكِتَابَةِ مِلْكُ الْمَوْلَى
مُطْلَقًا بَلْ كان نَاقِصًا وَكَذَا الدِّيَةُ على الْعَاقِلَةِ مِلْكُ وَلِيِّ
الْقَتِيلِ فيها مُتَزَلْزِلٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو مَاتَ وَاحِدٌ من الْعَاقِلَةِ
سَقَطَ ما عليه فلم يَكُنْ مِلْكًا مُطْلَقًا وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ وَظِيفَةُ
الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ في الدَّيْنِ الذي وَجَبَ لِلْإِنْسَانِ
لَا بَدَلًا عن شَيْءٍ رَأْسًا كَالْمِيرَاثِ الدين ( ( ( بالدين ) ) )
وَالْوَصِيَّةِ بِالدِّينِ أو وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا ليس بِمَالٍ أَصْلًا
كَالْمَهْرِ لِلْمَرْأَةِ على الزَّوْجِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ لِلزَّوْجِ على
الْمَرْأَةِ وَالصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فيه
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في الدُّيُونِ أنها على ثَلَاثِ مَرَاتِبَ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةِ دَيْنٌ قَوِيٌّ وَدَيْنٌ ضَعِيفٌ وَدَيْنٌ وَسَطٌ كَذَا قال عَامَّةُ
مَشَايِخِنَا
أَمَّا الْقَوِيُّ فَهُوَ الذي وَجَبَ بَدَلًا عن مَالِ التِّجَارَةِ كَثَمَنِ
عَرَضِ التِّجَارَةِ من ثِيَابِ التِّجَارَةِ وَعَبِيدِ التِّجَارَةِ أو غَلَّةِ
مَالِ التِّجَارَةِ وَلَا خِلَافَ في وُجُوبِ الزَّكَاةِ فيه إلَّا أَنَّهُ لَا
يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ شَيْءٍ من زَكَاةِ ما مَضَى ما لم يَقْبِضْ أَرْبَعِينَ
دِرْهَمًا فَكُلَّمَا قَبَضَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَدَّى دِرْهَمًا وَاحِدًا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كُلَّمَا قَبَضَ شيئا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ قَلَّ
الْمَقْبُوضُ أو كَثُرَ
وَأَمَّا الدَّيْنُ الضَّعِيفُ فَهُوَ الذي وَجَبَ له بَدَلًا عن شَيْءٍ سَوَاءٌ
وَجَبَ له بِغَيْرِ صُنْعِهِ كَالْمِيرَاثِ أو بِصُنْعِهِ كالوصية ( ( ( كما ) ) )
أو وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا ليس بِمَالٍ كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ
عن الْقِصَاصِ وَبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا زَكَاةَ فيه ما لم يُقْبَضْ كُلُّهُ
وَيَحُولُ عليه الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ
وَأَمَّا الدَّيْنُ الْوَسَطُ فما وَجَبَ له بَدَلًا عن مَالٍ ليس لِلتِّجَارَةِ
كَثَمَنِ عبد الْخِدْمَةِ وَثَمَنِ ثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ وَفِيهِ
رِوَايَتَانِ عنه ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ قبل الْقَبْضِ
لَكِنْ لَا يُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ ما لم يَقْبِضْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فإذا قَبَضَ
مِائَتَيْ دِرْهَمٍ زَكَّى لِمَا مَضَى وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ عن
أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فيه حتى يَقْبِضَ الْمِائَتَيْنِ وَيَحُولَ
عليه الْحَوْلُ من وَقْتِ الْقَبْضِ وهو أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عنه
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الدُّيُونُ كُلُّهَا سَوَاءٌ وَكُلُّهَا قَوِيَّةٌ
تَجِبُ الزَّكَاةُ فيها قبل الْقَبْضِ إلَّا الدِّيَةَ على الْعَاقِلَةِ وَمَالَ
الْكِتَابَةِ فإنه لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فيها أَصْلًا ما لم تُقْبَضْ وَيَحُولُ
عليها الْحَوْلُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ ما سِوَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالدِّيَةِ على
الْعَاقِلَةِ مِلْكُ صَاحِبِ الدَّيْنِ مِلْكًا مُطْلَقًا رَقَبَةً وَيَدًا
لِتَمَكُّنِهِ من الْقَبْضِ بِقَبْضِ بَدَلِهِ وهو الْعَيْنُ فَتَجِبُ فيه
الزَّكَاةُ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ مِلْكًا مُطْلَقًا إلَّا
أَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ لِلْحَالِ لِأَنَّهُ ليس في يَدِهِ حَقِيقَةً
فإذا حَصَلَ في يَدِهِ يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ قَدْرَ الْمَقْبُوضِ كما هو
مذهبهما ( ( ( مذهبهم ) ) ) في الْعَيْنِ فِيمَا زَادَ على النِّصَابِ بِخِلَافِ
الدِّيَةِ وَبَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ ذلك ليس بِمِلْكٍ مُطْلَقٍ بَلْ هو
مِلْكٌ نَاقِصٌ على ما بَيَّنَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الدَّيْنَ ليس بِمَالٍ بَلْ هو
فِعْلٌ وَاجِبٌ وهو فِعْلُ تَمْلِيكِ الْمَالِ وَتَسْلِيمِهِ إلَى صَاحِبِ
الدَّيْنِ وَالزَّكَاةُ إنَّمَا تَجِبُ في الْمَالِ فإذا لم يَكُنْ مَالًا لَا
تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ وَدَلِيلُ كَوْنِ الدَّيْنِ فِعْلًا من وُجُوهٍ
ذَكَرْنَاهَا في الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ عن مَيِّتٍ مُفْلِسٍ في
الْخِلَافِيَّاتِ كان يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ في دَيْنٍ مالم
يُقْبَضْ وَيَحُولُ عليه الْحَوْلُ إلَّا أَنَّ ما وَجَبَ له بَدَلًا عن مَالِ
التِّجَارَةِ أعطى له حُكْمُ الْمَالِ لِأَنَّ بَدَلَ الشَّيْءِ قَائِمٌ مَقَامَهُ
كَأَنَّهُ هو فَصَارَ كَأَنَّ الْمُبْدَلَ قَائِمٌ في يَدِهِ وَأَنَّهُ مَالُ
التِّجَارَةِ وقد حَالَ عليه الْحَوْلُ في يَدِهِ
وَالثَّانِي إنْ كان الدَّيْنُ مَالًا مَمْلُوكًا أَيْضًا لَكِنَّهُ مَالٌ لَا
يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ حَقِيقَةً بَلْ هو مَالٌ حُكْمِيٌّ في
الذِّمَّةِ وما في الذِّمَّةِ لَا يُمْكِنُ قَبْضُهُ فلم يَكُنْ مَالًا مَمْلُوكًا
رَقَبَةً وَيَدًا فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فيه كَمَالِ الضِّمَارِ فَقِيَاسُ هذا
أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ في الدُّيُونِ كُلِّهَا لِنُقْصَانِ الْمِلْكِ
بِفَوَاتِ الْيَدِ إلَّا أَنَّ الدَّيْنَ الذي هو بَدَلُ مَالِ التِّجَارَةِ
الْتَحَقَ بِالْعَيْنِ في احْتِمَالِ الْقَبْضِ لِكَوْنِهِ بَدَلَ مَالِ
التِّجَارَةِ قَابِلٌ القبض ( ( ( للقبض ) ) ) وَالْبَدَلُ يُقَامُ مَقَامَ
الْمُبْدَلِ وَالْمُبْدَلُ عَيْنٌ قَائِمَةٌ قَابِلَةٌ لِلْقَبْضِ فَكَذَا ما
يَقُومُ مَقَامَهُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِيمَا ليس بِبَدَلٍ رَأْسًا
وَلَا فِيمَا هو بَدَلٌ عَمَّا ليس بِمَالٍ وَكَذَا في بَدَلِ مَالٍ ليس
لِلتِّجَارَةِ على الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ
ما لم يُقْبَضْ قَدْرُ النِّصَابِ وَيَحُولُ عليه الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ
لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ مَالٍ ليس لِلتِّجَارَةِ فَيَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ
وَلَوْ كان الْمُبْدَلُ قَائِمًا في يَدِهِ حَقِيقَةً لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فيه
فَكَذَا في بَدَلِهِ بِخِلَافِ بَدَلِ مَالِ التِّجَارَةِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ في إخْرَاجِ زَكَاةٍ قَدْرَ الْمَقْبُوضِ من الدَّيْنِ الذي
تَجِبُ فيه
____________________
(2/10)
الزَّكَاةُ
على نَحْوِ الْكَلَامِ في الْمَالِ الْعَيْنِ إذَا كان زَائِدًا على قَدْرِ
النِّصَابِ وَحَالَ عليه الْحَوْلُ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا شَيْءَ في
الزِّيَادَةِ هُنَاكَ ما لم يَكُنْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَهَهُنَا أَيْضًا لَا
يُخْرِجُ شيئا من زَكَاةِ الْمَقْبُوضِ ما لم يَبْلُغْ الْمَقْبُوضُ أَرْبَعِينَ
دِرْهَمًا فَيُخْرِجُ من كل أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا يَقْبِضُهَا دِرْهَمًا
وَعِنْدَهُمَا يُخْرِجُ قَدْرَ ما قَبَضَ قَلَّ الْمَقْبُوضُ أو كَثُرَ كما في
الْمَالِ الْعَيْنِ إذَا كان زَائِدًا على النِّصَابِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فيه
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هذا إذَا لم يَكُنْ له مَالٌ سِوَى الدَّيْنِ
فَأَمَّا إذَا كان له مَالٌ سِوَى الدَّيْنِ فما قَبَضَ منه فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ
الْمُسْتَفَادِ فَيُضَمُّ إلَى ما عِنْدَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَالِ نَامِيًا لِأَنَّ مَعْنَى الزَّكَاةِ وهو النَّمَاءُ
لَا يَحْصُلُ إلَّا من الْمَالِ النَّامِي وَلَسْنَا نَعْنِي بِهِ حَقِيقَةَ
النَّمَاءِ لِأَنَّ ذلك غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ كَوْنَ
الْمَالِ مُعَدًّا لِلِاسْتِنْمَاءِ بِالتِّجَارَةِ أو بِالْإِسَامَةِ لِأَنَّ
الْإِسَامَةَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالسِّمَنِ وَالتِّجَارَةُ
سَبَبٌ لِحُصُولِ الرِّبْحِ فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ وَتَعَلَّقَ
الْحُكْمُ بِهِ كَالسَّفَرِ مع الْمَشَقَّةِ وَالنِّكَاحِ مع الْوَطْءِ
وَالنَّوْمِ مع الْحَدَثِ وَنَحْوِ ذلك وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ وَمِنْهَا كَوْنُ
الْمَالِ فَاضِلًا عن الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ لِأَنَّ بِهِ يَتَحَقَّقُ الغنا
وَمَعْنَى النَّعْمَةِ وهو التَّنَعُّمُ وَبِهِ يَحْصُلُ الْأَدَاءُ عن طِيبِ
النَّفْسِ إذْ الْمَالُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً لَا يَكُونُ
صَاحِبُهُ غَنِيًّا عنه وَلَا يَكُونُ نَعْمَةً إذْ التَّنَعُّمُ لَا يَحْصُلُ
بِالْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً لِأَنَّهُ من ضَرُورَاتِ
حَاجَةِ الْبَقَاءِ وَقِوَامِ الْبَدَنِ فَكَانَ شُكْرُهُ شُكْرَ نِعْمَةِ
الْبَدَن وَلَا يَحْصُلُ الْأَدَاءُ عن طِيبِ نَفْسٍ فَلَا يَقَعُ الْأَدَاءُ
بِالْجِهَةِ الْمَأْمُورِ بها لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَدُّوا زَكَاةَ
أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بها أَنْفُسُكُمْ فَلَا تَقَعُ زَكَاةٌ إذْ حَقِيقَةُ
الْحَاجَةِ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عليه فَلَا يُعْرَفُ الْفَضْلُ عن الْحَاجَةِ
فَيُقَامُ دَلِيلُ الْفَضْلِ عن الْحَاجَةِ مَقَامَهُ وهو الْإِعْدَادُ
لِلْإِسَامَةِ وَالتِّجَارَةِ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ هذا ليس بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ
وَتَجِبُ الزَّكَاةُ في كل مَالٍ سَوَاءٌ كان نَامِيًا فَاضِلًا عن الْحَاجَةِ
الْأَصْلِيَّةِ أو لَا كَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ وَالْعَلُوفَةِ
وَالْحَمُولَةِ وَالْعَمُولَةِ من الْمَوَاشِي وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ
وَالْمَسْكَنِ وَالْمَرَاكِبِ وَكِسْوَةِ الْأَهْلِ وَطَعَامِهِمْ وما يُتَجَمَّلُ
بِهِ من آنِيَةٍ أو لُؤْلُؤٍ أو فُرُشٍ وَمَتَاعٍ لم يُنْوَ بِهِ التِّجَارَةُ
وَنَحْوِ ذلك وَاحْتُجَّ بِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين مَالٍ
وَمَالٍ نحو قَوْله تَعَالَى { خُذْ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً }
وَقَوْلُهُ عز وجل { في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ
}
وقَوْله تَعَالَى { وَآتُوا الزَّكَاةَ } وَغَيْرِ ذلك وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ
شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ وَمَعْنَى النِّعْمَةِ في هذه الْأَمْوَالِ أَتَمُّ
وَأَقْرَبُ لِأَنَّهَا مُتَعَلَّقُ الْبَقَاءِ فَكَانَتْ أَدْعَى إلَى الشُّكْرِ
وَلَنَا أَنَّ مَعْنَى النَّمَاءِ وَالْفَضْلِ عن الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ لَا
بُدَّ منه لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ وَلَا
يَتَحَقَّقُ ذلك في هذه الْأَمْوَالِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ من
الْعُمُومَاتِ الْأَمْوَالُ النَّامِيَةُ الْفَاضِلَةُ عن الْحَوَائِجِ
الْأَصْلِيَّةِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ أنها نِعْمَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّ مَعْنَى النِّعْمَةِ فيها يَرْجِعُ إلَى الْبَدَنِ لِأَنَّهَا تَدْفَعُ
الْحَاجَةَ الضَّرُورِيَّةَ وَهِيَ حَاجَةُ دَفْعِ الْهَلَاكِ عن الْبَدَنِ
فَكَانَتْ تَابِعَةً لِنِعْمَةِ الْبَدَنِ فَكَانَ شُكْرُهَا شُكْرَ نِعْمَةِ
الْبَدَنِ وَهِيَ الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ من الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ
وَغَيْرِ ذلك
وقَوْله تَعَالَى { وَآتُوا الزَّكَاةَ } دَلِيلُنَا لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَارَةٌ
عن النَّمَاءِ وَذَلِكَ من الْمَالِ النَّامِي على التَّفْسِيرِ الذي ذَكَرْنَاهُ
وهو أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا لِلِاسْتِنْمَاءِ وَذَلِكَ بِالْإِعْدَادِ
لِلْإِسَامَةِ في الْمَوَاشِي وَالتِّجَارَةِ في أَمْوَالِ التِّجَارَةِ إلَّا
أَنَّ الْإِعْدَادَ لِلتِّجَارَةِ في الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ من الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ
لِلِانْتِفَاعِ بِأَعْيَانِهَا في دَفْعِ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا
حَاجَةَ إلَى الْإِعْدَادِ من الْعَبْدِ لِلتِّجَارَةِ بِالنِّيَّةِ إذْ
النِّيَّةُ لِلتَّعْيِينِ وَهِيَ مُتَعَيِّنَةٌ لِلتِّجَارَةِ بِأَصْلِ
الْخِلْقَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ
فيها نَوَى التِّجَارَةَ أو لم يَنْوِ أَصْلًا أو نَوَى النَّفَقَةَ وَأَمَّا
فِيمَا سِوَى الْأَثْمَانِ من الْعُرُوضِ فَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِعْدَادُ فيها
لِلتِّجَارَةِ بِالنِّيَّةِ لِأَنَّهَا كما تَصْلُحُ لِلتِّجَارَةِ تَصْلُحُ
لِلِانْتِفَاعِ بِأَعْيَانِهَا بَلْ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ منها ذلك فَلَا
بُدَّ من التَّعْيِينِ لِلتِّجَارَةِ وَذَلِكَ بِالنِّيَّةِ وَكَذَا في الْمَوَاشِي
لَا بُدَّ فيها من نِيَّةِ الْإِسَامَةِ لِأَنَّهَا كما تَصْلُحُ لِلدَّرِّ
وَالنَّسْلِ تَصْلُحُ لِلْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ وَاللَّحْمِ فَلَا بُدَّ من
النِّيَّةِ
ثُمَّ نِيَّةُ التِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ لَا تُعْتَبَرُ ما لم تَتَّصِلْ
بِفِعْلِ التِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ لَا عِبْرَةَ
بِهِ في الْأَحْكَامِ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ اللَّهَ عَفَا عن
أمتي ما تَحَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ ما لم يَتَكَلَّمُوا بِهِ أو يَفْعَلُوا
ثُمَّ نِيَّةُ التِّجَارَةِ قد تَكُونُ صَرِيحًا وقد تَكُونُ دَلَالَةً أَمَّا
الصَّرِيحُ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ عَقْدِ التِّجَارَةِ أَنْ يَكُونَ
الْمَمْلُوكُ بِهِ لِلتِّجَارَةِ بِأَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً وَنَوَى أَنْ تَكُونَ
لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ الشِّرَاءِ فَتَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ سَوَاءٌ كان الثَّمَنُ
الذي اشْتَرَاهَا بِهِ من الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ أو من عُرُوضِ التِّجَارَةِ
أو مَالِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ أو أَجَّرَ دَارِهِ بِعَرَضٍ بِنِيَّةِ
____________________
(2/11)
التِّجَارَةِ
فَيَصِيرُ ذلك مَالَ التِّجَارَةِ لِوُجُودِ صَرِيحِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ
مُقَارِنًا لِعَقْدِ التِّجَارَةِ أَمَّا الشِّرَاءُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ
تِجَارَةٌ وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ
وهو نَفْسُ التِّجَارَةِ وَلِهَذَا مَلَكَ الْمَأْذُونُ بِالتِّجَارَةِ
الْإِجَارَةَ وَالنِّيَّةُ الْمُقَارِنَةُ لِلْفِعْلِ مُعْتَبَرَةٌ
وَلَوْ اشْتَرَى عَيْنًا من الْأَعْيَانِ وَنَوَى أَنْ تَكُونَ لِلْبِذْلَةِ
وَالْمِهْنَةِ دُونَ التِّجَارَةِ لَا تَكُونُ لِلتِّجَارَةِ سَوَاءٌ كان
الثَّمَنُ من مَالِ التِّجَارَةِ أو من غَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ
الشِّرَاءَ بِمَالِ التِّجَارَةِ إنْ كان دَلَالَةَ التِّجَارَةِ فَقَدْ وُجِدَ
صَرِيحُ نِيَّةِ الِابْتِذَالِ وَلَا تُعْتَبَرُ الدَّلَالَةُ مع الصَّرِيحِ
بِخِلَافِهَا وَلَوْ مَلَكَ عُرُوضًا بِغَيْرِ عَقْدٍ أَصْلًا بِأَنْ وَرِثَهَا
وَنَوَى التِّجَارَةَ لم تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّ النِّيَّةَ تَجَرَّدَتْ عن
الْعَمَلِ أَصْلًا فَضْلًا عن عَمَلِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ الْمَوْرُوثَ يَدْخُلُ
في مِلْكِهِ من غَيْرِ صُنْعِهِ وَلَوْ مَلَكهَا بِعَقْدٍ ليس مُبَادَلَةً أَصْلًا
كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ أو بِعَقْدٍ هو مُبَادَلَةُ مَالٍ
بِغَيْرِ مَالٍ كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ
وَبَدَلِ الْعِتْقِ وَنَوَى التِّجَارَةَ يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ أبي
يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ
وَذَكَرَ الْقَاضِي الشَّهِيدُ الِاخْتِلَافَ على الْقَلْبِ فقال في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ وفي قَوْلِ مُحَمَّدٍ
يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ
وَجْهُ قَوْلِ من قال إنَّهُ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ أَنَّ النِّيَّةَ لم
تُقَارِنْ عَمَلًا هو تِجَارَةٌ وَهِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَكَانَ
الْحَاصِلُ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ فَلَا تُعْتَبَرُ
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ التِّجَارَةَ عَقْدُ اكْتِسَابِ الْمَالِ وما
لَا يَدْخُلُ في مِلْكِهِ إلَّا بِقَبُولِهِ فَهُوَ حَاصِلٌ بِكَسْبِهِ فَكَانَتْ
نِيَّتُهُ مُقَارِنَةً لِفِعْلِهِ فَأَشْبَهَ قِرَانُهَا بِالشِّرَاءِ
وَالْإِجَارَةِ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ التِّجَارَةَ كَسْبُ
الْمَالِ بِبَدَلِ ما هو مَالٌ وَالْقَبُولُ اكْتِسَابُ الْمَالِ بِغَيْرِ بَدَلٍ
أَصْلًا فلم تَكُنْ من بَابِ التِّجَارَةِ فلم تَكُنْ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً
عَمَلَ التِّجَارَةِ
وَلَوْ اسْتَقْرَضَ عُرُوضًا وَنَوَى أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ اخْتَلَفَ
الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّ الْقَرْضَ يَنْقَلِبُ مُعَاوَضَةَ
الْمَالِ بِالْمَالِ في الْعَاقِبَةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ في الْجَامِعِ أَنَّ من
كان له مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا مَالَ له غَيْرُهَا فَاسْتَقْرَضَ قبل حَوَلَانِ
الْحَوْلِ بِيَوْمٍ من رَجُلٍ خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ ولم
تُسْتَهْلَكُ الْأَقْفِزَةُ حتى حَالَ الْحَوْلُ لَا زَكَاةَ عليه في
الْمِائَتَيْنِ وَيُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ دُونَ الْجِنْسِ الذي
ليس بِمَالِ الزَّكَاةِ فَقَوْلُهُ اسْتَقْرَضَ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ دَلِيلٌ
أَنَّهُ لو اسْتَقْرَضَ لِلتِّجَارَةِ يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ نَوَى لِأَنَّ الْقَرْضَ
إعَارَةٌ وهو تَبَرُّعٌ لَا تِجَارَةٌ فلم تُوجَدْ نِيَّةُ التِّجَارَةِ
مُقَارِنَةً لِلتِّجَارَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ
وَلَوْ اشْتَرَى عُرُوضًا لِلْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَة ثُمَّ نَوَى أَنْ تَكُونَ
لِلتِّجَارَةِ بَعْدَ ذلك لَا تَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ ما لم يَبِعْهَا فَيَكُونُ
بَدَلُهَا لِلتِّجَارَةِ فَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ ما إذَا كان له مَالُ
التِّجَارَةِ فَنَوَى أَنْ يَكُونَ لِلْبِذْلَةِ حَيْثُ يَخْرُجُ من أَنْ يَكُونَ
لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ لم يَسْتَعْمِلْهُ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تُعْتَبَرُ ما لم
تَتَّصِلْ بِالْفِعْلِ وهو ليس بِفَاعِلٍ فَعَلَ التِّجَارَةَ فَقَدْ عزلت ( ( (
عزبت ) ) ) النِّيَّةُ عن فِعْلِ التِّجَارَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ لِلْحَالِ
بِخِلَافِ ما إذَا نَوَى الِابْتِذَالَ لِأَنَّهُ نَوَى تَرْكَ التِّجَارَةِ وهو
تَارِكٌ لها في الْحَالِ فَاقْتَرَنَتْ النِّيَّةُ بِعَمَلٍ هو تَرْكُ
التِّجَارَةِ فَاعْتُبِرَتْ
وَنَظِيرُ الْفَصْلَيْنِ السَّفَرُ مع الْإِقَامَةِ وهو أَنَّ الْمُقِيمَ إذَا
نَوَى السَّفَرَ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا ما لم يَخْرُجْ عن عُمْرَانِ الْمِصْرِ
وَالْمُسَافِرُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ في مَكَان صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ يَصِيرُ
مُقِيمًا لِلْحَالِ وَنَظِيرُهُمَا من غَيْرِ هذا الْجِنْسِ الْكَافِرُ إذَا نَوَى
أَنْ يُسْلِمَ بَعْدَ شَهْرٍ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا لِلْحَالِ وَالْمُسْلِمُ إذَا قَصَدَ
أَنْ يَكْفُرَ بَعْدَ سِنِينَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ لِلْحَالِ
وَلَوْ أَنَّهُ اشْتَرَى بِهَذِهِ الْعُرُوضِ التي اشْتَرَاهَا لِلِابْتِذَالِ
بَعْدَ ذلك عُرُوضًا أُخَرَ تَصِيرُ بَدَلَهَا لِلتِّجَارَةِ بِتِلْكَ النِّيَّةِ
السَّابِقَةِ
وَكَذَلِكَ في الْفُصُولِ التي ذَكَرْنَا أَنَّهُ نَوَى لِلتِّجَارَةِ في
الْوَصِيَّةِ وَالْقَرْضِ وَمُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَا ليس بِمَالٍ إذَا اشْتَرَى
بِتِلْكَ الْعُرُوضِ عُرُوضًا أُخَرَ صَارَتْ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّ النِّيَّةَ قد
وُجِدَتْ حَقِيقَةً إلَّا أنها لم تَعْمَلُ لِلْحَالِ لِأَنَّهَا لم تُصَادِفْ
عَمَلَ التِّجَارَةِ فإذا وُجِدَتْ التِّجَارَةُ بَعْدَ ذلك عَمِلَتْ النِّيَّةُ
السَّابِقَةُ عَمَلهَا فَيَصِيرُ الْمَالُ لِلتِّجَارَةِ لِوُجُودِ نِيَّةِ
التِّجَارَةِ مع التِّجَارَةِ
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَشْتَرِيَ عَيْنًا من الْأَعْيَانِ بِعَرَضِ
التِّجَارَةِ أو يُؤَاجِرَ دَارِهِ التي لِلتِّجَارَةِ بِعَرَضٍ من الْعُرُوضِ
فَيَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ لم يَنْوِ التِّجَارَةَ صَرِيحًا لِأَنَّهُ لَمَّا
اشْتَرَى بِمَالِ التِّجَارَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ
وَأَمَّا الشِّرَاءُ بِغَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ فَلَا يُشْكِلُ وَأَمَّا
إجَارَةُ الدَّارِ فَلِأَنَّ بَدَلَ مَنَافِعَ عَيْنٍ مُعَدَّةٍ لِلتِّجَارَةِ
كَبَدَلِ عَيْنٍ مُعَدَّةٍ لِلتِّجَارَةِ في أَنَّهُ لِلتِّجَارَةِ
كَذَا ذُكِرَ في كِتَابِ الزَّكَاةِ من الْأَصْلِ
وَذُكِرَ في الْجَامِعِ ما يَدُلُّ على أَنَّهُ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ إلَّا
بِالنِّيَّةِ صَرِيحًا فإنه قال وَإِنْ كانت الْأُجْرَةُ جَارِيَةً تُسَاوِي
أَلْفَ دِرْهَمٍ وَكَانَتْ عِنْدَ الْمُسْتَأْجِرِ لِلتِّجَارَةِ فَأَجَّرَ الْمُؤَجِّرُ
دَارِهِ بها وهو يُرِيدُ التِّجَارَةَ شَرْطُ النِّيَّةِ عِنْدَ الْإِجَارَةِ
لِتَصِيرَ الْجَارِيَةُ لِلتِّجَارَةِ ولم يُذْكَرْ أَنَّ الدَّارَ لِلتِّجَارَةِ
أو لِغَيْرِ التِّجَارَةِ فَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لِيَصِيرَ
بَدَلَ مَنَافِعِ الدَّارِ
____________________
(2/12)
الْمُسْتَأْجَرَةِ
لِلتِّجَارَةِ
وَإِنْ كانت الدَّارُ مُعَدَّةً لِلتِّجَارَةِ فَكَانَ في الْمَسْأَلَةِ
رِوَايَتَانِ وَمَشَايِخُ بَلْخٍ كَانُوا يُصَحِّحُونَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ
وَيَقُولُونَ إنَّ الْعَيْنَ وَإِنْ كانت لِلتِّجَارَةِ لَكِنْ قد يُقْصَدُ
بِبَدَلِ مَنَافِعِهَا الْمَنْفَعَةُ فَيُؤَاجِرُ الدَّابَّةَ لِيُنْفِقَ عليها
وَالدَّارَ لِلْعِمَارَةِ فَلَا تَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ مع التَّرَدُّدِ إلَّا
بِالنِّيَّةِ
وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى عُرُوضًا بِالدَّرَاهِمِ أو بِالدَّنَانِيرِ أو بِمَا
يُكَالُ أو يُوزَنُ مَوْصُوفًا في الذِّمَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ
لِلتِّجَارَةِ ما لم يَنْوِ التِّجَارَةَ عِنْدَ الشِّرَاءِ وَإِنْ كانت
الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ أَثْمَانًا وَالْمَوْصُوفُ في الذِّمَّةِ من
الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ أَثْمَانٌ عِنْدَ الناس وَلِأَنَّهَا كما جُعِلَتْ
ثَمَنًا لِمَالِ التِّجَارَةِ جُعِلَتْ ثَمَنًا لِشِرَاءِ ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ
لِلِابْتِذَالِ وَالْقُوتِ فَلَا يَتَعَيَّنُ الشِّرَاءُ بِهِ لِلتِّجَارَةِ مع
الإحتمال
وَعَلَى هذا لو اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ عَبِيدًا ثُمَّ
اشْتَرَى لهم كِسْوَةً وَطَعَامًا لِلنَّفَقَةِ كان الْكُلُّ لِلتِّجَارَةِ
وَتَجِبُ الزَّكَاةُ في الْكُلِّ لِأَنَّ نَفَقَةَ عَبِيدِ الْمُضَارَبَةِ من
مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَمُطْلَقُ تَصَرُّفِهِ يَنْصَرِفُ إلَى ما يُمْلَكُ دُونَ
ما لَا يُمْلَكُ حتى لَا يَصِيرَ خَائِنًا وَعَاصِيًا عَمَلًا بِدِينِهِ
وَعَقْلِهِ وَإِنْ نَصَّ على النَّفَقَةِ وَبِمِثْلِهِ الْمَالِكُ إذَا اشْتَرَى
عَبِيدًا لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ اشْتَرَى لهم ثِيَابًا لِلْكِسْوَةِ وَطَعَامًا
لِلنَّفَقَةِ فإنه لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّ الْمَالِكَ كما يَمْلِكُ
الشِّرَاءَ لِلتِّجَارَةِ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِلنَّفَقَةِ وَالْبِذْلَةِ وَلَهُ
أَنْ يُنْفِقَ من مَالِ التِّجَارَةِ وَغَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ فَلَا
يَتَعَيَّنُ لِلتِّجَارَةِ إلَّا بِدَلِيلٍ زَائِدٍ
وَأَمَّا الْأُجَرَاءُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ لِلنَّاسِ نحو الصَّبَّاغِينَ
وَالْقَصَّارِينَ وَالدَّبَّاغِينَ إذَا اشْتَرَوْا الصَّبْغَ وَالصَّابُونَ
وَالدُّهْنَ وَنَحْوَ ذلك مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ في عَمَلِهِمْ وَنَوَوْا
عِنْدَ الشِّرَاءِ أَنَّ ذلك لِلِاسْتِعْمَالِ في عَمَلِهِمْ هل يَصِيرُ ذلك مَالَ
التِّجَارَةِ رَوَى بِشْرُ بن الْوَلِيدِ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ ليصبغ ( ( ( الصباغ
) ) ) إذَا اشْتَرَى الْعُصْفُرَ وَالزَّعْفَرَانَ لصبغ ( ( ( ليصبغ ) ) ) ثِيَابَ
الناس فَعَلَيْهِ فيه الزَّكَاةُ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ هذا على وَجْهَيْنِ
إنْ كان شيئا يَبْقَى أَثَرُهُ في الْمَعْمُولِ فيه كَالصَّبْغِ وَالزَّعْفَرَانِ
وَالشَّحْمِ الذي يُدْبَغُ بِهِ الْجِلْدُ فإنه يَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ
لِأَنَّ الْأَجْرَ يَكُونُ مُقَابَلَةَ ذلك الْأَثَرِ وَذَلِكَ الْأَثَرُ مَالٌ
قَائِمٌ فإنه من أَجْزَاءِ الصَّبْغِ وَالشَّحْمِ لَكِنَّهُ لَطِيفٌ يكون ( ( (
فيكون ) ) ) هذا تِجَارَةً
وَإِنْ كان شيئا لَا يبقي أَثَرُهُ في الْمَعْمُولِ فيه مِثْلُ الصَّابُونِ
وَالْأُشْنَانِ وَالْقِلْيِ وَالْكِبْرِيتِ فَلَا يَكُونُ مَالَ التِّجَارَة
لِأَنَّ عَيْنَهَا تَتْلَفُ ولم يَنْتَقِلْ أَثَرُهَا إلَى الثَّوْبِ الْمَغْسُولِ
حتى يَكُونَ له حِصَّةٌ من الْعِوَضِ بَلْ الْبَيَاضُ أَصْلِيٌّ لِلثَّوْبِ
يَظْهَرُ عِنْدَ زَوَالِ الدَّرَنِ فما يَأْخُذُ من الْعِوَضِ يَكُونُ بَدَلَ
عَمَلِهِ لَا بَدَلَ هذه الْآلَاتِ فلم يَكُنْ مَالَ التِّجَارَةِ
وَأَمَّا آلَاتُ الصُّنَّاعِ وَظُرُوفُ أَمْتِعَةِ التِّجَارَةِ لَا تَكُونُ مَالَ
التِّجَارَةِ لِأَنَّهَا لَا تُبَاعُ مع الْأَمْتِعَةِ عَادَةً وَقَالُوا في
نَخَّاسِ الدَّوَابِّ إذَا اشْتَرَى الْمَقَاوِدَ وَالْجِلَالَ وَالْبَرَاذِعَ إنه
إنْ كان يُبَاعُ مع الدَّوَابِّ عَادَةً يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهَا
مُعَدَّةٌ لها وَإِنْ كان لَا يُبَاعُ مَعَهَا وَلَكِنْ تُمْسَكُ وَتُحْفَظُ بها
الدَّوَابُّ فَهِيَ من آلَاتِ الصُّنَّاعِ فَلَا يَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ إذَا
لم يَنْوِ التِّجَارَةَ عِنْدَ شِرَائِهَا
وقال أَصْحَابُنَا في عبد التِّجَارَةِ قَتَلَهُ عَبْدٌ خَطَأً فَدُفِعَ بِهِ
أَنَّ الثَّانِيَ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهُ عِوَضُ مَالِ التِّجَارَةِ وَكَذَا إذَا
فَدَى بِالدِّيَةِ من الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ
وَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ عَمْدًا فَصَالَحَ الْمَوْلَى من الدِّيَةِ على الْعَبْدِ
الْقَاتِلِ أو على شَيْءٍ من الْعُرُوضِ لَا يَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ
عِوَضُ الْقِصَاصِ لَا عِوَضُ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ
وَالْقِصَاصُ ليس بِمَالٍ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْحَوْلُ في بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ بَعْضٍ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ
في هذا الشَّرْطِ يَقَعُ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما يُشْتَرَطُ له
الْحَوْلُ من الْأَمْوَالِ وما لَا يُشْتَرَطُ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَقْطَعُ حُكْمَ الْحَوْلِ وما لَا يَقْطَعُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّ أَصْلَ النِّصَابِ وهو
النِّصَابُ الْمَوْجُودُ في أَوَّلِ الْحَوْلِ يُشْتَرَطُ له الْحَوْلُ لِقَوْلِ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا زَكَاةَ في مَالٍ حتى يَحُولَ عليه الْحَوْلُ
وَلِأَنَّ كَوْنَ الْمَالِ نَامِيًا شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَالنَّمَاءُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالِاسْتِنْمَاءِ
وَلَا بُدَّ لِذَلِكَ من مُدَّةٍ وَأَقَلُّ مُدَّةٍ يستنمي الْمَالُ فيها
بِالتِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ عَادَةً الْحَوْلُ فَأَمَّا الْمُسْتَفَادُ في
خِلَالِ الْحَوْلِ فَهَلْ يُشْتَرَطُ له حَوْلٌ على حِدَةٍ أو يُضَمُّ إلَى
الْأَصْلِ فيزكي بِحَوْلِ الْأَصْلِ
جُمْلَةُ الْكَلَامِ في الْمُسْتَفَادِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا إن كان
مُسْتَفَادًا في الْحَوْلِ وَإِمَّا إن كان مُسْتَفَادًا بَعْدَ الْحَوْلِ
وَالْمُسْتَفَادُ في الْحَوْلِ لَا يَخْلُو إمَّا إن كان من جِنْسِ الْأَصْلِ
وَإِمَّا إن كان من خِلَافِ جِنْسِهِ فَإِنْ كان من خِلَافِ جِنْسِهِ كَالْإِبِلِ
مع الْبَقَرِ وَالْبَقَرِ مع الْغَنَمِ فإنه لَا يُضَمُّ إلَى نِصَابِ الْأَصْلِ
بَلْ يُسْتَأْنَفُ له الْحَوْلُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كان من جِنْسِهِ فَأَمَّا
إنْ كان مُتَفَرِّعًا من الْأَصْلِ أو حَاصِلًا بِسَبَبِهِ كَالْوَلَدِ
وَالرِّبْحِ ( وَأَمَّا لم ) يَكُنْ مُتَفَرِّعًا من الْأَصْلِ وَلَا حَاصِلًا
بِسَبَبِهِ كالمشتري وَالْمَوْرُوثِ وَالْمَوْهُوبِ والموصي بِهِ فَإِنْ كان
مُتَفَرِّعًا من الْأَصْلِ أو حَاصِلًا بِسَبَبِهِ يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ ويزكي
بِحَوْلِ الْأَصْلِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ لم يَكُنْ مُتَفَرِّعًا من الْأَصْلِ
____________________
(2/13)
وَلَا
حَاصِلًا بِسَبَبِهِ فإنه يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُضَمُّ
احْتَجَّ بِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا زَكَاةَ في مَالٍ حتى يَحُولَ
عليه الْحَوْلُ وَالْمُسْتَفَادُ مَالٌ لم يَحُلْ عليه الْحَوْلُ فَلَا زَكَاةَ
فيه وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ وَالْمُسْتَفَادُ أَصْلٌ في الْمِلْكِ
لِأَنَّهُ أَصْلٌ في سَبَبِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ مِلْكٌ بِسَبَبٍ على حِدَةٍ
فَيَكُونُ أَصْلًا في شَرْطِ الْحَوْلِ كَالْمُسْتَفَادِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ
بِخِلَافِ الْوَلَدِ وَالرِّبْحِ لِأَنَّ ذلك تَبَعٌ لِلْأَصْلِ في الْمِلْكِ
لِكَوْنِهِ تَبَعًا له في سَبَبِ الْمِلْكِ فَيَكُونُ تَبَعًا في الْحَوْلِ
وَلَنَا أَنَّ عُمُومَاتِ الزَّكَاةِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ مُطْلَقًا عن شَرْطِ
الْحَوْلِ إلَّا ماخص بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ من جِنْسِ الْأَصْلِ
تَبَعٌ له لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عليه إذْ الْأَصْلُ يَزْدَادُ بِهِ وَيَتَكَثَّرُ
وَالزِّيَادَةُ تَبَعٌ لِلْمَزِيدِ عليه وَالتَّبَعُ لَا يُفْرَدُ بِالشَّرْطِ كما
لَا يُفْرَدُ بِالسَّبَبِ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ التَّبَعُ أَصْلًا فَتَجِبُ
الزَّكَاةُ فيها بِحَوْلِ الْأَصْلِ كَالْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ بِخِلَافِ الْمُسْتَفَادِ
بِخِلَافِ الْجِنْسِ لِأَنَّهُ ليس بِتَابِعٍ بَلْ هو أَصْلٌ بِنَفْسِهِ أَلَا
تَرَى أَنَّ الْأَصْلَ لَا يَزْدَادُ بِهِ وَلَا يَتَكَثَّرُ
وَقَوْلُهُ إنه أَصْلٌ في الْمِلْكِ لِأَنَّهُ أَصْلٌ في سَبَبِ الْمِلْكِ
مُسَلَّمٌ لَكِنَّ كَوْنَهُ أَصْلًا من هذا الْوَجْهِ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ
تَبَعًا من الْوَجْهِ الذي بَيَّنَّا وهو أَنَّ الْأَصْلَ يَزْدَادُ بِهِ
وَيَتَكَثَّرُ فَكَانَ أَصْلًا من وَجْهٍ وَتَبَعًا من وَجْهٍ فَتَتَرَجَّحُ
جِهَةُ التَّبَعِيَّةِ في حَقِّ الْحَوْلِ احْتِيَاطًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَعَامٌّ خُصَّ منه بَعْضُهُ وهو الْوَلَدُ وَالرِّبْحُ
فَيَخُصُّ الْمُتَنَازَعَ فيه بِمَا ذَكَرْنَا
ثُمَّ إنَّمَا يَضُمُّ الْمُسْتَفَادَ عِنْدَنَا إلَى أَصْلِ الْمَالِ إذَا كان
الْأَصْلُ نِصَابًا فَأَمَّا إذَا كان أَقَلَّ من النِّصَابِ فإنه لَا يُضَمُّ
إلَيْهِ وَإِنْ كان يَتَكَامَلُ بِهِ النِّصَابُ وَيَنْعَقِدُ الْحَوْلُ
عَلَيْهِمَا حَالَ وُجُودِ الْمُسْتَفَادِ لِأَنَّهُ إذَا كان أَقَلَّ من
النِّصَابِ لم يَنْعَقِدْ الْحَوْلُ على الْأَصْلِ فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ على
الْمُسْتَفَادِ من طَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ
وَأَمَّا الْمُسْتَفَادُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ في حَقِّ
الْحَوْلِ الْمَاضِي بِلَا خِلَافٍ وَإِنَّمَا يُضَمُّ إلَيْهِ في حَقِّ الْحَوْلِ
الذي اُسْتُفِيدَ فيه لِأَنَّ النِّصَابَ بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ عليه يُجْعَلُ
مُتَجَدِّدًا حُكْمًا كَأَنَّهُ انْعَدَمَ الْأَوَّلُ وَحَدَثَ آخَرُ لِأَنَّ
شَرْطَ الْوُجُوبِ وهو النَّمَاءُ يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الْحَوْلِ فَيَصِيرُ
النِّصَابُ كَالْمُتَجَدِّدِ وَالْمَوْجُودُ في الْحَوْلِ الْأَوَّلِ يَصِيرُ
كَالْعَدَمِ وَالْمُسْتَفَادُ إنَّمَا يُجْعَلُ تَبَعًا لِلْأَصْلِ الْمَوْجُودِ
لَا لِلْمَعْدُومِ
هذا الذي ذَكَرْنَا إذَا لم يَكُنْ الْمُسْتَفَادُ ثَمَنُ الْإِبِلِ الْمُزَكَّاةِ
فَأَمَّا إذَا كان فإنه لَا يُضَمُّ إلَى ما عِنْدَهُ من النِّصَابِ من جِنْسِهِ
وَلَا يزكي بِحَوْلِ الْأَصْلِ بَلْ يُشْتَرَطُ له حَوْلٌ على حِدَةٍ في قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُضَمُّ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا كان لِرَجُلٍ
خَمْسٌ من الْإِبِلِ السَّائِمَةِ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ فَتَمَّ حَوْلُ
السَّائِمَةِ فَزَكَّاهَا ثُمَّ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ ولم يَتِمَّ حَوْلُ
الدَّرَاهِمِ فإنه يَسْتَأْنِفُ لِلثَّمَنِ حَوْلًا عِنْدَهُ وَلَا يُضَمُّ إلَى
الدَّرَاهِمِ وَعِنْدَهُمَا يُضَمُّ وَلَوْ زَكَّاهَا ثُمَّ جَعَلَهَا عَلُوفَةً
ثُمَّ بَاعَهَا ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ على الدَّرَاهِمِ فإن ثَمَنَهَا يُضَمُّ
إلَى الدَّرَاهِمِ فيزكي الْكُلُّ بِحَوْلِ الدَّرَاهِمِ
وَلَوْ كان له عَبْدٌ لِلْخِدْمَةِ فَأَدَّى صَدَقَةَ فِطْرِهِ أو كان له طَعَامٌ
فَأَدَّى عُشْرَهُ أو كان له أَرْضٌ فَأَدَّى خَرَاجَهَا ثُمَّ باعه ( ( ( باعها )
) ) يُضَمُّ ثَمَنُهَا إلَى أَصْلِ النِّصَابِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا ما ذَكَرْنَا في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وهو ظَاهِرُ نُصُوصِ
الزَّكَاةِ مُطْلَقَةٌ عن شَرْطِ الْحَوْلِ وَاعْتِبَارِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ
وَالدَّلِيلُ عليه ثَمَنُ الْإِبِلِ الْمَعْلُوفَةِ وَعَبْدُ الْخِدْمَةِ
وَالطَّعَامُ الْمَعْشُورُ وَالْأَرْضُ التي أَدَّى خَرَاجَهَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومُ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا زَكَاةَ في مَالٍ
حتى يَحُولَ عليه الْحَوْلُ من غَيْرِ فَصْلٍ بين مَالٍ وَمَالٍ إلَّا أَنَّ
الْمُسْتَفَادَ الذي ليس بِثَمَنِ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ صَارَ مَخْصُوصًا بِدَلِيلٍ
فَبَقِيَ الثَّمَنُ على أَصْلِ الْعُمُومِ وَصَارَ مَخْصُوصًا عن عُمُومَاتِ
الزَّكَاةِ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وهو قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا
ثنيا ( ( ( ثنى ) ) ) في الصَّدَقَةِ أَيْ لَا تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مَرَّتَيْنِ
إلَّا أَنَّ الْأَخْذَ حَالَ اخْتِلَافِ الْمَالِكِ وَالْحَوْلُ وَالْمَالُ
صُورَةٌ وَمَعْنًى صَارَ مَخْصُوصًا وَهَهُنَا لم يُوجَدْ اخْتِلَافُ الْمَالِكِ
وَالْحَوْلِ وَلَا شَكَّ فيه
وَكَذَا الْمَالُ لم يَخْتَلِفْ من حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ
الْإِبِلِ السَّائِمَةِ وَبَدَلُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هو
فَكَانَتْ السَّائِمَةُ قَائِمَةً مَعْنًى
وما ذُكِرَا من مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ قِيَاسٌ في مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَيَكُونُ
بَاطِلًا
على أَنَّ اعْتِبَارَ التَّبَعِيَّةِ إنْ كان يُوجِبُ الضَّمَّ فَاعْتِبَارُ
النباء ( ( ( البناء ) ) ) يُحَرِّمُ الضَّمَّ وَالْقَوْلُ بِالْحُرْمَةِ أَوْلَى
احْتِيَاطًا وَأَمَّا إذَا زَكَّاهَا ثُمَّ جَعَلَهَا عَلُوفَةً ثُمَّ بَاعَهَا
بِدَرَاهِمَ فَقَدْ قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إن على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لَا
يُضَمُّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُضَمُّ بِالْإِجْمَاعِ
وَوَجْهُ التَّحْرِيمِ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهَا عَلُوفَةً فَقَدْ خَرَجَتْ من
أَنْ تَكُونَ مَالَ الزَّكَاةِ لِفَوَاتِ وَصْفِ النَّمَاءِ فَصَارَ كَأَنَّهَا
هَلَكَتْ وَحَدَثَ عَيْنٌ أُخْرَى فلم يَكُنْ الثَّمَنُ بَدَلَ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ
فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْبِنَاءِ وَكَذَا في الْمَسَائِلِ الْأُخَرِ الثَّمَنُ ليس
بَدَلَ مَالِ الزَّكَاةِ وهو الْمَالُ النَّامِي الْفَاضِلُ عن الْحَاجَةِ
الْأَصْلِيَّةِ فَلَا يَكُون الضَّمُّ بِنَاءً
وَلَوْ كان عِنْدَهُ نِصَابَانِ أَحَدَهُمَا ثَمَنُ الْإِبِلِ الْمُزَكَّاةِ
وَالْآخَرَ
____________________
(2/14)
غَيْرُ
ثَمَنِ الْإِبِلِ من الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
وَأَحَدُهُمَا أَقْرَبُ حَوْلًا من الْآخَرِ فَاسْتَفَادَ دَرَاهِمَ بِالْإِرْثِ
أو الْهِبَةِ أو الْوَصِيَّةِ فإن الْمُسْتَفَادَ يُضَمُّ إلَى أقربهما ( ( (
أقربها ) ) ) حَوْلًا أَيُّهُمَا كان وَلَوْ لم يُوهَبْ له وَلَا وَرِثَ شيئا
وَلَا أَوْصَى له بِشَيْءٍ وَلَكِنَّهُ تَصَرَّفَ في النِّصَابِ الْأَوَّلِ بَعْدَ
ما أَدَّى زَكَاتَهُ وَرَبِحَ فيه رِبْحًا ولم يَحُلْ حَوْلُ ثَمَنِ الْإِبِلِ الْمُزَكَّاةِ
فإن الرِّبْحَ يُضَمُّ إلَى النِّصَابِ الذي رَبِحَ فيه لَا إلَى ثَمَنِ الْإِبِلِ
وَإِنْ كان ذلك أَبْعَدَ حَوْلًا وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ في الْفَصْلِ
الْأَوَّلِ اسْتَوَيَا في جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ فَيُرَجَّحُ أَقْرَبُ
النِّصَابَيْنِ حَوْلًا يُضَمُّ الْمُسْتَفَادُ إلَيْهِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ وفي
الْفَصْلِ الثَّانِي ما اسْتَوَيَا في جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ بَلْ أَحَدُهُمَا
أَقْوَى في الِاسْتِتْبَاعِ لِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ تَبَعٌ لِأَحَدِهِمَا
حَقِيقَةً لِكَوْنِهِ مُتَفَرِّعًا منه فَتُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ التَّبَعِيَّةِ
فَلَا يُقْطَعُ حُكْمُ التَّبَعِ عن الْأَصْلِ
وَأَمَّا الثَّانِي وهو بَيَانُ ما يَقْطَعُ حُكْمَ الْحَوْلِ وما لَا يَقْطَعُ
فَهَلَاكُ النِّصَابِ في خِلَالِ الْحَوْلِ يَقْطَعُ حُكْمَ الْحَوْلِ حتى لو
اسْتَفَادَ في ذلك الْحَوْلِ نِصَابًا يُسْتَأْنَفُ له الْحَوْلُ لِقَوْلِ النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا زَكَاةَ في مَالٍ حتى يَحُولَ عليه الحولوالهالك ما
حَالَ عليه الْحَوْلُ وَكَذَا الْمُسْتَفَادُ بِخِلَافِ ما إذَا هَلَكَ بَعْضُ
النِّصَابِ ثُمَّ اسْتَفَادَ ما يُكْمِلُ بِهِ لِأَنَّ ما بَقِيَ من النِّصَابِ ما
حَالَ عليه الْحَوْلُ فلم يَنْقَطِعْ حُكْمُ الْحَوْلِ وَلَوْ اُسْتُبْدِلَ مَالُ
التِّجَارَةِ بِمَالِ التِّجَارَةِ وَهِيَ الْعُرُوض قبل تَمَامِ الْحَوْلِ لَا
يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ سَوَاءٌ اُسْتُبْدِلَ بِجِنْسِهَا أو بِخِلَافِ جِنْسِهَا
بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ في أَمْوَالِ التِّجَارَةِ يَتَعَلَّقُ
بِمَعْنَى الْمَالِ وهو الْمَالِيَّةُ وَالْقِيمَةُ فَكَانَ الْحَوْلُ مُنْعَقِدًا
على الْمَعْنَى وَأَنَّهُ قَائِمٌ لم يَفُتْ بِالِاسْتِبْدَالِ وَكَذَلِكَ
الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ إذَا بَاعَهَا بِجِنْسِهَا أو بِخِلَافِ جِنْسِهَا
بِأَنْ بَاعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّرَاهِمِ أو الدَّنَانِيرَ بِالدَّنَانِيرِ أو
الدَّنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ أو الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ
وقال الشَّافِعِيُّ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ لَا
تَجِبُ الزَّكَاةُ في مَالِ الصَّيَارِفَةِ لِوُجُودِ الِاسْتِبْدَالِ منهم
سَاعَةً فَسَاعَةً
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمَا عَيْنَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً فَلَا تَقُومُ
إحْدَاهُمَا مَقَامَ الْأُخْرَى فَيَنْقَطِعُ الْحَوْلُ الْمُنْعَقِدُ على
إحْدَاهُمَا كما إذَا بَاعَ السَّائِمَةَ بِالسَّائِمَةِ بِجِنْسِهَا أو بِخِلَافِ
جِنْسِهَا
وَلِّنَا أَنَّ الْوُجُوبَ في الدَّرَاهِمِ أو الدَّنَانِيرِ مُتَعَلِّقٌ
بِالْمَعْنَى أَيْضًا لَا بِالْعَيْنِ
وَالْمَعْنَى قَائِمٌ بَعْدَ الِاسْتِبْدَالِ فَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ كما
في الْعُرُوضِ بِخِلَافِ ما إذَا اسْتَبْدَلَ السَّائِمَةَ بِالسَّائِمَةِ لِأَنَّ
الْحُكْمَ هُنَاكَ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَيْنِ
وقد تَبَدَّلَتْ الْعَيْنُ فَبَطَلَ الْحَوْلُ الْمُنْعَقِدُ على الْأَوَّلِ
فَيُسْتَأْنَفُ لِلثَّانِي حَوْلًا
وَلَوْ اسْتَبْدَلَ السَّائِمَةَ بِالسَّائِمَةِ فَإِنْ اسْتَبْدَلَهَا بِخِلَافِ
جِنْسِهَا بِأَنْ بَاعَ الْإِبِلَ بِالْبَقَرِ أو الْبَقَرَ بِالْغَنَمِ
يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ اسْتَبْدَلَهَا بِجِنْسِهَا
بِأَنْ بَاعَ الْإِبِلَ بِالْإِبِلِ أو الْبَقَرِ بِالْبَقَرِ أو الْغَنَمَ
بِالْغَنَمِ فَكَذَلِكَ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ لَا
يَنْقَطِعُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْجِنْسَ وَاحِدٌ فَكَانَ الْمَعْنَى مُتَّحِدًا فَلَا
يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ كما إذَا بَاعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّرَاهِمِ
وَلَنَا أَنَّ الْوُجُوبَ في السَّوَائِمِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ لَا
بِالْمَعْنَى أَلَا تَرَى أَنَّ من كان له خَمْسٌ من الْإِبِلِ عِجَافٍ هُزَالٍ
لَا تُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ تَجِبُ فيها الزَّكَاةُ فَدَلَّ أَنَّ الْوُجُوبَ
فيها تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ وَالْعَيْنُ قد اخْتَلَفَتْ فَيَخْتَلِفُ له الْحَوْلُ
وَكَذَا لو بَاعَ السَّائِمَةَ بِالدَّرَاهِمِ أو بِالدَّنَانِيرِ أو بِعُرُوضٍ
يَنْوِي بها التِّجَارَةَ أَنَّهُ يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ بالإتفاق
لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ في الْمَالَيْنِ قد اخْتَلَفَ إذْ الْمُتَعَلِّقُ
في أَحَدِهِمَا الْعَيْنُ وفي الْآخَرِ الْمَعْنَى
وَلَوْ احْتَالَ بِشَيْءٍ من ذلك فِرَارًا من وُجُوبِ الزَّكَاةِ عليه هل يُكْرَهُ
له ذلك
قال مُحَمَّدٌ يُكْرَهُ
وقال أبو يُوسُفَ لَا يُكْرَهُ
وهو على الِاخْتِلَافِ في الْحِيلَةِ لِمَنْعِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ وَلَا خِلَافَ
في الْحِيلَةِ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا مَكْرُوهَةٌ كَالْحِيلَةِ
لاسقاط الشُّفْعَةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا
وَمِنْهَا النِّصَابُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في النِّصَابِ في مَوَاضِعَ في
بَيَانِ أَنَّهُ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ اعْتِبَارِ
هذا الشَّرْطِ وفي بَيَانِ مِقْدَارِ النِّصَابِ وفي بَيَانِ صِفَتِهِ وفي بَيَانِ
مِقْدَارِ الْوَاجِبِ في النِّصَابِ وفي بَيَانِ صِفَتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَمَالُ النِّصَابِ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلَا تَجِبُ
الزَّكَاةُ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا على الْغَنِيِّ
والغنا ( ( ( والغنى ) ) ) لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْمَالِ الْفَاضِلِ عن
الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وما دُونَ النِّصَابِ لَا يَفْضُلُ عن الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ
فَلَا يَصِيرُ الشَّخْصُ غَنِيًّا بِهِ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ شكرا ( ( ( شكر ) )
) لنعمة ( ( ( النعمة ) ) ) الْمَالِ وما دُونَ النِّصَابِ لَا يَكُونُ نِعْمَةً
مُوجِبَةً لِلشُّكْرِ لِلْمَالِ بَلْ يَكُونُ شُكْرُهُ شُكْرًا لِنِعْمَةِ
الْبَدَنِ لِكَوْنِهِ من تَوَابِعِ نِعْمَةِ الْبَدَنِ على ما ذَكَرْنَا وَلَكِنَّ
هذا الشَّرْطَ يُعْتَبَرُ في أَوَّلِ الْحَوْلِ وفي آخِرِهِ لَا في خِلَالِهِ حتى
لو انْتَقَصَ النِّصَابُ في أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ثُمَّ كَمُلَ في آخِرِهِ تَجِبُ
الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كان من السَّوَائِمِ أو من الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أو مَالِ
التِّجَارَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ كَمَالُ النِّصَابِ من أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَى آخِرِهِ شَرْطُ وُجُوبِ
الزَّكَاةِ وهو قَوْلُ
____________________
(2/15)
الشَّافِعِيِّ
إلَّا في مَالِ التِّجَارَةِ فإنه يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ في آخِر
الْحَوْلِ وَلَا يُعْتَبَرُ في أَوَّلِ الْحَوْلِ وَوَسَطِهِ حتى أَنَّهُ إذَا كان
قِيمَةُ مَالِ التِّجَارَةِ في أَوَّلِ الْحَوْلِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ
قِيمَتُهُ في آخِرِ الْحَوْلِ مِائَتَيْنِ تَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ حَوَلَانَ الْحَوْلِ على النِّصَابِ شَرْطُ وُجُوبِ
الزَّكَاةِ فيه وَلَا نِصَابَ في وَسَطِ الْحَوْلِ فَلَا يُتَصَوَّرُ حَوَلَانُ
الْحَوْلِ عليه وَلِهَذَا لو هَلَكَ النِّصَابُ في خِلَالِ الْحَوْلِ يَنْقَطِعُ
حُكْمُ الْحَوْلِ وَكَذَا لو كان النِّصَابُ سَائِمَةً فَجَعَلَهَا عَلُوفَةً في
وَسَطِ الْحَوْلِ بَطَلَ الْحَوْلُ وَبِهَذَا يَحْتَجُّ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا
إلَّا أَنَّهُ يقول تَرَكْتُ هذا الْقِيَاسَ في مَالِ التِّجَارَةِ لِلضَّرُورَةِ
وَهِيَ أَنَّ نِصَابَ التِّجَارَةِ يَكْمُلُ بِالْقِيمَةِ وَالْقِيمَةُ تَزْدَادُ
وَتَنْتَقِصُ في كل سَاعَةٍ لِتَغَيُّرِ السِّعْرِ لِكَثْرَةِ رَغْبَةِ الناس
وَقِلَّتِهَا وَعِزَّةِ السِّلْعَةِ وَكَثْرَتِهَا فَيَشُقُّ عليه تَقْوِيمُ
مَالِهِ في كل يَوْمٍ فَاعْتُبِرَ الْكَمَالُ عِنْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وهو آخِرُ
الْحَوْلِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَا تُوجَدُ في
السَّائِمَةِ لِأَنَّ نِصَابَهَا لَا يَكْمُلُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ بَلْ
بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ
وَلَنَا أَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَيُعْتَبَر
وُجُودُهُ في أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ لَا غير لِأَنَّ أَوَّلَ الْحَوْلِ
وَقْتُ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَآخِرَهُ وَقْتُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فَأَمَّا وَسَطُ
الْحَوْلِ فَلَيْسَ بِوَقْتِ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَلَا وَقْتِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ
فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ كَمَالِ النِّصَابِ فيه إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ من
بَقَاءِ شَيْءٍ من النِّصَابِ الذي انْعَقَدَ عليه الْحَوْلُ لِيَضُمَّ
الْمُسْتَفَادَ إلَيْهِ فإذا هَلَكَ كُلُّهُ لم يُتَصَوَّرُ الضَّمُّ
فَيُسْتَأْنَفُ له الْحَوْلُ بِخِلَافِ ما إذَا جَعَلَ السَّائِمَةَ عَلُوفَةً في
خِلَالِ الْحَوْلِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهَا عَلُوفَةً فَقَدْ أَخْرَجَهَا من
أَنْ تَكُونَ مَالَ الزَّكَاةِ فَصَارَ كما لو هَلَكَتْ
وماذكر الشَّافِعِيُّ من اعْتِبَارِ الْمَشَقَّةِ يَصْلُحُ لِإِسْقَاطِ إعتبار
كَمَالِ النِّصَابِ في خِلَالِ الْحَوْلِ لَا في أَوَّلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَشُقُّ
عليه تَقْوِيمُ مَالِهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ لِيَعْرِفَ بِهِ انْعِقَادَ
الْحَوْلِ كما لَا يَشُقُّ عليه ذلك في آخِرِ الْحَوْلِ لِيَعْرِفَ بِهِ وُجُوبَ
الزَّكَاةِ في مَالِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وأما مِقْدَارُ النِّصَابِ وَصِفَتُهُ وَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ في النِّصَابِ
وَصِفَتُهُ فَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهَا إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَمْوَالِ
الزَّكَاةِ لِأَنَّ هذه الْجُمْلَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
أَمْوَالُ الزَّكَاةِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا الْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ
وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ
وَالثَّانِي أَمْوَالُ التِّجَارَةِ ( وَهِيَ الْعُرُوض الْمُعَدَّةُ
لِلتِّجَارَةِ )
وَالثَّالِثُ السَّوَائِمُ فَنُبَيِّنُ مِقْدَارَ النِّصَابِ من كل وَاحِدٍ
وَصِفَتَهُ وَمِقْدَارَ الْوَاجِبِ في كل وَاحِدٍ وَصِفَتَهُ وَمَنْ له
الْمُطَالَبَةُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ في السَّوَائِمِ وَالْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ
فَصْلٌ أَمَّا الْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ أَمَّا
قَدْرُ النِّصَابِ فِيهِمَا فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ له
فِضَّةٌ مُفْرَدَةٌ أو ذَهَبٌ مُفْرَدٌ أو اجْتَمَعَ له الصِّنْفَانِ جميعا فَإِنْ
كان له فِضَّةٌ مُفْرَدَةٌ فَلَا زَكَاةَ فيها حتى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ
وَزْنًا وَزْنَ سَبْعَةٍ فإذا بَلَغَتْ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لِمَا رُوِيَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا كَتَبَ كِتَابَ الصَّدَقَاتِ
لِعَمْرِو بن حَزْمٍ ذَكَرَ فيه الْفِضَّةَ ليس فيها صَدَقَةٌ حتى تَبْلُغَ
مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فإذا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ
وَرُوِيَ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم قال لِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ
ليس فِيمَا دُونَ مِائَتَيْنِ من الْوَرِقِ شَيْءٌ وفي مِائَتَيْنِ خَمْسَةٌ
وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْوَزْنَ في الدَّرَاهِمِ دُونَ الْعَدَدِ لِأَنَّ
الدَّرَاهِمَ اسْمٌ لِلْمَوْزُونِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عن قَدْرٍ من الْمَوْزُونِ
مُشْتَمِلٌ على جُمْلَةٍ مَوْزُونَةٍ من الدَّوَانِيقِ وَالْحَبَّاتِ حتى لو كان
وَزْنُهَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ وَعَدَدُهَا مِائَتَانِ أو قِيمَتُهَا
لِجَوْدَتِهَا وَصِيَاغَتِهَا تُسَاوِي مِائَتَيْنِ فَلَا زَكَاةَ فيها
وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا وَزْنَ سَبْعَةٍ وهو أَنْ يَكُونَ الْعَشَرَةُ منها
وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ وَالْمِائَتَانِ مِمَّا يُوزَنُ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ
مِثْقَالًا لِأَنَّهُ الْوَزْنُ الْمُجْمَعُ عليه لِلدَّرَاهِمِ الْمَضْرُوبَةِ في
الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ في الْجَاهِلِيَّةِ كان بَعْضُهَا
ثَقِيلًا مِثْقَالًا وَبَعْضُهَا خَفِيفًا طَيْرِيًّا فلما عَزَمُوا على ضَرْبِ
الدَّرَاهِمِ في الْإِسْلَامِ جَمَعُوا الدِّرْهَمَ الثَّقِيلَ وَالدِّرْهَمَ
الْخَفِيفَ فَجَعَلُوهُمَا دِرْهَمَيْنِ فَكَانَا دِرْهَمَيْنِ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ
فَاجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ على الْعَمَلِ على ذلك
وَلَوْ نَقَصَ النِّصَابُ عن الْمِائَتَيْنِ نُقْصَانًا يَسِيرًا يَدْخُلُ بين
الْوَزْنَيْنِ
قال أَصْحَابُنَا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فيه لِأَنَّهُ وَقَعَ الشَّكُّ في كَمَالِ
النِّصَابِ فَلَا نَحْكُمُ بِكَمَالِهِ مع الشَّكِّ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَلَوْ كانت الْفِضَّةُ مُشْتَرَكَةً بين اثْنَيْنِ فَإِنْ كان يَبْلُغُ نَصِيبَ
كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْدَارَ النِّصَابِ تَجِبُ الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا
وَيُعْتَبَرُ في حَالِ الشَّرِكَةِ ما يُعْتَبَرُ في حَالِ الِانْفِرَادِ وَهَذَا
عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في
السَّوَائِمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ هذا النِّصَابِ فَنَقُولُ لَا يُعْتَبَرُ في هذا النِّصَابِ
صِفَةٌ زَائِدَةٌ على كَوْنِهِ فِضَّةً فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فيها سَوَاءٌ
____________________
(2/16)
كانت
دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً أو نُقْرَةً أو تِبْرًا أو حُلِيًّا مَصُوغًا أو حِلْيَةَ
سَيْفٍ أو مِنْطَقَةٍ أو لِجَامٍ أو سَرْجٍ أو الْكَوَاكِبِ في الْمَصَاحِفِ أو (
( ( والأواني ) ) ) الأواني وَغَيْرِهَا إذَا كانت تَخْلُصُ عِنْدَ الْإِذَابَةِ
إذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَسَوَاءٌ كان يُمْسِكُهَا لِلتِّجَارَةِ أو
لِلنَّفَقَةِ أو لِلتَّجَمُّلِ أو لم يَنْوِ شيئا وَهَذَا عِنْدَنَا وهو قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ أَيْضًا إلَّا في حُلِيِّ النِّسَاءِ إذاكان مُعَدًّا لِلُبْسٍ
مُبَاحٍ أو لِلْعَارِيَّةِ لِلثَّوَابِ فَلَهُ فيه قَوْلَانِ في قَوْلٍ لَا شَيْءَ
فيه وهو مَرْوِيٌّ عن ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ ( عنهما ) وَاحْتُجَّ
بِمَا رُوِيَ في الحديث لَا زَكَاةَ في الْحُلِيِّ
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله ( عنه ) أَنَّهُ قال زَكَاةُ الْحُلِيِّ إعَارَتُهُ
وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُبْتَذَلٌ في وَجْهٍ مُبَاحٍ فَلَا يَكُونُ نِصَابُ الزَّكَاةِ
كَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ بِخِلَافِ حُلِيِّ الرِّجَالِ فإنه
مُبْتَذَلٌ في وَجْهٍ مَحْظُورٍ وَهَذَا لِأَنَّ الإبتذال إذَا كان مُبَاحًا كان
مُعْتَبَرًا شَرْعًا وإذا كان مَحْظُورًا كان سَاقِطَ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا
فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ
نَظِيرُهُ ذَهَابُ الْعَقْلِ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ مع ذَهَابِهِ بِسَبَبِ السُّكْرِ
إنه اُعْتُبِرَ الْأَوَّلُ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الثَّانِي كَذَا هذا
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا
يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أَلْحَقَ
الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِكَنْزِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَتَرْكٍ انفاقها ( ( (
إنفاقهما ) ) ) في سَبِيلِ اللَّهِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْحُلِيِّ وَغَيْرِهِ
وَكُلُّ مَالٍ لم تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ بِالْحَدِيثِ الذي رَوَيْنَا
فَكَانَ تَارِكُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ منه كَانِزًا فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْوَعِيدِ
وَلَا يَلْحَقُ الْوَعِيدُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ
وَقَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً
بها أَنْفُسُكُمْ من غَيْرِ فَصْلٍ بين مَالٍ وَمَالٍ وَلِأَنَّ الْحُلِيَّ مَالٌ
فَاضِلٌ عن الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ إذْ الْإِعْدَادُ لِلتَّجَمُّلِ
وَالتَّزَيُّنِ دَلِيلُ الْفَضْلِ عن الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَكَانَ نِعْمَةً
لِحُصُولِ التَّنَعُّمِ بِهِ فَيَلْزَمُهُ شُكْرُهَا بِإِخْرَاجِ جُزْءٍ منها
لِلْفُقَرَاءِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قال بَعْضُ صَيَارِفَةِ الحديث إنه لم يَصِحَّ
لِأَحَدٍ شَيْءٌ في بَابِ الْحُلِيِّ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَالْمَرْوِيُّ عن ابْنِ عُمَرَ مُعَارَضٌ بِالْمَرْوِيِّ عنه أَيْضًا أَنَّهُ
زَكَّى حُلِيَّ بَنَاتِهِ وَنِسَائِهِ
على أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُ
الْبَعْضِ حُجَّةً على الْبَعْضِ مع ما إن تَسْمِيَةَ إعَارَةِ الْحُلِيِّ زَكَاةً
لَا تَنْفِي وُجُوبَ الزَّكَاةِ الْمَعْهُودَةِ إذَا قام دَلِيلُ الْوُجُوبِ وقد
بَيَّنَّا ذلك
هذا إذَا كانت الدَّرَاهِمُ فِضَّةً خَالِصَةً فَأَمَّا إذَا كانت مَغْشُوشَةً
فَإِنْ كان الْغَالِبُ هو الْفِضَّةُ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْغِشَّ فيها مَغْمُورٌ
مُسْتَهْلَكٌ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ بأن الزَّكَاةَ تَجِبُ في
الدَّرَاهِمِ الْجِيَادِ وَالزُّيُوفِ وَالنَّبَهْرَجَةِ وَالْمُكْحُلَةِ وَالْمُزَيَّفَةِ
قال لِأَنَّ الْغَالِبَ فيها كُلِّهَا الْفِضَّةُ وما تَغْلِبُ فِضَّتُهُ على
غِشِّهِ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الدَّرَاهِمِ مُطْلَقًا وَالشَّرْعُ أَوْجَبَ بِاسْمِ
الدَّرَاهِمِ وَإِنْ كان الْغَالِبُ هو الْغِشُّ وَالْفِضَّةُ فيها مَغْلُوبَةٌ
فَإِنْ كانت أَثْمَانًا رَائِجَةً أو كان يُمْسِكُهَا لِلتِّجَارَةِ يَعْتَبِرُ
قِيمَتَهَا فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ من أَدْنَى
الدَّرَاهِمِ التي تَجِبُ فيها الزَّكَاةُ وَهِيَ التي الْغَالِبُ عليها
الْفِضَّةُ تَجِبُ فيها الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ لم تَكُنْ أَثْمَانًا
رَائِجَةً وَلَا مُعَدَّةً لِلتِّجَارَةِ فَلَا زَكَاةَ فيها إلَّا أَنْ يَكُونَ
ما فيها من الْفِضَّةِ يَبْلُغُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِأَنْ كانت كَبِيرَةً لِأَنَّ
الصُّفْرَ لَا تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ إلَّا بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ وَالْفِضَّةُ
لَا يُشْتَرَطُ فيها نِيَّةُ التِّجَارَةِ فإذا أَعَدَّهَا لِلتِّجَارَةِ اعتبرنا
( ( ( اعتبر ) ) ) الْقِيمَةَ كعروض ( ( ( كمعروض ) ) ) التِّجَارَةِ وإذا لم
تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ وَلَا ثَمَنًا رَائِجَةً اعْتَبَرْنَا ما فيها من الْفِضَّةِ
وَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ فِيمَنْ كانت عِنْدَهُ فُلُوسٌ أو
دَرَاهِمُ رَصَاصٌ أو نُحَاسٌ أو مُمَوَّهَةٌ بِحَيْثُ لَا يَخْلُصُ فيها
الْفِضَّةُ إنها إنْ كانت لِلتِّجَارَةِ يَعْتَبِرُ قِيمَتَهَا فَإِنْ بَلَغَتْ
مِائَتَيْ دِرْهَمٍ من الدَّرَاهِمِ التي تَغْلِبُ فيها الْفِضَّةُ فَفِيهَا
الزَّكَاةُ وَإِنْ لم تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ فَلَا زَكَاةَ فيها لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّ الصُّفْرَ وَنَحْوَهُ لَا تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ ما لم تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ
وَعَلَى هذا كان جَوَابُ الْمُتَقَدِّمِينَ من مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ
في الدَّرَاهِمِ الْمُسَمَّاةِ بِالْغَطَارِفَةِ التي كانت في الزَّمَنِ
الْمُتَقَدِّمِ في دِيَارِنَا إنها إنْ كانت أَثْمَانًا رَائِجَةً يُعْتَبَرُ
قِيمَتُهَا بِأَدْنَى ما يَنْطَلِقُ عليه اسْمُ الدَّرَاهِمِ وَهِيَ التي تَغْلِبُ
عليها الْفِضَّةُ وَإِنْ لم تَكُنْ أَثْمَانًا رَائِجَةً
فَإِنْ كانت سِلَعًا لِلتِّجَارَةِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا أَيْضًا وَإِنْ لم
تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ بِقَدْرِ ما فيها من الْفِضَّةِ إنْ
بَلَغَتْ نِصَابًا أو بِالضَّمِّ إلَى ما عِنْدَهُ من مَالِ التِّجَارَةِ
وكان الشَّيْخُ الْإِمَامُ أبو بَكْرٍ محمد بن الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ يفتي
بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ في كل مِائَتَيْنِ فيها رُبُعُ عُشْرِهَا وهو خَمْسَةٌ منها
عَدَدًا وكان يقول هو من أَعَزِّ النُّقُودِ فِينَا بِمَنْزِلَةِ الْفِضَّةِ
فِيهِمْ وَنَحْنُ أَعْرَفُ بِنُقُودِنَا وهو اخْتِيَارُ الْإِمَامِ
الْحَلْوَانِيِّ وَالسَّرَخْسِيِّ وَقَوْلُ السَّلَفِ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَا من
الْفِقْهِ
وَلَوْ زَادَ على نِصَابِ الْفِضَّةِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ في الزِّيَادَةِ حتى
تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ فَيَجِبُ فيها دِرْهَمٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعَلَى هذا
أَبَدًا في كل أَرْبَعِينَ دِرْهَمٌ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ
____________________
(2/17)
تَجِبُ
الزَّكَاةُ في الزِّيَادَةِ بِحِسَابِ ذلك
قَلَّتْ أو كَثُرَتْ حتى لو كانت الزِّيَادَةُ دِرْهَمًا يَجِبُ فيه جُزْءٌ من
الْأَرْبَعِينَ جُزْءًا من دِرْهَمٍ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بين
الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه مِثْلُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَرُوِيَ عن
عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما مِثْلُ قَوْلِهِمْ
وَلَا خِلَافَ في السَّوَائِمِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ في الزَّوَائِدِ منها على
النِّصَابِ حتى تَبْلُغَ نِصَابًا
احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم أَنَّهُ قال وما زَادَ على الْمِائَتَيْنِ فَبِحِسَابِ ذلك وَهَذَا نَصٌّ في
الْبَابِ وَلِأَنَّ شَرْطَ النِّصَابِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عن الْقِيَاسِ
لِأَنَّ الزَّكَاةَ عُرِفَ وُجُوبُهَا شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ
وَمَعْنَى النِّعْمَةِ يُوجَدُ في الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَإِنَّمَا عَرَفْنَا
اشْتِرَاطَهُ بِالنَّصِّ وإنه وَرَدَ في أَصْلِ النِّصَابِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ في
الزِّيَادَةِ على أَصْلِ الْقِيَاسِ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ في السَّوَائِمِ لَا
تُعْتَبَرُ ما لم تَبْلُغْ نِصَابًا دَفْعًا لِضَرَرِ الشَّرِكَةِ إذْ الشَّرِكَةُ
في الْأَعْيَانِ عَيْبٌ وَهَذَا الْمَعْنَى لم يُوجَدْ هَهُنَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
في كِتَابِ عَمْرِو بن حَزْمٍ فإذا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ
دَرَاهِمَ وفي كل أَرْبَعِينَ دِرْهَمٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ
صَدَقَةٌ
وَرُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِمُعَاذٍ حين وَجَّهَهُ
إلَى الْيَمَنِ لَا تَأْخُذْ من الْكُسُورِ شيئا
فإذا كان الْوَرِقُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَخُذْ منها خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَلَا
تَأْخُذْ مِمَّا زَادَ شيئا حتى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَتَأْخُذَ منها
دِرْهَمًا وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ كل نِصَابٍ عَفْوٌ نَظَرًا
لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ كما في السَّوَائِمِ وَلِأَنَّ في اعْتِبَارِ الْكُسُورِ
حَرْجًا وإنه مَدْفُوعٌ
وَحَدِيثُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه لم يَرْفَعْهُ أَحَدٌ من الثِّقَاتِ بَلْ
شَكُّوا في قَوْلِهِ وما زَادَ على الْمِائَتَيْنِ فَبِحِسَابِ ذلك إن ذلك قَوْلُ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أو قَوْلُ عَلِيٍّ
فَإِنْ كان قَوْلَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يَكُونُ حُجَّةً وَإِنْ كان قَوْلَ
عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه لَا يَكُونُ حُجَّةً لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلِفَةٌ
بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِ الْبَعْضِ على
الْبَعْضِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِمَا رَوَيْنَا وما
ذَكَرُوا من شُكْرِ النَّعْمَةِ فَالْجَوَابُ منه ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
لِأَنَّ مَعْنَى النَّعْمَةِ هو التَّنَعُّمُ وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِمَا دُونَ
النِّصَابِ ثُمَّ يَبْطُلُ بِالسَّوَائِمِ مع أَنَّهُ قِيَاسٌ في مُقَابَلَةِ
النَّصِّ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فيها فَرُبُعُ الْعُشْرِ وهو خَمْسَةٌ من
مِائَتَيْنِ لِلْأَحَادِيثِ التي رَوَيْنَا إذْ الْمَقَادِيرُ لَا تُعْرَفُ إلَّا
تَوْقِيفًا
وَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم هَاتُوا رُبُعَ عُشُورِ أَمْوَالِكُمْ
وَخَمْسَةٌ من مِائَتَيْنِ رُبْعُ عُشْرِهَا وَأَمَّا صَدَقَةُ الْوَاجِبِ
فَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ هذا إذَا كان له فِضَّةٌ مُفْرَدَةٌ فَأَمَّا إذَا كان له ذَهَبٌ مُفْرَدٌ
فَلَا شَيْءَ فيه حتى يَبْلُغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فإذا بَلَغَ عِشْرِينَ
مِثْقَالًا فَفِيهِ نِصْفُ مِثْقَالٍ
لِمَا رُوِيَ في حديث عَمْرِو بن حَزْمٍ وَالذَّهَبُ ما لم يَبْلُغْ قِيمَتُهُ
مِائَتِي دِرْهَمٍ فَلَا صَدَقَةَ فيه فإذا بَلَغَ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ
فَفِيهِ رُبُعُ الْعُشْرِ وكان الدِّينَارُ على عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم مُقَوَّمًا بعشر ( ( ( بعشرة ) ) ) دَرَاهِمَ
وَرُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِعَلِيٍّ ليس عَلَيْك في
الذَّهَبِ زَكَاةٌ ما لم يَبْلُغْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فإذا بَلَغَ عِشْرِينَ
مِثْقَالًا فَفِيهِ نِصْفُ مِثْقَالٍ وَسَوَاءٌ كان الذَّهَبُ لِوَاحِدٍ أو كان
مُشْتَرَكًا بين اثْنَيْنِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ على أَحَدِهِمَا ما لم يَبْلُغْ
نَصِيبَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ
وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي في نِصَابِ السَّوَائِمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الذَّهَبِ فَنَقُولُ لَا يُعْتَبَرُ في نِصَابِ الذَّهَبِ
أَيْضًا صِفَةٌ زَائِدَةٌ على كَوْنِهِ ذَهَبًا فَتَجِبُ الزَّكَاةُ في
الْمَضْرُوبِ وَالتِّبْرِ وَالْمَصُوغِ وَالْحُلِيِّ إلَّا على أَحَدِ قَوْلَيْ
الشَّافِعِيِّ في الْحُلِيِّ الذي يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ
الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } وَقَوْلَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في كِتَابِ
عَمْرِو بن حَزْمٍ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ في مُطْلَقِ الذَّهَبِ
وَكَذَا حُكْمُ الدَّنَانِيرِ التي الْغَالِبُ عليها الذَّهَبُ
كَالْمَحْمُودِيَّةِ وَالصُّورِيَّةِ وَنَحْوِهِمَا وَحُكْمُ الذَّهَبِ الْخَالِصِ
سَوَاءٌ لِمَا ذَكَرْنَا
وَأَمَّا الْهَرَوِيَّةُ وَالْمَرْوِيَّةُ وما لم يَكُنْ الْغَالِبُ عليها
الذَّهَبُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا إنْ كانت أَثْمَانًا رَائِجَةً أو
لِلتِّجَارَةِ وَإِلَّا فَيُعْتَبَرُ قَدْرُ ما فيها من الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَزْنًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَخْلُصُ بِالْإِذَابَةِ وَلَوْ زَادَ على نِصَابِ
الذَّهَبِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ في الزِّيَادَةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ حتى
تَبْلُغَ أَرْبَعَةَ مَثَاقِيلَ فَيَجِبُ فيها قِيرَاطَانِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ يَجِبُ في الزِّيَادَةِ وَإِنْ قَلَّتْ بِحِسَابِ ذلك
وَالْمَسْأَلَةُ قد مَرَّتْ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فيه فَرُبُعُ الْعُشْرِ بِحَدِيثِ عَمْرِو
بن حَزْمٍ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنهما
____________________
(2/18)
لِأَنَّ
نِصْفَ مِثْقَالٍ من عِشْرِينَ مِثْقَالًا رُبُعُ عشرة وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ
فَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
هذا إذَا كان له فِضَّةٌ مُفْرَدَةٌ أو ذَهَبٌ مُفْرَدٌ فَأَمَّا إذَا كان له
الصِّنْفَانِ جميعا فَإِنْ لم يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا بِأَنْ كان
له عَشْرَةُ مَثَاقِيلَ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ فإنه يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى
الْآخَرِ في حَقِّ تَكْمِيلِ النِّصَابِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ
بَلْ يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على حِدَةٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ إنهما جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فَلَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا
لِلْآخَرِ في تَكْمِيلِ النِّصَابِ كَالسَّوَائِمِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ
وَإِنَّمَا قُلْنَا إنهما عَيْنَانِ مُخْتَلِفَانِ لِاخْتِلَافِهِمَا صُورَةً
وَمَعْنًى أَمَّا الصُّورَةُ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ
بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا وَصَارَ كَالْإِبِلِ مع الْغَنَمِ
بِخِلَافِ مَالِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ يَكْمُلُ النِّصَابُ من قِيمَتَهَا
وَالْقِيمَةُ وَاحِدَةٌ وَهِيَ دَرَاهِمُ أو دَنَانِيرُ فَكَانَ مَالُ الزَّكَاةِ
جِنْسًا وَاحِدًا وهو الذَّهَبُ أو الْفِضَّةُ
فَأَمَّا الزَّكَاةُ في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنَّمَا تَجِبُ لِعَيْنِهَا
دُونَ الْقِيمَةِ
وَلِهَذَا لَا يُكْمَلُ بِهِ الْقِيمَةُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ وَإِنَّمَا
يُكْمَلُ بِالْوَزْنِ كَثُرَتْ القيمة ( ( ( القيامة ) ) ) أو قَلَّتْ بِأَنْ كانت
رَدِيئَةً
وَلَنَا ما رُوِيَ عن بُكَيْر بن عبد اللَّهِ بن الْأَشَجِّ أَنَّهُ قال مَضَتْ
السُّنَّةُ من أَصْحَابِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِضَمِّ الذَّهَبِ
إلَى الْفِضَّةِ وَالْفِضَّةِ إلَى الذَّهَبِ في إخْرَاجِ الزَّكَاةِ
وَلِأَنَّهُمَا مَالَانِ مُتَّحِدَانِ في الْمَعْنَى الذي تَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ
الزَّكَاةِ فِيهِمَا وهو الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ
وَالثَّمَنِيَّةِ فَكَانَا في حُكْمِ الزَّكَاةِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا
اتَّفَقَ الْوَاجِبُ فِيهِمَا وهو رُبُعُ الْعُشْرِ عن كل حَالٍ وَإِنَّمَا
يَتَّفِقُ الْوَاجِبُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَالِ
وَأَمَّا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فَيَخْتَلِفُ الْوَاجِبُ وإذا اتَّحَدَ الْمَالَانِ
مَعْنًى فَلَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ الصُّورَةِ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَلِهَذَا
يُكْمَلُ نِصَابُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَلَا يُعْتَبَرُ
اخْتِلَافُ الصُّورَةِ كما إذَا كان له أَقَلُّ من عِشْرِينَ مِثْقَالًا وَأَقَلُّ
من مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَهُ عُرُوضٌ لِلتِّجَارَةِ وَنَقْدُ الْبَلَدِ في
الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ سَوَاءٌ فَإِنْ شَاءَ كَمَّلَ بِهِ نِصَابَ
الذَّهَبِ وَإِنْ شَاءَ كَمَّلَ بِهِ نِصَابَ الْفِضَّةِ وَصَارَ كَالسُّودِ مع
الْبِيضِ بِخِلَافِ السَّوَائِمِ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ مُتَعَلِّقٌ
بِالصُّورَةِ وَالْمَعْنَى وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ صُورَةً وَمَعْنًى فَتَعَذَّرَ
تَكْمِيلُ نِصَابِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ
ثُمَّ إذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ عِنْدَ ضَمِّ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ اخْتَلَفَتْ
الرِّوَايَةُ فِيمَا يؤدي
رَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يؤدي من مِائَةِ دِرْهَمٍ دِرْهَمَانِ
وَنِصْفٌ وَمِنْ عَشْرَةِ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ رُبْعُ مِثْقَالٍ وهو إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي يُوسُفَ لِأَنَّ هذا أَقْرَبُ إلَى الْمُعَادَلَةِ
وَالنَّظَرِ من الْجَانِبَيْنِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَقُومُ أَحَدُهُمَا
بِالْآخَرِ ثُمَّ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ من نَوْعٍ وَاحِدٍ وهو أَقْرَبُ إلَى
مُوَافَقَةِ نُصُوصِ الزَّكَاةِ
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في كَيْفِيَّةِ الضَّمِّ فقال أبو حَنِيفَةَ يُضَمُّ
أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
يُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ
وهو رِوَايَةً عن أبي حَنِيفَةَ أَيْضًا
ذَكَرَهُ في نَوَادِرِ هِشَامٍ
وَإِنَّمَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الإختلاف فِيمَا إذَا كانت قِيمَةُ أَحَدِهِمَا
لِجَوْدَتِهِ وَصِيَاغَتِهِ أَكْثَرَ من وَزْنِهِ بِأَنْ كان له مِائَةُ دِرْهَمٍ
وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ قِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
يُقَوِّمُ الدَّنَانِيرَ بِخِلَافِ جِنْسِهَا دَرَاهِمَ وَتُضَمُّ إلَى
الدَّرَاهِمِ فَيُكَمَّلُ نِصَابُ الدَّرَاهِمِ من حَيْثُ الْقِيمَةِ فَتَجِبُ
الزَّكَاةُ
وَعِنْدَهُمَا تُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ
فَلَا يَكْمُلُ النِّصَابُ لِأَنَّ له نِصْفَ نِصَابِ الْفِضَّةِ وَرُبْعَ نِصَابِ
الذَّهَبِ فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ النِّصَابِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ
وَعَلَى هذا لو كان له مِائَةُ دِرْهَمٍ وَعَشْرَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ قِيمَتُهَا
مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا تُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ فَتَبْلُغُ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَتَجِبُ فيها سِتَّةُ
دَرَاهِمَ
وَعِنْدَهُمَا تُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَيَكُونُ نِصْفَ نِصَابِ
الذَّهَبِ وَنِصْفَ نِصَابِ الْفِضَّةِ فَيَكُونُ نِصَابًا تَامًّا فَيَجِبُ في
نِصْفِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُ عُشْرِهِ
فأما إذَا كان وَزْنُهُمَا وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءً بِأَنْ كان له مِائَةُ دِرْهَمٍ
وَعَشْرَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ تُسَاوِي مِائَةً أو مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا
وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ أو خَمْسَةُ عَشْرَ مِثْقَالًا وَخَمْسُونَ
دِرْهَمًا فَهَهُنَا لَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ بَلْ يُضَمُّ
أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ بِالْإِجْمَاعِ على اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ عِنْدَهُ
بِاعْتِبَارِ التَّقْوِيمِ
وَعِنْدَهُمَا بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ
وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ إذَا كان له مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ
ذَهَبٍ قِيمَتُهَا خَمْسُونَ دِرْهَمًا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِمَا لِأَنَّ
النِّصَابَ لم يَكْمُلْ بِالضَّمِّ لَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَلَا
بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ
وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
عِنْدَ الِانْفِرَادِ في حَقِّ تَكْمِيلِ النِّصَابِ حتى أَنَّهُ إذَا كان له
إبْرِيقُ فِضَّةٍ وَزْنُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ لصناعتها ( ( ( لصناعة )
) ) مِائَتَانِ لَا تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ
وَكَذَلِكَ إذَا كان له آنِيَةُ ذَهَبٍ وَزْنُهَا عَشْرَةٌ وَقِيمَتُهَا
لِصِنَاعَتِهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا تَجِبُ فيها الزَّكَاةُ
____________________
(2/19)
بِاعْتِبَارِ
الْقِيمَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقِيمَةَ في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَاقِطَةُ
الِاعْتِبَارِ شَرْعًا لِأَنَّ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ تَقُومُ بِهِمَا وَإِنَّمَا
الْمُعْتَبَرُ فِيهِمَا الْوَزْنُ أَلَا تَرَى أَنَّ من مَلَكَ إبْرِيقَ فِضَّةٍ
وَزْنُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَقِيمَتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا تَجِبُ
الزَّكَاةُ وَكَذَلِكَ إذَا مَلَكَ آنِيَةَ ذَهَبٍ وَزْنُهَا عَشْرَةُ مَثَاقِيلَ
وَقِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ وَلَوْ كانت الْقِيمَةُ
فيها مُعْتَبَرَةٌ لَوَجَبَتْ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا عَيْنَانِ وَجَبَ ضَمُّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ
لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فَكَانَ الضَّمُّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ كَعُرُوضِ
التِّجَارَةِ وَهَذَا لِأَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا عِنْدَ
اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَلَا اتِّحَادَ إلَّا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ
دُونَ الْعَيْنِ فإن الْأَمْوَالَ أَجْنَاسٌ بِأَعْيَانِهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ
بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ فيها وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِبْرِيقِ
وَالْآنِيَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ ما وَجَبَ ضَمُّهُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ حتى تُعْتَبَرَ
فيه الْقِيمَةُ وَهَذَا لِأَنَّ الْقِيمَةَ في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّمَا
تَظْهَرُ شَرْعًا عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فإن الْجَوْدَةَ
وَالصَّنْعَةَ لَا قِيمَةَ لها إذَا قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا قال النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ
فَأَمَّا عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَتَظْهَرُ لِلْجُودَةِ
قِيمَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَتَى وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَقْوِيمِ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ في حُقُوقِ الْعِبَادِ تَقُومُ بِخِلَافِ جِنْسِهَا فَإِنْ اغْتَصَبَ
قَلْبًا فَهَشَّمَهُ وَاخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَهُ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ من
خِلَافِ جِنْسِهِ فَكَذَلِكَ في حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ في
التَّكْمِيلِ بِاعْتِبَارِ التَّقْوِيمِ ضَرْبَ احْتِيَاطٍ في بَابِ الْعِبَادَةِ
وَنَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ فَكَانَ أَوْلَى
ثُمَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يُعْتَبَرُ في التَّقْوِيمِ مَنْفَعَةُ الْفُقَرَاءِ
كما هو أَصْلُهُ حتى رُوِيَ عنه أَنَّهُ قال إذَا كان لِرَجُلٍ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ
وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا ودينارا ( ( ( ودينار ) ) ) يُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ
أنه تَجِبُ الزَّكَاةُ وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَوِّمَ الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كُلَّ
خَمْسَةٍ منها بِدِينَارٍ
وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا كُلُّهُ من وُجُوبِ الضَّمِّ إذَا لم يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا نِصَابًا بِأَنْ كان أَقَلَّ من النِّصَابِ فَأَمَّا إذَا كان كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا تَامًّا ولم يَكُنْ زَائِدًا عليه لَا يَجِبُ الضَّمُّ
بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُؤَدِّيَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَكَاتَهُ وَلَوْ ضُمَّ
أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ حتى يؤدي كُلُّهُ من الْفِضَّةِ أو من الذَّهَبِ فَلَا
بَأْسَ بِهِ عِنْدَنَا وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّقْوِيمُ بِمَا هو
أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ رَوَاجًا وَإِلَّا فيؤدي من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعُ
عُشْرِهِ وَإِنْ كان على كل وَاحِدٍ من النِّصَابَيْنِ زِيَادَةٌ فَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ ضَمُّ إحْدَى الزِّيَادَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى
لِأَنَّهُمَا يُوجِبَانِ الزَّكَاةَ في الْكُسُورِ بِحِسَابِ ذلك
وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَيُنْظَرُ إنْ بَلَغَتْ الزِّيَادَةُ أَرْبَعَ
مَثَاقِيلَ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَكَذَلِكَ وَإِنْ كان أَقَلَّ من أَرْبَعَةِ
مَثَاقِيلَ وَأَقَلَّ من أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا يَجِبُ ضَمُّ إحْدَى
الزِّيَادَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى لِيَتِمَّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وأربعة
مَثَاقِيلَ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ في الْكُسُورِ عِنْدَهُ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا أَمْوَالُ التِّجَارَةِ فَتَقْدِيرُ النِّصَابِ فيها بِقِيمَتِهَا
من الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ فَلَا شَيْءَ فيها ما لم تَبْلُغْ قِيمَتُهَا
مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أو عِشْرِينَ مِثْقَالًا من ذَهَبٍ فَتَجِبُ فيها الزَّكَاةُ
وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ لا زَكَاةَ فيها أَصْلًا
وقال مَالِكٌ إذَا نَضَّتْ زَكَّاهَا لِحَوْلٍ وَاحِدٍ
وَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ إن وُجُوبَ الزَّكَاةِ إنَّمَا عُرِفَ
بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِوُجُوبِهَا في الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
وَالسَّوَائِمِ فَلَوْ وَجَبَتْ في غَيْرِهَا لَوَجَبَتْ بِالْقِيَاسِ عليها
وَالْقِيَاسُ ليس بِحَجَّةٍ خُصُوصًا في بَابِ الْمَقَادِيرِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن سُمْرَةَ بن جُنْدُبٍ أَنَّهُ قال كان رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم يَأْمُرُنَا بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ من الرَّقِيقِ الذي كنا
نَعُدُّهُ لِلْبَيْعِ
وَرُوِيَ عن أبي ذَرٍّ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
قال في الْبُرِّ صَدَقَةٌ
وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم هَاتُوا رُبُعَ عُشْرِ أَمْوَالِكُمْ
فَإِنْ قِيلَ الْحَدِيثُ وَرَدَ في نِصَابِ الدَّرَاهِمِ لِأَنَّهُ قال في آخِرِهِ
من كل أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ فَالْجَوَابُ أَنَّ أَوَّلَ الحديث عَامٌّ
وَخُصُوصُ آخِرِهِ يُوجِبُ سَلْبَ عُمُومِ أَوَّلِهِ أو نَحْمِلُ قَوْلَهُ من كل
أَرْبَعِينَ دِرْهَمٌ على الْقِيمَةِ أَيْ من كل أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا من
قِيمَتِهَا دِرْهَمٌ وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَدُّوا زَكَاةَ أموالكممن
غَيْرِ فَصْلٍ بين مَالٍ وَمَالٍ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ مَالَ التِّجَارَةِ
مَالٌ نَامٍ فَاضِلٌ عن الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَيَكُونُ مَالَ الزَّكَاةِ
كَالسَّوَائِمِ
وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِمْ إنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ
لِأَنَّا قد رَوَيْنَا النَّصَّ في الْبَابِ على أَنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ عُرِفَ بِالْعَقْلِ
وهو شُكْرٌ لِنِعْمَةِ الْمَالِ وَشُكْرُ نِعْمَةِ الْقُدْرَةِ بِإِعَانَةِ
الْعَاجِزِ إلَّا أَنَّ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ عُرِفَ بِالسَّمْعِ وما ذكره مَالِكٌ
غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَشَرْطُهُ في كل
حَوْلٍ فَلَا مَعْنًى لِتَخْصِيصِ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ بالوجود ( ( ( بالوجوب ) )
) فيه كَالسَّوَائِمِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَسَوَاءٌ كان مَالُ
التِّجَارَةِ عُرُوضًا أو عَقَارًا أو شيئا مِمَّا يُكَالُ
____________________
(2/20)
أو
يُوزَنُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ في أَمْوَالِ التِّجَارَةِ تَعَلَّقَ بِالْمَعْنَى وهو
الْمَالِيَّةُ وَالْقِيمَةُ وَهَذِهِ الْأَمْوَالُ كُلُّهَا في هذا الْمَعْنَى
جِنْسٌ وَاحِدٌ وَكَذَا يُضَمُّ بَعْضُ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ إلَى الْبَعْضِ في
تَكْمِيلِ النِّصَابِ لِمَا قُلْنَا
وإذا كان تَقْدِيرُ النِّصَابِ من أَمْوَالِ التِّجَارَةِ بِقِيمَتِهَا من
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وهو أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهَا مِقْدَارَ نِصَابٍ من
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلَا بُدَّ من التَّقْوِيمِ حتى يُعْرَفَ مِقْدَارُ
النِّصَابِ ثُمَّ بِمَاذَا تُقَوَّمُ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ
الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ يُقَوَّمُ بِأَوْفَى الْقِيمَتَيْنِ من الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ حتى أنها إذَا بَلَغَتْ بِالتَّقْوِيمِ بِالدَّرَاهِمِ نِصَابًا
ولم تَبْلُغْ بِالدَّنَانِيرِ قُوِّمَتْ بِمَا تَبْلُغُ بِهِ النِّصَابَ وَكَذَا رُوِيَ
عن أبي حَنِيفَةَ في الأموال ( ( ( الأمالي ) ) ) أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِأَنْفَعِ
النَّقْدَيْنِ لِلْفُقَرَاءِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِمَا اشْتَرَاهَا بِهِ فَإِنْ
اشْتَرَاهَا بِالدَّرَاهِمِ قَوَّمَهَا بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ اشْتَرَاهَا
بِالدَّنَانِيرِ قَوَّمَهَا بِالدَّنَانِيرِ وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِهِمَا من
الْعُرُوضِ أو لم يَكُنْ اشْتَرَاهَا بِأَنْ كان وُهِبَ له فَقَبِلَهُ يَنْوِي
بِهِ التِّجَارَةَ قَوَّمَهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ في ذلك الْمَوْضِعِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقَوِّمُهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ على كل حَالٍ
وَذَكَرَ في كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا يوم حَالَ الْحَوْلُ إنْ
شَاءَ بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ شَاءَ بِالدَّنَانِيرِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّقْوِيمَ في حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى يُعْتَبَرُ
بِالتَّقْوِيمِ في حَقِّ الْعِبَادِ ثُمَّ إذَا وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى
تَقْوِيمِ شَيْءٍ من حُقُوقِ الْعِبَادِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ
يُقَوَّمُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ في الْبَلْدَةِ كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ المشتري بَدَلٌ وَحُكْمُ الْبَدَلِ يُعْتَبَرُ
بِأَصْلِهِ فإذا كان مشتري بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَتَقْوِيمُهُ بِمَا هو
أَصْلُهُ أَوْلَى
وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ في عُرُوضِ
التِّجَارَةِ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّتِهَا دُونَ أَعْيَانِهَا وَالتَّقْوِيمُ لِمَعْرِفَةِ
مِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ وَالنَّقْدَانِ في ذلك سِيَّانِ فَكَانَ الْخِيَارُ إلَى
صَاحِبِ الْمَالِ يُقَوِّمُهُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ أَلَا تَرَى أَنَّ في
السَّوَائِمِ عِنْدَ الْكَثْرَةِ وَهِيَ ما إذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ الْخِيَارَ
إلَى صَاحِبِ الْمَالِ إنْ شَاءَ أَدَّى أَرْبَعَ حِقَاقٍ وَإِنْ شَاءَ خَمْسَ
بَنَاتِ لَبُونٍ فَكَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَإِنْ كَانَا في
الثَّمَنِيَّةِ وَالتَّقْوِيمِ بِهِمَا سَوَاءٌ لَكِنَّا رَجَّحْنَا أَحَدَهُمَا
بِمُرَجِّحٍ وهو النَّظَرُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ أَوْلَى
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو كان بِالتَّقْوِيمِ بِأَحَدِهِمَا يَتِمُّ النِّصَابُ
وَبِالْآخَرِ لَا فإنه يُقَوَّمُ بِمَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ نَظَرًا
لِلْفُقَرَاءِ وَاحْتِيَاطًا كَذَا هذا وَمَشَايِخُنَا حَمَلُوا رِوَايَةَ كِتَابِ
الزَّكَاةِ على ما إذَا كان لَا يَتَفَاوَتُ النَّفْعُ في حَقِّ الْفُقَرَاءِ
بِالتَّقْوِيمِ بِأَيِّهِمَا كان جَمْعًا بين الرِّوَايَتَيْنِ
وَكَيْفَمَا كان يَنْبَغِي أَنْ يُقَوَّمَ بِأَدْنَى ما يَنْطَلِقُ عليه اسْمُ
الدَّرَاهِمِ أو الدَّنَانِيرِ وَهِيَ التي يَكُونُ الْغَالِبُ فيها الذَّهَبُ
وَالْفِضَّةُ وَعَلَى هذا إذَا كان مع عُرُوضِ التِّجَارَةِ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ فإنه
يَضُمُّهَا إلَى الْعُرُوضِ وَيُقَوِّمُهُ جُمْلَةً لِأَنَّ مَعْنَى التِّجَارَةِ
يَشْمَلُ الْكُلَّ لَكِنْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ
إنْ شَاءَ قَوَّمَ الْعُرُوضَ وَضَمَّهَا إلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَإِنْ
شَاءَ قَوَّمَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَضَمَّ قيمتها ( ( ( قيمتهما ) ) ) إلَى
قِيمَةِ أَعْيَانِ التِّجَارَةِ
وَعِنْدَهُمَا يُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَتُقَوَّمُ الْعُرُوض فَيَضُمُّ
قِيمَتَهَا إلَى ما عِنْدَهُ من الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنْ بَلَغَتْ
الْجُمْلَةُ نِصَابًا تَجِبُ الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا وَلَا يُقَوَّمُ الذَّهَبُ
وَالْفِضَّةُ عِنْدَهُمَا أَصْلًا في بَابِ الزَّكَاةِ على ما مَرَّ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ هذا النِّصَابِ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا
لِلتِّجَارَةِ وهو أَنْ يُمْسِكَهَا لِلتِّجَارَةِ وَذَلِكَ بِنِيَّةِ
التِّجَارَةِ مُقَارَنَةً لِعَمَلِ التِّجَارَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
بِخِلَافِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فإنه لَا يَحْتَاجُ فِيهِمَا إلَى نِيَّةِ
التِّجَارَةِ لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلتِّجَارَةِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ فَلَا
حَاجَةَ إلَى إعْدَادِ الْعَبْدِ وَيُوجَدُ الْإِعْدَادُ منه دَلَالَةً على ما
مَرَّ
فَصْلٌ وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ من هذا النِّصَابِ فما هو مِقْدَارُ
الْوَاجِبِ من نِصَابِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وهو رُبُعُ الْعُشْرِ لِأَنَّ
نِصَابَ مَالِ التِّجَارَةِ مُقَدَّرٌ بِقِيمَتِهِ من الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
فَكَانَ الْوَاجِبُ فيه ما هو الْوَاجِبُ في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وهو رُبُعُ
الْعُشْرِ وَلِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم هَاتُوا رُبُعَ عُشُورِ
أَمْوَالِكُمْ من غَيْرِ فَصْلٍ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ في أَمْوَالِ التِّجَارَةِ فَالْوَاجِبُ فيها
رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ وهو النِّصَابُ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا هذا قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
وَأَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ فَالْوَاجِبُ فيها أَحَدُ شَيْئَيْنِ إما
الْعَيْنُ أو الْقِيمَةُ فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ عِنْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ
إنْ شَاءَ أَخْرَجَ رُبُعَ عُشْرِ الْعَيْنِ وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ رُبُعَ عُشْرِ
الْقِيمَةِ وَبَنَوْا على بَعْضِ مَسَائِلِ الْجَامِعِ فِيمَنْ كانت له مِائَتَا
قَفِيزٍ حِنْطَةً لِلتِّجَارَةِ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَالَ عليها
الْحَوْلُ فلم يُؤَدِّ زَكَاتَهَا حتى تَغَيَّرَ سِعْرُهَا إلَى النُّقْصَانِ حتى
صَارَتْ قِيمَتُهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ أو إلَى الزِّيَادَةِ حتى صَارَتْ قِيمَتُهَا
أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ إنَّ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ إن أَدَّى من عَيْنِهَا
يُؤَدِّي خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ في الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ جميعا لِأَنَّهُ
تَبَيَّنَ أَنَّهُ الْوَاجِبُ من الْأَصْلِ
____________________
(2/21)
فَإِنْ
أَدَّى الْقِيمَةَ يُؤَدِّي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ في الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ
جميعا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أنها هِيَ الْوَاجِبَةُ يوم الْحَوْلِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ أَدَّى من عَيْنِهَا يُؤَدِّي خَمْسَةَ
أَقْفِزَةٍ في الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ جميعا كما قال أبو حَنِيفَةَ وَإِنْ
أَدَّى من الْقِيمَةِ يُؤَدِّي في النُّقْصَانِ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا وفي
الزِّيَادَةِ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ عِنْدَهُمَا هو
رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا له وِلَايَةُ النَّقْلِ إلَى الْقِيمَةِ يوم
الْأَدَاءِ فَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يوم الْأَدَاءِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ هذا
مَذْهَبُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إذَا
هَلَكَ النِّصَابُ بَعْدَ الْحَوْلِ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كان من
السَّوَائِمِ أو من أَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَلَوْ كان الْوَاجِبُ أَحَدَهُمَا غير
عَيْنٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَتَعَيَّنَتْ الْقِيمَةُ عِنْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ
على ما هو الْأَصْلُ في التَّخْيِيرِ بين شَيْئَيْنِ إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ
يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ
وَكَذَا لو وَهَبَ النِّصَابَ من الْفَقِيرِ ولم تَحْضُرُهُ النِّيَّةُ أَصْلًا
سَقَطَتْ عنه الزَّكَاةُ وَلَوْ لم يَكُنْ الْوَاجِبُ في النِّصَابِ عَيْنًا لَمَا
سَقَطَتْ كما إذَا وَهَبَ منه غير النِّصَابِ وَكَذَا إذَا بَاعَ نِصَابَ الزَّكَاةِ
من السَّوَائِمِ وَالسَّاعِي حَاضِرٌ إنْ شَاءَ أَخَذَ من الْمُشْتَرِي وَإِنْ
شَاءَ أَخَذَ من الْبَائِعِ وَلَوْلَا أَنَّ الْوَاجِبَ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ
لَمَا مَلَكَ الْأَخْذَ من غَيْرِ الْمُشْتَرِي فَدَلَّ أَنَّ مَذْهَبَ جَمِيعِ
أَصْحَابِنَا هذا وهو أَنَّ الْوَاجِبَ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ إلَّا عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ الْوَاجِبُ عِنْدَ الْحَوْلِ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ من حَيْثُ أنه
مَالٌ لَا من حَيْثُ أنه عَيْنٌ
وَعِنْدَهُمَا الْوَاجِبُ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ من حَيْثُ الصُّورَةِ
وَالْمَعْنَى جميعا لَكِنْ لِمَنْ عليه حَقُّ النَّقْلِ من الْعَيْنِ إلَى
الْقِيمَةِ وَقْتَ الْأَدَاءِ
وَمَسَائِلُ الْجَامِعِ مَبْنِيَّةٌ على هذا الْأَصْلِ على ما نذكره ( ( ( نذكر )
) )
وقال الشَّافِعِيُّ الْوَاجِبُ من قَدْرِ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ في
الذِّمَّةِ لَا في النِّصَابِ وَعَلَى هذا يَنْبَنِي ما إذَا هَلَكَ مَالُ
الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ التَّمَكُّنِ من الْأَدَاءِ أَنَّهُ
تَسْقُطُ عنه الزَّكَاةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا تَسْقُطُ وإذا هَلَكَ قبل
التَّمَكُّنِ من الْأَدَاءِ لَا تَجِبُ عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ في
قَوْلٍ لَا تَجِبُ أَصْلًا وفي قَوْلٍ تَجِبُ ثُمَّ تَسْقُطُ لَا إلَى ضَمَانٍ
وَلَا خِلَافٍ في أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ لَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ هذا حَقٌّ وَجَبَ في ذِمَّتِهِ وَتَقَرَّرَ
بِالتَّمَكُّنِ من الْأَدَاءِ فَلَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ كما في دُيُونِ
الْعِبَادِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَكَمَا في الْحَجِّ فإنه إذَا كان مُوسِرًا
وَقْتَ خُرُوجِ الْقَافِلَةِ من بَلَدِهِ ثُمَّ هَلَكَ مَالُهُ لَا يَسْقُطُ
الْحَجُّ عنه وَإِنَّمَا قُلْنَا أنه وَجَبَ في ذِمَّتِهِ لِأَنَّ الشَّرْعَ
أَضَافَ الْإِيجَابَ إلَى مَالٍ لَا بِعَيْنِهِ قال النبي في مِائَتَيْ دِرْهَمٍ
خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وفي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ أَوْجَبَ خَمْسَةً وَشَاةً لَا
بِعَيْنِهَا وَالْوَاجِبُ إذَا لم يَكُنْ عَيْنًا كان في الذِّمَّةِ كما في
صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَنَحْوِهَا وَلِأَنَّ غَايَةَ الْأَمْرِ أَنَّ قَدْرَ
الزَّكَاةِ أَمَانَةٌ في يَدِهِ لَكِنَّهُ مُطَالَبٌ شَرْعًا بِالْأَدَاءِ بَعْدَ
التَّمَكُّنِ منه وَمَنْ مَنَعَ الْحَقَّ عن الْمُسْتَحَقِّ بَعْدَ طَلَبِهِ
يُضْمَنُ كما في سَائِرِ الْأَمَانَاتِ
وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا طَلَبَهُ الْفَقِيرُ أو طَالَبَهُ السَّاعِي
بِالْأَدَاءِ فلم يُؤَدِّ حتى هَلَكَ النِّصَابُ
وَلَنَا أَنَّ الْمَالِكَ إمَّا أَنْ يُؤَاخَذَ بِأَصْلِ الْوَاجِبِ أو
بِضَمَانِهِ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ مَحِلَّهُ النِّصَابُ وَالْحَقُّ لَا
يَبْقَى بَعْد فَوَاتِ مَحِلِّهِ كَالْعَبْدِ الْجَانِي أو الْمَدْيُونِ إذَا
هَلَكَ وَالشِّقْصُ الذي فيه الشُّفْعَةُ إذَا صَارَ بَحْرًا وَالدَّلِيلُ على
أَنَّ مَحَلَّ أَصْلِ الْوَاجِبِ هو النِّصَابُ قَوْله تَعَالَى { خُذْ من
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً }
وَقَوْلُ النبي خُذْ من الذَّهَبِ الذَّهَبَ وَمِنْ الْفِضَّةِ الْفِضَّةَ وَمِنْ
الْإِبِلِ الْإِبِلَ الحديث وَكَلِمَةُ من تَبْعِيضٌ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ
الْوَاجِبُ بَعْضَ النِّصَابِ وَقَوْلُهُ في مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ
دَرَاهِمَ وفي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ جَعَلَ الْوَاجِبَ مَظْرُوفًا في
النِّصَابِ لِأَنَّ ( في ) لِلظَّرْفِ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عُرِفَ وُجُوبُهَا على
طَرِيقِ الْيُسْرِ وَطِيبَةِ النَّفْسِ بِأَدَائِهَا وَلِهَذَا اُخْتُصَّ
وُجُوبُهَا بِالْمَالِ النَّامِي الْفَاضِلِ عن الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ
وَشُرِطَ لها الْحَوْلُ وَكَمَالُ النِّصَابِ وَمَعْنَى الْيُسْرِ في كَوْنِ
الْوَاجِبِ في النِّصَابِ يَبْقَى بِبَقَائِهِ وَيَهْلِكُ بِهَلَاكِهِ وَلَا
سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يَسْتَدْعِي تَفْوِيتَ مِلْكٍ
أو يَدٍ كما في سَائِرِ الضَّمَانَاتِ وهو بِالتَّأْخِيرِ عن أَوَّلِ أَوْقَاتِ
الْإِمْكَانِ لم يُفَوِّتْ على الْفَقِيرِ مِلْكًا وَلَا يَدًا فَلَا يُضْمَنُ
بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحَجِّ لِأَنَّ مَحَلَّ الْوَاجِبِ هُنَاكَ
ذِمَّتُهُ لَا مَالُهُ وَذِمَّتُهُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَالِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّهُ مَنَعَ حَقَّ الْفَقِيرِ بَعْدَ طَلَبِهِ فَنَقُولُ إنَّ
هذا الْفَقِيرَ ما تَعَيَّنَ مُسْتَحِقًّا لِهَذَا الْحَقِّ فَإِنْ له أَنْ يَصْرِفَهُ
إلَى فَقِيرٍ آخَرَ وَإِنْ طَالَبَهُ السَّاعِي فَامْتَنَعَ من الْأَدَاءِ حتى
هَلَكَ الْمَالُ قال أَهْلُ الْعِرَاقِ من أَصْحَابِنَا إنَّهُ يَضْمَنُ لِأَنَّ
السَّاعِيَ مُتَعَيِّنٌ لِلْأَخْذِ فَيَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ عِنْدَ طَلَبِهِ
فَيَصِيرُ بِالِامْتِنَاعِ مُفَوِّتًا فَيُضَمَّنُ وَمَشَايِخُنَا بِمَا وَرَاءِ
النَّهْرِ قالوا إنَّهُ لَا يَضْمَنُ وهو الْأَصَحُّ فإنه ذَكَرَ في كِتَابِ
الزَّكَاةِ إذَا حَبَسَ السَّائِمَةَ بَعْدَ ما وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فيها حتى
____________________
(2/22)
ثويت
( ( ( تويت ) ) ) لم يَضْمَنْهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لم يَرِدْ بهذا الْحَبْسِ
أَنْ يَمْنَعَهَا الْعَلَفَ وَالْمَاءَ لِأَنَّ ذلك اسْتِهْلَاكٌ لها وَلَوْ
اسْتَهْلَكَهَا يَصِيرُ ضَامِنًا لِزَكَاتِهَا وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ حَبْسَهَا
بَعْدَ طَلَبِ السَّاعِي لها وَالْوَجْهُ فيه أَنَّهُ ما فَوَّتَ بهذا الْحَبْسِ
مِلْكًا وَلَا يَدًا على أَحَدٍ فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا وَلَهُ رَأْيٌ في
اخْتِيَارِ مَحَلِّ الْأَدَاءِ إنْ شَاءَ من السَّائِمَةِ وَإِنْ شَاءَ من
غَيْرِهَا فَإِنَّمَا حَبَسَ السَّائِمَةَ لِيُؤَدِّيَ من مَحِلٍّ آخَرَ فَلَا
يَصِيرُ ضَامِنًا
هذا إذَا هَلَكَ كُلُّ النِّصَابِ فَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ فَعَلَيْهِ
في الْبَاقِي حِصَّتُهُ من الزَّكَاةِ إذَا لم يَكُنْ في الْمَالِ فَضْلٌ على
النِّصَابِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الْبَعْضَ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ
ثُمَّ إذَا هَلَكَ الْكُلُّ سَقَطَ جَمِيعُ الزَّكَاةِ فإذا هَلَكَ الْبَعْضُ
يَجِبُ أَنْ يَسْقُطَ بقدره ( ( ( بقدر ) ) )
هذا إذَا لم يَكُنْ في الْمَالِ عَفْوٌ فَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَ فيه النِّصَابُ
وَالْعَفْوُ ثُمَّ هَلَكَ الْبَعْضُ فَعَلَى قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى الْعَفْوِ أَوَّلًا كَأَنَّهُ لم يَكُنْ في مِلْكِهِ
إلَّا النِّصَابُ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى الْكُلِّ شَائِعًا حتى إذَا
كان له تِسْعَةٌ من الْإِبِلِ فَحَالَ عليها الْحَوْلُ ثُمَّ هَلَكَ منها أَرْبَعَةٌ
فَعَلَيْهِ في الْبَاقِي شَاةٌ كَامِلَةٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عليه في الْبَاقِي خَمْسَةُ أَتْسَاعِ شَاةٍ
وَالْأَصْلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ
بِالنِّصَابِ دُونَ الْعَفْوِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
يَتَعَلَّقُ بِهِمَا جميعا
وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ النبي في خَمْسٍ من الْإِبِلِ شَاةٌ إلَى تِسْعٍ أَخْبَرَ
أَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِالْكُلِّ وَلِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هو الْمَالُ
النَّامِي وَالْعَفْوُ مَالٌ نَامٍ وَمَعَ هذا لَا تَجِبُ بِسَبَبِهِ زِيَادَةٌ
على أَنَّ الْوُجُوبَ في الْكُلِّ نَظِيرُهُ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِحَقٍّ
بِشَهَادَةِ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ كان قَضَاؤُهُ بِشَهَادَةِ الْكُلِّ وَإِنْ كان لَا
حَاجَةَ إلَى الْقَضَاءِ إلَى الثَّالِثِ
وإذا ثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ في الْكُلِّ فما هَلَكَ يَهْلِكُ بِزَكَاتِهِ وما
بَقِيَ يَبْقَى بِزَكَاتِهِ كَالْمَالِ الْمُشْتَرَكِ
وَاحْتَجَّ أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ بِقَوْلِ النبي في حديث عَمْرِو بن حَزْمٍ
في خَمْسٍ من الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ وَلَيْسَ في الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حتى
تَكُونَ عشر ( ( ( عشرا ) ) )
وقال في حَدِيثِهِ أَيْضًا في خَمْسٍ وَعِشْرِينَ من الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ
وَلَيْسَ في الزِّيَادَةِ شَيْءٌ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَهَذَا نَصَّ على
أَنَّ الْوَاجِبَ في النِّصَابِ دُونَ الْوَقْصِ وَلِأَنَّ الْوَقَصَ وَالْعَفْوَ
تَبَعٌ لَلنِّصَاب لِأَنَّ النِّصَابَ بِاسْمِهِ وَحُكْمِهِ يَسْتَغْنِي عن
الْوَقْصِ وَالْوَقْصُ بِاسْمِهِ وَحُكْمِهِ لَا يَسْتَغْنِي عن النِّصَابِ
وَالْمَالُ إذَا اشْتَمَلَ على أَصْلٍ وَتَبَعٍ فإذا هَلَكَ منه شَيْءٌ يُصْرَفُ
الْهَلَاكُ إلَى التَّبَعِ دُونَ الْأَصْلِ كَمَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا كان فيه
رِبْحٌ فَهَلَكَ شَيْءٌ منه يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى الرِّبْحِ دُونَ رَأْسِ
الْمَالِ كَذَا هذا
وَعَلَى هذا إذَا حَالَ الْحَوْلُ على ثَمَانِينَ شَاةٍ ثُمَّ هَلَكَ أَرْبَعُونَ
منها وَبَقِيَ أَرْبَعُونَ فَعَلَيْهِ في الْأَرْبَعِينَ الْبَاقِيَةِ شَاةٌ
كَامِلَةٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ
الْهَلَاكَ يُصْرَفُ إلَى الْعَفْوِ أَوَّلًا عِنْدَهُمَا فَجُعِلَ كَأَنَّ
الْغَنَمَ أَرْبَعُونَ من الإبتداء وفي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عليه في
الْبَاقِي نِصْفُ شَاةٍ لِأَنَّ الْوَاجِبَ في الْكُلِّ عِنْدَهُمَا وقد هَلَكَ
النِّصْفُ فَيَسْقُطُ الْوَاجِبُ بِقَدْرِهِ وَلَوْ هَلَكَ منها عِشْرُونَ
وَبَقِيَ سِتُّونَ فَعَلَيْهِ في الْبَاقِي شَاةٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ شَاةٍ لِمَا قُلْنَا وَعَلَى هذا
مَسَائِلُ في الْجَامِعِ
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
الْوَاجِبُ في الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ جُزْءٌ من
النِّصَابِ من حَيْثُ الْمَعْنَى لَا من حَيْثُ الصُّورَةِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْوَاجِبُ هو الْجُزْءُ
منه صُورَةً وَمَعْنًى لَكِنْ يَجُوزُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ من حَيْثُ
الْمَعْنَى وَيَبْطُلُ اعتباره ( ( ( اعتبار ) ) ) الصُّورَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِ
الْحَقِّ
وهو اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا في زَكَاةِ السَّوَائِمِ فَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا على قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ
قال بَعْضُهُمْ الْوَاجِبُ هُنَاكَ أَيْضًا جُزْءٌ من النِّصَابِ من حَيْثُ
الْمَعْنَى وَذَكَرَ الْمَنْصُوصَ عليه من خلال ( ( ( خلاف ) ) ) جِنْسِ النِّصَاب
لِلتَّقْدِيرِ
قال بَعْضُهُمْ الْوَاجِبُ هو الْمَنْصُوصُ عليه لَا جُزْءٌ من النِّصَابِ لَكِنْ
من حَيْثُ الْمَعْنَى
وَعِنْدَهُمَا الْوَاجِبُ هو الْمَنْصُوصُ عليه صُورَةً وَمَعْنًى لَكِنْ يَجُوزُ
إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ من حَيْثُ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ على ما
ذَكَرْنَا
وَيَنْبَنِي على هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ الْجَامِعِ إذَا كان لِرَجُلٍ مِائَتَا
قَفِيزٍ حِنْطَةً لِلتِّجَارَةِ تُسَاوِي مِائَتِي دِرْهَمٍ وَلَا مَالَ له غَيْرُ
ذلك وَحَالَ عليها الْحَوْلُ فَإِنْ أَدَّى من عَيْنِهَا يُؤَدِّي خَمْسَةَ
أَقْفِزَةٍ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهَا هِيَ رُبُعُ عُشْرِ النِّصَابِ وهو
الْوَاجِبُ على ما مَرَّ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْقِيمَةَ جَازَ
عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ
لَكِنْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ في الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ جميعا يُؤَدِّي
قِيمَتَهَا يوم الْحَوْلِ وَهِيَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ
وَعِنْدَهُمَا في الْفَصْلَيْنِ جميعا يُؤَدِّي قِيمَتَهَا يوم الْأَدَاءِ في
النُّقْصَانِ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا
وفي الزِّيَادَةِ عَشْرَةً هُمَا يَقُولَانِ الْوَاجِبُ جُزْءٌ من النِّصَابِ
وَغَيْرُ
____________________
(2/23)
الْمَنْصُوصِ
عليه حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى غير أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ له وِلَايَةَ أَدَاءِ
الْقِيمَةِ إمَّا تَيْسِيرًا عليه وَإِمَّا نَقْلًا لِلْحَقِّ وَالتَّيْسِيرُ له
في الْأَدَاءِ دُونَ الْوَاجِبِ وَكَذَا الْحَاجَةُ إلَى نَقْلِ حَقِّ اللَّهِ
تَعَالَى إلَى مُطْلَقِ الْمَالِ وَقْتَ الْأَدَاءِ إلَى الْفَقِيرِ فَبَقِيَ
الْوَاجِبُ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ في الذِّمَّةِ عَيْنُ الْمَنْصُوصِ عليه
وَجُزْءُ النِّصَابِ ثُمَّ عِنْدَ الْأَدَاءِ يُنْقَلُ ذلك إلَى الْقِيمَةِ
فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يوم النَّقْلِ كما في وَلَدِ الْمَغْرُورِ إنه يُضَمَّنُ
الْمَغْرُورُ قِيمَتَهُ لِلْمَالِكِ يوم التَّضْمِينِ لِأَنَّ الْوَلَدَ في
حَقِّهِ وَإِنْ عُلِّقَ حُرُّ الْأَصْلِ فَفِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ جُعِلَ مَمْلُوكًا
له لِحُصُولِهِ عن مَمْلُوكَتِهِ وَإِنَّمَا يُنْقَلُ عنه حَقُّهُ إلَى الْقِيمَةِ
يوم الْخُصُومَةِ فَكَذَا هَهُنَا
وأبو حَنِيفَةَ يقول الْوَاجِبُ هو الْجُزْءُ من النِّصَاب غير أَنَّ وُجُوبَهُ من
حَيْثُ أنه مُطْلَقُ الْمَالِ لَا من حَيْثُ أنه جُزْءٌ من النِّصَابِ بِدَلِيلِ
إنه يَجُوزُ أَدَاءُ الشَّاةِ عن خَمْسٍ من الْإِبِلِ وَإِنْ لم يَكُنْ جُزْءًا
منها وَالتَّعَلُّقُ بِكَوْنِهِ جُزْءٌ لِلتَّيْسِيرِ لَا لِلتَّحْقِيقِ لِأَنَّ
الْأَدَاءَ منه أَيْسَرُ في الْأَغْلَبِ حتى إن الْأَدَاءَ من غَيْرِ الْجُزْءِ لو
كان أَيْسَرَ مَالَ إلَيْهِ وَعِنْدَ مَيْلِهِ إلَيْهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ هو
الْوَاجِبُ لِأَنَّهُ هو مُطْلَقُ الْمَالِ وَهَذَا هو الْوَاجِبُ على طَرِيقِ
الِاسْتِحْقَاقِ
وَكَذَا الْمَنْصُوصُ عليه مَعْلُولٌ بِمُطْلَقِ الْمَالِ وَالتَّعَلُّقُ بِهِ
لِلتَّيْسِيرِ بِدَلِيلِ جَوَازِ أَدَاءِ الْوَاحِدِ من الْخَمْسِ وَالنَّاقَةِ
الْكَوْمَاءِ عن بِنْتِ مَخَاضٍ فَكَانَ الْوَاجِبُ عِنْدَ الْحَوْلِ رُبْعُ
الْعُشْرِ من حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ وَالْمَنْصُوصُ عليه من حَيْثُ أنه مَالٌ
فَوَجَبَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ يوم الْوُجُوبِ وَلَا يُعْتَبَرُ التَّغَيُّرُ
بِسَبَبِ نُقْصَانِ السِّعْرِ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِهِ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ
الْوَاجِبَةِ احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ
وَأَمَّا في السَّوَائِمِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
قال بَعْضُهُمْ يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يوم الْوُجُوبِ كما في مَالِ التِّجَارَةِ
لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ من النِّصَابِ من حَيْثُ أنه مَالٌ في جَمِيعِ
أَمْوَالِ الزَّكَاةِ
وقال بَعْضُهُمْ يوم الْأَدَاءِ كما قَالَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ ثَمَّةَ هو
الْمَنْصُوصُ عليه صُورَةً وَمَعْنًى وَلَكِنْ يَجُوزُ إقَامَةُ غَيْرِهِ
مَقَامَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ في مَالِ الزَّكَاةِ إذَا كان جَارِيَةً تُسَاوِي
مِائَتَيْنِ في جَمِيعِ ما ذَكَرْنَا من تَغَيُّرِ السِّعْرِ إلَى زِيَادَةٍ أو
نُقْصَانٍ وَلِلْمَسْأَلَةِ فُرُوعٌ تُعْرَفُ في كِتَابِ الزَّكَاةِ من الْجَامِعِ
هذا إذَا هَلَكَ النِّصَابُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَأَمَّا إذَا تَصَرَّفَ فيه
الْمَالِكُ فَهَلْ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ
عِنْدَنَا يَجُوزُ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا وَهَذَا بِنَاءً على أَصْلِنَا أَنَّ التَّصَرُّفَ في
مَالِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا جَائِزٌ عِنْدَنَا حتى لو بَاعَ نِصَابَ
الزَّكَاةِ جَازَ الْبَيْعُ في الْكُلِّ عِنْدَنَا وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
فَلَا يَجُوزُ في قَدْرِ الزَّكَاةِ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَهُ في الزِّيَادَةِ على
قَدْرِ الزَّكَاةِ قَوْلَانِ
وَجْهِ قَوْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ من النِّصَابِ لِمَا ذَكَرْنَا من
الدَّلَائِلِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهُ حَقًّا لِلْعَبْدِ كما
يقول أو حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كما يَقُولُونَ وَكُلُّ ذلك يَمْنَعُ من
التَّصَرُّفِ فيه
وَلَنَا أَنَّ الزَّكَاةَ اسْمٌ لِلْفِعْلِ وهو إخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ
وَقَبْلَ الْإِخْرَاجِ لَا حَقَّ في الْمَالِ حق ( ( ( حتى ) ) ) يَمْنَعَ نَفَاذَ
الْبَيْعِ فيه فَيَنْفُذُ كَالْعَبْدِ إذَا جَنَى جِنَايَةً فَبَاعَهُ الْمَوْلَى
فَيَنْفُذُ بَيْعُهُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فيه هو فِعْلُ الدَّفْعِ فَكَانَ
الْمَحَلُّ خَالِيًا عن الْحَقِّ قبل الْفِعْلِ فَنَفَذَ الْبَيْعُ فيه
كَذَا هذا
وإذا جَازَ التَّصَرُّفُ في النِّصَابِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فيه عِنْدَنَا
فإذا تَصَرَّفَ الْمَالِكُ فيه يُنْظَرُ إنْ كان اسْتِبْدَالًا بمثله لَا يَضْمَنُ
الزَّكَاةَ وَيَنْتَقِلُ الْوَاجِبُ إلَيْهِ يَبْقَى بِبَقَائِهِ وَيَسْقُطُ
بِهَلَاكِهِ وأن كان اسْتِهْلَاكًا يَضْمَنُ الزَّكَاةَ وَيَصِيرُ دَيْنًا في
ذِمَّتِهِ
بَيَانُ ذلك إذَا حَالَ الْحَوْلُ على مَالِ التِّجَارَةِ وَوَجَبَتْ فيه الزَّكَاةُ
فَأَخْرَجَهُ الْمَالِكُ عن مِلْكِهِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أو بِعَرَضِ
التِّجَارَةِ فَبَاعَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ لَا يَضْمَنُ الزَّكَاةَ لِأَنَّهُ ما
أَتْلَفَ الْوَاجِبَ بَلْ نَقَلَهُ من مَحَلِّ إلَى مَحَلِّ مِثْلِهِ إذْ
الْمُعْتَبَرُ في مَالِ التِّجَارَةِ هو الْمَعْنَى وهو الْمَالِيَّةُ لَا
الصُّورَةُ فَكَانَ الْأَوَّلُ قَائِمًا مَعْنًى فَيَبْقَى الْوَاجِبُ بِبَقَائِهِ
وَيَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ وَكَذَا لو بَاعَهُ وَحَابَى بِمَا يَتَغَابَنُ الناس في
مِثْلِهِ لِأَنَّ ذلك مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه فَجُعِلَ عَفْوًا
وَلِهَذَا جُعِلَ عَفْوًا في بَيْعِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ
وَإِنْ حَابَى بِمَا لَا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ يَضْمَنُ قَدْرَ زَكَاةِ
الْمُحَابَاةِ وَيَكُونُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ وَزَكَاةُ ما بَقِيَ يَتَحَوَّلُ
إلَى الْعَيْنِ يبقي بِبَقَائِهَا وَيَسْقُطُ بِهَلَاكِهَا
وَلَوْ أَخْرَجَ مَالَ الزَّكَاةِ عن مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا
بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ من غَيْرِ الْفَقِيرِ وَالْوَصِيَّةِ أو بِعِوَضٍ ليس
بِمَالٍ بِأَنْ تَزَوَّجَ عليه امْرَأَةً أو صَالَحَ بِهِ من دَمِ الْعَمْدِ أو
اخْتَلَعَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ يَضْمَنُ الزَّكَاةَ في ذلك كُلِّهِ لِأَنَّ
إخْرَاجَ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ إتْلَافٌ له وَكَذَا بِعِوَضٍ ليس بِمَالٍ
وَكَذَا لو أَخْرَجَهُ بِعِوَضٍ هو مَالٌ لَكِنَّهُ ليس بِمَالِ الزَّكَاةِ بِأَنْ
بَاعَهُ بِعَبْدِ الْخِدْمَةِ أو ثِيَابِ الْبِذْلَةِ سَوَاءٌ بَقِيَ الْعِوَضُ في
يَدِهِ أو هَلَكَ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ الْمَعْنَى الذي صَارَ الْمَالُ بِهِ مَالَ
الزَّكَاةِ فَكَانَ استهلاكا ( ( ( استهلاكه ) ) ) له في حَقِّ الزَّكَاةِ
وَكَذَا لو اسْتَأْجَرَ بِهِ عَيْنًا من الْأَعْيَانِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ وَإِنْ
كانت مَالًا في نَفْسِهَا لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالِ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ لَا
بَقَاءَ لها
وَكَذَا لو صَرَفَ مَالَ الزَّكَاةِ إلَى حَوَائِجِهِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ
وَاللُّبْسِ لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الِاسْتِهْلَاكِ
____________________
(2/24)
وَكَذَا
إذَا بَاعَ مَالَ التِّجَارَةِ بِالسَّوَائِمِ على أَنْ يَتْرُكَهَا سَائِمَةً
يَضْمَنُ الزَّكَاةَ لِأَنَّ زَكَاةَ مَالِ التِّجَارَةِ خِلَافَ زَكَاةِ
السَّائِمَةِ فَيَكُونُ اسْتِهْلَاكًا وَلَوْ كان مَالُ الزَّكَاةِ سَائِمَةً
فَبَاعَهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا من الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ وَالْأَثْمَانِ أو
بِجِنْسِهَا يَضْمَنُ وَيَصِيرُ قَدْرُ الزَّكَاةِ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ لَا
يَسْقُطُ بِهَلَاكِ ذلك الْعِوَضِ لَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ في
السَّوَائِمِ يَتَعَلَّقُ بِالصُّورَةِ وَالْمَعْنَى فَبَيْعُهَا يَكُونُ
اسْتِهْلَاكًا لها لَا اسْتِبْدَالًا وَلَوْ كان مَالُ الزَّكَاةِ دَرَاهِمَ أو
دَنَانِيرَ فَأَقْرَضَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ فَثَوَى الْمَالُ عِنْدَهُ ذُكِرَ في
الْعُيُونِ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عليه لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه
الْإِتْلَافُ وَكَذَا لو كان مَالُ الزَّكَاةِ ثَوْبًا فَأَعَارَهُ فَهَلَكَ لِمَا
قُلْنَا
وَقَالُوا في عبد التِّجَارَةِ إذَا قَتَلَهُ عَبْدٌ خَطَأً فَدَفَعَ بِهِ إن
الثَّانِيَ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عن الْأَوَّلِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ
هو وَلَوْ قَتَلَهُ عَمْدًا وَصَالَحَهُ الْمَوْلَى من الدَّمِ على عَبْدٍ أو
غَيْرِهِ لم يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّ الثَّانِيَ ليس بِعِوَضٍ عن الْأَوَّلِ
بَلْ هو عِوَضٌ عن الْقِصَاصِ وَالْقِصَاصُ ليس بِمَالٍ
وَقَالُوا فِيمَنْ اشْتَرَى عَصِيرًا لِلتِّجَارَةِ فَصَارَ خَمْرًا ثُمَّ صَارَ
خَلًّا أنه لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّ الْعَارِضَ هو التَّخَمُّرُ وَأَثَرُ
التَّخَمُّرِ في زَوَالِ صِفَةِ التقويم ( ( ( التقوم ) ) ) لا غير وقد عَادَتْ
الصِّفَةُ بِالتَّخَلُّلِ فَصَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا كما كان وَكَذَلِكَ قالوا
في الشَّاةِ إذَا مَاتَتْ فَدُبِغَ جِلْدُهَا إن جِلْدَهَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ
لِمَا قُلْنَا وَلَوْ بَاعَ السَّائِمَةَ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فيها فَإِنْ
كان الْمُصْدِقُ حَاضِرًا يَنْظُرُ إلَيْهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ
قِيمَةَ الْوَاجِبِ من الْبَائِعِ وَتَمَّ الْبَيْعُ في الْكُلِّ وَإِنْ شَاءَ
أَخَذَ الْوَاجِبَ من الْعَيْنِ الْمُشْتَرَاةِ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ في الْقَدْرِ
الْمَأْخُوذِ وَإِنْ لم يَكُنْ حَاضِرًا وَقْتَ الْبَيْعِ فَحَضَرَ بَعْدَ
الْبَيْعِ وَالتَّفَرُّقِ عن الْمَجْلِسِ فإنه لَا يَأْخُذُ من الْمُشْتَرِي
وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ قِيمَةَ الْوَاجِبِ من الْبَائِعِ
وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ بَيْعَ السَّائِمَةِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ
فيها اسْتِهْلَاكٌ لها لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِهْلَاكِ
بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ قبل الِافْتِرَاقِ عن الْمَجْلِسِ ثَبَتَ بِالِاجْتِهَادِ
إذْ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ فَلِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّ الْقَوْلَيْنِ أَفْضَى اجْتِهَادُهُ
إلَيْهِ فَإِنْ أَفْضَى اجْتِهَادُهُ إلَى زَوَالِ الْمِلْكِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ
أَخَذَ قِيمَةَ الْوَاجِبِ منه لِحُصُولِ الِاسْتِهْلَاكِ وَتَمَّ الْبَيْعُ في
الْكُلِّ إذْ لم يَسْتَحِقَّ شَيْءٌ من الْمَبِيعِ وَإِنْ أَفْضَى اجْتِهَادُهُ
إلَى عَدَمِ الزَّوَالِ أَخَذَ الْوَاجِبَ من غَيْرِ الْمُشْتَرِي كما قُبِلَ
الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ في الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ كَأَنَّهُ اسْتَحَقَّ
هذا الْقَدْرَ من الْمَبِيعِ فَأَمَّا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَقَدْ تَأَكَّدَ
زَوَالُ الْمِلْكِ لِخُرُوجِهِ عن مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ فَتَأَكَّدَ
الِاسْتِهْلَاكُ فَصَارَ الْوَاجِبُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَهَلْ يُشْتَرَطُ نَقْلُ الْمَاشِيَةِ من مَوْضِعِهَا مع افْتِرَاقِ
الْعَاقِدَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا لم يُشْتَرَطْ ذلك في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَشَرَطَهُ الْكَرْخِيُّ وقال إنْ حَضَرَ الْمُصْدِقُ قبل النَّقْلِ فَلَهُ
الْخِيَارُ
وَكَذَا رَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ وَلَوْ بَاعَ طَعَامًا وَجَبَ فيه
الْعُشْرُ فَالْمُصَدِّقُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ من الْبَائِعِ وَإِنْ
شَاءَ أَخَذَ من الْمُشْتَرِي سَوَاءٌ حَضَرَ قبل الِافْتِرَاقِ أو بَعْدَهُ
بِخِلَافِ الزَّكَاةِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ تَعَلُّقَ الْعُشْرِ بِالْعَيْنِ آكِدٌ من تَعَلُّقِ
الزَّكَاةِ بها أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُشْرَ لَا يُعْتَبَرُ فيه الْمَالِكُ
بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَلَوْ مَاتَ من عليه الْعُشْرُ قبل أَدَائِهِ من غَيْرِ
وَصِيَّةٍ يُؤْخَذُ من تَرِكَتِهِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ أَدَاءُ جُزْءٍ من النِّصَابِ من حَيْثُ
الْمَعْنَى أو من حَيْثُ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى
مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَالْوَاجِبُ
أَدَاءُ عَيْنِ الْمَنْصُوصِ عليه وينبني ( ( ( ويبنى ) ) ) عليه إن دَفْعَ
الْقِيَمِ وَالْأَبْدَالِ في بَابِ الزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ
وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ
لَا يَجُوزُ إلَّا أَدَاءُ الْمَنْصُوصِ عليه وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النبي في
الْخَمْسِ من الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ
وَقَوْلُهُ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وَكُلُّ ذلك بَيَانٌ لِمُجْمَلِ كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى { وَآتُوا الزَّكَاةَ } إذْ ليس فيه بَيَانُ الزَّكَاةِ
فَبَيَّنَهُ النبي وَالْتَحَقَ الْبَيَانُ بِمُجْمَلِ الْكِتَابِ فَصَارَ كَأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قال وَآتُوا الزَّكَاةَ من كل أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وفي
خَمْسٍ من الْإِبِلِ شَاةٌ فَصَارَتْ الشَّاةُ وَاجِبَةً لِلْأَدَاءِ بِالنَّصِّ
وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِالتَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ حُكْمَ النَّصِّ
وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إقَامَةُ السُّجُودِ على الْخَدِّ وَالذَّقَنِ مَقَامَ
السُّجُودِ على الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ وَالتَّعْلِيلُ فيه بِمَعْنَى الْخُضُوعِ
لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هذا وَصَارَ كَالْهَدَايَا وَالضَّحَايَا وَجَوَازُ أَدَاءِ
الْبَعِيرِ عن خَمْسٍ من الْإِبِلِ عِنْدِي بِاعْتِبَارِ النَّصِّ وهو قَوْلُهُ
خُذْ من الْإِبِلِ الْإِبِلَ إلَّا عِنْدَ قِلَّةِ الْإِبِلِ أَوْجَبُ من خِلَافِ
الْجِنْسِ تَيْسِيرًا على أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فإذا سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِأَدَاءِ
بَعِيرٍ من الْخَمْسِ فَقَدْ تَرَكَ هذا التَّيْسِيرَ فَجَازَ بِالنَّصِّ لَا
بِالتَّعْلِيلِ
وَلَنَا في الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا طَرِيقُ أبي حَنِيفَةَ
الثاني ( ( ( والثاني ) ) ) طَرِيقُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
أَمَّا طَرِيقُ أبي حَنِيفَةَ فَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ أَدَاءُ جُزْءٍ من
النِّصَابِ من حَيْثُ الْمَعْنَى وهو الْمَالِيَّةُ
____________________
(2/25)
وَأَدَاءُ
الْقِيمَةِ مِثْلُ أَدَاءِ الْجُزْءِ من النِّصَابِ من حَيْثُ أنه مَالٌ وَبَيَانُ
كَوْنِ الْوَاجِبِ أَدَاءَ جُزْءٍ من النِّصَابِ ما ذَكَرْنَا في مَسْأَلَةِ
التَّفْرِيطِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْجُزْءَ من النِّصَابِ وَاجِبٌ من حَيْثُ
أنه مَالٌ إن تَعَلُّقَ الْوَاجِبِ بِالْجُزْءِ من النِّصَابِ لِلتَّيْسِيرِ
لِيَبْقَى الْوَاجِبُ بِبَقَائِهِ وَيَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ وَمَعْنَى التَّيْسِيرِ إنَّمَا
يَتَحَقَّقُ أَنْ لو تَعَيَّنَ الْجُزْءُ من النِّصَابِ لِلْوُجُوبِ من حَيْثُ هو
مَالٌ إذْ لو تَعَلَّقَ الْوُجُوبُ بِغَيْرِ الْجُزْءِ لَبَقِيَتْ الشَّرِكَةُ في
النِّصَابِ لِلْفُقَرَاءِ وَفِيهِ من الْعُسْرِ وَالْمَشَقَّةِ ما لَا يَخْفَى
خُصُوصًا إذَا كان النِّصَابُ من نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ نحو الْجَوَارِي
الْحِسَانِ وَالْأَفْرَاسِ الْفَارِهَةِ لِلتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا وَلَا كَذَلِكَ
إذَا كان التَّعَلُّقُ بِهِ من حَيْثُ هو مَالٌ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كان
الِاخْتِيَارُ إلَى رَبِّ الْمَالِ فَإِنْ رَأَى أداء الْجُزْءَ إلَيْهِ أَيْسَرَ
أَدَّى الْجُزْءَ وَإِنْ رَأَى أَدَاءَ غَيْرِهِ أَيْسَرَ مَالَ إلَيْهِ
فَيَحْصُلُ مَعْنَى الْيُسْرِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ذِكْرَ الشَّاةِ في الحديث
لِتَقْدِيرِ الْمَالِيَّةِ لَا لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ
وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ رَأَى في إبِلِ الصَّدَقَةِ نَاقَةً كَوْمَاءَ
فَغَضِبَ على الْمُصْدِقِ وقال أَلَمْ أَنْهَكُمْ عن أَخْذِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ
الناس فقال أَخَذْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ من إبِلِ الصَّدَقَةِ
وفي رِوَايَةٍ ارْتَجَعْتُهَا فَسَكَتَ رسول اللَّهِ وَأَخْذُ الْبَعِيرِ
بِبَعِيرَيْنِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَدَلَّ على صِحَّةِ مَذْهَبِنَا
وَأَمَّا طَرِيقُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَيْنُ ما
وَرَدَ بِهِ النَّصُّ وهو أَدَاءُ رُبُعِ الْعُشْرِ في مَالِ التِّجَارَةِ
وَأَدَاءُ الْمَنْصُوصِ عليه في السَّوَائِمِ صُورَةً وَمَعْنًى غَيْرُ مَعْقُولِ
الْمَعْنَى بَلْ هو تَعَبُّدٌ مَحْضٌ حتى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لو
أَمَرَنَا باتلافه حَقًّا له أو سببه ( ( ( سبيه ) ) ) لَفَعَلْنَا ولم نَعْدِلْ
عن الْمَنْصُوصِ عليه إلَى غَيْرِهِ غير أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ
بِصَرْفِهِ إلَى عِبَادِهِ الْمُحْتَاجِينَ كِفَايَةً لهم وَكِفَايَتُهُمْ
مُتَعَلِّقَةٌ بِمُطْلَقِ الْمَالِ صَارَ وُجُوبُ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ مَعْقُولَ
الْمَعْنَى وهو الْكِفَايَةُ التي تَحْصُلُ بِمُطْلَقِ الْمَالِ فَصَارَ مَعْلُولًا
بِمُطْلَقِ الْمَالِ وكان أَمْرُهُ عز وجل أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ بِالصَّرْفِ
إلَى الْفَقِيرِ إعْلَامًا له أَنَّهُ إذن لهم بِنَقْلِ حَقِّهِ الثَّابِتِ في
الْمَنْصُوصِ عليه إلَى مُطْلَقِ الْمَالِ كَمَنْ له على رَجُلٍ حِنْطَةٌ
وَلِرَجُلِ آخَرَ على صَاحِبِ الدَّيْنِ دَرَاهِمَ فَأَمَرَ من له الْحِنْطَةُ من
عليه الْحِنْطَةُ بِأَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ الدَّرَاهِمِ من الذي له عليه وهو
الْحِنْطَةُ كان ذلك إذْنًا منه إيَّاهُ بِنَقْلِ حَقِّهِ إلَى الدَّرَاهِمِ
بِأَنْ يَسْتَبْدِلَ الْحِنْطَةَ بِالدَّرَاهِمِ وَجَعَلَ الْمَأْمُورَ
بِالْأَدَاءِ كَأَنَّهُ أَدَّى عَيْنَ الْحَقِّ إلَى من له الْحَقُّ ثُمَّ
اسْتَبْدَلَ ذلك وَصَرَفَ إلَى الْآخَرِ ما أَمَرَ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ فَصَارَ ما
وَصَلَ إلَى الْفَقِيرِ مَعْلُولًا بِمُطْلَقِ الْمَالِ سَوَاءٌ كان الْمَنْصُوصُ
عليه أو غَيْرِهِ جزأ من النِّصَابِ أو غَيْرِهِ وَأَدَاءُ الْقِيمَةِ أَدَاءُ
مَالٍ مُطْلَقٍ مُقَدَّرٍ بِقِيمَةِ الْمَنْصُوصِ عليه بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ
فَيُجْزِئُهُ كما لو أَدَّى وَاحِدًا من خَمْسٍ من الْإِبِلِ بِخِلَافِ السُّجُودِ
على الْخَدِّ وَالذَّقَنِ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فائت ( ( ( فاتت ) ) )
أَصْلًا وَلِهَذَا لَا يُنْتَقَلُ بِهِ وَلَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ
وما ليس بِقُرْبَةٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْقُرْبَةِ وَبِخِلَافِ الْهَدَايَا
وَالضَّحَايَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ فيها إرَاقَةُ الدَّمِ حتى لو هَلَكَ بَعْدَ
الذَّبْحِ قبل التَّصَدُّقِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَإِرَاقَةُ الدَّمِ ليس
بِمَالٍ فَلَا يَقُومُ الْمَالُ مَقَامَهُ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَأَمَّا السَّوَائِمُ من الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ
أَمَّا نِصَابُ الْإِبِلِ فَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ من الْإِبِلِ زَكَاةٌ وفي
الْخَمْسِ شَاةٌ وفي الْعَشْرِ شَاتَانِ وفي خَمْسَةَ عَشْرَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ وفي
عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ وفي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ وفي سِتٍّ
وثلاثون ( ( ( وثلاثين ) ) ) بِنْتُ لَبُونٍ وفي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ حِقَّةٌ وفي
إحْدَى وَسِتِّينَ جَذَعَةٌ وَهِيَ أَقْصَى سِنٍّ لها مَدْخَلٌ في الزَّكَاةِ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَتَبَ كِتَابًا إلَى أبي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه فَكَتَبَهُ أبو بَكْرٍ لِأَنَسٍ وكان فيه وفي
أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ فما دُونَهَا الْغَنَمُ في كل خَمْسٍ ذَوْدُ شَاةٍ فإذا كانت
خَمْسًا وَعِشْرِينَ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ
فإذا كانت سِتًّا وَثَلَاثِينَ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ
فإذا كانت سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ فإذا كانت إحْدَى
وَسِتِّينَ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ فإذا كانت سِتًّا
وَسَبْعِينَ إلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ فإذا كانت إحْدَى
وَتِسْعِينَ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ
وَلَا خِلَافَ في هذه الْجُمْلَةِ إلَّا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه
أَنَّهُ قال في خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ وفي سِتٍّ وَعِشْرِينَ بِنْتُ
مَخَاضٍ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَكَادُ تَثْبُتُ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه
لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ
منها ما رَوَيْنَا من كِتَابِ رسول اللَّهِ الذي كَتَبَهُ لِأَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه
وَمِنْهَا كِتَابُهُ الذي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بن حَزْمٍ وَغَيْرُ ذلك من
الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ وَلِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِأُصُولِ الزَّكَوَاتِ في
السَّوَائِمِ لِأَنَّ فيها مُوَالَاةٍ بين وَاجِبَيْنِ لَا وَقَصَ بَيْنَهُمَا
وَالْأَصْلُ فيها أَنْ يَكُونَ بين الْفَرِيضَتَيْنِ وَقَصٌ
____________________
(2/26)
وَهَذَا
دَلِيلُ عَدَمِ الثُّبُوتِ وقد حُكِيَ عن سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قال كان
عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه أَفْقَهُ من أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هذا إنَّمَا هو غَلَطٌ
وَقَعَ من رِجَالِ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الرَّاوِيَ
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ يقول في سِتٍّ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ وفي
خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسٌ من الْغَنَمِ قِيمَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ فَجَمَعَ
بَيْنَهُمَا
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في الزِّيَادَةِ على مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فقال
أَصْحَابُنَا إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ على هذا الْعَدَدِ تُسْتَأْنَفُ الْفَرِيضَةُ
وَيُدَارُ الْحِسَابُ على الْخَمْسِينَانِ في النِّصَابِ وَعَلَى الْحِقَاقِ في
الْوَاجِبِ لَكِنْ بِشَرْطِ عَوْدِ ما قَبْلَهُ من الْوَاجِبَاتِ وَالْأَوْقَاصِ
بِقَدْرِ ما يَدْخُلُ فيه
وَبَيَانُ ذلك إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ على مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَلَا شَيْءَ في
الزِّيَادَةِ حتى تَبْلُغَ خَمْسًا فَيَكُونُ فيها شَاةٌ وَحِقَّتَانِ وفي
الْعَشْرِ شَاتَانِ وَحِقَّتَانِ وفي خَمْسَةَ عَشْرَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ
وَحِقَّتَانِ وفي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَحِقَّتَانِ وفي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ
بِنْتُ مَخَاضٍ وَحِقَّتَانِ إلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ
في كل خَمْسِينَ حِقَّةٌ ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْفَرِيضَةَ فَلَا شَيْءَ في
الزِّيَادَةِ حتى تَبْلُغَ خَمْسًا فَيَكُونُ فيها شَاةٌ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ وفي
الْعَشْرِ شَاتَانِ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ
وفي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ وفي عِشْرِينَ أَرْبَعُ
شِيَاهٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ فإذا بَلَغَتْ مِائَةً وَخَمْسًا وَسَبْعِينَ فَفِيهَا
بِنْتُ مَخَاضٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ فإذا بَلَغَتْ مِائَةً وَسِتَّةً وَثَمَانِينَ
فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ إلَى مِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَتِسْعِينَ
فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ إلَى مِائَتَيْنِ فَإِنْ شَاءَ أَدَّى منها أَرْبَعَ
حِقَاقٍ من كل خَمْسِينَ حِقَّةً وَإِنْ شَاءَ أَدَّى خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ من
كل أَرْبَعِينَ بِنْتَ لَبُونٍ
ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْفَرِيضَةَ أَبَدًا في كل خَمْسِينَ كما اُسْتُؤْنِفَتْ من
مِائَةٍ وَخَمْسِينَ إلَى مِائَتَيْنِ فَيَدْخُلُ فيها بِنْتُ مَخَاضٍ وَبِنْتُ
لَبُونٍ وَحِقَّةٌ مع الشِّيَاهِ
هذا قَوْلُ أَصْحَابِنَا
وقال مَالِكٌ إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ على مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً لَا
تَجِبُ في الزِّيَادَةِ شَيْءٌ إلَى تِسْعَةٍ بَلْ يُجْعَلُ تِسْعَةً عَفْوًا حتى
تَبْلُغَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ وَكَذَا إذَا بَلَغَتْ مئة ( ( ( مائة ) ) )
وَثَلَاثِينَ فَلَا شَيْءَ في الزِّيَادَةِ إلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ وَيُجْعَلُ
كُلُّ تِسْعَةٍ عَفْوًا وَتَجِبُ في كل أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وفي كل
خَمْسِينَ حِقَّةٌ فَيُدَارُ النِّصَابُ على الْخَمْسِينَاتِ وَالْأَرْبَعِينَات
وَالْوَاجِبُ على الحقائق ( ( ( الحقاق ) ) ) وَبَنَاتِ لَبُونٍ فَيَجِبُ في
مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ لِأَنَّهَا مَرَّةً خَمْسُونَ
مرتين ( ( ( ومرتين ) ) ) أَرْبَعُونَ وفي مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ حِقَّتَانِ
وَبِنْتُ لَبُونٍ وفي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ وفي مِائَةٍ وَسِتِّينَ
أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ وفي مِائَةٍ وَسَبْعِينَ حِقَّةٌ وَثَلَاثُ بَنَاتِ
لَبُونٍ وفي مِائَةٍ وَثَمَانِينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتَا لَبُونٍ وفي مِائَةٍ
وَتِسْعِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ إلَى مِائَتَيْنِ فَإِنْ شَاءَ
أَدَّى من الْمِائَتَيْنِ أَرْبَعَ حِقَاقٍ وَإِنْ شَاءَ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ
وقال الشَّافِعِيُّ مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ أنه يُدَارُ الْحِسَابُ على
الْخَمْسِينَاتِ وَالْأَرْبَعِينَات في النُّصُبِ وَعَلَى الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ
اللَّبُونِ في الْوَاجِبِ وَإِنَّمَا خَالَفَهُ في فَصْلٍ وَاحِدٍ وهو أَنَّهُ قال
إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ على مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا ثَلَاثُ
بَنَاتِ لَبُونٍ احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَتَبَ كِتَابَ الصَّدَقَاتِ وَقَرَنَهُ بِقِرَابِ سَيْفِهِ
ولم يُخْرِجْهُ إلَى عُمَّالِهِ حتى قُبِضَ ثُمَّ عَمِلَ بِهِ أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ
حتى قُبِضَا وكان فيه إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ على مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كل
أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وفي كل خَمْسِينَ حِقَّةٌ
غير أَنَّ مَالِكًا قال لَفْظُ الزِّيَادَةِ إنَّمَا تَتَنَاوَلُ زِيَادَةً
يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمَنْصُوصِ عليه فيها وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِيمَا دُونَ
الْعَشَرَةِ
وَالشَّافِعِيُّ قال إنَّ النبي عَلَّقَ هذا الْحُكْمَ بِنَفْسِ الزِّيَادَةِ
وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِزِيَادَةِ الْوَاحِدَةِ فَعِنْدَهُمَا يُوجِبُ في كل
أَرْبَعِينَ بِنْتَ لَبُونٍ وَهَذِهِ الْوَاحِدَةُ لِتَعْيِينِ الْوَاجِبِ بها
فَلَا يَكُونُ لها حَظٌّ من الْوَاجِبِ ثُمَّ أَعْدَلُ الْأَسْنَانِ بِنْتُ
لَبُونٍ وَالْحِقَّةُ فإن أَدْنَاهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَأَعْلَاهَا الْجَذَعَةُ
فَالْأَعْدَلُ هو الْمُتَوَسِّطُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن قَيْسِ بن سَعْدٍ أَنَّهُ قال قُلْت لِأَبِي بَكْرِ بن
عَمْرِو بن حَزْمٍ إخرج إلى كِتَابَ الصَّدَقَاتِ الذي كَتَبَهُ رسول اللَّهِ
لِعَمْرِو بن حَزْمٍ فَأَخْرَجَ كِتَابًا في وَرَقَةٍ وَفِيهِ فإذا زَادَتْ
الْإِبِلُ على مِائَةٍ وَعِشْرِينَ اُسْتُؤْنِفَتْ الْفَرِيضَةُ فما كان أَقَلَّ
من خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَفِيهَا الْغَنَمُ في كل خَمْسٍ ذَوْدُ شَاةٍ
وَرُوِيَ هذا الْمَذْهَبُ عن عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما وَهَذَا
بَابٌ لَا يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ فَيَدُلُّ على سماعها ( ( ( سماعهما ) ) ) من
رسول اللَّهِ حتى رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال ما عِنْدَنَا
شَيْءٌ نَقْرَأُهُ إلَّا كِتَابُ اللَّهِ عز وجل وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ فيها
أَسْنَانُ الْإِبِلِ أَخَذْتُهَا من رسول اللَّهِ لَا يَجُوزُ أَنْ نخالفها
وَرُوِيَ أَنَّهُ أَنْفَذَهَا إلَى عُثْمَانَ فقال له مُرْ سُعَاتُكَ
فَلْيَعْمَلُوا بها
فقال لَا حَاجَةَ لنا فيها مَعَنَا مِثْلُهَا وما هو خَيْرٌ منها فَقَدْ وَافَقَ
عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنهما وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْحِقَّتَيْنِ في مِائَةٍ
وَعِشْرِينَ
____________________
(2/27)
ثَابِتٌ
بِاتِّفَاقِ الْأَخْبَارِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ إلَّا
بمثله
وَبَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ اخْتَلَفَتْ الْآثَارُ فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ ذلك
الْوَاجِبِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْآثَارِ بَلْ يُعْمَلُ بِحَدِيثِ عَمْرِو بن
حَزْمٍ وَيُحْمَلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما على الزِّيَادَةِ
الْكَثِيرَةِ حتى تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ وَبِهِ نَقُولُ أن في كل أَرْبَعِينَ
بِنْتُ لَبُونٍ وفي كل خَمْسِينَ حِقَّةٌ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْوَاجِبَ في كل مَالٍ من جِنْسِهِ فَنَعَمْ إذَا
احْتَمَلَ ذلك فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّ الزِّيَادَةَ تَحْتَمِلُ الْوَاجِبَ من
الْجِنْسِ فإن الزِّيَادَةَ لَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهَا بِالْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ
لِبَقَاءِ الْحِقَّتَيْنِ فيها كما كانت وَمَعَ بَقَاءِ الْحِقَّتَيْنِ فيها على
حَالِهِمَا لَا يُمْكِنُ الْبِنَاءُ فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ مع بَقَاءِ
الْحِقَّتَيْنِ بَعْدُ مُحْتَمِلَةً لِلْإِيجَابِ من جِنْسِهِ فَلِهَذَا صِرْنَا
إلَى إيجَابِ الْقِيمَةِ فيها كما في الِابْتِدَاءِ حتى أَنَّهُ لَمَّا كان
أَمْكَنَ الْبِنَاءُ مع بَقَاءِ الْحِقَّتَيْنِ بَعْدَ مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ
وَأَرْبَعِينَ بَنَيْنَا فَنَقْلنَا من بَنَاتِ الْمَخَاضِ إلَى الْحِقَّةِ إذَا
بَلَغَتْ مِائَةً وَخَمْسِينَ فَلِأَنَّهَا ثَلَاثُ مَرَّاتٍ خَمْسِينَ فَيُوجِبُ
من كل خَمْسِينَ حِقَّةً وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا نِصَابُ الْبَقَرِ فَلَيْسَ في أَقَلَّ من ثَلَاثِينَ بقرة ( ( (
بقرا ) ) ) زَكَاةٌ وفي كل ثَلَاثِينَ منها تَبِيعٌ أو تَبِيعَةٌ وَلَا شَيْءَ في
الزِّيَادَةِ إلَى تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ فإذا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا
مُسِنَّةٌ وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فيه بين الْأُمَّةِ وَالْأَصْلُ فيه ما
رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِمُعَاذٍ حين بَعَثَهُ
إلَى الْيَمَنِ في كل ثَلَاثِينَ من الْبَقَرِ تَبِيعٌ أو تَبِيعَةٌ وفي كل
أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ
فَأَمَّا إذَا زَادَتْ على الْأَرْبَعِينَ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فيه
ذُكِرَ في كِتَابِ الزَّكَاةِ وما زَادَ على الْأَرْبَعِينَ فَفِي الزِّيَادَةِ
بِحِسَابِ ذلك ولم يُفَسَّرْ هذا الْكَلَامُ وَذُكِرَ في كِتَابِ اخْتِلَافِ أبي
حَنِيفَةَ وَابْنِ أبي لَيْلَى إذَا كان له إحْدَى وَأَرْبَعِينَ بَقَرَةً
قال أبو حَنِيفَةَ عليه مُسِنَّةٌ وَرُبُعُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ أو ثُلُثُ عُشْرِ
تَبِيعٍ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ لَا نِصَابَ عِنْدَهُ في الزِّيَادَةِ على الْأَرْبَعِينَ
وَأَنَّهُ تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ قَلَّ أو كَثُرَ بِحِسَابِ ذلك
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ في الزِّيَادَةِ شَيْءٌ
حتى تَبْلُغَ خَمْسِينَ فإذا بَلَغَتْ خَمْسِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَرُبُعُ
مُسِنَّةٍ أو ثُلُثُ تَبِيعٍ وَرَوَى أَسَدُ بن عَمْرٍو عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ
قال ليس في الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حتى تَكُونَ سِتِّينَ فإذا كانت سِتِّينَ فَفِيهَا
تَبِيعَانِ أو تَبِيعَتَانِ
وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ فإذا زَادَ على السِّتِّينَ
يُدَارُ الْحِسَابُ على الثَّلَاثِينَاتِ وَالْأَرْبَعِينَات في النُّصُبِ وَعَلَى
الْأَتْبِعَةِ وَالْمُسِنَّاتِ في الْوَاجِبِ وَيُجْعَلُ تِسْعَةٌ بَيْنَهُمَا
عَفْوًا بِلَا خِلَافٍ فَيَجِبُ في كل ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ أو تَبِيعَةٌ وفي كل
أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ فإذا كانت سَبْعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَتَبِيعٌ وفي
ثَمَانِينَ مُسِنَّتَانِ وفي تِسْعِينَ ثَلَاثَةُ أَتْبِعَةٍ وفي مِائَةٍ
مُسِنَّةٌ وَتَبِيعَانِ وفي مِائَةٍ وَعَشْرَةَ مُسِنَّتَانِ وَتَبِيعٌ وفي
مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ثَلَاثُ مُسِنَّاتٍ أو ( ( ( وأربعة ) ) ) أربعة أَتْبِعَةٍ فَإِنَّهَا
ثَلَاثُ مَرَّاتٍ أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعُ مَرَّاتٍ ثَلَاثِينَ وَعَلَى هذا
الِاعْتِبَارِ يُدَارُ الْحِسَابِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ إثْبَاتَ الْوَقَصِ وَالنِّصَابِ بِالرَّأْيِ
لَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَإِنَّمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ النَّصُّ وَلَا نَصَّ فِيمَا
بين الْأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ فَلَا سَبِيلَ إلَى إخْلَاءِ مَالِ
الزَّكَاةِ عن الزَّكَاةِ فَأَوْجَبْنَا فِيمَا زَادَ على الْأَرْبَعِينَ
بِحِسَابِ ما سَبَقَ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْأَوْقَاصَ في الْبَقَرِ تِسْعٌ تِسْعٌ بِدَلِيلِ
ما قبل الْأَرْبَعِينَ وما بَعْدَ السِّتِّينَ فَكَذَلِكَ فِيمَا بين ذلك
لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِمَا قَبْلَهُ أو بِمَا بَعْدَهُ فتعجل ( ( ( فتجعل ) ) )
التِّسْعَةُ عَفْوًا فإذا بَلَغَتْ خَمْسِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَرُبُعُ
مُسِنَّةٍ أو ثُلُثُ تَبِيعٍ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَشْرَةٌ وَهِيَ ثُلُثٌ ثلاثين
( ( ( وثلاثين ) ) ) وَرُبُعُ أَرْبَعِينَ
وَجْهُ رِوَايَةِ أَسَدِ بن عَمْرٍو وَهِيَ أَعْدَلُ الرِّوَايَاتِ ما رُوِيَ في
حديث مُعَاذٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال له
لَا تَأْخُذْ من أَوْقَاصِ الْبَقَرِ شيئا وَفَسَّرَ مُعَاذٌ الْوَقَصَ بِمَا بين
الْأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ حتى قِيلَ له ما تَقُولُ فِيمَا بين
الْأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ فقال تِلْكَ الْأَوْقَاصُ لَا شَيْءَ فيها
وَلِأَنَّ مَبْنَى زَكَاةِ السَّائِمَةِ على أَنَّهُ لَا يَجِبُ فيها الْأَشْقَاصُ
دَفْعًا لِلضَّرَرِ عن أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَلِهَذَا وَجَبَ في الْإِبِلِ
عِنْدَ قِلَّةِ الْعَدَدِ من خِلَافِ الْجِنْسِ تَحَرُّزًا عن إيجَابِ الشِّقْصِ
فَكَذَلِكَ في زَكَاةِ الْبَقَرِ لَا يَجُوزُ إيجَابُ الشِّقْصِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا نِصَابُ الْغَنَمِ فَلَيْسَ في أَقَلَّ من أَرْبَعِينَ من
الْغَنَمِ زَكَاةٌ فإذا كانت أَرْبَعِينَ فَفِيهَا شَاةٌ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ
فإذا كانت مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى مِائَتَيْنِ فإذا
زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى أَرْبَعِمِائَةٍ فإذا كانت
أَرْبَعُمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ ثُمَّ في كل مِائَةٍ شَاةٌ وَهَذَا
قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال الْحَسَنُ بن حَيٍّ إذَا زَادَتْ على ثَلَاثِمِائَةٍ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا
أَرْبَعُ شِيَاهٍ وفي أَرْبَعِمِائَةٍ خَمْسُ شِيَاهٍ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ
الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ في
____________________
(2/28)
حديث
أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي اللَّهُ عنه كَتَبَ له كِتَابَ
الصَّدَقَاتِ الذي كَتَبَهُ له رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَفِيهِ وفي
أَرْبَعِينَ من الْغَنَمِ شَاةٌ وفي مِائَةٍ وَوَاحِدَةٍ وَعِشْرِينَ شَاتَانِ وفي
مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى أَرْبَعِمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ
شِيَاهٍ وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ النُّصُبِ التَّوْقِيفُ دُونَ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
هذا الذي ذَكَرْنَا إذَا كانت السَّوَائِمُ لِوَاحِدٍ فَأَمَّا إذَا كانت
مُشْتَرَكَةً بين اثْنَيْنِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال أَصْحَابُنَا أنه
يُعْتَبَرُ في حَالِ الشَّرِكَةِ ما يُعْتَبَرُ في حَالِ الإنفراد وهو كَمَالُ
النِّصَابِ في حَقِّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ كان نَصِيبُ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا يَبْلُغُ نِصَابًا تَجِبُ الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا
وقال الشَّافِعِيُّ إذَا كانت أَسْبَابُ الْإِسَامَةِ مُتَّحِدَةً وهو أَنْ
يَكُونَ الرَّاعِي وَالْمَرْعَى وَالْمَاءُ وَالْمُرَاحُ وَالْكَلْبُ وَاحِدًا
وَالشَّرِيكَانِ من أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمَا يُجْعَلُ مَالُهُمَا
كَمَالٍ وَاحِدٍ وَتَجِبُ عَلَيْهِمَا الزَّكَاةُ وَإِنْ كان كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا لو انْفَرَدَ لَا تَجِبُ عليه
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يُجْمَعُ
بين مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بين مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ وما كان بين
خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ فَقَدْ اعْتَبَرَ النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم الْجَمْعَ وَالتَّفْرِيقَ حَيْثُ نهى عن جَمْعِ الْمُتَفَرِّقِ
وَتَفْرِيقِ الْمُجْتَمِعِ
وفي اعْتِبَارِ حَالِ الْجَمْعِ بِحَالِ الإنفراد في اشْتِرَاطِ النِّصَابِ في
حَقِّ كل وَاحِدٍ من الشَّرِيكَيْنِ إبْطَالُ مَعْنَى الْجَمْعِ وَتَفْرِيقِ
الْمُجْتَمَعِ
وَلَنَا ما روى عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ليس في سَائِمَةِ
الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ إذَا كانت أَقَلَّ من أَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ نَفَى وُجُوبَ
الزَّكَاةِ في أَقَلَّ من أَرْبَعِينَ مُطْلَقًا عن حَالِ الشَّرِكَةِ
وَالِانْفِرَادِ فَدَلَّ أَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ في حَقِّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
شَرْطُ الْوُجُوبِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يُجْمَعُ بين
مُتَفَرِّقٍ
وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْمُرَادَ منه التَّفَرُّقُ في الْمِلْكِ لَا في الْمَكَانِ
لِإِجْمَاعِنَا على أَنَّ النِّصَابَ الْوَاحِدَ إذَا كان في مَكَانَيْنِ تَجِبُ
الزَّكَاةُ فيه فَكَانَ الْمُرَادُ منه التَّفَرُّقُ في الْمِلْكِ وَمَعْنَاهُ
إذَا كان الْمِلْكُ مُتَفَرِّقًا لَا يُجْمَعُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لِوَاحِدٍ
لِأَجْلِ الصَّدَقَةِ كَخَمْسٍ من الْإِبِلِ بين اثْنَيْنِ أو ثَلَاثِينَ من
الْبَقَرِ أو أَرْبَعِينَ من الْغَنَمِ حَالَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ وَأَرَادَ
الْمُصْدِقُ أَنْ يَأْخُذَ منها الصَّدَقَةَ وَيَجْمَعَ بين الْمِلْكَيْنِ
وَيَجْعَلَهُمَا كَمِلْكٍ وَاحِدٍ ليس له ذلك وَكَثَمَانِينَ من الْغَنَمِ بين
اثْنَيْنِ حَالَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ أَنَّهُ يَجِبُ فيها شَاتَانِ على كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ وَلَوْ أَرَادَا أَنْ يَجْمَعَا بين الْمِلْكَيْنِ
فَيَجْعَلَاهُمَا مِلْكًا وَاحِدًا خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ فَيُعْطِيَا الْمُصْدِقَ
شَاةً وَاحِدَةً ليس لَهُمَا ذلك لِتَفَرُّقِ مِلْكَيْهِمَا فَلَا يَمْلِكَانِ
الْجَمْعَ لِأَجْلِ الزَّكَاةِ
وَقَوْلُهُ وَلَا يُفَرَّقُ بين مُجْتَمِعٍ أَيْ في الْمِلْكِ كَرَجُلٍ له
ثَمَانُونَ من الْغَنَمِ في مَرْعَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ إنه يَجِبُ عليه شَاةٌ
وَاحِدَةٌ وَلَوْ أَرَادَ الْمُصْدِقُ أَنْ يُفَرِّقَ الْمُجْتَمِعَ فَيَجْعَلَهَا
كَأَنَّهَا لِرَجُلَيْنِ فَيَأْخُذَ منها شَاتَيْنِ ليس له ذلك لِأَنَّ الْمِلْكَ
مُجْتَمِعٌ فَلَا يَمْلِكُ تَفْرِيقَهُ وَكَذَا لو كان له أَرْبَعُونَ من
الْغَنَمِ في مَرْعَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ تَجِبُ عليه الزَّكَاةُ لِأَنَّ
الْمِلْكَ مُجْتَمِعٌ فَلَا يُجْعَلُ كَالْمُتَفَرِّقِينَ في الْمِلْكِ خَشْيَةَ
الصَّدَقَةِ أو يَحْتَمِلُ ما قُلْنَا فَيُحْمَلُ عليه عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ
بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا كان خَمْسٌ من الْإِبِلِ بين اثْنَيْنِ حَالَ
عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ لَا زَكَاةَ فيها على أَحَدِهِمَا عِنْدَنَا لِأَنَّ
نِصَابَهُ نَاقِصٌ وَعِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا شَاةٌ وَلَوْ كان الْإِبِلُ
عَشْرًا فَعَلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ بِلَا خِلَافٍ لِكَمَالِ نِصَابِ كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكَذَا لو كانت خَمْسَةَ عَشَرَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ ثَلَاثُ شِيَاهٍ
وَلَوْ كانت عِشْرِينَ فَعَلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاتَانِ لِأَنَّ نِصَابَ كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَامِلٌ وَلَوْ كانت خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا
وَعِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَلَوْ كان النِّصَابُ ثَلَاثِينَ
من الْبَقَرِ فَلَا زَكَاةَ فيه عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجِبُ فيها تَبِيعٌ
عَلَيْهِمَا وَلَوْ كانت سِتِّينَ فَفِيهَا تَبِيعَانِ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
تَبِيعٌ بِلَا خِلَافٍ
وَكَذَلِكَ أَرْبَعُونَ من الْغَنَمِ بين اثْنَيْنِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا
عِنْدَنَا
وَعِنْدَهُ شَاةٌ وَاحِدَةٌ عَلَيْهِمَا وَلَوْ كانت ثَمَانِينَ فَعَلَى كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ عِنْدَنَا
وَعِنْدَهُ عَلَيْهِمَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ
وَلَوْ كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ شَاةٌ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ
تَمَامُ ثَمَانِينَ وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ شَاةً ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في
شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَنَّ على قَوْلِ أبي يُوسُفَ عليه الزَّكَاةُ
وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا زَكَاةَ عليه
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ على قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَا زَكَاةَ عليه بِخِلَافِ ما إذَا كان
الثَّمَانُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ عليه
الزَّكَاةُ كما إذَا كان الثَّمَانُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ وَاحِدٍ
وَجْهُ قَوْلِ من قال بِالْوُجُوبِ إن الزَّكَاةَ تَجِبُ عِنْدَ كَمَالِ
النِّصَابِ وفي مِلْكِهِ نِصَابٌ كَامِلٌ فَتَجِبُ فيه الزَّكَاةُ كما لو كانت
مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ وَاحِدٍ
وَجْهُ قَوْلِ من قال لَا يَجِبُ إنه لو قَسَمَ لَا يُصِيبُهُ نِصَابٌ كَامِلٌ
لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ من شَاةٍ
____________________
(2/29)
وَاحِدَةٍ
إلَّا نِصْفَهَا فَلَا يَكْمُلُ النِّصَابُ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ وَكَذَلِكَ
سِتُّونَ من الْبَقَرِ أو عَشْرٌ من الْإِبِلِ إذَا كانت مُشْتَرَكَةً على
الْوَجْهِ الذي وَصَفْنَا فَهُوَ على ما ذَكَرْنَا من الِاخْتِلَافِ وَكُلُّ
جَوَابٍ عَرَفْتَهُ في السَّوَائِمِ الْمُشْتَرَكَةِ فَهُوَ الْجَوَابُ في
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ
وقد ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ وَكَذَلِكَ الزُّرُوعُ
وَهَذَا مَحْمُولٌ على مَذْهَبِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ النِّصَابَ
عِنْدَهُمَا شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ
فَأَمَّا على مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ النِّصَابَ ليس
بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ بَلْ يَجِبُ في الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ثُمَّ إذَا
حَضَرَ الْمُصْدِقُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ على الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ
بَيْنَهُمَا فإنه يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ منه إذَا وَجَدَ فيه وَاجِبًا على
الِاخْتِلَافِ وَلَا يَنْتَظِرُ الْقِسْمَةَ لِأَنَّ اشْتِرَاكَهُمَا على
عِلْمِهِمَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ في الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ وأن الْمُصْدِقَ لَا
يَتَمَيَّزُ له الْمَالُ فَيَكُونُ إذْنٌ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَخْذِ
الزَّكَاةِ من مَالِهِ دَلَالَةً ثُمَّ إذَا أَخَذَ يُنْظَرُ إنْ كان الْمَأْخُوذُ
حِصَّةَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا غير بِأَنْ كان الْمَالُ بَيْنَهُمَا على
السَّوِيَّةِ فَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ ذلك الْقَدْرَ كان وَاجِبًا على
كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَإِنْ كانت الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا على
التَّفَاوُتِ فَأَخَذَ من أَحَدِهِمَا زِيَادَةً لِأَجْلِ صَاحِبِهِ فإنه يَرْجِعُ
على صَاحِبِهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ
وَبَيَانُ ذلك إذَا كان ثَمَانُونَ من الْغَنَمِ بين رَجُلَيْنِ فَأَخَذَ
الْمُصَدِّقُ منها شَاتَيْنِ فَلَا تَرَاجُعَ هَهُنَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ على كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وهو شَاةٌ فلم يَأْخُذْ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
إلَّا قَدْرَ الْوَاجِبِ عليه فَلَيْسَ له أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ وَلَوْ كانت
الثَّمَانُونَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا يَجِبُ فيها شَاةٌ وَاحِدَةٌ على صَاحِبِ
الثُّلُثَيْنِ لِكَمَالِ نِصَابِهِ وَزِيَادَةٌ وَلَا شَيْءَ على صَاحِبِ
الثُّلُثِ لِنُقْصَانِ نِصَابِهِ فإذا حَضَرَ الْمُصَدِّقُ وَأَخَذَ من عَرَضِهَا
شَاةً وَاحِدَةً يَرْجِعُ صَاحِبُ الثُّلُثِ على صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ بِثُلُثِ
قِيمَةِ الشَّاةِ لِأَنَّ كُلَّ شَاةٍ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَكَانَتْ الشَّاةُ
الْمَأْخُوذَةُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَقَدْ أَخَذَ الْمُصْدِقُ من نَصِيبِ
صَاحِبِ الثُّلُثِ شَاةٍ لِأَجْلِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ فَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ
بِقِيمَةِ الثُّلُثِ
وَكَذَلِكَ إذَا كان مِائَةٌ وَعِشْرُونَ من الْغَنَمِ بين رَجُلَيْنِ
لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَاهَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا وَوَجَبَ على كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا شَاةٌ فَجَاءَ الْمُصْدِقُ وَأَخَذَ من عَرَضِهَا شَاتَيْنِ كان
لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ أَنْ يَرْجِعَ على صَاحِبِ الثُّلُثِ بِقِيمَةِ ثُلُثِ
شَاةٍ لِأَنَّ كُلَّ شَاةٍ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ثُلُثَاهَا لِصَاحِبِ
الثَّمَانِينَ وَالثُّلُثُ لِصَاحِبِ الْأَرْبَعِينَ فَكَانَتْ الشَّاتَانِ
الْمَأْخُوذَتَانِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ شَاةٌ وَثُلُثُ
شَاةٍ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثَا شَاةٍ وَالْوَاجِبُ عليه شَاةٌ كَامِلَةٌ
فَأَخَذَ الْمُصَدِّقُ من نَصِيبِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ شَاةً وَثُلُثَ شَاةٍ من
( ( ( ومن ) ) ) نَصِيبِ صَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثَيْ شَاةٍ فَقَدْ صَارَ آخِذًا من
نَصِيبِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ ثُلُثَ شَاةٍ لِأَجْلِ زَكَاةِ صَاحِبِ الثُّلُثِ
فَيَرْجِعُ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ على صَاحِبِ الثُّلُثِ بِقِيمَةِ ثُلُثِ شَاةٍ
وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَعْنَى قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وما كان بين
الْخَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ نِصَابِ السَّائِمَةِ فَلَهُ صِفَاتٌ
منها أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا لِلْإِسَامَةِ وهو أَنْ يُسِيمَهَا لِلدَّرِّ
وَالنَّسْلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ هو الْمَالُ النَّامِي وهو
الْمُعَدُّ لِلِاسْتِنْمَاءِ وَالنَّمَاءُ في الْحَيَوَانِ بِالْإِسَامَةِ إذْ بها
يَحْصُلُ النَّسْلُ فَيَزْدَادُ الْمَالُ فَإِنْ أُسِيمَتْ لِلْحَمْلِ أو
الرُّكُوبِ أو اللَّحْمِ فَلَا زَكَاةَ فيها وَلَوْ أُسِيمَتْ لِلْبَيْعِ
وَالتِّجَارَةِ فَفِيهَا زَكَاةُ مَالِ التِّجَارَةِ لَا زَكَاةُ السَّائِمَةِ
ثُمَّ السَّائِمَةُ هِيَ الرَّاعِيَةُ التي تَكْتَفِي بِالرَّعْيِ عن الْعَلَفِ
وَيُمَوِّنُهَا ذلك وَلَا تَحْتَاجُ إلَى أَنْ تُعْلَفَ فَإِنْ كانت تُسَامُ في
بَعْضِ السَّنَةِ وَتُعْلَفُ وَتُمَانُ في الْبَعْضِ يُعْتَبَرُ فيه الْغَالِبُ
لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ
أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَمْنَعُونَ من إطْلَاقِ اسْمِ
السَّائِمَةِ على ما تُعْلَفُ زَمَانًا قَلِيلًا من السَّنَةِ وَلِأَنَّ وُجُوبَ
الزَّكَاةِ فيها لِحُصُولِ مَعْنَى النَّمَاءِ وَقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ لِأَنَّ
عِنْدَ ذلك يَتَيَسَّرُ الْأَدَاءُ فَيَحْصُلُ الْأَدَاءُ عن طِيبِ نَفْسٍ وَهَذَا
الْمَعْنَى يَحْصُلُ إذَا أُسْيِمَتْ في أَكْثَرِ السَّنَةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْجِنْسُ فيه وَاحِدًا من الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ
وَالْغَنَمِ سَوَاءٌ اتَّفَقَ النَّوْعُ وَالصِّفَةُ أو اخْتَلَفَا فَتَجِبُ
الزَّكَاةُ عِنْدَ كَمَالِ النِّصَابِ من كل جِنْسٍ من السَّوَائِمِ وَسَوَاءٌ
كانت كُلُّهَا ذُكُورًا أو إنَاثًا أو مُخْتَلِطَةً وَسَوَاءٌ كانت من نَوْعٍ وَاحِدٍ
أو أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْعِرَابِ والبخاتي في الْإِبِلِ وَالْجَوَامِيسِ في
الْبَقَرِ وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ في الْغَنَمِ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ
بِنِصَابِهَا بِاسْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَاسْمُ الْجِنْسِ
يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَنْوَاعَ بِأَيِّ صِفَةٍ كانت كَاسْمِ الْحَيَوَانِ
وَغَيْرِ ذلك وَسَوَاءٌ كان مُتَوَلِّدًا من الْأَهْلِيِّ أو من أَهْلِيٍّ
وَوَحْشِيٍّ بَعْدَ أَنْ كان الْأُمُّ أَهْلِيًّا كَالْمُتَوَلِّدِ من الشَّاةِ
وَالظَّبْيِ إذَا كان أُمُّهُ شَاةً وَالْمُتَوَلِّدُ من الْبَقَرِ الْأَهْلِيِّ
وَالْوَحْشِيِّ إذَا كان أُمُّهُ أَهْلِيَّةً فَتَجِب فيه الزَّكَاةُ وَيَكْمُلُ
بِهِ النِّصَابُ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
____________________
(2/30)
لَا
زَكَاةَ فيه
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الشَّرْعَ وَرَدَ بِاسْمِ الشَّاةِ بِقَوْلِهِ في أَرْبَعِينَ
شَاةً شَاةٌ
وَهَذَا وَإِنْ كان شَاةً بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُمِّ فَلَيْسَ بِشَاةٍ
بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَحْلِ فَلَا يَكُونُ شَاةً على الْإِطْلَاقِ فَلَا
يَتَنَاوَلُهُ النَّصُّ
وَلَنَا أَنَّ جَانِبَ الْأُمِّ رَاجِحٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ
الْأُمَّ في الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَلِمَا نَذْكُرُ في كِتَابِ الْعَتَاقِ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا السِّنُّ وهو أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا مَسَانَّ أو بَعْضُهَا فَإِنْ كان
كُلُّهَا صِغَارًا فُصْلَانًا أو حُمْلَانًا أو عَجَاجِيلَ فَلَا زَكَاةَ فيها
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وكان أبو حَنِيفَةَ يقول أَوَّلًا يَجِبُ فيها ما يَجِبُ في الْكِبَارِ وَبِهِ
أَخَذَ زُفَرُ وَمَالِكٌ ثُمَّ رَجَعَ وقال يَجِبُ فيها وَاحِدَةٌ منها وَبِهِ
أَخَذَ أبو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ ثُمَّ رَجَعَ وقال لَا يَجِبُ فيها شَيْءٌ
وَاسْتَقَرَّ عليه وَبِهِ أَخَذَ مُحَمَّدٌ
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عن أبي يُوسُفَ في زَكَاةِ الْفُصْلَانِ في رِوَايَةٍ
قال لَا زَكَاةَ فيها حتى تَبْلُغَ عَدَدًا لو كانت كِبَارًا تَجِبُ فيها
وَاحِدَةٌ منها وهو خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ
وفي رِوَايَةٍ قال في الْخَمْسِ خُمُسُ فَصِيلٍ وفي الْعَشْرِ خمسا ( ( ( خمس ) )
) فَصِيلٍ وفي خَمْسَةَ عَشْرَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ وفي عِشْرِينَ
أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ وفي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةٌ منها
وفي رِوَايَةٍ قال في الْخَمْسِ يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ شَاةٍ وَسَطٍ وَإِلَى
قِيمَةِ خُمُسِ فَصِيلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا وفي الْعَشْرِ يُنْظَرُ إلَى
قِيمَةِ شَاتَيْنِ وَإِلَى قمية ( ( ( قيمة ) ) ) خُمُسَيْ فَصِيلٍ فَيَجِبُ
أَقَلُّهُمَا وفي خَمْسَةِ عَشْرَ يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ ثَلَاثِ شِيَاهٍ وَإِلَى
قِيمَةِ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا
وفي عِشْرِينَ يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ أَرْبَعَةِ شِيَاهٍ وَإِلَى قِيمَةِ
أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا وفي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ
يَجِبُ وَاحِدَةٌ منها
وَعَلَى رِوَايَاتِهِ كُلِّهَا قال لَا تَجِبُ في الزِّيَادَةِ على خَمْسٍ
وَعِشْرِينَ شَيْءٌ حتى تَبْلُغَ الْعَدَدَ الذي لو كانت كِبَارًا يَجِبُ فيها
اثْنَانِ وهو سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ ثُمَّ لَا يَجِبُ فيها شَيْءٌ حتى تَبْلُغَ
الْعَدَدَ الذي لوكانت كِبَارًا يَجِبُ فيها ثَلَاثَةٌ وهو مائة ( ( ( خمسة ) ) )
وخمسة وَأَرْبَعُونَ
وَاحْتَجَّ زُفَرُ بِعُمُومِ قَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في خَمْسٍ
وَعِشْرِينَ من الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَقَوْلِهِ في ثَلَاثِينَ من الْبَقَرِ
تَبِيعٌ أو تَبِيعَةٌ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ وَبِهِ
تَبَيَّنَ إن الْمُرَادَ من الْوَاجِبِ في قَوْلِهِ في خَمْسٍ من الْإِبِلِ شَاةٌ
وفي قَوْلِهِ في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ هو الْكَبِيرَةُ لَا الصَّغِيرَةُ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بُدَّ من الْإِيجَابِ في الصِّغَارِ لِعُمُومِ
قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في خَمْسٍ من الْإِبِلِ شَاةٌ وفي أَرْبَعِينَ
شَاةً شَاةٌ لَكِنْ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الْمُسِنَّةِ لِقَوْلِ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم لِلسُّعَاةِ إيَّاكُمْ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِ الناس
وَقَوْلُهُ لَا تَأْخُذُوا من حرزات ( ( ( حزرات ) ) ) الْأَمْوَالِ وَلَكِنْ
خُذُوا من حَوَاشِيهَا وَأَخْذُ الْكِبَارِ من الصِّغَارِ أَخْذٌ من كَرَائِمِ
الْأَمْوَالِ وحرزاتها ( ( ( وحزراتها ) ) ) وأنه مَنْهِيٌّ وَلِأَنَّ مَبْنَى
الزَّكَاةِ على النَّظَرِ من الْجَانِبَيْنِ جَانِبِ الْمُلَّاكِ وَجَانِبِ
الْفُقَرَاءِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاجِبَ هو الْوَسَطُ وما كان ذلك إلَّا مُرَاعَاتِهِ
الْجَانِبَيْنِ وفي إيجَابِ الْمُسِنَّةِ اضرار بِالْمُلَّاكِ لِأَنَّ قِيمَتَهَا
قد تَزِيدُ على قِيمَةِ النِّصَابِ وَفِيهِ إجْحَافٌ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وفي
نَفْيِ الْوُجُوبِ رَأْسًا إضْرَارٌ بِالْفُقَرَاءِ فَكَانَ الْعَدْلُ في إيجَابِ
وَاحِدَةٍ منها
وقد رُوِيَ عن أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لو مَنَعُونِي
عَنَاقًا مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
لَقَاتَلْتُهُمْ وَالْعَنَاقُ هِيَ الْأُنْثَى الصَّغِيرَةُ من أَوْلَادِ
الْمَعْزِ فَدَلَّ أَنَّ أَخْذَ الصِّغَارِ زَكَاةً كان أَمْرًا ظَاهِرًا في
زَمَنِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ تَنْصِيبَ النِّصَابِ بِالرَّأْيِ
مُمْتَنِعٌ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ إنَّمَا وَرَدَ بِاسْمِ
الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَهَذِهِ الْأَسَامِي لَا تَتَنَاوَلُ
الْفُصْلَانَ وَالْحُمْلَانَ وَالْعَجَاجِيلَ فلم يَثْبُتْ كَوْنُهَا نِصَابًا
وَعَنْ أُبَيِّ بن كَعْبٍ أَنَّهُ قال وكان مُصَدِّقُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم في عَهْدِي أَنْ لَا آخُذَ من رَاضِعِ اللَّبَنِ شيئا
وَأَمَّا قَوْلُ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه لو مَنَعُونِي عِنَاقًا فَقَدْ
رُوِيَ عنه أَنَّهُ قال لو مَنَعُونِي عِقَالًا وهو صَدَقَةُ عَامٍ أو الْحَبْلُ
الذي يُعْقَلُ بِهِ الصَّدَقَةُ فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَةُ فيه فلم يَكُنْ
حُجَّةً وَلَئِنْ ثَبَتَ فَهُوَ كَلَامُ تَمْثِيلٍ لَا تَحْقِيقٍ أَيْ لو وَجَبَتْ
هذه وَمَنَعُوهَا لَقَاتَلْتُهُمْ وَأَمَّا صُورَةُ هذه الْمَسْأَلَةِ فَقَدْ
تَكَلَّمَ الْمَشَايِخُ فيها لِأَنَّهَا مُشْكِلَةٌ إذْ الزَّكَاةُ لَا تَجِبُ قبل
تَمَامِ الْحَوْلِ وَبَعْدَ تَمَامِهِ لَا يَبْقَى اسْمُ الْفَصِيلِ وَالْحَمَلِ
وَالْعُجُولِ بَلْ تَصِيرُ مُسِنَّةً
قال بَعْضُهُمْ الْخِلَافُ في أَنَّ الْحَوْلَ هل يَنْعَقِدُ عليها وَهِيَ صغار (
( ( صغارا ) ) ) أو ( ( ( ويعتبر ) ) ) يعتبر انْعِقَادُ الْحَوْلِ عليها إذَا
كَبِرَتْ وَزَالَتْ صِفَةُ الصِّغَرِ عنها
وقال بَعْضُهُمْ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كان له نِصَابٌ من النُّوقِ فَمَضَى عليها
سِتَّةُ أَشْهُرٍ أو أَكْثَرُ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ
وَتَمَّ الْحَوْلُ على الْأَوْلَادِ وَهِيَ صِغَارٌ هل تَجِبُ الزَّكَاةُ في
الْأَوْلَادِ أَمْ لَا وَعَلَى هذا الإختلاف إذَا كان له مُسِنَّاتٌ فَاسْتَفَادَ
في خِلَالِ الْحَوْلِ صِغَارًا ثُمَّ هَلَكَتْ الْمُسِنَّاتُ وَبَقِيَ
الْمُسْتَفَادُ أَنَّهُ هل تَجِبُ الزَّكَاةُ في الْمُسْتَفَادِ فَهُوَ على ما
ذَكَرْنَا
وَإِلَى هذا أَشَارَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في الْكِتَابِ فِيمَنْ
كان له أَرْبَعُونَ
____________________
(2/31)
حَمَلًا
وَوَاحِدَةٌ مُسِنَّةً فَهَلَكَتْ الْمُسِنَّةُ وَتَمَّ الْحَوْلُ على
الْحُمْلَانِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ تَجِبُ وَاحِدَةٌ منها
وَعِنْدَ زُفَرَ تَجِبُ مُسِنَّةٌ
هذا إذَا كان الْكُلُّ صِغَارًا فَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَتْ الصِّغَارُ
وَالْكِبَارُ وكان وَاحِدٌ منها ( ( ( منهما ) ) ) كَبِيرًا فإن الصِّغَارَ
تُعَدُّ وَيَجِبُ فيها ما يَجِبُ في الْكِبَارِ وهو الْمُسِنَّةُ بِلَا خِلَافٍ
لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال تعد ( ( ( وتعد )
) ) صِغَارُهَا وَكِبَارُهَا وَرُوِيَ أَنَّ الناس شَكَوْا إلَى عُمَرَ عَامِلَهُ
وَقَالُوا إنَّهُ يَعُدُّ عَلَيْنَا السَّخْلَةَ وَلَا يَأْخُذُهَا مِنَّا فقال
عُمَرُ أَلَيْسَ يَتْرُكُ لَكُمْ الرُّبَّى وَالْمَاخِضَ وَالْأَكِيلَةَ وَفَحْلَ
الْغَنَمِ ثُمَّ قال عُدَّهَا وَلَوْ رَاحَ بها الرَّاعِي على كَفِّهِ وَلَا تَأْخُذْهَا
منهم وَلِأَنَّهَا إذَا كانت مُخْتَلِطَةً بِالْكِبَارِ أو كان فيها كَبِيرٌ
دَخَلَتْ تَحْتَ اسْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَتَدْخُلُ تَحْتَ
عُمُومِ النُّصُوصِ فَيَجِبُ فيها ما يَجِبُ في الْكِبَارِ وَلِأَنَّهُ إذَا كان
فيها مُسِنَّةٌ كانت تَبَعًا لِلْمُسِنَّةِ فَيُعْتَبَرُ الْأَصْلُ دُونَ
التَّبَعِ فَإِنْ كان وَاحِدٌ منها مُسِنَّةً فَهَلَكَتْ الْمُسِنَّةُ بَعْدَ
الْحَوْلِ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ تَجِبُ في الصِّغَارِ زكاتها ( ( ( وزكاتها ) ) ) بِقَدْرِهَا حتى لو كانت
حُمْلَانًا يَجِبُ عليه تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ جزأ من أَرْبَعِينَ جزأ من
الْحَمَلِ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ في الصِّغَارِ لِأَجْلِ
الْكِبَارِ تَبَعًا لها فَكَانَتْ أَصْلًا في الزَّكَاةِ فَهَلَاكُهَا كَهَلَاكِ
الْجَمِيعِ وَعِنْدَهُ الصِّغَارُ أَصْلٌ في النِّصَابِ وَالْوَاجِبُ وَاحِدٌ منها
وَإِنَّمَا الْفَصْلُ على الْحَمَلِ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارِ الْمُسِنَّةِ
فَهَلَاكُهَا يُسْقِطُ الْفَصْلَ لَا أَصْلَ الْوَاجِبِ
وَلَوْ هَلَكَتْ الْحُمْلَانُ وَبَقِيَتْ الْمُسِنَّةُ يُؤْخَذُ قِسْطُهَا من
الزَّكَاةِ وَذَلِكَ جزأ من أَرْبَعِينَ جُزْءًا من الْمُسِنَّةِ لِأَنَّ
الْمُسِنَّةَ كانت سَبَبَ زَكَاةِ نَفْسِهَا وَزَكَاةُ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ
سِوَاهَا لِأَنَّ كُلَّ الْفَرِيضَةِ كانت فيها لَكِنْ أَعْطَى الصِّغَارَ حُكْمَ
الْكِبَارِ تَبَعًا لها فَصَارَتْ الصِّغَارُ كَأَنَّهَا كِبَارٌ فإذا هَلَكَتْ
الْحُمْلَانُ هَلَكَتْ بِقِسْطِهَا من الْفَرِيضَةِ وَبَقِيَتْ الْمُسِنَّةُ
بِقِسْطِهَا من الْفَرِيضَةِ وهو ما ذَكَرْنَا
ثُمَّ الْأَصْلُ حَالُ اخْتِلَاطِ الصِّغَارِ بِالْكِبَارِ أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ
في الصِّغَارِ تَبَعًا لِلْكِبَارِ إذَا كان الْعَدَدُ الْوَاجِبُ في الْكِبَارِ
مَوْجُودًا في الصِّغَارِ في قَوْلِهِمْ جميعا فإذا لم يَكُنْ عَدَدُ الْوَاجِبِ
في الْكِبَارِ كُلُّهُ مَوْجُودًا في الصِّغَارِ فَإِنَّهَا تَجِبُ بِقَدْرِ
الْمَوْجُودِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بَيَانُ ذلك إذَا كان له
مُسِنَّتَانِ وَمِائَةٌ وَتِسْعَةَ عَشْرَ حَمَلًا يَجِبُ فيها مُسِنَّتَانِ بِلَا
خِلَافٍ لِأَنَّ عَدَدَ الْوَاجِبِ مَوْجُودٌ فيه وَإِنْ كان له مُسِنَّةٌ
وَاحِدَةٌ وَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ حَمَلًا أُخِذَتْ تِلْكَ الْمُسِنَّةُ لَا غير في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ تُؤْخَذُ الْمُسِنَّةُ
وَحَمَلٌ
وَكَذَلِكَ سِتُّونَ من الْعَجَاجِيلُ فيها تَبِيعٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ يُؤْخَذُ التَّبِيعُ لَا غير
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُؤْخَذُ التَّبِيعُ وَعُجُولٌ وَكَذَلِكَ سِتَّةٌ
وَسَبْعُونَ من الْفُصْلَانِ فيها بِنْتُ لَبُونٍ إنها تُؤْخَذُ فَحَسْبُ في
قَوْلِهِمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ تُؤْخَذُ بِنْتُ لَبُونٍ وَفَصِيلٌ لِأَنَّ
الْوُجُوبَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّغَارِ أَصْلًا عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ
يَتَعَلَّقُ بها وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ في السَّوَائِمِ فَقَدْ ذكرناه ( ( ( ذكرنا
) ) ) في بَيَانِ مِقْدَارِ نِصَابِ السَّوَائِمِ من الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ
وَالْغَنَمِ وهو الْأَسْنَانُ الْمَعْرُوفَةُ من بِنْتِ الْمَخَاضِ وَبِنْتِ
اللَّبُونِ وَالْحِقَّةُ وَالْجَذَعَةُ وَالتَّبِيعُ وَالْمُسِنَّةُ وَالشَّاةُ
وَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ مَعَانِي هذه الْأَسْمَاءِ فَبِنْتُ الْمَخَاضِ هِيَ
التي تَمَّتْ لها سَنَةٌ وَدَخَلَتْ في الثَّانِيَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ
أُمَّهَا صَارَتْ حَامِلًا بِوَلَدٍ آخَرَ بَعْدَهَا
وَالْمَاخِضُ اسْمٌ لِلْحَامِلِ من النُّوقِ
وَبِنْتُ اللَّبُونِ هِيَ التي تَمَّتْ لها سَنَتَانِ وَدَخَلَتْ في الثَّالِثَةِ
سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ أُمَّهَا حَمَلَتْ بَعْدَهَا وَوَلَدَتْ فَصَارَتْ
ذَاتِ لَبَنٍ وَاللَّبُونُ هِيَ ذَاتُ اللَّبَنِ
وَالْحِقَّةُ هِيَ التي تَمَّتْ لها ثَلَاثُ سِنِينَ وَطَعَنَتْ في الرَّابِعَةِ
سُمِّيَتْ بِذَلِكَ إمَّا لِاسْتِحْقَاقِهَا الْحَمْلَ وَالرُّكُوبَ أو
لِاسْتِحْقَاقِهَا الضِّرَابَ
وَالْجَذَعَةُ هِيَ التي تَمَّتْ لها أَرْبَعُ سِنِينَ وَطَعَنَتْ في الْخَامِسَةِ
وَلَا اشْتِقَاقَ لِاسْمِهَا
وَالذُّكُورُ منها ابن مَخَاضٍ وابن لون ( ( ( لبون ) ) ) وَحِقٌّ وَجَذَعٌ
وَوَرَاءَ هذه أَسْنَانٌ من الْإِبِلِ من الثَّنِيِّ وَالسَّدِيسِ وَالْبَازِلِ
لَكِنْ لَا مَدْخَلَ لها في بَابِ الزَّكَاةِ فَلَا مَعْنَى لِذِكْرِ مَعَانِيهَا
في كُتُبِ الْفِقْهِ
وَالتَّبِيعُ الذي تَمَّ له حَوْلٌ وَدَخَلَ في الثَّانِي وَالْأُنْثَى منه
التَّبِيعَةُ وَالْمُسِنَّةُ التي تَمَّتْ لها سَنَتَانِ وَطَعَنَتْ في
الثَّالِثَةِ وَالذَّكَرُ منه الْمُسِنُّ
وَأَمَّا الشَّاةُ فَذُكِرَ في الْأَصْلِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
إلَّا الثَّنِيَّ فَصَاعِدًا وَالثَّنِيُّ من الشَّاةِ هِيَ التي دَخَلَتْ في
السَّنَةِ الثَّانِيَةِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ الجزع ( ( ( الجذع ) ) ) من
الضَّأْنِ وَالثَّنِيُّ من الْمَعْزِ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
وَالشَّافِعِيِّ وما ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ أَخْذُ
الْجَذَعِ من الضَّأْنِ وَالثَّنِيِّ من الْمَعْزِ لِأَنَّهُ قال وَلَا يُؤْخَذُ
في الصَّدَقَةِ إلَّا ما يَجُوزُ في الْأُضْحِيَّةِ وَالْجَذَعُ من الضَّأْنِ
يَجُوزُ في الْأُضْحِيَّةِ
وَقَوْلُ الطَّحَاوِيِّ يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْحَسَنِ وَالْجَذَعُ
____________________
(2/32)
من
الْغَنَمِ الذي أتى عليه سِتَّةُ أَشْهُرٍ
وَقِيلَ الذي أتى عليه أَكْثَرُ السَّنَةِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
من الْمَعْزِ إلَّا الثَّنِيُّ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
إنَّمَا حَقُّنَا في الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ وَلِأَنَّ الْجَذَعَ يَجُوزُ في
الْأَضَاحِيِّ فَلَأَنْ يَجُوزَ في الزَّكَاةِ أَوْلَى لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ
أَكْثَرُ شُرُوطًا من الزَّكَاةِ فَالْجَوَازُ هُنَاكَ يَدُلُّ على الْجَوَازِ
هَهُنَا من طَرِيقِ الْأَوْلَى
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال
لَا يجزىء في الزَّكَاةِ إلَّا الثَّنِيُّ من الْمَعْزِ فَصَاعِدًا ولم يُرْوَ عن
غَيْرِهِ من الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا من الصَّحَابَةِ مع ما
أَنَّ هذا بَابٌ لَا يُدْرَكُ بِالِاجْتِهَادِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قال ذلك
سَمَاعًا من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ في السَّوَائِمِ فَالْوَاجِبُ فيها صِفَاتٌ لَا
بُدَّ من مَعْرِفَتِهَا منها الْأُنُوثَةُ في الْوَاجِبِ في الْإِبِلِ من
جِنْسِهَا من بِنْتِ الْمَخَاضِ وَبِنْتِ اللَّبُونِ وَالْحِقَّةِ وَالْجَذَعَةِ
وَلَا يَجُوزُ الذُّكُورُ منها وهو ابن الْمَخَاضِ وابن اللَّبُونِ وَالْحِقُّ
وَالْجَذَعُ إلَّا بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فيها إنَّمَا عُرِفَ
بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ فيها بِالْإِنَاثِ فَلَا يَجُوزُ الذُّكُورُ إلَّا
بِالتَّقْوِيمِ لِأَنَّ دَفْعَ الْقِيَمِ في بَابِ الزَّكَاةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا
وَأَمَّا في الْبَقَرِ فَيَجُوزُ فيها الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى لِوُرُودِ النَّصِّ
بِذَلِكَ وهو قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وفي ثَلَاثِينَ من الْبَقَرِ
تَبِيعٌ أو تَبِيعَةٌ وَكَذَا في الْإِبِلِ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ
لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِاسْمِ الشَّاةِ وَإِنَّهَا تَقَعُ على الذَّكَرِ
وَالْأُنْثَى وَكَذَا في الْغَنَمِ عِنْدَنَا يَجُوزُ في زَكَاتِهَا الذَّكَرُ
وَالْأُنْثَى
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ الذَّكَرُ إلَّا إذَا كانت كُلُّهَا ذُكُورًا
وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ فيها بِاسْمِ الشَّاةِ قال النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ
وَاسْمُ الشَّاةِ يَقَعُ على الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى في اللُّغَةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ وَسَطًا فَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ الْجَيِّدَ
وَلَا الرَّدِيءَ إلَّا من طَرِيقِ التَّقْوِيمِ بِرِضَا صَاحِبِ الْمَالِ لِمَا
رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِلسُّعَاةِ إيَّاكُمْ
وحرزات ( ( ( وحزرات ) ) ) أَمْوَالِ الناس وَخُذُوا من أَوْسَاطِهَا
وَرُوِيَ أَنَّهُ قال لِلسَّاعِي إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِ الناس وَخُذْ من
حَوَاشِيهَا وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا ليس بَيْنَهَا وَبَيْنَ
اللَّهِ حِجَابٌ
وفي الْخَبَرِ الْمَعْرُوفِ إنه رَأَى في إبِلِ الصَّدَقَةِ نَاقَةً كَوْمَاءَ
فَغَضِبَ على السَّاعِي وقال أَلَمْ أَنْهَكُمْ عن أَخْذِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ
الناس حتى قال السَّاعِي أَخَذْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ يا رَسُولَ اللَّهِ وَلِأَنَّ
مَبْنَى الزَّكَاةِ على مُرَاعَاةِ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ في أَخْذِ الْوَسَطِ
لِمَا في أَخْذِ الْخِيَارِ من الْإِضْرَارِ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وفي أَخْذِ الْأَرْذَالِ
من الْإِضْرَارِ بِالْفُقَرَاءِ فَكَانَ نَظَرُ الْجَانِبَيْنِ في أَخْذِ
الْوَسَطِ وَالْوَسَطُ هو أَنْ يَكُونَ أَدْوَنَ من الْأَرْفَعِ وَأَرْفَعَ من
الْأَدْوَنِ كَذَا فَسَّرَهُ مُحَمَّدٌ في المنتقي
وَلَا يُؤْخَذُ في الصَّدَقَةِ الربي بِضَمِّ الرَّاءِ وَلَا الْمَاخِضُ وَلَا
الْأَكِيلَةُ وَلَا فَحْلُ الْغَنَمِ قال مُحَمَّدٌ الربي التي تُرَبِّي وَلَدَهَا
وَالْأَكِيلَةُ التي تُسَمَّنُ لِلْأَكْلِ وَالْمَاخِضُ التي في بَطْنِهَا وَلَدٌ
وَمِنْ الناس من طَعَنَ في تَفْسِيرِ مُحَمَّدٍ الربي وَالْأَكِيلَةَ وَزَعَمَ
أَنَّ الربي الْمُرَبَّاةُ وَالْأَكِيلَةُ الْمَأْكُولَةُ وَطَعْنُهُ مَرْدُودٌ
عليه وكان من حَقِّهِ تَقْلِيدُ مُحَمَّدٍ إذْ هو كما كان إمَامًا في الشَّرِيعَةِ
وكان إمَامًا في اللُّغَةِ وَاجِبُ التَّقْلِيدِ فيها كَتَقْلِيدِ نَقَلَةِ
اللُّغَةِ كَأَبِي عُبَيْدٍ وَالْأَصْمَعِيِّ وَالْخَلِيلِ وَالْكِسَائِيِّ
وَالْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ وقد قَلَّدَهُ أبو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بن سَلَامٍ مع
جَلَالَةِ قَدْرِهِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ
وسئل ( ( ( وسأل ) ) ) أبو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبَ عن الْغَزَالَةِ فقال هِيَ عَيْنُ
الشَّمْسِ ثُمَّ قال أَمَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدَ بن الْحَسَنِ قال لِغُلَامِهِ
يَوْمًا اُنْظُرْ هل دَلَكَتْ الْغَزَالَةُ يَعْنِي الشَّمْسَ
وكان ثَعْلَبُ يقول محمد بن الْحَسَنِ عِنْدَنَا من أَقْرَانِ سِيبَوَيْهِ وكان
قَوْلُهُ حُجَّةً في اللُّغَةِ فَكَانَ على الطَّاعِنِ تَقْلِيدُهُ فيها كَيْفَ
وقد ذَكَرَ صَاحِبُ الدِّيوَانِ وَمُجْمَلِ اللُّغَةِ ما يُوَافِقُ قَوْلَهُ في
الرُّبَّى
قال صَاحِبُ الدِّيوَانِ الربي التي وَضَعَتْ حَدِيثًا أَيْ هِيَ قَرِيبَةُ
الْعَهْدِ بِالْوِلَادَةِ
وقال صَاحِبُ الْمُجْمَلِ الربي الشَّاةُ التي تُحْبَسُ في الْبَيْتِ لِلَّبَنِ
فَهِيَ مُرَبِّيَةٌ لَا مُرَبَّاةٌ وَالْأَكِيلَةُ وَإِنْ فُسِّرَتْ في بَعْضِ
كُتُبِ اللُّغَةِ بِمَا قَالَهُ الطَّاعِنُ لَكِنَّ تَفْسِيرَ مُحَمَّدٍ أَوْلَى
وَأَوْفَقُ لِلْأُصُولِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمَفْعُولَ إذَا ذُكِرَ
بِلَفْظِ فَعِيلٍ يَسْتَوِي فيه الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَلَا يَدْخُلُ فيه هَاءُ
التَّأْنِيثِ يُقَالُ امْرَأَةٌ قَتِيلٌ وَجَرِيحٌ من غَيْرِ هَاءِ التَّأْنِيثِ
فَلَوْ كانت الْأَكِيلَةُ الْمَأْكُولَةُ لَمَا أُدْخِلَ فيها الْهَاءُ على
اعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَلَمَّا أُدْخِلَ الْهَاءُ دَلَّ أنها لَيْسَتْ بِاسْمِ
للمأكولة ( ( ( المأكولة ) ) ) بَلْ لَمَّا أُعِدَّ لِلْأَكْلِ كالأضيحة ( ( (
كالأضحية ) ) ) أنها اسْمٌ لِمَا أُعِدَّ لِلتَّضْحِيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَسَوَاءٌ كان النِّصَابُ من نَوْعٍ وَاحِدٍ أو من نَوْعَيْنِ كَالضَّأْنِ
وَالْمَعْزِ وَالْبَقَرِ وَالْجَوَامِيسِ وَالْعِرَابِ وَالْبُخْتِ أَنَّ
الْمُصْدِقَ يَأْخُذُ منها وَاحِدَةً وَسَطًا على التَّفْسِيرِ الذي ذكرنا ( ( (
ذكرناه ) ) )
وقال الشَّافِعِيُّ في أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَأْخُذُ من الْغَالِبِ وقال في
الْقَوْلِ الْآخَرِ أنه يَجْمَعُ بين قِيمَةِ شَاةٍ من الشأن ( ( ( الضأن ) ) )
وَشَاةٍ من الْمَعْزِ وَيُنْظَرُ في
____________________
(2/33)
نِصْفِ
الْقِيمَتَيْنِ فَيَأْخُذُ شَاةٌ بِقِيمَةِ ذلك من أَيِّ النَّوْعَيْنِ كانت وهو
غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا رَوَيْنَا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن
أَخْذِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ الناس وحرزاتها ( ( ( وحزراتها ) ) ) وَأَمَرَ
بِأَخْذِ أَوْسَاطِهَا من غَيْرِ فَصْلٍ بين ما إذَا كان النِّصَابُ من نَوْعٍ
وَاحِدٍ أو نَوْعَيْنِ
ولوكان له خَمْسٌ من الْإِبِلِ كُلُّهَا بَنَاتُ مَخَاضٍ أو كُلُّهَا بَنَاتُ
لَبُونٍ أو حِقَاقٌ أو جِذَاعٌ فَفِيهَا شَاةٌ وَسَطٌ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم في خَمْسٍ من الْإِبِلِ شَاةٌ وَإِنْ كانت عِجَافًا فَإِنْ كان فيها بِنْتُ
مَخَاضٍ وَسَطٌ وأعلى سِنًّا منها فَفِيهَا أَيْضًا شَاةٌ وَسَطٌ وَكَذَلِكَ إنْ
كانت خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَسَطٌ أَنَّهُ يَجِبُ فيها
بِنْتُ مَخَاضٍ وَتُؤْخَذُ تِلْكَ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في خَمْسٍ
وَعِشْرِينَ من الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَإِنْ كانت جَيِّدَةً لَا يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ
الْجَيِّدَةَ وَلَكِنْ يَأْخُذُ قِيمَةَ بِنْتِ مَخَاضٍ وَسَطٍ وَإِنْ أَخَذَ
الْجَيِّدَةَ يَرُدُّ الْفَضْلَ وَإِنْ كانت كُلُّهَا عِجَافًا ليس فيها بِنْتُ
مَخَاضٍ وَلَا ما يُسَاوِي قِيمَتُهَا قِيمَةَ بِنْتِ مَخَاضٍ بَلْ قِيمَتُهَا
دُونَ قِيمَةِ بِنْتِ مَخَاضٍ أَوْسَاطٍ فَفِيهَا شَاةٌ بِقَدْرِهَا
وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذلك أَنْ تَجْعَلَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَسَطًا حَكَمًا في
الْبَابِ فَيُنْظَرُ إلَى قِيمَتِهَا وَإِلَى قِيمَةِ أَفْضَلِهَا من النِّصَابِ
إنْ كانت قِيمَةُ بِنْتِ مختض ( ( ( مخاض ) ) ) وَسَطٍ مَثَلًا مِائَةَ دِرْهَمٍ
وَقِيمَةُ أَفْضَلِهَا خَمْسِينَ تَجِبُ شَاةٌ قِيمَتُهَا قِيمَةُ نِصْفِ شَاةٍ
وَكَذَلِكَ لو كان التَّفَاوُتُ أَكْثَرَ من النِّصْفِ أو أَقَلَّ فَكَذَلِكَ
يَجِبُ على قَدْرِهِ وَهِيَ من مَسَائِلِ الزيادا ( ( ( الزيادات ) ) ) تُعْرَفُ هُنَاكَ
ثُمَّ إذَا وَجَبَ الْوَسَطُ في النِّصَابِ فلم يُوجَدْ الْوَسَطُ وَوُجِدَ سِنٌّ
أَفْضَلَ منه أو دُونَهُ
قال مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ أن الْمُصْدِقَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ
الْوَاجِبِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَدْوَنَ وَأَخَذَ تَمَامَ قِيمَةِ الْوَاجِبِ
من الدَّرَاهِمِ
وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ السَّائِمَةِ إنْ شَاءَ
دَفَعَ الْقِيمَةَ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْأَفْضَلَ وَاسْتَرَدَّ الْفَضْلَ من
الدَّرَاهِمِ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْأَدْوَنَ وَدَفَعَ الْفَضْلَ من الدَّرَاهِمِ
لِأَنَّ دَفْعَ الْقِيمَةِ في بَابِ الزَّكَاةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَالْخِيَارُ في
ذلك لِصَاحِبِ الْمَالِ دُونَ الْمُصْدِقِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْخِيَارُ
لِلْمُصَّدِّقِ في فَصْلٍ وَاحِدٍ وهو ما إذَا أَرَادَ صَاحِبُ الْمَالِ أَنْ
يَدْفَعَ بَعْضَ الْعَيْنِ لِأَجْلِ الْوَاجِبِ فَالْمُصْدِقُ بِالْخِيَارِ بين
أَنَّهُ لَا يَأْخُذْ وَبَيْنَ أَنَّهُ يَأْخُذُ بِأَنْ كان الْوَاجِبُ بِنْتُ
لَبُونٍ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضَ الْحِقَّةِ بِطَرِيقِ
الْقِيمَةِ أو كان الْوَاجِبُ حِقَّةً فَأَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضَ الْجَذَعَةِ
بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ فَالْمُصَّدِّقُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ
لم يَقْبَلْ لِمَا فيه من تَشْقِيصِ الْعَيْنِ وَالشِّقْصُ في الْأَعْيَانِ عَيْبٌ
فَكَانَ له أَنْ لَا يَقْبَلَ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذلك فَلَا خِيَارَ له
وَلَيْسَ له أَنْ يَمْتَنِعَ من الْقَبُولِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْخَيْلِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْخَيْلَ لَا
تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ عَلُوفَةً أو سَائِمَةً فَإِنْ كانت عَلُوفَةً بِأَنْ
كانت تُعْلَفُ لِلرُّكُوبِ أو لِلْحَمْلِ أو لِلْجِهَادِ في سَبِيلِ اللَّهِ فَلَا
زَكَاةَ فيها لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ وَمَالُ الزَّكَاةِ هو الْمَالُ
النَّامِي الْفَاضِلُ عن الْحَاجَةِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ كانت
تُعْلَفُ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ بِالْإِجْمَاعِ لِكَوْنِهَا مَالًا
نَامِيًا فَاضِلًا عن الْحَاجَةِ لِأَنَّ الأعداد لِلتِّجَارَةِ دَلِيلُ
النَّمَاءِ وَالْفَضْلِ عن الْحَاجَةِ وَإِنْ كانت سَائِمَةً فَإِنْ كانت تُسَامُ
لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ أو لِلْجِهَادِ وَالْغَزْوِ فَلَا زَكَاةَ فيها لِمَا بَيَّنَّا
وَإِنْ كانت تُسَامُ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كانت
تُسَامُ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ فَإِنْ كانت مُخْتَلِطَةً ذُكُورًا وَإِنَاثًا
فَقَدْ قال أبو حَنِيفَةَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فيها قَوْلًا وَاحِدًا وَصَاحِبُهَا
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَدَّى من كل فَرَسٍ دِينَارًا وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا
وَأَدَّى من كل مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَإِنْ كانت إنَاثًا
مُنْفَرِدَةً فَفِيهَا رِوَايَتَانِ عنه ذَكَرَهُمَا الطَّحَاوِيُّ
وَإِنْ كانت ذُكُورًا مُنْفَرِدَةً فَفِيهَا رِوَايَتَانِ عنه أَيْضًا ذَكَرَهُمَا
الطَّحَاوِيُّ في الْآثَارِ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا زَكَاةَ فيها كَيْفَمَا كانت وَبِهِ أَخَذَ
الشَّافِعِيُّ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال عَفَوْتُ لَكُمْ عن صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ إلَّا أَنَّ في
الرَّقِيقِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ
وروى عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ليس على الْمُسْلِمِ في عَبْدِهِ
وَلَا في فَرَسِهِ صَدَقَةٌ وَكُلُّ ذلك نُصَّ في الْبَابِ وَلِأَنَّ زَكَاةَ
السَّائِمَةِ لَا بُدَّ لها من نِصَابٍ مُقَدَّرٍ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ
وَالْغَنَمِ وَالشَّرْعُ لم يَرِدْ بِتَقْدِيرِ النِّصَابِ في السَّائِمَةِ منها
فَلَا يَجِبُ فيها زَكَاةُ السَّائِمَةِ كَالْحَمِيرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما
رُوِيَ عن جَابِرٍ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال في كل فَرَسٍ
سَائِمَةٍ دِينَارٌ وَلَيْسَ في الرَّابِطَةِ شَيْءٌ
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى أبي عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ
رضي اللَّهُ عنه في صَدَقَةِ الْخَيْلِ أَنْ خَيِّرْ أَرْبَابَهَا فَإِنْ شاؤوا
أَدَّوْا من كل فَرَسٍ دِينَارًا وَإِلَّا قَوِّمْهَا وَخُذْ من كل مِائَتَيْ
دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ
وَرُوِيَ
____________________
(2/34)
عن
السَّائِبِ بن زيد ( ( ( يزيد ) ) ) رضي اللَّهُ عنه أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه
لَمَّا بَعَثَ الْعَلَاءَ بن الْحَضْرَمِيِّ إلَى الْبَحْرَيْنِ أَمَرَهُ أَنْ
يَأْخُذَ من كل فَرَسٍ شَاتَيْنِ أو عَشْرَةَ دَرَاهِمَ وَلِأَنَّهَا مَالٌ نَامٍ
فَاضِلٌ عن الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَتَجِبُ فيها الزَّكَاةُ كما لو كانت
لِلتِّجَارَةِ
وَأَمَّا قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عَفَوْت لَكُمْ عن صَدَقَةِ
الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ فَالْمُرَادُ منها الْخَيْلُ الْمُعَدَّةُ لِلرُّكُوبِ
وَالْغَزْوِ لَا لِلْإِسَامَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ فَرَّقَ بين الْخَيْلِ وَبَيْنَ
الرَّقِيقِ وَالْمُرَادُ منها عَبِيدُ الْخِدْمَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَوْجَبَ فيها صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ
إنَّمَا تَجِبُ في عَبِيدِ الْخِدْمَةِ أو يُحْتَمَلُ ما ذَكَرْنَا فَيُحْمَلُ
عليه عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وهو الْجَوَابُ عن
تَعَلُّقِهِمْ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ
وَأَمَّا إذَا كان الْكُلُّ إنَاثًا أو ذُكُورًا فَوَجْهُ رِوَايَةِ الْوُجُوبِ
الِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ السَّوَائِمِ من الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ
أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فيها وَإِنْ كان كُلُّهَا إنَاثًا أو ذُكُورًا كَذَا
هَهُنَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فيها لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَالَ
الزَّكَاةِ هو الْمَالُ النَّامِي وَلَا نَمَاءَ فيها بِالدَّرِّ وَالنَّسْلِ
وَلَا لِزِيَادَةِ اللَّحْمِ لِأَنَّ لَحْمَهَا غَيْرُ مَأْكُولٍ عِنْدَهُ
بِخِلَافِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لِأَنَّ لَحْمَهَا مَأْكُولٌ فَكَانَ
زِيَادَةُ اللَّحْمِ فيها بِالسَّمْنِ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ بِالدَّرِّ
وَالنَّسْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ فَلَا شَيْءَ فيها وَإِنْ كانت سَائِمَةً
لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منها الْحَمْلُ وَالرُّكُوبُ عَادَةً لَا الدَّرُّ
وَالنَّسْلُ لَكِنَّهَا قد تُسَامُ في غَيْرِ وَقْتِ الْحَاجَةِ لِدَفْعِ مُؤْنَةِ
الْعَلَفِ وَإِنْ كانت لِلتِّجَارَةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فيها
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من له الْمُطَالَبَةُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ في
السَّوَائِمِ وَالْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ فَالْكَلَامُ فيه يَقَعُ في مَوَاضِعَ
في بَيَانِ من له وِلَايَةُ الْأَخْذِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ وِلَايَةِ
الأخذ وفي بَيَانِ الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَالُ الزَّكَاةِ نَوْعَانِ ظَاهِرٌ وهو الْمَوَاشِي
وَالْمَالُ الذي يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ على الْعَاشِرِ وَبَاطِنٌ وهو الذَّهَبُ
وَالْفِضَّةُ وَأَمْوَالُ التِّجَارَةِ في مَوَاضِعِهَا أَمَّا الظَّاهِرُ
فَلِلْإِمَامِ وَنُوَّابِهِ وَهُمْ الْمُصْدِقُونَ من السُّعَاةِ وَالْعَشَّارِ
وِلَايَةُ الْأَخْذِ وَالسَّاعِي هو الذي يَسْعَى في الْقَبَائِلِ لِيَأْخُذَ
صَدَقَةَ الْمَوَاشِي في أَمَاكِنِهَا وَالْعَاشِرُ هو الذي يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ
من التَّاجِرِ الذي يَمُرُّ عليه وَالْمُصْدِقُ اسْمُ جِنْسٍ وَالدَّلِيلُ على
أَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةَ الْأَخْذِ في الْمَوَاشِي وَالْأَمْوَالِ
الظَّاهِرَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَإِشَارَةُ الْكِتَابِ
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { خُذْ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً }
وَالْآيَةُ نَزَلَتْ في الزَّكَاةِ
عليه عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَمَرَ اللَّهُ عز وجل نَبِيَّهُ بِأَخْذِ
الزَّكَاةِ فَدَلَّ أَنَّ لِلْإِمَامِ الْمُطَالَبَةَ بِذَلِكَ وَالْأَخْذَ قال
اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَالْعَامِلِينَ عليها } فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذلك بَيَانًا شَافِيًا
حَيْثُ جَعَلَ لِلْعَامِلِينَ عليها حَقًّا فَلَوْ لم يَكُنْ لِلْإِمَامِ أَنْ
يُطَالِبَ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ بِصَدَقَاتِ الْأَنْعَامِ في أَمَاكِنِهَا وكان
أَدَاؤُهَا إلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ لم يَكُنْ لِذَكَرِ الْعَامِلِينَ وَجْهٌ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فإن رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَبْعَثُ
الْمُصَدِّقِينَ إلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَالْبُلْدَانِ وَالْآفَاقِ لِأَخْذِ
الصَّدَقَاتِ من الْأَنْعَامِ وَالْمَوَاشِي في أَمَاكِنِهَا وَعَلَى ذلك فَعَلَ
الْأَئِمَّةُ من بَعْدِهِ من الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ
وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ حتى قال الصِّدِّيقُ رضي اللَّهُ عنه
لَمَّا امْتَنَعَتْ الْعَرَبُ عن أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَاَللَّهِ لو مَنَعُونِي
عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
لَحَارَبْتُهُمْ عليه وَظَهَرَ الْعُمَّالُ بِذَلِكَ من بَعْدِهِمْ إلَى يَوْمِنَا
هذا
وَكَذَا الْمَالُ الْبَاطِنُ إذَا مَرَّ بِهِ التَّاجِرُ على الْعَاشِرِ كان له
أَنْ يَأْخُذَ في الْجُمْلَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا سَافَرَ بِهِ وَأَخْرَجَهُ من
الْعُمْرَانِ صَارَ ظَاهِرًا وَالْتَحَقَ بِالسَّوَائِمِ وَهَذَا لِأَنَّ
الْإِمَامَ إنَّمَا كان له الْمُطَالَبَةُ بِزَكَاةِ الْمَوَاشِي في أَمَاكِنِهَا
لِمَكَانِ الْحِمَايَةِ لِأَنَّ الْمَوَاشِيَ في الْبَرَارِي لَا تَصِيرُ
مَحْفُوظَةً إلَّا بِحِفْظِ السُّلْطَانِ وَحِمَايَتِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى
مَوْجُودٌ في مَالٍ يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ على الْعَاشِرِ فَكَانَ
كَالسَّوَائِمِ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإن عُمَرَ
رضي اللَّهُ عنه نَصَّبَ الْعَشَارَ وقال لهم خُذُوا من الْمُسْلِمِ رُبُعَ
الْعُشْرِ وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرَ
وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ
أَنْكَرَ عليه وَاحِدٌ منهم فَكَانَ إجْمَاعًا
وَرُوِيَ عن عُمَرَ بن عبد الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ بِذَلِكَ
وقال أخبرني بهذا من سَمِعَهُ من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَمَّا
الْمَالُ الْبَاطِنُ الذي يَكُونُ في الْمِصْرِ فَقَدْ قال عَامَّةُ مَشَايِخِنَا
إنَّ رَسُولَ اللَّه صلى اللَّهُ عليه وسلم طَالَبَ بِزَكَاتِهِ وأبو بَكْرٍ
وَعُمَرُ طَالَبَا وَعُثْمَانُ طَالَبَ زَمَانًا وَلَمَّا كَثُرَتْ أَمْوَالُ
الناس وَرَأَى أَنَّ في تَتَبُّعِهَا حَرَجًا على الْأُمَّةِ وفي تَفْتِيشِهَا
ضَرَرًا بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَوَّضَ الْأَدَاءَ إلَى أَرْبَابِهَا
وَذَكَرَ إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ
السَّمَرْقَنْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال لم يَبْلُغْنَا أَنَّ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم بَعَثَ في مُطَالَبَةِ
____________________
(2/35)
الْمُسْلِمِينَ
بِزَكَاةِ الْوَرِقِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَلَكِنَّ الناس كَانُوا يُعْطُونَ
ذلك وَمِنْهُمْ من كان يَحْمِلُ إلَى الْأَئِمَّةِ فَيَقْبَلُونَ منه ذلك وَلَا
يَسْأَلُونَ أَحَدًا عن مَبْلَغِ مَالِهِ وَلَا يُطَالِبُونَهُ بِذَلِكَ إلَّا ما
كان من تَوْجِيهِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه المشار ( ( ( العشار ) ) ) إلَى
الْأَطْرَافِ وكان ذلك منه عِنْدَنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَمَّنْ بَعُدَ دَارُهُ
وَشُقَّ عليه أَنْ يَحْمِلَ صَدَقَتَهُ إلَيْهِ وقد جَعَلَ في كل طَرَفٍ من
الْأَطْرَافِ عَاشِرَ التُّجَّارِ أَهْلَ الْحَرْبِ وَالذِّمَةِ وَأَمَرَ أَنْ
يَأْخُذُوا من تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ ما يَدْفَعُونَهُ إلَيْهِ وكان ذلك من
عُمَرَ تَخْفِيفًا على الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّ على الْإِمَامِ مُطَالَبَةَ
أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ الْعَيْنَ وَأَمْوَالَ التِّجَارَةِ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ
إلَيْهِمْ سِوَى الْمَوَاشِي وَالْأَنْعَامِ وَأَنَّ مُطَالَبَةَ ذلك إلَى
الْأَئِمَّةِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُهُمْ إلَى الْإِمَامِ بِشَيْءٍ من ذلك
فَيَقْبَلُهُ وَلَا يَتَعَدَّى عَمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَالسُّنَّةُ إلَى
غَيْرِهِ
وَأَمَّا سَلَاطِينُ زَمَانِنَا الَّذِينَ إذَا أَخَذُوا الصَّدَقَاتِ
وَالْعُشُورَ وَالْخَرَاجَ لَا يَضَعُونَهَا مَوَاضِعَهَا فَهَلْ تَسْقُطُ هذه
الْحُقُوقُ عن أَرْبَابِهَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه ذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ
الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ ذلك كُلُّهُ وَإِنْ كَانُوا لَا يَضَعُونَهَا
في أَهْلِهَا لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لهم فَيَسْقُطُ عَنَّا بِأَخْذِهِمْ ثُمَّ
إنَّهُمْ إنْ لم يَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا فَالْوَبَالُ عليهم
وقال الشَّيْخُ أبو بَكْرِ بن سَعِيدٍ إنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ وَلَا تسقط ( ( (
أسقط ) ) ) الصَّدَقَاتِ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُصْرَفُ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَهُمْ
يُصْرَفُونَ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَيُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ
لو ظَهَرَ الْعَدُوُّ فَإِنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ وَيَذُبُّونَ عن حَرِيمِ
الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا الزَّكَوَاتُ وَالصَّدَقَاتُ فَإِنَّهُمْ لَا
يَضَعُونَهَا في أَهْلِهَا
وقال أبو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ إنَّ جَمِيعَ ذلك يَسْقُطُ وَيُعْطِي ثَانِيًا
لِأَنَّهُمْ لَا يَضَعُونَهَا مَوَاضِعَهَا وَلَوْ نَوَى صَاحِبُ الْمَالِ وَقْتَ
الدَّفْعِ أَنَّهُ يَدْفَعُ إلَيْهِمْ ذلك عن زَكَاةِ مَالِهِ قِيلَ يَجُوزُ
لِأَنَّهُمْ فُقَرَاءُ في الْحَقِيقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لو أَدَّوْا ما
عليهم من التَّبِعَاتِ وَالْمَظَالِمِ صَارُوا فُقَرَاءَ
وَرُوِيَ عن أبي مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قال تَجُوزُ الصَّدَقَةُ لمعلي ( ( (
لعلي ) ) ) بن عِيسَى بن هَامَانَ وكان وإلى خُرَاسَانَ وَإِنَّمَا قال ذلك لِمَا
ذكرناه ( ( ( ذكرنا ) ) )
وَحُكِيَ أَنَّ أَمِيرًا بِبَلْخٍ سَأَلَ وَاحِدًا من الْفُقَهَاءِ عن كَفَّارَةِ
يَمِينٍ لَزِمَتْهُ فَأَمَرَهُ بِالصِّيَامِ فَبَكَى الْأَمِيرُ وَعَرَفَ أَنَّهُ
يقول لو أَدَّيْتَ ما عَلَيْكَ من التَّبِعَاتِ وَالْمَظْلِمَةِ لم يَبْقَ لَك
شَيْءٌ
وَقِيلَ إنَّ السُّلْطَانَ لو أَخَذَ مَالًا من رَجُلٍ بِغَيْرِ حَقٍّ مُصَادَرَةً
فَنَوَى صَاحِبُ الْمَالِ وَقْتَ الدَّفْعِ أَنْ يَكُونَ ذلك عن زَكَاةِ مَالِهِ
وَعُشْرِ أَرْضِهِ يَجُوزُ ذلك وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرْطُ وِلَايَةِ الْآخِذِ فَأَنْوَاعٌ منها وُجُودُ الْحِمَايَةِ
من الْإِمَامِ حتى لو ظَهَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ على مَدِينَةٍ من مَدَائِنِ أَهْلِ
الْعَدْلِ أو قَرْيَةٍ من قُرَاهُمْ وَغَلَبُوا عليها فَأَخَذُوا صَدَقَاتِ
سَوَائِمِهِمْ وَعُشُورِ أَرَاضِيهمْ وَخَرَاجِهَا ثُمَّ ظَهَرَ عليهم إمام ( ( (
عليهم ) ) ) الْعَدْلِ لَا يَأْخُذُ منهم ثَانِيًا لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ
لِلْإِمَامِ لِأَجْلِ الْحِفْظِ وَالْحِمَايَةِ ولم يُوجَدْ إلَّا أَنَّهُمْ
يُفْتَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ أَنْ يُؤَدُّوا الزَّكَاةَ
وَالْعُشُورَ ثَانِيًا وَسَكَتَ مُحَمَّدٌ عن ذِكْرِ الْخَرَاجِ
وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا قال بَعْضُهُمْ عليهم أَنْ يُعِيدُوا الْخَرَاجَ
كَالزَّكَاةِ وَالْعُشُورِ
وقال بَعْضُهُمْ ليس عليهم الْإِعَادَةُ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُصْرَفُ إلَى
الْمُقَاتِلَةِ وَأَهْلُ الْبَغْيِ يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ وَيَذُبُّونَ عن
حَرِيمِ الْإِسْلَامِ
وَمِنْهَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ زَكَاةٌ وَالزَّكَاةُ في عُرْفِ
الشَّرْعِ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ فَلَا بُدَّ من تقويم ( ( ( تقديم ) ) ) الْوُجُوبِ
فَتُرَاعَى له شَرَائِطُ الْوُجُوبِ وَهِيَ ما ذَكَرْنَا من الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ
وَكَمَالِ النِّصَابِ وَكَوْنِهِ مُعَدًّا لِلنَّمَاءِ وَحَوَلَانِ الْحَوْلِ
وَعَدَمِ الدَّيْنِ الْمُطَالَبِ بِهِ من جِهَةِ الْعِبَادِ وَأَهْلِيَّةِ
الْوُجُوبِ وَنَحْوِ ذلك
وَمِنْهَا ظُهُورُ الْمَالِ وَحُضُورُ الْمَالِكِ حتى لو حَضَرَ الْمَالِكُ ولم
يَظْهَرْ مَالُهُ لَا يُطَالَبُ بِزَكَاتِهِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَظْهَرْ مَالُهُ
لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حِمَايَةِ السُّلْطَانِ وَكَذَا إذَا ظَهَرَ الْمَالُ ولم
يَحْضُرْ الْمَالِكُ وَلَا الْمَأْذُونُ من جِهَةِ الْمَالِكِ كَالْمُسْتَبْضِعِ
وَنَحْوِهِ لَا يُطَالَبُ بِزَكَاتِهِ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا جاء السَّاعِي إلَى صَاحِبِ الْمَوَاشِي في
أَمَاكِنِهَا يُرِيدُ أَخْذَ الصَّدَقَةِ فقال ليس ( ( ( ليست ) ) ) هِيَ مَالِي
أو قال لم يَحُلْ عليها الْحَوْلُ أو قال عَلَيَّ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَتِهَا
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ وَيُسْتَحْلَفُ
لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ وهو مُطَالَبَةُ السَّاعِي فَيَكُونُ
الْقَوْلُ قَوْلُهُ مع يَمِينِهِ وَلَوْ قال أَدَّيْتُ إلَى مُصْدِقٍ آخَرَ فَإِنْ
لم يَكُنْ في تِلْكَ السَّنَةِ مُصْدِقٌ آخَرُ لَا يُصَدَّقُ لِظُهُورِ كَذِبِهِ
بقين ( ( ( بيقين ) ) ) وَإِنْ كان في تِلْكَ السَّنَةِ مُصَدِّقٌ آخَرُ يُصَدَّقُ
مع الْيَمِينِ سَوَاءٌ أتي بِخَطٍّ وَبَرَاءَةٍ أو لم يَأْتِ بِهِ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ ما لم يَأْتِ
بِالْبَرَاءَةِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ خَبَرَهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَلَا
بُدَّ من مُرَجِّحٍ وَالْبَرَاءَةُ أَمَارَةُ رُجْحَانِ الصِّدْقِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إن الرُّجْحَانَ ثَابِتٌ بِدُونِ الْبَرَاءَةِ
لِأَنَّهُ أَمِينٌ إذْ له أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْمُصْدِقِ فَقَدْ أَخْبَرَ عن
الدَّفْعِ إلَى من جُعِلَ له الدَّفْعُ إلَيْهِ فَكَانَ كَالْمُودَعِ إذَا قال
دَفَعْتُ
____________________
(2/36)
الْوَدِيعَةَ
إلَى الْمُودِعِ وَالْبَرَاءَةُ لَيْسَتْ بِعَلَامَةٍ صَادِقَةٍ لِأَنَّ الْخَطَّ
يُشْبِهُ الْخَطَّ وَعَلَى هذا إذَا أتى بِالْبَرَاءَةِ على خِلَافِ اسْمِ ذلك
الْمُصْدِقِ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ مع يَمِينِهِ على جَوَابِ ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَكَانَ الْإِتْيَانُ بها
وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ
وَعَلَى رِوَايَة الْحَسَنِ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ شَرْطٌ فَلَا تُقْبَلُ
بِدُونِهَا
وَلَوْ قال أَدَّيْتُ زَكَاتَهَا إلَى الْفُقَرَاءِ لَا يُصَدَّقُ وَتُؤْخَذُ منه
عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُؤْخَذُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُصْدِقَ لَا يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ لِنَفْسِهِ بَلْ
لِيُوصِلَهَا إلَى مُسْتَحَقِّيهَا وهو الْفَقِيرُ وقد أَوْصَلَ بِنَفْسِهِ
وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ فَهُوَ بِقَوْلِهِ أَدَّيْتُ
بِنَفْسِي أَرَادَ إبْطَالَ حَقِّ السُّلْطَانِ فَلَا يَمْلِكُ ذلك وَكَذَلِكَ
الْعُشْرُ على هذا الْخِلَافِ وَكَذَا الْجَوَابُ فِيمَنْ مَرَّ على الْعَاشِرِ
بِالسَّوَائِمِ أو بِالدَّرَاهِمِ أو الدَّنَانِيرِ أو بِأَمْوَالِ التِّجَارَةِ
في جَمِيعِ ما وَصَفْنَا إلَّا في قَوْلِهِ أَدَّيْتُ زَكَاتَهَا بِنَفْسِي إلَى
الْفُقَرَاءِ فِيمَا سِوَى السَّوَائِمِ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلَا يُؤْخَذُ
ثَانِيًا لِأَنَّ أَدَاءَ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ مُفَوَّضٌ إلَى
أَرْبَابِهَا إذَا كَانُوا يَتَّجِرُونَ بها في الْمِصْرِ فلم يَتَضَمَّنْ
الدَّفْعُ بِنَفْسِهِ إبْطَالَ حَقِّ أَحَدٍ
وَلَوْ مَرَّ على الْعَاشِرِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَخْبَرَ الْعَاشِرُ أَنَّ له مِائَةً
أُخْرَى قد حَالَ عليها الْحَوْلُ لم يَأْخُذُ منه زَكَاةَ هذه الْمِائَةِ التي
مَرَّ بها لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِمَكَانِ الْحِمَايَةِ وما دُونَ النِّصَابِ
قَلِيلٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِمَايَةِ وَالْقَدْرُ الذي في بَيْتِهِ لم
يَدْخُلْ تَحْتَ الْحِمَايَةِ فَلَا يُؤْخَذُ من أَحَدِهِمَا شَيْءٌ وَلَوْ مَرَّ
عليه بِالْعُرُوضِ فقال هذه لَيْسَتْ لِلتِّجَارَةِ أو قال هذه بِضَاعَةٌ أو قال
أنا أَجِيرٌ فيها فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مع الْيَمِينِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ ولم
يُوجَدْ ظَاهِرٌ يُكَذِّبُهُ
وَجَمِيعُ ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُصَدَّقُ فيه الْمُسْلِمُ يُصَدَّقُ فيه
الذِّمِّيُّ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا قَبِلُوا عَقْدَ
الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لهم ما لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ ما على
الْمُسْلِمِينَ
وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يُفَارِقُ الْمُسْلِمَ في هذا الْبَابِ إلَّا في قَدْرِ
الْمَأْخُوذِ وهو أَنَّهُ يُؤْخَذُ منه ضِعْفُ ما يُؤْخَذُ من الْمُسْلِمِ كما في
التَّغْلِبِيِّ لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ منه بِسَبَبِ الْحِمَايَةِ وَبِاسْمِ
الصَّدَقَةِ وَإِنْ لم تَكُنْ صَدَقَةً حقيقة ( ( ( حقيقية ) ) ) وَلَا يُصَدَّقُ
الْحَرْبِيُّ في شَيْءٍ من ذلك وَيُؤْخَذُ منه الْعُشْرُ إلَّا في جَوَارٍ يقول
هُنَّ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِي أو في غِلْمَانٍ يقول هُمْ أَوْلَادِي لِأَنَّ
الْأَخْذَ منه لِمَكَانِ الْحِمَايَةِ وَالْعِصْمَةِ لِمَا في يَدِهِ وقد وُجِدَتْ
فَلَا يَمْنَعُ شَيْءٌ من ذلك من الْأَخْذِ وَإِنَّمَا قُبِلَ قَوْلُهُ في
الإستيلاد وَالنَّسَبِ لِأَنَّ الإستيلاد وَالنَّسَبَ كما يَثْبُتُ في دَارِ
الْإِسْلَامِ يَثْبُتُ في دَارِ الْحَرْبِ
وَعَلَّلَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فقال الْحَرْبِيُّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ
يَكُونَ صَادِقًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فَإِنْ كان صَادِقًا فَقَدْ
صَدَقَ وَإِنْ كان كَاذِبًا فَقَدْ صَارَتْ بِإِقْرَارِهِ في الْحَالِ أُمُّ
وَلَدٍ له وَلَا عُشْرَ في أُمِّ الْوَلَدِ وَلَوْ قال هُمْ مُدَبَّرُونَ لَا
يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَصِحُّ في دَارِ الْحَرْبِ
وَلَوْ مَرَّ على عَاشِرٍ بِمَالٍ وقال هو عِنْدِي بِضَاعَةً أو قال أنا أَجِيرٌ
فيه فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَا يَعْشُرُهُ وَلَوْ قال هو عِنْدِي مُضَارَبَةً
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا وَهَلْ يَعْشُرُهُ كان أبو حنيف ( ( ( حنيفة ) ) )
أَوَّلًا يقول يَعْشُرُهُ ثُمَّ رَجَعَ وقال لَا يَعْشُرُهُ وهو قَوْلُ أبي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
وَلَوْ مَرَّ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ بِمَالٍ من كَسْبِهِ وَتِجَارَتِهِ وَلَيْسَ
عليه دَيْنٌ وَاسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فيه فَإِنْ كان منه ( ( (
معه ) ) ) مَوْلَاهُ عَشَرَهُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ لم يَكُنْ معه مَوْلَاهُ
فَكَذَلِكَ يَعْشُرُهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وفي قَوْلِهِمَا لَا يَعْشُرُهُ
وقال أبو يُوسُفَ لَا أَعْلَمُ أَنَّهُ رَجَعَ في الْعَبْدِ أَمْ لَا
وَقِيلَ إنَّ الصَّحِيحَ إن رُجُوعَهُ في الْمُضَارِبِ رُجُوعٌ في الْعَبْدِ
الْمَأْذُونِ
وَجْهُ قول الْأَوَّلِ في الْمُضَارِبِ إن الْمُضَارِبَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ
لِأَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في الْمَالِ وَلِهَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ من رَبِّ
الْمَالِ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَخِيرِ وهو قَوْلُهُمَا إن الْمِلْكَ شَرْطُ الْوُجُوبِ وَلَا
مِلْكَ له فيه وَرَبُّ الْمَالِ لم يَأْمُرهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ لم
يَأْذَنْ له بِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ في الْمَالِ وقد خَرَجَ
الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ لِأَنَّا نَقُولُ نعم
لَكِنْ في وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ في الْمَالِ لَا في أَدَاءِ الزَّكَاةِ
كَالْمُسْتَبْضِعِ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ في مَعْنَى الْمُضَارِبِ في هذا
الْمَعْنَى وَلِأَنَّهُ لم يُؤْمَرْ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ فَكَانَ الصَّحِيحُ هو
الرُّجُوعُ
وَلَا يُؤْخَذُ من الْمُسْلِمِ إذَا مَرَّ على الْعَاشِرِ في السَّنَةِ إلَّا
مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ منه زَكَاةٌ وَالزَّكَاةُ لَا تَجِبُ في
السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ لِأَنَّهُ بِقَبُولِ
عَقْدِ الذِّمَّةِ صَارَ له ما لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ ما على الْمُسْلِمِينَ
وَلِأَنَّ الْعَاشِرَ يَأْخُذُ منه بِاسْمِ الصَّدَقَةِ إن لم تَكُنْ صَدَقَةً
حَقِيقَةً كَالتَّغْلِبِيِّ فَلَا يُؤْخَذُ منه في الْحَوْلِ إلَّا مَرَّةً
وَاحِدَةً وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ إلَّا إذَا عَشَرَهُ فَرَجَعَ إلَى دَارِ
الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ أَنَّهُ يَعْشُرُهُ ثَانِيًا وَإِنْ خَرَجَ من يَوْمِهِ
ذلك لِأَنَّ الْأَخْذَ من أَهْلِ الْحَرْبِ لِمَكَانِ حِمَايَةِ ما في أَيْدِيهِمْ
من الأموال وما دَامَ هو في دَارِ الْإِسْلَامِ فَالْحِمَايَةُ مُتَّحِدَةٌ ما
دَامَ الْحَوْلُ بَاقِيًا فَيَتَّحِدُ حَقُّ الْأَخْذِ وَعِنْدَ دُخُولِهِ دَارَ
الْحَرْبِ وَرُجُوعِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ تَتَجَدَّدُ الْحِمَايَةُ
فَيَتَجَدَّدُ حَقُّ الْأَخْذِ
وإذا مَرَّ الْحَرْبِيُّ على الْعَاشِرِ فلم يَعْلَمْ حتى عَادَ إلَى دَارِ
الْحَرْبِ ثُمَّ رَجَعَ ثَانِيًا
____________________
(2/37)
فَعَلِمَ
بِهِ لم يَعْشُرْهُ لِمَا مَضَى لأنه ما مَضَى سَقَطَ لِانْقِطَاعِ حَقِّ
الْوِلَايَةِ عنه بدخوله ( ( ( دخوله ) ) ) دَارَ الْحَرْبِ وَلَوْ اجْتَازَ
الْمُسْلِمُ وَالْحَرْبِيُّ ولم يَعْلَمْ بِهِمَا الْعَاشِرُ ثُمَّ عَلِمَ بِهِمَا
في الْحَوْلِ الثَّانِي أَخَذَ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ قد ثَبَتَ ولم
يُوجَدْ ما يُسْقِطُهُ وَلَوْ مَرَّ على الْعَاشِرِ بِالْخَضْرَاوَاتِ وَبِمَا لَا
يَبْقَى حَوْلًا كَالْفَاكِهَةِ وَنَحْوِهَا لَا يَعْشُرُهُ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
يَعْشُرُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذا مَالُ التِّجَارَةِ وَالْمُعْتَبَرُ في مَالِ
التِّجَارَةِ مَعْنَاهُ وهو مَالِيَّتُهُ وَقِيمَتُهُ لَا عَيْنُهُ فإذا بَلَغَتْ
قِيمَتُهُ نِصَابًا تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ وَلِهَذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فيه إذَا
كان يَتَّجِرُ فيه في الْمِصْرِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
ليس في الخضروات ( ( ( الخضراوات ) ) ) صَدَقَةٌ وَالصَّدَقَةُ إذَا أُطْلِقَتْ
يُرَادُ بها الزَّكَاةُ إلَّا أَنَّ ما يُتَّجَرُ بها في الْمِصْرِ صَارَ
مَخْصُوصًا بِدَلِيلٍ أو يُحْمَلُ على أَنَّهُ ليس فيها صَدَقَةٌ تُؤْخَذُ أَيْ
ليس لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَهَا بَلْ صَاحِبُهَا يُؤَدِّيهَا بِنَفْسِهِ
وَلِأَنَّ الْحَوْلَ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَأَنَّهَا لَا تَبْقَى حَوْلًا
وَالْعَاشِرُ إنَّمَا يَأْخُذُ منها بِطَرِيقِ الزَّكَاةِ وَلِأَنَّ وِلَايَةَ
الْأَخْذِ بِسَبَبِ الْحِمَايَةِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تَفْتَقِرُ إلَى
الْحِمَايَةِ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْصِدُهَا وَلِأَنَّهَا تَهْلِكُ في يَدِ
الْعَاشِرِ في الْمَفَازَةِ فَلَا يَكُونُ أَخْذُهَا مُفِيدًا
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ تَجِبُ
الزَّكَاةُ على صَاحِبِهَا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في أَنَّهُ هل
لِلْعَاشِرِ حَقُّ الْأَخْذِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فيه في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَدُلُّ على أَنَّ الْوُجُوبَ
مُخْتَلَفٌ فيه وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَا يُعْشَرُ مَالُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ
وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمَا عِنْدَهُمَا وَلَوْ مَرَّ صَبِيٌّ وَامْرَأَةٌ من
بَنِي تَغْلِبَ على الْعَاشِرِ فَلَيْسَ على الصَّبِيِّ شَيْءٌ وَعَلَى
الْمَرْأَةِ ما على الرَّجُلِ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ من بَنِي تَغْلِبَ يُسْلَكُ
بِهِ مَسْلَكَ الصَّدَقَاتِ لَا يُفَارِقُهَا إلَّا في التَّضْعِيفِ وَالصَّدَقَةُ
لَا تُؤْخَذُ من الصَّبِيِّ وَتُؤْخَذُ من الْمَرْأَةِ وَلَوْ مَرَّ على عَاشِرِ
الخوارج ( ( ( الخراج ) ) ) في أَرْضٍ غُلِبُوا عليها فَعَشَرَهُ ثُمَّ مَرَّ على
عَاشِرِ أَهْلِ الْعَدْلِ يَعْشُرُهُ ثَانِيًا لِأَنَّهُ بِالْمُرُورِ على
عَاشِرِهِمْ ضَيَّعَ حَقَّ سُلْطَانِ أَهْلِ الْعَدْلِ وَحَقَّ فُقَرَاءِ أَهْلِ
الْعَدْلِ بَعْدَ دُخُولِهِ تَحْتَ حِمَايَةِ سُلْطَانِ أَهْلِ الْعَدْلِ
فَيُضْمَنُ
وَلَوْ مَرَّ ذِمِّيٌّ على الْعَاشِرِ بِخَمْرٍ لِلتِّجَارَةِ أو خَنَازِيرَ
يَأْخُذُ عُشْرَ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَلَا يَعْشُرُ الْخَنَازِيرَ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَعْشُرُهُمَا وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَعْشُرُهُمَا
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْخَمْرَ والخنازير ( ( ( والخنزير ) ) ) لَيْسَا
بِمَالٍ أَصْلًا وَالْعُشْرُ إنَّمَا يُؤْخَذُ من الْمَالِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُمَا مَالَانِ مُتَقَوِّمَانِ في حَقِّ أَهْلِ
الذِّمَّةِ فَالْخَمْرُ عِنْدَهُمْ كَالْخَلِّ عِنْدَنَا وَالْخِنْزِيرُ
عِنْدَهُمْ كَالشَّاةِ عِنْدَنَا وَلِهَذَا كَانَا مَضْمُونَيْنِ على الْمُسْلِمِ
بالاتلاف
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وهو الْفَرْقُ بين الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ من
وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَمْرَ من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَالْقِيمَةُ
فِيمَا له مِثْلٌ من جِنْسِهِ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ فَلَا يَكُونُ أَخْذُ قِيمَةِ
الْخَمْرِ كَأَخْذِ عَيْنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ من ذَوَاتِ الْقِيَمِ لَا من
ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَالْقِيمَةِ فِيمَا لَا مِثْلَ له يَقُومُ مَقَامَهُ
فَكَانَ أَخْذُ قِيمَتِهِ كَأَخْذِ عَيْنِهِ وَذَا لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ
وَالثَّانِي إن الْأَخْذَ حَقٌّ لِلْعَاشِرِ بِسَبَبِ الْحِمَايَةِ وَلِلْمُسْلِمِ
وِلَايَةُ حِمَايَةِ الْخَمْرِ في الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا وَرِثَ
الْخَمْرَ فَلَهُ وِلَايَةُ حِمَايَتِهَا عن غَيْرِهِ بِالْغَصْبِ وَلَوْ
غَصَبَهَا غَاصِبٌ له أَنْ يُخَاصِمَهُ وَيَسْتَرِدَّهَا منه لِلتَّخْلِيلِ فَلَهُ
وِلَايَةُ حِمَايَةِ خَمْرِ غَيْرِهِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ
وهو وِلَايَةُ السَّلْطَنَةِ وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ وِلَايَةُ حِمَايَةِ
الْخِنْزِيرِ رَأْسًا حتى لو أَسْلَمَ وَلَهُ خَنَازِيرُ ليس له أَنْ يَحْمِيَهَا
بَلْ يُسَيِّبَهَا فَلَا يَكُونُ له وِلَايَةُ حِمَايَةِ خِنْزِيرٍ غَيْرَهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْقَدْرُ الْمَأْخُوذُ مِمَّا يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ على
الْعَاشِرِ فَالْمَارُّ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كان مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا أو
حَرْبِيًّا فَإِنْ كان مُسْلِمًا يَأْخُذُ منه في أَمْوَالِ التِّجَارَةِ رُبُعَ
الْعُشْرِ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ منه زَكَاةٌ فَيُؤْخَذُ على قَدْرِ الْوَاجِبِ من
الزَّكَاةِ في أَمْوَالِ التِّجَارَةِ وهو رُبُعُ الْعُشْرِ وَيُوضَعُ مَوْضِعَ
الزَّكَاةِ وَيُسْقَطُ عن مَالِهِ زَكَاةُ تِلْكَ السَّنَةِ
وَإِنْ كان ذِمِّيًّا يأخذ ( ( ( يؤخذ ) ) ) منه نِصْفُ الْعُشْرِ وَيُؤْخَذُ على
شَرَائِطِ الزَّكَاةِ لَكِنْ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَلَا
تَسْقُطُ عنه جِزْيَةُ رَأْسِهِ في تِلْكَ السَّنَةِ غير نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ
لِأَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه صَالَحَهُمْ من الْجِزْيَةِ على الصَّدَقَةِ
الْمُضَاعَفَةِ
فإذا أَخَذَ الْعَاشِرُ منهم ذلك سَقَطَتْ الْجِزْيَةُ عَنْهُمْ وَإِنْ كان
حَرْبِيًّا يَأْخُذُ منه ما يَأْخُذُونَهُ من الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ عُلِمَ
أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا رُبُعَ الْعُشْرِ أُخِذَ منهم ذلك الْقَدْرُ وَإِنْ
كان نِصْفًا فَنِصْفٌ وَإِنْ كان عُشْرًا فَعُشْرٌ لِأَنَّ ذلك أَدْعَى لهم إلَى
الْمُخَالَطَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَيَرَوْا مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ
فَيَدْعُوهُمْ ذلك إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ كان لَا يُعْلَمُ ذلك يَأْخُذُ منه
الْعُشْرَ وَأَصْلُهُ ما رَوَيْنَا عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كَتَبَ إلَى
الْعَشَارِ في الْأَطْرَافِ أَنْ خُذُوا من الْمُسْلِمِ رُبْعَ الْعُشْرِ وَمِنْ
الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ وَمِنْ الْحَرْبِيِّ
____________________
(2/38)
الْعُشْرَ
وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُخَالِفْهُ أَحَدٌ
منهم فَيَكُونُ إجْمَاعًا منهم على ذلك
وَرُوِيَ أَنَّهُ قال خُذُوا منهم ما يَأْخُذُونَ من تُجَّارِنَا فَقِيلَ له إنْ
لم نَعْلَمْ ما يَأْخُذُونَ من تُجَّارِنَا فقال خُذُوا منهم الْعُشْرَ وما
يُؤْخَذُ منهم فَهُوَ في مَعْنَى الْجِزْيَةِ وَالْمُؤْنَةُ تُوضَعُ مَوَاضِعَ
الْجِزْيَةِ وَتُصْرَفُ إلَى مَصَارِفِهَا
فَصْلٌ وَأَمَّا رُكْنُ الزَّكَاةِ فَرُكْنُ الزَّكَاةِ هو إخْرَاجُ جُزْءٍ من
النِّصَابِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَسْلِيمُ ذلك إلَيْهِ يَقْطَعُ الْمَالِكُ
يَدَهُ عنه بِتَمْلِيكِهِ من الْفَقِيرِ وَتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ أو إلَى يَدِ من هو
نَائِبٌ عنه وهو الْمُصْدِقُ وَالْمِلْكُ لِلْفَقِيرِ يَثْبُتُ من اللَّهِ
تَعَالَى وَصَاحِبُ الْمَالِ نَائِبٌ عن اللَّهِ تَعَالَى في التَّمْلِيكِ
وَالتَّسْلِيمِ إلَى الْفَقِيرِ وَالدَّلِيلُ على ذلك قَوْله تَعَالَى { أَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هو يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عن عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ
الصَّدَقَاتِ } وَقَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الصَّدَقَةُ تَقَعُ في يَدِ
الرحمن قبل أَنْ تَقَعَ في كَفِّ الْفَقِيرِ وقد أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى
الْمُلَّاكَ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ لِقَوْلِهِ عز ( ( ( عزو ) ) ) وجل ( ( ( جل )
) ) { وَآتُوا الزَّكَاةَ } وَالْإِيتَاءُ هو التَّمْلِيكُ وَلِذَا سَمَّى اللَّهُ
تَعَالَى الزَّكَاةَ صَدَقَةً بِقَوْلِهِ عز وجل { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ
لِلْفُقَرَاءِ } وَالتَّصَدُّقُ تَمْلِيكٌ فَيَصِيرُ الْمَالِكُ مُخْرِجًا قَدْرَ
الزَّكَاةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمُقْتَضَى التَّمْلِيكِ سَابِقًا عليه
وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ على أَصْلِنَا وَالْعِبَادَةُ إخْلَاصُ الْعَمَلِ
بِكُلِّيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى
وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا إنَّ عِنْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْفَقِيرِ تَنْقَطِعُ
نِسْبَةُ قَدْرِ الزَّكَاةِ عنه بِالْكُلِّيَّةِ وَتَصِيرُ خَالِصَةً لِلَّهِ
تَعَالَى وَيَكُونُ مَعْنَى الْقُرْبَةِ في الْإِخْرَاجِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى
بِإِبْطَالِ مِلْكِهِ عنه لَا في التَّمْلِيكِ من الْفَقِيرِ بَلْ التَّمْلِيكِ من
اللَّهِ تَعَالَى في الْحَقِيقَةِ وَصَاحِبُ الْمَالِ نَائِبٌ عن اللَّهِ تَعَالَى
غير أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ الرُّكْنُ هو إخْرَاجُ جُزْءٍ من النِّصَابِ من
حَيْثُ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ
وَعِنْدَهُمَا صُورَةً وَمَعْنًى لَكِنْ يَجُوزُ إقَامَةُ الْغَيْرِ مَقَامَهُ من
حَيْثُ الْمَعْنَى وَيَبْطُلُ اعْتِبَارُ الصُّورَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْحَقِّ
وهو اللَّهُ تَعَالَى على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَبَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ
في السَّوَائِمِ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى وُجُوهِ الْبِرِّ من بِنَاءِ
الْمَسَاجِدِ وَالرِّبَاطَاتِ وَالسِّقَايَاتِ وَإِصْلَاحِ الْقَنَاطِرِ
وَتَكْفِينِ الْمَوْتَى وَدَفْنِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ
التَّمْلِيكُ أَصْلًا وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى بِالزَّكَاةِ طَعَامًا فَأَطْعَمَ
الْفُقَرَاءَ غذاء ( ( ( غداء ) ) ) وَعَشَاءً ولم يَدْفَعْ عَيْنَ الطَّعَامِ
إلَيْهِمْ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّمْلِيكِ وَكَذَا لو قَضَى دَيْنَ مَيِّتٍ
فَقِيرٍ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ التَّمْلِيكُ من الْفَقِيرِ
لِعَدَمِ قَبْضِهِ
وَلَوْ قَضَى دَيْنَ حَيٍّ فَقِيرٍ أن قَضَى بِغَيْرِ أَمْرِهِ لم يَجُزْ
لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ التَّمْلِيكُ من الْفَقِيرِ لِعَدَمِ قَبْضِهِ وَإِنْ كان
بِأَمْرِهِ يَجُوزُ عن الزَّكَاةِ لِوُجُودِ التَّمْلِيكِ من الْفَقِيرِ لِأَنَّهُ
لَمَّا أَمَرَهُ بِهِ صَارَ وَكِيلًا عنه في الْقَبْضِ فَصَارَ كَأَنَّ الْفَقِيرَ
قَبَضَ الصَّدَقَةَ بِنَفْسِهِ وَمِلْكِهِ من الْغَرِيمِ وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ
بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ لَا يَجُوزُ لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ إذْ الْإِعْتَاقُ ليس
بِتَمْلِيكٍ بَلْ هو إسْقَاطُ الْمِلْكِ وَكَذَا لو اشْتَرَى بِقَدْرِ الزَّكَاةِ
عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ لَا يَجُوزُ عن الزَّكَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ يَجُوزُ وَبِهِ تَأَوَّلَ قَوْله تَعَالَى { وفي الرِّقَابِ } وهو
أَنْ يَشْتَرِيَ بِالزَّكَاةِ عَبْدًا فَيُعْتِقَهُ
وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ هو التَّمْلِيكُ وَالْإِعْتَاقُ إزَالَةُ الْمِلْكِ فلم
يَأْتِ بِالْوَاجِبِ وَالْمُرَادُ من قَوْله تَعَالَى { وفي الرِّقَابِ } إعَانَةُ
الْمُكَاتَبِينَ بِالزَّكَاةِ لِمَا نَذْكُرُهُ وَلَوْ دَفَعَ زَكَاتَهُ إلَى
الْإِمَامِ أو إلَى عَامِلِ الصَّدَقَةِ يَجُوزُ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عن الْفَقِيرِ
في الْقَبْضِ فكأن قَبْضُهُ كَقَبْضِ الْفَقِيرِ وَكَذَا لو دَفَعَ زَكَاةَ
مَالِهِ إلَى صَبِيٍّ فَقِيرٍ أو مَجْنُونٍ فَقِيرٍ وَقَبَضَ له وَلِيُّهُ أَبُوهُ
أو جَدُّهُ أو وَصِيُّهُمَا جَازَ لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَمْلِكُ قَبْضَ الصَّدَقَةِ
عنه وَكَذَا لو قَبَضَ عنه بَعْضُ أَقَارِبِهِ وَلَيْسَ ثَمَّةَ أَقْرَبَ منه وهو
في عِيَالِهِ يَجُوزُ وَكَذَا الْأَجْنَبِيُّ الذي هو في عِيَالِهِ لِأَنَّهُ في
مَعْنَى الْوَلِيِّ في قَبْضِ الصَّدَقَةِ لِكَوْنِهِ نَفْعًا مَحْضًا أَلَا تَرَى
أَنَّهُ يَمْلِكُ قَبْضَ الْهِبَةِ له وَكَذَا الْمُلْتَقِطُ إذَا قَبَضَ
الصَّدَقَةَ عن اللَّقِيطِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْقَبْضَ له فَقَدْ وَجَدَ
تَمْلِيكَ الصَّدَقَةِ من الْفَقِيرِ
وَذُكِرَ في الْعُيُونِ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ من عَالَ يَتِيمًا فَجَعَلَ
يَكْسُوهُ وَيُطْعِمُهُ وَيَنْوِي بِهِ عن زَكَاةِ مَالِهِ يَجُوزُ وقال مُحَمَّدٌ
ما كان من كِسْوَةٍ يَجُوزُ وفي الطَّعَامِ لَا يَجُوزُ إلَّا ما دُفِعَ إلَيْهِ
وَقِيلَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا في الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ مُرَادَ أبي يُوسُفَ ليس
هو الْإِطْعَامُ على طَرِيقِ الْإِبَاحَةِ بَلْ على وَجْهِ التَّمْلِيكِ ثُمَّ إنْ
كان الْيَتِيمُ عَاقِلًا يُدْفَعُ إلَيْهِ وَإِنْ لم يَكُنْ عَاقِلًا يُقْبَضُ عنه
بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ ثُمَّ يَكْسُوهُ وَيُطْعِمُهُ لِأَنَّ قَبْضَ الْوَلِيِّ
كَقَبْضِهِ لو كان عَاقِلًا
وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْأَجْنَبِيِّ لِلْفَقِيرِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ إلَّا
بِتَوْكِيلِهِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ له عليه فَلَا بُدَّ من أَمْرِهِ كما في
قَبْضِ الْهِبَةِ وَعَلَى هذا أَيْضًا يُخَرَّجُ الدَّفْعُ إلَى عَبْدِهِ
وَمُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّمْلِيكِ إذْ
هُمْ لَا يَمْلِكُونَ شيئا فَكَانَ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ دَفْعًا إلَى نَفْسِهِ
وَلَا يَدْفَعُ إلَى مُكَاتَبِهِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ
وَلِأَنَّ كَسْبَهُ مُتَرَدِّدٌ
____________________
(2/39)
بين
أَنْ يَكُونَ له أو لِمَوْلَاهُ لِجَوَازِ أَنْ يُعْجِزَ نَفْسَهُ
وَلَا يَدْفَعُ إلَى وَالِدِهِ وَإِنْ عَلَا وَلَا إلَى وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ
لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِمِلْكِهِ فَكَانَ الدَّفْعُ إلَيْهِ دَفْعًا إلَى نَفْسِهِ
من وَجْهٍ فَلَا يَقَعُ تَمْلِيكًا مُطْلَقًا ولهذا ( ( ( لهذا ) ) ) لَا تُقْبَلُ
شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ وَلَا يَدْفَعُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ زَكَاتَهُ
إلَى الْآخَرِ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ تَدْفَعُ الزَّوْجَةُ زَكَاتَهَا إلَى زَوْجِهَا
احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةَ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه
سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن الصَّدَقَةِ على زَوْجِهَا عبد
اللَّهِ فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَكِ أَجْرَانِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ
وَأَجْرُ الصِّلَةِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ يَنْتَفِعُ بِمَالِ صَاحِبِهِ كما
يَنْتَفِعُ بِمَالِ نَفْسِهِ عُرْفًا وَعَادَةً فَلَا يَتَكَامَلُ مَعْنَى
التَّمْلِيكِ وَلِهَذَا لم يَجُزْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَدْفَعَ إلَى زَوْجَتِهِ كَذَا
الزَّوْجَةُ وَتُخَرَّجُ هذه الْمَسَائِلُ على أَصْلٍ آخَرَ سَنَذْكُرُهُ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فصل وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
الْمُؤَدِّي وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدَّى وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
الْمُؤَدَّى إلَيْهِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدِّي فَنِيَّةُ الزَّكَاةِ وَالْكَلَامُ في
النِّيَّةِ في مَوْضِعَيْنِ في بَيَانِ أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ
الزَّكَاةِ وفي بَيَانِ وَقْتِ نِيَّةِ الْأَدَاءِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عليه قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا عَمَلَ
لِمَنْ لَا نِيَّةَ له وَقَوْلُهُ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِأَنَّ
الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ فَلَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ
كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ على فَقِيرٍ ولم
يَنْوِ الزَّكَاةَ أَجْزَأَهُ عن الزَّكَاةِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا
يَجُوزَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ فَلَا
بُدَّ لها من النِّيَّةِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النِّيَّةَ وُجِدَتْ دَلَالَةً لِأَنَّ الظَّاهِرَ
أَنَّ من عليه الزَّكَاةُ لَا يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَيَغْفُلُ عن
نِيَّةِ الزَّكَاةِ فَكَانَتْ النِّيَّةُ مَوْجُودَةً دَلَالَةً وَعَلَى هذا إذَا
وَهَبَ جَمِيعَ النِّصَابِ من الْفَقِيرِ أو نَوَى تَطَوُّعًا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ نَوَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ
فَتَصَدَّقَ شيئا فَشَيْئًا أَجْزَأَهُ عن الزَّكَاةِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ لم
يَنْوِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَجَعَلَ يَتَصَدَّقُ حتى أتى عليه
ضَمِنَ الزَّكَاة لِأَنَّ الزَّكَاةَ بَقِيَتْ وَاجِبَةً عليه بعد ما تَصَدَّقَ
بِبَعْضِ الْمَالِ فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّصَدُّقِ بِالْبَاقِي وَلَوْ تَصَدَّقَ
بِبَعْضِ مَالِهِ من غَيْرِ نِيَّةِ الزَّكَاةِ حتى لم يُجْزِئْهُ عن زَكَاةِ
الْكُلِّ فَهَلْ يُجْزِئُهُ عن زَكَاةِ الْقَدْرِ الذي تَصَدَّقَ بِهِ
قال أبو يُوسُفَ لَا يُجْزِئُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ الْجَمِيعَ
وقال مُحَمَّدٌ يُجْزِئُهُ عن زَكَاةِ ما تَصَدَّقَ بِهِ وَيُزَكِّي ما بَقِيَ حتى
إنه لو أَدَّى خَمْسَةً من مِائَتَيْنِ لَا يَنْوِي الزَّكَاةَ أو نَوَى
تَطَوُّعًا لَا تَسْقُطُ عنه زَكَاةُ الْخَمْسَةِ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ
وَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْكُلِّ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَسْقُطُ عنه زَكَاةُ الْخَمْسَةِ وهو ثُمُنُ دِرْهَمٍ وَلَا
يَسْقُطُ عنه زَكَاةُ الْبَاقِي
وَكَذَا لو أَدَّى مِائَةً لَا يَنْوِي الزَّكَاةَ وَنَوَى تَطَوُّعًا لَا
تَسْقُطُ زَكَاةُ الْمِائَةِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ الْكُلَّ عِنْدَ أبي
يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَسْقُطُ عنه زَكَاةُ ما تَصَدَّقَ وهو دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ
وَلَا يَسْقُطُ عنه زَكَاةُ الْبَاقِي
كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ الْخِلَافَ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيُّ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَسْقُطُ عنه
زَكَاةُ الْقَدْرِ الْمُؤَدَّى ولم يذكر الْخِلَافَ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارُ الْبَعْضِ بِالْكُلِّ وهو أَنَّهُ لو
تَصَدَّقَ بِالْكُلِّ لَجَازَ عن زَكَاةِ الْكُلِّ فإذا تَصَدَّقَ بِالْبَعْضِ
يَجُوزُ عن زَكَاتِهِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ شَائِعٌ في جَمِيعِ النِّصَابِ وَلِأَبِي
يُوسُفَ أَنَّ سُقُوطَ الزَّكَاةِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لِزَوَالِ مِلْكِهِ على وَجْهِ
الْقُرْبَةِ عن الْمَالِ الذي فيه الزَّكَاةُ ولم يُوجَدْ ذلك في التَّصَدُّقِ
بِالْبَعْضِ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِخَمْسَةٍ يَنْوِي بِجَمِيعِهَا الزَّكَاةَ
وَالتَّطَوُّعَ كانت من الزَّكَاةِ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ هِيَ من التَّطَوُّعِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النِّيَّتَيْنِ تَعَارَضَتَا فلم يَصِحَّ
التَّعْيِينُ لِلتَّعَارُضِ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ التَّصَدُّقُ
بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ فَيَقَعُ عن التَّطَوُّعِ لِأَنَّهُ أَدْنَى وَالْأَدْنَى
مُتَيَقَّنٌ بِهِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْجِهَتَيْنِ يُعْمَلُ
بِالْأَقْوَى وهو الْفَرْضُ كما في تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ أَنَّهُ يُعْمَلُ
بِأَقْوَاهُمَا وَلِأَنَّ التَّعْيِينَ يُعْتَبَرُ في الزَّكَاةِ لَا في
التَّطَوُّعِ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّعْيِينِ
أَلَا تَرَى أَنَّ إطْلَاقَ الصَّدَقَةِ يَقَعُ عليه فَلَغَا تَعْيِينُهُ وَبَقِيَتْ
الزَّكَاةُ مُتَعَيِّنَةً فَيَقَعُ عن الزَّكَاةِ وَالْمُعْتَبَرُ في الدَّفْعِ
نِيَّةُ الْآمِرِ حتى لو دَفَعَ خَمْسَةً إلَى رَجُلٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا
إلَى الْفَقِيرِ عن زَكَاةِ مَالِهِ فَدَفَعَ ولم تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ عِنْدَ
الدَّفْعِ جَازَ لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ من الْمُؤَدِّي
وَالْمُؤَدِّي هو الْآمِرُ في الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا الْمَأْمُورُ نَائِبٌ عنه
في الْأَدَاءِ وَلِهَذَا لو وَكَّلَ ذِمِّيًّا بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ جَازَ لِأَنَّ
الْمُؤَدِّي في الْحَقِيقَةِ هو الْمُسْلِمُ
وَذُكِرَ في الْفَتَاوَى عن الْحَسَنِ بن زِيَادٍ في رَجُلٍ أَعْطَى رَجُلًا
دَرَاهِمَ لِيَتَصَدَّقَ بها تَطَوُّعًا ثُمَّ نَوَى الْآمِرُ أَنْ يَكُونَ ذلك من
زَكَاةِ مَالِهِ ثُمَّ تَصَدَّقَ الْمَأْمُورُ جَازَ عن زَكَاةِ مَالِ الْآمِرِ
وَكَذَا
____________________
(2/40)
لو
قال تَصَدَّقْ بها عن كَفَّارَةِ يَمِينِي ثُمَّ نَوَى الْآمِرُ عن زَكَاةِ
مَالِهِ جَازَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الأمر هو الْمُؤَدِّي من حَيْثُ الْمَعْنَى
وَإِنَّمَا الْمَأْمُورُ نَائِبٌ عنه
وَلَوْ قال إنْ دَخَلْتِ هذه الدَّارَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ
بِهَذِهِ الْمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ نَوَى وَقْتَ الدُّخُولِ عن زَكَاةِ مَالِهِ
لَا تَكُونُ زَكَاةً لِأَنَّ عِنْدَ الدُّخُولِ وَجَبَ عليه التَّصَدُّقُ
بِالنَّذْرِ الْمُتَقَدِّمِ أو الْيَمِينِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَذَلِكَ لَا
يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ فيه بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَلَوْ تَصَدَّقَ عن غَيْرِهِ
بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنْ تَصَدَّقَ بِمَالِ نَفْسِهِ جَازَتْ الصَّدَقَةُ عن
نَفْسِهِ وَلَا تَجُوزُ عن غَيْرِهِ وَإِنْ أَجَازَهُ وَرَضِيَ بِهِ
أَمَّا عَدَمُ الْجَوَازِ عن غَيْرِهِ فَلِعَدَمِ التَّمْلِيكِ منه إذْ لَا مِلْكَ
له في المؤدي وَلَا يَمْلِكُهُ بِالْإِجَازَةِ فَلَا تَقَعُ الصَّدَقَةُ عنه
وَتَقَعُ عن الْمُتَصَدِّقِ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وُجِدَ نَفَاذًا عليه
وَإِنْ تَصَدَّقَ بِمَالِ الْمُتَصَدَّقِ عنه وُقِفَ على إجَازَتِهِ فَإِنْ
أَجَازَ وَالْمَالُ قَائِمٌ جَازَ عن الزَّكَاةِ وَإِنْ كان الْمَالُ هَالِكًا
جَازَ عن التَّطَوُّعِ ولم يَجُزْ عن الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَصَدَّقَ عنه
بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَهَلَكَ الْمَالُ صَارَ بَدَلُهُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ فَلَوْ
جَازَ ذلك عن الزَّكَاةِ كان أَدَاءُ الدَّيْنِ عن الْغَيْرِ وَأَنَّهُ لَا
يَجُوزُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا وَقْتُ النِّيَّةِ فَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ وَلَا تجزىء الزَّكَاةُ
عَمَّنْ أَخْرَجَهَا إلَّا بِنِيَّةٍ مُخَالِطَةٍ لِإِخْرَاجِهِ إيَّاهَا كما قال
في بَابِ الصَّلَاةِ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أنها لَا تجزىء إلَّا بِنِيَّةٍ
مُقَارِنَةٍ لِلْأَدَاءِ
وَعَنْ مُحَمَّدِ بن سَلَمَةَ أَنَّهُ قال إنْ كان وَقْتَ التصديق ( ( ( التصدق )
) ) بِحَالٍ لو سُئِلَ عماذا يَتَصَدَّقُ أَمْكَنَهُ الْجَوَابُ من غَيْرِ
فِكْرَةٍ فإن ذلك يَكُونُ نِيَّةً منه وَتُجْزِئُهُ كما قال في نِيَّةِ الصَّلَاةِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّ النِّيَّةَ تُعْتَبَرُ في أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ إمَّا عِنْدَ
الدَّفْعِ وَإِمَّا عِنْدَ التَّمْيِيزِ هَكَذَا رَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ في
رَجُلٍ نَوَى إن ما يَتَصَدَّقُ بِهِ إلَى آخِرِ السَّنَةِ فَهُوَ عن زَكَاةِ
مَالِهِ فَجَعَلَ يَتَصَدَّقُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ وَلَا تَحْضُرُهُ النِّيَّةُ
قال لَا تُجْزِئُهُ وَإِنْ مَيَّزَ زَكَاةَ مَالِهِ فَصَرَّهَا في كُمِّهِ وقال
هذه من الزَّكَاةِ فَجَعَلَ يَتَصَدَّقُ وَلَا تَحْضُرُهُ النِّيَّةُ
قال أَرْجُو أَنْ تُجْزِئَهُ عن الزَّكَاةِ لِأَنَّ في الْأَوَّلِ لم تُوجَدْ
النِّيَّةُ في الْوَقْتَيْنِ
وفي الثَّانِي وُجِدَ في أَحَدِهِمَا وهو وَقْتُ التَّمْيِيزِ وَإِنَّمَا لم
تُشْتَرَطْ في وَقْتِ الدَّفْعِ عَيْنًا لِأَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ قد يَقَعُ
دَفْعَةً وَاحِدَةً وقد يَقَعُ مُتَفَرِّقًا وفي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ عِنْدَ كل
دَفْعٍ مع تَفْرِيقِ الدَّفْعِ حَرَجٌ وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى المؤدى فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَالًا
مُتَقَوِّمًا على الْإِطْلَاقِ سَوَاءٌ كان مَنْصُوصًا عليه أو لَا من جِنْسِ
الْمَالِ الذي وَجَبَتْ فيه الزَّكَاةُ أو من غَيْرِ جِنْسِهِ وَالْأَصْلُ إن
كُلَّ مَالٍ يَجُوزُ التَّصَدُّقُ بِهِ تَطَوُّعًا يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ منه
وما لَا فَلَا وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ الْمَنْصُوصُ عليه وقد مَضَتْ
الْمَسْأَلَةُ غير أَنَّ الْمُؤَدَّى يُعْتَبَرُ فيه الْقَدْرُ وَالصِّفَةُ في
بَعْضِ الْأَمْوَالِ وفي بَعْضِهَا الْقَدْرُ دُونَ الصِّفَةِ وفي بَعْضِهَا
الصِّفَةُ دُونَ الْقَدْرِ وفي بَعْضِ هذه الْجُمْلَةِ اتِّفَاقٌ وفي بَعْضِهَا
اخْتِلَافٌ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ
عَيْنًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا وَالْعَيْنُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ
تَكُونَ مِمَّا لَا يَجْرِي فيه الرِّبَا كَالْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ وَإِمَّا
أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجْرِي فيه الرِّبَا كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَإِنْ كان
مِمَّا لَا يَجْرِي فيه الرِّبَا فَإِنْ كان من السَّوَائِمِ فَإِنْ أَدَّى
الْمَنْصُوصَ عليه من الشَّاةِ وَبِنْتِ الْمَخَاضِ وَنَحْوِ ذلك يراعي فيه صِفَةُ
الْوَاجِبِ وهو أَنْ يَكُونَ وَسَطًا فَلَا يَجُوزُ الرَّدِيءُ إلَّا على طَرِيقِ
التَّقْوِيمِ فَبِقَدْرِ قِيمَتِهِ وَعَلَيْهِ التَّكْمِيلُ لِأَنَّهُ لم يُؤَدِّ
الْوَاجِبَ وَلَوْ أَدَّى الْجَيِّدَ جَازَ لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ
وَزِيَادَةً وَإِنْ أَدَّى الْقِيمَةَ أَدَّى قِيمَةَ الْوَسَطِ فَإِنْ أَدَّى
قِيمَةَ الرَّدِيءِ لم يَجُزْ إلَّا بِقَدْرِ قِيمَتِهِ وَعَلَيْهِ التَّكْمِيلُ
وَلَوْ أَدَّى شَاةً وَاحِدَةً سَمِينَةً عن شَاتَيْنِ وَسَطَيْنِ تَعْدِلُ
قِيمَتُهَا قِيمَةَ شَاتَيْنِ وَسَطَيْنِ جَازَ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ ليس من
أَمْوَالِ الرِّبَا وَالْجُودَةُ في غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا مُتَقَوِّمَةٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ بِشَاتَيْنِ فَبِقَدْرِ الْوَسَطِ
يَقَعُ عن نَفْسِهِ وَبِقَدْرِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ يَقَعُ عن شَاةٍ أُخْرَى
وَإِنْ كان من عُرُوضِ التِّجَارَةِ فَإِنْ أَدَّى من النِّصَابِ رُبُعَ عُشْرِهِ
يَجُوزُ كَيْفَمَا كان النِّصَابُ لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ بِكَمَالِهِ وَإِنْ
أَدَّى من غَيْرِ النِّصَابِ فَإِنْ كان من جِنْسِهِ يراعي فيه صِفَةُ الْوَاجِبِ
من الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ والردىء ( ( ( والرديء ) ) ) وَلَوْ أَدَّى الردىء ( (
( الرديء ) ) ) مَكَانَ الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ لَا يَجُوزُ إلَّا على طَرِيقِ
التَّقْوِيمِ بِقَدْرِهِ وَعَلَيْهِ التَّكْمِيلُ لِأَنَّ الْعُرُوضَ لَيْسَتْ من
أَمْوَالِ الرِّبَا حتى يَجُوزَ بَيْعُ ثَوْبٍ بِثَوْبَيْنِ فَكَانَتْ الْجَوْدَةُ
فيها مُتَقَوِّمَةً
وَلِهَذَا لو أَدَّى ثَوْبًا جَيِّدًا عن ثَوْبَيْنِ رَدِيئَيْنِ يَجُوزُ
وَإِنْ كان من خِلَافِ جِنْسِهِ يُرَاعَى فيه قِيمَةُ الْوَاجِبِ حتى لو أَدَّى
أَنْقَصَ منه لَا يَجُوزُ إلَّا بِقَدْرِهِ
وَإِنْ كان مَالُ الزَّكَاةِ مِمَّا يَجْرِي فيه الرِّبَا من الْكَيْلِيِّ
وَالْوَزْنِيِّ فَإِنْ أَدَّى رُبُعَ عُشْرِ النِّصَابِ يَجُوزُ كَيْفَمَا كان
لِأَنَّهُ أَدَّى ما وَجَبَ عليه وَإِنْ أَدَّى من غَيْرِ النِّصَابِ فَلَا
يَخْلُو إمَّا إن كان من جِنْسِ النِّصَابِ وَإِمَّا إن كان من خِلَافِ جِنْسِهِ
فَإِنْ كان الْمُؤَدَّى من خِلَافِ جِنْسِهِ بأنه ( ( ( بأن ) ) ) أَدَّى
الذَّهَبَ عن الْفِضَّةِ أو
____________________
(2/41)
الْحِنْطَةَ
عن الشَّعِيرِ يراعي قِيمَةُ الْوَاجِبِ بِالْإِجْمَاعِ حتى لو أَدَّى أَنْقَصَ
منها لَا يَسْقُطُ عنه كُلُّ الْوَاجِبِ بَلْ يَجِبُ عليه التَّكْمِيلُ لِأَنَّ
الْجَوْدَةَ في أَمْوَالِ الرِّبَا مُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَ مُقَابِلَتِهَا بِخِلَافِ
جِنْسِهَا
وَإِنْ كان الْمُؤَدَّى من جِنْسِ النِّصَابِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه على ثَلَاثَةِ
أَقْوَالٍ قال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ أن الْمُعْتَبَرَ هو الْقَدْرُ لَا
الْقِيمَةُ
وقال زُفَرُ الْمُعْتَبَرُ هو الْقِيمَةُ لَا الْقَدْرُ
وقال مُحَمَّدٌ الْمُعْتَبَرُ ما هو أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ فَإِنْ كان اعْتِبَارُ
الْقَدْرِ أَنْفَعَ فَالْمُعْتَبَرُ هو الْقَدْرُ كما قال أبو حَنِيفَةَ وأبو
يُوسُفَ
وَإِنْ كان اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ أَنْفَعَ فَالْمُعْتَبَرُ هو الْقِيمَةُ كما قال
زُفَرُ
وَبَيَانُ هذا في مَسَائِلَ إذَا كان له مائتا ( ( ( مائتان ) ) ) قَفِيزٍ
حِنْطَةً جَيِّدَةً لِلتِّجَارَةِ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَالَ عليها
الْحَوْلُ فلم يُؤَدِّ منها وَأَدَّى خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ رَدِيئَةٍ يَجُوزُ وتسقط
عنه الزَّكَاةُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَيُعْتَبَرُ الْقَدْرُ
لَا قِيمَةُ الْجَوْدَةِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عليه أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَضْلَ إلَى تَمَامِ قِيمَةِ
الْوَاجِبِ اعْتِبَارًا في حَقِّ الْفُقَرَاءِ لِلْقِيمَةِ عِنْدَ زُفَرَ
وَاعْتِبَارًا لِلْأَنْفَعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالصَّحِيحُ اعْتِبَارُ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ في الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ
لَا قِيمَةَ لها عِنْدَ مُقَابِلَتِهَا بِجِنْسِهَا لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا يقول أن
الْجَوْدَةَ مُتَقَوِّمَةٌ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ تَقَوُّمِهَا
شَرْعًا لِجَرَيَانِ الرِّبَا وَالرِّبَا اسْمٌ لِمَالٍ يُسْتَحَقُّ بِالْبَيْعِ
ولم يُوجَدْ
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُسْقِطَ لِاعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ وهو النَّصُّ مُطْلَقٌ
فَيَقْتَضِي سُقُوطَ تَقَوُّمِهَا مُطْلَقًا إلَّا فِيمَا قُيِّدَ بِدَلِيلٍ
وَلَوْ كلف النِّصَابُ حِنْطَةً رَدِيئَةً لِلتِّجَارَةِ قِيمَتُهَا مِائَتَا
دِرْهَمٍ فَأَدَّى أَرْبَعَةَ أَقْفِزَةٍ جَيِّدَةٍ عن خَمْسَةِ أَقْفِزَةٍ
رَدِيئَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا عن أَرْبَعَةِ أَقْفِزَةٍ منها وَعَلَيْهِ أَنْ
يُؤَدِّيَ قفيز ( ( ( قفيزا ) ) ) آخَرَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ اعْتِبَارًا لِلْقَدْرِ دُونَ الْقِيمَةِ عِنْدَهُمَا وَاعْتِبَارًا
لِلْأَنْفَعِ لِلْفُقَرَاءِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ
وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجِبُ عليه شَيْءٌ آخَرُ اعْتِبَارًا لِلْقِيمَةِ عِنْدَهُ
وَعَلَى هذا إذَا كان له مِائَتَا دِرْهَمٍ جَيِّدَةٍ حَالَ عليها الْحَوْلُ
فَأَدَّى خَمْسَةً زُيُوفًا جَازَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِوُجُودِ
الْقَدْرِ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لِعَدَمِ الْقِيمَةِ
وَالْأَنْفَعِ
وَلَوْ أَدَّى أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ جَيِّدَةٍ عن خَمْسَةٍ رَدِيئَةٍ لَا يَجُوزُ
إلَّا عن أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ وَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ آخَرُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
فَلِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ وَالْقَدْرُ نَاقِصٌ
وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِاعْتِبَارِ الْأَنْفَعِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْقَدْرُ
هَهُنَا أَنْفَعُ لهم وَعَلَى أَصْلِ زُفَرَ يَجُوزُ لِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ
وَلَوْ كان له قَلْبُ فِضَّةٍ أو إنَاءٌ مصوغ ( ( ( مصنوع ) ) ) من فِضَّةٍ
جَيِّدَةٍ وَزْنُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ لِجَوْدَتِهِ وَصِيَاغَتِهِ
ثلثمائة فَإِنْ أَدَّى من النِّصَابِ أَدَّى رُبُعَ عُشْرِهِ
وَإِنْ أَدَّى من الْجِنْسِ من غَيْرِ النِّصَابِ يُؤَدِّي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ
زَكَاةَ الْمِائَتَيْنِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يُؤَدِّي زَكَاةَ ثلثمائة دِرْهَمٍ بِنَاءً على
الْأَصْلِ الذي ذَكَرْنَا
وَإِنْ أَدَّى من غَيْرِ جنسه يُؤَدِّي زَكَاةَ ثلثمائة وَذَلِكَ سَبْعَةُ
دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ قِيمَةَ الْجَوْدَةِ تَظْهَرُ عِنْدَ
الْمُقَابَلَةِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ
وَلَوْ أَدَّى عنها خَمْسَةً زُيُوفًا قِيمَتُهَا أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ جَيِّدَةٍ
جَازَ وَسَقَطَتْ عنه الزَّكَاةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عليه أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَضْلَ إلَى تَمَامِ قِيمَةِ
الْوَاجِبِ
وَعَلَى هذا النَّذْرِ إذَا أَوْجَبَ على نَفْسِهِ صَدَقَةً قَفِيزَ حِنْطَةٍ
جَيِّدَةٍ فَأَدَّى قَفِيزًا رَدِيئًا يَخْرُجُ عن النَّذْرِ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عليه أَدَاءُ الْفَضْلِ وَلَوْ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ
صَدَقَةً قَفِيزَ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ فَتَصَدَّقَ بِنِصْفِ قَفِيزِ حِنْطَةٍ
جَيِّدَةٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ قَفِيزِ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ لَا يَجُوزُ
إلَّا عن النِّصْفِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِنِصْفٍ آخَرَ في قَوْلِ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وفي قَوْلِ زُفَرَ لَا شَيْءَ عليه غَيْرُهُ وَهَذَا
وَالزَّكَاةَ سَوَاءٌ وَالْأَصْلُ ما ذَكَرْنَا
وَلَوْ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ صَدَقَةً بِشَاتَيْنِ فَتَصَدَّقَ مَكَانَهُمَا
بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ شَاتَيْنِ جَازَ وَيَخْرُجُ عن
النَّذْرِ كما في الزَّكَاةِ وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا أَوْجَبَ على نَفْسِهِ
أَنْ يُهْدِيَ شَاتَيْنِ فَأَهْدَى مَكَانَهُمَا شَاةً تَبْلُغُ قِيمَتُهَا
قِيمَةَ شَاتَيْنِ أنه لَا يَجُوزُ إلَّا عن وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَعَلَيْهِ شَاةٌ
أُخْرَى لِأَنَّ الْقُرْبَةَ هُنَاكَ في نَفْسِ الْإِرَاقَةِ لَا في التَّمْلِيكِ
وَإِرَاقَةُ دَمٍ وَاحِدٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ إرَاقَةِ دَمَيْنِ
وَكَذَا لو أَوْجَبَ على نَفْسِهِ عِتْقَ رَقَبَتَيْنِ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً
تَبْلُغُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ رَقَبَتَيْنِ لم يَجُزْ لِأَنَّ القربة ( ( ( الرقبة
) ) ) ثَمَّةَ ليس في التَّمْلِيكِ بَلْ في إزَالَةِ الرِّقِّ وَإِزَالَةُ رِقٍّ
وَاحِدٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ إزَالَةِ رِقَّيْنِ وَلِهَذَا لم يَجُزْ إعْتَاقُ
رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كانت سَمِينَةً إلَّا عن كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَإِنْ كان مَالُ الزَّكَاةِ دَيْنًا فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أن أَدَاءُ
الْعَيْنِ عن الْعَيْنِ جَائِزٌ بِأَنْ كان له مِائَتَا دِرْهَمٍ عَيْنٍ فَحَالَ
عليها الْحَوْلُ فَأَدَّى خَمْسَةً منها لِأَنَّهُ أَدَاءُ الْكَامِلِ عن
الْكَامِلِ فَقَدْ أَدَّى ما وَجَبَ عليه فَيَخْرُجُ عن الْوَاجِبِ
وَكَذَا إذَا أَدَّى الْعَيْنَ عن الدَّيْنِ بِأَنْ كان له مِائَتَا دِرْهَمٍ
دَيْنٌ فَحَالَ عليها الْحَوْلُ وَوَجَبَتْ فيها الزَّكَاةُ
____________________
(2/42)
فَأَدَّى
خَمْسَةً عَيْنًا عن الدَّيْنِ لِأَنَّهُ أَدَاءُ الْكَامِلِ عن النَّاقِصِ
لِأَنَّ الْعَيْنَ مَالٌ بِنَفْسِهِ وَمَالِيَّةُ الدَّيْنِ لِاعْتِبَارِ
تَعَيُّنِهِ في الْعَاقِبَةِ
وَكَذَا الْعَيْنُ قَابِلٌ لِلتَّمْلِيكِ من جَمِيعِ الناس وَالدَّيْنُ لَا
يَقْبَلُ التَّمْلِيكَ لِغَيْرِ من عليه الدَّيْنُ وَأَدَاءُ الدَّيْنِ عن
الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ بِأَنْ كان له على فَقِيرٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَلَهُ
مِائَتَا دِرْهَمٍ عَيْنٍ حَالَ عليها الْحَوْلُ فَتَصَدَّقَ بِالْخَمْسَةِ على
الْفَقِيرِ نَاوِيًا عن زَكَاةِ الْمِائَتَيْنِ لِأَنَّهُ أَدَاءُ النَّاقِصِ عن
الْكَامِلِ فَلَا يَخْرُجُ عَمَّا عليه
وَالْحِيلَةُ في الْجَوَازِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عليه بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ عَيْنٍ
يَنْوِي عن زَكَاةِ الْمِائَتَيْنِ ثُمَّ يَأْخُذُهَا منه قَضَاءً عن دَيْنِهِ
فَيَجُوزُ وَيَحِلُّ له ذلك
وَأَمَّا أَدَاءُ الدَّيْنِ عن الدَّيْنِ فَإِنْ كان عن دَيْنٍ يَصِيرُ عَيْنًا
لَا يَجُوزُ بِأَنْ كان له على فَقِيرٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ دَيْنٍ وَلَهُ على
رَجُلٍ آخَرَ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَالَ عليها الْحَوْلُ فَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ
الْخَمْسَةِ على من عليه نَاوِيًا عن زَكَاةِ الْمِائَتَيْنِ لِأَنَّ
الْمِائَتَيْنِ تَصِيرُ عَيْنًا بِالِاسْتِيفَاءِ فَتَبَيَّنَ في الْآخِرَةِ أَنَّ
هذا أَدَاءُ الدَّيْنِ عن الْعَيْنِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ
كان عن دَيْنٍ لَا يَصِيرُ عَيْنًا يَجُوزُ بِأَنْ كان له على فَقِيرٍ مِائَتَا
دِرْهَمٍ دَيْنٍ فَحَالَ عليها الْحَوْلُ فَوَهَبَ منه الْمِائَتَيْنِ يَنْوِي عن
الزَّكَاةِ لِأَنَّ هذا دَيْنٌ لَا يَنْقَلِبُ عَيْنًا فَلَا يَظْهَرُ في
الْآخِرَةِ أَنَّ هذا أَدَاءُ الدَّيْنِ عن الْعَيْنِ فَلَا يَظْهَرُ أَنَّهُ
أَدَاءُ النَّاقِصِ عن الْكَامِلِ فَيَجُوزُ
هذا إذَا كان من عليه الدَّيْنُ فَقِيرًا فَوَهَبَ الْمِائَتَيْنِ له أو تَصَدَّقَ
بها عليه فَأَمَّا إذَا كان غَنِيًّا فَوَهَبَ أو تَصَدَّقَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ
سَقَطَ عنه الدَّيْنُ لَكِنْ هل يَجُوزُ وَتَسْقُطُ عنه الزَّكَاةِ أَمْ لَا
يَجُوزُ وَتَكُونُ زَكَاتُهَا عينا ( ( ( دينا ) ) ) عليه
ذَكَرَ في الْجَامِعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَكُونُ قَدْرُ الزَّكَاةِ مَضْمُونًا
عليه وَذَكَرَ في نَوَادِرِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ يَجُوزُ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى الْغَنِيِّ
مع الْعِلْمِ بِحَالِهِ أو من غَيْرِ نحر ( ( ( تحر ) ) )
وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ الْجَوَازَ ليس على مَعْنَى سُقُوطِ
الْوَاجِبِ بَلْ على امْتِنَاعِ الْوُجُوبِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِاعْتِبَارِ
مَالِيَّتِهِ وَمَالِيَّتُهُ بِاعْتِبَارِ صَيْرُورَتِهِ عَيْنًا في الْعَاقِبَةِ
فإذا لم يَصِرْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَكُنْ مَالًا وَالزَّكَاةُ لَا تَجِبُ فِيمَا
ليس بِمَالٍ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدَّى إلَيْهِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ
يَكُونَ فَقِيرًا فَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى الْغَنِيِّ إلَّا أَنْ
يَكُونَ عَامِلًا عليها لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عليها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وفي
الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وفي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ } جَعَلَ
اللَّهُ تَعَالَى الصَّدَقَاتِ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ بِحَرْفِ اللَّامِ
وَأَنَّهُ لِلِاخْتِصَاصِ فَيَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُمْ بِاسْتِحْقَاقِهَا فَلَوْ
جَازَ صَرْفُهَا إلَى غَيْرِهِمْ لَبَطَلَ الِاخْتِصَاصُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَالْآيَةُ خُرِّجَتْ لِبَيَانِ مَوَاضِعِ الصَّدَقَاتِ وَمَصَارِفِهَا
وَمُسْتَحَقِّيهَا وَهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَسَامِيهِمْ فَسَبَبُ
الِاسْتِحْقَاقِ في الْكُلِّ وَاحِدٌ وهو الْحَاجَةُ إلَّا الْعَامِلِينَ عليها
فَإِنَّهُمْ مع غِنَاهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْعِمَالَةَ لِأَنَّ السَّبَبَ في
حَقِّهِمْ الْعِمَالَةَ لِمَا نَذْكُرُ
ثُمَّ لَا بُدَّ من بَيَانِ مَعَانِي هذه الْأَسْمَاءِ أَمَّا الْفُقَرَاءُ
وَالْمَسَاكِينُ فَلَا خِلَافَ في أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنْسٌ على
حِدَةٍ وهو الصَّحِيحُ لِمَا نَذْكُرُ
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ وَاللُّغَةِ في مَعْنَى الْفَقِيرِ
وَالْمِسْكَيْنِ وفي أَنَّ أَيَّهُمَا أَشَدُّ حَاجَةً وَأَسْوَأُ حَالًا
قال الْحَسَنُ الْفَقِيرُ الذي لَا يَسْأَلُ وَالْمِسْكِينُ الذي يَسْأَلُ
وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ وَكَذَا رَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ وهو
الْمَرْوِيُّ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ
الْمِسْكِينَ أَحْوَجُ
وقال قَتَادَةَ الْفَقِيرُ الذي بِهِ زَمَانَةٌ وَلَهُ حَاجَةٌ وَالْمِسْكِينُ
الْمُحْتَاجُ الذي لَا زَمَانَةَ بِهِ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ الْفَقِيرَ
أَحْوَجُ وَقِيلَ الْفَقِيرُ الذي يَمْلِكُ شيئا يَقُوتُهُ وَالْمِسْكِينُ الذي
لَا شَيْءَ له سُمِّيَ مِسْكِينًا لَمَّا أَسْكَنَتْهُ حَاجَتُهُ عن التَّحَرُّكِ
فَلَا يَقْدِرُ يَبْرَحُ عن مَكَانِهِ وَهَذَا أَشْبَهُ الْأَقَاوِيلِ قال اللَّهُ
تَعَالَى { أو مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } قِيلَ في التَّفْسِيرِ أَيْ اسْتَتَرَ
بِالتُّرَابِ وَحَفَرَ الْأَرْضَ إلَى عَانَتِهِ وقال الشَّاعِرُ أَمَّا
الْفَقِيرُ الذي كانت حَلُوبَتُهُ وَفْقَ الْعِيَالِ فلم يُتْرَكْ له سَبَدُ
سَمَّاهُ فَقِيرًا مع أَنَّ له حَلُوبَةً هِيَ رفق ( ( ( وفق ) ) ) الْعِيَالِ
وَالْأَصْلُ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْمٌ ينبىء عن
الْحَاجَةِ إلَّا حَاجَةَ الْمِسْكِينِ أَشَدُّ وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ قَوْلُ من
يقول الْفَقِيرُ الذي لَا يَسْأَلُ وَالْمِسْكِينُ الذي يَسْأَلُ لِأَنَّ من
شَأْنِ الْفَقِيرِ الْمُسْلِمِ أَنَّهُ يَتَحَمَّلُ ما كانت له حِيلَةٌ
وَيَتَعَفَّفُ وَلَا يَخْرُجُ فَيَسْأَلُ وَلَهُ حِيلَةٌ فَسُؤَالُهُ يَدُلُّ على
شِدَّةِ حَالِهِ
وما رَوَى أبو هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه عن النبي أَنَّهُ قال ليس الْمِسْكِينُ
الطَّوَّافُ الذي يَطُوفُ على الناس تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ
وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ قِيلَ فما الْمِسْكِينُ يا رَسُولَ اللَّهِ قال
الذي لَا يَجِدُ ما يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقُ عليه
____________________
(2/43)
وَلَا
يَقُومُ فَيَسْأَلُ الناس فَهُوَ مَحْمُولٌ على أَنَّ الذي يَسْأَلُ وَإِنْ كان
عِنْدَكُمْ مِسْكِينًا فإن الذي لَا يَسْأَلُ وَلَا يُفْطَنُ بِهِ أَشَدُّ
مَسْكَنَةً من هذا وَعَلَى هذا يُحْمَلُ ما رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه
أَنَّهُ قال ليس الْمِسْكِينُ الذي لَا مَالَ له وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الذي لَا
مَكْسَبَ له أَيْ الذي لَا مَالَ له وَإِنْ كان مِسْكِينًا فَاَلَّذِي لَا مَالَ
له وَلَا مَكْسَبَ له أَشَدُّ مَسْكَنَةً منه وَكَأَنَّهُ قال الذي لَا مَالَ له
وَلَا مَكْسَبَ فَهُوَ فَقِيرٌ وَالْمِسْكِينُ الذي لَا مَالَ له وَلَا مَكْسَبَ
وما قَالَهُ بَعْضُ مشياخنا ( ( ( مشايخنا ) ) ) إن الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ
جِنْسٌ وَاحِدٌ في الزَّكَاةِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا بِدَلِيلِ جَوَازِ
صَرْفِهَا إلَى جِنْسٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَعْدُ في كَوْنِهِمَا
جِنْسًا وَاحِدًا أو جِنْسَيْنِ في الْوَصَايَا اخْتِلَافٌ بين أَصْحَابِنَا غير
سَدِيدٍ بَلْ لَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا في أَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ
فِيهِمَا جميعا لِمَا ذَكَرْنَا وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ
الْبَعْضُ على الْبَعْضِ وَالْعَطْفُ دَلِيلُ الْمُغَايَرَةِ في الْأَصْلِ
وَإِنَّمَا جَازَ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ لِمَعْنَى آخَرَ وَذَلِكَ
الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ في الْوَصِيَّةِ وهو دَفْعُ الْحَاجَةِ وَذَا يَحْصُلُ
بِالصَّرْفِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ وَالْوَصِيَّةُ ما شُرِّعَتْ لِدَفْعِ حَاجَةِ
الموصي له فَإِنَّهَا تَجُوزُ لِلْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ وقد يَكُونُ لِلْمُوصِي أَغْرَاضٌ
كَثِيرَةٌ لَا يُوقَفُ عليها فَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُ نَصِّ كَلَامِهِ فَتَجْرِي
على ظَاهِرِ لَفْظِهِ من غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى بِخِلَافِ الزَّكَاةِ
فَإِنَّا عَقَلْنَا الْمَعْنَى فيها وهو دَفْعُ الْحَاجَةِ وَإِزَالَةُ
الْمَسْكَنَةِ وَجَمِيعُ الْأَصْنَافِ في هذا الْمَعْنَى جِنْسٌ وَاحِدٌ لِذَلِكَ
افْتَرَقَا لَا لِمَا قَالُوهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْعَامِلُونَ عليها فَهُمْ الَّذِينَ نَصَّبَهُمْ الْإِمَامُ
لِجِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ وَاخْتُلِفَ فِيمَا يُعْطَوْنَ
قال أَصْحَابُنَا يُعْطِيهِمْ الْإِمَامُ كِفَايَتَهُمْ منها
وقال الشَّافِعِيُّ يُعْطِيهِمْ الثَّمَنَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ الصَّدَقَاتِ على الْأَصْنَافِ
الثَّمَانِيَةِ منهم الْعَامِلُونَ عليها فَكَانَ لهم منها الثَّمَنُ
وَلَنَا أَنَّ ما يَسْتَحِقُّهُ الْعَامِلُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِطَرِيقِ
الْعِمَالَةِ لَا بِطَرِيقِ الزَّكَاةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يعطي وَإِنْ كان
غَنِيًّا بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كان ذلك صَدَقَةً لَمَا حَلَّتْ لِلْغَنِيِّ
وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لو حَمَلَ زَكَاتَهُ بِنَفْسِهِ إلَى الْإِمَامِ لَا يَسْتَحِقُّ
الْعَامِلُ منها شيئا وَلِهَذَا قال أَصْحَابُنَا أن حَقَّ الْعَامِلِ فِيمَا في
يَدِهِ من الصَّدَقَاتِ حتى لو هَلَكَ ما في يَدِهِ سَقَطَ حَقُّهُ كَنَفَقَةِ
الْمُضَارِبِ إنها تَكُونُ في مَالِ الْمُضَارَبَةِ حتى لو هَلَكَ مَالُ
الْمُضَارَبَةِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ كَذَا هذا دَلَّ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ
بِعَمَلِهِ لَكِنْ على سَبِيلِ الْكِفَايَةِ له وَلِأَعْوَانِهِ لَا على سَبِيلِ
الْأُجْرَةِ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَجْهُولَةٌ أَمَّا عِنْدَنَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ
قَدْرَ الْكِفَايَةِ له وَلِأَعْوَانِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَكَذَا عِنْدَهُ
لِأَنَّ قَدْرَ ما يَجْتَمِعُ من الصَّدَقَاتِ بِجِبَايَتِهِ مَجْهُولٌ فَكَانَ
ثَمَنُهُ مَجْهُولًا لَا مَحَالَةَ وَجَهَالَةُ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ يَمْنَعُ
جَوَازَ الْإِجَارَةِ فَجَهَالَةُ الْبَدَلَيْنِ جميعا أَوْلَى فَدَلَّ أَنَّ
الِاسْتِحْقَاقَ ليس على سَبِيلِ الْأُجْرَةِ بَلْ على طَرِيقِ الْكِفَايَةِ له
وَلِأَعْوَانِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِالْعَمَلِ لِأَصْحَابِ الْمَوَاشِي فَكَانَتْ
كِفَايَتُهُ في مَالِهِمْ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ الصَّدَقَاتِ على الْأَصْنَافِ
الْمَذْكُورِينَ في الْآيَةِ فَمَمْنُوعٌ أَنَّهُ قَسَمَ بَلْ بَيَّنَ فيها
مَوَاضِعَ الصَّدَقَاتِ وَمَصَارِفَهَا لِمَا نَذْكُرُ وَلَوْ كان الْعَامِلُ
هَاشِمِيًّا لَا يَحِلُّ له عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحِلُّ وَاحْتَجَّ
بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بَعَثَ عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه إلَى
الْيَمَنِ مُصَدِّقًا وَفَرَضَ له وَلَوْ لم يَحِلَّ لِلْهَاشِمِيِّ لَمَا فَرَضَ
له وَلِأَنَّ الْعِمَالَةَ أُجْرَةُ الْعَمَلِ بِدَلِيلِ أنها تَحِلُّ لِلْغَنِيِّ
فَيَسْتَوِي فيه ( ( ( فيها ) ) ) الْهَاشِمِيُّ وَغَيْرُهُ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ نَوْفَلَ بن الْحَارِثِ بَعَثَ ابْنَيْهِ إلَى رسول
اللَّهِ لِيَسْتَعْمِلَهُمَا على الصَّدَقَةِ فقال لَا تَحِلُّ لكما ( ( ( لكم ) )
) الصَّدَقَةُ وَلَا غُسَالَةُ الناس وَلِأَنَّ الْمَالَ الْمُجَبَّى صَدَقَةٌ
وَلَمَّا حَصَلَ في يَدِ الْإِمَامِ حُصِّلَتْ الصَّدَقَةُ مُؤَدَّاةً حتى لو
هَلَكَ الْمَالُ في يَدِهِ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عن صَاحِبِهَا وإذا حُصِّلَتْ
صَدَقَةٌ وَالصَّدَقَةُ مَطْهَرَةٌ لِصَاحِبِهَا فَتَمَكَّنَ الْخَبَثُ في
الْمَالِ فَلَا يُبَاحُ لِلْهَاشِمِيِّ لِشَرَفِهِ صِيَانَةً له عن تَنَاوُلِ
الْخَبَثِ تَعْظِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ أو نَقُولُ لِلْعِمَالَةِ شُبْهَةُ
الصَّدَقَةِ وَإِنَّهَا من أَوْسَاخِ الناس فَيَجِبُ صِيَانَةُ الْهَاشِمِيِّ عن
ذلك كَرَامَةً له وَتَعْظِيمًا لِلرَّسُولِ
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ في الْغَنِيِّ وقد فَرَّغَ نَفْسَهُ لِهَذَا
الْعَمَلِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْكِفَايَةِ والغني لَا يَمْنَعُ من تَنَاوُلِهَا
عِنْدَ الْحَاجَةِ كَابْنِ السَّبِيلِ أَنَّهُ يُبَاحُ له وَإِنْ كان غَنِيًّا
مِلْكًا فَكَذَا هذا وَقَوْلُهُ أن الذي يعطى لِلْعَامِلِ أُجْرَةَ عَمَلِهِ
مَمْنُوعٌ وقد بَيَّنَّا فَسَادَهُ
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه فَلَا حُجَّةَ فيه لِأَنَّ فيه أَنَّهُ
فَرْضٌ له وَلَيْسَ فيه بَيَانُ الْمَفْرُوضِ أَنَّهُ من الصَّدَقَاتِ أو من
غَيْرِهَا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فُرِضَ له من بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ كان
قَاضِيًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فَقَدْ قِيلَ أنهم كَانُوا قَوْمًا من
رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَصَنَادِيدِ الْعَرَبِ مِثْلِ أبي سُفْيَانَ بن حَرْبٍ
وَصَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ وَالْأَقْرَعِ بن حَابِسٍ وَعُيَيْنَةَ بن حِصْنٍ
الْفَزَارِيِّ وَالْعَبَّاسِ بن مرداس ( ( ( مرادس ) ) ) السُّلَمِيُّ وَمَالِكِ
بن عَوْفٍ =ج5=
ج5. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587
النضري
( ( ( النصري ) ) ) وَحَكِيمِ بن حِزَامٍ وَغَيْرِهِمْ وَلَهُمْ شَوْكَةٌ
وَقُوَّةٌ وَأَتْبَاعٌ كَثِيرَةٌ بَعْضُهُمْ أَسْلَمَ حَقِيقَةً وَبَعْضُهُمْ
أَسْلَمَ ظَاهِرًا لَا حَقِيقَةً وكان من الْمُنَافِقِينَ وَبَعْضُهُمْ كان من
الْمُسَالِمِينَ فَكَانَ رسول اللَّهِ يُعْطِيهِمْ من الصَّدَقَاتِ تَطْيِيبًا
لِقُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ منهم وَتَقْرِيرًا لهم على الْإِسْلَامِ وَتَحْرِيضًا
لِأَتْبَاعِهِمْ على أتباعهم وَتَأْلِيفًا لِمَنْ لم يَحْسُنْ إسْلَامُهُ وقد
حَسُنَ إسْلَامُ عَامَّتِهِمْ إلَّا من شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِحُسْنِ
مُعَامَلَةِ النبي مَعَهُمْ وَجَمِيلِ سِيرَتِهِ حتى رُوِيَ عن صَفْوَانَ بن
أُمَيَّةَ قال أَعْطَانِي رسول اللَّهِ وأنه لَأَبْغَضُ الناس إلَيَّ فما زَالَ
يُعْطِينِي حتى أنه لَأَحَبُّ الْخَلْقِ إلَيَّ
وَاخْتُلِفَ في سِهَامِهِمْ بَعْدَ وَفَاةِ رسول اللَّهِ قال عَامَّةُ
الْعُلَمَاءِ أنه اُنْتُسِخَ سَهْمُهُمْ وَذَهَبَ ولم يُعْطَوْا شيئا بَعْدَ النبي
وَلَا يُعْطَى الْآنَ لِمِثْلِ حَالِهِمْ وهو أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ
وقال بَعْضُهُمْ وهو أَحَدُ قولي ( ( ( قول ) ) ) الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه
أن حَقَّهُمْ بَقِيَ وقد أُعْطِيَ من بَقِيَ من أُولَئِكَ الَّذِينَ أَخَذُوا في
عَهْدِ النبي وَالْآنَ يُعْطَى لِمَنْ حَدَثَ إسْلَامُهُ من الْكَفَرَةِ تطبيبا (
( ( تطييبا ) ) ) لِقَلْبِهِ وَتَقْرِيرًا له على الْإِسْلَامِ وَتُعْطِي
الرُّؤَسَاءُ من أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا كانت لهم غَلَبَةٌ يُخَافُ على
الْمُسْلِمِينَ من شَرِّهِمْ لِأَنَّ الْمَعْنَى الذي له كان يُعْطِي النبي
أُولَئِكَ مَوْجُودٌ في هَؤُلَاءِ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ على ذلك فإن أَبَا
بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما ما أَعْطَيَا الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ شيئا
من الصَّدَقَاتِ ولم يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قُبِضَ رسول اللَّهِ جاؤوا إلَى أبي بَكْرٍ
وَاسْتَبْدَلُوا الْخَطَّ ممنه لِسِهَامِهِمْ فَبَدَّلَ لهم الْخَطَّ ثُمَّ جاؤوا
إلَى عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه وَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ فَأَخَذَ الْخَطَّ من
أَيْدِيهِمْ وَمَزَّقَهُ وقال إنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان يُعْطِيكُمْ لِيُؤَلِّفَكُمْ
على الْإِسْلَامِ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَعَزّ اللَّهُ دِينَهُ فَإِنْ
ثَبَتُّمْ على الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إلَّا
السَّيْفُ
فَانْصَرَفُوا إلَى أبي بَكْرٍ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا صَنَعَ عُمَرُ رضي اللَّهُ
عنهما وَقَالُوا أنت الْخَلِيفَةُ أَمْ هو فقال إنْ شَاءَ اللَّهُ هو ولم يُنْكِرْ
أبو بَكْرٍ قَوْلَهُ وَفِعْلَهُ وَبَلَغَ ذلك الصَّحَابَةَ فلم يُنْكِرُوا
فَيَكُونُ إجْمَاعًا منهم على ذلك
وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ أَنَّ النبي إنَّمَا كان يُعْطِيهِمْ
لِيَتَأَلَّفَهُمْ على الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا سَمَّاهُمْ اللَّهُ الْمُؤَلَّفَةَ
قُلُوبُهُمْ وَالْإِسْلَامُ يَوْمئِذٍ في ضَعْفٍ وَأَهْلُهُ في قِلَّةٍ
وَأُولَئِكَ كَثِيرٌ ذُو قُوَّةٍ وَعَدَدٍ وَالْيَوْمَ بِحَمْدِ اللَّهِ عز
الْإِسْلَامُ وَكَثُرَ أَهْلُهُ وَاشْتَدَّتْ دعمائه ( ( ( دعائمه ) ) ) وَرَسَخَ
بُنْيَانُهُ وَصَارَ أَهْلُ الشِّرْكِ أَذِلَّاءَ وَالْحُكْمُ مَتَى ثَبَتَ
مَعْقُولًا بِمَعْنًى خَاصٍّ يَنْتَهِي بِذَهَابِ ذلك الْمَعْنَى
وَنَظِيرُهُ ما كان عَاهَدَ رسول اللَّهِ كَثِيرًا من الْمُشْرِكِينَ لِحَاجَتِهِ
إلَى مُعَاهَدَتِهِمْ وَمُدَارَاتِهِمْ لِقِلَّةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ
وَضَعْفِهِمْ فلما أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ أَهْلُهُ أُمِرَ رسول
اللَّهِ أَنْ يَرُدَّ إلَى أَهْلِ الْعُهُودِ عُهُودَهُمْ وَأَنْ يُحَارِبَ
الْمُشْرِكِينَ جميعا بِقَوْلِهِ عز وجل { بَرَاءَةٌ من اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى
الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ من الْمُشْرِكِينَ } إلَى قَوْلِهِ { فإذا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ }
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وفي الرِّقَابِ } فَقَدْ قال بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ
مَعْنَاهُ وفي عِتْقِ الرِّقَابِ وَيَجُوزُ إعْتَاقُ الرَّقَبَةِ بِنِيَّةِ
الزَّكَاةِ وهو قَوْلُ مَالِكٍ وقال عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ الرِّقَابُ
الْمُكَاتَبُونَ قَوْله تَعَالَى { وفي الرِّقَابِ } أَيْ وفي فَكِّ الرِّقَابِ
وهو أَنْ يعطي الْمُكَاتَبُ شيئا من الصَّدَقَةِ يَسْتَعِينُ بِهِ على كِتَابَتِهِ
لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى رسول اللَّهِ وقال عَلِّمْنِي عَمَلًا
يَدْخُلُنِي الْجَنَّةَ فقال أَعْتِقْ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ فقال
الرَّجُلُ أليسا ( ( ( أوليسا ) ) ) سَوَاءً قال لَا
عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ
في عِتْقِهَا وَإِنَّمَا جَازَ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْمُكَاتَبِ لاعانته ( ( (
ليؤدي ) ) ) على ( ( ( بدل ) ) ) كِتَابَتِهِ فَيُعْتِقُ وَلَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً
الاعتقاق ( ( ( الإعتاق ) ) ) بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ لِوَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ إيتَاءُ الزَّكَاةِ وَالْإِيتَاءُ هو
التَّمْلِيكُ وَالدَّفْعُ إلَى الْمُكَاتَبِ تَمْلِيكٌ فَأَمَّا الْإِعْتَاقُ
فَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ
وَالثَّانِي ما أَشَارَ إلَيْهِ سَعِيدُ بن جُبَيْرٍ فقال لَا يُعْتَقُ من
الزَّكَاةِ مَخَافَةَ جَرِّ الْوَلَاءِ وَمَعْنَى هذا الْكَلَامِ أَنَّ
الْإِعْتَاقَ يُوجِبُ الْوَلَاءَ للعتق ( ( ( للمعتق ) ) ) فَكَانَ حَقُّهُ فيه
بَاقِيًا ولم يَنْقَطِعْ من كل وَجْهٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِخْلَاصُ فَلَا
يَكُونُ عِبَادَةً وَالزَّكَاةُ عِبَادَةٌ فَلَا تَتَأَدَّى بِمَا ليس بِعِبَادَةٍ
فَأَمَّا الذي يُدْفَعُ إلَى الْمُكَاتَبِ فَيَنْقَطِعُ عنه حَقُّ الْمُؤَدِّي من
كل وَجْهٍ وَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِ بِذَلِكَ نَفْعٌ فَيَتَحَقَّقُ الْإِخْلَاصُ
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَالْغَارِمِينَ } قِيلَ الْغَارِمُ الذي عليه
الدَّيْنُ أَكْثَرُ من الْمَالِ الذي في يَدِهِ أو مِثْلُهُ أو أَقَلُّ منه لَكِنْ
ما وَرَاءَهُ ليس بِنِصَابٍ
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وفي سَبِيلِ اللَّهِ } عِبَارَةً عن جَمِيعِ الْقُرَبِ
فَيَدْخُلُ فيه كُلُّ من سَعَى في طَاعَةِ اللَّهِ تعالى وَسَبِيلِ الْخَيْرَاتِ
إذَا كان مُحْتَاجًا
وقال
____________________
(2/45)
أبو
يُوسُفَ الْمُرَادُ منه فُقَرَاءُ الْغُزَاةِ لِأَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ إذَا
أُطْلِقَ في عُرْفِ الشَّرْعِ يُرَادُ بِهِ ذلك
وقال مُحَمَّدٌ الْمُرَادُ منه الْحَاجُّ الْمُنْقَطِعُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ
رَجُلًا جَعَلَ بَعِيرًا له في سَبِيلِ اللَّهِ فَأَمَرَهُ النبي أَنْ يَحْمِلَ
عليه الْحَاجَّ
وقال الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْغَازِي وَإِنْ كان غَنِيًّا
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ اعْتِبَارِ حُدُوثِ الْحَاجَةِ
وَاحْتُجَّ بِمَا رُوِيَ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي اللَّهُ عنه عن النبي
أَنَّهُ قال لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا في سَبِيلِ اللَّهِ أو ابْنِ
السَّبِيلِ أو رَجُلٍ له جَارٌ مِسْكِينٌ تَصَدَّقَ عليه فَأَعْطَاهَا له
وَعَنْ عَطَاءِ بن يَسَارٍ عن النبي أَنَّهُ قال لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ إلَّا
لِخَمْسٍ الْعَامِلِ عليها وَرَجُلٍ اشْتَرَاهَا وَغَارِمٍ وَغَازٍ في سَبِيلِ
اللَّهِ وَفَقِيرٍ تُصُدِّقَ عليه فَأَهْدَاهَا إلَى غَنِيٍّ نَفَى حِلَّ الصَّدَقَةِ
لِلْأَغْنِيَاءِ وَاسْتَثْنَى الْغَازِيَ منهم وَالِاسْتِثْنَاءُ من النَّفْيِ
إثْبَاتٌ فَيَقْتَضِي حِلَّ الصَّدَقَةِ لِلْغَازِي الْغَنِيِّ
وَلَنَا قَوْلُ النبي لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ
وَقَوْلُهُ أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ من أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا في
فُقَرَائِكُمْ جَعَلَ الناس قِسْمَيْنِ قِسْمًا يُؤْخَذُ منهم وَقِسْمًا يُصْرَفُ
إلَيْهِمْ فَلَوْ جَازَ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَى الْغَنِيِّ لَبَطَلَتْ
الْقِسْمَةُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْغَازِي فَمَحْمُولٌ على حَالِ حُدُوثِ الْحَاجَةِ
وَسَمَّاهُ غَنِيًّا على اعْتِبَارِ ما كان قبل حُدُوثِ الْحَاجَةِ وهو أَنْ
يَكُونَ غَنِيًّا ثُمَّ تَحْدُثُ له الْحَاجَةُ بِأَنْ كان له دَارٌ يَسْكُنُهَا
وَمَتَاعٌ يَمْتَهِنُهُ وَثِيَابٌ يَلْبَسُهَا وَلَهُ مع ذلك فَضْلُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ
حتى لَا تَحِلَّ له الصَّدَقَةُ ثُمَّ يَعْزِمُ على الْخُرُوجِ في سَفَرِ غَزْوٍ
فَيَحْتَاجُ إلَى آلَاتِ سَفَرِهِ وَسِلَاحٍ يَسْتَعْمِلُهُ في غَزْوِهِ
وَمَرْكَبٍ يَغْزُو عليه وَخَادِمٍ يَسْتَعِينُ بِخِدْمَتِهِ على ما لم يَكُنْ
مُحْتَاجًا إلَيْهِ في حَالِ إقَامَتِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يعطي من الصَّدَقَاتِ ما
يَسْتَعِينُ بِهِ في حَاجَتِهِ التي تَحْدُثُ له في سَفَرِهِ وهو في مَقَامِهِ
غَنِيٌّ بِمَا يَمْلِكُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ في حَالِ إقَامَتِهِ
فَيَحْتَاجُ في حَالِ سَفَرِهِ فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ
لِغَنِيٍّ إلَّا لِغَازٍ في سَبِيلِ اللَّهِ على من كان غَنِيًّا في حَالِ
مُقَامِهِ فيعطي بَعْضَ ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِسَفَرِهِ لِمَا أَحْدَثَ السَّفَرُ
له من الْحَاجَةِ إلَّا أَنَّهُ يعطي حين يعطي وهو غَنِيٌّ
وَكَذَا تَسْمِيَةُ الْغَارِمِ غَنِيًّا في الحديث على اعْتِبَارِ ما كان قبل
حُلُولِ الْغُرْمِ بِهِ وقد حَدَثَتْ له الْحَاجَةُ بِسَبَبِ الْغُرْمِ وَهَذَا
لِأَنَّ الغنى اسْمٌ لِمَنْ يستغني عَمَّا يَمْلِكُهُ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ قبل
حُدُوثِ الْحَاجَةِ فَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَابْنِ السَّبِيلِ } فَهُوَ الْغَرِيبُ الْمُنْقَطِعُ
عن مَالِهِ وَإِنْ كان غَنِيًّا في وَطَنِهِ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ في الْحَالِ وقد
رَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا
في سَبِيلِ اللَّهِ أو ( ( ( وابن ) ) ) ابن السَّبِيلِ الحديث وَلَوْ صُرِفَ إلَى
وَاحِدٍ من هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ يَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُصْرَفَ إلَى ثَلَاثَةٍ من كل
صِنْفٍ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ } إلَى آخِرِ الْأَصْنَافِ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ
الصَّدَقَاتِ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ في الْآيَةِ على الشَّرِكَةِ فَيَجِبُ
إيصَالُ كل صَدَقَةٍ إلَى كل صِنْفٍ إلَّا أَنَّ الِاسْتِيعَابَ غَيْرُ مُمْكِنٍ
فَيُصْرَفُ إلَى ثَلَاثَةٍ من كل صِنْفٍ إذْ الثَّلَاثَةُ أَدْنَى الْجَمْعِ
الصَّحِيحِ
وَلَنَا السُّنَّةُ الْمَشْهُورَةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَعَمَلُ
الْأَئِمَّةِ إلَى يَوْمِنَا هذا وَالِاسْتِدْلَالُ
أَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ النبي لِمُعَاذٍ حين بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ فَإِنْ
أَجَابُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عليهم صَدَقَةً
تُؤْخَذُ من أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ في فُقَرَائِهِمْ ولم يذكر الْأَصْنَافَ
الْأُخَرَ
وَعَنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال بَعَثَ عَلِيٌّ رضي
اللَّهُ عنه وهو بِالْيَمَنِ إلَى النبي مُذْهَبَةً في تُرَابِهَا فَقَسَمَهَا
النبي بين الْأَقْرَعِ بن حَابِسٍ وَبَيْنَ زَيْدِ الْخَيْلِ وعيينة ( ( ( وبين )
) ) بن حِصْنٍ وَعَلْقَمَةَ بن عُلَاثَةَ فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ
وَقَالُوا تُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ فقال النبي إنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ
وَلَوْ كان كُلُّ صَدَقَةٍ مَقْسُومَةً على الثَّمَانِيَةِ بِطَرِيقِ
الِاسْتِحْقَاقِ لَمَا دَفَعَ النبي الْمُذْهَبَةَ إلَى الْمُؤَلَّفَةِ
قَلُوبُهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ
وَأَمَّا إجْمَاع الصَّحَابَةِ فإنه رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان
إذَا جَمَعَ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي من الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ نَظَرَ منها ما كان
مَنِيحَةَ اللَّبَنِ فَيُعْطِيهَا لِأَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ على قَدْرِ ما
يَكْفِيهِمْ وكان يُعْطِي الْعَشَرَةَ لِلْبَيْتِ الْوَاحِدِ ثُمَّ يقول عَطِيَّةٌ
تَكْفِي خَيْرٌ من عَطِيَّةٍ لَا تَكْفِي أو كَلَامٌ نحو هذا
وروى عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ أتي بِصَدَقَةٍ فَبَعَثَهَا إلَى أَهْلِ
بَيْتٍ وَاحِدٍ
وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال هَؤُلَاءِ أَهْلُهَا فَفِي أَيِّ
صِنْفٍ وَضَعْتَهَا أَجْزَأَكَ وَكَذَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه
أَنَّهُ قال كَذَلِكَ
وَأَمَّا عَمَلُ الْأَئِمَّةِ فإنه لم يُذْكَرْ عن أَحَدٍ من الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ
تَكَلَّفَ طَلَبَ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ فَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ مع ما أَنَّهُ لو
تَكَلَّفَ الْإِمَامُ أَنْ يَظْفَرَ بِهَؤُلَاءِ الثَّمَانِيَةِ ما قَدَرَ على
____________________
(2/46)
ذلك
وَكَذَلِكَ لم يُذْكَرْ عن أَحَدٍ من أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ أَنَّهُ فَرَّقَ
صَدَقَةً وَاحِدَةٍ على هَؤُلَاءِ وَلَوْ كان الْوَاجِبُ هو الْقِسْمَةُ على
السَّوِيَّةِ بَيْنَهُمْ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَقْسِمُوهَا كَذَلِكَ وَيُضَيِّعُوا
حُقُوقَهُمْ
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِصَرْفِ
الصَّدَقَاتِ إلَى هَؤُلَاءِ بِأَسَامِيَ مُنْبِئَةٍ عن الْحَاجَةِ فَعُلِمَ
أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ بِالصَّرْفِ إلَيْهِمْ لِدَفْعِ حَاجَتِهِمْ وَالْحَاجَةُ
في الْكُلِّ وَاحِدَةٌ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَسَامِي
وَأَمَّا الْآيَةُ فَفِيهَا بَيَانُ مَوَاضِعِ الصَّدَقَاتِ وَمَصَارِفِهَا
وَمُسْتَحَقِّيهَا لِأَنَّ اللَّامَ لِلِاخْتِصَاصِ وهو أَنَّهُمْ الْمُخْتَصُّونَ
بهذا الْحَقِّ دُونَ غَيْرِهِمْ لَا لِلتَّسْوِيَةِ لُغَةً وإنما ( ( ( إنما ) ) )
الصِّيغَةُ لِلشَّرِكَةِ وَالتَّسْوِيَةُ لُغَةً حَرْفٌ بَيِّنٌ أَلَا تَرَى
أَنَّهُ إذَا قِيلَ الْخِلَافَةُ لِبَنِي الْعَبَّاسِ وَالسِّدَانَةُ لِبَنِي عبد
الدَّارِ وَالسِّقَايَةُ لِبَنِي هَاشِمٍ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُمْ الْمُخْتَصُّونَ
بِذَلِكَ لَا حَقَّ فيها لِغَيْرِهِمْ لِأَنَّهَا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ
بِالسَّوِيَّةِ وَلَوْ قِيلَ الْخِلَافَةُ بين بَنِي الْعَبَّاسِ وَالسِّدَانَةُ
بين بَنِي عبد الدَّارِ وَالسِّقَايَةُ بين بَنِي هَاشِمٍ كان خَطَأً وَلِهَذَا
قال أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قال ما لي لِفُلَانٍ وَلِلْمَوْتَى أَنَّهُ كُلُّهُ
لِفُلَانٍ وَلَوْ قال ما لي بين فُلَانٍ وَبَيْنَ الْمَوْتَى كان لِفُلَانٍ
نِصْفُهُ وَلَوْ كان الْأَمْرُ على ما قَالَهُ الشَّافِعِيُّ إن الصَّدَقَةَ
تُقْسَمُ بين الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ على السَّوِيَّةِ لَقَالَ إنَّمَا
الصَّدَقَاتُ بين الْفُقَرَاءِ
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ من قال ثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ أَنَّهُ
يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ كما إذَا قال ثُلُثُ مَالِي بين فُلَانٍ
وَفُلَانٍ
وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ هُنَاكَ ليس مُوجَبُ الصِّيغَةِ إذْ الصِّيغَةُ
لَا تُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ وَالتَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا بَلْ مُوجَبُ الصِّيغَةِ
ما قِلْنَا إلَّا أَنَّ في بَابِ الْوَصِيَّةِ لَمَّا جُعِلَ الثُّلُثُ حَقًّا
لَهُمَا دُونَ غَيْرِهِمَا وهو شَيْءٌ مَعْلُومٌ لَا يَزِيدُ بَعْدَ الْمَوْتِ
وَلَا يُتَوَهَّمُ له عَدَدٌ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى من الْآخَرِ فَقَسَمَ
بَيْنَهُمَا على السَّوَاءِ نَظَرًا لَهُمَا جميعا فَأَمَّا الصَّدَقَاتُ
فَلَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ مُتَعَيِّنَةٍ لَا تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالْمَدَدَ
حتى يُحَرَّمَ الْبَعْضُ بِصَرْفِهَا إلَى الْبَعْضِ بَلْ يُرْدِفُ بَعْضُهَا
بَعْضًا وإذا فَنِيَ مَالٌ يَجِيءُ مَالٌ آخَرُ وإذا مَضَتْ سَنَةٌ تَجِيءُ سَنَةٌ
أُخْرَى بِمَالٍ جَدِيدٍ وَلَا انْقِطَاعَ لِلصَّدَقَاتِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
فإذا صَرَفَ الْإِمَامُ صَدَقَةً يَأْخُذُهَا من قَوْمٍ إلَى صِنْفٍ منهم لم
يَثْبُتْ الْحِرْمَانُ لِلْبَاقِينَ بَلْ يُحْمَلُ إلَيْهِ صَدَقَةٌ أُخْرَى
فَيَصْرِفُ إلَى فَرِيقٍ آخَرَ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الشَّرِكَةِ وَالتَّسْوِيَةِ
في كل مَالٍ يُحْمَلُ إلَى الْإِمَامِ من الصَّدَقَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَكَمَا لَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى الْغَنِيِّ لَا يَجُوزُ صَرْفُ
جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَةِ وَالْوَاجِبَةِ إلَيْهِ كَالْعُشُورِ
وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {
إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ }
وَقَوْلُ النبي لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ مَالٌ
تَمَكَّنَ فيه الْخَبَثُ لِكَوْنِهِ غُسَالَةُ الناس لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ لهم
بِهِ من الذُّنُوبِ وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْخَبِيثِ إلَّا عِنْدَ
الْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ لِلْفَقِيرِ لَا لِلْغَنِيِّ
وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَيَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الْغَنِيِّ لِأَنَّهَا
تَجْرِي مَجْرَى الْهِبَةِ وَلَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى عبد الْغَنِيِّ وَمُدَبَّرِهِ
وَأُمِّ وَلَدِهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ في الْمَدْفُوعِ نَفْعٌ لِمَوْلَاهُ وهو
غَنِيٌّ فَكَانَ دَفْعًا إلَى الْغَنِيِّ
هذا إذَا كان الْعَبْدُ مَحْجُورًا أو كان مَأْذُونًا لَكِنَّهُ لم يَكُنْ عليه
دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لِرَقَبَتِهِ لِأَنَّ كَسْبَهُ مِلْكُ الْمَوْلَى فَالدَّفْعُ
يَقَعُ إلَى الْمَوْلَى وهو غَنِيٌّ فَلَا يَجُوزُ ذلك وَإِنْ كان عليه دينا ( ( (
دين ) ) ) مُسْتَغْرِقٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ في حَقِّ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ
يَتَأَخَّرُ إلَى ما بَعْدَ الْعَتَاقِ فَكَانَ كَسْبُهُ مِلْكُ الْمَوْلَى وهو غَنِيٌّ
وَأَمَّا إذَا كان ظَاهِرًا في حَقِّ الْمَوْلَى كَدَيْنِ الإستهلاك وَدَيْنِ
التِّجَارَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ
الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا
مُسْتَغْرِقًا ظَاهِرًا في حَقِّهِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ
كَسْبَهُ عِنْدَهُمَا
وَيَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى مُكَاتَبِ الْغَنِيِّ لِأَنَّ كَسْب الْمَالِكِ
الْمُكَاتَبِ مِلْكُهُ من حَيْثُ الظَّاهِرِ وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى
بِالْعَجْزِ ولم يُوجَدْ وَأَمَّا وَلَدُ الْغَنِيِّ فَإِنْ كان صَغِيرًا لم
يَجُزْ الدَّفْعُ إلَيْهِ وَإِنْ كان فَقِيرًا لَا مَالَ له لِأَنَّ الْوَلَدَ
الصَّغِيرَ يُعَدُّ غَنِيًّا بغنا ( ( ( بغنى ) ) ) أبيه وَإِنْ كان كَبِيرًا
فَقِيرًا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ غَنِيًّا بِمَالِ أبيه فَكَانَ
كَالْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ دُفِعَ إلَى امْرَأَةٍ فَقِيرَةٍ وَزَوْجُهَا غَنِيٌّ
جَازَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي
يُوسُفَ وَرُوِيَ عنه أنها لَا تعطى إذَا قضى لها بِالنَّفَقَةِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ تَجِبُ على زَوْجِهَا
فَتَصِيرُ غَنِيَّةً بغنا ( ( ( بغنى ) ) ) الزَّوْجِ كَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ
وَإِنَّمَا شَرْطُ الْقَضَاءِ لها بِالنَّفَقَةِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَصِيرُ
دَيْنًا بِدُونِ الْقَضَاءِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْفَقِيرَةَ لَا تُعَدُّ
غَنِيَّةً بغنا ( ( ( بغنى ) ) ) زَوْجِهَا لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ على
زَوْجِهَا إلَّا مِقْدَارَ النَّفَقَةِ فَلَا تُعَدُّ بِذَلِكَ الْقَدْرِ
غَنِيَّةً وَكَذَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى فَقِيرٍ له ابْنٌ غَنِيٌّ وَإِنْ كان يَجِبُ
عليه نَفَقَتُهُ لِمَا قُلْنَا إنْ تُقَدَّرَ النَّفَقَةُ لَا يَصِيرُ غَنِيًّا
فَيَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ
وَأَمَّا صَدَقَةُ الْوَقْفِ فَيَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الْأَغْنِيَاءِ إنْ
سَمَّاهُمْ الْوَاقِفُ في الْوَقْفِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ في مُخْتَصَرِهِ وَإِنْ
لم يُسَمِّهِمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَاجِبَةٌ
ثُمَّ لَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ حَدِّ الغنا فَنَقُولُ الغنا أَنْوَاعٌ
____________________
(2/47)
ثَلَاثَةٌ
غِنًى تَجِبُ بِهِ الزَّكَاةُ وَغِنًى يَحْرُمُ بِهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ
وَقَبُولُهَا وَلَا تَجِبُ بِهِ الزَّكَاةُ
وَغِنًى يَحْرُمُ بِهِ السُّؤَالُ وَلَا يَحْرُمُ بِهِ الْأَخْذُ
أَمَّا الغنا الذي تَجِبُ بِهِ الزَّكَاةُ فَهُوَ بأن يَمْلِكَ نِصَابًا من
الْمَالِ النَّامِي الْفَاضِلِ عن الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ
وَأَمَّا الغنا الذي يَحْرُمُ بِهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَقَبُولُهَا فَهُوَ الذي
تَجِبُ بِهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وهو أَنْ يَمْلِكَ من
الْأَمْوَالِ التي لَا تَجِبُ فيها الزَّكَاةُ ما يَفْضُلُ عن حَاجَتِهِ
وَتَبْلُغُ قِيمَةُ الْفَاضِلِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ من الثِّيَابِ وَالْفُرُشِ
وَالدُّورِ والحوانيث ( ( ( والحوانيت ) ) ) وَالدَّوَابِّ وَالْخَدَمِ زِيَادَةً
على ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ ذلك لِلِابْتِذَالِ وَالِاسْتِعْمَالِ لَا
لِلتِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ فإذا فَضَلَ من ذلك ما يَبْلُغُ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ
دِرْهَمٍ وَجَبَ عليه صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَحَرُمَ عليه أَخْذُ
الصَّدَقَةِ
ثُمَّ قَدْرُ الْحَاجَةِ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ في مُخْتَصَرِهِ فقال لَا
بَأْسَ بِأَنْ يعطي من الزَّكَاةِ من له مَسْكَنٌ وما يَتَأَثَّثُ بِهِ في
مَنْزِلِهِ وَخَادِمٌ وَفَرَسٌ وَسِلَاحٌ وَثِيَابُ الْبَدَنِ وَكُتُبُ الْعِلْمِ
إنْ كان من أَهْلِهِ فَإِنْ كان له فَضْلٌ عن ذلك ما يَبْلُغُ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ
دِرْهَمٍ حَرُمَ عليه أَخْذُ الصَّدَقَةِ لِمَا رُوِيَ عن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
أَنَّهُ قال كَانُوا يُعْطُونَ الزَّكَاةَ لِمَنْ يَمْلِكُ عَشْرَةَ آلَافِ
دِرْهَمٍ من الْفَرَسِ وَالسِّلَاحِ والخادم ( ( ( والخدم ) ) ) وَالدَّارِ
وَقَوْلُهُ كَانُوا كِنَايَةً عن أَصْحَابِ رسول اللَّهِ وَهَذَا لِأَنَّ هذه
الْأَشْيَاءَ من الْحَوَائِجِ اللَّازِمَةِ التي لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ منها
فَكَانَ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا سَوَاءٌ
وَذَكَرَ في الْفَتَاوَى فِيمَنْ له حَوَانِيتُ وَدُورُ الْغَلَّةِ لَكِنْ
غَلَّتُهَا لَا تَكْفِيه وَلِعِيَالِهِ أَنَّهُ فَقِيرٌ وَيَحِلُّ له أَخْذُ
الصَّدَقَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَحِلُّ وَعَلَى
هذا إذَا كان له أَرْضٌ وَكَرْمٌ لَكِنْ غَلَّتُهُ لَا تَكْفِيه وَلِعِيَالِهِ
وَلَوْ كان عِنْدَهُ طَعَامٌ لِلْقُوتِ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِنْ كان
كِفَايَةَ شَهْرٍ تَحِلُّ له الصَّدَقَةُ وَإِنْ كان كِفَايَةَ سَنَةٍ قال
بَعْضُهُمْ لَا تَحِلُّ وقال بَعْضُهُمْ تَحِلُّ لِأَنَّ ذلك مُسْتَحِقُّ
الصَّرْفِ إلَى الْكِفَايَةِ وَالْمُسْتَحِقُّ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ
وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ادَّخَرَ لِنِسَائِهِ قُوتَ سَنَةٍ وَلَوْ كان
له كِسْوَةُ شِتَاءٍ وهو لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا في الصَّيْفِ يَحِلُّ له أَخْذُ
الصَّدَقَةِ ذَكَرَ هذه الْجُمْلَةَ في الْفَتَاوَى وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا
وقال مَالِكٌ من مَلَكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا لَا يَحِلُّ له أَخْذُ الصَّدَقَةِ
وَلَا يُبَاحُ أَنْ يُعْطَى
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَسَعْدِ بن
أبي وَقَّاصٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ
لِمَنْ له خَمْسُونَ دِرْهَمًا أو عِوَضُهَا من الذَّهَبِ وَهَذَا نَصٌّ في
الْبَابِ
وَلَنَا حَدِيثُ مُعَاذٍ حَيْثُ قال له النبي خُذْهَا من أَغْنِيَائِهِمْ
وَرُدَّهَا في فُقَرَائِهِمْ قَسَّمَ الناس قِسْمَيْنِ الْأَغْنِيَاءُ
وَالْفُقَرَاءُ فَجَعَلَ الْأَغْنِيَاءَ يُؤْخَذُ منهم وَالْفُقَرَاءَ يُرَدُّ
فِيهِمْ فَكُلُّ من لم يؤخذ ( ( ( تؤخذ ) ) ) منه يَكُونُ مَرْدُودًا فيه وما
رَوَاهُ مَالِكٌ مَحْمُولٌ على حُرْمَةِ السُّؤَالِ مَعْنَاهُ لَا يَحِلُّ سُؤَالُ
الصَّدَقَةِ لِمَنْ له خَمْسُونَ دِرْهَمًا أو عوضها ( ( ( عوضهما ) ) ) من
الذَّهَبِ أو يُحْمَلُ ذلك على كَرَاهَةِ الْأَخْذِ لِأَنَّ من له سَدَادٌ من
الْعَيْشِ فَالتَّعَفُّفُ أَوْلَى لِقَوْلِ النبي من اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ
وَمَنْ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ
وقال الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى رَجُلٍ له مَالٌ كَثِيرٌ وَلَا
كَسْبَ له وهو يَخَافُ الْحَاجَةَ وَيَجُوزُ له الْأَخْذُ وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ
هذا دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْغَنِيِّ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا
وَخَوْفُ حُدُوثِ الْحَاجَةِ في الثَّانِي لَا يَجْعَلُهُ فَقِيرًا في الْحَالِ
أَلَا ترى ( ( ( تر ) ) ) أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ ذلك في سُقُوطِ الْوُجُوبِ حتى
تَجِبَ عليه الزَّكَاةُ فَكَذَا في جَوَازِ الْأَخْذِ
وَلَوْ كان الْفَقِيرُ قَوِيًّا مُكْتَسِبًا يَحِلُّ له أَخْذُ الصَّدَقَةِ
عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَحِلُّ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النبي لَا تَحِلُّ
الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ
وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ
وَلَنَا ما روى عن سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قال حُمِلَ إلَى رسول اللَّهِ
صَدَقَةٌ فقال لِأَصْحَابِهِ كُلُوا ولم يَأْكُلْ
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ أَصْحَابَهُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
كَانُوا كلهم زَمْنَى بَلْ كان بَعْضُهُمْ قَوِيًّا مُكْتَسِبًا
وما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مَحْمُولٌ على حُرْمَةِ الطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ فإن ذلك
لِلزَّجْرِ عن الْمَسْأَلَةِ وَالْحَمْلِ على الْكَسْبِ وَالدَّلِيلُ عليه ما
رُوِيَ أَنَّ النبي قال لِلرَّجُلَيْنِ الذين ( ( ( اللذين ) ) ) سَأَلَاهُ إنْ
شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا منه وَلَا حَقَّ فيها لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ
مُكْتَسِبٍ وَلَوْ كان حَرَامًا لم يَكُنْ النبي لِيُعْطِيَهُمَا الْحَرَامَ
وَلَكِنْ قال ذلك لِلزَّجْرِ عن السُّؤَالِ وَالْحَمْلِ على الْكَسْبِ كَذَا هذا
وَيُكْرَهُ لِمَنْ عليه الزَّكَاةُ أَنْ يُعْطِيَ فَقِيرًا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أو
أَكْثَرَ وَلَوْ أَعْطَى جَازَ وَسَقَطَ عنه الزَّكَاةُ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ وَلَا يَسْقُطُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن هذا نِصَابٌ كَامِلٌ فَيَصِيرُ غَنِيًّا بهذا الْمَالِ وَلَا
يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى الْغَنِيِّ
وَلَنَا أَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ غَنِيًّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ له فَأَمَّا
قَبْلَهُ فَقَدْ كان فَقِيرًا فَالصَّدَقَةُ لَاقَتْ كَفَّ الْفَقِيرِ فَجَازَتْ
وَهَذَا لِأَنَّ الغنا يَثْبُتُ بِالْمِلْكِ وَالْقَبْضُ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ
فَيَقْبِضُ ثُمَّ يَمْلِكُ الْمَقْبُوضَ ثُمَّ يَصِيرُ غَنِيًّا أَلَا تَرَى
أَنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّ الْمُنْتَفِعَ بِهِ
____________________
(2/48)
يَصِيرُ
هو الْغَنِيُّ
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَإِنْ يُغْنِي بِهِ إنْسَانًا أَحَبُّ إلَيَّ
ولم يُرِدْ بِهِ الْإِغْنَاءَ الْمُطْلَقِ لِأَنَّ ذلك مَكْرُوهٌ لِمَا بَيَّنَّا
وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمُقَيَّدَ وهو أَنَّهُ يُغْنِيهِ يَوْمًا أو أَيَّامًا
عن الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ وُضِعَتْ لِمِثْلِ هذه الْإِغْنَاءِ قال
النبي في صَدَقَةِ الْفِطْرِ أَغْنُوهُمْ عن الْمَسْأَلَةِ في مِثْلِ هذا
الْيَوْمِ
هذا إذَا أعطى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَيْسَ عليه دَيْنٌ وَلَا له عِيَالٌ فَإِنْ
كان عليه دَيْنٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَصَدَّق عليه قَدْرَ دَيْنِهِ وَزِيَادَةً
ما دُونَ الْمِائَتَيْنِ وَكَذَا إذَا كان له عِيَالٌ يَحْتَاجُ إلَى نَفَقَتِهِمْ
وَكِسْوَتِهِمْ
وَأَمَّا الغنا الذي يَحْرُمُ بِهِ السُّؤَالُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ له سَدَادُ
عَيْشٍ بِأَنْ كان له قُوتُ يَوْمِهِ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من
سَأَلَ الناس عن ظَهْرِ غِنًى فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ من جَمْرِ جَهَنَّمَ قِيلَ
يا رَسُولَ اللَّهِ وما ظَهْرُ الغنا قال أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ عِنْدَهُ ما
يُغَدِّيهِمْ أو يُعَشِّيهِمْ فَإِنْ لم يَكُنْ له قُوتُ يَوْمِهِ وَلَا ما
يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ يَحِلُّ له أَنْ يَسْأَلَ لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ
الضَّرُورَةِ وقد قال اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى
التَّهْلُكَةِ } وَتَرْكُ السُّؤَالِ في هذا الْحَالِ إلْقَاءُ النَّفْسِ في
التَّهْلُكَةِ وأنه حَرَامٌ فَكَانَ له أَنْ يَسْأَلَ بَلْ يَجِبُ عليه ذلك
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى
الْكَافِرِ بِلَا خِلَافٍ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ رضي اللَّهُ عنه خُذْهَا من
أَغْنِيَائِهِمْ وَرَدَّهَا في فُقَرَائِهِمْ أَمْرٌ بِوَضْعِ الزَّكَاةِ في
فُقَرَاءِ من يُؤْخَذُ من أَغْنِيَائِهِمْ وَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فَلَا يَجُوزُ
وَضْعُهَا في غَيْرِهِمْ وَأَمَّا ما سِوَى الزَّكَاةِ من صَدَقَةِ الْفِطْرِ
وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ فَلَا شَكَّ في أَنَّ صَرْفَهَا إلَى فُقَرَاءِ
الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ لِأَنَّ الصَّرْفَ إلَيْهِمْ يَقَعُ إعَانَةً لهم على
الطَّاعَةِ وَهَلْ يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ قال أبو حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٌ يَجُوزُ
وقال أبو يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وهو قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ
وَجْهُ قَوْلِهِمْ الِاعْتِبَارُ بِالزَّكَاةِ وَبِالصَّرْفِ إلَى الْحَرْبِيِّ
وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى { إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ من
سَيِّئَاتِكُمْ } من غَيْرِ فَصْلٍ بين فَقِيرٍ وَفَقِيرٍ وَعُمُومُ هذا النَّصِّ
يَقْتَضِي جَوَازَ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ منه
الزَّكَاةَ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ رضي اللَّهُ عنه
وقَوْله تَعَالَى في الْكَفَّارَاتِ { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ من أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } من غَيْرِ فَصْلٍ بين
مِسْكِينٍ وَمِسْكِينٍ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ منه الْحَرْبِيَّ بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ
صَرْفَ الصَّدَقَةِ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ من بَابِ إيصَالِ الْبِرِّ إلَيْهِمْ
وما نُهِينَا عن ذلك قال اللَّهُ تَعَالَى { لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عن الَّذِينَ
لم يُقَاتِلُوكُمْ في الدِّينِ ولم يُخْرِجُوكُمْ من دِيَارِكُمْ أَنْ
تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }
وَظَاهِرُ هذا النَّصِّ يَقْتَضِي جَوَازَ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ لِأَنَّ
أَدَاءَ الزَّكَاةِ بِرٌّ بِهِمْ إلَّا أَنَّ الْبِرَّ بِطَرِيقِ الزَّكَاةِ
غَيْرُ مُرَادٍ عَرَفْنَا ذلك بِحَدِيثِ مُعَاذٍ رضي اللَّهُ عنه وَإِنَّمَا لَا
يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الْحَرْبِيِّ لِأَنَّ في ذلك إعَانَةً لهم على قِتَالِنَا
وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَهَذَا الْمَعْنَى لم يُوجَدْ في الذِّمِّيِّ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ من بَنِي هَاشِمٍ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ
أَنَّهُ قال يا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ
الناس وَعَوَّضَكُمْ منها بِخُمُسِ الْخُمُسِ من الْغَنِيمَةِ
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال إنَّ الصَّدَقَةَ مُحَرَّمَةٌ على بَنِي هَاشِمٍ
وَرُوِيَ أَنَّهُ رَأَى في الطَّرِيقِ تَمْرَةً فقال لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ
تَكُونَ من الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا ثُمَّ قال إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ
يا بَنِي هَاشِمٍ غُسَالَةَ أَيْدِي الناس وَالْمَعْنَى ما أَشَارَ إلَيْهِ أنها
من غُسَالَةِ الناس فَيَتَمَكَّنُ فيها الْخَبَثُ فَصَانَ اللَّهُ تَعَالَى بَنِي
هَاشِمٍ عن ذلك تَشْرِيفًا لهم وَإِكْرَامًا وَتَعْظِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ من مَوَالِيهمْ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي
اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال اسْتَعْمَلَ رسول اللَّهِ أَرْقَمَ بن أبي أَرْقَمَ
الزُّهْرِيَّ على الصَّدَقَاتِ فَاسْتَتْبَعَ أَبَا رَافِعٍ فَأَتَى النبي
فَسَأَلَهُ فقال يا أَبَا رَافِعٍ إنَّ الصَّدَقَةَ حَرَامٌ على مُحَمَّدٍ وَآلِ
مُحَمَّدٍ وأن مَوَالِيَ الْقَوْمِ من أَنْفُسِهِمْ أَيْ في حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ
لِإِجْمَاعِنَا على أَنَّ مولى الْقَوْمِ ليس منهم في جَمِيعِ الْأَحْكَامِ أَلَا
تَرَى أَنَّهُ ليس بِكُفْءٍ لهم وَكَذَا مولى الْمُسْلِمِ إذَا كان كَافِرًا
تُؤْخَذُ منه الْجِزْيَةُ وَمَوْلَى التَّغْلِبِيَّ تُؤْخَذُ منه الْجِزْيَةُ
وَلَا تُؤْخَذُ منه الصَّدَقَةُ الْمُضَاعَفَةُ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ منه في
حُرْمَةُ الصَّدَقَةِ خَاصَّةً وَبَنُو هَاشِمٍ الَّذِينَ تُحَرَّمُ عليهم
الصَّدَقَاتُ آلُ الْعَبَّاسِ وَآلُ عَلِيٍّ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَقِيلٍ
وَوَلَدُ الْحَارِثِ بن عبد الْمُطَّلَبِ كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ
وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ مَنَافِعُ الْأَمْلَاكِ مُتَّصِلَةً بين الْمُؤَدِّي
وَبَيْنَ المؤدي إلَيْهِ لِأَنَّ ذلك يَمْنَعُ وُقُوعَ الْأَدَاءِ تَمْلِيكًا من
الْفَقِيرِ من كل وَجْهٍ بَلْ يَكُونُ صَرْفًا إلَى نَفْسِهِ من وَجْهٍ وَعَلَى
هذا يَخْرُجُ الدَّفْعُ إلَى الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ عَلَوَا وَالْمَوْلُودِينَ
وَإِنْ سَفَلُوا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْتَفِعُ بِمَالِ الْآخَرِ وَلَا يَجُوزُ
أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ الزَّكَاةَ إلَى زَوْجَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ وفي دَفْعِ
الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا اخْتِلَافٌ بين
____________________
(2/49)
أبي
حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى هَؤُلَاءِ وَالدَّفْعُ
إلَيْهِمْ أَوْلَى لِأَنَّ فيه أَجْرَيْنِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الصِّلَةِ
وَكَوْنُهُ دَفْعًا إلَى نَفْسِهِ من وَجْهٍ لَا يَمْنَعُ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ
قال النبي نَفَقَةُ الرَّجُلِ على نَفْسِهِ صَدَقَةٌ وَعَلَى عِيَالِهِ صَدَقَةٌ
وَكُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ وَيَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى من سِوَى
الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ من الْأَقَارِبِ وَمِنْ الْإِخْوَةِ
وَالْأَخَوَاتِ وَغَيْرِهِمْ لِانْقِطَاعِ مَنَافِعِ الْأَمْلَاكِ بَيْنَهُمْ
وَلِهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَعْضِ على الْبَعْضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
هذا الذي ذكرنا ( ( ( ذكرناه ) ) ) إذَا دَفَعَ الصَّدَقَةَ إلَى إنْسَانٍ على
عِلْمٍ منه بِحَالِهِ أَنَّهُ مَحِلُّ الصَّدَقَةِ فَأَمَّا إذَا لم يَعْلَمْ
بِحَالِهِ وَدَفَعَ إلَيْهِ فَهَذَا على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ في وَجْهٍ هو على
الْجَوَازِ حتى يَظْهَرَ خطأه وفي وَجْهٍ على الْفَسَادِ حتى يَظْهَرَ صَوَابُهُ
وفي وَجْهٍ فيه تَفْصِيلٌ على الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ
أَمَّا الذي هو على الْجَوَازِ حتى يَظْهَرَ خطأه فَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ زَكَاةَ
مَالِهِ إلَى رَجُلٍ ولم يَخْطِرْ بِبَالِهِ وَقْتَ الدَّفْعِ ولم يَشُكَّ في
أَمْرِهِ فَدَفَعَ إلَيْهِ فَهَذَا على الْجَوَازِ إلَّا إذَا ظَهَرَ بَعْدَ
الدَّفْعِ أَنَّهُ ليس مَحِلُّ الصَّدَقَةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ
الظَّاهِرَ أَنَّهُ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَى مَحَلِّهَا حَيْثُ نَوَى الزَّكَاةَ
عِنْدَ الدَّفْعِ وَالظَّاهِرُ لَا يَبْطُلُ إلَّا بِالْيَقِينِ فإذا ظَهَرَ
بِيَقِينٍ أَنَّهُ ليس بِمَحِلِّ الصَّدَقَةِ ظَهَرَ أَنَّهُ لم يَجُزْ وَتَجِبُ
عليه الْإِعَادَةُ وَلَيْسَ له أَنْ يَسْتَرِدَّ ما دُفِعَ إلَيْهِ وَيَقَعُ
تَطَوُّعًا حتى أَنَّهُ لو خَطَر بِبَالِهِ بَعْدَ ذلك وَشَكَّ فيه ولم يَظْهَرْ
له شَيْءٌ لَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَبْطُلُ
بِالشَّكِّ
وَأَمَّا الذي هو على الْفَسَادِ حتى يَظْهَرَ جَوَازُهُ فَهُوَ أَنَّهُ خَطَرَ
بِبَالِهِ وَشَكَّ في أَمْرِهِ لَكِنَّهُ لم يَتَحَرَّ وَلَا طَلَبَ الدَّلِيلَ أو
تَحَرَّى بِقَلْبِهِ لَكِنَّهُ لم يَطْلُبْ الدَّلِيلَ فَهُوَ على الْفَسَادِ
إلَّا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ مَحَلٌّ بِيَقِينٍ أو بِغَالِبِ الرَّأْيِ فَحِينَئِذٍ
يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمَّا شَكَّ وَجَبَ عليه التَّحَرِّي وَالصَّرْفُ إلَى من
وَقَعَ عليه تَحَرِّيهِ فإذا تُرِكَ لم يُوجَدْ الصَّرْفُ إلَى من أُمِرَ
بِالصَّرْفِ إلَيْهِ فَيَكُونُ فَاسِدًا إلَّا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ مَحَلٌّ
فَيَجُوزُ
وَأَمَّا الْوَجْهُ الذي فيه تَفْصِيلٌ على الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ فَهُوَ إنْ
خَطَرَ بِبَالِهِ وَشَكَّ في أَمْرِهِ وَتَحَرَّى وَوَقَعَ تَحَرِّيهِ على أَنَّهُ
مَحَلُّ الصَّدَقَةِ فَدَفَعَ إلَيْهِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا إنْ لم
يَتَحَرَّ وَلَكِنْ سَأَلَ عن حَالِهِ فَدَفَعَ أو رآه في صَفِّ الْفُقَرَاءِ أو
على زِيِّ الْفُقَرَاءِ فَدَفَعَ فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كان مَحِلًّا جَازَ
بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا إذَا لم يَظْهَرْ حَالُهُ عِنْدَهُ وَأَمَّا إذَا ظَهَرَ
أَنَّهُ لم يَكُنْ مَحَلًّا بِأَنْ ظَهَرَ أَنَّهُ غَنِيٌّ أو هَاشِمِيٌّ أو مولي
لِهَاشِمِيٍّ أو كَافِرٌ أو وَالِدٌ أو مَوْلُودٌ أو زَوْجَةٌ يَجُوزُ وَتَسْقُطُ
عنه الزَّكَاةُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا يلزمه ( ( ( تلزمه ) )
) الْإِعَادَةُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ
وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ
وَرَوَى محمد بن شُجَاعٍ عن أبي حَنِيفَةَ في الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ
وَالزَّوْجَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كما قال أبو يُوسُفَ وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ
عَبْدُهُ أو مُدَبَّرُهُ أو أُمُّ وَلَدِهِ أو مُكَاتَبُهُ لم يَجُزْ وَعَلَيْهِ
الْإِعَادَةُ في قَوْلِهِمْ جميعا وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُسْتَسْعَاهُ لم يَجُزْ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ حُرٌّ عليه دَيْنٌ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ هذا مُجْتَهِدٌ ظَهَرَ خطأه بِيَقِينٍ فَبَطَلَ
اجْتِهَادُهُ وَكَمَا لو تَحَرَّى في ثِيَابٍ أو أَوَانِيَ وَظَهَرَ خطأه فيها
وَكَمَا لو صَرَفَ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ عَبْدُهُ أو مُدَبَّرُهُ أو أُمُّ
وَلَدِهِ أو مُكَاتَبُهُ
وَلَهُمَا أَنَّهُ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَى من أُمِرَ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ
فَيَخْرُجُ عن الْعُهْدَةِ كما إذَا صَرَفَ ولم يَظْهَرْ حَالُهُ بِخِلَافِهِ
وَدَلَالَةُ ذلك أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالصَّرْفِ إلَى من هو مَحَلٌّ عِنْدَهُ وفي
ظَنِّهِ وَاجْتِهَادِهِ لَا على الْحَقِيقَةِ إذْ لَا عِلْمَ له بِحَقِيقَةِ الغنا
وَالْفَقْرِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْوُقُوفِ على حَقِيقَتِهِمَا وقد صَرَفَ إلَى من
أَدَّى اجْتِهَادُهُ أَنَّهُ مَحَلٌّ فَقَدْ أتى بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَيَخْرُجُ
عن الْعُهْدَةِ بِخِلَافِ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالثَّوْبِ
الطَّاهِرِ وَالْمَاءِ الطَّاهِرِ مُمْكِنٌ فلم يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ فلم
يَجُزْ وَبِخِلَافِ ما إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ عَبْدُهُ لِأَنَّ الْوُقُوفَ على ذلك
بِأَمَارَاتٍ تَدُلُّ عليه مُمْكِنٌ
على أَنَّ مَعْنَى صَرْفِ الصَّدَقَةِ وهو التَّمْلِيكُ هُنَاكَ لَا يُتَصَوَّرُ
لِاسْتِحَالَةِ تَمْلِيكِ الشَّيْءِ من نَفْسِهِ وَقَوْلُهُ ظَهَرَ خطأه بِيَقِينٍ
مَمْنُوعٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إن لو قُلْنَا أَنَّهُ صَارَ مَحِلَّ
الصَّدَقَةِ بِاجْتِهَادِهِ فَلَا نَقُولُ كَذَلِكَ بَلْ الْمَحَلُّ الْمَأْمُورُ
بِالصَّرْفِ إلَيْهِ شَرْعًا حَالَةُ الِاشْتِبَاهِ وهو من وَقَعَ عليه التَّحَرِّي
وَعَلَى هذا لَا يَظْهَرُ خطأه
وَلَهُمَا في الصَّرْفِ إلَى ابْنِهِ وهو لَا يَعْلَمُ بِهِ الحديث الْمَشْهُورَ
وهو ما رُوِيَ أَنَّ يَزِيدَ بن مَعْنٍ دَفَعَ صَدَقَتَهُ إلَى رَجُلٍ وَأَمَرَهُ
بِأَنْ يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ لَيْلًا فَيَتَصَدَّقَ بها فَدَفَعَهَا إلَى ابْنِهِ
مَعْنٍ فلما أَصْبَحَ رَآهَا في يَدِهِ فقال له لم أُرِدْك بها فَاخْتَصَمَا إلَى
رسول اللَّهِ فقال يا مَعْنٌ لَك ما أَخَذْتَ وَيَا يَزِيدُ لَك ما نَوَيْتَ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حَوَلَانُ الْحَوْلِ فَلَيْسَ من شَرَائِطِ جَوَازِ أَدَاءِ
الزَّكَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ مَالِكٍ من شَرَائِطِ
الْجَوَازِ فَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا
لِمَالِكٍ وَالْكَلَامُ في التَّعْجِيلِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَصْلِ
الْجَوَازِ وفي بَيَانِ
____________________
(2/50)
شَرَائِطِهِ
وفي بَيَانِ حُكْمِ الْمُعَجَّلِ إذَا لم يَقَعْ زَكَاةً
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا
وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ أَدَاءُ الْوَاجِبِ وَأَدَاءُ
الْوَاجِبِ وَلَا وُجُوبَ لَا يَتَحَقَّقُ وَلَا وُجُوبَ قبل الْحَوْلِ لِقَوْلِ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا زَكَاةَ في مَالٍ حتى يَحُولَ عليه الْحَوْلُ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم اسْتَسْلَفَ من
الْعَبَّاسِ زَكَاةَ سَنَتَيْنِ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم الْجَوَازُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أن أَدَاءَ الزَّكَاةِ أَدَاءُ الْوَاجِبِ وَلَا وُجُوبَ قبل
حَوَلَانِ الْحَوْلِ فَالْجَوَابُ عنه من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَمْنُوعٌ
أَنَّهُ لَا وُجُوبَ قبل حَوَلَانِ الْحَوْلِ بَلْ الْوُجُوبُ ثَابِتٌ قَبْلَهُ
لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وهو مِلْكُ نِصَابٍ كَامِلٍ نَامٍ أو فَاضِلٍ عن
الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ لِحُصُولِ الغنا بِهِ وَلِوُجُوبِ شُكْرِ نِعْمَةِ
الْمَالِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ من الْمَشَايِخِ من قال
بِالْوُجُوبِ تَوَسُّعًا وَتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ إلَى مُدَّةِ الْحَوْلِ
تَرْفِيهًا وَتَيْسِيرًا على أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ
فإذا عُجِّلَ فلم يَتَرَفَّهْ فَيَسْقُطُ الْوَاجِبُ كما في الدَّيْنِ
الْمُؤَجَّلِ فَمِنْهُمْ من قال بِالْوُجُوبِ لَكِنْ لَا على سَبِيلِ التَّأْكِيدِ
وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ بِآخِرِ الْحَوْلِ وَمِنْهُمْ من قال
بِالْوُجُوبِ في أَوَّلِ الْحَوْلِ لَكِنْ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وهو أَنْ
يَجِبْ أَوَّلًا في آخِرِ الْحَوْلِ ثُمَّ يَسْتَنِدُ الْوُجُوبُ إلَى أَوَّلِهِ
لِاسْتِنَادِ سَبَبِهِ وهو كَوْنُ النِّصَابِ حَوْلِيًّا فَيَكُونُ التَّعْجِيلُ
أَدَاءً بَعْدَ الْوُجُوبِ لَكِنْ بِالطَّرِيقِ الذي قُلْنَا فَيَقَعُ زَكَاةً
والثاني ( ( ( الثاني ) ) ) إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا وُجُوبَ قبل الْحَوْلِ
لَكِنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ مَوْجُودٌ وهو مِلْكُ النِّصَابِ وَيَجُوزُ أَدَاءُ
الْعِبَادَةِ قبل الْوُجُوبِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ كَأَدَاءِ
الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْجَرْحِ قبل الْمَوْتِ وَسَوَاءٌ عَجَّلَ عن نِصَابٍ
وَاحِدٍ أو اثْنَيْنِ أو أَكْثَرَ من ذلك مِمَّا يَسْتَفِيدُهُ في السَّنَةِ
عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ إلَّا عن النِّصَابِ الْمَوْجُودِ حتى لو كان له
مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ زَكَاةَ الْأَلْفِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ
ثُمَّ اسْتَفَادَ مَالًا أو رَبِحَ في ذلك الْمَالِ حتى صَارَ أَلْفَ دِرْهَمٍ
فَتَمَّ الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ جَازَ عن الْكُلِّ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ إلَّا عن الْمِائَتَيْنِ وَجْهُ قَوْلِهِ أن
التَّعْجِيلَ عَمَّا سِوَى الْمِائَتَيْنِ تَعْجِيلٌ قبل وُجُودِ السَّبَبِ فَلَا
يَجُوزُ كما لو عَجَّلَ قبل مِلْكِ الْمِائَتَيْنِ
وَلَنَا أَنَّ مِلْكَ النِّصَابِ مَوْجُودٌ في أَوَّلِ الْحَوْلِ وَالْمُسْتَفَادُ
على مِلْكِ النِّصَابِ في الْحَوْلِ كَالْمَوْجُودِ من ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ
بِدَلِيلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فيه عِنْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ فَلَوْ لم يُجْعَلْ
كَالْمَوْجُودِ في أَوَّلِ الْحَوْلِ لَمَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فيه لِقَوْلِهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا زَكَاةَ في مَالٍ حتى يَحُولَ عليه الْحَوْلُ وإذا كان
كَذَلِكَ جُعِلَتْ الْأَلْفُ كَأَنَّهَا كانت مَوْجُودَةً في ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ
لِيَصِيرَ مُؤَدِّيًا بَعْدَ وُجُودِ الْأَلْفِ تَقْدِيرًا فَجَازَ وَاَللَّهُ
تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ فَثَلَاثَةٌ أحدها ( ( ( أحدهما ) ) )
كَمَالُ النِّصَابِ في أَوَّلَ الْحَوْلِ
وَالثَّانِي كَمَالُهُ في آخِرِ الْحَوْلِ
وَالثَّالِثُ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ النِّصَابُ فِيمَا بين ذلك حتى لو عُجِّلَ
وَلَهُ في أَوَّلِ الْحَوْلِ أَقَلُّ من النِّصَابِ ثُمَّ كَمُلَ في آخِرِهِ
فَتَمَّ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ كَامِلٌ لم يَكُنْ الْمُعَجَّلُ زَكَاةً بَلْ كان
تَطَوُّعًا وَكَذَا لو عُجِّلَ وَالنِّصَابُ كَامِلٌ ثُمَّ هَلَكَ نِصْفُهُ
مَثَلًا فَتَمَّ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ غَيْرُ كَامِلٍ لم يَجُزْ التَّعْجِيلُ
وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ كَمَالُ النِّصَابِ في طَرَفَيْ
الْحَوْلِ وَلِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هو النِّصَابُ فَأَحَدُ الطَّرَفَيْنِ
حَالَ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَالطَّرَفُ الْآخَرُ حَالَ الْوُجُوبِ أو حَالَ
تَأَكُّدِ الْوُجُوبِ بِالسَّبَبِ وما بين ذلك ليس بِحَالِ الِانْعِقَادِ وَلَا
حَالِ الْوُجُوبِ إذْ تَأَكُّدُ الْوُجُوبِ بِالسَّبَبِ فَلَا مَعْنَى
لِاشْتِرَاطِ النِّصَابِ عِنْدَهُ
وَلِأَنَّ في اعْتِبَارِ كَمَالِ النِّصَابِ فِيمَا بين ذلك حَرَجًا لِأَنَّ
التُّجَّارَ يَحْتَاجُونَ إلَى النَّظَرِ في ذلك كُلَّ يَوْمٍ وَكُلَّ سَاعَةٍ
وَفِيهِ من الْحَرَجِ ما لَا يَخْفَى وَلَا حَرَجَ في مُرَاعَاةِ الْكَمَالِ في
أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ وَكَذَلِكَ جَرَتْ عَادَةُ التُّجَّارِ بِتَعَرُّفِ
رؤوس أَمْوَالِهِمْ في أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَى ذلك
في أَثْنَاءِ الْحَوْلِ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ من بَقَاءِ شَيْءٍ من النِّصَابِ
وَإِنْ قَلَّ في أَثْنَاءِ الْحَوْلِ لِيُضَمَّ الْمُسْتَفَادُ إلَيْهِ
وَلِأَنَّهُ إذَا هَلَكَ النِّصَابُ الْأَوَّلُ كُلُّهُ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ
الْحَوْلِ فَلَا يُمْكِنُ إبْقَاءُ الْمُعَجَّلِ زَكَاةً فَيَقَعُ تَطَوُّعًا
وَلَوْ كان له نِصَابٌ في أَوَّلِ الْحَوْلِ فَعَجَّلَ زَكَاتَهُ وَانْتَقَصَ
النِّصَابُ ولم يَسْتَفِدْ شيئا حتى حَالَ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ نَاقِصٌ لم
يَجُزْ التَّعْجِيلُ وَيَقَعُ الْمُؤَدَّى تَطَوُّعًا وَلَا يُعْتَبَرُ
الْمُعَجَّلُ في تَمَامِ النِّصَابِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُكْمَلُ النِّصَابُ بِمَا عُجِّلَ وَيَقَعُ زَكَاةً
وَصُورَتُهُ إذَا عَجَّلَ خَمْسَةً عن مِائَتَيْنِ ولم يَسْتَفِدْ شيئا حتى حَالَ
الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ أو عَجَّلَ شَاةً من
أَرْبَعِينَ فَحَالَ عليها الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ لم يَجُزْ
التَّعْجِيلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ جَائِزٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن المعجم ( ( ( المعجل ) ) ) وَقَعَ زَكَاةً عن كل النِّصَابِ
فَيُعْتَبَرُ في إتْمَامِ النِّصَابِ
وَلَنَا أَنَّ الْمُؤَدَّى مَالٌ أَزَالَ مِلْكَهُ عنه بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ فَلَا
يُكَمَّلُ بِهِ النِّصَابُ كما لو
____________________
(2/51)
هَلَكَ
في يَدِ الْإِمَامِ وَلَوْ اسْتَفَادَ خَمْسَةً في آخِرِ الْحَوْلِ جَازَ
التَّعْجِيلُ لِوُجُودِ كَمَالِ النِّصَابِ في طَرَفَيْ الْحَوْلِ وَلَوْ كان له
مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا خَمْسَةً فَانْتَقَصَ النِّصَابُ ثُمَّ
اسْتَفَادَ ما يُكَمِّلُ بِهِ النِّصَابَ بَعْدَ الْحَوْلِ في أَوَّلِ الْحَوْلِ
الثَّانِي وَتَمَّ الْحَوْلُ الثَّانِي وَالنِّصَابُ كَامِلٌ فَعَلَيْهِ
الزَّكَاةُ لِلْحَوْلِ الثَّانِي وما عُجِّلَ يَكُونُ تَطَوُّعًا لِأَنَّهُ
عُجِّلَ لِلْحَوْلِ الْأَوَّلِ ولم تَجِبْ عليه الزَّكَاةُ لِلْحَوْلِ الْأَوَّلِ
لِنُقْصَانِ النِّصَابِ في آخِرِ الْحَوْلِ
وَلَوْ كان له مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ خَمْسَةً منها ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ
وَالنِّصَابُ نَاقِصٌ وَدَخَلَ الْحَوْلُ الثَّانِي وهو نَاقِصٌ ثُمَّ تَمَّ
الْحَوْلُ الثَّانِي وهو كَامِلٌ لَا تُجْزِي الْخَمْسَةُ عن السَّنَةِ الْأُولَى
وَلَا عن السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ في السَّنَةِ الْأُولَى كان النِّصَابُ
نَاقِصًا في آخِرِهَا وفي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كان نَاقِصًا في أَوَّلِهَا فلم
تَجِبْ الزَّكَاةُ في السَّنَتَيْنِ فَلَا يَقَعُ الْمُؤَدَّى زَكَاةً عنهما
وَلَوْ كان له مائتا ( ( ( مائتي ) ) ) دِرْهَمٍ فَحَالَ الْحَوْلُ وَأَدَّى
خَمْسَةً منها حتى انْتَقَصَ منها خَمْسَةً ثُمَّ إنَّهُ عَجَّلَ عن السَّنَةِ
الثَّانِيَةِ خَمْسَةً حتى انْتَقَصَ منها خَمْسَةً أُخْرَى فَصَارَ الْمَالُ
مِائَةً وَتِسْعِينَ فَتَمَّ الْحَوْلُ الثَّانِي وقد اسْتَفَادَ عَشْرَةً حتى
حَالَ الْحَوْلُ على الْمِائَتَيْنِ
ذُكِرَ في الْجَامِعِ أَنَّ الخمة ( ( ( الخمسة ) ) ) التي عَجَّلَ لِلْحَوْلِ
الثَّانِي جَائِزَةٌ
طَعَنَ عِيسَى بن أَبَانَ وقال يَنْبَغِي أَنْ لَا تُجْزِئَهُ هذه الْخَمْسَةُ عن
السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْحَوْلَ الْأَوَّلَ لَمَّا تَمَّ وَجَبَتْ
الزَّكَاةُ وَصَارَتْ خَمْسَةٌ من الْمِائَتَيْنِ وَاجِبَةً وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ
يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَانْعَقَدَ الْحَوْلُ الثَّانِي وَالنِّصَابُ نَاقِصٌ
فَكَانَ تَعْجِيلُ الْخَمْسَةِ عن السَّنَةِ الثَّانِيَةِ تَعْجِيلًا حَالَ
نُقْصَانِ النِّصَابِ فلم يَجُزْ
وَالْجَوَابُ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بَعْدَ تَمَامِ السَّنَةِ الْأُولَى
وَتَمَامُ السَّنَةِ الْأُولَى يَتَعَقَّبُهُ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ من السَّنَةِ
الثَّانِيَةِ وَالْوُجُوبُ ثَبَتَ مُقَارِنًا لِذَلِكَ الْجُزْءِ وَالنِّصَابُ كان
كَامِلًا في ذلك الْوَقْتِ ثُمَّ انْتَقَصَ بَعْدَ ذلك وهو حَالُ وُجُودِ
الْجُزْءِ الثَّانِي من السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَكَانَ ذلك نُقْصَانُ النِّصَابِ
في أَثْنَاءِ الْحَوْلِ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ عِنْدَ وُجُودِ الْكَمَالِ في
طَرَفَيْهِ وقد وُجِدَ هَهُنَا فَجَازَ التَّعْجِيلُ لِوُجُودِ حَالِ كَمَالِ
النِّصَابِ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْمُعَجَّلِ إذَا لم يَقَعْ زَكَاةً أَنَّهُ إنْ وَصَلَ
إلَى يَدِ الْفَقِيرِ يَكُونُ تَطَوُّعًا سَوَاءٌ وَصَلَ إلَى يَدِهِ من يَدِ
رَبِّ الْمَالِ أو من يَدِ الْإِمَامِ أو نَائِبِهِ وهو السَّاعِي لِأَنَّهُ
حَصَلَ أَصْلُ الْقُرْبَةِ وَإِنَّمَا التَّوَقُّفُ في صِفَةِ الْفَرْضِيَّةِ
وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ لَا يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ فيها بَعْدَ وُصُولِهَا إلَى
يَدِ الْفَقِيرِ وَإِنْ كان الْمُعَجَّلُ في يَدِ الْإِمَامِ قَائِمًا له أَنْ
يَسْتَرِدَّهُ لِأَنَّهُ لَمَّا لم يَصِلْ إلَى يَدِ الْفَقِيرِ لم يَتِمَّ
الصَّرْفُ لأنه يَدَ الْمُصَدِّقِ في الصَّدَقَةِ الْمُعَجَّلَةِ يَدُ الْمَالِكِ
من وَجْهٍ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ في دَفْعِ الْمُعَجَّلِ إلَيْهِ وَإِنْ كان يَدَ
الْفَقِيرِ من وَجْهٍ من حَيْثُ أنه يَقْبِضُ له فلم يَتِمَّ الصَّرْفُ فلم تَقَعْ
صَدَقَةً أَصْلًا وَإِنْ هَلَكَ في يَدِهِ لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ إنْ اسْتَسْلَفَ الْإِمَامُ بِغَيْرِ مَسْأَلَةِ رَبِّ
الْمَالِ وَلَا أَهْلِ السُّهْمَانِ يُضْمَنُ وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الضَّمَانَ
إنَّمَا يَجِبُ على الْإِنْسَانِ بِفِعْلِهِ وَفِعْلُهُ الْأَخْذُ وَأَنَّهُ
مَأْذُونٌ فيه فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَالْهَلَاكُ ليس من
صُنْعِهِ بَلْ هو مَحْضُ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْنِي مَصْنُوعَهُ وَلَوْ
دَفَعَ الْإِمَامُ الْمُعَجَّلَ إلَى فَقِيرٍ فَأَيْسَرَ الْفَقِيرُ قبل تَمَامِ
الْحَوْلِ أو مَاتَ أو ارْتَدَّ جَازَ عن الزَّكَاةِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ يَسْتَرِدُّهُ الْإِمَامُ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَسَارُهُ من ذلك
الْمَالِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كَوْنَ الْمُعَجَّلِ زَكَاةً إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَ
تَمَامِ الْحَوْلِ وهو ليس مَحَلَّ الصَّرْفِ في ذلك الْوَقْتِ فَلَا يَقَعُ
زَكَاةً إلَّا إذَا كان يَسَارُهُ من ذلك الْمَالِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ
أَصْلًا فَلَا يُقْطَعُ التَّبَعُ عن أَصْلِهِ
وَلَنَا أَنَّ الصَّدَقَةَ لَاقَتْ كَفَّ الْفَقِيرِ فَوَقَعَتْ مَوْقِعَهَا فَلَا
تَتَغَيَّرُ بالغنا ( ( ( بالغنى ) ) ) الْحَادِثِ بَعْدَ ذلك كما إذَا دَفَعَهَا
إلَى الْفَقِيرِ بَعْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ ثُمَّ أَيْسَرَ وَلَوْ عَجَّلَ
زَكَاةَ مَالِهِ ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ لم يَرْجِعْ على الْفَقِيرِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ يَرْجِعُ عليه إذَا كان قال له إنَّهَا مُعَجَّلَةٌ وَهَذَا
غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ وَقَعَتْ في مَحَلِّ الصَّدَقَةِ وهو الْفَقِيرُ
بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ كما إذَا لم يَقُلْ إنَّهَا
مُعَجَّلَةٌ وَلَوْ كان له دَرَاهِمُ أو دَنَانِيرُ أو عُرُوضٌ لِلتِّجَارَةِ
فَعَجَّلَ زَكَاةَ جِنْسٍ منها ثُمَّ هَلَكَ بَعْضُ الْمَالِ جَازَ الْمُعَجَّلُ
عن الْبَاقِي لِأَنَّ الْكُلَّ في حُكْمِ مَالٍ وَاحِدٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَضُمُّ
الْبَعْضَ إلَى الْبَعْضِ في تَكْمِيلِ النِّصَابِ فَكَانَتْ نِيَّةُ التَّعْيِينِ
في التَّعْجِيلِ لَغْوًا كما لو كان له أَلْفُ دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ زَكَاةَ
الْمِائَتَيْنِ ثُمَّ هَلَكَ بَعْضُ الْمَالِ وَهَذَا بِخِلَافِ السَّوَائِمِ
الْمُخْتَلِفَةِ بِأَنْ كان له خَمْسٌ من الْإِبِلِ وَأَرْبَعُونَ من الْغَنَمِ
فَعَجَّلَ شَاةً عن خَمْسٍ من الْإِبِلِ ثُمَّ هَلَكَتْ الْإِبِلُ أَنَّ
الْمُعَجَّلَ لَا يَجُوزُ عن زَكَاةِ الْغَنَمِ لِأَنَّهُمَا مَالَانِ مُخْتَلِفَانِ
صُورَةً وَمَعْنًى فَكَانَ نِيَّةُ التَّعْيِينِ صَحِيحَةً فَالتَّعْجِيلُ عن
أَحَدِهِمَا لَا يَقَعُ عن الْآخَرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسْقِطُهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا فَالْمُسْقِطُ لها
بَعْدَ الْوُجُوبِ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ منها هَلَاكُ
____________________
(2/52)
النِّصَابِ
بَعْدَ الْحَوْلِ قبل التَّمَكُّنِ من الْأَدَاءِ وَبَعْدَهُ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَسْقُطُ بِالْهَلَاكِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ
وَالْمَسْأَلَةُ قد مَضَتْ
وَمِنْهَا الرِّدَّةُ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ الرِّدَّةُ لَا تُسْقِطُ الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ حتى لو
أَسْلَمَ لَا يَجِبُ عليه الْأَدَاءُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجِبُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ قَادِرٌ على أَدَاءِ ما وَجَبَ عليه لَكِنْ
بِتَقْدِيمِ شَرْطِهِ وهو الْإِسْلَامُ فإذا أَسْلَمَ وَجَبَ عليه الْأَدَاءُ
كَالْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ أَنَّهُمَا قَادِرَانِ على أَدَاءِ الصَّلَاةِ لَكِنْ
بِوَاسِطَةِ الطَّهَارَةِ فإذا وُجِدَتْ الطَّهَارَةُ يَجِبُ عليهما ( ( ( عليها )
) ) الْأَدَاءُ كَذَا هذا
وَلَنَا قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْإِسْلَامُ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ
وَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ ليس من أَهْلِ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ فَلَا يَكُونُ من
أَهْلِ وُجُوبِهَا فَتَسْقُطُ عنه بِالرِّدَّةِ وما ذُكِرَ أَنَّهُ قَادِرٌ على
الْأَدَاءِ بِتَقْدِيمِ شَرْطِهِ وهو الْإِسْلَامُ كَلَامٌ فَاسِدٌ لِمَا فيه من
جَعْلِ الْأَصْلِ تَبَعًا لِتَبَعِهِ وَجَعْلِ التَّبَعِ أَصْلًا لِمَتْبُوعِهِ
على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَمِنْهَا مَوْتُ من عليه الزَّكَاةُ من غَيْرِ وَصِيَّةٍ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَسْقُطُ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ من عليه الزَّكَاةُ إذَا مَاتَ قبل أَدَائِهَا
فَلَا يَخْلُو إمَّا إن كان أَوْصَى بِالْأَدَاءِ وَإِمَّا إن كان لم يُوصِ فَإِنْ
كان لم يُوصِ تَسْقُطُ عنه في أَحْكَامِ الدُّنْيَا حتى لَا تُؤْخَذُ من
تَرِكَتِهِ وَلَا يُؤْمَرُ الْوَصِيُّ أو الْوَارِثُ بِالْأَدَاءِ من تَرِكَتِهِ
عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ تُؤْخَذُ من تَرِكَتِهِ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا مَاتَ
من عليه صَدَقَةُ الْفِطْرِ أو النَّذْرُ أو الْكَفَّارَاتُ أو الصَّوْمُ أو
الصَّلَاةُ أو النَّفَقَاتُ أو الْخَرَاجُ أو الْجِزْيَةُ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى
من تَرِكَتِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُسْتَوْفَى من تَرِكَتِهِ وَإِنْ مَاتَ من
عليه الْعُشْرُ فَإِنْ كان الْخَارِجُ قَائِمًا فَلَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ في
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرَوَى عبد اللَّهِ بن الْمُبَارَكِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَسْقُطُ وَلَوْ كان
اسْتَهْلَكَ الْخَارِجَ حتى صَارَ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ فَهُوَ على هذا
الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كان أَوْصَى بِالْأَدَاءِ لَا يَسْقُطُ ويؤدي من ثُلُثِ
مَالِهِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ من جَمِيعِ مَالِهِ
وَالْكَلَامُ فيه بِنَاءً على أَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا ما ذكرناه ( ( ( ذكرنا ) ) )
فِيمَا تَقَدَّمَ وهو أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ عِنْدَنَا وَالْعِبَادَةُ لَا
تَتَأَدَّى إلَّا بِاخْتِيَارِ من عليه إمَّا بِمُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ أو
بِأَمْرِهِ أو إنَابَتِهِ غَيْرَهُ فَيَقُومُ النَّائِبُ مَقَامَهُ فَيَصِيرُ
مُؤَدِّيًا بِيَدِ النَّائِبِ وإذا أَوْصَى فَقَدْ أَنَابَ وإذا لم يُوصِ فلم
يُنِبْ فَلَوْ جَعَلَ الْوَارِثُ نَائِبًا عنه شَرْعًا من غَيْرِ إنَابَتِهِ
لَكَانَ ذلك إنَابَةً جَبْرِيَّةً وَالْجَبْرُ يُنَافِي الْعِبَادَةَ إذْ
الْعِبَادَةُ فِعْلٌ يَأْتِيهِ الْعَبْدُ بِاخْتِيَارِهِ وَلِهَذَا قُلْنَا أنه
ليس لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّكَاةَ من صَاحِبِ الْمَالِ من غَيْرِ إذْنِهِ
جَبْرًا وَلَوْ أَخَذَ لَا تَسْقُط عنه الزَّكَاةُ
وَالثَّانِي أَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ
لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ مَالِيٌّ والصلاة ( ( ( والصلات ) ) ) تَسْقُطُ
بِالْمَوْتِ قبل التَّسْلِيمِ وَالْعُشْرُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ وَكَمَا ثَبَتَ
ثَبَتَ مُشْتَرَكًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَنْفِقُوا من طَيِّبَاتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ من الْأَرْضِ
} أَضَافَ الْمُخْرَجَ إلَى الْكُلِّ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ جميعا فإذا
ثَبَتَ مُشْتَرَكًا فَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ
وَعِنْدَهُ الزَّكَاةُ حَقُّ الْعَبْدِ وهو الْفَقِيرُ فَأَشْبَهَ سَائِرَ
الدُّيُونِ وَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ من عليه كَذَا هذا
وَلَوْ مَاتَ من عليه الزَّكَاةُ في خِلَالِ الْحَوْلِ يَنْقَطِعُ حُكْمُ
الْحَوْلِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَنْقَطِعُ بَلْ يَبْنِي الْوَارِثُ عليه فإذا تَمَّ
الْحَوْلُ أَدَّى الزَّكَاةَ وَالْكَلَامُ فيه أَيْضًا مَبْنِيٌّ على ما ذَكَرْنَا
وهو أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ عِنْدَنَا فَيُعْتَبَرُ فيه جَانِبُ الْمُؤَدِّي
وهو الْمَالِكُ وقد زَالَ مِلْكُهُ بِمَوْتِهِ فَيَنْقَطِعُ حَوْلُهُ
وَعِنْدَهُ لَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ بَلْ هِيَ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ فَيُعْتَبَرُ
قِيَامُ نَفْسِ الْمِلْكِ وَأَنَّهُ قَائِمٌ إذْ الْوَارِثُ يَخْلُفُ الْمُورَثَ
في عَيْنِ ما كان لِلْمُورَثِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا زَكَاةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وهو الْعُشْرُ فَالْكَلَامُ في
هذا النَّوْعِ أَيْضًا يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ فَرْضِيَّتِهِ وفي بَيَانِ
كَيْفِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ وفي بَيَانِ سَبَبِ الْفَرْضِيَّةِ وفي بَيَانِ
شَرَائِطِ الْفَرْضِيَّةِ وفي بَيَانِ الْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ وفي بَيَانِ
صِفَتِهِ وفي بَيَانِ من له وِلَايَةُ الْأَخْذِ وفي بَيَانِ وَقْتِ الْفَرْضِ وفي
بَيَانِ رُكْنِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ ما يُسْقِطُهُ وفي
بَيَانِ ما يُوضَعُ في بَيْتِ الْمَالِ من الْأَمْوَالِ وفي بَيَانِ مَصَارِفِهَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ على فَرْضِيَّتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ
وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ } قال
عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ إنَّ الْحَقَّ الْمَذْكُورَ هو الْعُشْرُ أو نِصْفُ
الْعُشْرِ
فَإِنْ قِيلَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِيتَاءِ الْحَقِّ يوم الْحَصَادِ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ زَكَاةَ الْحُبُوبِ لَا تُخْرَجُ يوم الْحَصَادِ بَلْ بَعْدَ
التَّنْقِيَةِ وَالْكَيْلِ لِيَظْهَرَ مِقْدَارُهَا فَيُخْرَجُ عُشْرُهَا فَدَلَّ
أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ الْعُشْرِ
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ منه وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَآتُوا حَقَّهُ الذي
وَجَبَ فيه يوم حَصَادِهِ بَعْدَ التَّنْقِيَةِ فَكَانَ الْيَوْمُ ظَرْفًا
لِلْحَقِّ لَا لِلْإِيتَاءِ على أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يَجِبُ الْعُشْرُ في
الخضروات ( ( ( الخضراوات ) ) ) وَإِنَّمَا يُخْرَجُ الْحَقُّ منها يوم الْحَصَادِ
وهو الْقَطْعُ ولاينتظر شَيْءٌ آخَرُ فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ في الْعُشْرِ إلَّا
أَنَّ مِقْدَارَ هذا الْحَقِّ غَيْرُ مُبَيَّنٍ في الْآيَةِ فَكَانَتْ الْآيَةُ
مُجْمَلَةً في حَقِّ الْمِقْدَارِ ثُمَّ صَارَتْ مُفَسَّرَةً بِبَيَانِ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم بِقَوْلِهِ ما سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وما
سُقِيَ بِغَرَبٍ أو دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {
وَآتُوا الزَّكَاةَ }
____________________
(2/53)
أنها
مُجْمَلَةٌ في حَقِّ الْمِقْدَارِ فَبَيَّنَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
بِقَوْلِهِ في مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَصَارَ مُفَسَّرًا كَذَا
هذا وقَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا من طَيِّبَاتِ
ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ من الْأَرْضِ }
وفي الْآيَةِ دَلَالَةٌ على أَنَّ لِلْفُقَرَاءِ حَقًّا في الْمُخْرَجِ من
الْأَرْضِ حَيْثُ أَضَافَ الْمُخْرَجَ إلَى الْكُلِّ فَدَلَّ على أَنَّ
لِلْفُقَرَاءِ في ذلك حَقًّا كما أَنَّ لِلْأَغْنِيَاءِ فَيَدُلُّ على كَوْنِ
الْعُشْرِ حَقَّ الْفُقَرَاءِ ثُمَّ عُرِفَ مِقْدَارُ الْحَقِّ بِالسُّنَّةِ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رَوَيْنَا وهو قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم ما
سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وما سُقِيَ بِغَرَبٍ أو دَالِيَةٍ فَفِيهِ
نِصْفُ الْعُشْرِ
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ على فَرْضِيَّةِ الْعُشْرِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَعَلَى نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في النَّوْعِ الْأَوَّلِ
لِأَنَّ إخْرَاجَ الْعُشْرِ إلَى الْفَقِيرِ من بَابِ شُكْرِ النِّعْمَةِ
وَإِقْدَارِ الْعَاجِزِ وَتَقْوِيَتِهِ على الْقِيَامِ بِالْفَرَائِضِ وَمِنْ
بَابِ تَطْهِيرِ النَّفْسِ عن الذُّنُوبِ وَتَزْكِيَتِهَا وَكُلُّ ذلك لَازِمٌ
عَقْلًا وَشَرْعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْكَلَامُ في كَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّةِ هذا النَّوْعِ فَعَلَى
نَحْوِ الْكَلَامِ في كَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّةِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ وقد مَضَى
الْكَلَامُ فيه
فَصْلٌ وَأَمَّا سَبَبُ فَرْضِيَّتِهِ فَالْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ
حَقِيقَةً وَسَبَبُ وُجُوبِ الْخَرَاجِ الأرض ( ( ( للأرض ) ) ) النَّامِيَةِ
بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً أو تَقْدِيرًا حتى لو أَصَابَ الْخَارِجَ آفَةٌ فَهَلَكَ
لَا يَجِبُ فيه الْعُشْرُ في الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ وَلَا الْخَرَاجُ في
الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ لِفَوَاتِ النَّمَاءِ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا وَلَوْ
كانت الْأَرْضُ عُشْرِيَّةً فَتَمَكَّنَ من زِرَاعَتِهَا فلم تُزْرَعْ لَا يَجِبُ
الْعُشْرُ لِعَدَمِ الْخَارِجِ حَقِيقَةً وَلَوْ كانت أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ يَجِبُ
الْخَرَاجُ لِوُجُودِ الْخَارِجِ تَقْدِيرًا وَلَوْ كانت أَرْضُ الْخَرَاجِ
نَزَّةً أو غَلَبَ عليها الْمَاءُ بِحَيْثُ لَا يُسْتَطَاعُ فيها الزِّرَاعَةُ أو
سَبْخَةً أو لَا يَصِلُ إلَيْهَا الْمَاءُ فَلَا خَرَاجَ فيه لِانْعِدَامِ
الْخَارِجِ فيه حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ تَعْجِيلُ الشر ( ( ( العشر ) ) ) وأنه على ثَلَاثَةِ
أَوْجُهٍ في وَجْهٍ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ وفي وَجْهٍ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ
وفي وَجْهٍ فيه خِلَافٌ أَمَّا الذي يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ فَهُوَ أَنْ يُعَجَّلَ
بَعْدَ الزِّرَاعَةِ وَبَعْدَ النَّبَاتِ لِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ بَعْدَ وُجُودِ
سَبَبِ الْوُجُوبِ وهو الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً أَلَا تَرَى
أَنَّهُ لو قصله ( ( ( فصله ) ) ) هَكَذَا يَجِبُ الْعُشْرُ وَأَمَّا الذي لَا
يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ فَهُوَ أَنْ يُعَجِّلَ قبل الزِّرَاعَةِ لِأَنَّهُ عَجَّلَ
قبل الْوُجُوبِ وَقَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ لِانْعِدَامِ الْأَرْضِ
النَّامِيَةِ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً لِانْعِدَامِ الْخَارِجِ حَقِيقَةً وَأَمَّا
الذي فيه خِلَافٌ فَهُوَ أَنْ يُعَجِّلَ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ قبل النَّبَاتِ قال أبو
يُوسُفَ يَجُوزُ وقال مُحَمَّدٌ لَا يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أن سَبَبَ الْوُجُوبِ لم يُوجَدْ لِانْعِدَامِ الْأَرْضِ
النَّامِيَةِ بِالْخَارِجِ لَا الْخَارِجُ فَكَانَ تَعْجِيلًا قبل وجوب ( ( ( وجود
) ) ) السَّبَبِ فلم يَجُزْ كما لوعجل قبل الزِّرَاعَةِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أن سَبَبَ الْخُرُوجِ مَوْجُودٌ وهو الزِّرَاعَةُ
فَكَانَ تَعْجِيلًا بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ فَيَجُوزُ وَأَمَّا تَعْجِيلُ عُشْرِ
الثِّمَارِ فَإِنْ عَجَّلَ بَعْدَ طُلُوعِهَا جَازَ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ عَجَّلَ
قبل الطُّلُوعِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في
الزَّرْعِ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ في
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ وَجَعَلَ الْأَشْجَارَ لِلثِّمَارِ
بِمَنْزِلَةِ السَّاقِ لِلْحُبُوبِ وَهُنَاكَ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ كَذَا هَهُنَا
وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الشَّجَرَ ليس بِمَحَلٍّ
لِوُجُوبِ الْعُشْرِ لِأَنَّهُ حَطَبٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو قَطَعَهُ لَا يَجِبُ
الْعُشْرُ فَأَمَّا سَاقُ الزَّرْعِ فَمَحَلٌّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو قَطَعَ
السَّاقَ قبل أَنْ يَنْعَقِدَ الْحَبُّ يَجِبُ الْعُشْرُ وَيَجُوز تَعْجِيلُ
الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْخَرَاجِ الْأَرْضُ
النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ تَقْدِيرًا بِالتَّمَكُّنِ من الزِّرَاعَةِ لَا
تَحْقِيقًا وقد وُجِدَ التَّمَكُّنُ وَسَبَبُ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ كَوْنُهُ
ذِمِّيًّا وقد وُجِدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الْفَرْضِيَّةِ فَبَعْضُهَا شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ
وَبَعْضُهَا شَرْطُ الْمَحَلِّيَّةِ أَمَّا شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ فَنَوْعَانِ
أَحَدُهُمَا الْإِسْلَامُ وَأَنَّهُ شَرْطُ ابْتِدَاءِ هذا الْحَقِّ فَلَا
يُبْتَدَأُ بهذا الْحَقِّ إلَّا على مُسْلِمٍ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ فيه مَعْنَى
الْعِبَادَةِ وَالْكَافِرُ ليس من أَهْلِ وُجُوبِهَا ابْتِدَاءً فَلَا يُبْتَدَأُ
بِهِ عليه وَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَحَوَّلَ إلَيْهِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ حتى أن الذِّمِّيَّ لو اشْتَرَى أَرْضَ
عُشْرٍ من مُسْلِمٍ فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ عِنْدَهُ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ عليه عُشْرَانِ
____________________
(2/54)
وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ عليه عُشْرٌ وَاحِدٌ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ أَرْضٍ ابتدئت ( ( ( ابتدأت
) ) ) بِضَرْبِ حَقٍّ عليها أَنْ لَا يَتَبَدَّلَ الْحَقُّ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ
كَالْخَرَاجِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا إن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُؤْنَةُ
الْأَرْضِ لَا تَعَلُّقَ له بِالْمَالِكِ حتى يَجِبَ في أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ
فَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَالِكِ وأبو يُوسُفَ يقول لَمَّا وَجَبَ
الْعُشْرُ على الْكَافِرِ كما قَالَهُ مُحَمَّدٌ فَالْوَاجِبُ على الْكَافِرِ بِاسْمِ
الْعُشْرِ يَكُونُ مُضَاعَفًا كَالْوَاجِبِ على التَّغْلِبِيِّ وَيُوضَعُ مَوْضِعَ
الْخَرَاجِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إن الْعُشْرَ فيه مَعْنَى الْعِبَادَةِ
وَالْكَافِرُ ليس من أَهْلِ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ فَلَا يَجِبُ عليه الْعُشْرُ كما
لَا تَجِبُ عليه الزَّكَاةُ الْمَعْهُودَةُ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عليه ابْتِدَاءً
كَذَا في حَالَةِ الْبَقَاءِ
وإذا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْعُشْرِ عليه فَلَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يَنْتَفِعَ
الذِّمِّيُّ بِأَرْضِهِ في دَارِ الْإِسْلَامِ من غَيْرِ حَقٍّ يُضْرَبُ عليها
فَضَرَبْنَا عليها الْخَرَاجَ الذي فيه مَعْنَى الصَّغَارِ كما لو جَعَلَ دَارِهِ
بُسْتَانًا
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عن أبي حَنِيفَةَ في وَقْتِ صَيْرُورَتِهَا
خَرَاجِيَّةً ذُكِرَ في السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ كما اشْتَرَى صَارَتْ
خَرَاجِيَّةً وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَا تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً ما لم يُوضَعْ عليها
الْخَرَاجُ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْخَرَاجُ إذَا مَضَتْ من وَقْتِ الشِّرَاءِ
مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَزْرَعَ فيها سَوَاءٌ زَرَعَ أو لم يَزْرَعْ كَذَا
ذُكِرَ في الْعُيُونِ في رَجُلٍ بَاعَ أَرْضَ الْخَرَاجِ من رَجُلٍ وقد بَقِيَ من
السَّنَةِ مِقْدَارُ ما يَقْدِرُ الْمُشْتَرِي على زَرْعِهَا فَخَرَاجُهَا على
الْمُشْتَرِي وَإِنْ لم يَكُنْ بَقِيَ ذلك الْقَدْرُ فَخَرَاجُهَا على الْبَائِعِ
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عن مُحَمَّدٍ في مَوْضِعِ هذا الْعُشْرِ ذَكَرَ في
السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الصَّدَقَةِ لِأَنَّ قَدْرَ
الْوَاجِبِ لَمَّا لم يَتَغَيَّرْ عِنْدَهُ لَا تَتَغَيَّرُ صِفَتُهُ أَيْضًا
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ لِأَنَّ مَالَ الصَّدَقَةِ لَا
يُؤْخَذُ فيه لِكَوْنِهِ مَالًا مَأْخُوذًا من الْكَافِرِ فَيُوضَعُ مَوْضِعَ
الْخَرَاجِ
وَلَوْ اشْتَرَى مُسْلِمٌ من ذِمِّيٍّ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ
وَلَا تَنْقَلِبُ عُشْرِيَّةً لِأَنَّ الْأَصْلَ إن مُؤْنَةَ الْأَرْضِ لَا
تَتَغَيَّرُ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ إلَّا لِضَرُورَةٍ وفي حَقِّ الذِّمِّيِّ إذَا
اشْتَرَى من مُسْلِمٍ أَرْضَ عُشْرٍ ضَرُورَةً لِأَنَّ الْكَافِرَ ليس من أَهْلِ
وُجُوبِ الْعُشْرِ فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَمِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْخَرَاجِ في
الْجُمْلَةِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى التَّغْيِيرِ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ
وَلَوْ بَاعَ الْمُسْلِمُ من ذِمِّيٍّ أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَأَخَذَهَا مُسْلِمٌ
بِالشُّفْعَةِ فَفِيهَا الْعُشْرُ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَحَوَّلَتْ إلَى
الشَّفِيعِ كَأَنَّهُ بَاعَهَا منه فَكَانَ انْتِقَالًا من مُسْلِمٍ إلَى مُسْلِمٍ
وَكَذَلِكَ لو كان الْبَيْعُ فَاسِدًا فَاسْتَرَدَّهَا الْبَائِعُ منه لِفَسَادِ
الْبَيْعِ عَادَتْ إلَى الْعُشْرِ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ إذَا فُسِخَ
يَرْتَفِعُ من الْأَصْلِ ويسير ( ( ( ويصير ) ) ) كَأَنْ لم يَكُنْ فَيَرْتَفِعُ
بِأَحْكَامِهِ وَلَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بها عَيْبًا فَعَلَى رِوَايَةِ
السِّيَرِ الْكَبِيرِ ليس له أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ لِأَنَّهَا صَارَتْ
خَرَاجِيَّةً بِنَفْسِ الشِّرَاءِ فَحَدَثَ فيها عَيْبٌ زَائِدٌ في يَدِهِ وهو
وَضْعُ الْخَرَاجِ عليها فَمُنِعَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ لَكِنَّهُ يَرْجِعُ
بِحِصَّةِ الْعَيْبِ وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى له أَنْ يَرُدَّهَا ما لم
يُوضَعْ عليها الْخَرَاجُ لِعَدَمِ حُدُوثِ الْعَيْبِ
فَإِنْ رَدَّهَا بِرِضَا الْبَائِعِ لَا تَعُودُ عُشْرِيَّةً بَلْ هِيَ
خَرَاجِيَّةٌ على حَالِهَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الرَّدَّ بِرِضَا
الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ جَدِيدٍ وَالْأَرْضُ إذَا صَارَتْ خَرَاجِيَّةً
لَا تَنْقَلِبُ عُشْرِيَّةً بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ وَلَوْ اشْتَرَى
التَّغْلِبِيُّ أَرْضًا عُشْرِيَّةً فعلية عُشْرَانِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عليه عُشْرٌ وَاحِدٌ
أَمَّا مُحَمَّدٌ فَقَدْ مَرَّ على أَصْلِهِ أَنَّ كُلَّ مُؤْنَةٍ ضُرِبَتْ على
أَرْضٍ أنها لَا تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ حَالِ الْمَالِكِ وَفِقْهُهُ ما
ذَكَرْنَا وَهُمَا يَقُولَانِ الْأَصْلُ ما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لَكِنْ يَجُوزُ
أَنْ تَتَغَيَّرَ إذَا وُجِدَ الْمُغَيِّرُ وقد وُجِدَ هَهُنَا وهو قَضِيَّةُ
عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فإنه صَالَحَ بَنِي تَغْلِبَ على أَنْ يُؤْخَذَ منهم
ضِعْفُ ما يُؤْخَذُ من الْمُسْلِمِينَ بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ فَإِنْ أَسْلَمَ
التَّغْلِبِيُّ أو بَاعَهَا من مُسْلِمٍ لم يَتَغَيَّرْ الْعُشْرَانِ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَتَغَيَّرُ إلَى عُشْرٍ وَاحِدٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْعُشْرَيْنِ كَانَا لِكَوْنِهِ نَصْرَانِيًّا تَغْلِبِيًّا
إذْ التَّضْعِيفُ يَخْتَصُّ بِهِمْ وقد بَطَلَ بِالْإِسْلَامِ فَيَبْطُلُ
التَّضْعِيفُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعُشْرَيْنِ كَانَا خَرَاجًا على التَّغْلِبِيِّ
وَالْخَرَاجُ لَا يَتَغَيَّرُ بِإِسْلَامِ الْمَالِكِ لِمَا ذَكَرْنَا إن
الْمُسْلِمَ من أَهْلِ وُجُوبِ الْخَرَاجِ في الْجُمْلَةِ وَلَا يَتَفَرَّعُ
التَّغَيُّرُ على أَصْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ كان عليه عُشْرٌ وَاحِدٌ قبل
الْإِسْلَامِ وَالْبَيْعِ من الْمُسْلِمِ فَيَجِبُ عُشْرٌ وَاحِدٌ كما كان
وَهَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في مُخْتَصَرِهِ وإن عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ
عَشْرٌ وَاحِدٌ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ في التَّغْلِبِيِّ يَشْتَرِي أَرْضَ الْعُشْرِ
من مُسْلِمٍ أَنَّهُ يُؤْخَذُ منه عُشْرَانِ في قَوْلِهِمْ وَالصَّحِيحُ ما
ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ لِمَا ذَكَرْنَا من أَصْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَلَوْ اشْتَرَى التَّغْلِبِيُّ أَرْضَ عُشْرٍ فَبَاعَهَا من ذِمِّيٍّ فَعَلَيْهِ
عُشْرَانِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّضْعِيفَ على التَّغْلِبِيِّ بِطَرِيقِ
الْخَرَاجِ وَالْخَرَاجُ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ عليه الْخَرَاجَ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ
يَخْتَصُّ بِالتَّغْلَبِيِّ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَالثَّانِي الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مَفْرُوضًا
____________________
(2/55)
وَنَعْنِي
بِهِ سَبَبَ الْعِلْمِ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ
وَالْمَسْأَلَةُ ذُكِرَتْ في كِتَابِ الصَّلَاةِ
وَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَلَيْسَا من شَرَائِطِ أَهْلِيَّةِ وُجُوبِ
الْعُشْرِ حتى يَجِبَ الْعُشْرُ في أَرْضِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِعُمُومِ
قَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ما سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وما
سُقِيَ بِغَرَبٍ أو دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ وَلِأَنَّ الْعُشْرَ مُؤْنَةُ
الْأَرْضِ كَالْخَرَاجِ وَلِهَذَا لَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَنَا وَلِهَذَا يَجُوزُ
لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَيْهِ فَيَأْخُذُهُ جَبْرًا وَيَسْقُطُ عن
صَاحِبِ الْأَرْضِ كما لو أَدَّى بِنَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَدَّى بِنَفْسِهِ
يَقَعُ عِبَادَةً فَيَنَالُ ثَوَابَ الْعِبَادَةِ
وإذا أخذه ( ( ( أخذها ) ) ) الْإِمَامُ كُرْهًا لَا يَكُونُ له ثَوَابُ فِعْلِ
الْعِبَادَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ثَوَابُ ذَهَابِ مَالِهِ في وَجْهِ اللَّهِ
تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ ثَوَابِ الْمَصَائِبِ كُرْهًا بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فإن
الْإِمَامَ لَا يَمْلِكُ الْأَخْذَ جَبْرًا وَإِنْ أُخِذَ لَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ
عن صَاحِبِ الْمَالِ وَلِهَذَا لو مَاتَ من عليه الْعُشْرُ وَالطَّعَامُ قَائِمٌ
يُؤْخَذُ منه بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ من هِيَ عليه
وَكَذَا مِلْكُ الْأَرْضِ ليس بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ
مِلْكُ الْخَارِجِ فَيَجِبُ في الْأَرَاضِي التي لَا مَالِكَ لها وَهِيَ
الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةُ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَنْفِقُوا من طَيِّبَاتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ من
الْأَرْضِ }
وَقَوْلِهِ عز وجل { وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ }
وَقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ما سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ
وما سُقِيَ بِغَرَبٍ أو دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ وَلِأَنَّ الْعُشْرَ
يَجِبُ في الْخَارِجِ لَا في الْأَرْضِ فَكَانَ مِلْكُ الْأَرْضِ وَعَدَمُهُ
بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَجِبُ في أَرْضِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ لِمَا
قُلْنَا
وَلَوْ آجَرَ أَرْضَهُ العرية ( ( ( العشرية ) ) ) فَعُشْرُ الْخَارِجِ على
الْمُؤَاجَرِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا على الْمُسْتَأْجِرِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا ظَاهِرٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ في الْخَارِجِ
وَالْخَارِجُ مِلْكُ الْمُسْتَأْجِرِ فَكَانَ الْعُشْرُ عليه كَالْمُسْتَعِيرِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إن الْخَارِجَ لِلْمُؤَاجِرِ مَعْنًى لِأَنَّ بَدَلَهُ وهو
الْأُجْرَةُ له فَصَارَ كَأَنَّهُ زَرَعَ بِنَفْسِهِ وَفِيهِ إشْكَالٌ لِأَنَّ
الْأَجْرَ مقابل ( ( ( قابل ) ) ) لِلْمَنْفَعَةِ لَا الْخَارِجِ وَالْعُشْرُ
يَجِبُ في الْخَارِجِ عِنْدَهُمَا وَالْخَارِجُ يُسَلَّمُ لِلْمُسْتَأْجِرِ من
غَيْرِ عِوَضٍ فَيَجِبُ فيه الْعُشْرُ
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْخَارِجَ في إجَارَةِ الْأَرْضِ وإن كان عَيْنًا حقيقة ( ( (
حقيقية ) ) ) فَلَهُ حُكْمُ الْمَنْفَعَةِ فَيُقَابِلُهُ الآجر فَكَانَ الْخَارِجُ
لِلْآجِرِ مَعْنًى فَكَانَ الْعُشْرُ عليه فَإِنْ هَلَكَ الْخَارِجُ فَإِنْ كان قبل
الْحَصَادِ فَلَا عُشْرَ على الْمُؤَاجِرِ وَيَجِبُ الْأَجْرُ على الْمُسْتَأْجِرِ
لِأَنَّ الْأَجْرَ يَجِبُ بِالتَّمَكُّنِ من الِانْتِفَاعِ وقد تَمَكَّنَ منه
وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الْحَصَادِ لَا يَسْقُطُ عن الْمُؤَاجِرِ عُشْرُ الْخَارِجِ
لِأَنَّ الْعُشْرَ كان يَجِبُ عليه دَيْنًا في ذِمَّتِهِ وَلَا يَجِبُ في
الْخَارِجِ عِنْدَهُ حتى يَسْقُطَ بِهَلَاكِهِ فَلَا يَسْقُطُ عنه الْعُشْرُ
بِهَلَاكِهِ وَلَا يَسْقُطُ الْأَجْرُ عن الْمُسْتَأْجِرِ أَيْضًا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْعُشْرُ في الْخَارِجِ فَيَكُونُ على من
حَصَلَ له الْخَارِجُ وَلَوْ هَلَكَ بَعْدَ الْحَصَادِ أو قَبْلَهُ هَلَكَ بِمَا
فيه من الْعُشْرِ
وَلَوْ أَعَارَهَا من مُسْلِمٍ فَزَرَعَهَا فَالْعَشْرُ على الْمُسْتَعِيرِ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ على الْمُعِيرِ وَهَكَذَا رَوَى عبد
اللَّهِ بن الْمُبَارَكِ عن أبي حَنِيفَةَ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ الْخَرَاجَ على
الْمُعِيرِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْإِعَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ
فَكَانَ هِبَةَ الْمَنْفَعَةِ فَأَشْبَهَ هِبَةَ الزَّرْعِ
وَلَنَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ حَصَلَتْ لِلْمُسْتَعِيرِ صُورَةً وَمَعْنًى إذْ لم
يَحْصُلْ لِلْمُعِيرِ في مُقَابِلَتِهَا عِوَضٌ فَكَانَ الْعُشْرُ على
الْمُسْتَعِيرِ وَلَوْ أَعَارَهَا من كَافِرٍ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَهُمَا
لِأَنَّ الْعُشْرَ عِنْدَهُمَا في الْخَارِجِ على كل حَالٍ
وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ فيه رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ الْعُشْرُ في الْخَارِجِ وفي
رِوَايَةٍ على رَبِّ الْمَالِ وَلَوْ دَفَعَهَا مُزَارِعَةً فأما على
مَذْهَبِهِمَا فَالْمُزَارِعَةُ جائز ( ( ( جائزة ) ) ) وَالْعُشْرُ يَجِبُ في
الْخَارِجِ
وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا فَيَجِبُ الْعُشْرُ عَلَيْهِمَا وَأَمَّا على مَذْهَبِ
أبي حَنِيفَةَ فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ وَلَوْ كان يُجِيزُهَا كان يَجِبُ على
مَذْهَبِهِ جَمِيعُ الْعُشْرِ على رَبِّ الْأَرْضِ إلَّا أَنَّ في حِصَّتِهِ
جَمِيعَ الْعُشْرِ يَجِبُ في عَيْنِهِ وفي حِصَّةِ الْمُزَارِعِ يَكُونُ دَيْنًا
في ذِمَّتِهِ
وَلَوْ غَصَبَ غَاصِبٌ أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَزَرَعَهَا فَإِنْ لم تَنْقُصْهَا
الزِّرَاعَةُ فَالْعُشْرُ على الْغَاصِبِ في الْخَارِجِ لَا على رَبِّ الْأَرْضِ
لِأَنَّهُ لم تَسْلَمْ له مَنْفَعَةٌ كما في الْعَارِيَّةِ وَإِنْ نَقَصَتْهَا
الزِّرَاعَةُ فَعَلَى الْغَاصِبِ نُقْصَانُ الْأَرْضِ كَأَنَّهُ آجَرَهَا منه
وَعُشْرُ الْخَارِجِ على رَبِّ الْأَرْضِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا في الْخَارِجِ وَلَوْ كانت الْأَرْضُ خَرَاجِيَّةً في الْوُجُوهِ
كُلِّهَا فَخَرَاجُهَا على رَبِّ الْأَرْضِ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا في الْغَصْبِ
إذَا لم تَنْقُصْهَا الزِّرَاعَةُ فَخَرَاجُهَا على الْغَاصِب وَإِنْ نَقَصَتْهَا
فَعَلَى رَبِّ الْأَرْضِ كَأَنَّهُ آجَرَهَا منه وقال مُحَمَّدٌ اُنْظُرْ إلَى
نُقْصَانِ الْأَرْضِ وَإِلَى الْخَرَاجِ فَإِنْ كان ضَمَانُ النُّقْصَانِ أَكْثَرَ
من الْخَرَاجِ فَالْخَرَاجُ على رَبِّ الْأَرْضِ يَأْخُذُ من الْغَاصِبِ
النُّقْصَانَ فَيُؤَدِّي الْخَرَاجَ منه وَإِنْ كان ضَمَانُ النُّقْصَانِ أَقَلَّ
من الْخَرَاجِ فالخراج على الْغَاصِبِ وَسَقَطَ عنه ضَمَانُ النُّقْصَانِ
وَلَوْ بَاعَ الْأَرْضَ الْعُشْرِيَّةَ وَفِيهَا زَرْعٌ
____________________
(2/56)
قد
أَدْرَكَ مع زَرْعِهَا أو بَاعَ الزَّرْعَ خَاصَّةً فَعُشْرُهُ على الْبَائِعِ
دُونَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ بَاعَهُ بَعْدَ وُجُوبِ الْعُشْرِ وَتَقَرُّرِهِ
بِالْإِدْرَاكِ وَلَوْ بَاعَهَا وَالزَّرْعُ بَقْلٌ فَإِنْ قَصَلَهُ الْمُشْتَرِي
لِلْحَالِ فَعُشْرُهُ على الْبَائِعِ أَيْضًا لِتَقَرُّرِ الْوُجُوبِ في الْبَقْلِ
بِالْقَصْلِ وَإِنْ تَرَكَهُ حتى أَدْرَكَ فَعُشْرُهُ على الْمُشْتَرِي في قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِتَحَوُّلِ الْوُجُوبِ من السَّاقِ إلَى الْحَبِّ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال عُشْرُ قَدْرِ الْبَقْلِ على الْبَائِعِ
وَعُشْرُ الزِّيَادَةِ على الْمُشْتَرِي وَكَذَلِكَ حُكْمُ الثِّمَارِ على هذا
التَّفْصِيلِ وَكَذَا عَدَمُ الدَّيْنِ ليس بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ لِأَنَّ
الدَّيْنَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعُشْرِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ
الزَّكَاةِ الْمَعْهُودَةِ وقد مَضَى الْفَرْقُ فِيمَا تَقَدَّمَ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الْمَحَلِّيَّةِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ تَكُونَ
الْأَرْضُ عُشْرِيَّةً فَإِنْ كانت خَرَاجِيَّةً يَجِبُ فيها الْخَرَاجُ وَلَا
يَجِبُ في الْخَارِجِ منها الْعُشْرُ فَالْعُشْرُ مع الْخَرَاجِ لَا يَجْتَمِعَانِ
في أَرْضٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ يَجْتَمِعَانِ فَيَجِبُ في الْخَارِجِ من أَرْضِ الْخَرَاجِ
الْعُشْرُ حتى قال بِوُجُوبِ الْعُشْرِ في الْخَارِجِ من أَرْضِ السَّوَادِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ ذَاتًا وَمَحَلًّا وَسَبَبًا
فَلَا يَتَدَافَعَانِ أَمَّا اخْتِلَافُهُمَا ذَاتًا فَلَا شَكَّ فيه وَأَمَّا
الْمَحَلُّ فَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ في الذِّمَّةِ وَالْعُشْرُ يَجِبُ في
الْخَارِجِ وَأَمَّا السَّبَبُ فَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْخَرَاجِ الْأَرْضُ
النَّامِيَةُ وَسَبَبُ وُجُوبِ الْعُشْرِ الْخَارِجُ حتى لَا يَجِبُ بِدُونِهِ
وَالْخَرَاجُ يَجِبُ بِدُونِ الْخَارِجِ وإذا ثَبَتَ اخْتِلَافُهُمَا ذَاتًا وَمَحَلًّا
وَسَبَبًا فَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْآخَرِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
لَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ في أَرْضِ مُسْلِمٍ وَلِأَنَّ أَحَدًا من
أَئِمَّةِ الْعَدْلِ وَوُلَاةِ الْجَوْرِ لم يَأْخُذْ من أَرْضِ السَّوَادِ
عُشْرًا إلَى يَوْمِنَا هذا فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْعُشْرِ فيها يُخَالِفُ
الْإِجْمَاعَ فَيَكُونُ بَاطِلًا وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا وَاحِدٌ وهو
الْأَرْضُ النَّامِيَةُ فَلَا يَجْتَمِعَانِ في أَرْضٍ وَاحِدَةٍ كما لَا
يَجْتَمِعُ زَكَاتَانِ في مَالٍ وَاحِدٍ وَهِيَ زَكَاةُ السَّائِمَةِ
وَالتِّجَارَةِ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا الْأَرْضُ النَّامِيَةُ أَنَّهُمَا
يُضَافَانِ إلَى الْأَرْضِ يُقَالُ خَرَاجُ الْأَرْضِ وَعُشْرُ الْأَرْضِ
وَالْإِضَافَةُ تَدُلُّ على السَّبَبِيَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ
فِيهِمَا هو الْأَرْضُ النَّامِيَةُ إلَّا أَنَّهُ إذَا لم يَزْرَعْهَا
وَعَطَّلَهَا يَجِبُ الْخَرَاجُ لِأَنَّ انْعِدَامَ النَّمَاءِ كان لِتَقْصِيرٍ من
قِبَلِهِ فَيُجْعَلُ مَوْجُودًا تَقْدِيرًا حتى لو كان الْفَوَاتُ لَا
بِتَقْصِيرِهِ بِأَنْ هَلَكَ لَا يَجِبُ وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْعُشْرُ بِدُونِ
الْخَارِجِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ فَلَا يُمْكِنُ
إيجَابُهُ بِدُونِ الْخَارِجِ
وَعَلَى هذا قال أَصْحَابُنَا فِيمَنْ اشْتَرَى أَرْضَ عُشْرٍ لِلتِّجَارَةِ أو
اشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ لِلتِّجَارَةِ أَنَّ فيها الْعُشْرَ أو الْخَرَاجَ وَلَا
تَجِبُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ مع أَحَدِهِمَا هو الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ
عَنْهُمْ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجِبُ الْعُشْرُ وَالزَّكَاةُ أو الْخَرَاجُ
وَالزَّكَاةُ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ تَجِبُ في الْأَرْضِ
وَالْعُشْرُ يَجِبُ في الزَّرْعِ وإنهما مَالَانِ مُخْتَلِفَانِ فلم يَجْتَمِعْ
الْحَقَّانِ في مَالٍ وَاحِدٍ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ في الْكُلِّ وَاحِدٌ وهو
الْأَرْضُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُضَافُ الْكُلُّ إلَيْهَا يُقَالُ عُشْرِ
الْأَرْضِ وَخَرَاجُ الْأَرْضِ وَزَكَاةُ الْأَرْضِ وَكُلُّ وَاحِدٍ من ذلك حَقُّ
اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَمْوَالِ
النَّامِيَةِ لَا يَجِبُ فيها حَقَّانِ منها بِسَبَبِ مَالٍ وَاحِدٍ كَزَكَاةِ
السَّائِمَةِ مع التِّجَارَةِ وإذا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اجْتِمَاعِ
الْعُشْرِ وَالزَّكَاةِ وَاجْتِمَاعِ الْخَرَاجِ وَالزَّكَاةِ فَإِيجَابُ
الْعُشْرِ أو الْخَرَاجِ أَوْلَى لِأَنَّهُمَا أَعَمُّ وُجُوبًا أَلَا تَرَى
أَنَّهُمَا لَا يَسْقُطَانِ بِعُذْرِ الصِّبَا وَالْجُنُونِ وَالزَّكَاةُ تَسْقُطُ
بِهِ فَكَانَ إيجَابُهُمَا أَوْلَى
وإذا عُرِفَ أَنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ عُشْرِيَّةً من شَرَائِطِ وُجُوبِ الْعُشْرِ
لَا بُدَّ من بَيَانِ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْأَرَاضِيَ نَوْعَانِ عُشْرِيَّةٌ
وَخَرَاجِيَّةٌ
أَمَّا الْعُشْرِيَّةُ فَمِنْهَا أَرْضُ الْعَرَبِ كُلُّهَا قال مُحَمَّدٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَرْضُ الْعَرَبِ من الْعُذَيْبِ إلَى مَكَّةَ وَعَدَنَ
أَبْيَنَ إلَى أَقْصَى حِجْرٍ بِالْيَمَنِ بِمُهْرَةِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ هِيَ أَرْضُ الْحِجَازِ وَتِهَامَةَ وَالْيَمَنِ وَمَكَّةَ
وَالطَّائِفِ وَالْبَرِّيَّةِ
وَإِنَّمَا كانت هذه أَرْضَ عُشْرٍ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَالْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ لم يَأْخُذُوا من أَرْضِ الْعَرَبِ
خَرَاجًا فَدَلَّ أنها عُشْرِيَّةٌ إذْ الْأَرْضُ لَا تَخْلُو عن إحْدَى
الْمُؤْنَتَيْنِ وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يُشْبِهُ الْفَيْءَ فَلَا يَثْبُتُ في
أَرْضِ الْعَرَبِ كما لم يَثْبُتْ في رِقَابِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْأَرْضُ التي أَسْلَمَ عليها أَهْلُهَا طَوْعًا
وَمِنْهَا الْأَرْضُ التي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا وَقُسِمَتْ بين
الْغَانِمِينَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْأَرَاضِيَ لَا تَخْلُوَ عن مُؤْنَةٍ
إمَّا الْعُشْرُ وَإِمَّا الْخَرَاجُ وَالِابْتِدَاءُ بِالْعُشْرِ في أَرْضِ
الْمُسْلِمِ أَوْلَى لِأَنَّ في الْعُشْرِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وفي الْخَرَاجِ
مَعْنَى الصَّغَارِ
وَمِنْهَا دَارُ الْمُسْلِمِ إذَا اتَّخَذَهَا بُسْتَانًا لِمَا قُلْنَا وَهَذَا
إذَا كان يسقى بِمَاءِ الْعُشْرِ
____________________
(2/57)
فَإِنْ
كان يسقى بِمَاءِ الْخَرَاجِ فَهُوَ خَرَاجِيٌّ
وَأَمَّا ما أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُ من الْأَرْضِ الْمَيِّتَةِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ
فقال أبو يُوسُفَ إنْ كانت من حَيِّزِ أَرْضِ الْعُشْرِ فَهِيَ عَشْرِيَّة وَإِنْ
كانت من حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ
وقال مُحَمَّدٌ إنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ السَّمَاءِ أو بِبِئْرٍ اسْتَنْبَطَهَا أو
بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ التي لَا تُمْلَكُ مِثْلُ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ
فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ وَإِنْ شَقَّ لها نَهْرًا من أَنْهَارِ الْأَعَاجِمِ مِثْلَ
نَهْرِ الْمِلْكِ وَنَهْرِ يَزْدَجْرِدَ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أن الْخَرَاجَ لَا يُبْتَدَأُ بِأَرْضِ الْمُسْلِمِ لِمَا
فيه من مَعْنَى الصَّغَارِ كَالْفَيْءِ إلَّا إذَا الْتَزَمَهُ فإذا اسْتَنْبَطَ
عَيْنًا أو حَفَرَ بِئْرًا أو أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ فلم
يَلْتَزِمْ الْخَرَاجَ فَلَا يُوضَعُ عليه وإذا أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْأَنْهَارِ
الْمَمْلُوكَةِ فَقَدْ الْتَزَمَ الْخَرَاجَ لِأَنَّ حُكْمَ الْفَيْءِ يَتَعَلَّقُ
بِهَذِهِ الْأَنْهَارِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى أَرْضَ الْخَرَاجِ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ حَيِّزَ الشَّيْءِ في حُكْمِ ذلك الشَّيْءِ لِأَنَّهُ من
تَوَابِعِهِ كَحَرِيمِ الدَّارِ من تَوَابِعِ الدَّارِ حتى يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ
بِهِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إحْيَاءُ ما في حَيِّزِ الْقَرْيَةِ لِكَوْنِهِ من
تَوَابِعِ الْقَرْيَةِ فَكَانَ حَقًّا لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ وَقِيَاسُ قَوْلِ أبي
يُوسُفَ أَنْ تَكُونَ الْبَصْرَةُ خَرَاجِيَّةً لِأَنَّهَا من حَيِّزِ أَرْضِ
الْخَرَاجِ وَإِنْ أَحْيَاهَا الْمُسْلِمُونَ إلَّا أَنَّهُ تُرِكَ الْقِيَاسَ
بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ حَيْثُ وَضَعُوا عليها الْعُشْرَ
وَأَمَّا الْخَرَاجِيَّةُ فَمِنْهَا الْأَرَاضِي التي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا
فَمَنَّ الْإِمَامُ عليهم وَتَرَكَهَا في يَدِ أَرْبَابِهَا فإنه يَضَعُ على
جَمَاعَتِهِمْ الْجِزْيَةَ إذَا لم يُسْلِمُوا وَعَلَى أَرَاضِيِهِمْ الْخَرَاجَ
أَسْلَمُوا أو لم يُسْلِمُوا وَأَرْضُ السَّوَادِ كُلُّهَا أَرْضُ خَرَاجٍ
وحد السَّوَادِ من الْعُذَيْبِ إلَى عَقَبَةِ حُلْوَانِ وَمِنْ الْعَلْثِ إلَى
عَبَّادَانَ لِأَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه لَمَّا فَتَحَ تِلْكَ الْبِلَادَ
ضَرَبَ عليها الْخَرَاجَ بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
فَأَنْفَذَ عليها حُذَيْفَةَ بن الْيَمَانِ وَعُثْمَانَ بن حُنَيْفٍ فَمَسَحَاهَا
وَوَضَعَا عليها الْخَرَاجَ
وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ على الْكَافِرِ وَالِابْتِدَاءُ
بِالْخَرَاجِ الذي فيه مَعْنَى الصَّغَارِ على الْكَافِرِ أَوْلَى من الْعُشْرِ
الذي فيه مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْكَافِرُ ليس بِأَهْلٍ لها
وكان الْقِيَاسُ أَنْ تَكُونَ مَكَّةُ خَرَاجِيَّةً لِأَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً
وَقَهْرًا وَتُرِكَتْ على أَهْلِهَا ولم تُقْسَمْ لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ
بِفِعْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حَيْثُ لم يَضَعْ عليها الْخَرَاجَ
فَصَارَتْ مَكَّةُ مَخْصُوصَةً بِذَلِكَ تَعْظِيمًا لِلْحَرَمِ وَكَذَا إذَا مَنَّ
عليهم وَصَالَحَهُمْ من جَمَاجِمِهِمْ وَأَرَاضِيِهِمْ على وَظِيفَةٍ مَعْلُومَةٍ
من الدَّرَاهِمِ أو الدَّنَانِيرِ أو نَحْوِ ذلك فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ لِمَا رُوِيَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم صَالَحَ نَصَارَى بَنِي نَجْرَانَ من
جِزْيَةِ رؤوسهم وَخَرَاجِ أَرَاضِيِهِمْ على أَلْفَيْ حُلَّةٍ
وفي رِوَايَةِ على أَلْفَيْ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ تُؤْخَذُ منهم في وَقْتَيْنِ
لِكُلِّ سَنَةٍ نِصْفُهَا في رَجَبَ وَنِصْفُهَا في الْمُحَرَّمِ
وَكَذَا إذَا أَجْلَاهُمْ وَنَقَلَ إلَيْهَا قَوْمًا آخَرِينَ من أَهْلِ
الذِّمَّةِ لِأَنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَ الْأَوَّلِينَ
وَمِنْهَا أَرْضُ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ لِأَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه
صَالَحَهُمْ على أَنْ يَأْخُذَ من أَرَاضِيِهِمْ الْعُشْرَ مُضَاعَفًا وَذَلِكَ
خَرَاجٌ في الْحَقِيقَةِ حتى لَا يَتَغَيَّرَ بتغير ( ( ( بتغيير ) ) ) حَالِ
الْمَالِكِ كَالْخَرَاجِيِّ
وَمِنْهَا الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ التي أَحْيَاهَا الْمُسْلِمُ وَهِيَ تُسْقَى
بِمَاءِ الْخَرَاجِ وَمَاءُ الْخَرَاجِ هو مَاءُ الْأَنْهَارِ الصِّغَارِ التي
حَفَرَتْهَا الْأَعَاجِمُ مِثْلُ نَهْرِ الْمِلْكِ وَنَهْرِ يَزْدَجْرِدَ وَغَيْرِ
ذلك مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَيْدِي وَمَاءِ الْعُيُونِ وَالْقَنَوَاتِ
الْمُسْتَنْبَطَةِ من ماء ( ( ( مال ) ) ) بَيْتِ الْمَالِ وَمَاءُ الْعُشْرِ هو
مَاءُ السَّمَاءِ وَالْآبَارِ وَالْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ الْعِظَامِ التي لَا
تَدْخُلُ تَحْتَ الْأَيْدِي كَسَيْحُونٍ وَجَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ
وَنَحْوِهَا إذْ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الْيَدِ عليها وَإِدْخَالِهَا تَحْتَ
الْحِمَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ مِيَاهَ هذه الْأَنْهَارِ خَرَاجِيَّةٌ لَإِمْكَانِ
إثْبَاتِ الْيَدِ عليها وَإِدْخَالِهَا تَحْتَ الْحِمَايَةِ في الْجُمْلَةِ
بِشَدِّ السُّفُنِ بَعْضِهَا على بَعْضٍ حتى تَصِيرَ شِبْهَ الْقَنْطَرَةِ
وَمِنْهَا أَرْضُ الْمَوَاتِ التي أَحْيَاهَا ذِمِّيٌّ وَأَرْضُ الْغَنِيمَةِ التي
رَضَخَهَا الْإِمَامُ لِذِمِّيٍّ كان يُقَاتِلُ مع الْمُسْلِمِينَ وَدَارُ
الذِّمِّيِّ التي اتَّخَذَهَا بُسْتَانًا أو كَرْمًا لِمَا ذَكَرْنَا إن عِنْدَ
الْحَاجَةِ إلَى ابْتِدَاءِ ضَرْبِ الْمُؤْنَةِ على أَرْضِ الْكَافِرِ الْخَرَاجُ
أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا
وَمِنْهَا أَيْ من شَرَائِطِ الْمَحَلِّيَّةِ وُجُودُ الْخَارِجِ حتى إن الْأَرْضَ
لو لم تُخْرِجْ شيئا لم يَجِبْ الْعُشْرُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ من الْخَارِجِ
وَإِيجَابُ جُزْءٍ من الْخَارِجِ وَلَا خَارِجَ مُحَالٌ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ من الْأَرْضِ مِمَّا يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهِ
نَمَاءُ الْأَرْضِ وَتُسْتَغَلُّ الْأَرْضُ بِهِ عَادَةً فَلَا عُشْرَ في
الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ الْفَارِسِيِّ لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ لَا
تستنمي بها الْأَرْضِ وَلَا تُسْتَغَلُّ بها عَادَةً لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا
تَنْمُو بها بَلْ تَفْسُدُ فلم تَكُنْ نَمَاءَ الْأَرْضِ حتى قالوا في الْأَرْضِ
إذَا اتَّخَذَهَا مُقَصَّبَةً وفي شَجَرِهِ الْخِلَافُ التي يقطع ( ( ( تقطع ) ) )
في كل ثَلَاثِ سِنِينَ أو أَرْبَعِ سِنِينَ أَنَّهُ يَجِبُ فيها الْعُشْرُ لِأَنَّ
ذلك غَلَّةٌ وَافِرَةٌ
وَيَجِبُ في قَصَبِ السُّكَّرِ وَقَصَبِ الذَّرِيرَةِ لِأَنَّهُ يُطْلَبُ بِهِمَا
نَمَاءُ الْأَرْضِ فَوُجِدَ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَيَجِبُ فَأَمَّا كَوْنُ
____________________
(2/58)
الْخَارِجِ
مِمَّا له ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ بَلْ يَجِبُ
سَوَاءٌ كان الْخَارِجُ له ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ
أو ليس له ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ وَهِيَ الْخَضْرَاوَاتُ كَالْبُقُولِ وَالرِّطَابِ
وَالْخِيَارِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبَصَلِ وَالثُّومِ وَنَحْوِهَا في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ إلَّا في الْحُبُوبِ وما
له ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ
وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ليس في
الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ وَهَذَا نَصٌّ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا
من طَيِّبَاتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ من الْأَرْضِ }
وَأَحَقُّ ما تَتَنَاوَلُهُ هذه الْآيَةُ الْخَضْرَاوَاتِ لِأَنَّهَا هِيَ
الْمُخْرَجَةُ من الْأَرْضِ حَقِيقَةً
وَأَمَّا الْحُبُوبُ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُخْرَجَةٍ من الْأَرْضِ حَقِيقَةً بَلْ من
الْمُخْرَجِ من الْأَرْضِ
وَلَا يُقَالُ الْمُرَادُ من قَوْله تَعَالَى { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ من
الْأَرْضِ } أَيْ من الْأَصْلِ الذي أَخْرَجْنَا لَكُمْ كما في قَوْله تَعَالَى {
قد أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ } أَيْ أَنْزَلْنَا
الْأَصْلَ الذي يَكُونُ منه اللِّبَاسُ وهو الْمَاءُ لَا عَيْنَ اللِّبَاسِ إذْ
اللِّبَاسُ كما هو غَيْرُ مُنَزَّلٍ من السَّمَاءِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {
خَلَقَكُمْ من تُرَابٍ } أَيْ خَلَقَ أَصْلَكُمْ وهو آدَم عليه السَّلَامُ كَذَا
هذا لِأَنَّا نَقُولُ الْحَقِيقَةُ ما قُلْنَا وَالْأَصْلُ اعْتِبَارُ
الْحَقِيقَةِ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عنها إلَّا بِدَلِيلٍ قام دَلِيلُ
الْعُدُولِ هُنَاكَ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ فِيمَا وَرَاءَهُ وَلِأَنَّ
فِيمَا قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْإِضَافَةِ لِأَنَّ
الْإِخْرَاجَ من الْأَرْضِ وَالْإِنْبَاتَ مَحْضُ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى لَا
صُنْعَ لِلْعَبْدِ فيه
أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى { أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ
تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ } فَأَمَّا بَعْدَ الْإِخْرَاجِ
وَالْإِنْبَاتِ فَلِلْعَبْدِ فيه صُنْعٌ من السَّقْيِ وَالْحِفْظِ وَنَحْوِ ذلك
فَكَانَ الْحَمْلُ على النَّبَاتِ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْإِضَافَةِ أَوْلَى من
الْحَمْلِ على الْحُبُوبِ
وقَوْله تَعَالَى { وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ } وَالْحَصَادُ الْقَطْعُ
وَأَحَقُّ ما يُحْمَلُ الْحَقُّ عليه الْخَضْرَاوَاتُ لِأَنَّهَا هِيَ التي يَجِبُ
إيتَاءُ الْحَقِّ منها يوم الْقَطْعِ
وَأَمَّا الْحُبُوبُ فَيَتَأَخَّرُ الْإِيتَاءُ فيها إلَى وَقْتِ التَّنْقِيَةِ
وَقَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ما سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ
وما سُقِيَ بِغَرَبٍ أو دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين
الْحُبُوبِ وَالْخَضْرَاوَاتِ وَلِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هو الْأَرْضُ
النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ وَالنَّمَاءُ بِالْخُضَرِ أَبْلَغُ لِأَنَّ رِيعَهَا
أَوْفَرُ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَغَرِيبٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ
وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ بمثله أو يُحْمَلُ على الزَّكَاةِ أو يُحْمَلُ قَوْلُهُ
ليس في الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ على أَنَّهُ ليس فيها صَدَقَةٌ تُؤْخَذُ بَلْ
أَرْبَابُهَا هُمْ الَّذِينَ يُؤَدُّونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ فَكَانَ هذا نَفْيَ
وِلَايَةِ الْأَخْذِ لِلْإِمَامِ وَبِهِ نَقُولُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَكَذَا النِّصَابُ ليس بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فَيَجِبُ الْعُشْرُ في
كَثِيرِ الْخَارِجِ وَقَلِيلِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ فيه النِّصَابُ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ إذَا
كان مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ
وَالْأَرُزِّ وَنَحْوِهَا
وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالصَّاعُ
ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ جُمْلَتُهَا نِصْفُ مَنٍّ وهو أَرْبَعَةُ أَمْنَانٍ
فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ أَلْفًا وَمِائَتَيْ مَنٍّ
وقال أبو يُوسُفَ الصَّاعُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ وَاحْتَجَّا في
الْمَسْأَلَةِ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ليس
فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَنْفِقُوا من طَيِّبَاتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ من الْأَرْضِ
}
وَقَوْلُهُ عز وجل { وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ } وَقَوْلُ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم ما سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وما سُقِيَ بِغَرَبٍ أو
دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ
ولأن سَبَبَ الْوُجُوبِ وَهِيَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ لَا يُوجِبُ
التَّفْصِيلَ بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْجَوَابُ عن التَّعَلُّقِ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا
أَنَّهُ من الْآحَادِ فَلَا يُقْبَلُ في مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ
الْمَشْهُورِ
فَإِنْ قِيلَ ما تَلَوْتُمْ من الْكِتَابِ وورثتم ( ( ( ورويتم ) ) ) من
السُّنَّةِ يَقْتَضِيَانِ الْوُجُوبَ من غَيْرِ التَّعَرُّضِ لِمِقْدَارِ
الْمُوجَبِ منه
وما رَوَيْنَا يَقْتَضِي الْمِقْدَارَ فَكَانَ بَيَانًا لِمِقْدَارِ ما يَجِبُ فيه
الْعُشْرُ وَالْبَيَانُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ كَبَيَانِ الْمُجْمَلِ
وَالْمُتَشَابِهِ
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ على الْبَيَانِ لِأَنَّ ما
تَمَسَّكْنَا بِهِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ ما يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ وما لَا
يَدْخُلُ وما رَوَيْتُمْ من خَبَرِ الْمِقْدَارِ خَاصٌّ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ
الْوَسْقِ فَلَا يَصْلُحُ بَيَانًا لِلْقَدْرِ الذي يَجِبُ فيه الْعُشْرُ لِأَنَّ
من شَأْنِ الْبَيَانِ أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِجَمِيعِ ما يَقْتَضِي الْبَيَانُ
وَهَذَا ليس كَذَلِكَ على ما بَيَّنَّا فَعُلِمَ أَنَّهُ لم يَرِدْ مَوْرِدَ
الْبَيَانِ
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ من الصَّدَقَةِ الزَّكَاةُ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ
الصَّدَقَةِ لَا يَنْصَرِفُ إلَّا إلَى الزَّكَاةِ الْمَعْهُودَةِ وَنَحْنُ بِهِ
نَقُولُ أَنَّ ما دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ من طَعَامٍ أو تَمْرٍ لِلتِّجَارَةِ لَا
يَجِبُ فيه الزَّكَاةُ ما لم يَبْلُغْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أو
يَحْتَمِلُ الزَّكَاةَ فَيُحْمَلُ عليها عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ
الْإِمْكَانِ
ثُمَّ نَذْكُرُ فُرُوعَ مَذْهَبِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ في فَصْلَيْ الْخِلَافِ
وما فيه
____________________
(2/59)
من
الْخِلَافِ بَيْنَهُمَا في ذلك وَالْوِفَاقِ فَنَقُولُ عِنْدَهُمَا يَجِبُ
الْعُشْرُ في الْعِنَبِ لِأَنَّ الْمُجَفَّفَ منه يَبْقَى من سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ
وهو الزَّبِيبُ فَيُخْرَصُ الْعِنَبُ جَافًّا فَإِنْ بَلَغَ مِقْدَارَ ما يَجِيءُ
منه الزَّبِيبِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ يَجِبُ في عِنَبِهِ الْعُشْرُ أو نِصْفُ
الْعُشْرِ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ فيه
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعِنَبَ إذَا كان رَقِيقًا يَصْلُحُ لِلْمَاءِ
وَلَا يَجِيءُ منه الزَّبِيبُ فَلَا شَيْءَ فيه وَإِنْ كَثُرَ لِأَنَّ الْوُجُوبَ
فيه بِاعْتِبَارِ حَالِ الْجَفَافِ وَكَذَا قال أبو يُوسُفَ في سَائِرِ الثِّمَارِ
إذَا كان يَجِيءُ منها ما يَبْقَى من سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ بِالتَّجْفِيفِ أَنَّهُ يُخْرَصُ
ذلك جَافًّا فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا وَجَبَ وَإِلَّا فَلَا كَالتِّينِ
وَالْإِجَّاصِ وَالْكُمَّثْرَى وَالْخَوْخِ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّهَا إذَا
جُفِّفَتْ تَبْقَى من سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ فَكَانَتْ كَالزَّبِيبِ
وقال مُحَمَّدٌ لَا عُشْرَ في التِّينِ وَالْإِجَّاصِ وَالْكُمَّثْرَى وَالْخَوْخِ
وَالتُّفَّاحِ وَالْمِشْمِشِ وَالنَّبْقِ وَالتُّوتِ وَالْمَوْزِ وَالْخَرُّوبِ
لِأَنَّهَا وإن كان يُنْتَفَعُ بها بَعْضُهَا بِالتَّجْفِيفِ وَبَعْضُهَا
بِالتَّشْقِيقِ وَالتَّجْفِيفِ فَالِانْتِفَاعُ بها بهذا الطَّرِيقِ ليس بِغَالِبٍ
وَلَا يُفْعَلُ ذلك عَادَةً وَيَجِبُ الْعُشْرَ في الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ
وَالْفُسْتُقِ لِأَنَّهَا تَبْقَى من السَّنَةِ إلَى السَّنَةِ وَيَغْلِبُ
الِانْتِفَاعُ بِالْجَافِّ منها فَأَشْبَهَتْ الزَّبِيبَ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ في الْبَصَلِ الْعُشْرَ لِأَنَّهُ يَبْقَى من سَنَةٍ
إلَى سنة ( ( ( السنة ) ) ) وَيَدْخُلُ في الْكَيْلِ وَلَا عُشْرَ في الْآسِ
وَالْوَرْدِ وَالْوَسْمَةِ لِأَنَّهَا من الرَّيَاحِينِ وَلَا يَعُمُّ
الِانْتِفَاعُ بها
وَأَمَّا الْحِنَّاءُ فقال أبو يُوسُفَ فيه الْعُشْرُ وقال مُحَمَّدٌ لَا عُشْرَ
فيه لِأَنَّهُ من الرَّيَاحِينِ فَأَشْبَهَ الْآسَ وَالْوَرْدَ وَلِأَبِي يُوسُفَ
أَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ وَيُنْتَفَعُ بِهِ مَنْفَعَةً عَامَّةً
بِخِلَافِ الْآسِ وَالْعُصْفُرِ وَالْكَتَّانِ إذَا بَلَغَ الْقُرْطُمُ وَالْحَبُّ
خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَجَبَ فيه الْعُشْرُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من زِرَاعَتِهَا
الْحَبُّ وَالْحَبُّ يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ فَيُعْتَبَرُ فيه الْأَوْسُقُ فإذا
بَلَغَ ذلك يَجِبُ الْعُشْرُ وَيَجِبُ في الْعُصْفُرِ وَالْكَتَّانِ أَيْضًا على
طَرِيقِ التَّبَعِ وَقَالَا في بِزْرِ الْقُنْبِ إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ
فَفِيهِ الْعُشْرُ لِأَنَّهُ يَبْقَى وَيُقْصَدُ بِالزِّرَاعَةِ وَالِانْتِفَاعُ
بِهِ عَامٌّ وَلَا شَيْءَ في الْقُنْبِ لِأَنَّهُ لِحَاءُ الشَّجَرِ فَأَشْبَهَ
لِحَاءَ سَائِرِ الْأَشْجَارِ وَلَا عُشْرَ فيه فَكَذَا فيه وَقَالَا في حَبِّ
الصَّنَوْبَرِ إذَا بَلَغَ الْأَوْسُقَ فَفِيهِ الْعُشْرُ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ
الِادِّخَارَ وَلَا شَيْءَ في خَشَبِهِ كما لَا شَيْءَ في خَشَبِ سَائِرِ
الشَّجَرِ
وَيَجِبُ في الكراويا ( ( ( الكرويا ) ) ) وَالْكُزْبَرَةِ وَالْكَمُّونِ
وَالْخَرْدَلِ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَجِبُ في السَّعْتَرِ وَالشُّونِيزِ
وَالْحُلْبَةِ لِأَنَّهَا من جُمْلَةِ الْأَدْوِيَةِ فَلَا يَعُمُّ الِانْتِفَاعُ
بها وَقَصَبُ السُّكَّرِ إذَا كان مِمَّا يُتَّخَذُ منه السُّكَّرُ فإذا بَلَغَ ما
يَخْرُجُ منه خمس ( ( ( خمسة ) ) ) أَفْرَاقٍ وَجَبَ فيه الْعُشْرُ كَذَا قال
مُحَمَّدٌ لِأَنَّهُ يَبْقَى وَيُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا عَامًّا وَلَا شَيْءَ
في الْبَلُّوطِ لِأَنَّهُ لَا يَعُمُّ الْمَنْفَعَةُ بِهِ وَلَا عُشْرَ في بِزْرِ
الْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ وَالرُّطَبَةِ وَكُلِّ بِزْرٍ لَا
يَصْلُحُ إلا لِلزِّرَاعَةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ
بِزِرَاعَتِهَا نَفْسُهَا بَلْ ما يَتَوَلَّدُ منها وَذَا لَا عُشْرَ فيه
عِنْدَهُمَا
وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ على أَصْلِهِمَا ما إذَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ أَجْنَاسًا
مُخْتَلِفَةً كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَدَسِ كُلُّ صِنْفٍ منها لَا
يَبْلُغُ النِّصَابَ
وهو خَمْسَةُ أَوْسُقٍ أَنَّهُ يُعْطَى كُلُّ صِنْفٍ حُكْمَ نَفْسِهِ أو يُضَمُّ
الْبَعْضُ إلَى الْبَعْضِ في تَكْمِيلِ النِّصَابِ وهو خَمْسَةُ أَوْسُقٍ رَوَى
مُحَمَّدٌ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُضَمُّ الْبَعْضُ إلَى الْبَعْضِ بَلْ
يُعْتَبَرُ كُلُّ جِنْسٍ بِانْفِرَادِهِ ولم يَرْوِ عنه ما إذَا أَخْرَجَتْ
نَوْعَيْنِ من جِنْسٍ
وَرَوَى الْحَسَنُ بن زِيَادٍ وابن أبي مَالِكٍ عنه أَنَّ كُلَّ نَوْعَيْنِ لَا
يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا كَالْحِنْطَةِ الْبَيْضَاءِ
وَالْحَمْرَاءِ وَنَحْوُ ذلك يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخِرِ سَوَاءٌ خَرَجَا
من أَرْضٍ وَاحِدَةٍ أو أَرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ وَيُكَمَّلُ بِهِ النِّصَابُ وَإِنْ
كَانَا مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا كَالْحِنْطَةِ
وَالشَّعِيرِ لَا يُضَمُّ وَإِنْ خَرَجَا من أَرْضٍ وَاحِدَةٍ وَتَعَيَّنَ كُلُّ
صِنْفٍ منهما بِانْفِرَادِهِ ما لم يَبْلُغْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ لَا شَيْءَ فيه وهو
قَوْلُ مُحَمَّدٍ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عنه أَنَّ الْغَلَّتَيْنِ إنْ كَانَتَا تُدْرَكَانِ في
وَقْتٍ وَاحِدٍ تُضَمُّ أحداهما إلَى الْأُخْرَى وَإِنْ اخْتَلَفَتْ
أَجْنَاسُهُمَا وَإِنْ كَانَتَا لَا تُدْرَكَانِ في وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا تُضَمُّ
وَجْهُ رِوَايَةِ اعْتِبَارِ الْإِدْرَاكِ أَنَّ الْحَقَّ يَجِبُ في الْمَنْفَعَةِ
وَإِنْ كَانَتَا تُدْرَكَانِ في مَكَان وَاحِدٍ كانت مَنْفَعَتُهُمَا وَاحِدَةً
فَلَا يُعْتَبَرُ فيه اخْتِلَافُ جِنْسِ الْخَارِجِ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ في
بَابِ الزَّكَاةِ وإذا كان إدْرَاكُهُمَا في أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَقَدْ
اخْتَلَفَتْ مَنْفَعَتُهُمَا فَكَانَا كَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ
وَجْهُ رِوَايَةِ اعْتِبَارِ التَّفَاضُلِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا
عِبْرَةَ لِاخْتِلَافِ النَّوْعِ فِيمَا لَا يَجُوزُ فيه التَّفَاضُلُ إذَا كان
الْجِنْسُ مُتَّحِدًا كَالدَّرَاهِمِ السُّودِ وَالْبِيضِ في بَابِ الزَّكَاةِ أنه
يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ في تَكْمِيلِ النِّصَابِ
وَإِنْ كان النَّوْعُ مُخْتَلِفًا فَأَمَّا فِيمَا لَا يَجْرِي فيه التَّفَاضُلُ
فَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ مُعْتَبَرٌ في الْمَنْعِ من الضَّمِّ كَالْإِبِلِ مع
الْبَقَرِ في بَابِ الزَّكَاةِ وهو رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عن أبي يُوسُفَ
وقال أبو يُوسُف إذَا كان لِرَجُلٍ أَرَاضِي مُخْتَلِفَةٌ في رَسَاتِيقَ
مُخْتَلِفَةٍ وَالْعَامِلُ وَاحِدٌ ضَمَّ الْخَارِجَ من بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ
____________________
(2/60)
وَكَمَّلَ
الْأَوْسُقَ بِهِ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَامِلُ لم يَكُنْ لِأَحَدِ الْعَامِلِينَ
مُطَالَبَةٌ حتى يَبْلُغَ ما خَرَجَ من الْأَرْضِ التي في عَمَلِهِ خَمْسَةُ
أَوْسُقٍ وقال مُحَمَّدٌ إذَا اتَّفَقَ الْمَالِكُ ضُمَّ الْخَارِجُ بَعْضُهُ إلَى
بَعْضٍ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَرْضُونَ وَالْعُمَّالُ وَهَذَا لَا يُحَقِّقُ
الْخِلَافَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجَابَ في غَيْرِ ما أَجَابَ بِهِ
الْآخَرُ لِأَنَّ جَوَابَ أبي يُوسُفَ في سُقُوطِ الْمُطَالَبَةِ عن الْمَالِكِ
ولم يَتَعَرَّضْ لِوُجُوبِ الْحَقِّ على الْمَالِكِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ تَعَالَى وهو فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مُخَاطَبٌ
بِالْأَدَاءِ لِاجْتِمَاعِ النِّصَابِ في مِلْكِهِ وَإِنَّهُ سَقَطَتْ
الْمُطَالَبَةُ عنه وَجَوَابُ مُحَمَّدٍ في وُجُوبِ الْحَقِّ ولم يَتَعَرَّضْ
لِمُطَالَبَةِ الْعَامِلِ فلم يَتَحَقَّقْ الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا
وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ على قَوْلِهِمَا الْأَرْضُ الْمُشْتَرَكَةُ إذَا أَخْرَجَتْ
خَمْسَةَ أَوْسُقٍ أَنَّهُ لَا عُشْرَ فيها حتى تَبْلُغَ حِصَّةَ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي يُوسُفَ إن فيها الْعُشْرَ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَالِكَ ليس بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ
بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ في الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ وَأَرْضِ الْمُكَاتَبِ
وَأَرْضِ الْمَأْذُونِ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ كَمَالُ النِّصَابِ وهو خَمْسَةُ
أَوْسُقٍ وقد وُجِدَ وَالصَّحِيحُ هو الْأَوَّلُ لِأَنَّ النِّصَابَ عِنْدَهُمَا
شَرْطُ الْوُجُوبِ فيصير ( ( ( فيعتبر ) ) ) كَمَالُهُ في حَقِّ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا كما في مَالِ الزَّكَاةِ على ما بَيَّنَّا
هذا الذي ذَكَرْنَا من اعْتِبَارِ الْأَوْسُقِ عِنْدَهُمَا فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ
الْكَيْلِ وَأَمَّا ما لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ كَالْقُطْنِ
وَالزَّعْفَرَانِ فَقَدْ اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا
قال أبو يُوسُفَ يُعْتَبَرُ فيه الْقِيمَةُ وهو أَنْ يَبْلُغَ قِيمَةُ الْخَارِجِ
قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ من أَدْنَى ما يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ من الْحُبُوبِ
وقال مُحَمَّدٌ يُعْتَبَرُ خَمْسَةُ أَمْثَالٍ أَعْلَى ما يُقَدَّرُ بِهِ ذلك
الشَّيْءُ فَالْقُطْنُ يُعْتَبَرُ بِالْأَحْمَالِ فإذا بَلَغَ خَمْسَةَ أَحْمَالٍ
يَجِبُ وَإِلَّا فَلَا وَيُعْتَبَرُ كُلُّ حِمْلٍ ثَلَثَمِائَةِ مَنٍّ فَتَكُونُ
جُمْلَتُهُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ منا
وَالزَّعْفَرَانُ يُعْتَبَرُ بِالْأَمْنَانِ فإذا بَلَغَ خَمْسَةَ أَمْنَانٍ
يَجِبُ وَإِلَّا فَلَا وَكَذَلِكَ في السُّكَّرِ يُعْتَبَرُ خَمْسَةُ أَمْنَانٍ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْوَسْقِ في الْمَوْسُوقَاتِ لِكَوْنِ
الْوَسْقِ أَقْصَى ما يُقَدَّرُ بِهِ في بَابِهِ وَأَقْصَى ما يُقَدَّرُ بِهِ في
غَيْرِ الْمَوْسُوقِ ما ذَكَرْنَا فَوَجَبَ التَّقْدِيرُ بِهِ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَصْلَ هو اعْتِبَارُ الْوَسْقِ لِأَنَّ النَّصَّ
وَرَدَ بِهِ غير أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ صُورَةً وَمَعْنًى يُعْتَبَرُ
وَإِنْ لم يُمْكِنْ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ مَعْنًى وهو قِيمَةُ الْمَوْسُوقِ
وَأَمَّا الْعَسَلُ فَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ
الْكَرْخِيُّ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ فيه قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ
فَإِنْ بَلَغَ ذلك يَجِبُ فيه الْعُشْرُ وَإِلَّا فَلَا بِنَاءً على أَصْلِهِ من
اعْتِبَارِ قِيمَةِ الْأَوْسُقِ فِيمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ وما رُوِيَ
عنه أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فيه خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ قَدْرَ
خَمْسَةِ أَوْسُقٍ لِأَنَّ الْعَسَلَ لَا يُكَالُ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قَدَّرَ
ذلك بِعَشْرَةِ أَرْطَالٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ خَمْسَ قِرَبٍ كُلُّ
قِرْبَةٍ خَمْسُونَ مَنًّا فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ مِائَتَيْنِ وخمسين ( ( ( وخمسون
) ) ) مَنًّا وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ فيه خَمْسَةَ أَفْرَاقٍ كُلُّ فَرْقٍ سِتَّةٌ
وَثَلَاثُونَ رِطْلًا فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَنًّا فَتَكُونُ جُمْلَتُهُ
تِسْعِينَ مَنًّا بِنَاءً على أَصْلِهِ من اعْتِبَارِ خَمْسَةِ أَمْثَالٍ أَعْلَى
ما يُقَدَّرُ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ
اعْتَبَرَ في نِصَابِ الْعَسَلِ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ
خَمْسَةَ أَفْرَاقٍ في رِوَايَةٍ وَخَمْسَ قِرَبٍ في رِوَايَةٍ وَخَمْسَةَ
أَمْنَانٍ في رِوَايَةٍ
ثُمَّ وُجُوبُ الْعُشْرِ في الْعَسَلِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا عُشْرَ فيه وَزَعَمَ إن ما رُوِيَ في وُجُوبِ الْعُشْرِ في
الْعَسَلِ لم يَثْبُتْ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وهو الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ
لم يُوجَدْ لِأَنَّهُ ليس من نَمَاءِ الْأَرْضِ بَلْ هو مُتَوَلِّدٌ من حَيَوَانٍ
فلم تَكُنْ الْأَرْضُ نَامِيَةً بها وَنَحْنُ نَقُولُ إنْ لم يَثْبُتْ عِنْدَك
وُجُوبُ الْعُشْرِ في الْعَسَلِ فَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَلَا تَرَى إلَى ما
رُوِيَ أَنَّ أَبَا سَيَّارَةَ جاء إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال إنَّ لي
نَحْلًا فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَدِّ عُشْرَهَا فقال أبو سَيَّارَةَ
احْمِهَا لي يا رَسُولَ اللَّهِ فحما ( ( ( فحماها ) ) ) له
وَرَوَى عمر ( ( ( عمرو ) ) ) بن شُعَيْبٍ عن أبيه عن جَدِّهِ أَنَّ بَطْنًا من
فِهْرٍ كَانُوا يُؤَدُّونَ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم من نحل ( ( (
نخل ) ) ) لهم الْعُشْرَ من كل عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً وكان يحمي لهم وَادِيَيْنِ
فلما كان عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه اسْتَعْمَلَ على ما هُنَاكَ سُفْيَانَ بن عبد
اللَّهِ الثَّقَفِيَّ فَأَبَوْا أَنْ يُؤَدُّوا إلَيْهِ شيئا وَقَالُوا إنَّمَا
كان شيئا نُؤَدِّيهِ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَكَتَبَ ذلك
سُفْيَانُ إلَى عُمَرَ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ إنَّمَا النحل ( ( ( النخل ) ) )
ذُبَابُ غَيْثٍ يَسُوقُهُ اللَّهُ تَعَالَى رِزْقًا إلَى من يَشَاءُ فَإِنْ أَدَّوْا
إلَيْك ما كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَاحْمِ
له وَادِيَهُمْ وَإِلَّا فَخَلِّ بين الناس وَبَيْنَهَا فَأَدَّوْا إلَيْهِ
وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كَتَبَ
إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنْ يُؤْخَذَ من الْعَسَلِ الْعُشْرُ
وَعَنْ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان يَأْخُذُ عن الْعَسَلِ الْعُشْرَ من كل
عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً وَكَذَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما
أَنَّهُ كان
____________________
(2/61)
يَفْعَلُ
ذلك حين كان وَالِيًا بِالْبَصْرَةِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ ليس من نَمَاءِ الْأَرْضِ فَنَقُولُ هو مُلْحَقٌ بِنَمَائِهَا
لِاعْتِبَارِ الناس أعداد الْأَرْضِ لها وَلِأَنَّهُ يَتَوَلَّدُ من أَنْوَارِ
الشَّجَرِ فَكَانَ كَالثَّمَرِ
ثُمَّ إنَّمَا يَجِبُ الْعُشْرُ في الْعَسَلِ إذَا كان في أَرْضِ الْعُشْرِ
فَأَمَّا إذَا كان في أَرْضِ الْخَرَاجِ فَلَا شَيْءَ فيه لِمَا ذَكَرْنَا إن
وُجُوبَ الْعُشْرِ فيه لِكَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَرِ لِتَوَلُّدِهِ من
أَزْهَارِ الشَّجَرِ وَلَا شَيْءَ في ثِمَارِ أَرْضِ الْخَرَاجِ وَلِأَنَّ أَرْضَ الْخَرَاجِ
يَجِبُ فيها الْخَرَاجُ فَلَوْ وَجَبَ الْعُشْرُ في الْعَسَلِ لَاجْتَمَعَ
الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ في أَرْضٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَنَا
وَيَجِبُ الْعُشْرُ في قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ
مُلْحَقٌ بِالنَّمَاءِ وَيَجْرِي مَجْرَى الثِّمَارِ وَالنِّصَابُ ليس بِشَرْطٍ في
ذلك عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا شَرْطٌ وقد ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ عنهما
في ذلك
وما يُوجَدُ في الْجِبَالِ من الْعَسَلِ وَالْفَوَاكِهِ فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدٌ عن
أبي حَنِيفَةَ أَنَّ فيه الْعُشْرَ
وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فيه
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ هذا مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ فَلَا يَجِبُ فيه
الْعُشْرُ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومَاتُ الْعُشْرِ
إلَّا أَنَّ مِلْكَ الْخَارِجِ شَرْطٌ وَلَمَّا أَخَذَهُ فَقَدْ مَلَكَهُ فَصَارَ
كما لو كان في أَرْضِهِ
وَالْحَوْلُ ليس بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ حتى لو أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ في
السَّنَةِ مِرَارًا يَجِبُ الْعُشْرُ في كل مَرَّةٍ لِأَنَّ نُصُوصَ الْعُشْرِ
مُطْلَقَةٌ عن شَرْطِ الْحَوْلِ وَلِأَنَّ الْعُشْرَ في الْخَارِجِ حَقِيقَةً
فَيَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ وَكَذَلِكَ خَرَاجُ
الْمُقَاسَمَةِ لِأَنَّهُ في الْخَارِجِ فَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَلَا
يَجِبُ في السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّ ذلك ليس في الْخَارِجِ بَلْ
في الذِّمَّةِ عُرِفَ ذلك بِتَوْظِيفِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه وما وَظَّفَ في
السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ فَالْكَلَامُ في هذا الْفَصْلِ في
مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ قَدْرِ الْوَاجِبِ من الْعُشْرِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ قَدْرِ الْوَاجِبِ من الْخَرَاجِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فما سُقِيَ بِمَاءِ السَّمَاءِ أو سُقِيَ سَيْحًا فَفِيهِ
عُشْرٌ كَامِلٌ وما سقى بِغَرَبٍ أو دَالِيَةٍ أو سَانِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ
الْعُشْرُ وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال ما سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وما سُقِيَ بِغَرَبٍ أو
دَالِيَةٍ أو ساقية ( ( ( سانية ) ) ) فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ
وَعَنْ أَنَسٍ رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ أو الْعَيْنُ أو كان بَعْلًا الْعُشْرُ وما سُقِيَ
بِالرِّشَاءِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ وَلِأَنَّ الْعُشْرَ وَجَبَ مُؤْنَةَ
الْأَرْضِ فَيَخْتَلِفُ الْوَاجِبُ بِقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ وَكَثْرَتِهَا
وَلَوْ سقى الزَّرْعُ في بَعْضِ السَّنَةِ سَيْحًا وفي بَعْضِهَا بِآلَةٍ
يُعْتَبَرُ في ذلك الْغَالِبِ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ كما في
السَّوْمِ في بَابِ الزَّكَاةِ على ما مَرَّ وَلَا يُحْتَسَبُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ
ما أَنْفَقَ على الْغَلَّةِ من سَقْيٍ أو عِمَارَةٍ أو أَجْرِ الْحَافِظِ أو
أَجْرِ الْعُمَّالِ أو نَفَقَةِ الْبَقَرِ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ما
سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وما سُقِيَ بِغَرَبٍ أو دَالِيَةٍ أو
سَانِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ أَوْجَبَ الْعُشْرَ وَنِصْفَ الْعُشْرِ
مُطْلَقًا عن احْتِسَابِ هذه الْمُؤَنِ وَلِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَوْجَبَ الْحَقَّ على التَّفَاوُتِ لِتَفَاوُتِ الْمُؤَنِ وَلَوْ رُفِعَتْ
الْمُؤَنُ لَارْتَفَعَ التَّفَاوُتُ
وَأَمَّا الثَّانِي وهو بَيَانُ قَدْرِ الْوَاجِبِ من الْخَرَاجِ فَالْخَرَاجُ
نَوْعَانِ خَرَاجُ وَظِيفَةٍ وَخَرَاجُ مُقَاسَمَةٍ أَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ
فما وَظَّفَهُ عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه فَفِي كل جَرِيبِ أَرْضٍ بَيْضَاءَ تَصْلُحُ
لِلزِّرَاعَةِ قَفِيزٌ مِمَّا يُزْرَعُ فيها درهم ( ( ( ودرهم ) ) ) الْقَفِيزِ
صَاعٌ وَالدِّرْهَمُ وَزْنُ سَبْعَةٍ
وَالْجَرِيبُ أَرْضٌ طُولُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا
بِذِرَاعِ كِسْرَى يَزِيدُ على ذِرَاعِ الْعَامَّةِ يقبضه ( ( ( بقصبة ) ) ) وفي
جَرِيبِ الرُّطَبَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وفي جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ
هَكَذَا وَظَّفَهُ عُمَرُ بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ
وَمِثْلُهُ يَكُونُ إجْمَاعًا
وَأَمَّا جَرِيبُ الْأَرْضِ التي فيها أَشْجَارٌ مُثْمِرَةٌ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ
زِرَاعَتُهَا لم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ
أَنَّهُ قال إذَا كانت النَّخِيلُ مُلْتَفَّةً جَعَلْت عليها الْخَرَاجَ بِقَدْرِ
ما تُطِيقُ وَلَا أَزِيدُ على جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ وفي جَرِيبِ
الْأَرْضِ التي يُتَّخَذُ فيها الزَّعْفَرَانُ قَدْرُ ما تُطِيقُ فَيُنْظَرُ إلَى
غَلَّتِهَا فَإِنْ كانت تَبْلُغُ غَلَّةَ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ يُؤْخَذُ منها
قَدْرُ خَرَاجِ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ وَإِنْ كانت تَبْلُغُ غَلَّةَ
الرُّطَبَةِ يُؤْخَذُ منها قَدْرُ خَرَاجِ أَرْضِ الرُّطَبَةِ هَكَذَا لِأَنَّ
مَبْنَى الْخَرَاجِ على الطَّاقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ حُذَيْفَةَ بن الْيَمَانِ وَعُثْمَانَ
بن حُنَيْفٍ رضي اللَّهُ عنهما لَمَّا مَسَحَا سَوَادَ الْعِرَاقِ بِأَمْرِ عُمَرَ
رضي اللَّهُ عنه وَوَضَعَا على كل جَرِيبٍ يَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ قَفِيزًا
وَدِرْهَمًا وَعَلَى كل جَرِيبٍ يَصْلُحُ لِلرُّطَبَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَعَلَى
كل جَرِيبٍ يَصْلُحُ لِلْكَرْمِ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فقال لَهُمَا عُمَرُ رضي
اللَّهُ عنه لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا ما لَا تُطِيقُ فَقَالَا بَلْ حَمَّلْنَا
ما تُطِيقُ وَلَوْ زِدْنَا لَأَطَاقَتْ
فَدَلَّ الْحَدِيثُ على أَنَّ مَبْنَى
____________________
(2/62)
الْخَرَاجِ
على الطَّاقَةِ فَيُقَدَّرُ بها فِيمَا وَرَاءَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ
الْمَذْكُورَةِ في الْخَبَرِ فَيُوضَعُ على أَرْضِ الزَّعْفَرَانِ وَالْبُسْتَانِ
في أَرْضِ الْخَرَاجِ بِقَدْرِ ما تُطِيقُ وَقَالُوا نِهَايَةُ الطَّاقَةِ قَدْرُ
نِصْفِ الْخَارِجِ لَا يُزَادُ عليه وَقَالُوا فِيمَنْ له أَرْضُ زَعْفَرَانٍ
فَزَرَعَ مكان ( ( ( مكانه ) ) ) الْحُبُوبَ من غَيْرِ عُذْرٍ أنه يُؤْخَذُ منه
خَرَاجُ الزَّعْفَرَانِ لِأَنَّهُ قَصَّرَ حَيْثُ لم يَزْرَعْ الزَّعْفَرَانَ مع
الْقُدْرَةِ عليه فَصَارَ كَأَنَّهُ عَطَّلَ الْأَرْضَ فلم يَزْرَعْ فيها شيئا
وَلَوْ فَعَلَ ذلك يُؤْخَذُ منه خَرَاجُ الزَّعْفَرَانِ كَذَا هذا
وَكَذَا إذَا قَطَعَ كَرْمَهُ من غَيْرِ عُذْرٍ وَزَرَعَ فيه الْحُبُوبَ أَنَّهُ
يُؤْخَذُ منه خَرَاجُ الْكَرْمِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ أَخْرَجَتْ أَرْضُ
الْخَرَاجِ قَدْرَ الْخَرَاجِ لَا غير يُؤْخَذُ نِصْفُ الْخَرَاجِ وَإِنْ
أَخْرَجَتْ مِثْلَيْ الْخَرَاجِ فَصَاعِدًا يُؤْخَذُ جَمِيعُ الْخَرَاجِ
الْمُوَظَّفِ عليها وَإِنْ كانت لَا تُطِيقُ قَدْرَ خَرَاجِهَا الْمَوْضُوعِ عليها
يَنْقُضُ وَيُؤْخَذُ منها قَدْرَ ما تُطِيقُ بِلَا خِلَافٍ وَاخْتُلِفَ فِيمَا
إذَا كانت تُطِيقُ أَكْثَرَ من الْمَوْضُوعِ أَنَّهُ هل تُزَادُ أَمْ لَا قال أبو
يُوسُفَ لَا تُزَادُ وقال مُحَمَّدٌ تُزَادُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إن مَبْنَى الْخَرَاجِ على الطَّاقَةِ على ما بَيَّنَّا
فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ على الْقَدْرِ الْمُوَظَّفِ إذَا كانت تُطِيقُهُ وَلِأَبِي
يُوسُفَ أَنَّ مَعْنَى الطَّاقَةِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فيها وَرَاءَ الْمَنْصُوصِ
وَالْمُجْمَعِ عليه وَالْقَدْرُ الْمَوْضُوعُ من الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ
مَنْصُوصٌ وَمُجْمَعٌ عليه على ما بَيَّنَّا فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عليه
بِالْقِيَاسِ
وَأَمَّا خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ فَهُوَ أَنْ يَفْتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً
فَيَمُنَّ على أَهْلِهَا وَيَجْعَلَ على أَرَاضِيِهِمْ خَرَاجَ مُقَاسَمَةٍ وهو
أَنْ يُؤْخَذَ منهم نِصْفُ الْخَارِجِ أو ثُلُثُهُ أو رُبُعُهُ وأنه جَائِزٌ لِمَا
رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم هَكَذَا فَعَلَ لَمَّا فَتَحَ
خَيْبَرَ وَيَكُونُ حُكْمُ هذا الْخَرَاجِ حُكْمَ الْعُشْرِ وَيَكُونُ ذلك في
الْخَارِجِ كَالْعُشْرِ إلَّا أَنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ لِأَنَّهُ
خَرَاجٌ في الْحَقِيقَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فَالْوَاجِبُ جُزْءٌ من الْخَارِجِ لِأَنَّهُ
عُشْرُ الْخَارِجِ أو نِصْفُ عُشْرِهِ وَذَلِكَ جُزْؤُهُ إلَّا أَنَّهُ وَاجِبٌ من
حَيْثُ أنه مَالٌ لَا من حَيْثُ أنه جُزْءٌ عِنْدَنَا حتى يَجُوزَ أَدَاءُ قِيمَتِهِ
عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْوَاجِبُ عَيْنُ الْجُزْءِ وَلَا يَجُوزُ
غَيْرُهُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ دَفْعِ الْقِيَمِ وقد مَرَّتْ فِيمَا تَقَدَّمَ
فَصْلٌ وَأَمَّا وَقْتُ الْوُجُوبِ فَوَقْتُ الْوُجُوبِ وَقْتُ خُرُوجِ الزَّرْعِ
وَظُهُورِ الثَّمَرِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَقْتُ
الْإِدْرَاكِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَقْتُ التَّنْقِيَةِ وَالْجُذَاذِ فإنه قال إذَا كان
الثَّمَرُ قد حُصِدَ في الْحَظِيرَةِ وذرى الْبُرُّ وكان خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ثُمَّ
ذَهَبَ بَعْضُهُ كان في الذي بَقِيَ منه الْعُشْرُ فَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ
وَقْتَ الْوُجُوبِ عِنْدَهُ هو وَقْتُ التَّصْفِيَةِ في الزَّرْعِ وَوَقْتُ
الْجُذَاذِ في الثَّمَرِ هو يقول تِلْكَ الْحَالُ هِيَ حَالُ تَنَاهِي عِظَمِ
الْحَبِّ وَالثَّمَرِ وَاسْتِحْكَامِهَا فَكَانَتْ هِيَ حَالَ الْوُجُوبِ وأبو يُوسُفَ
يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ } وَيَوْمُ
حَصَادِهِ هو يَوْمُ إدْرَاكِهِ فَكَانَ هو وَقْتَ الْوُجُوبِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى { أَنْفِقُوا من طَيِّبَاتِ ما كَسَبْتُمْ
وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ من الْأَرْضِ } أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى
بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا أَخْرَجَهُ من الْأَرْضِ فَدَلَّ أَنَّ الْوُجُوبَ
مُتَعَلِّقٌ بِالْخُرُوجِ وَلِأَنَّهُ كما خَرَجَ حُصِّلَ مُشْتَرَكًا كَالْمَالِ
الْمُشْتَرَكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ من الْأَرْضِ }
جَعَلَ الْخَارِجَ لِلْكُلِّ فَيَدْخُلُ فيه الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ
وإذا عَرَفْتَ وَقْتَ الْوُجُوبِ على اخْتِلَافِهِمْ فيه فَفَائِدَةُ هذا
الِاخْتِلَافِ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لَا تَظْهَرُ إلَّا في الِاسْتِهْلَاكِ
فما كان منه بَعْدَ الْوُجُوبِ يُضْمَنُ عُشْرُهُ وما كان قبل الْوُجُوبِ لَا
يُضْمَنُ
وَأَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ في
الِاسْتِهْلَاكِ وفي الْهَلَاكِ أَيْضًا في حَقِّ تَكْمِيلِ النِّصَابِ
بِالْهَالِكِ فما هَلَكَ بَعْدَ الْوُجُوبِ يُعْتَبَرُ الْهَالِكُ مع الْبَاقِي في
تَكْمِيلِ النِّصَابِ وما هَلَكَ قبل الْوُجُوبِ لَا يُعْتَبَرُ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا أَتْلَفَ إنْسَانٌ الزَّرْعَ أو الثَّمَرَ قبل
الْإِدْرَاكِ حتى ضُمِّنَ أَخَذَ صَاحِبُ الْمَالِ من الْمُتْلِفِ ضَمَانَ
الْمُتْلَفِ وَأَدَّى عُشْرَهُ وَإِنْ أَتْلَفَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ أَدَّى
قَدْرَ عُشْرِ الْمُتْلَفِ من ضَمَانِهِ وما بَقِيَ فَعُشْرُهُ في الْخَارِجِ
وَإِنْ أَتْلَفَهُ صَاحِبُهُ أو أَكَلَهُ يَضْمَنُ عُشْرَهُ وَيَكُونُ دَيْنًا في
ذِمَّتِهِ وَإِنْ أَتْلَفَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ يضمن قُدِّرَ عُشْرُ ما
أَتْلَفَ وَيَكُونُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ وَعُشْرُ الْبَاقِي يَكُونُ في
الْخَارِجِ وَهَذَا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ حَصَلَ بَعْدَ
الْوُجُوبِ لِثُبُوتِ الْوُجُوبِ بِالْخُرُوجِ وَالظُّهُورِ فَكَانَ الْحَقُّ مَضْمُونًا
عليه كما لو أَتْلَفَ مَالَ الزَّكَاةِ بَعْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ
وَأَمَّا على قَوْلِهِمَا فَلَا يَضْمَنُ عُشْرَ الْمُتْلَفِ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ
حَصَلَ قبل وَقْتِ وُجُوبِ الْحَقِّ وَلَوْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ فَلَا عُشْرَ في
الْهَالِكِ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ هَلَكَ كُلُّهُ أو بَعْضُهُ لِأَنَّ الْعُشْرَ
لَا يُضْمَنُ
____________________
(2/63)
بِالْهَلَاكِ
سَوَاءٌ كان قبل الْوُجُوبِ أو بَعْدَهُ وَيَكُونُ عُشْرُ الْبَاقِي فيه قَلَّ أو
كَثُرَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ النِّصَابَ عِنْدَهُ ليس بِشَرْطٍ
وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا إنْ كان الْبَاقِي نِصَابًا وهو خَمْسَةُ أَوْسُقٍ وَإِنْ
لم يَكُنْ نِصَابًا لَا يُعْتَبَرُ قَدْرُ الْهَالِكِ في تَكْمِيلِ النِّصَابِ في
الْبَاقِي عِنْدَهُمَا بَلْ إنْ بَلَغَ الْبَاقِي بِنَفْسِهِ نِصَابًا يَكُونُ فيه
الْعُشْرُ وَإِلَّا فَلَا
هذا إذَا هَلَكَ قبل الْإِدْرَاكِ أو اُسْتُهْلِكَ فَأَمَّا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ
وَالتَّنْقِيَةِ وَالْجُذَاذِ أو بَعْدَ الْإِدْرَاكِ قبل التَّنْقِيَةِ
وَالْجُذَاذِ فَإِنْ هَلَكَ سَقَطَ الْوَاجِبُ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا
كَالزَّكَاةِ تَسْقُطُ إذَا هَلَكَ النِّصَابُ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَسْقُطُ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ وَإِنْ هَلَكَ
بَعْضُهُ سَقَطَ الْوَاجِبُ بِقَدْرِهِ وَبَقِيَ عُشْرُ الْبَاقِي فيه قَلِيلًا
كان أو كَثِيرًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ النِّصَابَ ليس بِشَرْطٍ عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا يُكَمَّلُ نِصَابُ الْبَاقِي بِالْهَالِكِ وَيُحْتَسَبُ بِهِ في
تَمَامِ الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْهَالِكُ في تَمَامِ
الْأَوْسُقِ بَلْ يُعْتَبَرُ التَّمَامُ في الْبَاقِي فَإِنْ كان في نَفْسِهِ
نِصَابًا يَكُونُ فيه الْعُشْرُ وَإِلَا فَلَا
وَإِنْ اُسْتُهْلِكَ فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمَالِكُ ضَمِنَ عُشْرَهُ وَيَكُونُ
دَيْنًا في ذِمَّتِهِ وَإِنْ اسْتَهْلَكَ بَعْضَهُ فَقَدْرُ عُشْرِ
الْمُسْتَهْلَكِ يَكُونُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ وَعُشْرُ الْبَاقِي في الْخَارِجِ
وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ غَيْرُ الْمَالِكِ أُخِذَ الضَّمَانُ منه وَأَدَّى عُشْرَهُ
لِأَنَّهُ هَلَكَ إلَى خَلْفٍ وهو الضَّمَانُ فَكَانَ قَائِمًا مَعْنًى وَإِنْ
اُسْتُهْلِكَ بَعْضُهُ أُخِذَ ضَمَانُهُ وَأَدَّى عُشْرَ الْقَدْرِ
الْمُسْتَهْلَكِ وَعُشْرَ الْبَاقِي منه لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ أَكَلَ صَاحِبُ الْمَالِ من الثَّمَرِ أو أَطْعَمَ غَيْرَهُ يَضْمَنُ
عُشْرَهُ وَيَكُونُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ وَعُشْرُ ما بَقِيَ يَكُونُ فيه وَهَذَا
على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ ما
أَكَلَ أو أَطْعَمَ بِالْمَعْرُوفِ لَا يَضْمَنُ عُشْرَهُ لَكِنْ يُعْتَدُّ بِهِ
في تَكْمِيلِ النِّصَابِ وهو الْأَوْسُقُ فإذا بَلَغَ الْكُلُّ نِصَابًا أَدَّى
عُشْرَ ما بَقِيَ
احْتَجَّ أبو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ عن سَهْلِ بن أبي خَيْثَمَةَ عن النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا خَرَصْتُمْ فَجُذُّوا وَدَعُوا الثُّلُثَ
فَإِنْ لم تَدَعُوا الثُّلُثَ فَالرُّبُعَ
وَرُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان بَعَثَ أَبَا خَيْثَمَةَ خَارِصًا
جاء ( ( ( فجاء ) ) ) رَجُلٌ فقال يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا خَيْثَمَةَ زَادَ
عَلَيَّ فقال له رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ ابْنَ عَمِّكَ يَزْعُمُ
أَنَّكَ قد ردت ( ( ( زدت ) ) ) عليه فقال يا رَسُولَ اللَّهِ لقد تَرَكْتُ له
قَدْرَ عَرِيَّةِ أَهْلِهِ وما يُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ وما يُصِيبُ الرِّيحُ فقال
صلى اللَّهُ عليه وسلم لقد ( ( ( فقد ) ) ) زَادَكَ ابن عَمِّكَ وَأَنْصَفَكَ
وَعَنْهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال خَفِّفُوا في الْخَرْصِ فإن في
الْمَالِ الْعَرِيَّةَ والواطئة ( ( ( والوصية ) ) ) وَالْمُرَادُ من الْعَرِيَّةِ
الصَّدَقَةُ أَمَرَ بِالتَّخْفِيفِ في الْخَرْصِ وَبَيَّنَ الْمَعْنَى وهو أَنَّ
في الْمَالِ عَرِيَّةً وَوَصِيَّةً فَلَوْ ضَمِنَ عُشْرَ ما تَصَدَّقَ أو أَكَلَ
هو وَأَهْلُهُ لم يَتَحَقَّقْ التَّخْفِيفُ وَلِأَنَّهُ لو ضَمِنَ ذلك لَامْتَنَعَ
من الْأَكْلِ خَوْفًا من الْعُشْرِ وَفِيهِ حَرَجٌ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَدُّ
بِذَلِكَ في تَكْمِيلِ النِّصَابِ لِأَنَّ نَفْيَ وُجُوبِ الضَّمَانِ عنه
تَخْفِيفًا عليه نَظَرًا له وفي عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهِ في تَمَامِ الْأَوْسُقِ
ضَرَرٌ بِهِ وَبِالْفُقَرَاءِ
وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ النُّصُوصُ الْمُقْتَضِيَةُ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ في كل
خَارِجٍ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْمَأْكُولِ وَالْبَاقِي
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى قال { وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ }
أَمَرَ بِإِيتَاءِ الْحَقِّ يوم الْحَصَادِ فَلَا يَجِبُ الْحَقُّ فِيمَا أُخِذَ
منه قبل الْحَصَادِ يَدُلُّ عليه قَرِينَةُ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {
كُلُوا من ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ } وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ قَدْرَ
الْمَأْكُولِ أَفْضَلُ إذْ لو لم يَكُنْ أَفْضَلَ لم يَكُنْ لِقَوْلِهِ { كُلُوا
من ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ } فَائِدَةٌ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ
الثَّمَرَةَ تُؤْكَلُ وَلَا تَصْلُحُ لِغَيْرِ الْأَكْلِ
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْآيَةَ لَازِمَةٌ له لِأَنَّ الْحَصَادَ هو الْقَطْعُ
فَيَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ ما قُطِعَ أخذ ( ( ( وأخذ ) ) ) منه شَيْءٌ لَزِمَهُ
إخْرَاجُ عشرة من غَيْرِ فَصْلٍ بين ما إذَا كان الْمَقْطُوعُ مَأْكُولًا أو باقيا
على أَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَجِبُ إيتَاءُ حَقِّهِ يوم
حَصَادِهِ لَكِنْ ما حَقُّهُ يوم حَصَادِهِ أَدَاءُ الْعُشْرِ عن الْبَاقِي
فَحَسْبُ أَمْ عن الْبَاقِي وَالْمَأْكُولِ وَالْآيَةُ لَا تَتَعَرَّضُ لِشَيْءٍ
من ذلك فَكَانَ تَمَسُّكًا بِالْمَسْكُوتِ وأنه لَا يَصِحُّ
وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { كُلُوا من
ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ } فَائِدَةٌ فَنَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ له
فَائِدَةٌ سِوَى ما قُلْتُمْ وهو إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ رَدًّا لِاعْتِقَادِ
الْكَفَرَةِ تَحْرِيمَ الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِجَعْلِهَا
لِلْأَصْنَامِ فَرَدَّ ذلك عليهم بِقَوْلِهِ عز وجل { كُلُوا من ثَمَرِهِ إذَا
أَثْمَرَ } أَيْ انْتَفِعُوا بها وَلَا تُضَيِّعُوهَا بِالصَّرْفِ إلَى
الْأَصْنَامِ وَلِذَلِكَ قال { وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ }
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَقَدْ قِيلَ أنها وَرَدَتْ قبل حديث الْعُشْرِ وَنِصْفِ
الْعُشْرِ فَصَارَتْ مَنْسُوخَةً بِهِ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ رُكْنِ هذا النَّوْعِ وَشَرَائِطِ الرُّكْنِ أَمَّا
رُكْنُهُ فَهُوَ التَّمْلِيكُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَآتُوا حَقَّهُ يوم
حَصَادِهِ } وَالْإِيتَاءُ هو التَّمْلِيكُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَآتُوا
الزَّكَاةَ } فَلَا تَتَأَدَّى
____________________
(2/64)
بِطَعَامِ
الْإِبَاحَةِ وَبِمَا ليس بِتَمْلِيكٍ رَأْسًا من بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِ
ذلك مِمَّا ذَكَرْنَا في النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَبِمَا ليس بِتَمْلِيكٍ من كل
وَجْهٍ وقد مَرَّ بَيَانُ ذلك كُلِّهِ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَإِنَّنَا
ذَكَرْنَاهَا في النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِمَّا يَرْجِعُ بَعْضُهَا إلَى الْمُؤَدِّي
وَبَعْضُهَا إلَى الْمُؤَدَّى وَبَعْضُهَا إلَى الْمُؤَدَّى إلَيْهِ فَلَا مَعْنًى
لِلْإِعَادَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَسْقُطُ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَمِنْهَا هَلَاكُ
الْخَارِجِ من غَيْرِ صُنْعِهِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ في الْخَارِجِ فإذا هَلَكَ
يَهْلِكُ بِمَا فيه كَهَلَاكِ نِصَابِ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَهَذَا
عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَسْقُطُ وهو على الِاخْتِلَافِ في الزَّكَاةِ وقد
مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ وَإِنْ هَلَكَ الْبَعْضُ يَسْقُطُ الْوَاجِبُ بِقَدْرِهِ
ويؤدي عُشْرُ الْبَاقِي قَلَّ الْبَاقِي أو كَثُرَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا يُعْتَبَرُ قَدْرُ الْهَالِكِ مع الْبَاقِي في تَكْمِيلِ النِّصَابِ
إنْ بَلَغَ نِصَابًا يؤدي وَإِلَّا فَلَا
وفي رِوَايَةٍ عن أبي يُوسُفَ يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ في الْبَاقِي
بِنَفْسِهِ من غَيْرِ ضَمِّ قَدْرِ الْهَالِكِ إلَيْهِ على ما مَرَّ
وَإِنْ اُسْتُهْلِكَ فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ غَيْرُ الْمَالِكِ أَخَذَ الضَّمَانَ
منه وَأَدَّى عُشْرَهُ وَإِنْ اُسْتُهْلِكَ بَعْضُهُ أَدَّى عُشْرَ الْقَدْرِ
الْمُسْتَهْلَكِ من الضَّمَانِ وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمَالِكُ أو اُسْتُهْلِكَ
الْبَعْضُ بِأَنْ أَكَلَهُ ضِمْنَ عُشْرِ الْهَالِكِ وَصَارَ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ
في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ
وَمِنْهَا الرِّدَّةُ عِنْدَنَا لِأَنَّ في الْعُشْرِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ
وَالْكَافِرُ ليس من أَهْلِ الْعِبَادَةِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَسْقُطُ كَالزَّكَاةِ
وَمِنْهَا مَوْتُ الْمَالِكِ من غَيْرِ وَصِيَّةٍ إذَا كان اسْتَهْلَكَ الْخَارِجَ
عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ كما في الزَّكَاةِ وَإِنْ كان الْخَارِجُ
قَائِمًا بِعَيْنِهِ يؤدي الْعُشْرُ منه في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وفي رِوَايَةٍ عن أبي يُوسُفَ يَسْقُطُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وقد مَضَى الْفَرْقُ
فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ هذا الذي ذَكَرْنَا حُكْمُ الْخَارِجِ من الْأَرْضِ وَأَمَّا حُكْمُ
الْمُسْتَخْرَجِ من الْأَرْضِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في
بَيَانِ ما فيه الْخُمُسُ من الْمُسْتَخْرَجِ من الْأَرْضِ وما لَا خُمُسَ فيه
وَالثَّانِي في بَيَانِ من يَجُوزُ صَرْفُ الْخُمُسِ إلَيْهِ وَمَنْ له وِلَايَةُ
أَخْذِ الْخُمُسِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُسْتَخْرَجُ من الْأَرْضِ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا يُسَمَّى
كَنْزًا وهو الْمَالُ الذي دَفَنَهُ بَنُو آدَمَ في الْأَرْضِ
وَالثَّانِي يُسَمَّى مَعْدِنًا وهو الْمَالُ الذي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى في
الْأَرْضِ يوم خَلَقَ الْأَرْضَ وَالرِّكَازُ اسْمٌ يَقَعُ على كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ حَقِيقَتَهُ لِلْمَعْدِنِ وَاسْتِعْمَالَهُ لِلْكَنْزِ
مَجَازًا أَمَّا الْكَنْزُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وُجِدَ في دَارِ الْإِسْلَامِ
أو دَارِ الْحَرْبِ
وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ في أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أو في أَرْضٍ
غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ
كَالْمُصْحَفِ وَالدَّرَاهِمِ الْمَكْتُوبِ عليها لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
مُحَمَّدٌ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أو غَيْرُ ذلك من عَلَامَاتِ
الْإِسْلَامِ أو عَلَامَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ من الدَّرَاهِمِ الْمَنْقُوشِ عليها
الصَّنَمُ أو الصَّلِيبُ وَنَحْوُ ذلك أو لَا عَلَامَةَ بِهِ أَصْلًا فَإِنْ
وُجِدَ في دَارِ الْإِسْلَامِ في أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ كَالْجِبَالِ
وَالْمَفَاوِزِ وَغَيْرِهَا فَإِنْ كان بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ فَهُوَ
بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ يُصْنَعُ بِهِ ما يُصْنَعُ بِاللُّقَطَةِ
يُعْرَفُ ذلك في كِتَابِ اللُّقَطَةِ لِأَنَّهُ إذَا كان بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ
كان مَالَ الْمُسْلِمِينَ وَمَالُ الْمُسْلِمِينَ لَا يُغْنَمُ إلَّا أَنَّهُ
مَالٌ لَا يُعْرَفُ مَالِكُهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ
وَإِنْ كان بِهِ عَلَامَةُ الْجَاهِلِيَّةِ فَفِيهِ الْخُمُسُ وَأَرْبَعَةُ
أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ بِلَا خِلَافٍ كَالْمَعْدِنِ على ما بُيِّنَ وَإِنْ لم
يَكُنْ بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ وَلَا عَلَامَةُ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ قِيلَ
إنَّ في زَمَانِنَا يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ اللُّقَطَةِ أَيْضًا وَلَا يَكُونُ له
حُكْمُ الْغَنِيمَةِ لِأَنَّ عَهْدَ الْإِسْلَامِ قد طَالَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ
لَا يَكُونُ من مَالِ الْكَفَرَةِ بَلْ من مَالِ الْمُسْلِمِينَ
لم يُعْرَفْ مَالِكُهُ فَيُعْطَى له حُكْمُ اللُّقَطَةِ
وَقِيلَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ لِأَنَّ الْكُنُوزَ غَالِبًا بِوَضْعِ
الْكَفَرَةِ
وَإِنْ كان بِهِ عَلَامَةُ الْجَاهِلِيَّةِ يَجِبُ فيه الْخُمُسُ لِمَا رُوِيَ
أَنَّهُ سُئِلَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن الْكَنْزِ فقال فيه وفي
الرِّكَازِ الْخُمُسُ وَلِأَنَّهُ في مَعْنَى الْغَنِيمَةِ لِأَنَّهُ اسْتَوْلَى
عليه على طَرِيقِ الْقَهْرِ وهو على حُكْمِ مِلْكِ الْكَفَرَةِ فَكَانَ غَنِيمَةً
فَيَجِبُ فيه الْخُمُسُ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ
بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وَسَوَاءٌ كان الْوَاجِدُ حُرًّا أو عَبْدًا مُسْلِمًا أو
ذِمِّيًّا كَبِيرًا أو صَغِيرًا لِأَنَّ ما رَوَيْنَا من الحديث لَا يَفْصِلُ بين
وَاجِدٍ وَوَاجِدٍ وَلِأَنَّ هذا الْمَالَ بِمَنْزِلَةِ الْغَنِيمَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَجَبَ فيه الْخُمُسُ وَالْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ والذمي ( ( (
والذي ) ) ) من أَهْلِ الْغَنِيمَةِ إلَّا إذَا كان ذلك بِإِذْنِ الْإِمَامِ
وَقَاطَعَهُ على شَيْءٍ فَلَهُ أَنْ يَفِيَ بِشَرْطِهِ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ وَلِأَنَّهُ إذَا قَاطَعَهُ على
شَيْءٍ
____________________
(2/65)
فَقَدْ
جَعَلَ الْمَشْرُوطَ أُجْرَةً لِعَمَلِهِ فَيَسْتَحِقُّهُ بهذا الطَّرِيقِ وَإِنْ
وُجِدَ في أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ يَجِبُ فيه الْخُمُسُ بِلَا خِلَافٍ لِمَا رَوَيْنَا
من الحديث وَلِأَنَّهُ مَالُ الْكَفَرَةِ اسْتَوْلَى عليه على طَرِيقِ الْقَهْرِ
فَيُخَمَّسُ
وَاخْتُلِفَ في الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ
قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هِيَ لِصَاحِبِ الْخُطَّةِ إنْ
كان حَيًّا وَإِنْ كان مَيِّتًا فَلِوَرَثَتِهِ إنْ عُرِفُوا وَإِنْ كان لَا
يُعْرَفُ صَاحِبُ الْخُطَّةِ وَلَا وَرَثَتُهُ تَكُون لِأَقْصَى مَالِكٍ
لِلْأَرْضِ أو لِوَرَثَتِهِ
وقال أبو يُوسُفَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ هذا غَنِيمَةٌ ما وَصَلَتْ إلَيْهَا يَدُ الْغَانِمِينَ
وَإِنَّمَا وَصَلَتْ إلَيْهِ يَدُ الْوَاجِدِ لَا غَيْرُ فَيَكُونُ غَنِيمَةً
يُوجِبُ الْخُمُسَ وَاخْتِصَاصُهُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عليه يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ
بِهِ وهو تَفْسِيرُ الْمِلْكِ كما لو وَجَدَهُ في أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ
وَلَهُمَا أَنَّ صَاحِبَ الْخُطَّةِ مَلَكَ الْأَرْضَ بِمَا فيها لِأَنَّهُ
إنَّمَا مَلَكَهَا بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ
وَالْإِمَامُ إنَّمَا مَلَكَ الْأَرْضَ بِمَا وُجِدَ منه وَمِنْ سَائِرِ
الْغَانِمِينَ من الِاسْتِيلَاءِ وَالِاسْتِيلَاءُ كما وَرَدَ على ظَاهِرِ
الْأَرْضِ وَرَدَ على ما فيها فَمَلَكَ ما فيها وَبِالْبَيْعِ لَا يَزُولُ ما فيها
لِأَنَّ الْبَيْعَ يُوجِبُ زَوَالَ ما وَرَدَ عليه الْبَيْعُ وَالْبَيْعُ وَرَدَ
على ظَاهِرِ الْأَرْضِ لَا على ما فيها وإذا لم يَكُنْ ما فيها تَبَعًا لها
فَبَقِيَ على مِلْكِ صَاحِبِ الْخُطَّةِ وكان أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ له
وَصَارَ هذا كَمَنْ اصْطَادَ سَمَكَةً كانت ابتعلت ( ( ( ابتلعت ) ) ) لُؤْلُؤَةً
أو اصْطَادَ طَائِرًا كان قد ابْتَلَعَ جَوْهَرَةً إنه يَمْلِكُ الْكُلَّ
وَلَوْ بَاعَ السَّمَكَةَ أو الطَّائِرَ لَا تَزُولُ اللُّؤْلُؤَةُ
وَالْجَوْهَرَةُ عن مِلْكِهِ لِوُرُودِ الْعَقْدِ على السَّمَكَةِ وَالطَّيْرِ
دُونَ اللُّؤْلُؤَةِ وَالْجَوْهَرَةِ
كَذَا هذا
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَمْلِكُ صَاحِبُ الْخُطَّةِ ما في الْأَرْضِ بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ
إيَّاهُ الْأَرْضَ وَالْإِمَامُ لو فَعَلَ ذلك لَكَانَ جَوْرًا في الْقِسْمَةِ
وَالْإِمَامُ لَا يَمْلِكُ الْجَوْرَ في الْقِسْمَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِمَامَ ما
مَلَّكَهُ إلَّا الْأَرْضَ فَبَقِيَ الْكَنْزُ غير مَمْلُوكٍ لِصَاحِبِ الْخُطَّةِ
فَالْجَوَابُ عنه من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِمَامَ ما مَلَّكَهُ إلَّا
رَقَبَةَ الْأَرْضِ على ما ذَكَرْتُمْ لَكِنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْأَرْضَ
بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ فَقَدْ تَفَرَّدَ بِالِاسْتِيلَاءِ على ما في الْأَرْضِ
وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن وُجُوبِ الْخُمُسِ لِأَنَّهُ ما مَلَكَ ما في الْأَرْضِ
بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ حتى يَسْقُطَ الْخُمُسُ وَإِنَّمَا مَلَكَهُ بِتَفَرُّدِهِ
بالإستيلاء عليه فَيَجِبُ عليه الْخُمُسُ كما لو وَجَدَهُ في أَرْضٍ غَيْرِ
مَمْلُوكَةٍ
وَالثَّانِي إن مُرَاعَاةَ الْمُسَاوَاةِ في هذه الْجِهَةِ في الْقِسْمَةِ مِمَّا
يَتَعَذَّرُ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا دَفْعًا لِلْحَرَجِ
هذا إذَا وَجَدَ الْكَنْزَ في دَارِ الْإِسْلَامِ ) فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ في
دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ وَجَدَهُ في أَرْضٍ لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ
فَهُوَ لِلْوَاجِدِ وَلَا خُمُسَ فيه لِأَنَّهُ مَالٌ أَخَذَهُ لَا على طَرِيقِ
الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لِانْعِدَامِ غَلَبَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ على ذلك
الْمَوْضِعِ فلم يَكُنْ غَنِيمَةً فَلَا خُمُسَ فيه وَيَكُونُ الْكُلُّ له
لِأَنَّهُ مُبَاحٌ اسْتَوْلَى عليه بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُهُ كَالْحَطَبِ
وَالْحَشِيشِ وَسَوَاءٌ دخل بِأَمَانٍ أو بِغَيْرِ أَمَانٍ لِأَنَّ حُكْمَ
الْأَمَانِ يَظْهَرُ في الْمَمْلُوكِ لَا في الْمُبَاحِ
وَإِنْ وَجَدَهُ في أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِبَعْضِهِمْ فَإِنْ كان دخل بِأَمَانٍ
رَدَّهُ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ إذَا دخل بِأَمَانٍ لَا يَحِلُّ له أَنْ
يَأْخُذَ شيئا من أَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ لِمَا في ذلك من الْغَدْرِ
وَالْخِيَانَةِ في الْأَمَانَةِ فَإِنْ لم يَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ
يَصِيرُ مِلْكًا له لَكِنْ لَا يَطِيبُ له لِتَمَكُّنِ خُبْثِ الْخِيَانَةِ فيه
فَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ فَلَوْ بَاعَهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِقِيَامِ
الْمِلْكِ لَكِنْ لَا يَطِيبُ لِلْمُشْتَرِي بِخِلَافِ بَيْعِ المشتري شِرَاءً
فَاسِدًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا يُذْكَرُ في كِتَابِ الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى
وَإِنْ كان دخل بِغَيْرِ أَمَانٍ حَلَّ له وَلَا خُمُسَ فيه
أَمَّا الْحِلُّ فَلِأَنَّ له أَنْ يَأْخُذَ ما ظَفِرَ بِهِ من أَمْوَالِهِمْ من
غَيْرِ رِضَاهُمْ
وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْخُمُسِ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْخُوذٍ على سَبِيلِ
الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فلم يَكُنْ غَنِيمَةً فَلَا يَجِبُ فيه الْخُمُسُ حتى لو
دخل جَمَاعَةٌ مُمْتَنِعُونَ في دَارِ الْحَرْبِ فَظَفِرُوا بِشَيْءٍ من
كُنُوزِهِمْ يَجِبُ فيه الْخُمُسُ وَلِكَوْنِهِ غَنِيمَةً لِحُصُولِ الْأَخْذِ على
طَرِيقِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ
وَإِنْ وَجَدَهُ في أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ أو في دَارِ نَفْسِهِ فَفِيهِ
الْخُمُسُ بِلَا خِلَافٍ بِخِلَافِ الْمَعْدِنِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ
الْكَنْزَ ليس من أَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَلِهَذَا لم تَكُنْ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ
لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَوْ وَجَدَ فيه الْمُؤْنَةَ وهو
الْخُمُسُ لم يَصِرْ الْجُزْءُ مُخَالِفًا لِلْكُلِّ بِخِلَافِ الْمَعْدِنِ على ما
نَذْكُرُ
وَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في ذلك عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ هِيَ لِلْمُخْتَطِّ له
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لِلْوَاجِدِ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ
وَلَهُمَا أَنَّ هذا مَالٌ مُبَاحٌ سَبَقَتْ إلَيْهِ يَدُ الْخُصُوصِ وَهِيَ يَدُ
الْمُخْتَطِّ يَصِيرُ مِلْكًا له كَالْمَعْدِنِ إلَّا أَنَّ الْمَعْدِنَ انْتَقَلَ
بِالْبَيْعِ إلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ من أَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَالْكَنْزُ لم
يَنْتَقِلْ إلَيْهِ لِأَنَّهُ ليس من أَجْزَاءِ الْمَبِيعِ وَالتَّمْلِيكِ فَإِنْ
اسْتَوْلَى عليه بِالِاسْتِيلَاءِ فَيَبْقَى على مِلْكِهِ كَمَنْ اصْطَادَ
سَمَكَةً في بَطْنِهَا دُرَّةٌ مَلَكَ السَّمَكَةَ وَالدُّرَّةَ لِثُبُوتِ الْيَدِ
عَلَيْهِمَا فَلَوْ بَاعَ السَّمَكَةَ بَعْدَ ذلك لم تَدْخُلْ الدُّرَّةُ في
الْبَيْعِ كَذَا هَهُنَا وَالْمُخْتَطُّ له من
____________________
(2/66)
خَصَّهُ
الْإِمَامُ بِتَمْلِيكِ الْبُقْعَةِ منه فَإِنْ لم يُعْرَفْ الْمُخْتَطُّ له
يُصْرَفْ إلَى أَقْصَى مَالِكٍ له يُعْرَفُ في الْإِسْلَامِ كذا ذَكَرَ الشَّيْخُ
الْإِمَامُ الزَّاهِدُ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
هذا إذَا وُجِدَ الْكَنْزُ في دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَمَّا الْمَعْدِنُ
فَالْخَارِجُ منه في الْأَصْلِ نَوْعَانِ مُسْتَجْسِدٌ وَمَائِعٌ
وَالْمُسْتَجْسِدُ منه نَوْعَانِ أَيْضًا نَوْعٌ يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ
وَيَنْطَبِعُ بِالْحِلْيَةِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ
وَالنُّحَاسِ وَنَحْوِ ذلك وَنَوْعٌ لَا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ كَالْيَاقُوتِ
والبللور ( ( ( والبلور ) ) ) وَالْعَقِيقِ وَالزُّمُرُّدِ وَالْفَيْرُوزَجِ
وَالْكُحْلِ وَالْمَغْرَةِ وَالزِّرْنِيخِ وَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَنَحْوِهَا
وَالْمَائِعُ نَوْعٌ آخَرُ كَالنَّفْطِ وَالْقَارِ وَنَحْوِ ذلك
وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا إن وَجَدَهُ في دَارِ الْإِسْلَامِ أو في دَارِ
الْحَرْبِ في أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أو غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ
فَإِنْ وُجِدَ في دَارِ الْإِسْلَامِ في أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَالْمَوْجُودُ
مِمَّا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ وَيَنْطَبِعُ بِالْحِلْيَةِ يَجِبُ فيه الْخُمُسُ
سَوَاءٌ كان ذلك من الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أو غَيْرِهِمَا مِمَّا يَذُوبُ
بِالْإِذَابَةِ وَسَوَاءٌ كان قَلِيلًا أو كَثِيرًا فَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ
لِلْوَاجِدِ كَائِنًا من كان إلَّا الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ فإنه يُسْتَرَدُّ
منه الْكُلُّ إلَّا إذَا قَاطَعَهُ الْإِمَامُ فإن له أَنْ يَفِيَ بِشَرْطِهِ
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وقال الشَّافِعِيُّ في مَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ رُبُعُ الْعُشْرِ كما في
الزَّكَاةِ حتى شَرَطَ فيه النِّصَابَ فلم يُوجِبْ فِيمَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ
وَشَرَطَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الْحَوْلَ أَيْضًا
وَأَمَّا غَيْرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلَا خُمُسَ فيه
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْوَاجِبُ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ في الْكُلِّ لَا يُشْتَرَطُ
في شَيْءٍ منه شَرَائِطُ الزَّكَاةِ وَيَجُوزُ دَفْعُهُ إلَى الْوَالِدَيْنِ
وَالْمَوْلُودِينَ الْفُقَرَاءِ كما في الْغَنَائِمِ وَيَجُوزُ لِلْوَاجِدِ أَنْ
يَصْرِفَ إلَى نَفْسِهِ إذَا كان مُحْتَاجًا وَلَا تُغْنِيهِ الْأَرْبَعَةُ
الْأَخْمَاسِ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أقطع بِلَالَ بن الْحَارِثِ الْمَعَادِنَ القبلية ( ( ( القليلة ) ) ) وكان
يَأْخُذُ منها رُبُعَ الْعُشْرِ وَلِأَنَّهَا من نَمَاءِ الْأَرْضِ وَرِيعِهَا
فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فيها الشعر ( ( ( العشر ) ) ) إلَّا أَنَّهُ
اكْتَفَى بِرُبُعِ الْعُشْرِ لِكَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ في اسْتِخْرَاجِهَا
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال وفي
الرِّكَازِ الْخُمُسُ وهو اسْمٌ لِلْمَعْدِنِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يُطْلَقُ على
الْكَنْزِ مَجَازًا لِدَلَائِلَ
أَحَدُهَا أَنَّهُ مَأْخُوذٌ من الرَّكْزِ وهو الْإِثْبَاتُ وما في الْمَعْدِنِ هو
الْمُثَبَّتُ في الْأَرْضِ لَا الْكَنْزُ لِأَنَّهُ وُضِعَ مُجَاوِرًا لِلْأَرْضِ
وَالثَّانِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم سُئِلَ عَمَّا يُوجَدُ
من الْكَنْزِ الْعَادِيِّ فقال فيه وفي الرِّكَازِ الْخُمُسُ عَطَفَ الرِّكَازَ
على الْكَنْزِ وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ على نَفْسِهِ هو الْأَصْلُ فَدَلَّ أَنَّ
الْمُرَادَ منه الْمَعْدِنُ
وَالثَّالِثُ ما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا قال الْمَعْدِنُ
جُبَارٌ وَالْقَلِيبُ جُبَارٌ وفي الرِّكَازِ الْخُمُسُ
قِيلَ وما الرِّكَازُ يا رَسُولَ اللَّهِ فقال هو الْمَالُ الذي خَلَقَهُ اللَّهُ
تَعَالَى في الْأَرْضِ يوم خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَدَلَّ على أَنَّهُ
اسْمٌ لِلْمَعْدِنِ حَقِيقَةً
فَقَدْ أَوْجَبَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْخُمُسَ في الْمَعْدِنِ من غَيْرِ
فَصْلٍ بين الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهِمَا فَدَلَّ أَنَّ الْوَاجِبَ هو
الْخُمُسُ في الْكُلِّ وَلِأَنَّ الْمَعَادِنَ كانت في أَيْدِي الْكَفَرَةِ وقد
زَالَتْ أَيْدِيهِمْ ولم تَثْبُتْ يَدُ الْمُسْلِمِينَ على هذه الْمَوَاضِعِ
لِأَنَّهُمْ لم يَقْصِدُوا الِاسْتِيلَاءَ على الْجِبَالِ وَالْمَفَاوِزِ فَبَقِيَ
ما تِحَتَهَا على حُكْمِ مِلْكِ الْكَفَرَةِ وقد اسْتَوْلَى عليه على طَرِيقِ
الْقَهْرِ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَيَجِبُ فيه الْخُمُسُ وَيَكُونُ أَرْبَعَةُ
أَخْمَاسِهِ له كما في الْكَنْزِ
وَلَا حُجَّةَ له في حديث بِلَالِ بن الْحَارِثِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ
إنَّمَا لم يَأْخُذْ منه ما زَادَ على رُبُعِ الْعُشْرِ لِمَا عَلِمَ من حَاجَتِهِ
وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا على ما نَذْكُرُهُ فَيُحْمَلُ عليه عَمَلًا
بِالدَّلِيلَيْنِ
وَأَمَّا ما لَا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ فَلَا خُمُسَ فيه وَيَكُونُ كُلُّهُ
لِلْوَاجِدِ لِأَنَّ الزِّرْنِيخَ وَالْجِصَّ وَالنُّورَةَ وَنَحْوَهَا من
أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَكَانَ كَالتُّرَابِ وَالْيَاقُوتَ وَالْفُصُوصَ من جِنْسِ
الْأَحْجَارِ إلَّا أنها أَحْجَارٌ مُضِيئَةٌ وَلَا خُمُسَ في الْحَجَرِ
وَأَمَّا الْمَائِعُ كَالْقِيرِ والنفظ ( ( ( والنفط ) ) ) فَلَا شَيْءَ فيه
وَيَكُونُ لِلْوَاجِدِ لِأَنَّهُ مَاءٌ وإنه مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِالِاسْتِيلَاءِ
فلم يَكُنْ في يَدِ الْكُفَّارِ حتى يَكُونَ من الْغَنَائِمِ فَلَا يَجِبُ فيه
الْخُمُسُ
وَأَمَّا الزِّئْبَقُ فَفِيهِ الْخُمُسُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ الْآخَرِ وكان
يقول أَوَّلًا لَا خُمُسَ فيه
وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وقال فيه الْخُمُسُ فإن أَبَا
يُوسُفَ قال سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عن الزِّئْبَقِ فقال لَا خُمُسَ فيه فلم
أَزَلْ بِهِ حتى قال فيه الْخُمُسُ وَكُنْت أَظُنُّ أَنَّهُ مِثْلُ الرَّصَاصِ
وَالْحَدِيدِ ثُمَّ بَلَغَنِي بَعْدَ ذلك أَنَّهُ ليس كَذَلِكَ وهو بِمَنْزِلَةِ
الْقِيرِ وَالنَّفْطِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ أَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَنْطَبِعُ بِنَفْسِهِ
فَأَشْبَهَ الْمَاءَ
وَجْهُ قول الْآخَرِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ أنه يطبع ( ( ( ينطبع ) ) ) مع غَيْرِهِ
وإن كان لَا يَنْطَبِعُ بِنَفْسِهِ فَأَشْبَهَ الْفِضَّةَ لِأَنَّهَا لَا
تَنْطَبِعُ بِنَفْسِهَا لَكِنْ لَمَّا كانت تَنْطَبِعُ مع شَيْءٍ آخَرَ
يُخَالِطُهَا من نُحَاسٍ أو آنُكِ وَجَبَ فيها الْخُمُسُ
كَذَا هذا
هذا إذَا وُجِدَ الْمَعْدِنُ في دَارِ الْإِسْلَامِ في أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ
فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ في أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أو دَارٍ أو مَنْزِلٍ أو حَانُوتٍ
فَلَا خِلَافَ في أَنَّ الْأَرْبَعَةَ
____________________
(2/67)
الْأَخْمَاسِ
لِصَاحِبِ الْمِلْكِ
وجده ( ( ( وحده ) ) ) هو أو غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمَعْدِنَ من تَوَابِعِ الْأَرْضِ
لِأَنَّهُ من أَجْزَائِهَا خُلِقَ فيها وَمِنْهَا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ في الْبَيْعِ من غَيْرِ تَسْمِيَةٍ فإذا مَلَكَهَا
الْمُخْتَطُّ له بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ مَلَكَهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا
فَتَنْتَقِلُ عنه إلَى غَيْرِهِ بِالْبَيْعِ بِتَوَابِعِهَا أَيْضًا بِخِلَافِ
الْكَنْزِ على ما مَرَّ
وَاخْتُلِفَ في وُجُوبِ الْخُمُسِ قال أبو حَنِيفَةَ لَا خُمُسَ فيه في الدَّارِ
وفي الْأَرْضِ عنه رِوَايَتَانِ ذَكَرَ في كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ لَا خُمُسَ
فيه وَذَكَرَ في الصَّرْفِ أَنَّهُ يَجِبُ فيه الْخُمُسُ وَكَذَا ذَكَرَ في
الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجِبُ فيه الْخُمُسُ في الْأَرْضِ وَالدَّارِ جميعا
إذَا كان الْمَوْجُودُ مِمَّا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ
وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وفي الرِّكَازِ الْخُمُسُ من
غَيْرِ فَصْلٍ وَالرِّكَازُ اسْمٌ لِلْمَعْدِنِ حَقِيقَةً لِمَا ذَكَرْنَا
وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَلَكَ الْأَرْضَ من مِلْكِهِ مُتَعَلِّقًا بهذا الْخُمُسِ
لِأَنَّهُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِمْ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أن الْمَعْدِنَ جُزْءٌ من أَجْزَاءِ الْأَرْضِ
فَيُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَرْضِ وَالْإِمَامُ مَلَكَهُ مُطْلَقًا عن الْحَقِّ
فَيَمْلِكُهُ الْمُخْتَطُّ له كَذَلِكَ وَلِلْإِمَامِ هذه الْوِلَايَةُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو جُعِلَ الْكُلُّ لِلْغَانِمِينَ الْأَرْبَعَةُ
الْأَخْمَاسِ مع الْخُمُسِ إذَا عُلِمَ أَنَّ حَاجَتَهُمْ لَا تَنْدَفِعُ
بِالْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ جَازَ وإذا مَلَكَهُ الْمُخْتَطُّ له مُطْلَقًا عن
حَقٍّ مُتَعَلِّقٍ بِهِ فَيَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ كَذَلِكَ
وَجْهُ الْفَرْقِ بين الدَّارِ وَالْأَرْضِ على الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إن
تَمْلِيكَ الْإِمَامِ الدَّارَ جُعِلَ مُطْلَقًا عن الْحُقُوقِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فيها الْعُشْرُ وَلَا الْخَرَاجُ بِخِلَافِ
الْأَرْضِ فإن تَمْلِيكَهَا وُجِدَ مُتَعَلِّقًا بها الْعُشْرُ أو الْخَرَاجُ
فَجَازَ أَنْ يَجِبَ الْخُمُسُ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على ما إذَا وَجَدَهُ في
أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ تَوْفِيقًا بين الدَّلِيلَيْنِ
هذا إذَا وَجَدَهُ في دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ في دَارِ
الْحَرْبِ فَإِنْ وَجَدَهُ في أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ له وَلَا خُمُسَ
فيه لِمَا مَرَّ
وَإِنْ وَجَدَهُ في مِلْكِ بَعْضِهِمْ فَإِنْ دخل بِأَمَانٍ رُدَّ على صَاحِبِ
الْمِلْكِ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ دخل بِغَيْرِ أَمَانٍ فَهُوَ له وَلَا خُمُسَ
فيه كما في الْكَنْزِ على ما بَيَّنَّا
هذا الذي ذَكَرْنَا في حُكْمِ الْمُسْتَخْرَجِ من الْأَرْضِ فَأَمَّا
الْمُسْتَخْرَجُ من الْبَحْرِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَالْعَنْبَرِ وَكُلِّ
حِلْيَةٍ تُسْتَخْرَجُ من الْبَحْرِ فَلَا شَيْءَ فيه في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وهو لِلْوَاجِدِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ فيه الْخُمُسُ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَامِلَ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه كَتَبَ إلَيْهِ في
لؤلؤ ( ( ( لؤلؤة ) ) ) وُجِدَتْ ما فيها قال فيها الْخُمُسُ
وروى عنه أَيْضًا أَنَّهُ أَخَذَ الْخُمُسَ من الْعَنْبَرِ وَلِأَنَّ الْعُشْرَ
يَجِبُ في الْمُسْتَخْرَجِ من الْمَعْدِنِ فَكَذَا في الْمُسْتَخْرَجِ من
الْبَحْرِ لِأَنَّ الْمَعْنَى يجمعهما ( ( ( بجمعهما ) ) ) وهو كَوْنُ ذلك مَالًا
مُنْتَزَعًا من أَيْدِي الْكُفَّارِ بِالْقَهْرِ إذْ الدُّنْيَا كُلُّهَا بَرُّهَا
وَبَحْرُهَا كانت تَحْتَ أَيْدِيهِمْ انْتَزَعْنَاهَا من بين أَيْدِيهِمْ فَكَانَ
ذلك غَنِيمَةً فَيَجِبُ فيه الْخُمُسُ كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ
وَلَهُمَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ سُئِلَ عن
الْعَنْبَرِ فقال هو شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ لَا خُمُسَ فيه وَلِأَنَّ يَدَ
الْكَفَرَةِ لم تَثْبُتْ على بَاطِنِ الْبِحَارِ التي يُسْتَخْرَجُ منها
اللُّؤْلُؤُ وَالْعَنْبَرُ فلم يَكُنْ الْمُسْتَخْرَجُ منها مَأْخُوذًا من أَيْدِي
الْكَفَرَةِ على سَبِيلِ الْقَهْرِ فَلَا يَكُونُ غَنِيمَةً فَلَا يَكُونُ فيه الْخُمُسُ
وَعَلَى هذا قال أَصْحَابُنَا أنه إنْ اسْتَخْرَجَ من الْبَحْرِ ذَهَبًا أو
فِضَّةً فَلَا شَيْءَ فيه لِمَا قُلْنَا
وَقِيلَ في الْعَنْبَرِ أنه مَائِعٌ نَبَعَ فَأَشْبَهَ الْقِيرَ
وَقِيلَ أنه رَوْثٌ دابة فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْأَرْوَاثِ وما رُوِيَ عن عُمَرَ في
اللُّؤْلُؤِ وَالْعَنْبَرِ مَحْمُولٌ على لُؤْلُؤٍ وَعَنْبَرٍ وُجِدَ في خَزَائِنِ
مُلُوكِ الْكَفَرَةِ فَكَانَ مَالًا مَغْنُومًا فَأَوْجَبَ فيه الْخُمُسَ
وَأَمَّا الثَّانِي هو بَيَانُ من يَجُوزُ صَرْفُ الْخُمُسِ إلَيْهِ وَمَنْ له
وِلَايَةُ الْأَخْذِ وَبَيَانُ مَصَارِفِ الْخُمُسِ مَوْضِعُهُ كِتَابُ السِّيَرِ
وَيَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ
بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى نَفْسِهِ إذَا
كان مُحْتَاجًا لَا تُغْنِيهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسُ بِأَنْ كان دُونَ
الْمِائَتَيْنِ فَأَمَّا إذَا بَلَغَ مِائَتَيْنِ لَا يَجُوزُ له تَنَاوُلُ
الْخُمُسِ وما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ تَرَكَ الْخُمُسَ
لِلْوَاجِدِ مَحْمُولٌ على ما إذَا كان مُحْتَاجًا وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالْخُمُسِ
بِنَفْسِهِ على الْفُقَرَاءِ ولم يَدْفَعْهَا إلَى السُّلْطَانِ جَازَ وَلَا
يُؤْخَذُ منه ثَانِيًا بِخِلَافِ زَكَاةِ السَّوَائِمِ وَالْعُشْرِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بيان ما يُوضَعُ في بيت المال من الأموال وبيان مصارفها فأما ما
يوضع في بَيْتِ الْمَالِ من الْأَمْوَالِ فَأَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ أَحَدُهَا
زَكَاةُ السَّوَائِمِ وَالْعُشُورِ وما أَخَذَهُ الْعَشَارُ من تُجَّارِ
الْمُسْلِمِينَ إذَا مَرُّوا عليهم
وَالثَّانِي خُمُسُ الْغَنَائِمِ وَالْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ
وَالثَّالِثِ خَرَاجُ الْأَرَاضِي وَجِزْيَةُ الرؤوس وما صُولِحَ عليه بَنُو
نَجْرَانَ من الْحُلَلِ وَبَنُو تَغْلِبَ من الصَّدَقَةِ الْمُضَاعَفَةِ وما
أَخَذَهُ الْعَشَارُ من تُجَّارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُسْتَأْمَنِينَ من
أَهْلِ الْحَرْبِ
وَالرَّابِعُ ما أُخِذَ من تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الذي مَاتَ ولم يَتْرُكْ وَارِثًا
أَصْلًا أو تَرَكَ زَوْجًا أو زَوْجَةً
وَأَمَّا مَصَارِفُ هذه الْأَنْوَاعِ فَأَمَّا مَصْرِفُ النَّوْعِ الْأَوَّلِ
____________________
(2/68)
فَقَدْ
ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وهو خُمُسُ الْغَنَائِمِ وَالْمَعَادِنِ
وَالرِّكَازِ فَنَذْكُرُ مَصْرِفَهُ في كِتَابِ السِّيَرِ وَأَمَّا مَصْرِفُ
النَّوْعِ الثَّالِثِ من الْخَرَاجِ وَأَخَوَاتِهِ فَعِمَارَةُ الدِّينِ
وَإِصْلَاحُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وهو رِزْقُ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ
وَأَهْلِ الْفَتْوَى من الْعُلَمَاءِ وَالْمُقَاتِلَةِ وَرَصْدُ الطُّرُقِ
وَعِمَارَةُ الْمَسَاجِدِ وَالرِّبَاطَاتِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ وَسَدُّ
الثُّغُورِ وَإِصْلَاحُ الْأَنْهَارِ التي لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فيها
وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ فَيُصْرَفُ إلَى دَوَاءِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَرْضَى
وَعِلَاجِهِمْ وَإِلَى أَكْفَانِ الْمَوْتَى الَّذِينَ لَا مَالَ لهم وَإِلَى
نَفَقَةِ اللَّقِيطِ وَعَقْلِ جِنَايَتِهِ وَإِلَى نَفَقَةِ من هو عَاجِزٌ عن
الْكَسْبِ وَلَيْسَ له من تَجِبُ عليه نَفَقَتُهُ وَنَحْوِ ذلك وَعَلَى الْإِمَامِ
صَرْفُ هذه الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ وَهِيَ زَكَاةُ الرَّأْسِ فَهِيَ
صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْكَلَامُ فيها يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ وُجُوبِهَا
وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ من تَجِبُ عليه وفي بَيَانِ من
تَجِبُ عنه
وفي بَيَانِ جِنْسِ الْوَاجِبِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ وفي بَيَانِ وَقْتِ
الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ وَقْتِ الْأَدَاءِ وفي بَيَانِ رُكْنِهَا وفي بَيَانِ
شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَهِيَ شَرَائِطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ وفي بَيَانِ مَكَانِ
الْأَدَاءِ وفي بَيَانِ ما يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ على وُجُوبِهَا ما روى عن ثَعْلَبَةَ بن صعير
الْعُذْرِيِّ أَنَّهُ قال خَطَبَنَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وقال في
خُطْبَتِهِ أَدُّوا عن كل حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ نِصْفَ صَاعٍ من بُرٍّ
أو صَاعًا من تَمْرٍ أو صَاعًا من شَعِيرٍ أَمَرَ بِالْأَدَاءِ وَمُطْلَقِ
الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَإِنَّمَا سَمَّيْنَا هذا النَّوْعَ وَاجِبًا لَا فَرْضًا
لِأَنَّ الْفَرْضَ اسْمٌ لِمَا ثَبَتَ لُزُومُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَلُزُومُ
هذا النَّوْعِ من الزَّكَاةِ لم يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ بَلْ بِدَلِيلٍ
فيه شُبْهَةُ الْعَدَمِ وهو خَبَرُ الْوَاحِدِ
وما رُوِيَ في الْبَابِ عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال
فَرَضَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم صَدَقَةَ الْفِطْرِ على الذَّكَرِ
وَالْأُنْثَى وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ صَاعًا من تَمْرٍ أو صَاعًا من شَعِيرٍ
فَالْمُرَادُ من قَوْلِهِ فَرَضَ أَيْ قَدَّرَ أَدَاءَ الْفِطْرِ وَالْفَرْضُ في
اللُّغَة التَّقْدِيرِ قال اللَّهُ تَعَالَى { فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ } أَيْ قَدَّرْتُمْ
وَيُقَالُ فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ بِمَعْنَى قَدَّرَهَا فَكَانَ في الحديث
تَقْدِيرُ الْوَاجِبِ بِالْمَذْكُورِ لَا الْإِيجَابِ قَطْعًا وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه قال بَعْضُهُمْ
إنَّمَا يَجِبُ وُجُوبًا مُضَيَّقًا في يَوْمِ الْفِطْرِ عَيْنًا
وقال بَعْضُهُمْ يَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا في الْعُمُرِ كَالزَّكَاةِ
وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِهَا وَهَذَا هو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الأمر
بِأَدَائِهَا مُطْلَقٌ عن الْوَقْتِ فَلَا يَتَضَيَّقُ الْوُجُوبُ إلَّا في آخِرِ
الْعُمُرِ كَالْأَمْرِ بِالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْأَوَامِرِ الْمُطْلَقَةِ عن
الْوَقْتِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من تَجِبُ عليه فَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ شَرَائِطِ
الْوُجُوبِ وأنها أَنْوَاعٌ منها الْإِسْلَامُ فَلَا تَجِبُ على الْكَافِرِ
لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ في حَالَةِ الْكُفْرِ لِأَنَّ فيها
مَعْنَى الْعِبَادَةِ حتى لَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ وَالْكَافِرُ ليس من
أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَلَا تَجِبُ بِدُونِ الْإِسْلَامِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِيجَابُ
فِعْلٍ لَا يَقْدِرُ الْمُكَلَّفُ على أَدَائِهِ في الْحَالِ وفي الثَّانِي
تَكْلِيفُ ما ليس في الْوُسْعِ لِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْكُفَّارَ لَيْسُوا
مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ عِنْدَنَا فَلَا تَجِبُ على الْعَبْدِ
وقال الشَّافِعِيُّ الْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ من شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَتَجِبُ
الْفِطْرَةُ على الْعَبْدِ وَيَتَحَمَّلُهَا الْمُوَلَّى عنه وَاحْتَجَّ بِمَا
رُوِيَ عن النَّبِيّ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال أَدُّوا عن كل حُرٍّ
وَعَبْدٍ وَالْأَدَاءُ عنه ينبىء عن التَّحَمُّلِ عنه وَأَنَّهُ يَقْتَضِي
الْوُجُوبَ عليه
وَلَنَا أَنَّ الْوُجُوبَ هو وُجُوبُ الْأَدَاءِ وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ
الْأَدَاءِ على الْعَبْدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُكَلَّفُ بِأَدَائِهَا في
الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَإِيجَابُ فِعْلٍ لَا سَبِيلَ إلَى أَدَائِهِ
رَأْسًا مُمْتَنِعٌ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ الْغَنِيِّ إذَا لم يَخْرُجْ وَلِيُّهُ
عنه على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ
لِأَنَّهُ يَقْدِرُ على أَدَائِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلِمَ
قُلْتُمْ أن الْأَدَاءَ عنه يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عليه وَسَنَذْكُرُ مَعْنَاهُ
وَمِنْهَا الغنا فَلَا يَجِبُ الْأَدَاءُ إلَّا على الْغَنِيِّ وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا الغنا وَتَجِبُ على الْفَقِيرِ
الذي له زِيَادَةٌ على قُوتِ يَوْمِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ وُجُوبَهَا ثَبَتَ مَطْهَرَةً لِلصَّائِمِ وَمَعْنَى
الْمَطْهَرَةِ لَا يَخْتَلِفُ بالغنا ( ( ( بالغنى ) ) ) وَالْفَقْرِ
وَلَنَا قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا صَدَقَةَ إلَّا عن ظَهْرِ غِنًى
وقد بَيَّنَّا حَدَّ الغنا الذي يَجِبُ بِهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ في زَكَاةِ
الْمَالِ ثُمَّ الغنا شَرْطُ الْوُجُوبِ لَا شَرْطُ بَقَاءِ الْوَاجِبِ حتى لو
افْتَقَرَ بَعْدَ يَوْمِ الْفِطْرِ لَا يَسْقُطُ الْوَاجِبُ لِأَنَّ هذا الْحَقَّ
يَجِبُ في الذِّمَّةِ لَا في الْمَالِ فَلَا يُشْتَرَطُ لِبَقَائِهِ بَقَاءُ
الْمَالِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ
وَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَلَيْسَا من شَرَائِطِ الْوُجُوبِ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ حتى تَجِبَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ على الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ إذَا كان
____________________
(2/69)
لَهُمَا
مَالٌ وَيُخْرِجُهَا الْوَلِيُّ من مَالِهِمَا
وقال مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ لَا فِطْرَةَ عَلَيْهِمَا حتى لو أَدَّى الْأَبُ أو
الْوَصِيُّ من مَالِهِمَا لَا يَضْمَنَانِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَضْمَنَانِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أنها عِبَادَةٌ
وَالْعِبَادَاتُ لَا تَجِبُ على الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ كَالصَّوْمِ
وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أنها لَيْسَتْ
بِعِبَادَةٍ مَحْضَةٍ بَلْ فيها مَعْنَى الْمُؤْنَةِ فَأَشْبَهَتْ الْعُشْرَ
وَكَذَلِكَ وُجُودُ الصَّوْمِ في شَهْرِ رَمَضَانَ ليس بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ
الْفِطْرَةِ حتى أَنَّ من أَفْطَرَ لِكِبَرٍ أو مَرَضٍ أو سَفَرٍ يَلْزَمُهُ
صَدَقَةُ الْفِطْرِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِأَدَائِهَا مُطْلَقٌ عن هذا الشَّرْطِ
وَلِأَنَّهَا تَجِبُ على من لَا يُوجَدُ منه الصَّوْمُ وهو الصَّغِيرُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من تَجِبُ عليه فَيَشْتَمِلُ على بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ
الْفِطْرَةِ على الْإِنْسَانِ عن غَيْرِهِ وَبَيَانِ شَرْطِ الْوُجُوبِ
أَمَّا شَرْطُهُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ من عليه الْوَاجِبُ عن غَيْرِهِ من أَهْلِ
الْوُجُوبِ على نَفْسِهِ
وَأَمَّا السَّبَبُ فَرَأْسٌ يَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ وَيَلِي عليه وِلَايَةً
كَامِلَةً لِأَنَّ الرَّأْسَ الذي يَمُونُهُ وَيَلِي عليه وِلَايَةً كَامِلَةً
تَكُونُ في مَعْنَى رَأْسِهِ في الذَّبِّ وَالنُّصْرَةِ فَكَمَا يَجِبُ عليه
زَكَاةُ رَأْسِهِ يَجِبُ عليه زَكَاةُ ما هو في مَعْنَى رَأْسِهِ فَيَجِبُ عليه
أَنْ يُخْرِجَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عن مَمَالِيكِهِ الَّذِينَ هُمْ لِغَيْرِ
التِّجَارَةِ لِوُجُودِ السَّبَبِ وهو لُزُومُ الْمُؤْنَةِ وَكَمَالُ الْوِلَايَةِ
مع وُجُودِ شَرْطِهِ وهو ما ذَكَرْنَا وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم أَدُّوا عن كل
حُرٍّ وَعَبْدٍ وَسَوَاءٌ كَانُوا مُسْلِمِينَ أو كُفَّارًا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا تُؤَدَّى إلَّا عن مُسْلِمٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْوُجُوبَ على الْعَبْدِ وَإِنَّمَا الْمَوْلَى يَتَحَمَّلُ
عنه لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمَرَنَا بِالْأَدَاءِ عن الْعَبْدِ
وَالْأَدَاءُ عنه ينبىء عن التَّحَمُّلِ فَثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ على الْعَبْدِ
فَلَا بُدَّ من أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ في حَقِّهِ وَالْكَافِرُ ليس من أَهْلِ
الْوُجُوبِ فلم يَجِبْ عليه وَلَا يَتَحَمَّلُ عنه الْمَوْلَى لِأَنَّ
التَّحَمُّلَ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَمِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ
فَتَجِبُ عليه الزَّكَاةُ إلَّا أَنَّهُ ليس من أَهْلِ الْأَدَاءِ لِعَدَمِ
الْمِلْكِ فَيَتَحَمَّلُ عنه الْمَوْلَى
وَلَنَا أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عنه وَشَرْطُهُ وهو ما
ذَكَرْنَا فَيَجِبُ الْأَدَاءُ عنه
وَقَوْلُهُ الْوُجُوبُ على الْعَبْدِ وَإِنَّمَا الْمَوْلَى يَتَحَمَّلُ عنه
أَدَاءَ الْوَاجِبِ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْوُجُوبَ على الْعَبْدِ يَسْتَدْعِي
أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ في حَقِّهِ وهو ليس من أَهْلِ الْوُجُوبِ لِأَنَّ
الْوُجُوبَ هو وُجُوبُ الْأَدَاءِ وَالْأَدَاءُ بِالْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ له فَلَا
وُجُوبَ عليه فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّحَمُّلُ وَقَوْلُهُ الْمَأْمُورُ بِهِ هو
الْأَدَاءُ عنه بِالنَّصِّ مُسَلَّمٌ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ أن الْأَدَاءَ عنه
يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ التَّحَمُّلِ بَلْ هو أَمْرٌ بِالْأَدَاءِ
بِسَبَبِهِ وهو رَأْسُهُ الذي يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عليه وِلَايَةً كَامِلَةً
فَكَانَ في الحديث بَيَانُ سَبَبِيَّةِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَمَّنْ يُؤَدِّي عنه
لَا الْأَدَاءُ بِطَرِيقِ التَّحَمُّلِ فَتُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ وُجُوبِ
الْأَدَاءِ في حَقِّ الْمَوْلَى وقد وُجِدَتْ
رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عن كل حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ أو كَبِيرٍ
يَهُودِيٍّ أو نَصْرَانِيٍّ أو مَجُوسِيٍّ نِصْفَ صَاعٍ من بُرٍّ أو صَاعًا من
تَمْرٍ أو شَعِيرٍ وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ وَيُخْرِجُ عن مُدَبَّرِيهِ
وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَدُّوا عن كل
حُرٍّ وَعَبْدٍ وَهَؤُلَاءِ عَبِيدٌ لِقِيَامِ الرِّقِّ وَالْمِلْكِ فِيهِمْ
أَلَا تَرَى أَنَّ له أَنْ يَسْتَخْدِمَهُمْ وَيَسْتَمْتِعَ بِالْمُدَبَّرَةِ
وَأُمِّ الْوَلَدِ وَلَا يَجُوزُ ذلك في غَيْرِ الْمِلْكِ وَلَا يَجِبُ عليه أَنْ
يَخْرُجَ عن مُكَاتَبِهِ وَلَا عن رَقِيقِ مُكَاتَبِهِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ
نَفَقَتُهُمْ وفي وِلَايَتِهِ عليهم قُصُورٌ وَلَا يَجِبُ على الْمُكَاتَبِ أَنْ
يُخْرِجَ فِطْرَتَهُ عن نَفْسِهِ وَلَا عن رَقِيقِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ يَجِبُ عليه لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَالِكٌ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ اكْتِسَابَهُ
فَكَانَ في اكْتِسَابِهِ كَالْحُرِّ فَتَجِبُ عليه كما تَجِبُ على الْحُرِّ
وَلَنَا أَنَّهُ لَا مِلْكَ له حَقِيقَةً لِأَنَّهُ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه
دِرْهَمٌ على لِسَانِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالْعَبْدُ مَمْلُوكٌ
فَلَا يَكُونُ مَالِكًا ضَرُورَةً
وَأَمَّا مُعْتَقُ الْبَعْضِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا هو حُرٌّ عليه دَيْنٌ
وَإِنْ كان غَنِيًّا بِأَنْ كان له مَالٌ فاضلا ( ( ( فضلا ) ) ) عن دَيْنِهِ
مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا فإنه يُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عن نَفْسِهِ
وَعَنْ رَقِيقِهِ وَإِلَّا فَلَا وَيُخْرِجُ عن عَبْدِهِ الْمُؤَاجَرِ والوديعة
وَالْعَارِيَّةِ وَعَبْدِهِ الْمَدْيُونِ الْمُسْتَغْرَقِ بِالدَّيْنِ وَعَبْدِهِ
الذي في رَقَبَتِهِ جِنَايَةٌ لِعُمُومِ النَّصِّ وَلِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ
وَشَرْطِهِ وهو ما ذَكَرْنَا وَيُخْرِجُ عن عبد الرَّهْنِ لِمَا ذَكَرْنَا وَهَذَا
إذَا كان لِلرَّاهِنِ وَفَاءٌ فَإِنْ لم يَكُنْ له وَفَاءٌ فَلَا صَدَقَةَ عليه
عنه لِأَنَّهُ فَقِيرٌ بِخِلَافِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا
لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَجِبُ على الْمَوْلَى وَلَا دَيْنَ على الْمَوْلَى
وَأَمَّا عبد عَبْدِهِ الْمَأْذُونُ فَإِنْ كان على الْمَوْلَى دَيْنٌ فَلَا
يُخْرِجُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ
عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ
وَعِنْدَهُمَا يُخْرِجُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ وَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَلَا
يَخْرُجُ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا لِأَنَّهُ عبد التِّجَارَةِ وَلَا
فِطْرَةَ في عبد التِّجَارَةِ عِنْدَنَا وَلَا يُخْرِجُ عن عَبْدِهِ الْآبِقِ
وَلَا عن الْمَغْصُوبِ
____________________
(2/70)
الْمَجْحُودِ
وَلَا عن عَبْدِهِ الْمَأْسُورِ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عن يَدِهِ وَتَصَرُّفِهِ
فَأَشْبَهَ الْمُكَاتَبَ
قال أبو يُوسُفَ ليس في رَقِيقِ الْأَخْمَاسِ وَرَقِيقِ الْقُوَّامِ الَّذِينَ
يَقُومُونَ على مَرَافِقِ الْعَوَامّ مِثْلِ زَمْزَمَ وما أَشْبَهَهَا وَرَقِيقِ
الْفَيْءِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ لِأَحَدٍ عليهم إذْ هُمْ ليس
لهم مَالِكٌ مُعَيَّنٌ وَكَذَلِكَ السَّبْيُ وَرَقِيقُ الْغَنِيمَةِ وَالْأَسْرَى
قبل الْقِسْمَةِ على أَصْلِهِ لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا الْعَبْدُ الموصي بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ
فَصَدَقَةُ فِطْرِهِ على صَاحِبِ الرَّقَبَةِ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَدُّوا عن كل حُرٍّ وَعَبْدٍ وَالْعَبْدُ اسْمٌ لِلذَّاتِ الْمَمْلُوكَةِ
وَأَنَّهُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ وَحَقُّ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَنَافِعِ
فَكَانَ كَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَلَا يُخْرِجُ عن عَبِيدِ
التِّجَارَةِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُخْرِجُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ لَا يُنَافِي وُجُوبَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ
لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخْتَلِفٌ
وَلَنَا أَنَّ الْجَمْعَ بين زَكَاةِ الْمَالِ وَبَيْنَ زَكَاةِ الرَّأْسِ يَكُونُ
ثني في الصَّدَقَةِ
وقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا ثني في الصَّدَقَةِ وَالْعَبْدُ
الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ليس على أَحَدِهِمَا صَدَقَةُ فِطْرِهِ
عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ تَجِبُ الْفِطْرَةُ عَلَيْهِمَا بِنَاءً على أَصْلِهِ الذي
ذَكَرْنَا أَنَّ الْوُجُوبَ على الْعَبْدِ وَإِنَّمَا الْمَوْلَى يَتَحَمَّلُ عنه
بِالْمِلْكِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْوُجُوبُ على الْمَوْلَى بِسَبَبِ الْوُجُوبِ وهو رَأْسٌ
يَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ وَيَلِي عليه وِلَايَةً كَامِلَةً وَلَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا وِلَايَةٌ كَامِلَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا تَزْوِيجَهُ فلم يُوجَدْ السَّبَبُ
فإن كان عَدَدٌ من الْعَبِيدِ بين رَجُلَيْنِ فَلَا فِطْرَةَ عَلَيْهِمَا في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ إنْ كان بِحَالٍ لو قَسَمُوا أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
عَبْدٌ كَامِلٌ تَجِبُ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَقَةُ فِطْرِهِ بِنَاءً على
أَنَّ الرَّقِيقَ لَا يُقْسَمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلَا
يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا كَامِلًا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْسَمُ الرَّقِيقُ قِسْمَةَ جَمْعٍ فَيَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا عَبْدًا تَامًّا من حَيْثُ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ
فَيَجِبُ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالزَّكَاةِ في السَّوَائِمِ الْمُشْتَرَكَةِ
وأبو يُوسُفَ وَافَقَ أَبَا حَنِيفَةَ في هذا وَإِنْ كان يَرَى قِسْمَةَ
الرَّقِيقِ لِنُقْصَانِ الْوِلَايَةِ إذْ ليس لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةٌ
كَامِلَةٌ وَكَمَالُ الْوِلَايَةِ بَعْضُ أَوْصَافِ السَّبَبِ
وَلَوْ كان بين رَجُلَيْنِ جَارِيَةٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ مَعًا حتى
ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُمَا وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ ولد ( ( ( ولدهما
) ) ) لهما فَلَا فِطْرَةَ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن الْجَارِيَةِ بِلَا خِلَافٍ
بين أَصْحَابِنَا لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا
وَأَمَّا الْوَلَدُ فقال أبو يُوسُفَ يَجِبُ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَقَةُ
فِطْرِهِ تَامَّةً
وقال مُحَمَّدٌ تَجِبُ عَلَيْهِمَا صَدَقَةٌ وَاحِدَةٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الذي وَجَبَ عليه وَاحِدٌ وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ لَا تَجِبُ
عنه إلَّا فِطْرَةٌ وَاحِدَةٌ كَسَائِرِ الْأَشْخَاصِ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَلَدَ ابْنٌ تَامٌّ في حَقٍّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرِثُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ
فَيَجِبُ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عنه صَدَقَةٌ تَامَّةٌ
وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أو لِلْمُشْتَرِي أو
لَهُمَا جميعا أو شَرَطَ أَحَدُهُمَا الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ فَمَرَّ يَوْمُ
الْفِطْرِ في مُدَّةِ الْخِيَارِ فَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مَوْقُوفَةٌ إنْ تَمَّ
الْبَيْعُ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ أو بِالْإِجَازَةِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي
لِأَنَّهُ مَلَكَهُ من وَقْتِ الْبَيْعِ وَإِنْ فُسِخَ فَعَلَى الْبَائِعِ
لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَبِيعَ لم يَزُلْ عن مِلْكِهِ
وَعِنْدَ زُفَرَ أن كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أو لَهُمَا جميعا أو شَرَطَ
الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ فَصَدَقَةُ الْفِطْرِ على الْبَائِعِ تَمَّ
الْبَيْعُ أو انْفَسَخَ وَإِنْ كان الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَعَلَى الْمُشْتَرِي
تَمَّ الْبَيْعُ أو انْفَسَخَ وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِعَقْدٍ ثَانٍ فَمَرَّ يَوْمُ
الْفِطْرِ قبل الْقَبْضِ فَصَدَقَةُ فِطْرِهِ على الْمُشْتَرِي إنْ قَبَضَهُ
لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَقِّدْ تَقَرَّرَ
بِالْقَبْضِ وَإِنْ مَاتَ قبل الْقَبْضِ فَلَا يَجِبُ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَمَّا جَانِبُ الْبَائِعِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ قد خَرَجَ عن مِلْكِهِ
بِالْبَيْعِ وَوَقْتُ الْوُجُوبِ هو وَقْتُ طُلُوعِ الْفَجْرِ من يَوْمِ الْفِطْرِ
كان الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي
وَأَمَّا جَانِبُ الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّ مِلْكَهُ قد انْفَسَخَ قبل تَمَامِهِ
وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ من الْأَصْلِ وَلَوْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي على
الْبَائِعِ بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ أو عَيْبٍ إنْ رَدَّهُ قبل الْقَبْضِ فَعَلَى
الْبَائِعِ لِأَنَّ الرَّدَّ قبل الْقَبْضِ فَسْخٌ من الْأَصْلِ وَإِنْ رَدَّهُ
بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ جَدِيدٍ
وَإِنْ اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا فَمَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ فَإِنْ كان مَرَّ
وهو عِنْدَ الْبَائِعِ فَعَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا
يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي قبل الْقَبْضِ فَمَرَّ عليه يَوْمُ الْفِطْرِ وهو
على مِلْكِ الْبَائِعِ فَكَانَ صَدَقَةُ فِطْرِهِ عليه وَإِنْ كان في يَدِ
الْمُشْتَرِي وَقْتَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَصَدَقَةُ فِطْرِهِ مَوْقُوفَةٌ
لِاحْتِمَالِ الرَّدِّ فَإِنْ رَدَّهُ فَعَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ الرَّدَّ في
الْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَسْخٌ من الْأَصْلِ
وَإِنْ تَصَرَّفَ فيه الْمُشْتَرِي حتى وَجَبَتْ عليه قِيمَتُهُ فَعَلَى
الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ عليه وَيُخْرِجُ عن أَوْلَادِهِ
الصِّغَارِ إذا ( ( ( وإذا ) ) ) كَانُوا فُقَرَاءَ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم أَدُّوا عن كل صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ وَلِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ وَاجِبَةٌ على
الْأَبِ
____________________
(2/71)
وَوِلَايَةُ
الْأَبِ عليهم تَامَّةٌ وَهَلْ يُخْرِجُ الْجَدُّ عن ابْنِ ابْنِهِ الْفَقِيرِ
الصَّغِيرِ حَالَ عَدَمِ الْأَبِ أو حَالَ كَوْنِهِ فَقِيرًا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في
الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُخْرِجُ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْجَدَّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ قَائِمٌ مَقَامَ
الْأَبِ فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ حَالَ عَدَمِ الْأَبِ كَوِلَايَةِ الْأَبِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ وِلَايَةَ الْجَدِّ لَيْسَتْ بِوِلَايَةٍ
تَامَّةٍ مُطْلَقَةٍ بَلْ هِيَ قَاصِرَةٌ أَلَا تَرَى أنها لَا تَثْبُتُ إلَّا
بِشَرْطِ عَدَمِ الْأَبِ فَأَشْبَهَتْ وِلَايَةَ الْوَصِيِّ وَالْوَصِيُّ لَا
يَجِبُ عليه الْإِخْرَاجُ فَكَذَا الْجَدُّ
وَأَمَّا الْكِبَارُ الْعُقَلَاءُ فَلَا يُخْرَجُ عَنْهُمْ عِنْدَنَا وَإِنْ
كَانُوا في عِيَالِهِ بِأَنْ كَانُوا فُقَرَاءَ زَمْنَى
وقال الشَّافِعِيُّ عليه فِطْرَتُهُمْ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال أَدُّوا عن كل حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ أو
كَبِيرٍ مِمَّنْ تُمَوِّنُونَ فإذا كَانُوا في عِيَالِهِ يُمَوِّنُهُمْ فَعَلَيْهِ
فِطْرَتُهُمْ
وَلَنَا أَنَّ أَحَدَ شَطْرَيْ السَّبَبِ وهو الْوِلَايَةُ مُنْعَدِمٌ
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على جَوَازِ الْأَدَاءِ عَنْهُمْ لَا على الْوُجُوبِ وَلَا
يَلْزَمُهُ أَنْ يُخْرِجَ عن أَبَوَيْهِ وَإِنْ كَانَا في عِيَالِهِ لِعَدَمِ
الْوِلَايَةِ عَلَيْهِمَا وَلَا يُخْرِجُ عن الْحَمْلِ لِانْعِدَامِ كَمَالِ
الْوِلَايَةِ وَلِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَيَاتَهُ وَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ صَدَقَةُ
فِطْرِ زَوْجَتِهِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ يَلْزَمُهُ لِأَنَّهَا تَجِبُ مُؤْنَةُ الزَّوْجِ
وَوِلَايَتُهُ فَوُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ
وَلَنَا إن شَرْطَ تَمَامِ السَّبَبِ كَمَالُ الْوِلَايَةِ وَوِلَايَةُ الزَّوْجِ
عليها لَيْسَتْ بِكَامِلَةٍ فلم يَتِمَّ السَّبَبُ وَلَيْسَ في شَيْءٍ من
الْحَيَوَانِ سِوَى الرَّقِيقِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ إمَّا لِأَنَّ وُجُوبَهَا
عُرِفَ بِالتَّوْقِيفِ وإنه لم يَرِدْ فِيمَا سِوَى الرَّقِيقِ من الْحَيَوَانَاتِ
أو لِأَنَّهَا وَجَبَتْ طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ عن الرَّفَثِ وَمَعْنَى الطُّهْرَةِ
لَا يَتَقَرَّرُ في سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ فَلَا تَجِبُ عنها وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ جِنْسِ الْوَاجِبِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ أَمَّا جِنْسُهُ
وَقَدْرُهُ فَهُوَ نِصْفُ صَاعٍ من حِنْطَةٍ أو صَاعٌ من شَعِيرٍ أو صَاعٌ من
تَمْرٍ وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ من الْحِنْطَةِ صَاعٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن أبي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كُنْت أُؤَدِّي على عَهْدِ رسول اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم صَاعًا من بُرٍّ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا من حديث ثَعْلَبَةَ بن صعير ( ( ( صغير ) ) ) الْعُذْرِيِّ
أَنَّهُ قال خَطَبَنَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال أَدُّوا عن كل
حُرٍّ وَعَبْدٍ نِصْفَ صَاعٍ من بُرٍّ أو صَاعًا من تَمْرٍ أو صَاعًا من شَعِيرٍ
وَذَكَرَ إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ أَنَّ
عَشْرَةً من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ منهم أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ
وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ رَوَوْا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم في صَدَقَةِ الْفِطْرِ نِصْفُ صَاعٍ من بُرٍّ وَاحْتَجَّ
بِرِوَايَتِهِمْ
وَأَمَّا حَدِيثُ أبي سَعِيدٍ فَلَيْسَ فيه دَلِيلُ الْوُجُوبِ بَلْ هو حِكَايَةٌ
عن فِعْلِهِ فَيَدُلُّ على الْجَوَازِ وَبِهِ نَقُولُ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ نِصْفَ
صَاعٍ وما زَادَ يَكُونُ تَطَوُّعًا على أَنَّ الْمَرْوِيَّ من لَفْظِ أبي سَعِيدٍ
رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كُنْت أُخْرِجُ على عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم صَاعًا من طَعَامٍ صَاعًا من تَمْرٍ صَاعًا من شَعِيرٍ وَلَيْسَ فيه
ذِكْرُ الْبُرِّ فَيُجْعَلُ قَوْلُهُ صَاعًا من تَمْرٍ صَاعًا من شَعِيرٍ
تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ صَاعًا من طَعَامٍ وَدَقِيقُ الْحِنْطَةِ وَسَوِيقُهَا
كَالْحِنْطَةِ وَدَقِيقُ الشَّعِيرِ وَسَوِيقُهُ كَالشَّعِيرِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يجزىء بِنَاءً على أَصْلِهِ من اعْتِبَارِ
الْمَنْصُوصِ عليه
وَعِنْدَنَا الْمَنْصُوصُ عليه مَعْلُولٌ بِكَوْنِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا على
الْإِطْلَاقِ لِمَا يذكر ( ( ( نذكر ) ) ) وَذِكْرُ الْمَنْصُوصِ عليه
لِلتَّيْسِيرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِذَلِكَ على عَهْدِ رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
على أَنَّ الدَّقِيقَ مَنْصُوصٌ عليه لِمَا رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ
عنه عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال أَدُّوا قبل الْخُرُوجِ زَكَاةَ
الْفِطْرِ فإن على كل مُسْلِمٍ مُدًّا من قَمْحٍ أو دَقِيقٍ وَرُوِيَ عن أبي
يُوسُفَ أَنَّهُ قال الدَّقِيقُ أَحَبُّ إلَيَّ من الْحِنْطَةِ وَالدَّرَاهِمُ
أَحَبُّ إلَيَّ من الدَّقِيقِ وَالْحِنْطَةِ لِأَنَّ ذلك أَقْرَبُ إلَى دَفْعِ
حَاجَةِ الْفَقِيرِ
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عن أبي حَنِيفَةَ في الزَّبِيبِ
ذُكِرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ نِصْفُ صَاعٍ وَرَوَى الْحَسَنُ وَأَسَدُ بن
عَمْرٍو عن أبي حَنِيفَةَ صَاعًا من زَبِيبٍ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ ما رُوِيَ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قال كنا
نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ على عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم صَاعًا
من تَمْرٍ أو صَاعًا من زَبِيبٍ وكان طَعَامُنَا الشَّعِيرُ وَلِأَنَّ الزَّبِيبَ
لَا يَكُونُ مِثْلَ الْحِنْطَةِ في التَّغَذِّي بَلْ يَكُونُ أَنْقَصَ منها
كَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ فيه بِالصَّاعِ كما في الشَّعِيرِ
وَالتَّمْرِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ أَنَّ قِيمَةَ الزَّبِيبِ تَزِيدُ على قِيمَةِ
الْحِنْطَةِ في الْعَادَةِ ثُمَّ اُكْتُفِيَ من الْحِنْطَةِ بِنِصْفِ صَاعٍ فَمِنْ
الزَّبِيبِ أَوْلَى وَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بين الْقَوْلَيْنِ بِأَنْ يُجْعَلَ
الْوَاجِبُ فيه بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ فَكَانَتْ قِيمَتُهُ في عَصْرِ أبي حَنِيفَةَ
مِثْلَ قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وفي عَصْرِهِمَا كانت قِيمَتُهُ مِثْلُ قِيمَةِ
الشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَعَلَى هذا أَيْضًا يُحْمَلُ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ
عن أبي حَنِيفَةَ
وَأَمَّا الْأَقِطُ
____________________
(2/72)
فَتُعْتَبَرُ
فيه الْقِيمَةُ لَا يجزىء إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ
وقال مَالِكٌ يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ صَاعًا من أَقِطٍ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ
لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عليه من وَجْهٍ يُوثَقُ بِهِ وَجَوَازُ ما ليس
بِمَنْصُوصٍ عليه لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ كَسَائِرِ
الْأَعْيَانِ التي لم يَقَعْ التَّنْصِيصُ عليها من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
وقال الشَّافِعِيُّ لَا أُحِبُّ أَنْ يُخْرِجَ الْأَقِطَ فَإِنْ أَخْرَجَ صَاعًا
من أَقِطٍ لم يَتَبَيَّنْ لي أَنَّ عليه الْإِعَادَةَ وَالصَّاعُ ثَمَانِيَةُ
أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ
وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن صَاعَ الْمَدِينَةِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ
وَنَقَلُوا ذلك عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم خَلَفًا عن سَلَفٍ
وَلَهُمَا ما رُوِيَ عن أَنَسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كان رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَالْمُدُّ رِطْلَانِ وَيَغْتَسِلُ
بِالصَّاعِ وَالصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّ هذا صَاعُ
عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه
وَنَقْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لم يَصِحَّ لِأَنَّ مَالِكًا من فُقَهَائِهِمْ يقول
صَاعُ الْمَدِينَةِ ثَبَتَ بِتَحَرِّي عبد الْمَلِكِ بن مَرْوَانَ فلم يَصِحَّ
النَّقْلُ وقد ثَبَتَ أَنَّ صَاعَ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ
فَالْعَمَلُ بِصَاعِ عُمَرَ أَوْلَى من الْعَمَلِ بِصَاعِ عبد الْمَلِكِ
ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ وَزْنًا وَكَيْلًا
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ وَزْنًا وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ كَيْلًا حتى لو
وَزَنَ وَأَدَّى جَازَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ
وقال ( ( ( قال ) ) ) الطَّحَاوِيُّ الصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ فِيمَا
يَسْتَوِي كَيْلُهُ وَوَزْنُهُ وهو الْعَدَسُ وَالْمَاشُّ وَالزَّبِيبُ
وإذا كان الصَّاعُ يَسَعُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ من الْعَدَسِ وَالْمَاشُ فَهُوَ
الصَّاعُ الذي يُكَالُ بِهِ الشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ من الْأَشْيَاءِ بِمَا لَا يَخْتَلِفُ
كَيْلُهُ وَوَزْنُهُ كَالْعَدَسِ وَالْمَاشِّ وما سِوَاهُمَا يَخْتَلِفُ منها ما
يَكُونُ وَزْنُهُ أَكْثَرَ من كَيْلِهِ كَالشَّعِيرِ
وَمِنْهَا ما يَكُونُ كَيْلُهُ أَكْثَرَ من وَزْنِهِ كَالْمِلْحِ فَيَجِبُ
تَقْدِيرُ الْمَكَايِيلِ بِمَا لَا يَخْتَلِفُ وَزْنُهُ وَكَيْلُهُ كَالْعَدَسِ
وَالْمَاشِّ فإذا كان الْمِكْيَالُ يَسَعُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ من ذلك فَهُوَ
الصَّاعُ الذي يُكَالُ بِهِ الشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أن النَّصَّ وَرَدَ بِاسْمِ الصَّاعِ وَأَنَّهُ مِكْيَالٌ
لَا يَخْتَلِفُ وَزْنُ ما يَدْخُلُ فيه خِفَّةً وَثِقَلًا فَوَجَبَ اعْتِبَارُ
الْكَيْلِ الْمَنْصُوصِ عليه
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أن الناس إذَا اخْتَلَفُوا في صَاعٍ يُقَدِّرُونَهُ
بِالْوَزْنِ فَدَلَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هو الْوَزْنُ وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ
فَهُوَ أَنَّ وُجُوبَ الْمَنْصُوصِ عليه من حَيْثُ أنه مَالٌ مُتَقَوِّمٌ على
الْإِطْلَاقِ لَا من حَيْثُ أنه عَيْنٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ عن جَمِيعِ ذلك
الْقِيمَةَ دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ أو فُلُوسًا أو عُرُوضًا أو ما شَاءَ وَهَذَا
عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ وهو على الِاخْتِلَافِ في
الزَّكَاةِ
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِوُجُوبِ أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ وفي
تَجْوِيزِ الْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ حُكْمُ النَّصِّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ في الْحَقِيقَةِ إغْنَاءُ الْفَقِيرِ لِقَوْلِهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم اغنوهم عن الْمَسْأَلَةِ في مِثْلِ هذا الْيَوْمِ
وَالْإِغْنَاءُ يَحْصُلُ بِالْقِيمَةِ بَلْ أَتَمَّ وَأَوْفَرَ لِأَنَّهَا
أَقْرَبُ إلَى دَفْعِ الْحَاجَةِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ النَّصَّ مَعْلُولٌ
بِالْإِغْنَاءِ وَأَنَّهُ ليس في تَجْوِيزِ الْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ حُكْمُ النَّصِّ
في الْحَقِيقَةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْمَنْصُوصِ عليه بَعْضِهِ عن بَعْضٍ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ
سَوَاءٌ كان الذي أَدَّى عنه من جِنْسِهِ أو من خِلَافِ جِنْسِهِ بَعْدَ أَنْ كان
مَنْصُوصًا عليه فَكَمَا لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الْحِنْطَةِ عن الْحِنْطَةِ
بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ بِأَنْ أَدَّى نِصْفَ صَاعٍ من حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ عن
صَاعٍ من حِنْطَةٍ وَسَطٍ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ غَيْرِ الْحِنْطَةِ عن الْحِنْطَةِ
بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ بِأَنْ أَدَّى نِصْفَ صَاعٍ من تَمْرٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ
قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ من الْحِنْطَةِ عن الْحِنْطَةِ بَلْ يَقَعُ عن نَفْسِهِ
وَعَلَيْهِ تَكْمِيلُ الْبَاقِي وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا
تُعْتَبَرُ في الْمَنْصُوصِ عليه وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ في غَيْرِهِ
وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ من يقول من أَهْلِ الْأُصُولِ إنَّ الْحُكْمَ في
الْمَنْصُوصِ عليه يَثْبُتُ بِعَيْنِ النَّصِّ لَا بِمَعْنَى النَّصِّ وَإِنَّمَا
يُعْتَبَرُ الْمَعْنَى لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ في غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عليه وهو
مَذْهَبُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ
وَأَمَّا التَّخْرِيجُ على قَوْلِ من يقول إنَّ الْحُكْمَ في الْمَنْصُوصِ عليه
يَثْبُتُ بِالْمَعْنَى أَيْضًا وهو قَوْلُ مَشَايِخِنَا بِسَمَرْقَنْدَ
وَأَمَّا في الْجِنْسِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ بَعْضَ الْجِنْسِ الْمَنْصُوصِ عليه
إنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ كُلِّهِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَهِيَ الْجَوْدَةُ
وَالْجَوْدَةُ في أَمْوَالِ الرِّبَا لَا قِيمَةَ لها شَرْعًا عِنْدَ
مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم جَيِّدُهَا
وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْجَوْدَةِ وَالسَّاقِطُ شَرْعًا
مُلْحَقٌ بِالسَّاقِطِ حَقِيقَةً
وَأَمَّا في خِلَافِ الْجِنْسِ فَوَجْهُ التَّخْرِيجِ أَنَّ الْوَاجِبَ في
ذِمَّتِهِ في صَدَقَةِ الْفِطْرِ عِنْدَ هُجُومِ وَقْتِ الْوُجُوبِ أَحَدُ
شَيْئَيْنِ إمَّا عَيْنُ الْمَنْصُوصِ عليه وَإِمَّا الْقِيمَةُ وَمَنْ عليه
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخْرَجَ الْعَيْنَ وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ الْقِيمَةَ
وَلِأَيِّهِمَا اخْتَارَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ هو الْوَاجِبُ من الْأَصْلِ فإذا
أَدَّى بَعْضَ عَيْنِ الْمَنْصُوصِ عليه تَعَيَّنَ وَاجِبًا
____________________
(2/73)
من
الْأَصْلِ فَيَلْزَمُهُ تَكْمِيلُهُ وَهَذَا التَّخْرِيجُ في صَدَقَةِ الْفِطْرِ
صَحِيحٌ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هَهُنَا في الذِّمَّةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فإن
الْوَاجِبَ هُنَاكَ في النِّصَابِ لِأَنَّهُ رُبُعُ الْعُشْرِ وهو جُزْءٌ من
النِّصَابِ حتى يَسْقُطَ بِهَلَاكِ النِّصَابِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْوُجُوبِ
فَصْلٌ وَأَمَّا وَقْتُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال
أَصْحَابُنَا هو وَقْتُ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي من يَوْمِ الْفِطْرِ
وقال الشَّافِعِيُّ هو وَقْتُ غُرُوبِ الشَّمْسِ من آخِرِ يَوْمٍ من رَمَضَانَ حتى
لو مَلَكَ عَبْدًا أو ولو ( ( ( ولد ) ) ) له وَلَدٌ أو كان كَافِرًا فَأَسْلَمَ
أو كان فَقِيرًا فَاسْتَغْنَى إنْ كان ذلك قبل طُلُوعِ الشَّمْسِ تَجِبُ عليه
الْفِطْرَةُ وَإِنْ كان بَعْدَهُ لَا تَجِبُ عليه وَكَذَا من مَاتَ قبل طُلُوعِ
الْفَجْرِ لم تَجِبْ فِطْرَتُهُ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ وَجَبَتْ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ كان ذلك قَبْل غُرُوب الشَّمْسِ تَجِبُ عليه وَإِنْ
كان بَعْدَهُ لَا تَجِبُ وَكَذَا إنْ مَاتَ قَبْلَهُ لم تَجِبْ وَإِنْ مَاتَ
بَعْدَهُ وَجَبَتْ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن سَبَبَ وُجُوبِ هذه الصَّدَقَةِ هو الْفِطْرُ لِأَنَّهَا
تُضَافُ إلَيْهِ وَالْإِضَافَةُ تَدُلُّ على السَّبَبِيَّةِ كَإِضَافَةِ الصَّلَوَاتِ
إلَى أَوْقَاتِهَا وَإِضَافَةِ الصَّوْمِ إلَى الشَّهْرِ وَنَحْوِ ذلك وَكَمَا
غَرَبَتْ الشَّمْسُ من آخِرِ يَوْمٍ من رَمَضَانَ جاء وَقْتُ الْفِطْرِ فَوَجَبَتْ
الصَّدَقَةُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال صَوْمُكُمْ يوم
تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يوم تُفْطِرُونَ أَيْ وَقْتُ فِطْرِكُمْ يوم تُفْطِرُونَ
خَصَّ وَقْتَ الْفِطْرِ بِيَوْمِ الْفِطْرِ حَيْثُ أَضَافَهُ إلَى الْيَوْمِ
وَالْإِضَافَةُ لِلِاخْتِصَاصِ فَيَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْوَقْتِ بِالْفِطْرِ
يَظْهَرُ بِالْيَوْمِ وَإِلَّا فَاللَّيَالِي كُلُّهَا في حَقِّ الْفِطْرِ سَوَاءٌ
فَلَا يَظْهَرُ الِاخْتِصَاصُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ من قَوْلِهِ
صَدَقَةُ الْفِطْرِ أَيْ صَدَقَةُ يَوْمِ الْفِطْرِ فَكَانَتْ الصَّدَقَةُ
مُضَافَةً إلَى يَوْمِ الْفِطْرِ فَكَانَ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا
وَلَوْ عَجَّلَ الصَّدَقَةَ على يَوْمِ الْفِطْرِ لم يُذْكَرْ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَن عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ
سَنَةً وَسَنَتَيْنِ
وَعَنْ خَلَفِ بن أَيُّوبَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا إذَا دخل رَمَضَانُ وَلَا
يَجُوزُ قَبْلَهُ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ
التَّعْجِيلُ بِيَوْمٍ أو يَوْمَيْنِ
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا أَصْلًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أن وَقْتَ وُجُوبِ هذا الْحَقِّ هو يَوْمُ الْفِطْرِ فَكَانَ
التَّعْجِيلُ أَدَاءَ الْوَاجِبِ قبل وُجُوبِهِ وأنه مُمْتَنِعٌ كَتَعْجِيلِ
الْأُضْحِيَّةِ قبل يَوْمِ النَّحْرِ
وَجْهُ قَوْلِ خَلَفٍ أن هذه فِطْرَةٌ عن الصَّوْمِ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا
على وَقْتِ الصَّوْمِ وما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ من الْيَوْمِ أو الْيَوْمَيْنِ
فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ ما أَرَادَ بِهِ الشَّرْطَ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الشَّرْطَ
فَوَجْهُهُ أَنَّ وُجُوبَهَا لِإِغْنَاءِ الْفَقِيرِ في يَوْمِ الْفِطْرِ وَهَذَا
الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِالتَّعْجِيلِ بِيَوْمٍ أو يَوْمَيْنِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ
أَنَّ المعجل ( ( ( المتعجل ) ) ) يَبْقَى إلَى يَوْمِ الْفِطْرِ فَيَحْصُلُ
الْإِغْنَاءُ يوم الْفِطْرِ وما زَادَ على ذلك لَا يَبْقَى فَلَا يَحْصُلُ
الْمَقْصُودُ
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ مُطْلَقًا
وَذِكْرُ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ في رِوَايَةِ الْحَسَنِ ليس على التَّقْدِيرِ
بَلْ هو بَيَانٌ لِاسْتِكْثَارِ الْمُدَّةِ أَيْ يَجُوزُ وَإِنْ كَثُرَتْ
الْمُدَّةُ كما في قَوْله تَعَالَى { إنْ تَسْتَغْفِرْ لهم سَبْعِينَ مَرَّةً
فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لهم }
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوُجُوبَ إنْ لم يَثْبُتْ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وهو
رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عليه وَالتَّعْجِيلُ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ جَائِزٌ
كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ وَالْعُشُورِ وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا وَقْتُ أَدَائِهَا فَجَمِيعُ الْعُمُرِ عِنْدَ عَامَّةِ
أَصْحَابِنَا وَلَا تَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ عن يَوْمِ الْفِطْرِ
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ وَقْتُ أَدَائِهَا يَوْمُ الْفِطْرِ من أَوَّلِهِ إلَى
آخِرِهِ وإذا لم يُؤَدِّهَا حتى مَضَى الْيَوْمُ سَقَطَتْ
وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ إنَّ هذا حَقٌّ معرف ( ( ( معروف ) ) ) بِيَوْمِ
الْفِطْرِ فَيَخْتَصُّ أَدَاؤُهُ بِهِ كَالْأُضْحِيَّةِ
وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ أن الْأَمْرَ بِأَدَائِهَا مُطْلَقٌ عن الْوَقْتِ
فَيَجِبُ في مُطْلَقِ الْوَقْتِ غير عَيْنٍ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ
فِعْلًا أو بِآخِرِ الْعُمُرِ كَالْأَمْرِ بِالزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ
وَالْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِ ذلك وفي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى كان مُؤَدِّيًا لَا
قَاضِيًا كما في سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمُوَسَّعَةِ غير أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ
أَنْ يَخْرُجَ قبل الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم كَذَا كان يَفْعَلُ وَلِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَغْنُوهُمْ عن الْمَسْأَلَةِ في مِثْلِ هذا الْيَوْمِ فإذا أَخْرَجَ قبل
الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى اسْتَغْنَى الْمِسْكِينُ عن السُّؤَالِ في يَوْمِهِ
ذلك فَيُصَلِّي فَارِغَ الْقَلْبِ مُطْمَئِنَّ النَّفْسِ
فَصْلٌ وَأَمَّا رُكْنُهَا فَالتَّمْلِيكُ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَدَّوْا عن كل حُرٍّ وَعَبْدٍ الحديث وَالْأَدَاءُ هو التَّمْلِيكُ فَلَا
يَتَأَدَّى بِطَعَامِ الْإِبَاحَةِ وَبِمَا ليس بِتَمْلِيكٍ أَصْلًا وَلَا بِمَا
ليس بِتَمْلِيكٍ مُطْلَقٍ وَالْمَسَائِلُ الْمَبْنِيَّةُ عليه ذَكَرْنَاهَا في
زَكَاةِ الْمَالِ وَشَرَائِطِ الرُّكْنِ أَيْضًا ما ذَكَرْنَا هُنَاكَ غير أَنَّ
إسْلَامَ الْمُؤَدَّى إلَيْهِ هَهُنَا ليس بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْأَدَاءِ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ شَرْطٌ وَلَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ
وَلَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى الْحَرْبِيِّ
____________________
(2/74)
الْمُسْتَأْمَنِ
بِالْإِجْمَاعِ وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا في زَكَاةِ الْمَالِ
وَيَجُوزُ أَنْ يعطي ما يَجِبُ في صَدَقَةِ الْفِطْر عن إنْسَانٍ وَاحِدٍ
جَمَاعَةً مَسَاكِينَ ويعطي ما يَجِبُ عن جَمَاعَةٍ مِسْكِينًا وَاحِدًا لِأَنَّ
الْوَاجِبَ زَكَاةٌ فَجَازَ جَمْعُهَا وَتَفْرِيقُهَا كَزَكَاةِ الْمَالِ وَلَا
يَبْعَثُ الْإِمَامُ عليها سَاعِيًا لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لم
يَبْعَثْ وَلَنَا فيه قُدْوَةٌ
فَصْلٌ وَأَمَّا مَكَانُ الْأَدَاءِ وهو الْمَوْضِعُ الذي يُسْتَحَبُّ فيه
إخْرَاجُ الْفِطْرَةِ رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُؤَدِّي زَكَاةَ الْمَالِ
حَيْثُ الْمَالِ وَيُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ عن نَفْسِهِ وَعَبِيدِهِ حَيْثُ هو
وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وقال يُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ
عن نَفْسِهِ حَيْثُ هو وَعَنْ عبيدة حَيْثُ هُمْ حَكَى الْحَاكِمُ رُجُوعَهُ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ قَوْلَ أبي حَنِيفَةِ مع
قَوْلِ أبي يُوسُفَ
وَأَمَّا زَكَاةُ الْمَالِ فَحَيْثُ الْمَالِ في الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا
وَيُكْرَهُ إخْرَاجُهَا إلَى أَهْلِ غَيْرِ ذلك الْمَوْضِعِ إلَّا رِوَايَةً عن
أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُخْرِجَهَا إلَى قَرَابَتِهِ من أَهْلِ
الْحَاجَةِ وَيَبْعَثَهَا إلَيْهِمْ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ أَحَدُ نَوْعَيْ الزَّكَاةِ
ثُمَّ زَكَاةُ الْمَالِ تُؤَدَّى حَيْثُ الْمَالُ فَكَذَا زَكَاةُ الرَّأْسِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِمُحَمَّدٍ وَاضِحٌ وهو أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تَتَعَلَّقُ
بِذِمَّةِ الْمُؤَدِّي لَا بِمَالِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو هَلَكَ مَالُهُ لَا
تَسْقُطُ الصَّدَقَةُ وَأَمَّا زَكَاةُ الْمَالِ فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ
بِالْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو هَلَكَ النِّصَابُ تَسْقُطُ فإذا تَعَلَّقَتْ
الصَّدَقَةُ بِذِمَّةِ الْمُؤَدِّي اُعْتُبِرَ مَكَانُ المؤدى وَلَمَّا
تَعَلَّقَتْ الزَّكَاةُ بِالْمَالِ اُعْتُبِرَ مَكَانُ الْمَالِ وَرُوِيَ عن أبي
يُوسُفَ في الصَّدَقَةِ أَنَّهُ يؤدي عن الْعَبْدِ الْحَيِّ حَيْثُ هو وَعَنْ
الْمَيِّتِ حَيْثُ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْوُجُوبَ في الْعَبْدِ الْحَيِّ عنه
فَيُعْتَبَرُ مَكَانُهُ وفي الْمَيِّتِ لَا فَيُعْتَبَرُ مَكَانُ الْمَوْلَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ فما يُسْقِطُ زَكَاةَ
الْمَالِ يُسْقِطُهَا إلَّا هَلَاكُ الْمَالِ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِهِ بِخِلَافِ
زَكَاةِ الْمَالِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ وَذِمَّتُهُ
قَائِمَةٌ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَالِ فَكَانَ الْوَاجِبُ قَائِمًا وَالزَّكَاةُ
تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ فَتَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
كِتَابُ الصَّوْمِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ
أَنْوَاعِ الصِّيَامِ وَصِفَةِ كل نَوْعٍ وفي بَيَانِ شَرَائِطِهَا وفي بَيَانِ
أَرْكَانِهَا وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ ما يُفْسِدُهَا وفي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا
فَسَدَتْ وفي بَيَانِ حُكْمِ الصَّوْمِ الْمُؤَقَّتِ إذَا فَاتَ عن وَقْتِهِ وفي
بَيَانِ ما يُسَنُّ وما يُسْتَحَبُّ لِلصَّائِمِ وما يُكْرَهُ له أَنْ يَفْعَلَهُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالصَّوْمُ في الْقِسْمَةِ الْأُولَى ينقسم ( ( ( وينقسم ) ) )
إلَى لُغَوِيٍّ وَشَرْعِيٍّ أَمَّا اللُّغَوِيُّ فَهُوَ الْإِمْسَاكُ الْمُطْلَقُ
وهو الْإِمْسَاكُ عن أَيِّ شَيْءٍ كان فَيُسَمَّى الْمُمْسِكُ عن الْكَلَامِ وهو
الصَّامِتُ صَائِمًا قال اللَّهُ تَعَالَى { إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا
} أَيْ صَمْتًا وَيُسَمَّى الْفَرَسُ الْمُمْسِكُ عن الْعَلَفِ صَائِمًا قال الشَّاعِرُ
خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ
اللُّجُمَا أَيْ مُمْسِكَةٌ عن الْعَلَفِ وَغَيْرُ مُمْسِكَةٍ وَأَمَّا
الشَّرْعِيُّ فَهُوَ الْإِمْسَاكُ عن أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ الْأَكْلُ
وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ نَذْكُرُهَا في مَوَاضِعِهَا
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
ثُمَّ الشَّرْعِيُّ يَنْقَسِمُ إلَى فَرْضٍ وَوَاجِبٍ وَتَطَوُّعٍ وَالْفَرْضُ
يَنْقَسِمُ إلَى عَيْنٍ وَدَيْنٍ فَالْعَيْنُ ما له وَقْتٌ مُعَيَّنٌ إمَّا
بِتَعْيِينِ اللَّهِ تَعَالَى كَصَوْمِ رَمَضَانَ وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ خَارِجَ
رَمَضَانَ لِأَنَّ خَارِجَ رَمَضَانَ مُتَعَيَّنٌ لِلنَّفْلِ شَرْعًا وَإِمَّا
بِتَعْيِينِ الْعَبْدِ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ في وَقْتٍ بِعَيْنِهِ
وَالدَّلِيلُ على فَرْضِيَّةِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ
وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كما كُتِبَ على الَّذِينَ من قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ } وَقَوْلُهُ { كُتِبَ عَلَيْكُمْ } أَيْ فُرِضَ
وقَوْله تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بُنِيَ الْإِسْلَامُ
على خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول
اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ
الْبَيْتِ من اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا
وَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَيّهَا الناس
اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَ
رَبِّكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بها أَنْفُسُكُمْ تَدْخُلُوا
جَنَّةَ رَبِّكُمْ
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فإن الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ على فَرْضِيَّةِ شَهْرِ
رَمَضَانَ لَا يَجْحَدُهَا إلَّا كَافِرٌ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ الصَّوْمَ وَسِيلَةٌ إلَى
شُكْرِ النِّعْمَةِ إذْ هو كَفُّ النَّفْسِ عن الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ
وأنها من أَجَلِّ النِّعَمِ وَأَعْلَاهَا وَالِامْتِنَاعُ عنها زَمَانًا
مُعْتَبَرًا يُعَرِّفُ قَدْرَهَا إذْ النِّعَمُ مَجْهُولَةٌ فإذا فُقِدَتْ
عُرِفَتْ فَيَحْمِلُهُ ذلك على قَضَاءِ حَقِّهَا بِالشُّكْرِ وَشُكْرُ النِّعَمِ
فَرْضٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَإِلَيْهِ أَشَارَ الرَّبُّ تَعَالَى في قَوْلِهِ في
آيَةِ الصِّيَامِ { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
____________________
(2/75)
وَالثَّانِي أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى التَّقْوَى لِأَنَّهُ إذَا انْقَادَتْ
نَفْسُهُ لِلِامْتِنَاعِ عن الْحَلَالِ طَمَعًا في مرضاة ( ( ( مرضات ) ) )
اللَّهِ تَعَالَى وَخَوْفًا من أَلِيمِ عِقَابِهِ فَأَوْلَى أَنْ تَنْقَادَ
لِلِامْتِنَاعِ عن الْحَرَامِ فَكَانَ الصَّوْمُ سَبَبًا لِلِاتِّقَاءِ عن
مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى وأنه فَرْضٌ وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى في آخِرِ آيَةِ الصَّوْمِ { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
وَالثَّالِثُ أَنَّ في الصَّوْمِ قَهْرَ الطَّبْعِ وَكَسْرَ الشَّهْوَةِ لِأَنَّ
النَّفْسَ إذَا شَبِعَتْ تَمَنَّتْ الشَّهَوَاتِ وإذا جَاعَتْ امْتَنَعَتْ عَمَّا
تَهْوَى وَلِذَا قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من خَشِيَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ
فَلْيَصُمْ فإن الصَّوْمَ له وِجَاءٌ فَكَانَ الصَّوْمُ ذَرِيعَةً إلَى
الِامْتِنَاعِ عن الْمَعَاصِي وأنه فَرْضٌ
وَأَمَّا صَوْمُ الدَّيْنِ فما ليس له وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَصَوْمِ قَضَاءِ
رَمَضَانَ وَصَوْمِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ
وَالْإِفْطَارِ وَصَوْمِ الْمُتْعَةِ وَصَوْمِ فِدْيَةِ الْحَلْقِ وَصَوْمِ
جَزَاءِ الصَّيْدِ وَصَوْمِ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ عن الْوَقْتِ وَصَوْمِ الْيَمِينِ
بِأَنْ قال وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ شَهْرًا
ثُمَّ بَعْضُ هذه الصِّيَامَاتِ الْمَفْرُوضَةِ من الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ
مُتَتَابِعٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مُتَتَابِعٍ بَلْ صَاحِبُهَا فيه بِالْخِيَارِ إنْ
شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ
أَمَّا الْمُتَتَابِعُ فَصَوْمُ رَمَضَانَ وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ
وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عِنْدَنَا
أَمَّا صَوْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ فَلِأَنَّ التَّتَابُعَ
مَنْصُوصٌ عليه قال اللَّهُ تَعَالَى في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ { فَمَنْ لم يَجِدْ
فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً من اللَّهِ }
وقال عز وجل في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ { فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ من قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا }
وَأَمَّا صَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَقَدْ قَرَأَ ابن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ
عنه فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّتَابُعُ فيه ليس بِشَرْطٍ وَمَوْضِعُ الْمَسْأَلَةِ
كِتَابُ الْكَفَّارَاتِ وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم في كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ
بِالْجِمَاعِ في حديث الْأَعْرَابِيِّ صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ
وَأَمَّا صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِصَوْمِ
الشَّهْرِ بِقَوْلِهِ عز وجل { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }
وَالشَّهْرُ مُتَتَابِعٌ لِتَتَابُعِ أَيَّامِهِ فَيَكُونُ صَوْمُهُ مُتَتَابِعًا
ضَرُورَةً وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ الْمَنْذُورُ بِهِ في وَقْتٍ بِعَيْنِهِ بِأَنْ
قال لِلَّهِ تعالى عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرَ رَجَبٍ يَكُونُ مُتَتَابِعًا لِمَا
ذَكَرْنَا في صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَتَابِعِ فَصَوْمُ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَصَوْمُ الْمُتْعَةِ
وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْحَلْقِ وَصَوْمُ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَصَوْمُ النَّذْرِ
الْمُطْلَقِ وَصَوْمُ الْيَمِينِ لِأَنَّ الصَّوْمَ في هذه الْمَوَاضِعِ ذُكِرَ
مُطْلَقًا عن صِفَةِ التَّتَابُعِ
قال اللَّهُ تَعَالَى في قَضَاءِ رَمَضَانَ { فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على
سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ } أَيْ فَأَفْطَرَ فَلْيَصُمْ عِدَّةً من
أَيَّامٍ أُخَرَ
وقال عز وجل في صَوْمِ الْمُتْعَةِ { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى
الْحَجِّ فما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ }
وقال عز وجل في كَفَّارَةِ الْحَلْقِ { فَفِدْيَةٌ من صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو
نُسُكٍ } وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في جَزَاءِ الصَّيْدِ { أو عَدْلُ ذلك
صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الصِّيَامَ في هذه
الْأَبْوَابِ مطلقة ( ( ( مطلقا ) ) ) عن شَرْطِ التَّتَابُعِ
وَكَذَا النَّاذِرُ وَالْحَالِفُ في النَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَالْيَمِينِ
الْمُطْلَقَةِ ذُكِرَ الصَّوْمُ مُطْلَقًا عن شَرْطِ التَّتَابُعِ
وقال بَعْضُهُمْ في صَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ إنَّهُ يُشْتَرَطُ فيه التَّتَابُعُ
لَا يَجُوزُ إلَّا مُتَتَابِعًا
وَاحْتَجُّوا بِقِرَاءَةِ أُبَيِّ بن كَعْبٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قَرَأَ
الْآيَةَ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ فَيُزَادُ على الْقِرَاءَةِ
الْمَعْرُوفَةِ وَصْفُ التَّتَابُعِ بِقِرَاءَتِهِ كما زِيدَ وَصْفُ التَّتَابُعِ
على الْقِرَاءَةِ الْمَعْرُوفَةِ في صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِقِرَاءَةِ عبد
اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ على حَسَبِ الْأَدَاءِ
وَالْأَدَاءُ وَجَبَ مُتَتَابِعًا فَكَذَا الْقَضَاءُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن جَمَاعَةٍ من أَصْحَابِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
من نَحْوِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ
قالوا إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ غير أَنَّ عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه
قال إنَّهُ يُتَابِعُ لَكِنَّهُ إنْ فَرَّقَ جَازَ وَهَذَا منه إشَارَةٌ إلَى
أَنَّ التَّتَابُعَ أَفْضَلُ
وَلَوْ كان التَّتَابُعُ شَرْطًا لَمَا احْتَمَلَ الْخَفَاءَ على هَؤُلَاءِ
الصَّحَابَةِ وَلَمَا احْتَمَلَ مُخَالَفَتَهُمْ إيَّاهُ في ذلك لو عَرَفُوهُ
وَبِهَذَا الْإِجْمَاعِ تَبَيَّنَ أَنَّ قِرَاءَةَ أُبَيِّ بن كَعْبٍ لو ثَبَتَتْ
فَهِيَ على النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ دُونَ الِاشْتِرَاطِ إذْ لو كانت
ثَابِتَةً وَصَارَتْ كَالْمَتْلُوِّ وكان الْمُرَادُ بها الِاشْتِرَاطَ لَمَا
احْتَمَلَ الْخِلَافَ من هَؤُلَاءِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ بِخِلَافِ ذِكْرِ
التَّتَابُعِ في صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ في حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي
اللَّهُ عنه لِأَنَّهُ لم يُخَالِفْهُ أَحَدٌ من الصَّحَابَةِ في ذلك فَصَارَ
كَالْمَتْلُوِّ في حَقِّ الْعَمَلِ بِهِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ على حَسَبِ الْأَدَاءِ وَالْأَدَاءُ
وَجَبَ مُتَتَابِعًا فَنَقُولُ التَّتَابُعُ في الْأَدَاءِ ما وَجَبَ
____________________
(2/76)
لِمَكَانِ
الصَّوْمِ لِيُقَالَ أَيْنَمَا كان الصَّوْمُ كان التَّتَابُعُ شَرْطًا وَإِنَّمَا
وَجَبَ لِأَجْلِ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ وَجَبَ عليهم صَوْمُ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ وَلَا
يُتَمَكَّنُ من أَدَاءِ الصَّوْمِ في الشَّهْرِ كُلِّهِ إلَّا بِصِفَةِ
التَّتَابُعِ فَكَانَ لُزُومُ التَّتَابُعِ لِضَرُورَةِ تَحْصِيلِ الصَّوْمِ في
هذا الْوَقْتِ
وَهَذَا هو الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ صَوْمٍ يُؤْمَرُ فيه بِالتَّتَابُعِ لِأَجْلِ
الْفِعْلِ وهو الصَّوْمُ يكون ( ( ( ويكون ) ) ) التَّتَابُعُ شَرْطًا فيه حَيْثُ
دَارَ الْفِعْلُ وَكُلُّ صَوْمٍ يُؤْمَرُ فيه بِالتَّتَابُعِ لِأَجْلِ الْوَقْتِ
فَفَوْتُ ذلك الْوَقْتِ يُسْقِطُ التَّتَابُعَ وَإِنْ بَقِيَ الْفِعْلُ ووجب ( ( (
واجب ) ) ) الْقَضَاءِ فإن من قال الله ( ( ( لله ) ) ) عَلَيَّ صَوْمُ شَعْبَانَ
يَلْزَمُهُ أَنْ يَصُومَ شَعْبَانَ مُتَتَابِعًا لَكِنَّهُ إنْ فَاتَ شَيْءٌ منه
يَقْضِي إنْ شَاءَ مُتَتَابِعًا وَإِنْ شَاءَ مُتَفَرِّقًا لِأَنَّ التَّتَابُعَ
هنا ( ( ( ههنا ) ) ) لِمَكَانِ الْوَقْتِ فَيَسْقُطُ بِسُقُوطِهِ وَبِمِثْلِهِ لو
قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا يَلْزَمُهُ أَنْ يَصُومَ
مُتَتَابِعًا لَا يَخْرُجُ عن نَذْرِهِ إلَّا بِهِ وَلَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا في
وَسَطِ الشَّهْرِ يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ لِأَنَّ التَّتَابُعَ ذُكِرَ
لِلصَّوْمِ فَكَانَ الشَّرْطُ هو وَصْلَ الصَّوْمِ بِعَيْنِهِ فَلَا يَسْقُطُ عنه
أَبَدًا
وَعَلَى هذا صَوْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ لِأَنَّهُ
لَمَّا وَجَبَ لِعَيْنِ الصَّوْمِ لَا يَسْقُطُ أَبَدًا إلَّا بِالْأَدَاءِ
مُتَتَابِعًا
وَالْفِقْهُ في ذلك ظَاهِرٌ وهو أَنَّهُ إذَا وَجَبَ التَّتَابُعُ لِأَجْلِ نَفْسِ
الصَّوْمِ فما لم يُؤَدِّهِ على وَصْفِهِ لَا يَخْرُجُ عن عُهْدَةِ الْوَاجِبِ
وإذا وَجَبَ لِضَرُورَةِ قَضَاءِ حَقِّ الْوَقْتِ أو شَرْطِ التَّتَابُعِ لَوَجَبَ
الِاسْتِقْبَالُ فَيَقَعُ جَمِيعُ الصَّوْمِ في غَيْرِ ذلك الْوَقْتِ الذي أُمِرَ
بِمُرَاعَاةِ حَقِّهِ بِالصَّوْمِ فيه وَلَوْ لم يَجِبْ لَوَقَعَ عَامَّةُ
الصَّوْمِ فيه وَبَعْضُهُ في غَيْرِهِ فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى قَضَاءِ حَقِّ
الْوَقْتِ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ التَّتَابُعَ في صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ لِمَا قُلْنَا من
قَضَاءِ حَقِّ الْوَقْتِ أَنَّهُ لو أَفْطَرَ في بَعْضِهِ لَا يَلْزَمُهُ
الِاسْتِقْبَالُ
وَلَوْ كان التَّتَابُعُ شَرْطًا لِلصَّوْمِ لَوَجَبَ كما في الصَّوْمِ
الْمَنْذُورِ بِهِ بِصِفَةِ التَّتَابُعِ وَكَمَا في صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ
وَالْيَمِينِ وَالْقَتْلِ وَكَذَا لو أَفْطَرَ أَيَّامًا من شَهْرِ رَمَضَانَ بِسَبَبِ
الْمَرَضِ ثُمَّ برأ في الشَّهْرِ وَصَامَ الْبَاقِيَ لَا يَجِبُ عليه وَصْلُ
الْبَاقِي بِشَهْرِ رَمَضَانَ حتى إذَا مَضَى يَوْمُ الْفِطْرِ يَجِبُ عليه أَنْ
يَصُومَ عن الْقَضَاءِ مُتَّصِلًا بِيَوْمِ الْفِطْرِ كما في صَوْمِ كَفَّارَةِ
الْقَتْلِ
وَالْإِفْطَارِ إذَا أَفْطَرَتْ الْمَرْأَةُ بِسَبَبِ الْحَيْضِ الذي لَا
يُتَصَوَّرُ خُلُوُّ شَهْرٍ عنه كما طَهُرَتْ يَجِبُ عليها أَنْ تَصِلَ
وَتُتَابِعَ حتى لو تَرَكَتْ يَجِبُ عليها الِاسْتِقْبَالُ وَهَهُنَا ليس كَذَلِكَ
بَلْ يَثْبُتُ له الْخِيَارُ بين أَنْ يَصُومَ شوال ( ( ( شوالا ) ) ) مُتَّصِلًا
وَبَيْنَ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا آخَرَ فَدَلَّ أَنَّ التَّتَابُعَ لم يَكُنْ
وَاجِبًا لِأَجْلِ الصَّوْمِ بَلْ لِأَجْلِ الْوَقْتِ فَيَسْقُطُ بِفَوَاتِ
الْوَقْتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الصَّوْمُ الْوَاجِبُ فَصَوْمُ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فيه
وَصَوْمُ قَضَائِهِ عِنْدَ الْإِفْسَادِ وَصَوْمُ الِاعْتِكَافِ عِنْدَنَا
أَمَّا مَسْأَلَةُ وُجُوبِ الصَّوْمِ بِالشُّرُوعِ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ
بِالْإِفْسَادِ فَقَدْ مَضَتْ في كِتَابِ الصَّلَاةِ
وَأَمَّا وُجُوبُ صَوْمِ الِاعْتِكَافِ فَنَذْكُرُهُ في الِاعْتِكَافِ وَأَمَّا
التَّطَوُّعُ فَهُوَ صَوْمُ النَّفْلِ خَارِجَ رَمَضَانَ قبل الشُّرُوعِ فَهَذِهِ
جُمْلَةُ أَقْسَامِ الصِّيَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُهَا فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَعُمُّ الصِّيَامَاتِ كُلَّهَا وهو
شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ
وَنَوْعٌ يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ وهو شَرْطُ الْوُجُوبِ أَمَّا
الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ فَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الصَّائِمِ وهو شَرْطُ
أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ الصَّوْمِ وهو شَرْطُ
الْمَحَلِّيَّةِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ الصَّوْمِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى
أَصْلِ الْوَقْتِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى وَصْفِهِ من الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ
وأما الذي يَرْجِعُ إلَى أَصْلِ الْوَقْتِ فَهُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَذَلِكَ من
حِينِ يَطْلُعُ الْفَجْرُ الثَّانِي إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلَا يَجُوزُ
الصَّوْمُ في اللَّيْلِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْجِمَاعَ وَالْأَكْلَ
وَالشُّرْبَ في اللَّيَالِي إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ثُمَّ أَمَرَ بِالصَّوْمِ إلَى
اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ
إلَى نِسَائِكُمْ } إلَى قَوْلِهِ { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ
اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ من الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ من الْفَجْرِ } أَيْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ
بَيَاضُ النَّهَارِ من سَوَادِ اللَّيْلِ
هَكَذَا روى عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ
هُمَا بَيَاضُ النَّهَارِ وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى
اللَّيْلِ فَكَانَ هذا تَعْيِينًا لِلَّيَالِيِ الْفِطْرُ وَالنَّهَارُ لِلصَّوْمِ
فَكَانَ مَحَلُّ الصَّوْمِ هو الْيَوْمُ لَا اللَّيْلُ
وَلِأَنَّ الْحِكْمَةَ التي لها شُرِعَ الصَّوْمُ وهو ما ذَكَرْنَا من التَّقْوَى
وَتَعْرِيفِ قَدْرِ النِّعَمِ الْحَامِلُ على شُكْرِهَا لَا يَحْصُلُ بِالصَّوْمِ
في اللَّيْلِ لأن ذلك لَا يَحْصُلُ إلَّا بِفِعْلٍ شَاقٍّ على الْبَدَنِ مُخَالِفٍ
لِلْعَادَةِ وَهَوَى النَّفْسِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك بِالْإِمْسَاكِ في حَالَةِ
النَّوْمِ فَلَا يَكُونُ اللَّيْلُ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى وَصْفِهِ من الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ أَمَّا صَوْمُ التَّطَوُّعِ فَالْأَيَّامُ كُلُّهَا
مَحَلٌّ له عِنْدَنَا وهو رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عن أبي حَنِيفَةَ وَيَجُوزُ
____________________
(2/77)
صَوْمُ
التَّطَوُّعِ خَارِجَ رَمَضَانَ في الْأَيَّامِ كُلِّهَا لِقَوْلِ النبي كُلُّ
عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له إلَّا الصَّوْمَ فإنه لي وأنا أَجْزِي بِهِ
وَقَوْلِهِ من صَامَ من كل شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ الثَّالِثَ عَشَرَ
وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ فَكَأَنَّمَا صَامَ السَّنَةَ كُلَّهَا
فَقَدْ جَعَلَ السَّنَةَ كُلَّهَا محصلا ( ( ( محلا ) ) ) لِلصَّوْمِ على
الْعُمُومِ
وَقَوْلُهُ من صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ من شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا
صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ جَعَلَ الدَّهْرَ كُلَّهُ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ عن غَيْرِ
فَصْلٍ
وَقَوْلُهُ الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ
شَاءَ لم يَصُمْ وَلِأَنَّ الْمَعَانِيَ التي لها كان الصَّوْمُ حَسَنًا
وَعِبَادَةً وَهِيَ ما ذَكَرْنَا مَوْجُودَةٌ في سَائِرِ الْأَيَّامِ فَكَانَتْ
الْأَيَّامُ كُلُّهَا مَحَلًّا لِلصَّوْمِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ الصَّوْمُ في
بَعْضِهَا وَيُسْتَحَبُّ في الْبَعْضِ
أَمَّا الصِّيَامُ في الْأَيَّامِ الْمَكْرُوهَةِ فَمِنْهَا صَوْمُ يَوْمَيْ
الْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ في هذه الْأَيَّامِ وهو رِوَايَةُ
أبي يُوسُفَ وَعَبْدِ اللَّهِ بن الْمُبَارَكِ عن أبي حَنِيفَةَ وَاحْتَجَّ
بِالنَّهْيِ الْوَارِدِ عن الصَّوْمِ فيها وهو ما رَوَى أبو هُرَيْرَةَ رضي
اللَّهُ تَعَالَى عنه عن النبي أَنَّهُ قال أَلَا لَا تَصُومُوا في هذه
الْأَيَّامِ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ وَالنَّهْيُ
لِلتَّحْرِيمِ وَلِأَنَّهُ عَيَّنَ هذه الْأَيَّامَ لِأَضْدَادِ الصَّوْمِ فَلَا
تَبْقَى مَحَلًّا لِلصَّوْمِ
وَالْجَوَابُ أَنَّ ما ذَكَرْنَا من النُّصُوصِ وَالْمَعْقُولِ يَقْتَضِي جَوَازَ
الصَّوْمِ في هذه الْأَيَّامِ فَيُحْمَلُ النَّهْيُ على الْكَرَاهَةِ وَيُحْمَلُ
التَّعْيِينُ على النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ
بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَعِنْدَنَا يُكْرَهُ الصَّوْمُ في هذه الْأَيَّامِ وَالْمُسْتَحَبُّ هو
الْإِفْطَارُ
وَمِنْهَا إتْبَاعُ رَمَضَانَ بِسِتٍّ من شَوَّالٍ كَذَا قال أبو يُوسُفَ كَانُوا
يَكْرَهُونَ أَنْ يُتْبِعُوا رَمَضَانَ صَوْمًا خَوْفًا أَنْ يَلْحَقَ ذلك
بِالْفَرْضِيَّةِ
وَكَذَا رُوِيَ عن مَالِكٍ أَنَّهُ قال أَكْرَهُ أَنْ يُتْبَعَ رَمَضَانُ بِسِتٍّ
من شَوَّالٍ وما رأيت أَحَدًا من أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ يَصُومُهَا ولم
يَبْلُغْنَا عن أَحَدٍ من السَّلَفِ وأن أَهْلَ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ ذلك
وَيَخَافُونَ بِدْعَتَهُ وَأَنْ يُلْحِقَ أَهْلُ الْجَفَاءِ بِرَمَضَانَ ما ليس
منه والاتباع الْمَكْرُوهُ هو أَنْ يَصُومَ يوم الْفِطْرِ وَيَصُومَ بَعْدَهُ
خَمْسَةَ أَيَّامٍ فَأَمَّا إذَا أَفْطَرَ يوم الْعِيدِ ثُمَّ صَامَ بَعْدَهُ
سِتَّةَ أَيَّامٍ فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ بَلْ هو مُسْتَحَبٌّ وَسُنَّةٌ
وَمِنْهَا صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ أو بِنِيَّةٍ مُتَرَدِّدَةٍ
أَمَّا بِنِيَّةِ رَمَضَانَ فَلِقَوْلِ النبي لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الذي يُشَكُّ
فيه من رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا
وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه ( ( ( عنهم ) ) ) أَنَّهُمْ
كَانُوا يَنْهَوْنَ عن صَوْمِ الْيَوْمِ الذي يُشَكُّ فيه من رَمَضَانَ
وَلِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَزِيدَ في رَمَضَانَ
وقد رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَأَنْ أُفْطِرَ
يَوْمًا من رَمَضَانَ ثُمَّ أَقْضِيَهُ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ أَزِيدَ فيه ما ليس
منه
وَأَمَّا النِّيَّةُ الْمُتَرَدِّدَةُ بِأَنْ نَوَى أَنْ يَكُونَ صَوْمُهُ عن
رَمَضَانَ إنْ كان الْيَوْمُ من رَمَضَانَ وَإِنْ لم يَكُنْ تَطَوُّعًا فَلِأَنَّ
النِّيَّةَ الْمُتَرَدِّدَةَ لَا تَكُونُ نِيَّةً حَقِيقَةً لِأَنَّ النِّيَّةَ
تعين ( ( ( تعيين ) ) ) لِلْعَمَلِ وَالتَّرَدُّدُ يَمْنَعُ التَّعْيِينَ
وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ فَلَا يُكْرَهُ عِنْدَنَا
وَيُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال من صَامَ يوم الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى
أَبَا الْقَاسِمِ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا عن النبي أَنَّهُ قال لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الذي يُشَكُّ
فيه من رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا اسْتَثْنَى التَّطَوُّعَ وَالْمُسْتَثْنَى
يُخَالِفُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى منه وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ
منه صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ عن رَمَضَانَ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّ النبي نهى عن
صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ عن رَمَضَانَ وقال من صَامَ يوم الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى
أَبَا الْقَاسِمِ
أَيْ صَامَ عن رَمَضَانَ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَصُومَ فيه تَطَوُّعًا أو
يُفْطِرَ أو يَنْتَظِرَ قال بَعْضُهُمْ الْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ لِمَا رُوِيَ عن
عَائِشَةَ وَعَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا كَانَا يَصُومَانِ يوم الشَّكِّ
بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ وَيَقُولَانِ لَأَنْ نَصُومَ يَوْمًا من شَعْبَانَ أَحَبُّ
إلَيْنَا من أَنْ نُفْطِرَ يَوْمًا من رَمَضَانَ فَقَدْ صَامَا وَنَبَّهَا على
الْمَعْنَى وهو أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هذا الْيَوْمُ من رَمَضَانَ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ من شَعْبَانَ فَلَوْ صَامَ لَدَارَ الصَّوْمُ بين أَنْ
يَكُونَ من رَمَضَانَ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ من شَعْبَانَ وَلَوْ أَفْطَرَ لَدَارَ
الْفِطْرُ بين أَنْ يَكُونَ في رَمَضَانَ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ في شَعْبَانَ
فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ في الصَّوْمِ
وقال بَعْضُهُمْ الْإِفْطَارُ أَفْضَلُ وَبِهِ كان يفتى محمد بن سَلَمَةَ وكان
يَضَعُ كُوزًا له بين يَدَيْهِ يوم الشَّكِّ فإذا جَاءَهُ مستفتي ( ( ( مستفت ) )
) عن صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ أَفْتَاهُ بِالْإِفْطَارِ وَشَرِبَ من الْكُوزِ بين
يَدَيْ الْمُسْتَفْتِي وَإِنَّمَا كان يَفْعَلُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لو أَفْتَى
بِالصَّوْمِ لَاعْتَادَهُ الناس فَيَخَافُ أَنْ يُلْحَقَ بِالْفَرِيضَةِ
وقال بَعْضُهُمْ يُصَامُ سِرًّا وَلَا يُفْتَى بِهِ الْعَوَامُّ لِئَلَّا
يَظُنُّهُ الْجُهَّالُ زِيَادَةً على صَوْمِ رَمَضَانَ هَكَذَا روى عن أبي يُوسُفَ
أَنَّهُ استفتى عن صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ فَأَفْتَى بِالْفِطْرِ ثُمَّ قال
لِلْمُسْتَفْتِي تَعَالَ فلما دَنَا منه أخبره سِرًّا فقال إنِّي صَائِمٌ وقال
بَعْضُهُمْ يَنْتَظِرُ فَلَا يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ فَإِنْ تَبَيَّنَ
____________________
(2/78)
قبل
الزَّوَالِ أَنَّهُ من رَمَضَانَ عَزَمَ على الصَّوْمِ وَإِنْ لم يَتَبَيَّنْ
أَفْطَرَ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال أَصْبِحُوا يوم الشَّكِّ
مُفْطِرِينَ مُتَلَوِّمِينَ أَيْ غير آكِلِينَ وَلَا عَازِمِينَ على الصَّوْمِ
إلَّا إذَا كان صَائِمًا قبل ذلك فَوَصَلَ يوم الشَّكِّ بِهِ
وَمِنْهَا أَنْ يَسْتَقْبِلَ الشَّهْرَ بِيَوْمٍ أو يَوْمَيْنِ بِأَنْ تَعَمَّدَ
ذلك فَإِنْ وَافَقَ ذلك صَوْمًا كان يَصُومُهُ قبل ذلك فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا
رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَا تَتَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بِيَوْمٍ وَلَا
بِيَوْمَيْنِ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ ذلك صَوْمًا كان يَصُومُهُ أحدكم وَلِأَنَّ
اسْتِقْبَالَ الشَّهْرِ بِيَوْمٍ أو بِيَوْمَيْنِ يُوهِمُ الزِّيَادَةَ على
الشَّهْرِ وَلَا كَذَلِكَ إذَا وَافَقَ صَوْمًا كان يَصُومُهُ قبل ذلك لِأَنَّهُ
لم يَسْتَقْبِلْ الشَّهْرَ وَلَيْسَ فيه وَهْمُ الزِّيَادَةِ وقد رُوِيَ أَنْ
رَسُولَ اللَّهِ كان يَصِلُ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ
وَمِنْهَا صَوْمُ الْوِصَالِ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَا صَامَ من
صَامَ الدَّهْرَ
وَرُوِيَ أَنَّهُ نهى عن صَوْمِ الْوِصَالِ فَسَّرَ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْوِصَالَ بِصَوْمِ يَوْمَيْنِ لَا يُفْطِرُ بَيْنَهُمَا
لِأَنَّ الْفِطْرَ بَيْنَهُمَا يَحْصُلُ بِوُجُودِ زَمَانِ الْفِطْرِ وهو
اللَّيْلُ
قال النبي إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ من هَهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ من هَهُنَا
فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ أَكَلَ أو لم يَأْكُلْ
وَقِيلَ في تَفْسِيرِ الْوِصَالِ أَنْ يَصُومَ كُلَّ يَوْمٍ من السَّنَةِ دُونَ
لَيْلَتِهِ وَمَعْنَى الْكَرَاهَةِ فيه أَنَّ ذلك يُضْعِفُهُ عن أَدَاءِ
الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَيُقْعِدُهُ عن الْكَسْبِ الذي لَا بُدَّ منه
وَلِهَذَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَا نهى رسول اللَّهِ عن الْوِصَالِ وَقِيلَ له إنَّك
تُوَاصِلُ يا رَسُولَ اللَّهِ قال إنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ إنِّي أَبِيتُ عِنْدَ
رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي أَشَارَ إلَى الْمُخَصِّصِ وهو اخْتِصَاصُهُ
بِفَضْلِ قُوَّةِ النُّبُوَّةِ
وقال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ من صَامَ سَائِرَ الْأَيَّامِ وَأَفْطَرَ يوم الْفِطْرِ
وَالْأَضْحَى وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ نهى صَوْمِ الْوِصَالِ
وَرَدَّ عليه أبو يُوسُفَ فقال ليس هذا عِنْدِي كما قال وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هذا
قد صَامَ الدَّهْرَ كَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى أَنَّ النَّهْيَ عن صَوْمِ الدَّهْرِ
ليس لِمَكَانِ صَوْمِ هذه الْأَيَّامِ بَلْ لِمَا يُضْعِفُهُ عن الْفَرَائِضِ
وَالْوَاجِبَاتِ وَيُقْعِدُهُ عن الْكَسْبِ وَيُؤَدِّي إلَى التَّبَتُّلِ
الْمَنْهِيِّ عنه وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ فَفِي حَقِّ غَيْرِ الْحَاجِّ مُسْتَحَبٌّ
لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالنَّدْبِ إلَى صَوْمِهِ وَلِأَنَّ له
فَضِيلَةً على غَيْرِهِ من الْأَيَّامِ وَكَذَلِكَ في حَقِّ الْحَاجِّ إنْ كان لَا
يُضْعِفُهُ عن الْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ لِمَا فيه من الْجَمْعِ بين
الْقُرْبَتَيْنِ وَإِنْ كان يُضْعِفُهُ عن ذلك يُكْرَهُ لِأَنَّ فَضِيلَةَ صَوْمِ
هذا الْيَوْمِ مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا في غَيْرِ هذه السَّنَةِ
وَيُسْتَدْرَكُ عَادَةً فَأَمَّا فَضِيلَةُ الْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ فيه لَا
يُسْتَدْرَكُ في حَقِّ عَامَّةِ الناس عَادَةً إلَّا في الْعُمُرِ مَرَّةً
وَاحِدَةً فَكَانَ إحْرَازُهَا أَوْلَى
وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ صَوْمَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِانْفِرَادِهِ وَكَذَا صوم يَوْمُ
الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ وقال عَامَّتُهُمْ أنه مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّ هذه
الْأَيَّامَ من الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ فَكَانَ تَعْظِيمُهَا بِالصَّوْمِ
مُسْتَحَبًّا
وَيُكْرَهُ صَوْمُ يَوْمِ السَّبْتِ بِانْفِرَادِهِ لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ
بِالْيَهُودِ وَكَذَا صَوْمُ يَوْمِ النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ لِأَنَّهُ
تَشَبُّهٌ بِالْمَجُوسِ وَكَذَا صَوْمُ الصَّمْتِ وهو أَنْ يُمْسِكَ عن الطَّعَامِ
وَالْكَلَامِ جميعا لِأَنَّ النبي نهى عن ذلك وَلِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِالْمَجُوسِ
وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ صَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَحْدَهُ لِمَكَانِ التَّشَبُّهِ
بِالْيَهُودِ ولم يَكْرَهْهُ عَامَّتُهُمْ لِأَنَّهُ من الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ
فَيُسْتَحَبُّ اسْتِدْرَاكُ فَضِيلَتِهَا بِالصَّوْمِ
وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ وهو صَوْمُ
سَيِّدِنَا دَاوُد عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ
يَوْمًا وَلِأَنَّهُ أَشَقُّ على الْبَدَنِ إذْ الطَّبْعُ أَلُوفٌ وقال خَيْرُ
الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا أَيْ أَشَقُّهَا على الْبَدَنِ وَكَذَا صَوْمُ
الْأَيَّامِ الْبِيضِ لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ فيه منها ما رَوَيْنَا عن النبي
أَنَّهُ قال من صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ من كل شَهْرٍ الثَّالِثَ عَشَرَ
وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ فَكَأَنَّمَا صَامَ السَّنَةَ كُلَّهَا
وَأَمَّا صَوْمُ الدَّيْنِ فَالْأَيَّامُ كُلُّهَا مَحَلٌّ له وَيَجُوزُ في
جَمِيعِ الْأَيَّامِ إلَّا سِتَّةَ أَيَّامٍ يَوْمَيْ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى
وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَيَوْمَ الشَّكِّ أَمَّا ما سِوَى صَوْمِ يَوْمِ
الشَّكِّ فلورود ( ( ( فلورد ) ) ) النَّهْيِ عنه وَالنَّهْيُ وَإِنْ كان عن
غَيْرِهِ أو لِغَيْرِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ ذلك الْغَيْرَ يُوجَدُ بِوُجُودِ
الصَّوْمِ في هذه الْأَيَّامِ فَأَوْجَبَ ذلك نُقْصَانًا فيه وَالْوَاجِبُ في
ذِمَّتِهِ صَوْمٌ كَامِلٌ فَلَا يَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ
بُطْلَانُ أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ في صَوْمِ الْمُتْعَةِ أنه يَجُوزُ في هذه
الْأَيَّامِ لِأَنَّ النَّهْيَ عن الصَّوْمِ في هذه الْأَيَّامِ عَامٌّ
يَتَنَاوَلُ الصِّيَامَاتِ كُلَّهَا فَيُوجِبُ ذلك نُقْصَانًا فيه وَالْوَاجِبُ في
ذِمَّتِهِ كَامِلٌ فَلَا يَنُوبُ النَّاقِصُ عنه
وَأَمَّا يَوْمُ الشَّكِّ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ من رَمَضَانَ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ من شَعْبَانَ فَإِنْ كان من شَعْبَانَ يَكُونُ قَضَاءً
وَإِنْ كان من رَمَضَانَ لَا يَكُونُ قَضَاءً فَلَا يَكُونُ قَضَاءً مع الشَّكِّ
وَهَلْ يَصِحُّ النَّذْرُ بِصَوْمِ يَوْمَيْ
____________________
(2/79)
الْعِيدِ
وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَوَى مُحَمَّدٌ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَصِحُّ
نَذْرُهُ لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُفْطِرَ فيها وَيَصُومَ في أَيَّامٍ أُخَرَ
وَلَوْ صَامَ في هذه الْأَيَّامِ يَكُونُ مُسِيئًا لَكِنَّهُ يَخْرُجُ عنه
النَّذْرُ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ نَاقِصًا وَأَدَّاهُ نَاقِصًا
وَرَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ وَلَا
يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَهَكَذَا رَوَى ابن الْمُبَارَكِ عن أبي حَنِيفَةَ وهو قَوْلُ
زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ على جَوَازِ صَوْمِ هذه
الْأَيَّامِ وَعَدَمِ جَوَازِهِ وقد مَرَّتْ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَوْ شَرَعَ في صَوْمِ هذه الْأَيَّامِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ لَا يَلْزَمُهُ
الْقَضَاءُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن الشُّرُوعَ في التَّطَوُّعِ سَبَبُ الْوُجُوبِ كَالنَّذْرِ
فإذا وَجَبَ الْمُضِيُّ فيه وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ كما لو شَرَعَ في
التَّطَوُّعِ في سَائِرِ الْأَيَّامِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ
الشُّرُوعَ ليس سَبَبَ الْوُجُوبِ وَضْعًا وَإِنَّمَا الْوُجُوبُ يَثْبُتُ ضَرُورَةً
صِيَانَةً لِلْمُؤَدَّى عن الْبُطْلَانِ وَالْمُؤَدَّى هَهُنَا لَا يَجِبُ
صِيَانَتُهُ لِمَكَانِ النَّهْيِ فَلَا يَجِبُ الْمُضِيُّ فيه فَلَا يُضْمَنُ
بِالْإِفْسَادِ
وَلَوْ شَرَعَ في الصَّلَاةِ في أَوْقَاتٍ مَكْرُوهَةٍ فَأَفْسَدَهَا فَفِيهِ
رِوَايَتَانِ عن أبي حَنِيفَةَ في رِوَايَةٍ لَا قَضَاءَ عليه كما في الصَّوْمِ
وفي رِوَايَةٍ عليه الْقَضَاءُ بِخِلَافِ الصَّوْمِ وقد ذَكَرْنَا وُجُوهَ
الْفَرْقِ في كِتَابِ الصَّلَاةِ
أما صَوْمُ رَمَضَانَ فَوَقْتُهُ شَهْرُ رَمَضَانَ لَا يَجُوزُ في غَيْرُهُ
فَيَقَعُ الْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ وَقْتِ صَوْمِ
رَمَضَانَ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يُعْرَفُ بِهِ وَقْتُهُ
أَمَّا الْأُوَلُ فَوَقْتُ صَوْمِ رَمَضَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } أَيْ فَلْيَصُمْ في الشَّهْرِ
وَقَوْلِ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ أَيْ في شَهْرِكُمْ لِأَنَّ الشَّهْرَ لَا يُصَامُ
وَإِنَّمَا يُصَامُ فيه
وَأَمَّا الثَّانِي وهو بَيَانُ ما يُعْرَفُ بِهِ وَقْتُهُ فَإِنْ كانت السَّمَاءُ
مُصْحِيَةً يُعْرَفُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَإِنْ كانت مُتَغَيِّمَةً يُعْرَفُ
بِإِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِقَوْلِ النبي صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ
وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ
ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صُومُوا وَكَذَلِكَ إنْ غُمَّ على الناس هِلَالُ
شَوَّالٍ أَكْمَلُوا عِدَّةَ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِأَنَّ الْأَصْلَ
بَقَاءُ الشَّهْرِ وَكَمَالُهُ فَلَا يُتْرَكُ هذا الْأَصْلُ إلَّا بِيَقِينٍ على
الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ ما ثَبَتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِيَقِينٍ
مِثْلِهِ
فَإِنْ كانت السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَرَأَى الناس الْهِلَالَ صَامُوا وَإِنْ
شَهِدَ وَاحِدٌ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ما لم تَشْهَدْ
جَمَاعَةٌ يَقَعُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
ولم يُقَدِّرْ في ذلك تَقْدِيرًا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قَدَّرَ عَدَدَ الْجَمَاعَةِ بِعَدَدِ
الْقَسَامَةِ خَمْسِينَ رَجُلًا
وَعَنْ خَلَفِ بن أَيُّوبَ أَنَّهُ قال خَمْسُمِائَةٍ بِبَلْخٍ قَلِيلٌ
وقال بَعْضُهُمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ من كل مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ وَاحِدٌ أو
اثْنَانِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ
يُقْبَلُ فيه شَهَادَةُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ وهو أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
وقال في قَوْلٍ آخَرَ تُقْبَلُ فيه شَهَادَةُ اثْنَيْنِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هذا من بَابِ
الْإِخْبَارِ لَا من بَابِ الشَّهَادَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ
الْوَاحِدِ إذَا كان بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ وَلَوْ كان شَهَادَةً لَمَا قُبِلَ
لِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ في الشَّهَادَاتِ وإذا كان إخْبَارًا لَا شَهَادَةً
فَالْعَدَدُ ليس بِشَرْطٍ في الْإِخْبَارِ عن الدِّيَانَاتِ وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ
الْعَدَالَةُ فَقَطْ كما في رِوَايَةِ الأخبار عن طَهَارَةِ الْمَاءِ
وَنَجَاسَتِهِ وَنَحْوِ ذلك
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ إنَّمَا يُقْبَلُ
فِيمَا لَا يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ وَهَهُنَا الظَّاهِرُ يُكَذِّبُهُ لِأَنَّ
تَفَرُّدَهُ بِالرُّؤْيَةِ مع مُسَاوَاةِ جَمَاعَةٍ لَا يُحْصَوْنَ إيَّاهُ في
الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى الرُّؤْيَةِ وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ دَلِيلُ
كَذِبِهِ أو غَلَطِهِ في الرُّؤْيَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا كان بِالسَّمَاءِ
عِلَّةٌ لِأَنَّ ذلك يَمْنَعُ التَّسَاوِيَ في الرُّؤْيَةِ لِجَوَازِ أَنَّ
قِطْعَةً من الْغَيْمِ انْشَقَّتْ فَظَهْرَ الْهِلَالُ فَرَآهُ وَاحِدٌ ثُمَّ
اسْتَتَرَ بِالْغَيْمِ من سَاعَتِهِ قبل أَنْ يَرَاهُ غَيْرُهُ وَسَوَاءٌ كان هذا
الرَّجُلُ من الْمِصْرِ أو من خَارِجِ الْمِصْرِ وَشَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ
أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ
أَنَّهُ تُقْبَلُ
وَجْهُ رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ الْمَطَالِعَ تَخْتَلِفُ بِالْمِصْرِ
وَخَارِجَ الْمِصْرِ في الظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ لِصَفَاءِ الْهَوَاءِ خَارِجَ
الْمِصْرِ فتخلف ( ( ( فتختلف ) ) ) الرُّؤْيَةُ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَة أَنَّ الْمَطَالِعَ لَا تَخْتَلِفُ إلَّا عِنْدَ
الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ الْفَاحِشَةِ وَعَلَى هذا الرَّجُلِ الذي أَخْبَرَ أَنْ
يَصُومَ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ هذا الْيَوْمَ من رَمَضَانَ وَالْإِنْسَانُ
يُؤَاخَذُ بِمَا عِنْدَهُ فَإِنْ شَهِدَ فَرَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ ثُمَّ
أَفْطَرَ يَقْضِي لِأَنَّهُ أَفْسَدَ صَوْمَ رَمَضَانَ في زَعْمِهِ فَيُعَامَلُ
بِمَا عِنْدَهُ وَهَلْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ
قال أَصْحَابُنَا لَا تَلْزَمُهُ
وقال الشَّافِعِيُّ تَلْزَمُهُ إذَا أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ
وَإِنْ أَفْطَرَ قبل أَنْ يَرُدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ فَلَا رِوَايَةَ عن
أَصْحَابِنَا في وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ تَجِبُ وقال بَعْضُهُمْ لَا تَجِبُ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أنه أَفْطَرَ في يَوْمٍ عَلِمَ أَنَّهُ من رَمَضَانَ
لِوُجُودِ دَلِيلِ الْعِلْمِ في حَقِّهِ وهو الرُّؤْيَةُ وَعَدَمُ عِلْمِ غَيْرِهِ
لَا يَقْدَحُ في عِلْمِهِ
____________________
(2/80)
فَيُؤَاخَذُ
بِعِلْمِهِ فَيُوجِبُ عليه الْكَفَّارَةَ وَلِهَذَا أَوْجَبَ عليه الصَّوْمَ
وَلَنَا أَنَّهُ أَفْطَرَ في يَوْمٍ هو من شَعْبَانَ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ هو من
شَعْبَانَ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذلك لِأَنَّ كَوْنَهُ من
رَمَضَانَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالرُّؤْيَةِ إذَا كانت السَّمَاءُ مُصْحِيَةً ولم
تَثْبُتْ رُؤْيَتُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَفَرُّدَهُ بِالرُّؤْيَةِ مع
مُسَاوَاةِ عَامَّةِ الناس إيَّاهُ في التَّفَقُّدِ مع سَلَامَةِ الْآلَاتِ
دَلِيلُ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ وإذا لم تَثْبُتْ الرُّؤْيَةُ لم يَثْبُتْ كَوْنُ
الْيَوْمِ من رَمَضَانَ فَيَبْقَى من شَعْبَانَ وَالْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ
بِالْإِفْطَارِ في يَوْمٍ هو من شَعْبَانَ بِالْإِجْمَاعِ
وَأَمَّا وُجُوبُ الصَّوْمِ عليه فَمَمْنُوعٌ فإن الْمُحَقِّقِينَ من مَشَايِخِنَا
قالوا لَا رِوَايَةَ في وُجُوبِ الصَّوْمِ عليه وَإِنَّمَا الرِّوَايَةُ أَنَّهُ
يَصُومُ وهو مَحْمُولٌ على النَّدْبِ احْتِيَاطًا
وقال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أنه لَا يَصُومُ إلَّا مع الْإِمَامِ وَلَوْ صَامَ
هذا الرَّجُلُ وَأَكْمَلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ولم يُرَ هِلَالُ شَوَّالٍ فإنه لَا
يُفْطِرُ إلَّا مع الْإِمَامِ وَإِنْ زَادَ صَوْمُهُ على ثَلَاثِينَ لِأَنَّا
إنَّمَا أَمَرْنَاهُ بِالصَّوْمِ احْتِيَاطًا وَالِاحْتِيَاطُ هَهُنَا أَنْ لَا
يُفْطِرَ لِاحْتِمَالِ أَنَّ ما رَآهُ لم يَكُنْ هِلَالًا بَلْ كان خَيَالًا فَلَا
يُفْطِرُ مع الشَّكِّ وَلِأَنَّهُ لو أَفْطَرَ لَلَحِقَهُ التُّهْمَةُ
لِمُخَالِفَتِهِ الْجَمَاعَةَ فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ لَا يُفْطِرَ وَإِنْ كانت
السَّمَاءُ مُتَغَيِّمَةً تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا
سَوَاءٌ كان حُرًّا أو عَبْدًا رَجُلًا أو امْرَأَةً غير مَحْدُودٍ في قَذْفٍ أو
مَحْدُودًا تَائِبًا بَعْدَ أَنْ كان مُسْلِمًا عَاقِلًا بَالِغًا عَدْلًا
وقال الشَّافِعِيُّ في أَحَدِ قَوْلَيْهِ لَا تُقْبَلُ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ
عَدْلَيْنِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الشَّهَادَاتِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى رسول
اللَّهِ فقال أَبْصَرْتُ الْهِلَالَ فقال أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللَّهِ
قال نعم قال قُمْ يا بِلَالُ فَأَذِّنْ في الناس فَلْيَصُومُوا غَدًا فَقَدْ
قَبِلَ رسول اللَّهِ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ على هِلَالِ رَمَضَانَ وَلَنَا في رسول
اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وَلِأَنَّ هذا ليس بِشَهَادَةٍ بَلْ هو إخْبَارٌ
بِدَلِيلِ أَنَّ حُكْمَهُ يُلْزِمُ الشَّاهِدَ وهو الصَّوْمُ وَحُكْمُ
الشَّهَادَةِ لَا يُلْزِمُ الشَّاهِدَ وَالْإِنْسَانُ لَا يُتَّهَمُ في إيجَابِ
شَيْءٍ على نَفْسِهِ فَدَلَّ أَنَّهُ ليس بِشَهَادَةٍ بَلْ هو إخْبَارٌ
وَالْعَدَدُ ليس بِشَرْطٍ في الْإِخْبَارِ إلَّا أَنَّهُ إخْبَارٌ في بَابِ
الدِّينِ فَيُشْتَرَطُ فيه الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَدَالَةُ
كما في رِوَايَةِ الأخبار
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ في مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ
عَدْلًا كان أو غير عَدْلٍ وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إلَّا أَنَّهُ
يُرِيدُ بِهِ الْعَدَالَةَ الْحَقِيقِيَّةَ فَيَسْتَقِيمُ لِأَنَّ الأخبار لَا
تُشْتَرَطُ فيه الْعَدَالَةُ الْحَقِيقِيَّةُ بَلْ يكتفي فيه بِالْعَدَالَةِ
الظَّاهِرَةِ وَالْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ من أَهْلِ الأخبار أَلَا تَرَى أَنَّهُ
صَحَّتْ رِوَايَتُهُمَا وَكَذَا الْمَحْدُودُ في الْقَذْفِ فإن أَصْحَابَ رسول
اللَّهِ قَبِلُوا أخبار أبي بَكْرَةَ وكان مَحْدُودًا في قَذْفٍ
وَرَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ شَهَادَتَهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ
لَا تُقْبَلُ وَالصَّحِيحُ أنها تُقْبَلُ وهو رِوَايَةُ الْحَسَنِ عن أبي
حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هذا خَبَرٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ وَخَبَرُهُ
مَقْبُولٌ
وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَدْلٍ على شَهَادَةِ وَاحِدٍ عَدْلٍ في هِلَالِ
رَمَضَانَ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ في سَائِرِ الْأَحْكَامِ أنها
لَا تُقْبَلُ ما لم يَشْهَدْ على شَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ رَجُلَانِ أو رَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هذا من بَابِ الأخبار لَا من بَابِ
الشَّهَادَةِ وَيَجُوزُ إخْبَارُ رَجُلٍ عَدْلٍ عن رَجُلٍ عَدْلٍ كما في رِوَايَةِ
الْأَخْبَارِ
وَلَوْ رَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ لِتُهْمَةِ الْفِسْقِ فإنه يَصُومُ
ذلك الْيَوْمَ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ ذلك الْيَوْمَ من رَمَضَانَ فَيُؤَاخَذُ
بِمَا عِنْدَهُ وَلَوْ أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ هل تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فَهُوَ
على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا
وَأَمَّا هِلَالُ شَوَّالٍ فَإِنْ كانت السَّمَاءُ مُصْحِيَةً فَلَا يُقْبَلُ فيه
إلَّا شَهَادَةُ جَمَاعَةٍ يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي بِخَبَرِهِمْ كما في
هِلَالِ رَمَضَانَ
كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في نَوَادِرِ الصَّوْمِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْبَلُ فيه شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أو
رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ سَوَاءٌ كان بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ أو لم يَكُنْ كما رُوِيَ
عن أبي حَنِيفَةَ في هِلَالِ رَمَضَانَ أَنَّهُ تُقْبَلُ فيه شَهَادَةُ الْوَاحِدِ
الْعَدْلِ سَوَاءٌ كان في السَّمَاءِ عِلَّةٌ أو لم يَكُنْ وَإِنْ كان
بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ فَلَا تُقْبَلُ فيه إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أو رَجُلٍ
وَامْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَيْنِ حُرَّيْنِ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ غَيْرِ
مَحْدُودَيْنِ في قَذْفٍ كما في الشَّهَادَةِ في الْحُقُوقِ وَالْأَمْوَالِ لِمَا
رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا أن رَسُولَ اللَّهِ
أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ على رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ وكان لَا
يُجِيزُ الْإِفْطَارَ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَلِأَنَّ هذا من بَابِ
الشَّهَادَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ شَيْءٌ بِهَذِهِ
الشَّهَادَةِ بَلْ له فيه ( ( ( فيها ) ) ) نَفْعٌ وهو إسْقَاطُ الصَّوْمِ عن
نَفْسِهِ فَكَانَ مُتَّهَمًا فَيُشْتَرَطُ فيه الْعَدَدُ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ
بِخِلَافِ هِلَالِ رَمَضَانَ فإن هُنَاكَ لَا تُهْمَةَ إذْ الْإِنْسَانُ لَا
يُتَّهَمُ في الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ بِالْتِزَامِ الصَّوْمِ فَإِنْ غُمَّ على
الناس هِلَالُ شَوَّالٍ فَإِنْ صَامُوا رَمَضَانَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ
أَفْطَرُوا
____________________
(2/81)
بِتَمَامِ
الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا في الْفِطْرِ
يُقْبَلُ
وَإِنْ صَامُوا بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ فَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ
أَنَّهُمْ لَا يُفْطِرُونَ على شَهَادَتِهِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ عِنْدَ
كَمَالِ الْعَدَدِ وَإِنْ وَجَبَ عليهم الصَّوْمُ بِشَهَادَتِهِ فَثَبَتَتْ
الرَّمَضَانِيَّةُ بِشَهَادَتِهِ في حَقِّ الصَّوْمِ لَا في حَقِّ الْفِطْرِ
لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ له في الشَّرْعِ على الْفِطْرِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو شَهِدَ وَحْدَهُ مَقْصُودًا لَا تُقْبَلُ بِخِلَافِ ما
إذَا صَامُوا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ لِأَنَّ لَهُمَا شَهَادَةً على الصَّوْمِ
وَالْفِطْرِ جميعا أَلَا تَرَى لو شَهِدَا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ عليهم بِشَهَادَتِهِ من طَرِيقِ
الِاحْتِيَاطِ وَالِاحْتِيَاطُ هَهُنَا في أَنْ لَا يُفْطِرُوا بِخِلَافِ ما إذَا
صَامُوا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ هُنَاكَ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ
مُطْلَقٍ فَيَظْهَرُ في الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ جميعا
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ يُفْطِرُونَ عِنْدَ تَمَامِ
الْعَدَدِ فَأَوْرَدَ ابن سِمَاعَةَ على مُحَمَّدٍ إشْكَالًا فقال إذَا قَبِلْتَ
شَهَادَةَ الْوَاحِدِ في الصَّوْمِ تُفْطِرُ على شَهَادَتِهِ
وَمَتَى أَفْطَرْتَ عِنْدَ كَمَالِ الْعَدَدِ على شَهَادَتِهِ فَقَدْ أَفْطَرْتَ
بِقَوْلِ الْوَاحِدِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ أَنَّ هذا الْيَوْمَ من
رَمَضَانَ فَأَجَابَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فقال لَا أَتَّهِمُ الْمُسْلِمَ
أَنْ يَتَعَجَّلَ يَوْمًا مَكَانَ يَوْمٍ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ
إنْ كان صَادِقًا في شَهَادَتِهِ فَالصَّوْمُ وَقَعَ في أَوَّلِ الشَّهْرِ
فَيُخْتَمُ بِكَمَالِ الْعَدَدِ
وَقِيلَ فيه بِجَوَابٍ آخَرَ وهو أَنَّ جِوَازَ الْفِطْرِ عِنْدَ كَمَالِ الْعَدَدِ
لم يَثْبُتْ بِشَهَادَتِهِ مَقْصُودًا بَلْ بِمُقْتَضَى الشَّهَادَةِ وقد يَثْبُتُ
بِمُقْتَضَى الشَّيْءِ ما لَا يَثْبُتُ بِهِ مَقْصُودًا كَالْمِيرَاثِ بِحُكْمِ
النَّسَبِ الثَّابِتِ أَنَّهُ يَظْهَرُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ بِالْوِلَادَةِ
وَإِنْ كان لَا يَظْهَرُ بِشَهَادَتِهَا مَقْصُودًا
وَالِاسْتِشْهَادُ على مَذْهَبِهِمَا لَا على مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ
شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ بِالْوِلَادَةِ لَا تُقْبَلُ في حَقِّ الْمِيرَاثِ
عِنْدَهُ
وَأَمَّا هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ فَإِنْ كانت السَّمَاءُ مُصْحِيَةً فَلَا
يُقْبَلُ فيه إلَّا ما يُقْبَلُ في هِلَالِ رَمَضَانَ وَهِلَالُ شَوَّالٍ وهو ما
ذَكَرْنَا وَإِنْ كان بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ فَقَدْ قال أَصْحَابُنَا إنَّهُ
يُقْبَلُ فيه شَهَادَةُ الْوَاحِدِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فيه إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أو
رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ كما في هِلَالِ شَوَّالٍ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ
الشَّهَادَةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وهو وُجُوبُ الْأُضْحِيَّةِ على الناس فَيُشْتَرَطُ
فيه الْعَدَدُ وَالصَّحِيحُ هو الْأَوَّلُ لِأَنَّ هذا ليس من بَابِ الشَّهَادَةِ بَلْ
من بَابِ الْإِخْبَارِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ تَجِبُ على الشَّاهِدِ
ثُمَّ تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ فَكَانَ من بَابِ الْخَبَرِ وَلَا يُشْتَرَطُ فيه
الْعَدَدُ
وَلَوْ رَأَوْا يوم الشَّكِّ الْهِلَالَ بَعْدَ الزَّوَالِ أو قَبْلَهُ فَهُوَ
لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا يَكُونُ
ذلك الْيَوْمُ من رَمَضَانَ
وقال أبو يُوسُفَ إنْ كان بَعْدَ الزَّوَالِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كان قبل الزَّوَالِ
فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَيَكُونُ ذلك الْيَوْمُ من رَمَضَانَ وَالْمَسْأَلَةُ
مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ
وَرُوِيَ عن عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ مِثْلُ قَوْلِهِمَا
وَرُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه رِوَايَةٌ أُخْرَى مِثْلُ قَوْلِهِ وهو قَوْلُ
عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنهما وَعَلَى هذا الْخِلَافِ هِلَالُ شَوَّالٍ
إذَا رَأَوْهُ يوم الشَّكِّ وهو يَوْمُ الثَّلَاثِينَ من رَمَضَانَ قبل الزَّوَالِ
أو بَعْدَهُ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ عِنْدَهُمَا وَيَكُونُ
الْيَوْمُ من رَمَضَانَ وَعِنْدَهُ إنْ رأوا ( ( ( رأوه ) ) ) قبل الزَّوَالِ
يَكُونُ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَيَكُونُ الْيَوْمُ يوم الْفِطْرِ وَالْأَصْلُ
عِنْدَهُمَا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ في رُؤْيَةِ الْهِلَالِ قبل الزَّوَالِ وَلَا
بَعْدَهُ وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ لِرُؤْيَتِهِ قبل غُرُوبِ الشَّمْسِ وَعِنْدَهُ
يُعْتَبَرُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أن الْهِلَالَ لَا يُرَى قبل الزَّوَالِ عَادَةً إلَّا
أَنْ يَكُونَ لِلَيْلَتَيْنِ وَهَذَا يُوجِبُ كَوْنَ الْيَوْمِ من رَمَضَانَ في
هِلَالِ رَمَضَانَ وَكَوْنَهُ يوم الْفِطْرِ في هِلَالِ شَوَّالٍ
وَلَهُمَا قَوْلُ النبي صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ أَمَرَ
بِالصَّوْمِ وَالْفِطْرِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ وَفِيمَا قَالَهُ أبو يُوسُفَ
يَتَقَدَّمُ وُجُوبُ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ على الرُّؤْيَةِ وَهَذَا خِلَافُ
النَّصِّ
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ مِصْرٍ لم يَرَوْا الْهِلَالَ فَأَكْمَلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ
يَوْمًا ثُمَّ صَامُوا وَفِيهِمْ رَجُلٌ صَامَ يوم الشَّكِّ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ
ثُمَّ رَأَوْا هِلَالَ شَوَّالٍ عَشِيَّةَ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ من رَمَضَانَ
فَصَامَ أَهْلُ الْمِصْرِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَصَامَ ذلك الرَّجُلُ
ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَأَهْلُ الْمِصْرِ قد أَصَابُوا وَأَحْسَنُوا وَأَسَاءَ ذلك
الرَّجُلُ وَأَخْطَأَ لِأَنَّهُ خَالَفَ السُّنَّةَ إذْ السُّنَّةُ أَنْ يُصَامَ
رَمَضَانُ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ إذَا كانت السَّمَاءُ مُصْحِيَةً أو بَعْدَ
شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا كما نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ وقد عَمِلَ أَهْلُ
الْمِصْرِ بِذَلِكَ وَخَالَفَ الرَّجُلُ فَقَدْ أَصَابَ أَهْلُ الْمِصْرِ
وَأَخْطَأَ الرَّجُلُ وَلَا قَضَاءَ على أَهْلِ الْمِصْرِ لِأَنَّ الشَّهْرَ قد
يَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وقد يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِقَوْلِ
النبي الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ إلَى جَمِيعِ أَصَابِعِ يَدَيْهِ
ثُمَّ قال الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا ثَلَاثًا وَحَبَسَ إبْهَامَهُ في
الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الشَّهْرَ قد يَكُونُ ثَلَاثِينَ وقد
يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ
وقد رُوِيَ عن أَنَسٍ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه أَنَّهُ قال صُمْنَا على عَهْدِ
رسول اللَّهِ
____________________
(2/82)
تِسْعَةً
وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَكْثَرَ مِمَّا صُمْنَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَوْ صَامَ
أَهْلُ بَلَدٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَصَامَ أَهْلُ بَلَدٍ آخَرَ تِسْعَةً
وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَإِنْ كان صَوْمُ أَهْلِ ذلك الْبَلَدِ بِرُؤْيَةِ
الْهِلَالِ وَثَبَتَ ذلك عِنْدَ قَاضِيهمْ أو عَدُّوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ
يَوْمًا ثُمَّ صَامُوا رَمَضَانَ فَعَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ الْآخَرِ قَضَاءُ
يَوْمٍ لِأَنَّهُمْ أَفْطَرُوا يَوْمًا من رَمَضَانَ لِثُبُوتِ الرَّمَضَانِيَّةِ
بِرُؤْيَةِ أَهْلِ ذلك الْبَلَدِ وَعَدَمُ رُؤْيَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ لَا يَقْدَحُ
في رُؤْيَةِ أُولَئِكَ إذْ الْعَدَمُ لَا يُعَارِضُ الْوُجُودَ وَإِنْ كان صَوْمُ
أَهْلِ ذلك الْبَلَدِ بِغَيْرِ رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ أو لم تَثْبُتْ
الرُّؤْيَةُ عِنْدَ قَاضِيهمْ وَلَا عَدُّوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَقَدْ
أساؤا ( ( ( أساءوا ) ) ) حَيْثُ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَيْسَ
على أَهْلِ الْبَلَدِ الْآخَرِ قَضَاؤُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّهْرَ قد
يَكُونُ ثَلَاثِينَ وقد يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ
هذا إذَا كانت الْمَسَافَةُ بين الْبَلَدَيْنِ قَرِيبَةً لَا تَخْتَلِفُ فيها
الْمَطَالِعُ فَأَمَّا إذَا كانت بَعِيدَةً فَلَا يَلْزَمُ أَحَدَ الْبَلَدَيْنِ
حُكْمُ الْآخَرِ لِأَنَّ مَطَالِعَ الْبِلَادِ عِنْدَ الْمَسَافَةِ الْفَاحِشَةِ
تَخْتَلِفُ فَيُعْتَبَرُ في أَهْلِ كل بَلَدٍ مَطَالِعُ بَلَدِهِمْ دُونَ
الْبَلَدِ الْآخَرِ
وحكى عن أبي عبد اللَّهِ بن أبي مُوسَى الضَّرِيرِ أَنَّهُ اُسْتُفْتِيَ في أَهْلِ
اسكندرية أَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ بها وَمَنْ على مَنَارَتِهَا ترى ( ( ( يرى ) )
) الشَّمْسَ بَعْدَ ذلك بِزَمَانٍ كَثِيرٍ فقال يَحِلُّ لِأَهْلِ الْبَلَدِ
الْفِطْرُ وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ على رَأْسِ الْمَنَارَةِ إذَا كان يَرَى غُرُوبَ
الشَّمْسِ لِأَنَّ مَغْرِبَ الشَّمْسِ يَخْتَلِفُ كما يَخْتَلِفُ مَطْلَعُهَا
فَيُعْتَبَرُ في أَهْلِ كل مَوْضِعٍ مَغْرِبُهُ
وَلَوْ صَامَ أَهْلُ مِصْرٍ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَأَفْطَرُوا لِلرُّؤْيَةِ
وَفِيهِمْ مَرِيضٌ لم يَصُمْ فَإِنْ عَلِمَ ما صَامَ أَهْلُ مِصْرِهِ فَعَلَيْهِ
قَضَاءُ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِأَنَّ الْقَضَاءَ على قَدْرِ الْفَائِتِ
وَالْفَائِتُ هذا الْقَدْرُ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ هذا الْقَدْرِ وَإِنْ لم يَعْلَمْ
هذا الرَّجُلُ ما صَنَعَ أَهْلُ مِصْرِهِ صَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِأَنَّ
الْأَصْلَ في الشَّهْرِ ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَالنُّقْصَانُ عَارِضٌ فإذا لم يَعْلَمْ
عَمِلَ بِالْأَصْلِ وَقَالُوا فِيمَنْ أَفْطَرَ شَهْرًا لِعُذْرٍ ثَلَاثِينَ
يَوْمًا ثُمَّ قَضَى شَهْرًا بِالْهِلَالِ فَكَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا
أن عليه قَضَاءَ يَوْمٍ آخَرَ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عَدَدُ الْأَيَّامِ التي
أَفْطَرَ فيها دُونَ الْهِلَالِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ على قَدْرِ الْفَائِتِ
وَالْفَائِتُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا فَيَقْضِي يَوْمًا آخَرَ تَكْمِلَةَ لثلاثين ( (
( الثلاثين ) ) )
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الصَّائِمِ فَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فإنه شَرْطُ
جَوَازِ الْأَدَاءِ بِلَا خِلَافٍ وفي كَوْنِهِ شَرْطَ الْوُجُوبِ خِلَافٌ
سَنَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ
وَمِنْهَا الطَّهَارَةُ عن الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَإِنَّهَا شَرْطُ صِحَّةِ
الْأَدَاءِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وفي كَوْنِهَا شَرْطَ
الْوُجُوبِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ من
شَرَائِطِ صِحَّةِ الْأَدَاءِ فَيَصِحُّ أَدَاءُ الصَّوْمِ من الصَّبِيِّ
الْعَاقِلِ وَيُثَابُ عليه لَكِنَّهُ من شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لِمَا نَذْكُرُهُ
وَكَذَا الْعَقْلُ وَالْإِفَاقَةُ لَيْسَا من شَرَائِطِ صِحَّةِ الْأَدَاءِ حتى لو
نَوَى الصَّوْمَ من اللَّيْلِ ثُمَّ جُنَّ في النَّهَارِ أو أُغْمِيَ عليه يَصِحُّ
صَوْمُهُ في ذلك الْيَوْمِ وَلَا يَصِحُّ صَوْمُهُ في الْيَوْمِ الثَّانِي لَا
لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ بَلْ لِعَدَمِ النِّيَّةِ لِأَنَّ النِّيَّةَ من
الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عليه لَا تُتَصَوَّرُ وفي كَوْنِهِمَا من شَرَائِطِ
الْوُجُوبِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ وَمِنْهَا النِّيَّةُ وَالْكَلَامُ
في هذا الشَّرْطِ يَقَعُ في ثَلَاثِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في بَيَانِ أَصْلِهِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ
وَالثَّالِثُ في بَيَانِ وَقْتِهِ
أَمَّا الْأُوَلُ فَأَصْلُ النِّيَّةِ شَرْطُ جَوَازِ الصِّيَامَاتِ كُلِّهَا في
قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ صَوْمُ رَمَضَانَ في حَقِّ الْمُقِيمِ جَائِزٌ بِدُونِ النِّيَّةِ
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ
} أَمَرَ بِصَوْمِ الشَّهْرِ مُطْلَقًا عن شَرْطِ النِّيَّةِ وَالصَّوْمُ هو
الْإِمْسَاكُ وقد أتى بِهِ فَيَخْرُجُ عن الْعُهْدَةِ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ
إنَّمَا تُشْتَرَطُ لِلتَّعْيِينِ وَالْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ عِنْدَ
الْمُزَاحَمَةِ وَلَا مُزَاحَمَةَ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا صَوْمًا
وَاحِدًا في حَقِّ الْمُقِيمِ وهو صَوْمُ رَمَضَانَ فَلَا حَاجَةَ إلَى
التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ
وَلَنَا قَوْلُ النبي لَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ له
وَقَوْلُهُ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امرىء ما نَوَى وَلِأَنَّ صَوْمَ
رَمَضَانَ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَةُ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَأْتِيهِ الْعَبْدُ
بِاخْتِيَارِهِ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ وَالِاخْتِيَارُ
وَالْإِخْلَاصُ لَا يَتَحَقَّقَانِ بِدُونِ النِّيَّةِ وَأَمَّا الْآيَةُ
فَمُطْلَقُ اسْمِ الصَّوْمِ يَنْصَرِفُ إلَى الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ
وَالْإِمْسَاكُ لَا يَصِيرُ صوما شَرْعًا بِدُونِ النِّيَّةِ لِمَا بَيَّنَّا
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لِلتَّعْيِينِ وَزَمَانُ رَمَضَانَ
مُتَعَيِّنٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ فَلَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ فَنَقُولُ لَا
حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ لتعين ( ( ( لتعيين ) ) ) الْوَصْفِ لَكِنْ تَقَعُ
الْحَاجَةُ إلَى النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ الْأَصْلِ بَيَانُهُ أَنَّ أَصْلَ
الْإِمْسَاكِ مُتَرَدِّدٌ بين أَنْ يَكُونَ عَادَةً أو حَمِيَّةً وَبَيْنَ أَنْ
يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ كل فَاعِلٍ
لِنَفْسِهِ ما لم يَجْعَلْهُ لِغَيْرِهِ فَلَا بُدَّ من النِّيَّةِ لِيَصِيرَ
لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ إذَا صَارَ أَصْلُ الْإِمْسَاكِ لِلَّهِ تَعَالَى في هذا
الْوَقْتِ بِأَصْلِ النِّيَّةِ وَالْوَقْتُ مُتَعَيَّنٌ لِفَرْضِهِ يَقَعُ عن
الْفَرْضِ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى تَعْيِينِ الْوَصْفِ
وَأَمَّا الثَّانِي في كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ فَإِنْ كان الصَّوْمُ عَيْنًا وهو
صَوْمُ
____________________
(2/83)
رَمَضَانَ
وَصَوْمُ النَّفْلِ خَارِجَ رَمَضَانَ وَالْمَنْذُورُ بِهِ في وَقْتٍ بِعَيْنِهِ
يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ صَوْمُ النَّفْلِ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ فَأَمَّا
الصَّوْمُ الْوَاجِبُ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن هذا صَوْمٌ مَفْرُوضٌ فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ
الْفَرْضِ كَصَوْمِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ
وَهَذَا لِأَنَّ الْفَرْضِيَّةَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ على أَصْلِ الصَّوْمِ
يَتَعَلَّقُ بها زِيَادَةُ الثَّوَابِ فَلَا بُدَّ من زِيَادَةِ النِّيَّةِ وَهِيَ
نِيَّةُ الْفَرْضِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }
وَهَذَا قد شَهِدَ الشَّهْرَ وَصَامَهُ فَيَخْرُجُ عن الْعُهْدَةِ وَلِأَنَّ
النِّيَّةَ لو شُرِطَتْ إنَّمَا تُشْتَرَطُ إمَّا لِيَصِيرَ الْإِمْسَاكُ لِلَّهِ
تَعَالَى وَإِمَّا لِلتَّمْيِيزِ بين نَوْعٍ وَنَوْعٍ وَلَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ
لِأَنَّ مُطْلَقَ النِّيَّةِ كان لِصَيْرُورَةِ الْإِمْسَاكِ لِلَّهِ تَعَالَى
لِأَنَّهُ يَكْفِي لِقَطْعِ التَّرَدُّدِ وَلِقَوْلِ النبي وَلِكُلِّ امرىء ما
نَوَى وقد نَوَى أَنْ يَكُونَ إمْسَاكُهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَوْ لم يَقَعْ
لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ له ما نَوَى وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ
وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي لِأَنَّ مَشْرُوعَ الْوَقْتِ وَاحِدٌ لَا يَتَنَوَّعُ
فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّمْيِيزِ بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ بِخِلَافِ صَوْمِ
الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ لِأَنَّ مَشْرُوعَ الْوَقْتِ وهو خَارِجُ
رَمَضَانَ مُتَنَوِّعٌ فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ
فَهُوَ الْفَرْقُ
وَقَوْلُهُ هذا صَوْمٌ مَفْرُوضٌ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لِمَ تَتَأَدَّى نِيَّةُ
الْفَرْضِ بِدُونِ نِيَّةِ الْفَرْضِ
وَقَوْلُهُ الْفَرْضِيَّةُ صِفَةٌ لِلصَّوْمِ زَائِدَةٌ عليه فَتَفْتَقِرُ إلَى
نِيَّةٍ زَائِدَةٍ مَمْنُوعٌ أنها صِفَةٌ زَائِدَةٌ على الصَّوْمِ لِأَنَّ
الصَّوْمَ صِفَةٌ وَالصِّفَةُ لَا تَحْتَمِلُ صِفَةً زَائِدَةً عليها قَائِمَةً
بها بَلْ هو وَصْفٌ إضَافِيٌّ فَيُسَمَّى الصَّوْمُ مَفْرُوضًا وَفَرِيضَةً
لِدُخُولِهِ تَحْتَ فَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِفَرْضِيَّةٍ قَامَتْ بِهِ وإذا
لم يَكُنْ صِفَةً قَائِمَةً بِالصَّوْمِ لَا يُشْتَرَطُ له نِيَّةُ الْفَرْضِ
وَزِيَادَةُ الثَّوَابِ لِفَضِيلَةِ الْوَقْتِ لَا لِزِيَادَةِ صِفَةِ الْعَمَلِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ صَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أو صَامَ الْمَنْذُورَ بِعَيْنِهِ
بِنِيَّةِ النَّفْلِ يَقَعُ صَوْمُهُ عن رَمَضَانَ وَعَنْ الْمَنْذُورِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَقَعُ وَكَذَا لو صَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ
آخَرَ من الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ يَقَعُ عن رَمَضَانَ عِنْدَنَا
وَعِنْدَهُ لَا يَقَعُ هو يقول لَمَّا نَوَى النَّفَلَ فَقَدْ أَعْرَضَ عن
الْفَرْضِ وَالْمُعْرِضُ عن فِعْلٍ لَا يَكُونُ آتِيًا بِهِ وَنَحْنُ نَقُولُ
إنَّهُ نَوَى الْأَصْلَ وَالْوَصْفَ وَالْوَقْتُ قَابِلٌ لِلْأَصْلِ غَيْرُ
قَابِلٍ لِلْوَصْفِ فَبَطَلَتْ نِيَّةُ الْوَصْفِ وَبَقِيَتْ نِيَّةُ الْأَصْلِ
وأنها كَافِيَةٌ لِصَيْرُورَةِ الْإِمْسَاكِ لِلَّهِ تَعَالَى على ما بَيَّنَّا في
الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى
وَلَوْ نَوَى في النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ وَاجِبًا آخَرَ يَقَعُ عَمَّا نَوَى
بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ
وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الْوَقْتَيْنِ وَإِنْ تَعَيَّنَ
لِصَوْمِهِ إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا وهو شَهْرُ رَمَضَانَ مُعَيَّنٌ بِتَعْيِينِ
من له الْوِلَايَةُ على الْإِطْلَاقِ وهو اللَّهُ تَعَالَى فَثَبَتَ التَّعْيِينُ
على الْإِطْلَاقِ فَيَظْهَرُ في حَقِّ فَسْخِ سَائِرِ الصِّيَامَاتِ وَالْآخَرُ
تَعَيَّنَ بِتَعْيِينِ من له وِلَايَةٌ قَاصِرَةٌ وهو الْعَبْدُ فَيَظْهَرُ
تَعْيِينُهُ فِيمَا عَيَّنَهُ له وهو صَوْمُ التَّطَوُّعِ دُونَ الْوَاجِبَاتِ
التي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى في هذه الْأَوْقَاتِ فَبَقِيَتْ الْأَوْقَاتُ
مَحَلًّا لها فإذا نَوَاهَا صَحَّ
هذا الذي ذَكَرْنَا في حَقِّ الْمُقِيمِ فَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَإِنْ صَامَ
رَمَضَانَ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ فَكَذَلِكَ يَقَعُ صَوْمُهُ عن رَمَضَانَ بِلَا
خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وَإِنْ صَامَ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ يَقَعْ عَمَّا
نَوَى في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَقَعُ عن رَمَضَانَ
وَإِنْ صَامَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ فَعِنْدَهُمَا يَقَعُ عن رَمَضَانَ
وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ فيه رِوَايَتَانِ رَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ
أَنَّهُ يَقَعُ عن التَّطَوُّعِ وَرَوَى الْحَسَنُ عنه إنه يَقَعُ عن رَمَضَانَ
قال الْقُدُورِيُّ الرِّوَايَةُ الْأُولَى هِيَ الْأَصَحُّ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ على الْمُسَافِرِ وهو الْعَزِيمَةُ
وَالْإِفْطَارُ له رُخْصَةٌ فإذا اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ وَتَرَكَ الرُّخْصَةَ
صَارَ هو وَالْمُقِيمُ سَوَاءٌ فَيَقَعُ صَوْمُهُ عن رَمَضَانَ كَالْمُقِيمِ وَلِأَبِي
حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّوْمَ وَإِنْ وَجَبَ عليه لَكِنْ رُخِّصَ له في الْإِفْطَارِ
نَظَرًا له فَلَأَنْ يُرَخَّصَ له إسْقَاطُ ما في ذِمَّتِهِ وَالنَّظَرُ له فيه
أَكْثَرُ أَوْلَى
وَأَمَّا إذَا نَوَى التَّطَوُّعَ فَوَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ
أَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ على الْمُسَافِرِ في رَمَضَانَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ
يُبَاحُ له الْفِطْرُ فَأَشْبَهَ خَارِجَ رَمَضَانَ وَلَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ
خَارِجَ رَمَضَانَ يَقَعُ عن التَّطَوُّعِ كُلِّهِ كَذَا في رَمَضَانَ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عنه أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى
تَعْيِينِ نِيَّةِ الْمُتَطَوِّعِ بَلْ نِيَّةُ الصَّوْمِ فيه كَافِيَةٌ فَتَلْغُو
نِيَّةَ التَّعْيِينِ وَيَبْقَى أَصْلُ النِّيَّةِ فَيَصِيرُ صَائِمًا في
رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ فَيَقَعُ عن رَمَضَانَ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أن الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ على الْمُسَافِرِ في رَمَضَانَ
فَمَمْنُوعٌ بَلْ هو وَاجِبٌ إلَّا أَنَّهُ يُتَرَخَّصُ فيه فإذا لم يُتَرَخَّصْ
ولم يَنْوِ وَاجِبًا آخَرَ بَقِيَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَاجِبًا عليه فَيَقَعُ
صَوْمُهُ عنه وَأَمَّا الْمَرِيضُ الذي رُخِّصَ له في الْإِفْطَارِ فَإِنْ صَامَ
بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ يَقَعُ صَوْمُهُ عن رَمَضَانَ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ صَامَ
بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ فَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قالوا إنَّهُ يَقَعُ صَوْمُهُ عن
رَمَضَانَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَدَرَ على الصَّوْمِ صَارَ كَالصَّحِيحِ
____________________
(2/84)
وَالْكَرْخِيُّ
سَوَّى بين الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَرَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ
أَنَّهُ يَقَعُ عن التَّطَوُّعِ
وَيُشْتَرَطُ لِكُلِّ يَوْمٍ من رَمَضَانَ نِيَّةٌ على حِدَةٍ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ يَجُوزُ صَوْمُ جميع الشَّهْرِ بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْوَاجِبَ صَوْمُ الشَّهْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ
شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وَالشَّهْرُ اسْمٌ لِزَمَانٍ وَاحِدٍ
فَكَانَ الصَّوْمُ من أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ عِبَادَةً وَاحِدَةً كَالصَّلَاةِ
وَالْحَجِّ فَيَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ
وَلَنَا أَنَّ صَوْمَ كل يَوْمٍ عِبَادَةٌ على حِدَةٍ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ
بِالْيَوْمِ الْآخَرِ بِدَلِيلِ أَنَّ ما يُفْسِدُ أَحَدَهُمَا لَا يُفْسِدُ
الْآخَرَ فَيُشْتَرَطُ لِكُلِّ يَوْمٍ منه نِيَّةٌ على حِدَةٍ
وَقَوْلُهُ الشَّهْرُ اسْمٌ لِزَمَانٍ وَاحِدٍ مَمْنُوعٌ بَلْ هو اسْمٌ
لِأَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ بَعْضُهَا مَحَلٌّ لِلصَّوْمِ وَبَعْضُهَا ليس بِوَقْتٍ
له وهو اللَّيَالِي فَقَدْ تَخَلَّلَ بين كل يَوْمَيْنِ ما ليس بِوَقْتٍ لَهُمَا
فَصَارَ صَوْمُ كل يَوْمَيْنِ عِبَادَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ كَصَلَاتَيْنِ
وَنَحْوِ ذلك
وَإِنْ كان صوم ( ( ( الصوم ) ) ) دَيْنًا وهو صَوْمُ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ
وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ حتى لو صَامَ
بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّوْمِ لَا يَقَعُ عَمَّا عليه لِأَنَّ زَمَانَ خَارِجَ
رَمَضَانَ مُتَعَيِّنٌ لِلنَّفْلِ شَرْعًا عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا
وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى ما تَعَيَّنَ له الْوَقْتُ
وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هو وَقْتٌ لِلصِّيَامَاتِ كُلِّهَا على الْإِبْهَامِ فَلَا
بُدَّ من تَعْيِينِ الْوَقْتِ لِلْبَعْضِ بِالنِّيَّةِ لِتَتَعَيَّنَ له لَكِنَّهُ
عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى التَّطَوُّعِ لِأَنَّهُ أَدْنَى وَالْأَدْنَى
مُتَيَقَّنٌ بِهِ فَيَقَعُ الْإِمْسَاكُ عنه
وَلَوْ نَوَى بِصَوْمِهِ قَضَاءَ رَمَضَانَ وَالتَّطَوُّعَ كان عن الْقَضَاءِ في
قَوْلِ أبي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ يَكُونُ عن التَّطَوُّعِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أنه عَيَّنَ الْوَقْتَ لِجِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ
مُتَنَافِيَتَيْنِ فَسَقَطَتَا لِلتَّعَارُضِ وَبَقِيَ أَصْلُ النِّيَّةِ وهو نِيَّةُ
الصَّوْمِ فَيَكُونُ عن التَّطَوُّعِ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ في التَّطَوُّعِ لَغْوٌ فَلَغَتْ
وَبَقِيَ أَصْلُ النِّيَّةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَوَى قَضَاءَ رَمَضَانَ
وَالصَّوْمُ لو كان كَذَلِكَ يَقَعُ عن الْقَضَاءِ كَذَا هذا
فَإِنْ نَوَى قَضَاءَ رَمَضَانَ وَكَفَّارَةَ الظِّهَارِ قال أبو يُوسُفَ يَكُونُ
عن الْقَضَاءِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عن التَّطَوُّعِ وهو
قَوْلُ مُحَمَّدٍ
وَجْهُ الْقِيَاسِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنْ
جِهَتَيْ التَّعْيِينِ تَعَارَضَتَا لِلتَّنَافِي فَسَقَطَتَا بِحُكْمِ
التَّعَارُضِ فَبَقِيَ نِيَّةُ مُطْلَقِ الصَّوْمِ فَيَكُونُ تَطَوُّعًا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّرْجِيحَ لِتَعْيِينِ جِهَةِ الْقَضَاءِ
لِأَنَّهُ خَلَفٌ عن صَوْمِ رَمَضَانَ وَخَلَفُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ
كَأَنَّهُ هو وَصَوْمُ رَمَضَانَ أَقْوَى الصِّيَامَاتِ حتى تَنْدَفِعَ بِهِ
نِيَّةُ سَائِرِ الصِّيَامَاتِ وَلِأَنَّهُ بَدَلُ صَوْمٍ وَجَبَ بِإِيجَابِ
اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَجَبَ بِسَبَبٍ
وُجِدَ من جِهَةِ الْعَبْدِ فَكَانَ الْقَضَاءُ أَقْوَى فَلَا يُزَاحِمُهُ
الْأَضْعَفُ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ
فَصَامَهُ يَنْوِي النَّذْرَ وَكَفَّارَةَ الْيَمِينِ فَهُوَ عن النَّذْرِ
لِتَعَارُضِ النِّيَّتَيْنِ فَتَسَاقَطَا وَبَقِيَ نِيَّةُ الصَّوْمِ مُطْلَقًا
فَيَقَعُ عن النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الثَّالِثُ وهو وَقْتُ النِّيَّةِ فَالْأَفْضَلُ في الصِّيَامَاتِ
كُلِّهَا أَنْ يَنْوِيَ وَقْتَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إنْ أَمْكَنَهُ ذلك أو من
اللَّيْلِ لِأَنَّ النِّيَّةَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ تُقَارِنُ أَوَّلَ جُزْءٍ
من الْعِبَادَةِ حَقِيقَةً وَمِنْ اللَّيْلِ تُقَارِنُهُ تَقْدِيرًا وَإِنْ نَوَى
بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَإِنْ كان الصَّوْمُ دَيْنًا لَا يَجُوزُ
بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان عَيْنًا وهو صَوْمُ رَمَضَانَ وَصَوْمُ التَّطَوُّعِ
خَارِجَ رَمَضَانَ وَالْمَنْذُورُ الْمُعَيَّنُ يَجُوزُ
وقال زُفَرُ إنْ كان مُسَافِرًا لَا يَجُوزُ صَوْمُهُ عن رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ من
النَّهَارِ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ بِنِيَّةٍ من النَّهَارِ إلَّا التَّطَوُّعُ
وقال مَالِكٌ لَا يَجُوزُ التَّطَوُّعُ أَيْضًا وَلَا يَجُوزُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ
بِنِيَّةٍ من النَّهَارِ بَعْدَ الزَّوَالِ عِنْدَنَا
وَلِلشَّافِعِيِّ فيه قَوْلَانِ
أَمَّا الْكَلَامُ مع مَالِكٍ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أن التَّطَوُّعَ تَبَعٌ
لِلْفَرْضِ ثُمَّ لَا يَجُوزُ صَوْمُ الْفَرْضِ بِنِيَّةٍ من النَّهَارِ فَكَذَا
التَّطَوُّعُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كان رسول
اللَّهِ يُصْبِحُ لَا يَنْوِي الصَّوْمَ ثُمَّ يَبْدُو له فَيَصُومُ
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان يَدْخُلُ على
أَهْلِهِ فيقول هل عِنْدَكُمْ من غَدَاءٍ فَإِنْ قالوا لَا قال فَإِنِّي صَائِمٌ
وَصَوْمُ التَّطَوُّعِ بِنِيَّةٍ من النَّهَارِ قبل الزَّوَالِ مَرْوِيٌّ عن
عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي طَلْحَةَ
وَأَمَّا الْكَلَامُ فِيمَا بَعْدَ الزَّوَالِ فَبِنَاءٌ على أَنَّ صَوْمَ
النَّفْلِ عِنْدَنَا غَيْرُ متجزىء كَصَوْمِ الْفَرْضِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ في أَحَدِ قَوْلَيْهِ متجزىء حتى قال يَصِيرُ صَائِمًا من
حِينِ نَوَى لَكِنْ بِشَرْطِ الْإِمْسَاكِ في أَوَّلِ النَّهَارِ وَحُجَّتُهُ ما رَوَيْنَا
عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنهما مُطْلَقًا من غَيْرِ فَصْلٍ بين
ما قبل الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالصَّوْمُ لَا يَتَجَزَّأُ فَرْضًا كان أو نَفْلًا وَيَصِيرُ
صَائِمًا من أَوَّلِ النَّهَارِ لَكِنْ بِالنِّيَّةِ الْمَوْجُودَةِ وَقْتَ
الرُّكْنِ وهو الْإِمْسَاكُ وَقْتَ الْغَدَاءِ الْمُتَعَارَفِ لِمَا نَذْكُرُ فإذا
نَوَى بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَدْ خَلَا بَعْضُ الرُّكْنِ عن الشَّرْطِ فَلَا
يَصِيرُ صَائِمًا شَرْعًا وَالْحَدِيثَانِ مَحْمُولَانِ على ما قبل الزَّوَالِ
بِدَلِيلِ ما ذَكَرْنَا
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع
____________________
(2/85)
الشَّافِعِيِّ
في صَوْمِ رَمَضَانَ فَهُوَ يَحْتَجُّ بِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَا
صِيَامَ لِمَنْ لم يَعْزِمْ الصَّوْمَ من اللَّيْلِ وَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ من
أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى آخِرِهِ رُكْنٌ فَلَا بُدَّ له من النِّيَّةِ لِيَصِيرَ
لِلَّهِ تَعَالَى وقد انْعَدَمَتْ في أَوَّلِ النَّهَارِ فلم يَقَعْ الْإِمْسَاكُ
في أَوَّلِ النَّهَارِ لِلَّهِ تَعَالَى لِفَقْدِ شَرْطِهِ فَكَذَا الْبَاقِي
لِأَنَّ صَوْمَ الْفَرْضِ لَا يَتَجَزَّأُ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ صَوْمُ
الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ بِنِيَّةٍ من النَّهَارِ
وَكَذَا صَوْمُ رَمَضَانَ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ } {
ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } أَبَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْأَكْلَ
وَالشُّرْبَ وَالْجِمَاعَ في لَيَالِي رَمَضَانَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَأَمَرَ
بِالصِّيَامِ عنها بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مُتَأَخِّرًا عنه لِأَنَّ كَلِمَةَ
ثُمَّ لِلتَّعْقِيبِ مع التَّرَاخِي فَكَانَ هذا أَمْرًا بِالصَّوْمِ مُتَرَاخِيًا
عن أَوَّلِ النَّهَارِ وَالْأَمْرُ بِالصَّوْمِ أَمْرٌ بِالنِّيَّةِ إذْ لَا
صِحَّةَ لِلصَّوْمِ شَرْعًا بِدُونِ النِّيَّةِ فَكَانَ أَمْرًا بِالصَّوْمِ
بِنِيَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عن أَوَّلِ النَّهَارِ وقد أتى بِهِ فَقَدْ أتى
بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَيَخْرُجُ عن الْعُهْدَةِ وَفِيهِ دَلَالَةٌ أَنَّ
الْإِمْسَاكَ في أَوَّلِ النَّهَارِ يَقَعُ صَوْمًا وُجِدَتْ فيه النِّيَّةُ أو لم
تُوجَدْ لِأَنَّ إتْمَامَ الشَّيْءِ يَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ وُجُودِ بَعْضٍ منه
وَلِأَنَّهُ صَامَ رَمَضَانَ في وَقْتٍ مُتَعَيَّنٍ شَرْعًا لِصَوْمِ رَمَضَانَ
لِوُجُودِ رُكْنِ الصَّوْمِ مع شَرَائِطِهِ التي تَرْجِعُ إلَى الْأَهْلِيَّةِ
وَالْمَحَلِّيَّةِ
وَلَا كَلَامَ في سَائِرِ الشَّرَائِطِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ في النِّيَّةِ
وَوَقْتُهَا وَقْتُ وُجُودِ الرُّكْنِ وهو الْإِمْسَاكُ وَقْتَ الْغَدَاءِ الْمُتَعَارَفِ
وَالْإِمْسَاكُ في أَوَّلِ النَّهَارِ شَرْطٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ لِأَنَّ رُكْنَ
الْعِبَادَةِ ما يَكُونُ شَاقًّا على الْبَدَنِ مُخَالِفًا لِلْعَادَةِ وَهَوَى
النَّفْسِ وَذَلِكَ هو الْإِمْسَاكُ وَقْتَ الْغَدَاءِ الْمُتَعَارَفِ فَأَمَّا
الْإِمْسَاكُ في أَوَّلِ النَّهَارِ فَمُعْتَادٌ فَلَا يَكُونُ رُكْنًا بَلْ
يَكُونُ شَرْطًا لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الرُّكْنِ إلَّا
أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ وَسِيلَةً لِلْحَالِ لِجَوَازِ أَنْ يَنْوِيَ
وَقْتَ الرُّكْنِ فإذا نَوَى ظَهَرَ كَوْنُهُ وَسِيلَةً من حِينِ وُجُودِهِ
وَالنِّيَّةُ تُشْتَرَطُ لِصَيْرُورَةِ الْإِمْسَاكِ الذي هو رُكْنُ عِبَادَةٍ لَا
لِمَا يَصِيرُ عِبَادَةً بِطَرِيقِ الْوَسِيلَةِ على ما قَرَّرْنَا في
الْخِلَافِيَّاتِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَهُوَ من الْآحَادِ فَلَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ
لَكِنَّهُ يَصْلُحُ مُكَمِّلًا له فَيُحْمَلُ على نَفْيِ الْكَمَالِ كَقَوْلِهِ
لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا في الْمَسْجِدِ لِيَكُونَ عَمَلًا
بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَأَمَّا صِيَامُ الْقَضَاءِ وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ فما صَامَهَا في
وَقْتٍ مُتَعَيَّنٍ لها شَرْعًا لِأَنَّ خَارِجَ رَمَضَانَ مُتَعَيَّنٌ لِلنَّفْلِ
مَوْضُوعٌ له شَرْعًا إلَّا أَنْ يُعَيِّنَهُ لِغَيْرِهِ فإذا لم يَنْوِ من
اللَّيْلِ صَوْمًا آخَرَ بَقِيَ الْوَقْتُ مُتَعَيَّنًا لِلتَّطَوُّعِ شَرْعًا
فَلَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَهُ فَأَمَّا هَهُنَا فَالْوَقْتُ مُتَعَيَّنٌ لِصَوْمِ
رَمَضَانَ وقد صَامَهُ لِوُجُودِ رُكْنِ الصَّوْمِ وَشَرَائِطِهِ على ما بَيَّنَّا
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع زُفَرَ في الْمُسَافِرِ إذَا صَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ من
النَّهَارِ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ على الْمُسَافِرِ في
رَمَضَانَ حَتْمًا أَلَا تَرَى أَنَّ له أَنْ يُفْطِرَ وَالْوَقْتُ غَيْرُ
مُتَعَيَّنٍ لِصَوْمِ رَمَضَانَ في حَقِّهِ فإن له أَنْ يَصُومَ عن وَاجِبٍ آخَرَ
فَأَشْبَه صَوْمَ الْقَضَاءِ خَارِجَ رَمَضَانَ وَذَا لَا يَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ من
النَّهَارِ كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ على الْمُسَافِرِ في رَمَضَانَ وهو الْعَزِيمَةُ
في حَقِّهِ إلَّا أَنَّ له أَنْ يُتَرَخَّصَ بِالْإِفْطَارِ
وَلَهُ أَنْ يَصُومَ عن وَاجِبٍ آخَرَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ
وَالتَّيْسِيرِ أَيْضًا لِمَا فيه من إسْقَاطِ الْفَرْضِ عن ذِمَّتِهِ على ما
بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ فإذا لم يُفْطِرْ ولم يَنْوِ وَاجِبًا آخَرَ بَقِيَ
صَوْمُ رَمَضَانَ وَاجِبًا عليه وقد صَامَهُ فَيَخْرُجُ عن الْعُهْدَةِ
كَالْمُقِيمِ سَوَاءٌ
وَيَتَّصِلُ بِهَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ وهو ( ( ( وهما ) ) ) بَيَانُ كَيْفِيَّةِ
النِّيَّةِ وَوَقْتِ مَسْأَلَةُ الْأَسِيرِ في يَدِ الْعَدُوِّ إذَا اشْتَبَهَ
عليه شَهْرُ رَمَضَانَ فَتَحَرَّى وَصَامَ شَهْرًا عن رَمَضَانَ وَجُمْلَةُ
الْكَلَامِ فيه أَنَّهُ إذَا صَامَ شَهْرًا عن رَمَضَانَ لَا يَخْلُو إمَّا إن
وَافَقَ شَهْرَ رَمَضَانَ أو لم يُوَافِقْ بِأَنْ تَقَدَّمَ أو تَأَخَّرَ فَإِنْ
وَافَقَ جَازَ وَهَذَا لَا يُشْكِلُ لِأَنَّهُ أَدَّى ما عليه وَإِنْ تَقَدَّمَ لم
يَجُزْ لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ قبل وُجُوبِهِ وَقَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ
وُجُوبِهِ وَإِنْ تَأَخَّرَ فَإِنْ وَافَقَ شَوَّالٌ يَجُوزُ لَكِنْ يُرَاعَى فيه
مُوَافَقَةُ الشَّهْرَيْنِ في عَدَدِ الْأَيَّامِ وَتَعْيِينُ النِّيَّةِ
وَوُجُودُهَا من اللَّيْلِ
وَأَمَّا مُوَافَقَةُ الْعَدَدِ فَلِأَنَّ صَوْمَ شَهْرٍ آخَرَ بَعْدَهُ يَكُونُ
قَضَاءً وَالْقَضَاءُ يَكُونُ على قَدْرِ الْفَائِتِ وَالشَّهْرُ قد يَكُونُ
ثَلَاثِينَ يَوْمًا وقد يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا
وَأَمَّا تَعْيِينُ النِّيَّةِ وَوُجُودُهَا من اللَّيْلِ فَلِأَنَّ صَوْمَ
الْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَلَا بِنِيَّةٍ من النَّهَارِ
لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَهَلْ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْقَضَاءِ ذَكَرَ
الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ
وَالصَّحِيحُ ما ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ لِأَنَّهُ نَوَى ما عليه من صَوْمِ
رَمَضَانَ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَكَانَ ذلك منه تعيينا ( ( ( تعيين ) ) ) لنية (
( ( نية ) ) ) الْقَضَاءِ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ أَنَّهُ إذَا وَافَقَ صَوْمُهُ شَهْرَ شَوَّالٍ
يَنْظُرُ إنْ كان رَمَضَانُ كَامِلًا وَشَوَّالُ كَامِلًا قَضَى يَوْمًا وَاحِدًا
لِأَجْلِ يَوْمِ الْفِطْرِ لِأَنَّ صَوْمَ الْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ فيه وَإِنْ كان
رَمَضَانُ كَامِلًا
____________________
(2/86)
وَشَوَّالُ
نَاقِصًا قَضَى يَوْمَيْنِ يَوْمًا لِأَجْلِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمًا لِأَجْلِ
النُّقْصَانِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ على قَدْرِ الْفَائِتِ وَإِنْ كان
رَمَضَانُ نَاقِصًا وَشَوَّالُ كَامِلًا لَا شَيْءَ عليه لِأَنَّهُ أَكْمَلَ
عَدَدَ الْفَائِتِ وَإِنْ وَافَقَ صَوْمُهُ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ فَإِنْ كان
رَمَضَانُ كَامِلًا وَذُو الْحِجَّةِ كَامِلًا قَضَى أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ يَوْمًا
لِأَجْلِ يَوْمِ النَّحْرِ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِأَجْلِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجُوزُ في هذه الْأَيَّامِ وَإِنْ كان رَمَضَانُ كَامِلًا
وَذُو الْحِجَّةِ نَاقِصًا قَضَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ يَوْمًا لِلنُّقْصَانِ
وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ لِيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَإِنْ كان
رَمَضَانُ نَاقِصًا وَذُو الْحِجَّةِ كَامِلًا قَضَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِأَنَّ
الْفَائِتَ ليس إلَّا هذا الْقَدْرَ وَإِنْ وَافَقَ صَوْمُهُ شَهْرًا آخَرَ سِوَى
هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ فَإِنْ كان الشَّهْرَانِ كَامِلَيْنِ أو نَاقِصَيْنِ أو
كان رَمَضَانُ نَاقِصًا وَالشَّهْرُ الْآخَرُ كَامِلًا فَلَا شَيْءَ عليه وَإِنْ
كان رَمَضَانُ كَامِلًا وَالشَّهْرُ الْآخَرُ نَاقِصًا قَضَى يَوْمًا وَاحِدًا
لِأَنَّ الْفَائِتَ يَوْمٌ وَاحِدٌ
وَلَوْ صَامَ بِالتَّحَرِّي سِنِينَ كَثِيرَةً ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ في
كل سَنَةٍ قبل شَهْرِ رَمَضَانَ فَهَلْ يَجُوزُ صَوْمُهُ في السَّنَةِ
الثَّانِيَةِ عن الْأُولَى وفي الثَّالِثَةِ عن الثَّانِيَةِ وفي الرَّابِعَةِ عن
الثَّالِثَةِ
هَكَذَا قال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ لِأَنَّهُ في كل سَنَةٍ من الثَّانِيَةِ
وَالثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ صَامَ صَوْمَ رَمَضَانَ الذي عليه وَلَيْسَ عليه
إلَّا الْقَضَاءُ فَيَقَعُ قَضَاءً عن الْأَوَّلِ
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الرَّمَضَانَاتِ لِأَنَّهُ صَامَ
في كل سَنَةٍ عن رَمَضَانَ قبل دُخُولِ رَمَضَانَ
وَفَصَّلَ الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرَ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في ذلك
تَفْصِيلًا فقال إنْ صَامَ في السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عن الْوَاجِبِ عليه إلَّا
أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ من رَمَضَانَ يَجُوزُ
وَكَذَا في الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ لِأَنَّهُ صَامَ عن الْوَاجِبِ عليه
وَالْوَاجِبُ عليه قَضَاءُ صَوْمِ رَمَضَانَ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَلَا
يَكُونُ عليه إلَّا قَضَاءُ رَمَضَانَ الْأَخِيرِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ ما قَضَاهُ
فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ
وَإِنْ صَامَ في السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عن الثَّالِثَةِ وفي السَّنَةِ
الثَّالِثَةِ عن الرَّابِعَةِ لم يَجُزْ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الرَّمَضَانَاتِ
كُلِّهَا
أماعدم الْجَوَازِ عن الرَّمَضَانِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ مانوى عنه وَتَعْيِينُ
النِّيَّةِ في الْقَضَاءِ شَرْطٌ وَلَا يَجُوزُ عن الثَّانِي لِأَنَّهُ صَامَ
قَبْلَهُ مُتَقَدِّمًا عليه وَكَذَا الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ
وَضَرَبَ له مَثَلًا وهو رَجُلٌ اقْتَدَى بِالْإِمَامِ على ظَنِّ أَنَّهُ زَيْدٌ
فإذا هو عَمْرُو صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ وَلَوْ اقْتَدَى بِزَيْدٍ فإذا هو
عَمْرُو لم يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ لِأَنَّهُ في الْأَوَّلِ نَوَى
الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ إلَّا أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ الْإِمَامَ زَيْدٌ
فَأَخْطَأَ في ظَنِّهِ فَهَذَا لَا يَقْدَحُ في صِحَّةِ اقْتِدَائِهِ بِالْإِمَامِ
وفي الثَّانِي نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِزَيْدٍ فإذا لم يَكُنْ زَيْدًا تَبَيَّنَ
أَنَّهُ ما اقْتَدَى بِأَحَدٍ كَذَلِكَ هَهُنَا إذَا نَوَى في صَوْمِ كل سَنَةٍ عن
الْوَاجِبِ عليه تَعَلَّقَتْ نِيَّتُهُ بِالْوَاجِبِ عليه لَا بِالْأَوَّلِ
وَالثَّانِي إلَّا أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ الثَّانِي فَأَخْطَأَ في ظَنِّهِ
فَيَقَعُ عن الْوَاجِبِ عليه لَا عَمَّا ظَنَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الشَّرَائِطُ التي تَخُصُّ بَعْضَ الصِّيَامَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَهِيَ
شَرَائِطُ الْوُجُوبِ
فَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فَلَا يَجِبُ الصَّوْمُ على الْكَافِرِ في حَقِّ أَحْكَامِ
الدُّنْيَا بِلَا خِلَافٍ حتى لَا يُخَاطَبُ بِالْقَضَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ
وَأَمَّا في حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ يَجِبُ
وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ
عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا خِلَافًا له
وَهِيَ تُعْرَفُ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ الْكَافِرِ إذَا
أَسْلَمَ في بَعْضِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ ما مَضَى
لِأَنَّ الوجوب ( ( ( الواجب ) ) ) لم يَثْبُتْ فِيمَا مَضَى فلم يُتَصَوَّرْ
قَضَاءُ الْوَاجِبِ
وَهَذَا التَّخْرِيجُ على قَوْلِ من يَشْتَرِطُ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ سَابِقَةَ
وُجُوبِ الْأَدَاءِ من مَشَايِخِنَا
وَأَمَّا على قَوْلِ من لَا يَشْتَرِطُ ذلك منهم فَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُهُ
قَضَاءُ ما مَضَى لِمَكَانِ الْحَرَجِ إذْ لو لَزِمَهُ ذلك لَلَزِمَهُ قَضَاءُ
جَمِيعِ ما مَضَى من الرَّمَضَانَاتِ في حَالِ الْكُفْرِ لِأَنَّ الْبَعْضَ ليس
بِأَوْلَى من الْبَعْضِ وَفِيهِ من الْحَرَجِ ما لَا يَخْفَى
وَكَذَا إذَا أَسْلَمَ في يَوْمٍ من رَمَضَانَ قبل الزَّوَالِ لَا يَلْزَمُهُ
صَوْمُ ذلك الْيَوْمِ حتى لَا يَلْزَمَهُ قَضَاؤُهُ
وقال مَالِكٌ يَلْزَمُهُ وأنه غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ لم يَكُنْ من أَهْلِ
الْوُجُوبِ في أَوَّلِ الْيَوْمِ أو لِمَا في وُجُوبِ الْقَضَاءِ من الْحَرَجِ على
ما بَيَّنَّا
وَمِنْهَا الْبُلُوغُ فَلَا يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ على الصَّبِيِّ وَإِنْ كان
عَاقِلًا حتى لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِقَوْلِ النبي رُفِعَ
الْقَلَمُ عن ثَلَاثٍ عن الصَّبِيِّ حتى يَحْتَلِمَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حتى
يُفِيقَ وَعَنْ النَّائِمِ حتى يَسْتَيْقِظَ وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ لِضَعْفِ
بِنْيَتِهِ وَقُصُورِ عَقْلِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ يَشُقُّ
عليه تَفَهُّمُ الْخِطَابِ وَأَدَاءُ الصَّوْمِ فَأَسْقَطَ الشَّرْعُ عنه
الْعِبَادَاتِ نَظَرًا له فإذا لم يَجِبْ عليه الصَّوْمُ في حَالِ الصِّبَا لَا
يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لِمَكَانِ
الْحَرَجِ لِأَنَّ مُدَّةَ الصِّبَا مَدِيدَةٌ فَكَانَ في إيجَابِ الْقَضَاءِ عليه
بَعْدَ الْبُلُوغِ حَرَجٌ
وَكَذَا إذَا بَلَغَ في يَوْمٍ من رَمَضَانَ قبل الزَّوَالِ لَا يُجْزِئُهُ صَوْمُ
ذلك الْيَوْمِ وَإِنْ نَوَى وَلَيْسَ عليه قَضَاؤُهُ إذْ لم يَجِبْ عليه في
أَوَّلِ الْيَوْمِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ فيه وَالصَّوْمُ لَا
يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا وَجَوَازًا وَلِمَا فيه من الْحَرَجِ
____________________
(2/87)
على
ما ذَكَرْنَا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ في الصَّبِيِّ يَبْلُغُ قبل الزَّوَالِ أو أَسْلَمَ
الْكَافِرُ أَنَّ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ
وَوَجْهُهُ أَنَّهُمَا أَدْرَكَا وَقْتَ النِّيَّةِ فصار ( ( ( فصارا ) ) )
كَأَنَّهُمَا أَدْرَكَا من اللَّيْلِ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا فإذا لم يَجِبْ
عَلَيْهِمَا الْبَعْضُ لم يَجِبْ الْبَاقِي أو لِمَا في إيجَابِ الْقَضَاءِ من
الْحَرَجِ
وَأَمَّا الْعَقْلُ فَهَلْ هو من شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَكَذَا الْإِفَاقَةُ
وَالْيَقَظَةُ
قال عَامَّةُ مَشَايِخِنَا أنها لَيْسَتْ من شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَيَجِبُ صَوْمُ
رَمَضَانَ على الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عليه وَالنَّائِمِ لَكِنْ أَصْلُ
الْوُجُوبِ لَا وُجُوبُ الْأَدَاءِ بِنَاءً على أَنَّ عِنْدَهُمْ الْوُجُوبُ
نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَصْلُ الْوُجُوبِ وهو اشْتِغَالُ الذِّمَّةِ بِالْوَاجِبِ
وَأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْأَسْبَابِ لَا بِالْخِطَابِ وَلَا تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ
لِثُبُوتِهِ بَلْ ثَبَتَ جَبْرًا من اللَّهِ تَعَالَى شَاءَ الْعَبْدُ أو أَبَى
وَالثَّانِي وُجُوبُ الْأَدَاءِ وهو إسْقَاطُ ما في الذِّمَّةِ وَتَفْرِيغُهَا من
الْوَاجِبِ وَأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْخِطَابِ وَتُشْتَرَطُ له الْقُدْرَةُ على فَهْمِ
الْخِطَابِ وَعَلَى أَدَاءِ ما تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ لِأَنَّ الْخِطَابَ لَا
يَتَوَجَّهُ إلَى الْعَاجِزِ عن فَهْمِ الْخِطَابِ وَلَا على ( ( ( إلى ) ) )
الْعَاجِز عن فِعْلِ ما تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ وَالْمَجْنُونُ لِعَدَمِ عَقْلِهِ
أو لِاسْتِتَارِهِ وَالْمُغْمَى عليه وَالنَّائِمُ لِعَجْزِهِمَا عن اسْتِعْمَالِ
عَقْلِهِمَا عَاجِزُونَ عن فَهْمِ الْخِطَابِ وَعَنْ أَدَاءِ ما تَنَاوَلَهُ
الْخِطَابُ فَلَا يَثْبُتُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ في حَقِّهِمْ وَيَثْبُتُ أَصْلُ
الْوُجُوبِ في حَقِّهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ بَلْ يَثْبُتُ
جَبْرًا
وَتَقْرِيرُ هذا الْأَصْلِ مَعْرُوفٌ في أُصُولِ الْفِقْهِ وفي الْخِلَافِيَّاتِ
وقال أَهْلُ التَّحْقِيقِ من مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ إنَّ
الْوُجُوبَ في الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ وَاحِدٌ وهو وُجُوبُ الْأَدَاءِ فَكُلُّ من كان
من أَهْلِ الْأَدَاءِ كان من أَهْلِ الْوُجُوبِ وَمَنْ لَا فَلَا وهو اخْتِيَارُ
أُسْتَاذِي الشَّيْخِ الْأَجَلِّ الزَّاهِدِ عَلَاءِ الدِّينِ رَئِيسِ أَهْلِ
السُّنَّةِ مُحَمَّدِ بن أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيِّ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّ
الْوُجُوبَ الْمَعْقُولَ هو وُجُوبُ الْفِعْلِ كَوُجُوبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ
وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَمَنْ لم يَكُنْ من أَهْلِ أَدَاءِ الْفِعْلِ الْوَاجِبِ
وهو الْقَادِرُ على فَهْمِ الْخِطَابِ وَالْقَادِرُ على فِعْلِ ما يَتَنَاوَلُهُ
الْخِطَابُ لَا يَكُونُ من أَهْلِ الْوُجُوبِ ضَرُورَةً وَالْمَجْنُونُ
وَالْمُغْمَى عليه وَالنَّائِمُ عَاجِزُونَ عن فِعْلِ الْخِطَابِ بِالصَّوْمِ
وَعَنْ أَدَائِهِ إذْ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ هو الْإِمْسَاكُ لِلَّهِ تَعَالَى
وَلَنْ يَكُونَ ذلك بِدُونِ النِّيَّةِ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا من أَهْلِ النِّيَّةِ
فلم يَكُونُوا من أَهْلِ الْأَدَاءِ فلم يَكُونُوا من أَهْلِ الْوُجُوبِ
وَاَلَّذِي دَعَا الْأَوَّلِينَ إلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ في حَقِّ هَؤُلَاءِ
ما انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عليه من وُجُوبِ الْقَضَاءِ على الْمُغْمَى عليه
وَالنَّائِمِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ وَالِانْتِبَاهِ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ
الشَّهْرِ أو كُلِّهِ وما قد صَحَّ من مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ
في الْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ في بَعْضِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهُ يَجِبُ عليه
قَضَاءُ ما مَضَى من الشَّهْرِ فَقَالُوا إنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ يَسْتَدْعِي
فَوَاتَ الْوَاجِبِ الْمُؤَقَّتِ عن وَقْتِهِ مع الْقُدْرَةِ عليه وَانْتِفَاءِ
الْحَرَجِ فَلَا بُدَّ من الْوُجُوبِ في الْوَقْتِ ثُمَّ فَوَاتِهِ حتى يُمْكِنَ
إيجَابُ الْقَضَاءِ فَاضْطَرَّهُمْ ذلك إلَى إثْبَاتِ الْوُجُوبِ في حَالِ
الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ
وقال الْآخَرُونَ إنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ لَا يَسْتَدْعِي سَابِقِيَّةَ
الْوُجُوبِ لَا مَحَالَةَ وَإِنَّمَا يَسْتَدْعِي فَوْتَ الْعِبَادَةِ عن
وَقْتِهَا وَالْقُدْرَةَ على الْقَضَاءِ من غَيْرِ حَرَجٍ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ
طُرُقُهُمْ في الْمَسْأَلَةِ
وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا في الْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ في بَعْضِ شَهْرِ رَمَضَانَ
أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ ما مَضَى جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ وَالْقِيَاسُ أَنْ
لَا يَلْزَمُهُ وهو قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَمَّا الْمَجْنُونُ جُنُونًا
مُسْتَوْعِبًا بِأَنْ جُنَّ قبل دُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَفَاقَ بَعْدَ
مُضِيِّهِ فَلَا قَضَاءَ عليه عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ مَالِكٍ يَقْضِي
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْقَضَاءَ هو تَسْلِيمُ مِثْلِ الْوَاجِبِ وَلَا وُجُوبَ
على الْمَجْنُونِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْخِطَابِ وَلَا خِطَابَ عليه
لِانْعِدَامِ الْقُدْرَتَيْنِ وَلِهَذَا لم يَجِبْ الْقَضَاءُ في الْجُنُونِ
الْمُسْتَوْعِبِ شَهْرًا
وَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَمَّا من قال بِالْوُجُوبِ في حَالِ الْجُنُونِ يقول
فَاتَهُ الْوَاجِبُ عن وَقْتِهِ وَقَدَرَ على قَضَائِهِ من غَيْرِ حَرَجٍ
فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ قِيَاسًا على النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عليه
وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ لهم وُجُودُ سَبَبِ الْوُجُوبِ وهو الشَّهْرُ إذْ الصَّوْمُ
يُضَافُ إلَيْهِ مُطْلَقًا يُقَالُ صَوْمُ الشَّهْرِ وَالْإِضَافَةُ دَلِيلُ
السَّبَبِيَّةِ وهو قَادِرٌ على الْقَضَاءِ من غَيْرِ حَرَجٍ وفي إيجَابِ
الْقَضَاءِ عِنْدَ الِاسْتِيعَابِ حَرَجٌ وَأَمَّا من أبي الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ
في حَالِ الْجُنُونِ يقول هذا شَخْصٌ فَاتَهُ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَدَرَ
على قَضَائِهِ من غَيْرِ حَرَجٍ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ قِيَاسًا على النَّائِمِ
وَالْمُغْمَى عليه وَمَعْنَى قَوْلِنَا فَاتَهُ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ أَيْ لم
يَصُمْ شَهْرَ رَمَضَانَ وَقَوْلُنَا من غَيْرِ حَرَجٍ فَلِأَنَّهُ لَا حَرَج في
قَضَاءِ نِصْفِ الشَّهْرِ وَتَأْثِيرُهَا من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ
الصَّوْمَ عِبَادَةٌ وَالْأَصْلُ في الْعِبَادَاتِ وُجُوبُهَا على الدَّوَامِ
بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ لِمَا ذَكَرْنَا في
____________________
(2/88)
الْخِلَافِيَّاتِ
إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ عَيَّنَ شَهْرَ رَمَضَانَ من السَّنَةِ في حَقِّ الْقَادِرِ
على الصَّوْمِ فَبَقِيَ الْوَقْتُ الْمُطْلَقُ في حَقِّ الْعَاجِزِ عنه وَقْتًا له
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا فَاتَهُ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَدْ فَاتَهُ
الثَّوَابُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى اسْتِدْرَاكِهِ بِالصَّوْمِ في
عِدَّةٍ من أَيَّامٍ أُخَرَ لِيَقُومَ الصَّوْمُ فيها مَقَامَ الْفَائِتِ
فَيَنْجَبِرُ الْفَوَاتُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فإذا قَدَرَ على قَضَائِهِ من
غَيْرِ حَرَجٍ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ عليه فَيَجِبُ كما في الْمُغْمَى
عليه وَالنَّائِمِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ الْمُسْتَوْعِبِ فإن هُنَاكَ في إيجَابِ
الْقَضَاءِ حَرَجًا لِأَنَّ الْجُنُونَ الْمُسْتَوْعِبَ قَلَّمَا يَزُولُ
بِخِلَافِ الْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ إذَا اسْتَوْعَبَ لِأَنَّ اسْتِيعَابَهُ
نَادِرٌ وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ فإن
اسْتِيعَابَهُ ليس بِنَادِرٍ
وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ في وُجُوبِ قَضَاءِ ما مَضَى عِنْدَ أَصْحَابِنَا في
الْجُنُونِ الْعَارِضِ ما إذَا أَفَاقَ في وَسَطِ الشَّهْرِ أو في أَوَّلِهِ حتى
لو جُنَّ قبل الشَّهْرِ ثُمَّ أَفَاقَ في آخِرِ يَوْمٍ منه يَلْزَمُهُ قَضَاءُ
جَمِيعِ الشَّهْرِ وَلَوْ جُنَّ في أَوَّلِ يَوْمٍ من رَمَضَانَ فلم يُفِقْ إلَّا
بُعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ كل الشَّهْرِ إلَّا قَضَاءَ
الْيَوْمِ الذي جُنَّ فيه إنْ كان نَوَى الصَّوْمَ في اللَّيْلِ وَإِنْ كان لم
يَنْوِ قَضَى جَمِيعَ الشَّهْرِ وَلَوْ جُنَّ في طَرَفَيْ الشَّهْرِ وَأَفَاقَ في
وَسَطِهِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الطَّرَفَيْنِ
وَأَمَّا الْمَجْنُونُ الْأَصْلِيُّ وهو الذي بَلَغَ مَجْنُونًا ثُمَّ أَفَاقَ في
بَعْضِ الشَّهْرِ فَقَدْ رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فقال
لَا يَقْضِي ما مَضَى من الشَّهْرِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُمَا
وقال يَقْضِي ما مَضَى من الشَّهْرِ وَهَكَذَا رَوَى هِشَامٌ عن أبي يُوسُفَ في
صَبِيٍّ له عَشْرُ سِنِينَ جُنَّ فلم يَزَلْ مَجْنُونًا حتى أتى عليه ثَلَاثُونَ
سَنَةً أو أَكْثَرُ ثُمَّ صَحَّ في آخِرِ يَوْمٍ من شَهْرِ رَمَضَانَ
فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه قَضَاءُ ما مَضَى لَكِنْ اُسْتُحْسِنَ أَنْ
يَقْضِيَ ما مَضَى في هذا الشَّهْرِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ زَمَانَ الْإِفَاقَةِ في حَيِّزِ زَمَانِ
ابْتِدَاءِ التَّكْلِيفِ فَأَشْبَهَ الصَّغِيرَ إذَا بَلَغَ في بَعْضِ الشَّهْرِ
بِخِلَافِ الْجُنُونِ الْعَارِضِ فإن هُنَاكَ زَمَانَ التَّكْلِيفِ سَبَقَ
الْجُنُونَ إلَّا أَنَّهُ عَجَزَ عن الْأَدَاءِ بِعَارِضٍ فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ
الْعَاجِزَ عن أَدَاءِ الصَّوْمِ إذَا صَحَّ
وَجْهُ رِوَايَةٍ عن أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ما ذَكَرْنَا من
الطَّرِيقَيْنِ في الْجُنُونِ الْعَارِضِ وَلَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ جُنُونًا
عَارِضًا في نَهَارِ رَمَضَانَ قبل الزَّوَالِ فَنَوَى الصَّوْمَ أَجْزَأَهُ عن
رَمَضَانَ وَالْجُنُونُ الْأَصْلِيُّ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا وَيَجُوزُ
في الْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا
وَعَلَى هذا الطَّهَارَةِ من الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أنها شَرْطُ الْوُجُوبِ
عِنْدَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ من مَشَايِخِنَا إذْ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ لَا
يَتَحَقَّقُ من الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فَتَعَذَّرَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ
الصَّوْمِ عَلَيْهِمَا في وَقْتِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ
عَلَيْهِمَا قَضَاءُ الصَّوْمِ لِفَوَاتِ صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَيْهِمَا
وَلِقُدْرَتِهِمَا على الْقَضَاءِ في عِدَّةٍ من أَيَّامٍ أُخَرَ من غَيْرِ حَرَجٍ
وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ لِمَا فيه من الْحَرَجِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا
يَتَكَرَّرُ في كل يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ وَلَا يَلْزَمُ الْحَائِضَ في
السُّنَّةِ إلَّا قَضَاءُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَلَا حَرَجَ في ذلك
وَعَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ ليس بِشَرْطٍ وَأَصْلُ الْوُجُوبِ ثَابِتٌ
في حَالَةِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ
لِأَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ
عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها فقالت لِمَ تقض ( ( ( تقضي ) ) ) الْحَائِضُ الصَّوْمَ
وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ فقالت عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها لِلسَّائِلَةِ
أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ هَكَذَا كُنَّ النِّسَاءُ يَفْعَلْنَ على عَهْدِ رسول
اللَّهِ أَشَارَتْ إلَى أَنَّ ذلك ثَبَتَ تَعَبُّدًا مَحْضًا وَالظَّاهِرُ أَنَّ
فَتَوَاهَا بلغ ( ( ( بلغت ) ) ) الصَّحَابَةَ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ
عليها مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَلَوْ طَهُرَتَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قبل الزَّوَالِ لَا يَجْزِيهِمَا
صَوْمُ ذلك الْيَوْمِ لَا عن فَرْضٍ وَلَا عن نَفْلٍ لِعَدَمِ وُجُوبِ الصَّوْمِ
عَلَيْهِمَا وَوُجُودِهِ في أَوَّلِ الْيَوْمِ فَلَا يَجِبُ وَلَا يُوجَدُ في
الْبَاقِي لِعَدَمِ التَّجَزِّي وَعَلَيْهِمَا قَضَاؤُهُ مع الْأَيَّامِ الْأُخَرِ
لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ طَهُرَتَا قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ يُنْظَرُ إنْ كان
الْحَيْضُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَالنِّفَاسُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَعَلَيْهِمَا
قَضَاءُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَيَجْزِيهِمَا صَوْمُهُمَا من الْغَدِ عن رَمَضَانَ
إذَا نَوَتَا قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ لِخُرُوجِهِمَا عن الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ
بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِ الدَّمِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى النِّيَّةِ لَا غَيْرُ
وَإِنْ كان الْحَيْضُ دُونَ الْعَشَرَةِ وَالنِّفَاسُ دُونَ الْأَرْبَعِينَ فَإِنْ
بَقِيَ من اللَّيْلِ مِقْدَارُ ما يَسَعُ لِلِاغْتِسَالِ وَمِقْدَارُ ما يَسَعُ
النِّيَّةَ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ بَقِيَ من اللَّيْلِ دُونَ ذلك
لَا يَلْزَمُهُمَا قَضَاءُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَلَا يَجْزِيهِمَا صَوْمُهُمَا من
الْغَدِ وَعَلَيْهِمَا قَضَاءُ ذلك الْيَوْمِ كما لو طَهُرَتَا بَعْدَ طُلُوعِ
الْفَجْرِ لِأَنَّ مُدَّةَ الِاغْتِسَالِ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ
وَالْأَرْبَعِينَ من الْحَيْضِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَلَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ بِمِقْدَارِ ما يُمْكِنُهُ
النِّيَّةَ فَعَلَيْهِ صَوْمُ الْغَدِ وَإِلَّا فَلَا
____________________
(2/89)
وَكَذَلِكَ
الصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ جُنُونًا أَصْلِيًّا على قَوْلِ
مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبَا عِنْدَهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا رُكْنُهُ فَالْإِمْسَاكُ عن الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالْجِمَاعَ في لَيَالِي
رَمَضَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ }
إلَى قَوْله { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ من الْخَيْطِ
الْأَسْوَدِ من الْفَجْرِ } أَيْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ ضَوْءُ النَّهَارِ من
ظُلْمَةِ اللَّيْلِ من الْفَجْرِ ثُمَّ أَمَرَ بِالْإِمْسَاكِ عن هذه الْأَشْيَاءِ
في النَّهَارِ بِقَوْلِهِ عز وجل { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ }
فَدَلَّ أَنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ ما قُلْنَا فَلَا يُوجَدُ الصَّوْمُ بِدُونِهِ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَنْبَنِي بَيَانُ ما يُفْسِدُ الصَّوْمَ وَيَنْقُضُهُ
لِأَنَّ انْتِقَاضَ الشَّيْءِ عِنْدَ فَوَاتِ رُكْنِهِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ وَذَلِكَ
بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ سَوَاءٌ كان صُورَةً وَمَعْنًى أو صُورَةً
لَا مَعْنًى أو مَعْنًى لَا صُورَةً وَسَوَاءٌ كان بِغَيْرِ عُذْرٍ أو بِعُذْرٍ
وَسَوَاءٌ كان عَمْدًا أو خَطَأً طَوْعًا أو كَرْهًا بَعْدَ أَنْ كان ذَاكِرًا
لِصَوْمِهِ لَا نَاسِيًا وَلَا في مَعْنَى النَّاسِي وَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ
وَإِنْ كان نَاسِيًا وهو قَوْلُ مَالِكٍ لِوُجُودِ ضِدِّ الرُّكْنِ حتى قال أبو
حَنِيفَةَ لَوْلَا قَوْلُ الناس لَقُلْتُ يَقْضِي أَيْ لَوْلَا قَوْلُ الناس أن
أَبَا حَنِيفَةَ خَالَفَ الْأَمْرَ لَقُلْتُ يَقْضِي لَكِنَّا تَرَكْنَا
الْقِيَاسَ بِالنَّصِّ وهو ما رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبي أَنَّهُ قال من
نَسِيَ وهو صَائِمٌ فَأَكَلَ أو شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فإن اللَّهَ عز وجل
أَطْعَمَهُ وَسَقَاهُ حَكَمَ بِبَقَاءِ صَوْمِهِ وَعَلَّلَ بِانْقِطَاعِ نِسْبَةِ
فِعْلِهِ عنه بِإِضَافَتِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِوُقُوعِهِ من غَيْرِ قَصْدِهِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال لَا قَضَاءَ على النَّاسِي لِلْأَثَرِ
الْمَرْوِيِّ عن النبي
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَقْضِيَ ذلك وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الْأَثَرِ أَوْلَى إذَا كان
صَحِيحًا وَحَدِيثٌ صَحَّحَهُ أبو حَنِيفَةَ لَا يَبْقَى لِأَحَدٍ فيه مَطْعَنٌ
وَكَذَا انْتَقَدَهُ أبو يُوسُفَ حَيْثُ قال وَلَيْسَ حَدِيثًا شَاذًّا نجترىء ( (
( نجترئ ) ) ) على رَدِّهِ وكان من صَيَارِفَةَ الحديث وَرُوِيَ عن عَلِيٍّ
وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ مَذْهَبِنَا
وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ في بَاب الصَّوْمِ مِمَّا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَلَا
يُمْكِنُ دَفْعُهُ إلَّا بِحَرَجٍ فَجُعِلَ عُذْرًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ
وَعَنْ عَطَاءٍ وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُمَا فَرَّقَا بين الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ
وَبَيْنَ الْجِمَاعِ نَاسِيًا فَقَالَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ في الْجِمَاعِ وَلَا
يَفْسُدُ في الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ في
الْكُلِّ لِفَوَاتِ رُكْنِ الصَّوْمِ في الْكُلِّ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا
الْقِيَاسَ بِالْخَبَرِ وَأَنَّهُ وَرَدَ في الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَبَقِيَ
الْجِمَاعُ على أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَإِنَّا نَقُولُ نعم الْحَدِيثُ وَرَدَ في الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَكِنَّهُ
مَعْلُولٌ بِمَعْنًى يُوجَدُ في الْكُلِّ وهو أَنَّهُ فِعْلٌ مُضَافٌ إلَى اللَّهِ
تَعَالَى على طَرِيقِ التمحيض ( ( ( التمحيص ) ) ) بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا
أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ قَطَعَ إضَافَتَهُ عن الْعَبْدِ لِوُقُوعِهِ فيه من
غَيْرِ قَصْدِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ في الْكُلِّ
وَالْعِلَّةُ إذَا كانت مَنْصُوصًا عليها كان الْحُكْمُ مَنْصُوصًا عليه
وَيَتَعَمَّمُ الْحُكْمُ بعموم ( ( ( بمعموم ) ) ) الْعِلَّةِ وَكَذَا مَعْنَى
الْحَرَجِ يُوجَدُ في الْكُلِّ
وَلَوْ أَكَلَ فَقِيلَ له إنَّك صَائِمٌ وهو لَا يَتَذَكَّرُ أَنَّهُ صَائِمٌ
ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذلك فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ
زُفَرَ وَالْحَسَنِ بن زِيَادٍ لَا قَضَاءَ عليه
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا تَذَكَّرَ أَنَّهُ كان صَائِمًا تَبَيَّنَ
أَنَّهُ أَكَلَ نَاسِيًا فلم يَفْسُدْ صَوْمُهُ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَكَلَ مُتَعَمِّدًا لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ ليس
بِصَائِمٍ فَيَبْطُلُ صَوْمُهُ وَلَوْ دخل الذُّبَابُ حَلْقَهُ لم يُفْطِرْهُ
لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عنه فَأَشْبَهَ النَّاسِيَ وَلَوْ
أَخَذَهُ فَأَكَلَهُ فَطَّرَهُ لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ أَكْلَهُ وَإِنْ لم يَكُنْ
مَأْكُولًا كما لو أَكَلَ التُّرَابَ وَلَوْ دخل الْغُبَارُ أو الدُّخَانُ أو
الرَّائِحَةُ في حلقه لم يُفْطِرْهُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لو ابْتَلَعَ الْبَلَلَ
الذي بَقِيَ بَعْدَ الْمَضْمَضَةِ في فَمِهِ مع الْبُزَاقِ أو ابْتَلَعَ
الْبُزَاقَ الذي اجْتَمَعَ في فَمِهِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ بَقِيَ بين
أَسْنَانِهِ شَيْءٌ فَابْتَلَعَهُ ذُكِرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا
يُفْسِدُ صَوْمَهُ وَإِنْ أَدْخَلَهُ حَلْقَهُ مُتَعَمِّدًا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ
أَنَّهُ إنْ تَعَمَّدَ عليه الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عليه وَوَفَّقَ ابن أبي
مَالِكٍ فقال إنْ كان مِقْدَارَ الْحِمَّصَةِ أو أَكْثَرَ يُفْسِدُ صَوْمَهُ
وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ كما قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى
وَقَوْلُ أبي يُوسُفَ مَحْمُولٌ عليه وَإِنْ كان دُونَ الْحِمَّصَةِ لَا يَفْسُدُ
صَوْمُهُ كما ذُكِرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْمَذْكُورُ فيه مَحْمُولٌ عليه
وهو الْأَصَحُّ
وَوَجْهُهُ أَنَّ ما دُونَ الْحِمَّصَةِ يَسِيرٌ يَبْقَى بين الْأَسْنَانِ عَادَةً
فَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه بِمَنْزِلَةِ الرِّيقِ فَيُشْبِهُ النَّاسِي
وَلَا كَذَلِكَ قَدْرُ الْحِمَّصَةِ فإن بَقَاءَهُ بين الْأَسْنَانِ غَيْرُ
مُعْتَادٍ فَيُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عنه فَلَا يُلْحَقُ بِالنَّاسِي وقال زُفَرُ
عليه الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أنه أَكَلَ ما هو مَأْكُولٌ في نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ
مُتَغَيِّرٌ فَأَشْبَهَ اللَّحْمَ الْمُنْتِنَ
وَلَنَا أَنَّهُ أَكَلَ ما لَا يُؤْكَلُ عَادَةً إذْ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْغِذَاءُ
وَلَا الدَّوَاءُ فَإِنْ تَثَاءَبَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ فَوَقَعَ في
حَلْقِهِ قَطْرَةُ مَطَرٍ أو مَاءٌ صُبَّ في مِيزَابٍ فَطَّرَهُ
____________________
(2/90)
لِأَنَّ
الِاحْتِرَازَ عنه مُمْكِنٌ وقد وَصَلَ الْمَاءُ إلَى جَوْفِهِ
وَلَوْ أُكْرِهَ على الْأَكْلِ أو الشُّرْبِ فَأَكَلَ أو شَرِبَ بِنَفْسِهِ
مُكْرَهًا وهو ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَفْسُدُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن هذا أَعْذَرُ من النَّاسِي لِأَنَّ النَّاسِيَ وُجِدَ منه
الْفِعْلُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا انْقَطَعَتْ نِسْبَتُهُ عنه شَرْعًا بِالنَّصِّ
وَهَذَا لم يُوجَدْ منه الْفِعْلُ أَصْلًا فَكَانَ أَعْذَرَ من النَّاسِي ثُمَّ لم
يَفْسُدْ صَوْمُ النَّاسِي فَهَذَا أَوْلَى
وَلَنَا أَنَّ مَعْنَى الرُّكْنِ قد فَاتَ لِوُصُولِ الْمُغَذِّي إلَى جَوْفِهِ
بِسَبَبٍ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه في الْجُمْلَةِ
فَلَا يَبْقَى الصَّوْمُ كما لو أَكَلَ أو شَرِبَ بِنَفْسِهِ مُكْرَهًا وَهَذَا
لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الصَّوْمِ مَعْنَاهُ وهو كَوْنُهُ وَسِيلَةً إلَى
الشُّكْرِ وَالتَّقْوَى وَقَهْرِ الطَّبْعِ الْبَاعِثِ على الْفَسَادِ على ما
بَيَّنَّا وَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ من ذلك إذَا وَصَلَ الْغِذَاءُ إلَى جَوْفِهِ
وَكَذَا النَّائِمَةُ الصَّائِمَةُ جَامَعَهَا زَوْجُهَا ولم تَنْتَبِهْ أو
الْمَجْنُونَةُ جَامَعَهَا زَوْجُهَا فَسَدَ صَوْمُهَا عِنْدنَا خِلَافًا لِزُفَرَ
وَالْكَلَامُ فيه على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا وَلَوْ تَمَضْمَضَ أو اسْتَنْشَقَ
فَسَبَقَ الْمَاءُ حَلْقَهُ وَدَخَلَ جَوْفَهُ فَإِنْ لم يَكُنْ ذَاكِرًا
لِصَوْمِهِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ لو شَرِبَ لم يَفْسُدْ فَهَذَا
أَوْلَى وَإِنْ كان ذَاكِرًا فَسَدَ صَوْمُهُ عِنْدَنَا
وقال ابن أبي لَيْلَى إنْ كان وضوؤه لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ لم يُفْسِدْ
وَإِنْ كان لِلتَّطَوُّعِ فَسَدَ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يُفْسِدُ أَيُّهُمَا كان
وقال بَعْضُهُمْ إنْ تَمَضْمَضَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَسَبَقَ الْمَاءُ حَلْقَهُ لم
يَفْسُدْ وَإِنْ زَادَ على الثَّلَاثِ فَسَدَ
وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ أبي لَيْلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ
فَرْضٌ فكان الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ من ضروروات ( ( ( ضرورات ) ) )
إكْمَالِ الْفَرْضِ فَكَانَ الْخَطَأُ فيها ( ( ( فيهما ) ) ) عُذْرًا بِخِلَافِ
صَلَاةِ التَّطَوُّعِ
وَجْهُ قَوْلِ من فَرَّقَ بين الثَّلَاثِ وما زَادَ عليه أَنَّ السُّنَّةَ
فِيهِمَا الثلاث ( ( ( والثلاث ) ) ) فَكَانَ الْخَطَأُ فِيهِمَا من ضروروات ( ( (
ضرورات ) ) ) إقَامَةِ السُّنَّةِ فَكَانَ عَفْوًا وَأَمَّا الزِّيَادَةُ على
الثَّلَاثِ فَمِنْ بَابِ الِاعْتِدَاءِ على ما قال النبي فَمَنْ زَادَ أو نَقَصَ
فَقَدْ تَعَدَّى وَظَلَمَ فلم يُعْذَرْ فيه وَالْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ على
نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في الْإِكْرَاهِ
يُؤَيِّدُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَاءَ لَا يَسْبِقُ الْحَلْقَ في الْمَضْمَضَةِ
وَالِاسْتِنْشَاقِ عَادَةً إلَّا عِنْدَ الْمُبَالَغَةِ فِيهِمَا وَالْمُبَالَغَةُ
مَكْرُوهَةٌ في حَقِّ الصَّائِمِ قال النبي لِلَقِيطِ بن صَبِرَةَ بَالِغْ في
الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا فَكَانَ في
الْمُبَالَغَةِ مُتَعَدِّيًا فلم يُعْذَرْ بِخِلَافِ النَّاسِي
وَلَوْ احْتَلَمَ في نَهَارِ رَمَضَانَ فَأَنْزَلَ لم يُفْطِرْهُ لِقَوْلِ النبي
ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ
وَلِأَنَّهُ لَا صُنْعَ له فيه فَيَكُونُ كَالنَّاسِي وَلَوْ نَظَرَ إلَى
امْرَأَةٍ وَتَفَكَّرَ فَأَنْزَلَ لم يُفْطِرْهُ
وقال مَالِكٌ إنْ تَتَابَعَ نَظَرُهُ فَطَّرَهُ لِأَنَّ التَّتَابُعَ في النَّظَرِ
كَالْمُبَاشَرَةِ
وَلَنَا أَنَّهُ لم يُوجَدْ الْجِمَاعُ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى لِعَدَمِ
الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّسَاءِ فَأَشْبَهَ الِاحْتِلَامَ بِخِلَافِ الْمُبَاشَرَةِ
وَلَوْ كان يَأْكُلُ أو يَشْرَبُ نَاسِيًا ثُمَّ تَذَكَّرَ فَأَلْقَى اللُّقْمَةَ
أو قَطَعَ الْمَاءَ أو كان يَتَسَحَّرُ فَطَلَعَ الْفَجْرُ وهو يَشْرَبُ الْمَاءَ
فَقَطَعَهُ أو يَأْكُلُ فَأَلْقَى اللُّقْمَةَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ لِعَدَمِ
الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بَعْدَ التَّذَكُّرِ وَالطُّلُوعِ وَلَوْ كان يُجَامِعُ
امْرَأَتَهُ في النَّهَارِ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ فَتَذَكَّرَ فَنَزَعَ من سَاعَتِهِ
أو كان يُجَامِعُ في اللَّيْلِ فَطَلَعَ الْفَجْرُ وهو مُخَالِطٌ فَنَزَعَ من
سَاعَتِهِ فَصَوْمُهُ تَامٌّ وقال زُفَرُ فَسَدَ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن جزأ من الْجِمَاعِ حَصَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
وَالتَّذَكُّرِ وأنه يَكْفِي لِفَسَادِ الصَّوْمِ لِوُجُودِ الْمُضَادَّةِ له
وَإِنْ قَلَّ
وَلَنَا أَنَّ الْمَوْجُودَ منه بَعْدَ الطُّلُوعِ وَالتَّذَكُّرِ هو النَّزْعُ
وَالنَّزْعُ تَرْكُ الْجِمَاعِ وَتَرْكُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ مُحَصِّلًا له بَلْ
يَكُونُ اشْتِغَالًا بِضِدِّهِ فلم يُوجَدْ منه الْجِمَاعُ بَعْدَ الطُّلُوعِ
وَالتَّذَكُّرِ رَأْسًا فَلَا يَفْسُدُ صَوْمَهُ وَلِهَذَا لم يَفْسُدْ في
الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَذَا في الْجِمَاعِ
وَهَذَا إذَا نَزَعَ بَعْدَ ما تَذَكَّرَ أو بَعْدَ ما طَلَعَ الْفَجْرُ فَأَمَّا
إذَا لم يَنْزِعْ وَبَقِيَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عليه في
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ فَرَّقَ بين الطُّلُوعِ
وَالتَّذَكُّرِ فقال في الطُّلُوعِ عليه الْكَفَّارَةُ وفي التَّذَكُّرِ لَا
كَفَّارَةَ عليه
وقال الشَّافِعِيُّ عليه الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ فِيهِمَا جميعا
وَجْهُ قَوْلِهِ أنه وُجِدَ الْجِمَاعُ في نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمَّدًا
لِوُجُودِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالتَّذَكُّرِ فَيُوجِبُ الْقَضَاءَ
وَالْكَفَّارَةَ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ وهو الْفَرْقُ بين الطُّلُوعِ وَالتَّذَكُّرِ أَنَّ
في الطُّلُوعِ ابْتِدَاءُ الْجِمَاعِ كان عَمْدًا وَالْجِمَاعُ جِمَاعٌ وَاحِدٌ
بِابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ وَالْجِمَاعُ الْعَمْدُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ
وَأَمَّا في التَّذَكُّرِ فَابْتِدَاءُ الْجِمَاعِ كان نَاسِيًا وَجِمَاعُ
النَّاسِي لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّوْمِ فَضْلًا عن وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِإِفْسَادِ
الصَّوْمِ وَإِفْسَادُ الصَّوْمِ يَكُونُ بَعْدَ وُجُودِهِ وَبَقَاؤُهُ في
الْجِمَاعِ يَمْنَعُ وُجُودَ الصَّوْمِ فإذا امْتَنَعَ وُجُودُهُ اسْتَحَالَ
الْإِفْسَادُ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ لِانْعِدَامِ
صَوْمِهِ الْيَوْمَ لَا لِإِفْسَادِهِ بَعْدَ وُجُودِهِ وَلِأَنَّ هذا جِمَاعٌ لم
يَتَعَلَّقْ بِابْتِدَائِهِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَقَاءِ
عليه لِأَنَّ الْكُلَّ فِعْلٌ وَاحِدٌ
____________________
(2/91)
وَلَهُ
شُبْهَةُ الِاتِّحَادِ وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مع الشُّبْهَةِ لِمَا
نَذْكُرُهُ
وَلَوْ أَصْبَحَ جُنُبًا في رَمَضَانَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ عِنْدَ عَامَّةِ
الصَّحَابَةِ مِثْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ وَأَبِي
الدَّرْدَاءِ وَأَبِي ذَرٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَمُعَاذِ بن جَبَلٍ
رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ
وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَا صَوْمَ له وَاحْتَجَّ بِمَا
رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال من أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ له وَرَبِّ
الْكَعْبَةِ قَالَهُ رَاوِي الحديث وَأَكَّدَهُ بِالْقَسَمِ
وَلِعَامَّةِ الصَّحَابَةِ قَوْله تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ
الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ } إلَى قَوْلِهِ { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا
ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ من الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ من الْفَجْرِ } أَحَلَّ اللَّهُ عز وجل
الْجِمَاعَ في لَيَالِي رَمَضَانَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وإذا كان الْجِمَاعُ في
آخِرِ اللَّيْلِ يبقى الرَّجُلَ جُنُبًا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَا مَحَالَةَ
فَدَلَّ أَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تَضُرُّ الصَّوْمَ
وَأَمَّا حَدِيثُ أبي هُرَيْرَةَ فَقَدْ رَدَّتْهُ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ
فقالت عَائِشَةُ كان رسول اللَّهِ يُصْبِحُ جُنُبًا من غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ
يُتِمُّ صَوْمَهُ ذلك من رَمَضَانَ
وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ كان رسول اللَّهِ يُصْبِحُ جُنُبًا من قِرَافٍ أَيْ
جِمَاعٍ مع أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَرَدَ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ
لو نَوَى الصَّائِمُ الْفِطْرَ ولم يُحْدِثْ شيئا آخَرَ سِوَى النِّيَّةِ
فَصَوْمُهُ تَامٌّ وقال الشَّافِعِيُّ بَطَلَ صَوْمُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الصَّوْمَ لَا بُدَّ له من النِّيَّةِ وقد نَقَضَ نِيَّةَ
الصَّوْمِ بِنِيَّةِ ضِدِّهِ وهو الْإِفْطَارُ فَبَطَلَ صَوْمُهُ لِبُطْلَانِ
شَرْطِهِ
وَلَنَا أَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ في أَحْكَامِ الشَّرْعِ ما
لم يَتَّصِلْ بِهِ الْفِعْلُ لِقَوْلِ النبي إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفَا عن أُمَّتِي
ما تَحَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ ما لم يَتَكَلَّمُوا أو يَفْعَلُوا وَنِيَّةُ
الْإِفْطَارِ لم يَتَّصِلْ به ( ( ( بها ) ) ) الْفِعْلُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ
ما نَقَضَ نِيَّةَ الصَّوْمِ بِنِيَّةِ الْفِطْرِ لِأَنَّ نِيَّةَ الصَّوْمِ
نِيَّةٌ اتَّصَلَ بها الْفِعْلُ فَلَا تَبْطُلُ بِنِيَّةٍ لم يَتَّصِلْ بها
الْفِعْلُ على أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ انْعِقَادِ الصَّوْمِ لَا شَرْطُ بَقَائِهِ
مُنْعَقِدًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَبْقَى مع النَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ
وَالْغَفْلَةِ
وولو ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لم يُفْطِرْهُ سَوَاءٌ كان أَقَلُّ من مِلْءِ الْفَمِ أو
كان مِلْءُ الْفَمِ لِقَوْلِ النبي ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ الْقَيْءُ
وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ
وَقَوْلُهُ من قَاءَ فَلَا قَضَاءَ عليه وَلِأَنَّ ذَرْعَ الْقَيْءِ مِمَّا لَا
يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه بَلْ يَأْتِيهِ على وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ
فَأَشْبَهَ النَّاسِيَ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَفْسُدَ الصَّوْمُ
بِالْقَيْءِ سَوَاءٌ ذَرَعَهُ أو تَقَيَّأَ لِأَنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ مُتَعَلِّقٌ
بِالدُّخُولِ شَرْعًا قال النبي الْفِطْرُ مِمَّا يَدْخُلُ وَالْوُضُوءُ مِمَّا
يَخْرُجُ عَلَّقَ كُلَّ جِنْسِ الْفِطْرِ بِكُلِّ ما يَدْخُلُ وَلَوْ حَصَلَ لَا
بِالدُّخُولِ لم يَكُنْ كُلُّ جِنْسِ الْفِطْرِ مُعَلَّقًا بِكُلِّ ما يَدْخُلُ
لِأَنَّ الْفِطْرَ الذي يَحْصُلُ بِمَا يَخْرُجُ لَا يَكُونُ ذلك الْفِطْرُ
حَاصِلًا بِمَا يَدْخُلُ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا
الْفَسَادَ بالاستيقاء ( ( ( بالاستقاء ) ) ) بِنَصٍّ آخَرَ وهو قَوْلُ النبي
وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَبَقِيَ الْحُكْمُ في الذَّرْعِ على
الْأَصْلِ وَلِأَنَّهُ لَا صُنْعَ له في الذَّرْعِ وهو سَبْقُ الْقَيْءِ بَلْ
يَحْصُلُ بِغَيْرِ قَصْدِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَالْإِنْسَانُ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا
لَا صُنْعَ له فيه فَلِهَذَا لَا يُؤَاخَذُ النَّاسِي بِفَسَادِ الصَّوْمِ فَكَذَا
هذا لِأَنَّ هذا في مَعْنَاهُ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ له فيه أَصْلًا
بِخِلَافِ النَّاسِي على ما مَرَّ
فَإِنْ عَادَ إلَى جَوْفِهِ فَإِنْ كان أَقَلَّ من مِلْءِ الْفَمِ لَا يُفْسِدُ
بِلَا خِلَافٍ
وَإِنْ كان مِلْءَ الْفَمِ فذكر الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ
أَنَّ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ يُفْسِدُ وفي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يُفْسِدُ وَذَكَرَ
الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ الِاخْتِلَافَ على الْعَكْسِ
فقال في قَوْلِ أبي يُوسُفَ لَا يُفْسِدُ وفي قَوْلِ مُحَمَّدِ يُفْسِدُ
وَجْهُ قَوْلِ من قال يُفْسِدُ أَنَّهُ وُجِدَ الْمُفْسِدُ وهو الدُّخُولُ في
الْجَوْفِ لِأَنَّ الْقَيْءَ مِلْءَ الْفَمِ له حُكْمُ الْخُرُوجِ بِدَلِيلِ
انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ وَالطَّهَارَةُ لَا تُنْتَقَضُ إلَّا بِخُرُوجِ
النَّجَاسَةِ فإذا عَادَ فَقَدْ وُجِدَ الدُّخُولُ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِ النبي
وَالْفِطْرُ مِمَّا يَدْخُلُ
وَجْهُ قَوْلِ من قال لَا يُفْسِدُ أَنَّ الْعَوْدَ ليس صُنْعَهُ بَلْ هو صُنْعُ
اللَّهِ تَعَالَى على طَرِيقِ التَّمَحُّضِ يَعْنِي بِهِ مَصْنُوعَهُ لَا صُنْعَ
لِلْعَبْدِ فيه رَأْسًا فَأَشْبَهَ ذَرْعَ الْقَيْءِ وأنه غَيْرُ مُفْسِدٍ كَذَا
عَوْدُ الْقَيْءِ فَإِنْ أَعَادَهُ فَإِنْ كان ملىء ( ( ( ملء ) ) ) الْفَمِ
فَسَدَ صَوْمُهُ بِالِاتِّفَاقِ لِوُجُودِ الْإِدْخَالِ مُتَعَمَّدًا لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْقَيْءِ مِلْءِ الْفَمِ حُكْمَ الْخُرُوجِ حتى يُوجِبَ
انْتِقَاضَ الطَّهَارَةِ فإذا أَعَادَهُ فَقَدْ أَدْخَلَهُ في الْجَوْفِ عن قَصْدٍ
فَيُوجِبُ فَسَادَ الصَّوْمِ وَإِنْ كان أَقَلَّ من مِلْءِ الْفَمِ فَفِي قَوْلِ
أبي يُوسُفَ لَا يُفْسِدُ وفي قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُفْسِدُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ وُجِدَ الدُّخُولُ إلَى الْجَوْفِ بِصُنْعِهِ
فَيُفْسِدُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الدُّخُولَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْخُرُوجِ
وَقَلِيلُ الْقَيْءِ ليس له حُكْمُ الْخُرُوجِ بِدَلِيلِ عَدَمِ انْتِقَاضِ
الطَّهَارَةِ بِهِ فلم يُوجَدْ الدُّخُولُ فَلَا يُفْسِدُ
هذا الذي ذَكَرْنَا كُلَّهُ إذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَأَمَّا إذَا اسْتَقَاءَ
فَإِنْ كان مِلْءَ الْفَمِ يُفْسِدُ صَوْمَهُ بِلَا خِلَافٍ لِقَوْلِ النبي
____________________
(2/92)
وَمَنْ
اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَإِنْ كان أَقَلَّ من مِلْءِ الْفَمِ لَا
يُفْسِدُ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُفْسِدُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ
النبي وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مُطْلَقًا من غَيْرِ فَصْلٍ بين
الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَفْسُدَ الصَّوْمُ
إلَّا بِالدُّخُولِ بِالنَّصِّ الذي رَوَيْنَا ولم يُوجَدْ هَهُنَا فَلَا يُفْسَدُ
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على الْكَثِيرِ تَوْفِيقًا بين الدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ
الْإِمْكَانِ
ثُمَّ كَثِيرُ الْمُسْتَقَاءِ لَا يَتَفَرَّعُ عليه الْعَوْدُ وَالْإِعَادَةُ
لِأَنَّ الصَّوْمَ قد فَسَدَ بِالِاسْتِقَاءِ وَكَذَا قَلِيلُهُ في قَوْلِ
مُحَمَّدٍ لِأَنَّ عِنْدَهُ فَسَدَ الصَّوْمُ بِنَفْسِ الِاسْتِقَاءِ وَإِنْ كان
قَلِيلًا وَأَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفَ فَإِنْ عَادَ لَا يُفْسِدُ وَإِنْ
أَعَادَهُ فَفِيهِ عن أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ يُفْسِدُ وفي
رِوَايَةٍ لَا يُفْسِدُ
وما وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ أو إلَى الدِّمَاغِ من الْمَخَارِقِ الْأَصْلِيَّةِ
كَالْأَنْفِ وَالْأُذُنِ وَالدُّبُرِ بِأَنْ اسْتَعَطَ أو احْتَقَنَ أو أَقْطَرَ
في أُذُنِهِ فَوَصَلَ إلَى الْجَوْفِ أو إلَى الدِّمَاغِ فَسَدَ صَوْمُهُ أَمَّا
إذَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ فَلَا شَكَّ فيه لِوُجُودِ الْأَكْلِ من حَيْثُ
الصُّورَةِ وَكَذَا إذَا وَصَلَ إلَى الدِّمَاغِ لأن له منفذا ( ( ( منفذ ) ) )
إلَى الْجَوْفِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ زَاوِيَةٍ من زَوَايَا الْجَوْفِ
وقد رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لِلَقِيطِ بن صَبِرَةَ بَالِغْ في الْمَضْمَضَةِ
وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْتِثْنَاءَهُ
حَالَةَ الصَّوْمِ لِلِاحْتِرَازِ عن فَسَادِ الصَّوْمِ وَإِلَّا لم يَكُنْ
لِلِاسْتِثْنَاءِ مَعْنًى
وَلَوْ وَصَلَ إلَى الرَّأْسِ ثُمَّ خَرَجَ لَا يُفْسِدُ بِأَنْ اسْتَعَطَ
بِاللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجَ بِالنَّهَارِ لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَلِمَ أَنَّهُ لم
يَصِلْ إلَى الْجَوْفِ أو لم يَسْتَقِرَّ فيه وَأَمَّا ما وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ
أو إلَى الدِّمَاغِ عن غَيْرِ الْمَخَارِقِ الْأَصْلِيَّةِ بِأَنْ دَاوَى
الْجَائِفَةَ وَالْآمَةَ فَإِنْ دَاوَاهَا بِدَوَاءٍ يَابِسٍ لَا يُفْسِدُ
لِأَنَّهُ لم يَصِلْ إلَى الْجَوْفِ وَلَا إلَى الدِّمَاغِ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ
وَصَلَ يُفْسِدُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ دَاوَاهَا بِدَوَاءٍ رَطْبٍ
يُفْسِدُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يُفْسِدُ هُمَا اعْتَبَرَا
الْمَخَارِقَ الْأَصْلِيَّةَ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى الْجَوْفِ من الْمَخَارِقِ
الْأَصْلِيَّةِ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَمِنْ غَيْرِهَا مَشْكُوكٌ فيه فَلَا نَحْكُمُ
بِالْفَسَادِ مع الشَّكِّ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أن الدَّوَاءَ إذَا كان رَطْبًا فَالظَّاهِرُ هو الْوُصُولُ
لِوُجُودِ الْمَنْفَذِ إلَى الْجَوْفِ فيبني الْحُكْمُ على الظَّاهِرِ وَأَمَّا
الْإِقْطَارُ في الْإِحْلِيلِ فَلَا يُفْسِدُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا يُفْسِدُ قِيلَ إنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ بِنَاءٌ على أَمْرٍ
خَفِيٍّ وهو كَيْفِيَّةُ خُرُوجِ الْبَوْلِ من الْإِحْلِيلِ فَعِنْدَهُمَا أَنَّ
خُرُوجَهُ منه لِأَنَّ له مَنْفَذًا فإذا قَطَرَ فيه يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ
كَالْإِقْطَارِ في الْأُذُنِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ خُرُوجَ الْبَوْلِ منه
من طَرِيقِ التَّرَشُّحِ كَتَرَشُّحِ الْمَاءِ من الْخَزَفِ الْجَدِيدِ فَلَا
يَصِلُ بِالْإِقْطَارِ فيه إلَى الْجَوْفِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَوْلَ يَخْرُجُ
منه خُرُوجَ الشَّيْءِ من مَنْفَذِهِ كما قَالَا
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا وَعَلَى هذه الرِّوَايَةِ
اعْتَمَدَ أُسْتَاذِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ
الطَّحَاوِيِّ وَقَوْلَ مُحَمَّدٍ مع أبي حَنِيفَةَ
وَأَمَّا الْإِقْطَارُ في قُبُلِ الْمَرْأَةِ فَقَدْ قال مَشَايِخُنَا أنه
يُفْسِدُ صَوْمَهَا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ لمسانتها ( ( ( لمثانتها ) ) )
مَنْفَذًا فَيَصِلُ إلَى الْجَوْفِ كَالْإِقْطَارِ في الْأُذُنِ وَلَوْ طُعِنَ
بِرُمْحٍ فَوَصَلَ إلَى جَوْفِهِ أو إلَى دِمَاغِهِ فَإِنْ أَخْرَجَهُ مع
النَّصْلِ لم يُفْسِدْ وَإِنْ بَقِيَ النَّصْلُ فيه يُفْسِدُ وَكَذَا قالوا
فِيمَنْ ابْتَلَعَ لَحْمًا مَرْبُوطًا على خَيْطٍ ثُمَّ انْتَزَعَهُ من سَاعَتِهِ
أنه لَا يُفْسِدُ وَإِنْ تَرَكَهُ فَسَدَ وَكَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في
الصَّائِمِ إذَا أَدْخَلَ خَشَبَةً في المقعد ( ( ( المقعدة ) ) ) أنه لَا
يُفْسِدُ صَوْمَهُ إلَّا إذَا غَابَ طرفا ( ( ( طرف ) ) ) الْخَشَبَةِ وَهَذَا
يَدُلُّ على أَنَّ اسْتِقْرَارَ الدَّاخِلِ في الْجَوْفِ شَرْطُ فَسَادِ الصَّوْمِ
وَلَوْ أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ في دُبُرِهِ قال بَعْضُهُمْ يُفْسِدُ صَوْمَهُ وقال
بَعْضُهُمْ لَا يُفْسِدُ وهو قَوْلُ الْفَقِيهِ أبي اللَّيْثِ لِأَنَّ الْأُصْبُعَ
لَيْسَتْ بِآلَةِ الْجِمَاعِ فَصَارَتْ كَالْخَشَبِ وَلَوْ اكْتَحَلَ الصَّائِمُ
لم يَفْسُدْ وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ في حَلْقِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال ابن أبي لَيْلَى يَفْسُدُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أنه لَمَّا وَجَدَ طَعْمَهُ في حَلْقِهِ فَقَدْ وَصَلَ إلَى
جَوْفِهِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ أَنَّهُ قال خَرَجَ عَلَيْنَا رسول
اللَّهِ في رَمَضَانَ وَعَيْنَاهُ مملوأتان ( ( ( مملوءتان ) ) ) كُحْلًا
كَحَّلَتْهُمَا أُمُّ سَلَمَةَ وَلِأَنَّهُ لَا مَنْفَذَ من الْعَيْنِ إلَى
الْجَوْفِ وَلَا إلَى الدِّمَاغِ وما وَجَدَ من طَعْمِهِ فَذَاكَ أَثَرُهُ لَا
عَيْنُهُ وَأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ كَالْغُبَارِ وَالدُّخَانِ وَكَذَا لو دَهَنَ
رَأْسَهُ أو أَعْضَاءَهُ فَتَشَرَّبَ فيه أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ لِأَنَّهُ وَصَلَ
إلَيْهِ الْأَثَرُ لَا الْعَيْنُ وَلَوْ أَكَلَ حَصَاةً أو نَوَاةً أو خَشَبًا أو
حَشِيشًا أو نحو ذلك مِمَّا لَا يُؤْكَلُ عَادَةً وَلَا يَحْصُلُ بِهِ قِوَامُ
الْبَدَنِ يَفْسُدُ صَوْمَهُ لِوُجُودِ الْأَكْلِ صُورَةً
وَلَوْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أو بَاشَرَهَا أو
قَبَّلَهَا أو لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ فَأَنْزَلَ يَفْسُدُ صَوْمَهُ وَعَلَيْهِ
الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عليه وَكَذَا إذَا فَعَلَ ذلك فَأَنْزَلَتْ
الْمَرْأَةُ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ من حَيْثُ الْمَعْنَى وهو قَضَاءُ الشَّهْوَةِ
بِفِعْلِهِ وهو الْمَسُّ بِخِلَافِ النَّظَرِ فإنه ليس بِجِمَاعٍ أَصْلًا
لِأَنَّهُ ليس بِقَضَاءٍ لِلشَّهْوَةِ بَلْ هو سَبَبٌ لِحُصُولِ الشَّهْوَةِ على
ما نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ إيَّاكُمْ وَالنَّظْرَةَ فَإِنَّهَا تَزْرَعُ في
الْقَلْبِ
____________________
(2/93)
الشَّهْوَةَ
وَلَوْ عَالَجَ ذَكَرَهُ فَأَمْنَى اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ لَا
يَفْسُدُ وقال بَعْضُهُمْ يَفْسُدُ وهو قَوْلُ مُحَمَّدِ بن سَلَمَةَ وَالْفَقِيهِ
أبي اللَّيْثِ لِوُجُودِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ بِفِعْلِهِ فَكَانَ جِمَاعًا من
حَيْثُ الْمَعْنَى وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ أَوْلَجَ ذَكَرَهُ في امْرَأَتِهِ قبل
الصُّبْحِ ثُمَّ خَشِيَ الصُّبْحَ فَانْتَزَعَ منها فَأَمْنَى بَعْدَ الصُّبْحِ
أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمَهُ وهو بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِلَامِ
وَلَوْ جَامَعَ بَهِيمَةً فَأَنْزَلَ فَسَدَ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا
كَفَّارَةَ عليه لِأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ الْجِمَاعُ صُورَةً وَمَعْنًى وهو
قَضَاءُ الشَّهْوَةِ لَكِنْ على سَبِيلِ القدور ( ( ( القصور ) ) ) لِسَعَةِ
الْمَحَلِّ وَلَوْ جَامَعَهَا ولم يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ
وَلَوْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ أو ( ( ( ونفست ) ) ) نفست بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
فَسَدَ صَوْمُهَا لِأَنَّ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ مُنَافِيَانِ لِلصَّوْمِ
لِمُنَافَاتِهِمَا أَهْلِيَّةَ الصَّوْمِ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ
بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
بِخِلَافِ ما إذَا جُنَّ إنْسَانٌ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أو أُغْمِيَ عليه وقد
كان نَوَى من اللَّيْلِ إنَّ صَوْمَهُ ذلك الْيَوْمَ جَائِزٌ لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّ الْجُنُونَ وَالْإِغْمَاءَ لَا يُنَافِيَانِ أَهْلِيَّةَ الْأَدَاءِ
وَإِنَّمَا يُنَافِيَانِ النِّيَّةَ بِخِلَافِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَاَللَّهُ
تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ فَسَادِ الصَّوْمِ فَفَسَادُ الصَّوْمِ يَتَعَلَّقُ بِهِ
أَحْكَامٌ بَعْضُهَا يَعُمُّ الصِّيَامَاتِ كُلَّهَا وَبَعْضُهَا يَخُصُّ
الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ أَمَّا الذي يَعُمُّ الْكُلَّ فَالْإِثْمُ إذَا
أَفْسَدَ بِغَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ عَمَلَهُ من غَيْرِ عُذْرٍ
وَإِبْطَالُ الْعَمَلِ من غَيْرِ عُذْرٍ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا
تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ }
وقال الشَّافِعِيُّ كَذَلِكَ إلَّا في صَوْمِ التَّطَوُّعِ بِنَاءً على أَنَّ
الشُّرُوعَ في التَّطَوُّعِ مُوجِبٌ لِلْإِتْمَامِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ ليس
بِمُوجِبٍ وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا في كِتَابِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كان
بِعُذْرٍ لَا يَأْثَمُ وإذا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ بِالْعُذْرِ فَلَا بُدَّ من
مَعْرِفَةِ الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلْإِثْمِ وَالْمُؤَاخِذَةِ
فَنُبَيِّنُهَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَقُولُ هِيَ الْمَرَضُ
وَالسَّفَرُ وَالْإِكْرَاهُ وَالْحَبَلُ وَالرَّضَاعُ وَالْجُوعُ وَالْعَطَشُ
وَكِبَرُ السِّنِّ لَكِنْ بَعْضُهَا مُرَخِّصٌ وَبَعْضُهَا مُبِيحٌ مُطْلَقٌ لَا
مُوجِبٌ كما فيه خَوْفُ زِيَادَةِ ضَرَرٍ دُونَ خَوْفِ الْهَلَاكِ فَهُوَ
مُرَخِّصٌ وما فيه خَوْفُ الْهَلَاكِ فَهُوَ مُبِيحٌ مُطْلَقٌ بَلْ مُوجِبٌ
فَنَذْكُرُ جُمْلَةَ ذلك فَنَقُولُ أَمَّا الْمَرَضُ فَالْمُرَخِّصُ منه هو الذي
يُخَافُ أَنْ يَزْدَادَ بِالصَّوْمِ وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ في
الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فإنه قال في رَجُلٍ خَافَ إنْ لم يُفْطِرْ تَزْدَادَ
عَيْنَاهُ وَجَعًا أو حُمَّاهُ شِدَّةً أَفْطَرَ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في
مُخْتَصَرِهِ إن الْمَرَضَ الذي يُبِيحُ الْإِفْطَارَ هو ما يُخَافُ منه الْمَوْتُ
أو زِيَادَةُ الْعِلَّةِ كَائِنًا ما كانت الْعِلَّةُ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كان بِحَالٍ يُبَاحُ له أَدَاءُ صَلَاةِ
الْفَرْضِ قَاعِدًا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُفْطِرَ وَالْمُبِيحُ الْمُطْلَقُ بَلْ
الْمُوجِبُ هو الذي يُخَافُ منه الْهَلَاكُ لِأَنَّ فيه إلْقَاءَ النَّفْسِ إلَى
التَّهْلُكَةِ لَا لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وهو الْوُجُوبُ
وَالْوُجُوبُ لَا يَبْقَى في هذه الْحَالَةِ وأنه حَرَامٌ فَكَانَ الْإِفْطَارُ
مُبَاحًا بَلْ وَاجِبًا
وَأَمَّا السَّفَرُ فَالْمُرَخِّصُ منه هو مُطْلَقُ السَّفَرِ الْمُقَدَّرِ
وَالْأَصْلُ فِيهِمَا قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على
سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ } أَيْ فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على
سَفَرٍ فَأَفْطَرَ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ
دَلَّ أَنَّ الْمَرَضَ وَالسَّفَرَ سَبَبَا الرُّخْصَةِ ثُمَّ السَّفَرُ
وَالْمَرَضُ وَإِنْ أَطْلَقَ ذِكْرَهُمَا في الْآيَةِ فَالْمُرَادُ مِنْهُمَا
الْمُقَيَّدُ لِأَنَّ مُطْلَقَ السَّفَرِ ليس بِسَبَبِ الرُّخْصَةِ لِأَنَّ
حَقِيقَةَ السَّفَرِ هو الْخُرُوجُ عن الْوَطَنِ أو الظُّهُورِ وَذَا يَحْصُلُ
بِالْخُرُوجِ إلَى الضَّيْعَةِ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الرُّخْصَةُ فَعُلِمَ أَنَّ
الْمُرَخِّصَ سَفَرٌ مُقَدَّرٌ بِتَقْدِيرٍ مَعْلُومٍ وهو الْخُرُوجُ عن الْوَطَنِ
على قَصْدِ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وقد مَضَى الْكَلَامُ في تَقْدِيرِهِ في
كِتَابِ الصَّلَاةِ
وَكَذَا مُطْلَقُ الْمَرَضِ ليس بِسَبَبٍ لِلرُّخْصَةِ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ
بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ لِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ بِالصَّوْمِ تَيْسِيرًا
لَهُمَا وَتَخْفِيفًا عَلَيْهِمَا على ما قال اللَّهُ تَعَالَى { يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } وَمِنْ الْأَمْرَاضِ ما
يَنْفَعُهُ الصَّوْمُ ويخففه ( ( ( ويخفه ) ) ) وَيَكُونُ الصَّوْمُ على
الْمَرِيضِ أَسْهَلَ من الْأَكْلِ بَلْ الْأَكْلُ يَضُرُّهُ وَيَشْتَدُّ عليه
وَمِنْ التَّعَبُّدِ التَّرَخُّصُ بِمَا يَسْهُلُ على الْمَرِيضِ تَحْصِيلُهُ
وَالتَّضْيِيقُ بِمَا يَشْتَدُّ عليه
وفي الْآيَةِ دَلَالَةُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ على من أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ
لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْقَضَاءُ على الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ مع أَنَّهُمَا
أَفْطَرَا بِسَبَبِ الْعُذْرِ الْمُبِيحِ لِلْإِفْطَارِ فَلَأَنْ يَجِبَ على
غَيْرِ ذِي الْعُذْرِ أَوْلَى
وَسَوَاءٌ كان السَّفَرُ سَفَرَ طَاعَةٍ أو مباح ( ( ( مباحا ) ) ) أو مَعْصِيَةٍ
عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ لَا يُفِيدُ الرُّخْصَةَ
وَالْمَسْأَلَةُ مَضَتْ في كِتَابِ الصَّلَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَسَوَاءٌ سَافَرَ قبل دُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ أو بَعْدَهُ إن له أَنْ
يَتَرَخَّصَ فَيُفْطِرُ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَعَنْ عَلِيِّ وَابْنِ
عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ إذَا أَهَلَّ في الْمِصْرِ ثُمَّ سَافَرَ لَا
يَجُوزُ له أَنْ يُفْطِرَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا اسْتَهَلَّ في الْحَضَرِ لَزِمَهُ صَوْمُ
الْإِقَامَةِ وهو صَوْمُ الشَّهْرِ حَتْمًا فَهُوَ بِالسَّفَرِ يُرِيدُ إسْقَاطَهُ
عن نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ ذلك كَالْيَوْمِ الذي سَافَرَ فيه أنه لَا يَجُوزُ له
أَنْ يُفْطِرَ فيه لِمَا بَيَّنَّا كَذَا هذا
وَلِعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ كان
مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ }
____________________
(2/94)
جَعَلَ
اللَّهُ مُطْلَقَ السَّفَرِ سَبَبَ الرُّخْصَةِ وَلِأَنَّ السَّفَرَ إنَّمَا كان
سَبَبَ الرُّخْصَةِ لِمَكَانِ الْمَشَقَّةِ وَإِنَّهَا تُوجَدُ في الْحَالَيْنِ
فَتَثْبُتُ الرُّخْصَةُ في الْحَالَيْنِ جميعا
وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ بِالْإِهْلَالِ في الْحَضَرِ لَزِمَهُ صَوْمُ
الْإِقَامَةِ فَنَقُولُ نعم إذَا أَقَامَ أَمَّا إذَا سَافَرَ يَلْزَمُهُ صَوْمُ
السَّفَرِ وهو أَنْ يَكُونَ فيه رُخْصَةُ الْإِفْطَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على سَفَرٍ } فَكَانَ ما قُلْنَاهُ عَمَلًا
بِالْآيَتَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى بِخِلَافِ الْيَوْمِ الذي سَافَرَ فيه لِأَنَّهُ
كان مُقِيمًا في أَوَّلِ الْيَوْمِ فَدَخَلَ تَحْتَ خِطَابِ الْمُقِيمِينَ في ذلك
الْيَوْمِ فَلَزِمَهُ إتْمَامُهُ حَتْمًا فَأَمَّا الْيَوْمُ الثَّانِي
وَالثَّالِثُ فَهُوَ مُسَافِرٌ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ خِطَابِ الْمُقِيمِينَ
وَلِأَنَّ من الْمَشَايِخِ من قال إنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ من كل يَوْمٍ سَبَبٌ
لِوُجُوبِ صَوْمِ ذلك الْيَوْمِ وهو كان مُقِيمًا في أَوَّلِ الْجُزْءِ فَكَانَ الْجُزْءُ
الْأَوَّلُ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَوْمِ الْإِقَامَةِ وَأَمَّا في الْيَوْمِ
الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَهُوَ مُسَافِرٌ فيه فَكَانَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ في
حَقِّهِ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَوْمِ السَّفَرِ فَيَثْبُتُ الْوُجُوبُ مع رُخْصَةِ
الْإِفْطَارِ
وَلَوْ لم يَتَرَخَّصْ الْمُسَافِرُ وَصَامَ رَمَضَانَ جَازَ صَوْمُهُ وَلَيْسَ
عليه الْقَضَاءُ في عِدَّةِ من أَيَّامٍ أُخَرَ وقال بَعْضُ الناس لَا يَجُوزُ
صَوْمُهُ في رَمَضَانَ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَحَكَى
الْقُدُورِيُّ فيه اخْتِلَافًا بين الصَّحَابَةِ فقال يَجُوزُ صَوْمُهُ في قَوْلِ
أَصْحَابِنَا وهو قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسِ وَعَائِشَةَ وَعُثْمَانَ بن أبي
الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَعِنْدَ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لَا
يَجُوزُ وَحُجَّةُ هذا الْقَوْلِ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ كان مِنْكُمْ
مَرِيضًا أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ } أَمَرَ الْمُسَافِرَ
بِالصَّوْمِ في أَيَّامٍ أُخَرَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ صَامَ في رَمَضَانَ أو لم
يَصُمْ إذْ الْإِفْطَارُ غَيْرُ مَذْكُورٍ في الْآيَةِ فَكَانَ هذا من اللَّهِ
تَعَالَى جَعَلَ وَقْتَ الصَّوْمِ في حَقِّ الْمُسَافِرِ أَيَّامًا أُخَرَ وإذا
صَامَ في رَمَضَانَ فَقَدْ صَامَ قبل وَقْتِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ في مَنْعِ
لُزُومِ الْقَضَاءِ
وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال من صَامَ في السَّفَرِ فَقَدْ عَصَى أَبَا
الْقَاسِمِ وَالْمَعْصِيَةُ مُضَادَّةٌ لِلْعِبَادَةِ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال
الصَّائِمُ في السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ في الْحَضَرِ فَقَدْ حَقَّقَ له حُكْمَ
الْإِفْطَارِ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَامَ في السَّفَرِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ أَفْطَرَ وكذا رُوِيَ عن الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ صَامُوا في
السَّفَرِ وَرُوِيَ أَنَّهُمْ أَفْطَرُوا حتى رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رضي اللَّهُ
عنه أَهَلَّ هِلَالُ رَمَضَانَ وهو يَسِيرُ إلَى نَهْرَوَانَ فَأَصْبَحَ صَائِمًا
وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمَرَضَ وَالسَّفَرَ من الْأَعْذَارِ
الْمُرَخِّصَةِ لِلْإِفْطَارِ تَيْسِيرًا وَتَخْفِيفًا على أَرْبَابِهَا
وَتَوْسِيعًا عليهم قال اللَّهُ تَعَالَى { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ
وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } فَلَوْ تَحَتَّمَ عليهم الصَّوْمُ في غَيْرِ
السَّفَرِ وَلَا يَجُوزُ في السَّفَرِ لَكَانَ فيه تَعْسِيرٌ وَتَضْيِيقٌ عليهم
وَهَذَا يُضَادُّ مَوْضُوعَ الرُّخْصَةِ وَيُنَافِي مَعْنَى التَّيْسِيرِ
فَيُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ في وَضْعِ الشَّرْعِ تَعَالَى اللَّهُ عن ذلك
وَلِأَنَّ السَّفَرَ لَمَّا كان سَبَبَ الرُّخْصَةِ فَلَوْ وَجَبَ الْقَضَاءُ مع
وُجُودِ الْأَدَاءِ لَصَارَ ما هو سَبَبُ الرُّخْصَةِ سَبَبَ زِيَادَةِ فَرْضٍ لم
يَكُنْ في حَقِّ غَيْرِ صَاحِبِ الْعُذْرِ وهو الْقَضَاءُ مع وُجُودِ الْأَدَاءِ
فَيَتَنَاقَضُ وَلِأَنَّ جَوَازَ الصَّوْمِ لِلْمُسَافِرِ في رَمَضَانَ مُجْمَعٌ
عليه فإن التَّابِعِينَ أَجْمَعُوا عليه بَعْدَ وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فيه بين
الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْخِلَافُ في الْعَصْرِ الْأَوَّلِ لَا
يُمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ في الْعَصْرِ الثَّانِي بَلْ الْإِجْمَاعُ الْمُتَأَخِّرُ
يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ عِنْدَنَا على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِفْطَارَ مُضْمَرٌ في الْآيَةِ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ
أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَتَقْدِيرُهَا فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على سَفَرٍ
فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى ذلك يَجْرِي ذِكْرُ الرُّخْصِ
على أَنَّهُ ذِكْرُ الْحَظْرِ في الْقُرْآنِ قال اللَّهُ تَعَالَى { حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } إلَى قَوْله تَعَالَى {
فَمَنْ اُضْطُرَّ غير بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عليه } أَيْ من اُضْطُرَّ
فَأَكَلَ لِأَنَّهُ لَا إثْمَ يَلْحَقُهُ بِنَفْسِ الِاضْطِرَارِ وقال تَعَالَى {
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فما اسْتَيْسَرَ
من الْهَدْيِ } أَيْ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَأَحْلَلْتُمْ فما اسْتَيْسَرَ من
الْهَدْيِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ على النُّسُكِ من الْحَجِّ ما لم يُوجَدْ
الْإِحْلَالُ وقال اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رؤوسكم حتى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو بِهِ أَذًى من رَأْسِهِ
فَفِدْيَةٌ من صِيَامٍ } أَيْ فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو بِهِ أَذًى من
رَأْسِهِ فَحَلَقَ وَدَفَعَ الْأَذَى عن رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ من صِيَامٍ
وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ في الْقُرْآنِ
وَالْحَدِيثَانِ مَحْمُولَانِ على ما إذَا كان الصَّوْمُ يُجْهِدُهُ وبضعفه ( ( (
ويضعفه ) ) ) فإذا لم يُفْطِرْ في السَّفَرِ في هذه الْحَالَةِ صَارَ كَاَلَّذِي
أَفْطَرَ في الْحَضَرِ لِأَنَّهُ يَجِبُ عليه الْإِفْطَارُ في هذه الْحَالَةِ
لِمَا في الصَّوْمِ
____________________
(2/95)
في
هذه الْحَالَةِ من إلْقَاءِ النَّفْسِ إلَى التَّهْلُكَةِ وَأَنَّهُ حَرَامٌ
ثُمَّ الصَّوْمُ في السَّفَرِ من الْإِفْطَارِ عِنْدَنَا إذَا لم يُجْهِدْهُ
الصَّوْمُ ولم يُضْعِفْهُ
وقال الشَّافِعِيُّ الْإِفْطَارُ أَفْضَلُ بِنَاءً على أَنَّ الصَّوْمَ في
السَّفَرِ عِنْدَنَا عَزِيمَةٌ وَالْإِفْطَارَ رُخْصَةٌ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ على الْعَكْسِ من ذلك
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ فقال رُوِيَ عن
حُذَيْفَةَ وَعَائِشَةَ وَعُرْوَةَ بن الزُّبَيْرِ مِثْلُ مَذْهَبِنَا وَرُوِيَ عن
ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما مِثْلُ مَذْهَبِهِ وَاحْتُجَّ بِمَا رَوَيْنَا
من الْحَدِيثَيْنِ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ
الصِّيَامُ كما كُتِبَ على الَّذِينَ من قَبْلِكُمْ } إلَى قَوْله تَعَالَى {
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ }
وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ
الصِّيَامَ مَكْتُوبٌ على المؤمنون ( ( ( المؤمنين ) ) ) عَامًّا أَيْ مَفْرُوضٌ
إذْ الْكِتَابَةُ هِيَ الْفَرْضُ لُغَةً
وَالثَّانِي أَنَّهُ أَمَرَ بِالْقَضَاءِ عِنْدَ الْإِفْطَارِ بِقَوْلِهِ عز وجل {
فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ }
وَالْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ عِنْدَ الْإِفْطَارِ دَلِيلُ الْفَرْضِيَّةِ من
وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ في الْآدَابِ وَإِنَّمَا
يَجِبُ في الْفَرَائِضِ
وَالثَّانِي أَنَّ الْقَضَاءَ بَدَلٌ عن الْأَدَاءِ فَيَدُلُّ على وُجُوبِ
الْأَصْلِ
وَالثَّالِثُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَّ عَلَيْنَا بِإِبَاحَةِ الْإِفْطَارِ
بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ
الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } أَيْ يُرِيدُ الْإِذْنَ لَكُمْ
بِالْإِفْطَارِ لِلْعُذْرِ وَلَوْ لم يَكُنْ الصَّوْمُ فَرْضًا لم يَكُنْ
لِلِامْتِنَانِ بِإِبَاحَةِ الْفِطْرِ مَعْنًى لِأَنَّ الْفِطْرَ مُبَاحٌ في
صَوْمِ النَّفْلِ بِالِامْتِنَاعِ عنه
وَالرَّابِعُ أَنَّهُ قال { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } شَرَطَ إكْمَالَ
الْعِدَّةِ في الْقَضَاءِ وهو دَلِيلُ لُزُومِ حِفْظِ الْمَتْرُوكِ لِئَلَّا
يَدْخُلَ التَّقْصِيرُ في الْقَضَاءِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذلك في الْفَرَائِضِ
وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال من كانت له حَمُولَةٌ تَأْوِي إلَى سبع ( ( ( شبع )
) ) فَلْيَصُمْ رَمَضَانَ حَيْثُ أَدْرَكَهُ أَمَرَ الْمُسَافِرَ بِصَوْمِ
رَمَضَانَ إذَا لم يُجْهِدْهُ الصَّوْمُ
فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فَرْضٌ على الْمُسَافِرِ
إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ له الْإِفْطَارُ وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ في سُقُوطِ
الْمَأْثَمِ لَا في سُقُوطِ الْوُجُوبِ فَكَانَ وُجُوبُ الصَّوْمِ عليه هو
الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ وهو مَعْنَى الْعَزِيمَةِ
وَرُوِيَ عن أَنَسٍ رضي اللَّهُ عنه عن النبي أَنَّهُ قال الْمُسَافِرُ إنْ
أَفْطَرَ فَرُخْصَةٌ وَإِنْ يَصُمْ فَهُوَ أَفْضَلُ وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ لَا
يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وما ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ في هذه الْمَسْأَلَةِ
حُجَّةٌ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا تَدُلُّ على وُجُوبِ الصَّوْمِ على
الْمُسَافِرِ في رَمَضَانَ وما لَا يُعْتَدُّ بِهِ لَا يَجِبُ
وَالْجَوَابُ عن تَعَلُّقِهِ بِالْحَدِيثَيْنِ ما ذَكَرْنَاهُ في الْمَسْأَلَةِ
الْأُولَى أَنَّهُمَا يُحْمَلَانِ على حَالِ خَوْفِ التَّلَفِ على نَفْسِهِ لو
صَامَ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ أَجْمَعَ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَهَذَا الذي
ذَكَرْنَا من وُجُوبِ الصَّوْمِ على الْمُسَافِرِ في رَمَضَانَ قَوْلُ عَامَّةِ
مَشَايِخِنَا
وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا وُجُوبَ على الْمُسَافِرِ في رَمَضَانَ وَالْإِفْطَارُ
مُبَاحٌ مطلقا ( ( ( مطلق ) ) ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا عليه
وَمَعْنَى الرُّخْصَةِ وهو التَّيْسِيرُ وَالسُّهُولَةُ في الْإِبَاحَةِ
الْمُطْلَقَةِ أَكْمَلُ لِمَا فيه من سُقُوطِ الْحَظْرِ وَالْمُؤَاخَذَةِ جميعا
إلَّا أَنَّهُ إذَا تَرَكَ التَّرَخُّصَ وَاشْتَغَلَ بِالْعَزِيمَةِ يَعُودُ
حُكْمُ الْعَزِيمَةِ
لَكِنْ مع هذا الصَّوْمُ في حَقِّهِ أَفْضَلُ من الْإِفْطَارِ لِمَا رَوَيْنَا من
حديث أَنَسٍ رضي اللَّهُ عنه وَأَمَّا الْمُبِيحُ الْمُطْلَقُ من السَّفَرِ فما
فيه خَوْفُ الْهَلَاكِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارُ في مِثْلِهِ وَاجِبٌ
فَضْلًا عن الْإِبَاحَةِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْمَرَضِ
وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ على إفْطَارِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِالْقَتْلِ في حَقِّ
الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ فَمُرَخَّصٌ وَالصَّوْمُ أَفْضَلُ حتى لو امْتَنَعَ من
الْإِفْطَارِ حتى قُتِلَ يُثَابُ عليه لِأَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ حَالَةَ
الْإِكْرَاهِ وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ في الْإِكْرَاهِ في سُقُوطِ الْمَأْثَمِ
بِالتَّرْكِ لَا في سُقُوطِ الْوُجُوبِ بَلْ بَقِيَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا
وَالتَّرْكُ حَرَامًا وإذا كان الصَّوْمُ وَاجِبًا حَالَةَ الْإِكْرَاهِ
وَالْإِفْطَارُ حَرَامًا كان حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى قَائِمًا فَهُوَ
بِالِامْتِنَاعِ بَذَلَ نَفْسَهُ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى طَلَبًا
لِمَرْضَاتِهِ فَكَانَ مُجَاهِدًا في دِينِهِ فَيُثَابُ عليه
وَأَمَّا في حَقِّ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فَالْإِكْرَاهُ مُبِيحٌ مُطْلَقٌ في
حَقِّهِمَا بَلْ مُوجِبٌ وَالْأَفْضَلُ هو الْإِفْطَارُ بَلْ يَجِبُ عليه ذلك
وَلَا يَسَعُهُ أَنْ لَا يُفْطِرَ حتى لو امْتَنَعَ من ذلك فَقُتِلَ يَأْثَمُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ في الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ الْوُجُوبُ كان ثَابِتًا قبل
الْإِكْرَاهِ من غَيْرِ رُخْصَةِ التَّرْكِ أَصْلًا فإذا جاء الإكراه ( ( (
بالإكراه ) ) ) وإنه من أَسْبَابِ الرُّخْصَةِ فَكَانَ أَثَرُهُ في إثْبَاتِ
رُخْصَةِ التَّرْكِ لَا في إسْقَاطِ الْوُجُوبِ فَكَانَ الْوُجُوبُ قَائِمًا
فَكَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى قَائِمًا فَكَانَ بِالِامْتِنَاعِ بَاذِلًا
نَفْسَهُ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ أَفْضَلَ كما في الْإِكْرَاهِ
على إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَالْإِكْرَاهِ على إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ
فَأَمَّا في الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فَالْوُجُوبُ مع رُخْصَةِ التَّرْكِ كان
ثَابِتًا قبل الْإِكْرَاهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِلْإِكْرَاهِ أَثَرٌ آخَرُ
لم يَكُنْ ثَابِتًا قَبْلَهُ وَلَيْسَ ذلك إلَّا إسْقَاطَ الْوُجُوبِ رَأْسًا
وَإِثْبَاتَ الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْإِكْرَاهِ على
أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَهُنَاكَ يُبَاحُ له الْأَكْلُ بَلْ يَجِبُ عليه
كَذَا هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا حَبَلُ الْمَرْأَةِ وَإِرْضَاعُهَا إذَا خَافَتَا الضَّرَرَ
بِوَلَدِهِمَا فَمُرَخَّصٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو
على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ } وقد بَيَّنَّا
____________________
(2/96)
أَنَّهُ
ليس الْمُرَادُ عَيْنَ الْمَرَضِ فإن الْمَرِيضَ الذي لَا يَضُرُّهُ الصَّوْمُ ليس
له أَنْ يُفْطِرَ فَكَانَ ذِكْرُ الْمَرَضِ كِنَايَةً عن أَمْرٍ يَضُرُّ الصَّوْمُ
معه وقد وُجِدَ هَهُنَا فَيَدْخُلَانِ تَحْتَ رُخْصَةِ الْإِفْطَارِ
وقد رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال يُفْطِرُ الْمَرِيضُ وَالْحُبْلَى إذَا خَافَتْ
أَنْ تَضَعَ وَلَدَهَا وَالْمُرْضِعُ إذَا خَافَتْ الْفَسَادَ على وَلَدِهَا
وقد رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عن الْمُسَافِرِ شَطْرَ
الصَّلَاةِ وَعَنْ الْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ الصِّيَامَ وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ
وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَالْفِدْيَةُ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ من
حِنْطَةٍ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَرُوِيَ
عن عَلِيٍّ من الصَّحَابَةِ وَالْحَسَنِ من التَّابِعِينَ أَنَّهُمَا يَقْضِيَانِ
وَلَا يَفْدِيَانِ وَبِهِ أَخَذَ أَصْحَابُنَا
وَرُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ من الصَّحَابَةِ وَمُجَاهِدٍ من التَّابِعِينَ أنهما
يَقْضِيَانِ وَيَفْدِيَانِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ }
وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ يُطِيقَانِ الصَّوْمَ فَدَخَلَتَا تَحْتَ الْآيَةِ
فَتَجِبُ عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا } الْآيَةُ أَوْجَبَ على
الْمَرِيضِ الْقَضَاءَ فَمَنْ ضَمَّ إلَيْهِ الْفِدْيَةَ فَقَدْ زَادَ على
النَّصِّ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لم يُوجِبْ غَيْرَهُ
دَلَّ أَنَّهُ كُلُّ حُكْمٍ الحادثة ( ( ( لحادثة ) ) ) لِأَنَّ تَأْخِيرَ
الْبَيَانِ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ
وقد ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ من الْمَرَضِ الْمَذْكُورِ ليس صُورَةَ الْمَرَضِ
بَلْ مَعْنَاهُ وقد وُجِدَ في الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ إذَا خَافَتَا على
وَلَدِهِمَا فَيَدْخُلَانِ تَحْتَ الْآيَةِ فَكَانَ تَقْدِيرُ قَوْله تَعَالَى {
فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا } فَمَنْ كان مِنْكُمْ بِهِ مَعْنًى يَضُرُّهُ
الصَّوْمُ { أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ }
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } فَقَدْ قِيلَ في
بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ أن لَا مُضْمَرَةٌ في الْآيَةِ مَعْنَاهُ وَعَلَى
الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ وأنه جَائِزٌ في اللُّغَةِ قال اللَّهُ تَعَالَى {
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا } أَيْ لَا تَضِلُّوا وفي بَعْضِ القراآت
( ( ( القراءات ) ) ) { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } على أَنَّهُ لَا حُجَّةَ
له في الْآيَةِ لِأَنَّ فيها شَرْعُ الْفِدَاءِ مع الصَّوْمِ على سَبِيلِ
التَّخْيِيرِ دُونَ الْجَمْعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ
لَكُمْ } وقد نُسِخَ ذلك بِوُجُوبِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتْمًا بِقَوْلِهِ
تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وَعِنْدَهُ يَجِبُ
الصَّوْمُ وَالْفِدَاءُ جميعا دَلَّ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ له فيها وَلِأَنَّ
الْفِدْيَةَ لو وَجَبَتْ إنَّمَا تَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ وَمَعْنَى الْجَبْرِ
يَحْصُلُ بِالْقَضَاءِ وَلِهَذَا لم تَجِبْ على الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ
وَأَمَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ الشَّدِيدُ الذي يُخَافُ منه الْهَلَاكُ فَمُبِيحٌ
مُطْلَقٌ بِمَنْزِلَةِ الْمَرَضِ الذي يُخَافُ منه الْهَلَاكُ بِسَبَبِ الصَّوْمِ
لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَا كِبَرُ السِّنِّ حتى يُبَاحَ لِلشَّيْخِ الْفَانِي أَنْ
يُفْطِرَ في شَهْرِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عن الصَّوْمِ وَعَلَيْهِ
الْفِدْيَةُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ لَا فِدْيَةَ عليه
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ على الْمُطِيقِ
لِلصَّوْمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ
طَعَامُ مِسْكِينٍ } وهو لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ فَلَا تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ وما
قَالَهُ مَالِكٌ خِلَافُ إجْمَاعِ السَّلَفِ فإن أَصْحَابَ رسول اللَّهِ
أَوْجَبُوا الْفِدْيَةَ على الشَّيْخِ الْفَانِي فَكَانَ ذلك إجْمَاعًا منهم
على أَنَّ الْمُرَادَ من الْآيَةِ الشَّيْخُ الْفَانِي إمَّا على إضْمَارِ حَرْفِ
{ لَا } في الْآيَةِ على ما بَيَّنَّا وَإِمَّا على إضْمَارِ { كَانُوا } أَيْ
وَعَلَى الَّذِينَ كَانُوا يُطِيقُونَهُ أَيْ الصَّوْمَ ثُمَّ عَجَزُوا عنه
فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلِأَنَّ الصَّوْمَ لَمَّا فَاتَهُ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى الْجَابِرِ
وَتَعَذَّرَ جَبْرُهُ بِالصَّوْمِ فَيُجْبَرُ بِالْفِدْيَةِ وَتُجْعَلُ
الْفِدْيَةُ مِثْلًا لِلصَّوْمِ شَرْعًا في هذه الْحَالَةِ لِلضَّرُورَةِ
كَالْقِيمَةِ في ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ
وَمِقْدَارُ الْفِدْيَةِ مِقْدَارُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وهو أَنْ يُطْعِمَ عن كل
يَوْمٍ مِسْكِينًا مِقْدَارَ ما يُطْعِمُ في صَدَقَةِ الْفِطْرِ وقد ذَكَرْنَا ذلك
في صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فيه
ثُمَّ هذه الْأَعْذَارُ كما تُرَخِّصُ أو تُبِيحُ الْفِطْرَ في شَهْرِ رَمَضَانَ
تُرَخِّصُ أو تُبِيحُ في الْمَنْذُورِ في وَقْتٍ بِعَيْنِهِ حتى لو جاء وَقْتُ
الصَّوْمِ وهو مَرِيضٌ مَرَضًا لَا يَسْتَطِيعُ معه الصَّوْمَ أو يَسْتَطِيعُ مع
ضَرَرٍ أَفْطَرَ وَقَضَى وَأَمَّا الذي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ
فَأَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ فَيَتَعَلَّقُ بِفَسَادِهِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا
وُجُوبُ الْقَضَاءِ
وَالثَّانِي وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ أَمَّا وُجُوبُ الْقَضَاءِ فإنه يَثْبُتُ
بِمُطْلَقِ الْإِفْسَادِ سَوَاءٌ كان صُورَةً وَمَعْنًى أو صُورَةً لَا مَعْنًى أو
مَعْنًى لَا صُورَةً وَسَوَاءٌ كان عَمْدًا أو خَطَأً وَسَوَاءٌ كان بِعُذْرٍ أو
بِغَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ فَيَسْتَدْعِي
فَوَاتَ الصَّوْمِ لَا غير وَالْفَوَاتُ يَحْصُلُ بِمُطْلَقِ الْإِفْسَادِ
فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْجَبْرِ بِالْقَضَاءِ لِيَقُومَ مَقَامَ الْفَائِتِ
فَيَنْجَبِرُ الْفَوَاتُ مَعْنًى
وَأَمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَيَتَعَلَّقُ بِإِفْسَادٍ مَخْصُوصٍ وهو
الْإِفْطَارُ الْكَامِلُ بِوُجُودِ الْأَكْلِ أو الشُّرْبِ أو الْجِمَاعِ صُورَةً
وَمَعْنًى مُتَعَمِّدًا من غَيْرِ عُذْرٍ
____________________
(2/97)
مُبِيحٍ
ولامرخص وَلَا شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ وَنَعْنِي بِصُورَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ
وَمَعْنَاهُمَا إيصَالَ ما يُقْصَدُ بِهِ التَّغَذِّي أو التَّدَاوِي إلَى
جَوْفِهِ من الْفَمِ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ قَضَاءُ شَهْوَةِ الْبَطْنِ على
سَبِيلِ الْكَمَالِ وَنَعْنِي بِصُورَةِ الْجِمَاعِ وَمَعْنَاهُ إيلَاجَ الْفَرْجِ
في الْقُبُلِ لِأَنَّ كَمَالَ قَضَاءِ شَهْوَةِ الْفَرْجِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ
وَلَا خِلَافَ في وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ على الرَّجُلِ بِالْجِمَاعِ وَالْأَصْلُ
فيه حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ وهو ما رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جاء إلَى رسول
اللَّهِ وقال يا رَسُولَ اللَّه هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ فقال مَاذَا صَنَعْتَ قال
وَاقَعْتُ امْرَأَتِي في نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا وأنا صَائِمٌ فقال
أَعْتِقْ رَقَبَةً
وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قال له من غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا سَفَرٍ قال نعم فقال
أَعْتِقْ رَقَبَةً
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَكَذَلِكَ يَجِبُ عليها عِنْدَنَا إذَا كانت مُطَاوِعَةً
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ في قَوْلٍ لَا يَجِبُ عليها أَصْلًا وفي قَوْلٍ يَجِبُ
عليها وَيَتَحَمَّلُهَا الرَّجُلُ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أن وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ عُرِفَ نَصًّا بِخِلَافِ
الْقِيَاسِ لِمَا نَذْكُرُ وَالنَّصُّ وَرَدَ في الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ
وَكَذَا وَرَدَ بِالْوُجُوبِ بِالْوَطْءِ وَأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ من
الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا مَوْطُوءَةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاطِئَةٍ فَبَقِيَ الْحُكْمُ
فيها على أَصْلِ الْقِيَاسِ
وجه ( ( ( ووجه ) ) ) قَوْلِهِ الثَّانِي أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ
عليها بِسَبَبِ فِعْلِ الرَّجُلِ فَوَجَبَ عليه التَّحَمُّلُ كَثَمَنِ مَاءِ
الِاغْتِسَالِ
وَلَنَا أَنَّ النَّصَّ وَإِنْ وَرَدَ في الرَّجُلِ لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ بِمَعْنًى
يُوجَدُ فِيهِمَا وهو إفْسَادُ صَوْمِ رَمَضَانَ بِإِفْطَارٍ كَامِلٍ حَرَامٍ
مَحْضٍ مُتَعَمِّدًا فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ عليها بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَبِهِ
تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى التَّحَمُّلِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا
وَجَبَتْ عليها بِفِعْلِهَا وهو إفْسَادُ الصَّوْمِ
وَيَجِبُ مع الْكَفَّارَةِ الْقَضَاءُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال الْأَوْزَاعِيِّ إنْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ فَلَا قَضَاءَ عليه وَزَعَمَ أَنَّ
الصَّوْمَيْنِ يَتَدَاخَلَانِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ صَوْمَ
الشَّهْرَيْنِ يَجِبُ تَكْفِيرًا زَجْرًا عن جِنَايَةٍ الْإِفْسَادِ أو رَفْعًا
لِذَنْبِ الْإِفْسَادِ وَصَوْمُ الْقَضَاءِ يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ فَكُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا شُرِعَ لِغَيْرِ ما شُرِعَ له الْآخَرُ فَلَا يَسْقُطُ صَوْمُ
الْقَضَاءِ بِصَوْمِ شَهْرَيْنِ كما لَا يَسْقُطُ بِالْإِعْتَاقِ
وقد رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ النبي أَمَرَ الذي وَاقَعَ امْرَأَتَهُ أَنْ
يَصُومَ يَوْمًا
وَلَوْ جَامَعَ في الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ في قَوْلِ
أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ فَلَأَنْ تَجِبَ بِهِ
الْكَفَّارَةُ أَوْلَى وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ رَوَى الْحَسَنُ عنه
أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عليه وَرَوَى أبو يُوسُفَ عنه إذَا تَوَارَتْ الْحَشَفَةُ
وَجَبَ الْغُسْلُ أَنْزَلَ أو لم يُنْزِلْ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ فَلَا
يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
شُرِعَ لِلزَّجْرِ وَالْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَهَذَا
يَنْدُرُ وَلِأَنَّ الْمَحَلَّ مَكْرُوهٌ فَأَشْبَهَ وَطْءَ الْمَيْتَةِ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ يَعْتَمِدُ إفْسَادَ
الصَّوْمِ بِإِفْطَارٍ كَامِلٍ وقد وُجِدَ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى
وَلَوْ أَكَلَ أو شَرِبَ ما يَصْلُحُ بِهِ الْبَدَنُ إما على وَجْهِ التَّغَذِّي
أو التَّدَاوِي مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا كَفَّارَةَ عليه
وَجْهُ قَوْلِهِ أن وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عن الْقِيَاسِ
لا لِأَنَّ وُجُوبَهَا لِرَفْعِ الذَّنْبِ وَالتَّوْبَةُ كَافِيَةٌ لِرَفْعِ
الذَّنْبِ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ من بَابِ الْمَقَادِيرِ وَالْقِيَاسُ يَهْتَدِي
إلَى تَعْيِينِ الْمَقَادِيرِ وَإِنَّمَا عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ
وَرَدَ في الْجِمَاعِ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ لَيْسَا في مَعْنَاهُ لِأَنَّ
الْجِمَاعَ أَشَدُّ حُرْمَةً مِنْهُمَا حتى يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ
دُونَهُمَا فَالنَّصُّ الْوَارِدُ في الْجِمَاعِ لَا يَكُونُ وَارِدًا في
الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَيُقْتَصَرُ على مَوْرِدِ النَّصِّ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال من أَفْطَرَ في رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا
فَعَلَيْهِ ما على الْمُظَاهِرِ وَعَلَى المظاهرة ( ( ( المظاهر ) ) )
الْكَفَّارَةُ بِنَصِّ الْكِتَابِ فَكَذَا على الْمُفْطِرِ مُتَعَمِّدًا
وَلَنَا أَيْضًا الِاسْتِدْلَال بِالْمُوَاقَعَةِ وَالْقِيَاسُ عليها أَمَّا
الِاسْتِدْلَال بها فَهُوَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ في الْمُوَاقَعَةِ وَجَبَتْ
لِكَوْنِهَا إفْسَادًا لِصَوْمِ رَمَضَانَ من غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا سَفَرٍ على ما
نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ إفْسَادٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ
مُتَعَمِّدًا من غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا سَفَرٍ فَكَانَ إيجَابُ الْكَفَّارَةِ
هُنَاكَ إيجَابًا هَهُنَا دَلَالَةً
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْوُجُوبَ في الْمُوَاقَعَةِ لِمَا ذَكَرْنَا وَجْهَانِ
أَحَدُهُمَا مُجْمَلٌ وَالْآخَرُ مُفَسَّرٌ أَمَّا الْمُجْمَلُ فَالِاسْتِدْلَالُ
بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ وَوَجْهُهُ ما ذَكَرْنَاهُ في الْخِلَافِيَّاتِ
وَأَمَّا الْمُفَسَّرُ فَلِأَنَّ إفْسَادَ صَوْمِ رَمَضَانَ ذَنْبٌ وَرَفْعُ
الذَّنْبِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا لِكَوْنِهِ قَبِيحًا وَالْكَفَّارَةُ
تَصْلُحُ رَافِعَةً له لِأَنَّهَا حَسَنَةٌ وقد جاء الشَّرْعُ بِكَوْنِ
الْحَسَنَاتِ من التَّوْبَةِ وَالْإِيمَانُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ
رَافِعَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ إلَّا أَنَّ الذُّنُوبَ مُخْتَلِفَةُ الْمَقَادِيرِ
وَكَذَا الرَّوَافِعَ لها لَا يَعْلَمُ مَقَادِيرَهَا إلَّا الشَّارِعُ
لِلْأَحْكَامِ وهو اللَّهُ تَعَالَى فَمَتَى وَرَدَ
____________________
(2/98)
الشَّرْعُ
في ذَنْبٍ خَاصٍّ بِإِيجَابِ رَافِعٍ خَاصٍّ
وَوُجِدَ مِثْلُ ذلك الذَّنْبِ في مَوْضِعٍ آخَرَ كان ذلك إيجَابًا لِذَلِكَ
الرَّافِعِ فيه وَيَكُونُ الْحُكْمُ فيه ثَابِتًا بِالنَّصِّ لَا بِالتَّعْلِيلِ
وَالْقِيَاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ على الْمُوَاقَعَةِ فَهُوَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ هُنَاكَ
وَجَبَتْ لِلزَّجْرِ عن إفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ صِيَانَةً له في الْوَقْتِ
الشَّرِيفِ لِأَنَّهَا تَصْلُحُ زَاجِرَةً وَالْحَاجَةُ مَسَّتْ إلَى الزَّاجِرِ
أَمَّا الصَّلَاحِيَّةُ فَلِأَنَّ من تَأَمَّلَ أَنَّهُ لو أَفْطَرَ يَوْمًا من
رَمَضَانَ لَزِمَهُ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ فَإِنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ فَإِنْ لم يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا
لَامْتَنَعَ منه وَأَمَّا الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ فَلِوُجُودِ الدَّاعِي الطبعي
( ( ( الطبيعي ) ) ) إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وهو شَهْوَةُ
الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَهَذَا في الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَكْثَرُ
لِأَنَّ الْجُوعَ وَالْعَطَشَ يُقَلِّلُ الشَّهْوَةَ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى
الزَّجْرِ عن الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَكْثَرَ فَكَانَ شَرْعُ الزَّاجِرِ هُنَاكَ
شَرْعًا هَهُنَا من طَرِيقِ الْأَوْلَى
وَعَلَى هذه الطَّرِيقَةِ يُمْنَعُ عَدَمُ جَوَازِ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ
بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْمُقْتَضِيَةَ لِكَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً
لَا يفصل ( ( ( تفصل ) ) ) بين الْكَفَّارَةِ وَغَيْرِهَا
وَلَوْ أَكَلَ ما لَا يُتَغَذَّى بِهِ وَلَا يُتَدَاوَى كَالْحَصَاةِ وَالنَّوَاةِ
وَالتُّرَابِ وَغَيْرِهَا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عليه عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ عليه الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْإِفْطَارُ من غَيْرِ عُذْرٍ
وَلَنَا أَنَّ هذا إفْطَارٌ صُورَةً لَا مَعْنًى لِأَنَّ مَعْنَى الصَّوْمِ وهو
الْكَفُّ عن الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ الذي هو وَسِيلَةٌ إلَى الْعَوَاقِبِ
الْحَمِيدَةِ قَائِمٌ وَإِنَّمَا الْفَائِتُ صُورَةُ الصَّوْمِ إلَّا أَنَّا
أَلْحَقْنَا الصُّورَةَ بِالْحَقِيقَةِ وَحَكَمْنَا بِفَسَادِ الصَّوْمِ
احْتِيَاطًا
وَلَوْ بَلَعَ جَوْزَةً صَحِيحَةً يَابِسَةً أو لَوْزَةً يَابِسَةً فَعَلَيْهِ
الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عليه لِوُجُودِ الْأَكْلِ صُورَةً لَا مَعْنًى
لِأَنَّهُ لَا يُعْتَادُ أَكْلُهُ على هذا لوجه ( ( ( الوجه ) ) ) فَأَشْبَهَ
أَكْلَ الْحَصَا وَلَوْ مَضَغَ الْجَوْزَةَ أو اللَّوْزَةَ الْيَابِسَةَ حتى
يَصِلَ الْمَضْغُ إلَى جَوْفِهَا حتى ابْتَلَعَهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ
وَالْكَفَّارَةُ كَذَا رَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ لِأَنَّهُ أَكَلَ
لُبَّهَا إلَّا أَنَّهُ ضَمَّ إلَيْهَا ما لَا يُؤْكَلُ عَادَةً
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لو أَكَلَ
لَوْزَةً صَغِيرَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَقَوْلُهُ في
اللَّوْزَةِ مَحْمُولٌ على اللَّوْزَةِ الرَّطْبَةِ لِأَنَّهَا مَأْكُولَةٌ
كُلُّهَا كَالْخَوْخَةِ وَلَوْ أَكَلَ جَوْزَةً رَطْبَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ
وَلَا كَفَّارَةَ عليه لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ عَادَةً وَلَا يَحْصُلُ بِهِ
التَّغَذِّي وَالتَّدَاوِي وَلَوْ أَكَلَ عَجِينًا أو دَقِيقًا فَعَلَيْهِ
الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عليه لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِمَا التَّغَذِّي
وَلَا التَّدَاوِي فَلَا يَفُوتُ مَعْنَى الصَّوْمِ
وَذُكِرَ في الْفَتَاوَى رِوَايَةً عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فَرَّقَ بين الدَّقِيقِ
وَالْعَجِينِ فقال في الدَّقِيقِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وفي الْعَجِينِ
الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ وَلَوْ قَضَمَ حِنْطَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ
وَالْكَفَّارَةُ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ هذا مِمَّا
يُقْصَدُ بِالْأَكْلِ وَلَوْ ابْتَلَعَ إهْلِيلَجَةً رَوَى ابن رُسْتُمَ عن
مُحَمَّدٍ أَنَّ عليه الْقَضَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ لِأَنَّهُ لَا يُتَدَاوَى بها
على هذه الصِّفَةِ
وَرَوَى هِشَام عنه أَنَّ عليه الْكَفَّارَةَ
قال الْكَرْخِيُّ وَهَذَا أَقْيَسُ عِنْدِي لِأَنَّهُ يُتَدَاوَى بها على هذه
الصِّفَةِ وَهَكَذَا رَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي
في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ عليه الْكَفَّارَةَ
وَلَوْ أَكَلَ طِينًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ لِمَا قُلْنَا إلَّا
أَنْ يَكُونَ أرمنينا ( ( ( أرمنيا ) ) ) فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ
وَكَذَا رَوَى ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ قال مُحَمَّدٌ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ
الْغَارِيقُونَ أَيْ يُتَدَاوَى بِهِ
قال ابن رُسْتُمَ فقلت له هذا الطِّينُ الذي يُقْلَى يَأْكُلُهُ الناس قال لَا
أَدْرِي ما هذا فَكَأَنَّهُ لم يَعْلَمْ أَنَّهُ يُتَدَاوَى بِهِ أو لَا وَلَوْ
أَكَلَ وَرَقَ الشَّجَرِ فَإِنْ كان مِمَّا يُؤْكَلُ عَادَةً فَعَلَيْهِ
الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَإِنْ كان مِمَّا لَا يُؤْكَلُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ
وَلَا كَفَّارَةَ عليه وَلَوْ أَكَلَ مِسْكًا أو غَالِيَةً أو زَعْفَرَانَ
فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّ هذا يُؤْكَلُ وَيُتَدَاوَى بِهِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ تَنَاوَلَ سِمْسِمَةً قال فَطَّرَتْهُ ولم يذكر
أَنَّ عليه الْكَفَّارَةَ أو لَا وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال محمد بن
مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ عليه الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ
وقال أبو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ عليه الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عليه
وقد ذَكَرْنَا أَنَّ السِّمْسِمَةَ لو كانت بين أَسْنَانِهِ فَابْتَلَعَهَا
أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ امْتَصَّ سُكَّرَةً بِفِيهِ في رَمَضَانَ
مُتَعَمِّدًا حتى دخل الْمَاءُ حَلْقَهُ عليه الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّ
السُّكَّرَ هَكَذَا يُؤْكَلُ وَلَوْ مَصَّ إهْلِيلَجَةً فَدَخَلَ الْمَاءُ
حَلْقَهُ قال لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ ذَكَرَهُ في الْفَتَاوَى وَلَوْ خَرَجَ من
بَيْنِ أَسْنَانِهِ دَمٌ فَدَخَلَ حَلْقَهُ أو ابْتَلَعَهُ فَإِنْ كانت
الْغَلَبَةُ لِلدَّمِ فَسَدَ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ
عليه وَإِنْ كانت الْغَلَبَةُ لِلْبُزَاقِ فَلَا شَيْءَ عليه وَإِنْ كَانَا
سَوَاءً فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَفْسُدَ وفي الِاسْتِحْسَانِ يَفْسُدُ احْتِيَاطًا
وَلَوْ أَخْرَجَ الْبُزَاقَ من فيه ثُمَّ ابْتَلَعَهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا
كَفَّارَةَ عليه وَكَذَا إذَا ابْتَلَعَ بُزَاقَ غَيْرِهِ لِأَنَّ هذا مِمَّا
يُعَافُ منه حتى لو ابْتَلَعَ لُعَابَ حَبِيبِهِ أو صَدِيقِهِ ذَكَرَ الشَّيْخُ
الْإِمَامُ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ أَنَّ عليه الْقَضَاءَ
وَالْكَفَّارَةَ لِأَنَّ الْحَبِيبَ لَا يَعَافُ رِيقَ حَبِيبِهِ أو صَدِيقِهِ وَلَوْ
أَكَلَ
____________________
(2/99)
لَحْمًا
قَدِيدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ في
الْجُمْلَةِ وَلَوْ أَكَلَ شَحْمًا قَدِيدًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال
بَعْضُهُمْ لَا كَفَّارَةَ عليه لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ
وقال الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ إنَّ عليه الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ كما في
اللَّحْمِ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ في الْجُمْلَةِ كَاللَّحْمِ الْقَدِيدِ
وَلَوْ أَكَلَ مَيْتَةً فَإِنْ كانت قد أَنْتَنَتْ وَدَوَّدَتْ فَعَلَيْهِ
الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عليه وَإِنْ كانت غير ذلك فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ
وَالْكَفَّارَةُ وَلَوْ أَوْلَجَ ولم يُنْزِلْ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ
وَالْكَفَّارَةُ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى إذْ الْجِمَاعُ هو
الْإِيلَاجُ فَأَمَّا الْإِنْزَالُ فَفَرَاغٌ من الْجِمَاعِ فَلَا يُعْتَبَرُ
وَلَوْ أَنْزَلَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ
عليه لِقُصُورٍ في الْجِمَاعِ لِوُجُودِهِ مَعْنًى لَا صُورَةً وَكَذَلِكَ إذَا
وطىء بَهِيمَةً فَأَنْزَلَ لِقُصُورٍ في قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لِسَعَةِ الْمَحَلِّ
وَنَبْوَةِ الطبع ( ( ( الطمع ) ) )
وَلَوْ أَخَذَ لُقْمَةً من الْخُبْزِ لِيَأْكُلَهَا وهو نَاسٍ فلما مَضَغَهَا
تَذَكَّرَ أَنَّهُ صَائِمٌ فَابْتَلَعَهَا وهو ذَاكِرٌ ذُكِرَ في عُيُونِ
الْمَسَائِلِ إن في هذه الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ لِلْمُتَأَخِّرِينَ
قال بَعْضُهُمْ لَا كَفَّارَةَ عليه
وقال بَعْضُهُمْ عليه الْكَفَّارَةُ وقال بَعْضُهُمْ إنْ ابْتَلَعَهَا قبل أَنْ
يُخْرِجَهَا فَلَا كَفَّارَةَ عليه فَإِنْ أَخْرَجَهَا من فيه ثُمَّ أَعَادَهَا
فَابْتَلَعَهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وقال بَعْضُهُمْ إنْ ابْتَلَعَهَا قبل
أَنْ يُخْرِجَهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ أَخْرَجَهَا من فيه ثُمَّ
أَعَادَهَا فَلَا كَفَّارَةَ عليه
قال الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ هذا الْقَوْلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَهَا
صَارَ بِحَالٍ يُعَافُ منها وما دَامَتْ في فيه فإنه يَتَلَذَّذُ بها
وَلَوْ تَسَحَّرَ على ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لم يَطْلُعْ فإذا هو طَالِعٌ أو
أَفْطَرَ على ظَنِّ أَنَّ الشَّمْسَ قد غَرَبَتْ فإذا هِيَ لم تَغْرُبْ فَعَلَيْهِ
الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عليه لِأَنَّهُ لم يُفْطِرْ مُتَعَمِّدًا بَلْ
خَاطِئًا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا إثْمَ عليه وَلَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا في سَفَرِهِ ثُمَّ
أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا فَلَا كَفَّارَةَ عليه لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُبِيحَ من
حَيْثُ الصُّورَةُ قَائِمٌ وهو السَّفَرُ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً وَهَذِهِ
الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مع الشُّبْهَةِ
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الشُّبْهَةَ إذَا اسْتَنَدَتْ إلَى صُورَةِ دَلِيلٍ فَإِنْ
لم يَكُنْ دَلِيلًا في الْحَقِيقَةِ بَلْ من حَيْثُ الظَّاهِرُ اُعْتُبِرَتْ في
مَنْعِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَإِلَّا فَلَا وقد وُجِدَتْ هَهُنَا وَهِيَ صُورَةُ
السَّفَرِ لِأَنَّهُ مُرَخِّصٌ أو مُبِيحٌ في الْجُمْلَةِ
وَلَوْ أَكَلَ أو شَرِبَ أو جَامَعَ نَاسِيًا أو ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَظَنَّ أَنَّ
ذلك يفطره ( ( ( يفطر ) ) ) فَأَكَلَ بَعْدَ ذلك مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ
الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عليه لِأَنَّ الشُّبْهَةَ هَهُنَا اسْتَنَدَتْ إلَى
ما هو دَلِيلٌ في الظَّاهِرِ لِوُجُودِ الْمُضَادِّ لِلصَّوْمِ في الظَّاهِرِ وهو
الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ حتى قال مَالِكٌ بِفَسَادِ الصَّوْمِ
بِالْأَكْلِ نَاسِيًا
وقال أبو حَنِيفَةَ لَوْلَا قَوْلُ الناس لَقُلْتُ له يَقْضِي وَكَذَا الْقَيْءُ
لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عن عَوْدِ بَعْضِهِ من الْفَمِ إلَى الْجَوْفِ فَكَانَتْ
الشُّبْهَةُ في مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ فَاعْتُبِرَتْ
قال مُحَمَّدٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَلَغَهُ أَيْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ أَنَّ أَكْلَ
النَّاسِي وَالْقَيْءَ لَا يُفْطِرَانِ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ ظَنَّ في
غَيْرِ مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ فَلَا يُعْتَبَرُ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عليه سَوَاءٌ بَلَغَهُ
الْخَبَرُ وَعَلِمَ أَنَّ صَوْمَهُ لم يَفْسُدْ أو لم يَبْلُغْهُ ولم يَعْلَمْ
فَإِنْ احْتَجَمَ فَظَنَّ أَنَّ ذلك يُفْطِرُهُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذلك مُتَعَمِّدًا
إنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ بِأَنَّهُ قد أَفْطَرَ فَلَا كَفَّارَةَ عليه
لِأَنَّ الْعَامِّيَّ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ فَكَانَتْ الشُّبْهَةُ
مُسْتَنِدَةً إلَى صُورَةِ دَلِيلٍ
وَإِنْ بَلَغَهُ خَبَرُ الْحِجَامَةِ وهو الْمَرْوِيُّ عن رسول اللَّهِ أَفْطَرَ
الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ
رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عليه لِأَنَّ ظَاهِرَ
الحديث وَاجِبُ الْعَمَلِ بِهِ في الْأَصْلِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ تَجِبُ عليه الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ
على الْعَامِّيِّ الِاسْتِفْتَاءُ من الْمُفْتِي لَا الْعَمَلُ بِظَوَاهِرِ
الْأَحَادِيثِ لِأَنَّ الحديث قد يَكُونُ مَنْسُوخًا وقد يَكُونُ ظَاهِرُهُ
مَتْرُوكًا فَلَا يَصِيرُ ذلك شُبْهَةً وَإِنْ لم يَسْتَفْتِ فَقِيهًا وَلَا بَلَغَهُ
الْخَبَرُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْحِجَامَةَ لَا
تُنَافِي رُكْنَ الصَّوْمِ في الظَّاهِرِ وهو الْإِمْسَاكُ عن الْأَكْلِ
وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ فلم تَكُنْ هذه الشُّبْهَةُ مُسْتَنِدَةً إلَى دَلِيلٍ
أَصْلًا
وَلَوْ لَمَسَ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ أو قَبَّلَهَا أو ضَاجَعَهَا ولم يُنْزِلْ
فَظَنَّ أَنَّ ذلك يُفْطِرُهُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذلك مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ
الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ ذلك لَا يُنَافِي رُكْنَ الصَّوْمِ في الظَّاهِرِ فَكَانَ
ظَنُّهُ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ إلَّا إذَا تَأَوَّلَ
حَدِيثًا أو اسْتَفْتَى فَقِيهًا فَأَفْطَرَ على ذلك فَلَا كَفَّارَةَ عليه وَإِنْ
أَخْطَأَ الْفَقِيهُ ولم يَثْبُتْ الْحَدِيثُ لِأَنَّ ظَاهِرَ الحديث وَالْفَتْوَى
يَصِيرُ شُبْهَةً
وَلَوْ اغْتَابَ إنْسَانًا فَظَنَّ أَنَّ ذلك يُفْطِرُهُ ثُمَّ أَكَلَ بَعْدَ ذلك
مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا أو تَأَوَّلَ
حَدِيثًا لِأَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِفَتْوَى الْفَقِيهِ وَلَا بِتَأْوِيلِهِ
الحديث هَهُنَا لِأَنَّ ذلك مِمَّا لَا يُشْتَبَهُ على من له سِمَةٌ من الْفِقْهِ
وهو لَا يَخْفَى على أَحَدٍ أن ليس الْمُرَادُ من الْمَرْوِيِّ الْغِيبَةُ
تُفْطِرُ الصَّائِمَ حَقِيقَةَ الْإِفْطَارِ فلم يَصِرْ ذلك شُبْهَةً وَكَذَا لو
دَهَنَ شَارِبَهُ فَظَنَّ أَنَّ ذلك يفطره ( ( ( يفطر ) ) ) فَأَكَلَ بَعْدَ ذلك
مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا أو تَأَوَّلَ
حَدِيثًا لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ أَفْطَرَ وهو مُقِيمٌ فَوَجَبَتْ عليه الْكَفَّارَةُ ثُمَّ سَافَرَ في
يَوْمِهِ ذلك
____________________
(2/100)
لم
تَسْقُطْ عنه الْكَفَّارَةُ وَلَوْ مَرِضَ في يَوْمِهِ ذلك مَرَضًا يُرَخِّصُ
الْإِفْطَارَ أو يُبِيحُهُ تَسْقُطُ عنه الْكَفَّارَةُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ في الْمَرَضِ مَعْنًى يُوجِبُ تَغْيِيرَ الطَّبِيعَةِ عن
الصِّحَّةِ إلَى الْفَسَادِ وَذَلِكَ الْمَعْنَى يَحْدُثُ في الْبَاطِنِ ثُمَّ
يَظْهَرُ أَثَرُهُ في الظَّاهِرِ فلما مَرِضَ في ذلك الْيَوْمِ عَلِمَ أَنَّهُ كان
مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِفْطَارِ لَكِنَّهُ لم يَظْهَرْ أَثَرُهُ في الظَّاهِرِ
فَكَانَ الْمُرَخِّصُ أو الْمُبِيحُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِفْطَارِ فَمَنَعَ
انْعِقَادَ الْإِفْطَارِ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ أو وُجُودُ أَصْلِهِ أَوْرَثَ
شُبْهَةً في الْوُجُوبِ وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مع الشُّبْهَةِ وَهَذَا
الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ في السَّفَرِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْخُرُوجِ
وَالِانْتِقَالِ من مَكَان إلَى مَكَان وأنه يُوجَدُ مَقْصُورًا على حَالِ
وُجُودِهِ فلم يَكُنْ الْمُرَخِّصُ أو الْمُبِيحُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِفْطَارِ
فَلَا يُؤَثِّرُ في وُجُوبِهَا
وَكَذَلِكَ إذَا أَفْطَرَتْ الْمَرْأَةُ ثُمَّ حَاضَتْ في ذلك الْيَوْمِ أو
نَفِسَتْ سَقَطَتْ عنها الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْحَيْضَ دَمٌ مُجْتَمِعٌ في
الرَّحِمِ يَخْرُجُ شيئا فَشَيْئًا فَكَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِفْطَارِ
لَكِنَّهُ لم يَبْرُزْ فَمَنَعَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ وَلَوْ سَافَرَ في ذلك
الْيَوْمِ مُكْرَهًا لَا تَسْقُطُ عنه الْكَفَّارَةُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ
زُفَرَ تَسْقُطُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أبي يُوسُفَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ
الْمُرَخِّصَ أو الْمُبِيحَ وُجِدَ مَقْصُورًا على الْحَالِ فَلَا يُؤَثِّرُ في
الْمَاضِي وَلَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ فَمَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا مُرَخِّصًا
لِلْإِفْطَارِ أو مُبِيحًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ يَسْقُطُ
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَسْقُطُ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْمَرَضَ هُنَا حَدَثَ من
الْجُرْحِ وأنها وُجِدَتْ مَقْصُورَةً على الْحَالِ فَكَانَ الْمَرَضُ مَقْصُورًا
على حَالِ حُدُوثِهِ فَلَا يُؤَثِّرُ في الزَّمَانِ الْمَاضِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمَنْ أَصْبَحَ في رَمَضَانَ لَا يَنْوِي الصَّوْمَ فَأَكَلَ أو شَرِبَ أو
جَامَعَ عليه قَضَاءُ ذلك الْيَوْمِ وَلَا كَفَّارَةَ عليه عِنْدَ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ عليه الْكَفَّارَةُ بِنَاءً على أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ
يَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ عِنْدَهُ فَوُجِدَ إفْسَادُ صَوْمِ رَمَضَانَ
بِشَرَائِطِهِ وَعِنْدَنَا لَا يَتَأَدَّى فلم يُوجَدْ الصَّوْمُ فَاسْتَحَالَ
الْإِفْسَادُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ إنْ أَكَلَ قبل الزَّوَالِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ
وَالْكَفَّارَةُ وَإِنْ أَكَلَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا كَفَّارَةَ عليه كَذَا
ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ الْخِلَافَ بين أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَبَيْنَ أبي
يُوسُفَ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ
مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ الْخِلَافَ بين أبي حَنِيفَةَ وَبَيْنَ صَاحِبَيْهِ
وَجْهُ قوله ( ( ( قول ) ) ) من فَصَلَ بين ما قبل الزَّوَالِ أو بَعْدَهُ أَنَّ
الْإِمْسَاكَ قبل الزَّوَالِ كان بِفَرْضِ أَنْ يَصِيرَ صَوْمًا قبل الْأَكْلِ
وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ لِجَوَازِ أَنْ يَنْوِيَ فإذا أَكَلَ فَقَدْ أَبْطَلَ
الْفَرْضِيَّةَ وَأَخْرَجَهُ من أَنْ يَصِيرَ صَوْمًا فَكَانَ إفْسَادًا
لِلصَّوْمِ مَعْنًى بِخِلَافِ ما بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّ الْأَكْلَ بَعْدَ
الزَّوَالِ لم يَقَعْ إبْطَالًا لِلْفَرْضِيَّةِ لِبُطْلَانِهَا قبل الْأَكْلِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ فِيمَنْ أَصْبَحَ لَا يَنْوِي صَوْمًا ثُمَّ
نَوَى قبل الزَّوَالِ ثُمَّ جَامَعَ في بَقِيَّةِ يَوْمِهِ فَلَا كَفَّارَةَ عليه
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ عليه الْكَفَّارَةَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ يَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ من النَّهَارِ قبل
الزَّوَالِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فَكَانَتْ النِّيَّةُ من النَّهَارِ وَاللَّيْلِ
سَوَاءً
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لو جَامَعَ في أَوَّلِ النَّهَارِ لَا
كَفَّارَةَ عليه فَكَذَا إذَا جَامَعَ في آخِرِهِ لِأَنَّ الْيَوْمَ في كَوْنِهِ
مَحَلَّا لِلصَّوْمِ لا يَتَجَزَّأُ أو يُوجِبُ ذلك شُبْهَةً في آخِرِ الْيَوْمِ
وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مع الشُّبْهَةِ
وَذُكِرَ في الْمُنْتَقَى فِيمَنْ أَصْبَحَ يَنْوِي الْفِطْرَ ثُمَّ عَزَمَ على
الصَّوْمِ ثُمَّ أَكَلَ مُتَعَمِّدًا أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عليه عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ عليه الْكَفَّارَةُ وَالْكَلَامُ من
الْجَانِبَيْنِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا
وَلَوْ جَامَعَ في رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا مِرَارًا بِأَنْ جَامَعَ في يَوْمٍ
ثُمَّ جَامَعَ في الْيَوْمِ الثَّانِي ثُمَّ في الثَّالِثِ ولم يُكَفِّرْ
فَعَلَيْهِ لِجَمِيعِ ذلك كُلِّهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عليه لِكُلِّ يَوْمٍ كَفَّارَةٌ
وَلَوْ جَامَعَ في يَوْمٍ ثُمَّ كَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ في يَوْمٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ
كَفَّارَةٌ أُخْرَى في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرَوَى زُفَرُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ ليس عليه كَفَّارَةٌ أُخْرَى وَلَوْ
جَامَعَ في رَمَضَانَيْنِ ولم يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ جِمَاعٍ
كَفَّارَةٌ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْكَيْسَانِيَّاتِ
أَنَّ عليه كَفَّارَةً وَاحِدَةً
وَكَذَا حَكَى الطَّحَاوِيُّ عن أبي حَنِيفَةَ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ تَكَرَّرَ سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وهو
الْجِمَاعُ عِنْدَهُ وَإِفْسَادُ الصَّوْمِ عِنْدَنَا وَالْحُكْمُ يَتَكَرَّرُ
بِتَكَرُّرِ سَبَبِهِ وهو الْأَصْلُ إلَّا في مَوْضِعٍ فيه ضَرُورَةٌ كما في
الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَهِيَ الْحُدُودُ لِمَا في التَّكَرُّرِ من خَوْفِ
الْهَلَاكِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا فَيَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ وَلِهَذَا تَكَرَّرَ في
سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ وَهِيَ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ وَالْيَمِينِ وَالظِّهَارِ
وَلَنَا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ لَمَّا قال وَاقَعْتُ امْرَأَتِي
أَمَرَهُ رسول اللَّهِ بِإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ بِقَوْلِهِ أَعْتِقْ
رَقَبَةً
وَإِنْ كان قَوْلُهُ وَاقَعْتُ يَحْتَمِلُ الْمَرَّةَ وَالتَّكْرَارَ ولم
يَسْتَفْسِرْ فَدَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْمَرَّةِ وَالتَّكْرَارِ
وَلِأَنَّ مَعْنَى الزَّجْرِ لَازِمٌ في هذه الْكَفَّارَةِ أَعْنِي كَفَّارَةَ
الْإِفْطَارِ بِدَلِيلِ اخْتِصَاصِ وُجُوبِهَا بِالْعَمْدِ الْمَخْصُوصِ في
الْجِنَايَةِ الْخَالِصَةِ الْخَالِيَةِ عن
____________________
(2/101)
الشُّبْهَةِ
بِخِلَافِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ وَالزَّجْرُ يَحْصُلُ بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ
بِخِلَافِ ما إذَا جَامَعَ فَكَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ لِأَنَّهُ لَمَّا جَامَعَ
بعدما كَفَّرَ عُلِمَ أَنَّ الزَّجْرَ لم يَحْصُلْ بِالْأَوَّلِ
وَلَوْ أَفْطَرَ في يَوْمٍ فَأَعْتَقَ ثُمَّ أَفْطَرَ في الْيَوْمِ الثَّانِي
فَأَعْتَقَ ثُمَّ أَفْطَرَ في الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَأَعْتَقَ ثُمَّ
اُسْتُحِقَّتْ الرَّقَبَةُ الْأُولَى فَلَا شَيْءَ عليه لِأَنَّ الثَّانِيَةَ
تجزىء عن الْأُولَى وَكَذَا لو اُسْتُحِقَّتْ الثَّانِيَةُ لِأَنَّ الثَّالِثَةَ تجزىء
عن الثَّانِيَةِ وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الثَّالِثَةُ فَعَلَيْهِ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ
وَاحِدَةٍ لِأَنَّ ما تَقَدَّمَ لَا يجزىء عَمَّا تَأَخَّرَ وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ
الثَّانِيَةُ أَيْضًا فَعَلَيْهِ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ لِلْيَوْمِ
الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الْأُولَى أَيْضًا فَعَلَيْهِ
كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الإعتقاق ( ( ( الإعتاق ) ) ) بِالِاسْتِحْقَاقِ
يَلْتَحِقُ بِالْعَدَمِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ وقد أَفْطَرَ في ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ ولم يُكَفِّرْ لِشَيْءٍ منها فَتَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ
اُسْتُحِقَّتْ الْأُولَى وَالثَّالِثَةُ دُونَ الثَّانِيَةِ أَعْتَقَ رَقَبَةً
وَاحِدَةً لِلْيَوْمِ الثَّالِثِ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ أَجْزَأَتْ عن الْأُولَى
وَالْأَصْلَ في هذا الْجِنْسِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ الثَّانِي يجزىء عَمَّا قَبْلَهُ
وَلَا يجزىء عَمَّا بَعْدَهُ
وَأَمَّا صِيَامُ غَيْرِ رَمَضَانَ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِإِفْسَادِ شَيْءٍ منه
وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِإِفْسَادِ صَوْمِ
رَمَضَانَ عُرِفَ بِالتَّوْقِيفِ وَأَنَّهُ صَوْمٌ شَرِيفٌ في وَقْتٍ شَرِيفٍ لَا
يُوَازِيهِمَا غَيْرُهُمَا من الصِّيَامِ وَالْأَوْقَاتِ في الشَّرَفِ
وَالْحُرْمَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ في وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَأَمَّا وُجُوبُ
الْقَضَاءِ فَأَمَّا الصِّيَامُ الْمَفْرُوضُ فَإِنْ كان الصَّوْمُ مُتَتَابِعًا
كَصَوْمِ الْكَفَّارَةِ وَالْمَنْذُورِ مُتَتَابِعًا فَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ
لِفَوَاتِ الشَّرَائِطِ وهو التَّتَابُعُ وَلَوْ لم يَكُنْ مُتَتَابِعًا كَصَوْمِ
قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ عن الْوَقْتِ وَالنَّذْرِ في وَقْتٍ
بِعَيْنِهِ فَحُكْمُهُ أَنْ لَا يَعْتَدَّ بِهِ عَمَّا عليه وَيَلْحَقُ
بِالْعَدَمِ وَعَلَيْهِ ما كان قبل لك ( ( ( ذلك ) ) ) في قَضَاءِ رَمَضَانَ
وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ وفي الْمَنْذُورِ في وَقْتٍ بِعَيْنِهِ عليه قَضَاءُ ما
فَسَدَ
وَأَمَّا صَوْمُ التَّطَوُّعِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ عِنْدَنَا خِلَافًا
لِلشَّافِعِيِّ
وقد رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت أَصْبَحْتُ أنا وَحَفْصَةُ
صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ فَأُهْدِيَ إلَيْنَا حَيْسٌ فَأَكَلْنَا منه
فَسَأَلَتْ حَفْصَةُ رَسُولَ اللَّهِ فقال اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ
وَالْكَلَامُ في وُجُوبِ الْقَضَاءِ مَبْنِيٌّ على الْكَلَامِ في وُجُوبِ
الْمُضِيِّ وقد ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ الصَّلَاةِ
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في الصَّوْمِ الْمَظْنُونِ إذَا أَفْسَدَهُ بِأَنْ
شَرَعَ في صَوْمٍ أو صَلَاةٍ على ظَنِّ أَنَّهُ عليه ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ليس
عليه فَأَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا
قال أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ لَا قَضَاءَ عليه لَكِنْ الْأَفْضَلُ أَنْ يَمْضِيَ
فيه
وقال زُفَرُ عليه الْقَضَاءُ
وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عن أبي حَنِيفَةَ فِيمَنْ شَرَعَ في صَلَاةٍ يَظُنُّ أنها
عليه مِثْلَ قَوْلِ زُفَرَ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا شَرَعَ في صَوْمِ
الْكَفَّارَةِ ثُمَّ أَيْسَرَ في خِلَالِهِ فَأَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ ليس عليه تَبَيَّنَ
أَنَّهُ شَرَعَ في النَّفْلِ وَلِهَذَا نُدِبَ إلَى الْمُضِيِّ فيه وَالشُّرُوعُ
في النَّفْلِ مُلْزَمٌ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا فَيَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فيه
وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إذَا أَفْسَدَ كما لو شَرَعَ في النَّفْلِ ابْتِدَاءً
وَلِهَذَا كان الشُّرُوعُ في الْحَجِّ الْمَظْنُونِ مُلْزَمًا
كَذَا الصَّوْمُ
وَلَنَا أَنَّهُ شَرَعَ مُسْقِطًا لَا مُوجِبًا فَلَا يَجِبُ عليه الْمُضِيُّ
وَدَلِيلُ ذلك أَنَّهُ قَصَدَ بِالشُّرُوعِ إسْقَاطَ ما في ذِمَّتِهِ فإذا
تَبَيَّنَ أَنَّهُ ليس في ذِمَّتِهِ شَيْءٌ من ذلك لم يَصِحَّ قَصْدًا
وَالشُّرُوعُ في الْعِبَادَةِ لَا يَصِحُّ من غَيْرِ قَصْدٍ إلَّا أَنَّهُ
اُسْتُحِبَّ له أَنْ يَمْضِيَ فيه لِشُرُوعِهِ في الْعِبَادَةِ في زَعْمِهِ
وَتَشَبُّهِهِ بِالشَّارِعِ في الْعِبَادَةِ فَيُثَابُ عليه كما يُثَابُ
الْمُتَشَبِّهُ بِالصَّائِمِينَ بِإِمْسَاكِ بَقِيَّةِ يَوْمِهِ إذَا أَفْطَرَ
بِعُذْرٍ وَالِاشْتِبَاهُ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ في بَابِ الصَّوْمِ فَلَوْ
أَوْجَبْنَا عليه الْقَضَاءَ لَوَقَعَ في الْحَرَجِ بِخِلَافِ الْحَجِّ فإن
وُقُوعَ الشَّكِّ وَالِاشْتِبَاهِ في بَابِ الْحَجِّ نَادِرٌ غابة ( ( ( غاية ) )
) النُّدْرَةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَلَا يَكُونُ في إيجَابِ الْقَضَاءِ
عليه حَرَجٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الصَّوْمِ الْمُؤَقَّتِ إذَا فَاتَ عن وَقْتِهِ
فَالصَّوْمُ الْمُؤَقَّتُ نَوْعَانِ صَوْمُ رَمَضَانَ وَالْمَنْذُورُ في وَقْتٍ
بِعَيْنِهِ
أَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ فَيَتَعَلَّقُ بِفَوَاتِهِ أَحْكَامٌ ثَلَاثَةٌ وُجُوبُ
إمْسَاكِ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ في حَالٍ
وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ في حَالٍ وَوُجُوبُ الْفِدَاءِ في حَالٍ
أَمَّا وُجُوبُ الْإِمْسَاكِ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ فَكُلُّ من كان له عُذْرٌ
في صَوْمِ رَمَضَانَ في أَوَّلِ النَّهَارِ مَانِعٌ من الْوُجُوبِ أو مُبِيحٌ
لِلْفِطْرِ ثُمَّ زَالَ عُذْرُهُ وَصَارَ بِحَالٍ لو كان عليه في أَوَّلِ
النَّهَارِ لَوَجَبَ عليه الصَّوْمُ وَلَا يُبَاحُ له الْفِطْرُ كَالصَّبِيِّ إذَا
بَلَغَ في بَعْضِ النَّهَارِ وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ
وَطَهُرَتْ الْحَائِضُ وَقَدِمَ الْمُسَافِرُ مع قِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ يَجِبُ
عليه إمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ وَكَذَا من وَجَبَ عليه الصَّوْمُ في أَوَّلِ
النَّهَارِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَالْأَهْلِيَّةِ ثُمَّ تَعَذَّرَ عليه
الْمُضِيُّ فيه بِأَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا أو أَصْبَحَ يوم الشَّكِّ مُفْطِرًا
ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ من رَمَضَانَ أو تَسَحَّرَ على
____________________
(2/102)
ظَنِّ
أَنَّ الْفَجْرَ لم يَطْلُعْ ثُمَّ تَبَيَّنَ له أَنَّهُ طَلَعَ فإنه يَجِبُ عليه
الْإِمْسَاكُ في بَقِيَّةِ الْيَوْمِ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ وَهَذَا
عِنْدَنَا
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَكُلُّ من وَجَبَ عليه الصَّوْمُ في أَوَّلِ
النَّهَارِ ثُمَّ تَعَذَّرَ عليه الْمُضِيُّ مع قِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ يَجِبُ
عليه إمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ تَشَبُّهًا وَمَنْ لَا فَلَا
فَعَلَى قَوْلِهِ لَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ على الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ في بَعْضِ
النَّهَارِ وَالْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ وَالْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ وَالْحَائِضِ
إذَا طَهُرَتْ وَالْمُسَافِرِ إذَا قَدِمَ مِصْرَهُ لِأَنَّهُ لم يَجِبْ عليه ( (
( عليهم ) ) ) الصَّوْمُ في أَوَّلِ النَّهَارِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِمْسَاكَ تَشَبُّهًا يَجِبُ خَلَفًا عن الصَّوْمِ
وَالصَّوْمُ لم يَجِبْ فلم يَجِبْ الْإِمْسَاكُ خَلَفًا وَلِهَذَا لو قال لِلَّهِ
عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الذي يَقْدَمُ فيه فُلَانٌ فَقَدِمَ بعدما أَكَلَ
النَّاذِرُ فيه أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ
كَذَا هَهُنَا
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال في يَوْمِ
عَاشُورَاءَ ألا من أَكَلَ فَلَا يَأْكُلَنَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ
وَصَوْمُ عَاشُورَاءَ كان فَرْضًا يَوْمئِذٍ وَلِأَنَّ زَمَانَ رَمَضَانَ وَقْتٌ
شَرِيفٌ فَيَجِبُ تَعْظِيمُ هذا الْوَقْتِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فإذا عَجَزَ عن
تَعْظِيمِهِ بِتَحْقِيقِ الصَّوْمِ فيه يَجِبُ تَعْظِيمُهُ بِالتَّشَبُّهِ
بِالصَّائِمِينَ قَضَاءً لِحَقِّهِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ إذَا كان أَهْلًا
لِلتَّشَبُّهِ وَنَفْيًا لِتَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِلتُّهْمَةِ وفي حَقِّ هذا
الْمَعْنَى الْوُجُوبُ في أَوَّلِ النَّهَارِ وَعَدَمُ الْوُجُوبِ سَوَاءٌ
وَقَوْلُهُ التَّشَبُّهُ وَجَبَ خَلَفًا عن الصَّوْمِ مَمْنُوعٌ بَلْ يَجِبُ
قَضَاءً لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ لَا خَلَفًا بِخِلَافِ
مَسْأَلَةِ النَّذْرِ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَا يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ حتى يَجِبَ
قَضَاءُ حَقِّهِ بِإِمْسَاكِ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ
وَأَمَّا وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَالْكَلَامُ في قَضَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ يَقَعُ في
مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَصْلِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ
الْقَضَاءِ وفي بَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِهِ وَكَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ
شَرَائِطِ جَوَازِهِ
أَمَّا أَصْلُ الْوُجُوبِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا
أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ } فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ
أُخَرَ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في الْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ إذَا فَاتَتْ عن
وَقْتِهَا أَنْ تُقْضَى لِمَا ذَكَرْنَا في كِتَابِ الصَّلَاةِ وَسَوَاءٌ فَاتَهُ
صَوْمُ رَمَضَانَ بِعُذْرٍ أو بِغَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ على
الْمَعْذُورِ فَلَأَنْ يَجِبَ على الْمُقَصِّرِ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْمَعْنَى
يَجْمَعُهُمَا وهو الْحَاجَةُ إلَى جَبْرِ الْفَائِتِ بَلْ حَاجَةُ غَيْرِ
الْمَعْذُورِ أَشَدُّ
وَأَمَّا بَيَانُ شَرَائِطِ وُجُوبِهِ فَمِنْهَا الْقُدْرَةُ على الْقَضَاءِ حتى
لو فَاتَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِعُذْرِ الْمَرَضِ أو السَّفَرِ ولم يَزَلْ مَرِيضًا
أو مُسَافِرًا حتى مَاتَ لَقِيَ اللَّهَ وَلَا قَضَاءَ عليه لِأَنَّهُ مَاتَ قبل
وُجُوبِ الْقَضَاءِ عليه لَكِنَّهُ إنْ أَوْصَى بِأَنْ يُطْعَمَ عنه صَحَّتْ
وَصِيَّتُهُ وَإِنْ لم يَجِبْ عليه وَيُطْعَمُ عنه من ثُلُثِ مَالِهِ لِأَنَّ
صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ لَا تَتَوَقَّفُ على الْوُجُوبِ كما لو أَوْصَى بِثُلُثِ
مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ أَنَّهُ يَصِحُّ وَإِنْ لم يَجِبْ عليه شَيْءٌ كَذَا هذا
فَإِنْ برأ الْمَرِيضُ أو قَدِمَ الْمُسَافِرُ وَأَدْرَكَ من الْوَقْتِ بِقَدْرِ
ما فَاتَهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ جَمِيعِ ما أَدْرَكَ لِأَنَّهُ قَدَرَ على
الْقَضَاءِ لِزَوَالِ الْعُذْرِ فَإِنْ لم يَصُمْ حتى أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ
فَعَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ وَهِيَ أَنْ يُطْعَمَ عنه لِكُلِّ يَوْمٍ
مِسْكِينًا لِأَنَّ الْقَضَاءَ قد وَجَبَ عليه ثُمَّ عَجَزَ عنه بَعْدَ وُجُوبِهِ
بِتَقْصِيرٍ منه فَيَتَحَوَّلُ الْوُجُوبُ إلَى بَدَلِهِ وهو الْفِدْيَةُ
وَالْأَصْلُ فيه ما رَوَى أبو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ
رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن رَجُلٍ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ وهو
شَدِيدُ الْمَرَضِ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ فَمَاتَ هل يُقْضَى عنه فقال رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنْ مَاتَ قبل أَنْ يُطِيقَ الصِّيَامَ فَلَا
يُقْضَى عنه وَإِنْ مَاتَ وهو مَرِيضٌ وقد أَطَاقَ الصِّيَامَ في مَرَضِهِ ذلك
فَلْيُقْضَ عنه وَالْمُرَادُ منه الْقَضَاءُ بِالْفِدْيَةِ لَا بِالصَّوْمِ لِمَا
رُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه مَوْقُوفًا عليه وَمَرْفُوعًا
إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يَصُومَنَّ أَحَدٌ عن
أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ عن أَحَدٍ وَلِأَنَّ ما لَا يَحْتَمِلُ
النِّيَابَةَ حَالَةَ الْحَيَاةِ لَا يَحْتَمِلُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ
وَرُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مُفَسَّرًا أَنَّهُ قال من مَاتَ وَعَلَيْهِ
قَضَاءُ رَمَضَانَ أَطْعَمَ عنه وَلِيُّهُ وهو مَحْمُولٌ على ما إذَا أَوْصَى أو
على النَّدْبِ إلَى غَيْرِ ذلك وإذا أَوْصَى بِذَلِكَ يُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ
وَإِنْ لم يُوصِ فَتَبَرَّعَ بِهِ الْوَرَثَةُ جَازَ وَإِنْ لم يَتَبَرَّعُوا لم
يَلْزَمْهُمْ وَتَسْقُطُ في حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَلْزَمُهُمْ من جَمِيعِ الْمَالِ سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أو
لم يُوصِ وَالِاخْتِلَافُ فيه كَالِاخْتِلَافِ في الزَّكَاةِ وَالصَّحِيحُ
قَوْلُنَا لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ وَالْفِدْيَةُ بَدَلٌ عنها وَالْأَصْلُ لَا
يَتَأَدَّى بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ فَكَذَا الْبَدَلُ وَالْبَدَلُ لَا يُخَالِفُ
الْأَصْلَ وَالْأَصْلُ فيه أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ عن غَيْرِهِ
بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِأَنَّهُ يَكُونُ جَبْرًا وَالْجَبْرُ يُنَافِي مَعْنَى
الْعِبَادَةِ على ما بَيَّنَّا في كِتَابِ الزَّكَاةِ
هذا إذَا أَدْرَكَ من الْوَقْتِ بِقَدْرِ ما فَاتَهُ فَمَاتَ قبل أَنْ يَقْضِيَ
فَأَمَّا إذَا أَدْرَكَ بِقَدْرِ ما يَقْضِي فيه الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ بِأَنْ
صَحَّ الْمَرِيضُ أَيَّامًا ثُمَّ مَاتَ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ
الْقَضَاءُ بِقَدْرِ ما صَحَّ ولم يذكر الْخِلَافَ حتى لو مَاتَ
____________________
(2/103)
لَا
يَجِبُ عليه أَنْ يُوصِيَ بِالْإِطْعَامِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ بَلْ لِذَلِكَ
الْقَدْرِ الذي لم يَصُمْهُ وَإِنْ صَامَهُ فَلَا وَصِيَّةَ عليه رَأْسًا
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ هذه الْمَسْأَلَةَ على الِاخْتِلَافِ فقال في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْجَمِيعِ إذَا صَحَّ يَوْمًا وَاحِدًا حتى
يَلْزَمَهُ الْوَصِيَّةُ بِالْإِطْعَامِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ إنْ لم يَصُمْ ذلك
الْيَوْمَ وَإِنْ صَامَهُ لم يَلْزَمْهُ شَيْءٌ بِالْإِجْمَاعِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ بِقَدْرِ ما أَدْرَكَ
وذكر ( ( ( وما ) ) ) الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ إن ما
ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ قَوْلُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا وما أَثْبَتَهُ
الطَّحَاوِيُّ من الِاخْتِلَافِ في الْمَسْأَلَةِ غَلَطٌ وَإِنَّمَا ذلك في
مَسْأَلَةِ النَّذْرِ وَهِيَ أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ
أَصُومَ شَهْرًا فَإِنْ مَاتَ قبل أَنْ يَصِحَّ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَإِنْ
صَحَّ يَوْمًا وَاحِدًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْإِطْعَامِ لِجَمِيعِ
الشَّهْرِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا
يَلْزَمُهُ إلَّا مِقْدَارُ ما يَصِحُّ على ما ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ
وَإِنْ كان مَسْأَلَةُ الْقَضَاءِ على الِاتِّفَاقِ على ما ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ
فَوَجْهُ هذا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ على الْفِعْلِ شَرْطُ وُجُوبِ
الْفِعْلِ إذْ لو لم يَكُنْ لَكَانَ الْإِيجَابُ تَكْلِيفَ ما لَا يَحْتَمِلُهُ
الْوُسْعُ وَأَنَّهُ مُحَالٌ عَقْلًا وَمَوْضُوعٌ شَرْعًا ولم يَقْدِرْ إلَّا على
صَوْمِ بَعْضِ الْأَيَّامِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا ذلك الْقَدْرُ فَإِنْ صَامَ ذلك
الْقَدْرَ فَقَدْ أتى بِمَا عليه فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ وَإِنْ لم يَصُمْ
فَقَدْ قَصَّرَ فِيمَا وَجَبَ عليه فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ
لِذَلِكَ الْقَدْرِ لَا غَيْرُ إذْ لم يَجِبْ عليه من الصَّوْمِ إلَّا ذلك
الْقَدْرُ
وَإِنْ كانت الْمَسْأَلَتَانِ على الِاخْتِلَافِ على ما ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ
فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ في الْمَسْأَلَتَيْنِ ما ذَكَرْنَا وهو لَا يَحْتَاجُ
إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ قَوْلَهُ فِيهِمَا وَاحِدٌ وهو أَنَّهُ لَا
يَلْزَمُهُ من صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ إلَّا قَدْرُ
أَيَّامِ الصِّحَّةِ حتى لَا يَلْزَمُهُ الْوَصِيَّةُ بِالْإِطْعَامِ فِيهِمَا
إلَّا لِذَلِكَ الْقَدْرِ
وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِمَا فَهُوَ أَنَّ قَدْرَ ما يَقْدِرُ عليه من الصَّوْمِ
يَصْلُحُ له الْأَيَّامَ كُلَّهَا على طَرِيقِ الْبَدَلِ لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ
صَالِحٌ لِلصَّوْمِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَدَرَ على الْكُلِّ فإذا لم يَصُمْ
لَزِمَتْهُ الْوَصِيَّةُ بِالْفِدْيَةِ لِلْكُلِّ وإذا صَامَ فِيمَا قَدَرَ
وَصَارَ قَدْرُ ما صَامَ مُسْتَحِقًّا لِلْوَقْتِ فلم يَبْقَ صَالِحًا لِوَقْتٍ
آخَرَ فلم يَكُنْ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْكُلِّ على الْبَدَلِ فَلَا يَلْزَمُهُ
الْوَصِيَّةُ بِالْفِدْيَةِ لِلْكُلِّ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ في الْقَضَاءِ
حَرَجٌ لِأَنَّ الْحَرَجَ مَنْفِيٌّ بِنَصِّ الْكِتَابِ
وَأَمَّا وُجُوبُ الْأَدَاءِ في الْوَقْتِ فَهَلْ هو شَرْطُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ
خَارِجَ الْوَقْتِ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ في ذلك وَخَرَّجْنَا
ما يَتَّصِلُ بِهِ من الْمَسَائِلِ على الْقَوْلَيْنِ ما فيه اتِّفَاقٌ وما فيه اخْتِلَافٌ
وَأَمَّا وَقْتُ وُجُوبِهِ فَوَقْتُ أَدَائِهِ وقد ذَكَرْنَاهُ وهو سَائِرُ
الْأَيَّامِ خَارِجَ رَمَضَانَ سِوَى الْأَيَّامِ السِّتَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{ فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ }
أَمَرَ بِالْقَضَاءِ مُطْلَقًا عن وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ
بِبَعْضِ الأقات ( ( ( الأوقات ) ) ) إلَّا بِدَلِيلٍ
وَالْكَلَامُ في كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ على الْفَوْرِ أو على
التَّرَاخِي كَالْكَلَامِ في كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ في الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عن
الْوَقْتِ أَصْلًا كَالْأَمْرِ بِالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ
وَنَحْوِهَا وَذَلِكَ على التَّرَاخِي عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا وَمَعْنَى
التَّرَاخِي عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ في مُطْلَقِ الْوَقْتِ غير عَيِّنٍ
وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إلَى الْمُكَلَّفِ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ شَرَعَ فيه
تَعَيَّنَ ذلك الْوَقْتُ لِلْوُجُوبِ وَإِنْ لم يَشْرَعْ يَتَضَيَّقُ الْوُجُوبُ
عليه في آخِرِ عُمُرِهِ في زَمَانٍ يَتَمَكَّنُ فيه من الْأَدَاءِ قبل مَوْتِهِ
وَحَكَى الْكَرْخِيُّ عن أَصْحَابِنَا أَنَّهُ على الْفَوْرِ وَالصَّحِيحُ هو
الْأَوَّلُ وَعِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِ الحديث الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي
الْوُجُوبَ على الْفَوْرِ على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ
وفي الْحَجِّ اخْتِلَافٌ بين أَصْحَابِنَا نَذْكُرُهُ في كِتَابِ الْحَجِّ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَحَكَى الْقُدُورِيُّ عن الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ كان يقول في قَضَاءِ رَمَضَانَ أنه
مُؤَقَّتٌ بِمَا بين رَمَضَانَيْنِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ بَلْ الْمَذْهَبُ
عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ لَا يَتَوَقَّتُ لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَضَاءِ مُطْلَقٌ عن تَعْيِينِ بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ
بَعْضٍ فَيَجْرِي على إطْلَاقِهِ وَلِهَذَا قال أَصْحَابُنَا أنه لَا يُكْرَهُ
لِمَنْ عليه قَضَاءُ رَمَضَانَ أَنْ يَتَطَوَّعَ وَلَوْ كان للوجوب ( ( ( الوجوب )
) ) على الْفَوْرِ لَكُرِهَ له التَّطَوُّعُ قبل الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَكُونُ
تَأْخِيرًا لِلْوَاجِبِ عن وَقْتِهِ الْمَضِيقِ وأنه مَكْرُوهٌ وَعَلَى هذا قال
أَصْحَابُنَا أنه إذَا أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حتى دخل رَمَضَانُ آخَرُ فَلَا
فِدْيَةَ عليه
وقال الشَّافِعِيُّ عليه الْفِدْيَةُ كَأَنَّهُ قال بِالْوُجُوبِ على الْفَوْرِ مع
رُخْصَةِ التَّأْخِيرِ إلَى رَمَضَانَ آخَرَ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ في الْأَمْرِ على تَعْيِينِ الْوَقْتِ
فَالتَّعْيِينُ يَكُونُ تَحَكُّمًا على الدَّلِيلِ وَالْقَوْلُ بِالْفِدْيَةِ
بَاطِلٌ لِأَنَّهَا تَجِبُ خَلَفًا عن الصَّوْمِ عِنْدَ الْعَجْزِ عن تَحْصِيلِهِ
عَجْزًا لَا تُرْجَى معه الْقُدْرَةُ عَادَةً كما في حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي
ولم يُوجَدْ الْعَجْزُ لِأَنَّهُ قَادِرٌ على الْقَضَاءِ فلامعنى لِإِيجَابِ
الْفِدْيَةِ
وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْقَضَاءِ فما هو شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ صَوْمِ
رَمَضَانَ فَهُوَ شَرْطُ بجواز ( ( ( جواز ) ) ) قَضَائِهِ إلَّا الْوَقْتَ
وَتَعْيِينَ النِّيَّةِ من اللَّيْلِ فإنه يَجُوزُ الْقَضَاءُ
____________________
(2/104)
في
جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ إلَّا الْأَوْقَاتَ الْمُسْتَثْنَاةَ وَلَا يَجُوزُ إلَّا
بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ من اللَّيْلِ بِخِلَافِ الْأَدَاءِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ ما
ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا وُجُوبُ الْفِدَاءِ فَشَرْطُهُ الْعَجْزُ عن الْقَضَاءِ عَجْزًا لَا
تُرْجَى معه الْقُدْرَةُ في جَمِيعِ عُمْرِهِ فَلَا يَجِبُ إلَّا على الشَّيْخِ
الْفَانِي وَلَا فِدَاءَ على الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَلَا على الْحَامِلِ
وَالْمُرْضِعِ وَكُلِّ من يُفْطِرُ لِعُذْرٍ تُرْجَى معه الْقُدْرَةُ لِفَقْدِ
شَرْطِهِ وهو الْعَجْزُ الْمُسْتَدَامُ وَهَذَا لِأَنَّ الْفِدَاءَ خَلَفٌ عن
الْقَضَاءِ وَالْقُدْرَةُ على الْأَصْلِ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْخَلَفِ كما
في سَائِرِ الْأَخْلَافِ مع أُصُولِهَا وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الشَّيْخَ
الْفَانِي إذَا فَدَى ثُمَّ قَدَرَ على الصَّوْمِ بَطَلَ الْفِدَاءُ
وَأَمَّا الصَّوْمُ الْمَنْذُورُ في وقد ( ( ( وقت ) ) ) بِعَيْنِهِ فَهُوَ
كَصَوْمِ رَمَضَانَ في وُجُوبِ الْقَضَاءِ إذَا فَاتَ عن وَقْتِهِ وَقَدَرَ على
الْقَضَاءِ وَإِنْ فَاتَ بَعْضُهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ ما فَاتَهُ لَا غَيْرُ وَلَا
يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَصَوْمِ رَمَضَانَ بِخِلَافِ ما إذَا أَوْجَبَ على
نَفْسِهِ صَوْمَ شَهْرٍ مُتَتَابِعًا فَأَفْطَرَ يَوْمًا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ
الِاسْتِقْبَالُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قد تَقَدَّمَ وَلَوْ مَاتَ قبل مَمَرِّ
الْوَقْتِ فَلَا قَضَاءَ عليه لِأَنَّ الْإِيجَابَ مُضَافٌ إلَى زَمَانٍ مُتَعَيَّنٍ
فإذا مَاتَ قَبْلَهُ لم يَجِبْ عليه فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ كما لو مَاتَ قبل
دُخُولِ رَمَضَانَ وَكَذَلِكَ إذَا أَدْرَكَ الْوَقْتَ وهو مَرِيضٌ ثُمَّ مَاتَ
قبل أَنْ يَبْرَأَ فَلَا قَضَاءَ عليه فَإِنْ برأ قبل الْمَوْتِ فَعَلَيْهِ
الْقَضَاءُ كما في صَوْمِ رَمَضَانَ
وَلَوْ نَذَرَ وهو صَحِيحٌ وَصَامَ بَعْضَ الشَّهْرِ وهو صَحِيحٌ ثُمَّ مَرِضَ
فَمَاتَ قبل تَمَامِ الشَّهْرِ يَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ لِمَا
بَقِيَ من الشَّهْرِ وَلَوْ نَذَرَ وهو مَرِيضٌ ثُمَّ مَاتَ قبل أَنْ يَصِحَّ لَا
يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِلَا خِلَافٍ وَلَوْ صَحَّ يَوْمًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ
بِالْفِدْيَةِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِقَدْرِ ما صَحَّ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسَنُّ وما يُسْتَحَبُّ لِلصَّائِمِ وما يُكْرَهُ له
أَنْ يَفْعَلَهُ فَنَقُولُ يُسَنُّ لِلصَّائِمِ السُّحُورُ لِمَا رُوِيَ عن
عَمْرِو بن الْعَاصِ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
إنَّ فَصْلًا بين صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السُّحُورِ
وَلِأَنَّهُ يُسْتَعَانُ بِهِ على صِيَامِ النَّهَارِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم في النَّدْبِ إلَى السُّحُورِ فقال اسْتَعِينُوا
بِقَائِلَةِ النَّهَارِ على قِيَامِ اللَّيْلِ وَبِأَكْلِ السُّحُورِ على صِيَامِ
النَّهَارِ
وَالسُّنَّةُ فيها هو التَّأْخِيرُ لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِعَانَةِ فيه أَبْلَغُ
وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ثَلَاثٌ من سُنَنِ
الْمُرْسَلِينَ تَأْخِيرُ السُّحُورِ وَتَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ وَوَضْعُ
الْيَمِينِ على الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ في الصَّلَاةِ وفي رِوَايَةٍ قال
ثَلَاثٌ من أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ
وَلَوْ شَكَّ في طُلُوعِ الْفَجْرِ فَالْمُسْتَحَبُّ له أَنْ لَا يَأْكُلَ هَكَذَا
رَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال إذَا شَكَّ في الْفَجْرِ
فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَدَعَ الْأَكْلَ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْفَجْرَ قد
طَلَعَ فَيَكُونُ الْأَكْلُ إفْسَادًا لِلصَّوْمِ فَيُتَحَرَّزُ عنه وَالْأَصْلُ
فيه ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِوَابِصَةَ بن
مَعْبَدٍ الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ
مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ ما يَرِيبُكَ إلَى ما لَا يَرِيبُكَ وَلَوْ أَكَلَ وهو
شَاكٌّ لَا يُحْكَمُ عليه بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عليه لِأَنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ
مَشْكُوكٌ فيه لِوُقُوعِ الشَّكِّ في طُلُوعِ الْفَجْرِ مع أَنَّ الْأَصْلَ هو
بَقَاءُ اللَّيْلِ فَلَا يَثْبُتُ النَّهَارُ بِالشَّكِّ وَهَلْ يُكْرَهُ
الْأَكْلُ مع الشَّكِّ
رَوَى هِشَامٌ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكْرَهُ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ إنه
إذَا شَكَّ فَلَا يَأْكُلْ وَإِنْ أَكَلَ فَقَدْ أَسَاءَ لِمَا رُوِيَ عن رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال أَلَا إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا
وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ
يَقَعَ فيه وَاَلَّذِي يَأْكُلُ مع الشَّكِّ في طُلُوعِ الْفَجْرِ يَحُومُ حَوْلَ
الْحِمَى فَيُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فيه فَكَانَ بِالْأَكْلِ مُعَرِّضًا صَوْمَهُ
لِلْفَسَادِ فَيُكْرَهُ له ذلك
وَعَنْ الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ لو ظَهَرَ على
أَمَارَةِ الطُّلُوعِ من ضَرْبِ الدِّبْدَابِ وَالْأَذَانِ يُكْرَهُ وَإِلَّا
فَلَا وَلَا تَعْوِيلَ على ذلك لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ
هذا إذَا تَسَحَّرَ وهو شَاكٌّ في طُلُوعِ الْفَجْرِ فَأَمَّا إذَا تَسَحَّرَ
وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ الْفَجْرَ طَالِعٌ فذكر في الْأَصْلِ وقال إنَّ
الْأَحَبَّ إلَيْنَا أَنْ يَقْضِيَ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقْضِي وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ
الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عليه
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّهُ على يَقِينٍ من اللَّيْلِ فَلَا يَبْطُلُ
إلَّا بقين ( ( ( بيقين ) ) ) مِثْلِهِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ دَلِيلٌ وَاجِبُ الْعَمَلِ
بِهِ بَلْ هو في حَقِّ وُجُوبِ الْعَمَلِ في الْأَحْكَامِ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ
وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ اعْتَمَدَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ وَيُسَنُّ
تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ هَكَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ
أَنَّهُ قال وَتَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ أَحَبُّ إلَيْنَا
لِمَا رَوَيْنَا من الحديث وهو قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم ثَلَاثٌ من سُنَنِ
الْمُرْسَلِينَ وَذَكَرَ من جُمْلَتِهَا تَعْجِيلَ الْإِفْطَارِ
وَرُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ
____________________
(2/105)
عليه
وسلم أَنَّهُ قال لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ ما لم يَنْتَظِرُوا لِلْإِفْطَارِ
طُلُوعَ النُّجُومِ والتأخير ( ( ( ولتأخير ) ) ) يُؤَدِّي إلَيْهِ وَلَوْ شَكَّ
في غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَنْبَغِي له أَنْ يُفْطِرَ لِجَوَازِ أَنَّ الشَّمْسَ
لم تَغْرُبْ فَكَانَ الْإِفْطَارُ إفْسَادًا لِلصَّوْمِ
وَلَوْ أَفْطَرَ وهو شَاكٌّ في غُرُوبِ الشَّمْسِ ولم يَتَبَيَّنْ الْحَالَ بَعْدَ
ذلك أنها غَرَبَتْ أَمْ لَا لم يَذْكُرْهُ في الْأَصْلِ وَلَا الْقُدُورِيُّ في
شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ
الْقَضَاءُ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّسَحُّرِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ هُنَاكَ اللَّيْلَ أَصْلٌ فَلَا يَثْبُتُ النَّهَارُ
بِالشَّكِّ فَلَا يَبْطُلُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ بِالْمَشْكُوكِ فيه وَهَهُنَا
النَّهَارُ أَصْلٌ فَلَا يَثْبُتُ اللَّيْلُ بِالشَّكِّ فَكَانَ الْإِفْطَارُ
حَاصِلًا فِيمَا له حُكْمُ النَّهَارِ فَيَجِبُ قَضَاؤُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
ما ذَكَرَهُ الْقَاضِي جَوَابَ الِاسْتِحْسَانِ احْتِيَاطًا فَأَمَّا في الْحُكْمِ
المروي ( ( ( المار ) ) ) هو الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ
لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ حُكْمٌ حَادِثٌ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِسَبَبٍ حَادِثٍ
وهو إفْسَادُ الصَّوْمِ وفي وُجُودِهِ شَكٌّ وَعَلَى هذا يُحْمَلُ اخْتِلَافُ
الرِّوَايَتَيْنِ في مَسْأَلَةِ التَّسَحُّرِ بِأَنْ تَسَحَّرَ وَأَكْبَرُ
رَأْيِهِ أَنَّ الْفَجْرَ طَالِعٌ
وَلَوْ أَفْطَرَ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ الشَّمْسَ قد غَرَبَتْ فَلَا قَضَاءَ
عليه لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلْعَمَلِ بِهِ
وَأَنَّهُ في الْأَحْكَامِ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ وَإِنْ كان غَالِبُ رَأْيِهِ
أنها لم تَغْرُبْ فَلَا شَكَّ في وُجُوبِ الْقَضَاءِ عليه لِأَنَّهُ انْضَافَ إلَى
غَلَبَةِ الظَّنِّ حُكْمُ الْأَصْلِ وهو بَقَاءُ النَّهَارِ فَوَقَعَ إفْطَارُهُ
في النَّهَارِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في وُجُوبِ
الْكَفَّارَةِ
قال بَعْضُهُمْ تَجِبُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ نَزَلَ مَنْزِلَةَ
الْيَقِينِ في وُجُوبِ الْعَمَلِ كَيْفَ وقد انْضَمَّ إلَيْهِ شَهَادَةُ الْأَصْلِ
وهو بَقَاءُ النَّهَارِ
وقال بَعْضُهُمْ لَا تَجِبُ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْغُرُوبِ قَائِمٌ
فَكَانَتْ الشُّبْهَةُ ثَابِتَةً وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مع
الشُّبْهَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَكْتَحِلَ الصَّائِمُ بِالْإِثْمِدِ وَغَيْرِهِ وَلَوْ فَعَلَ
لَا يُفْطِرُهُ وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ في حَلْقِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم اكْتَحَلَ وهو
صَائِمٌ
وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ ليس لِلْعَيْنِ مَنْفَذٌ إلَى الْجَوْفِ وَإِنْ وجده في
خلقه ( ( ( حلقه ) ) ) فَهْوَ أَثَرُهُ لَا عَيْنُهُ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْهُنَ
لِمَا قُلْنَا
وَكَرِهَ أبو حَنِيفَةَ أَنْ يَمْضُغَ الصَّائِمُ الْعِلْكَ لِأَنَّهُ لَا
يُؤْمَنُ أَنْ يَنْفَصِلَ شَيْءٌ منه فَيَدْخُلُ حَلْقَهُ فَكَانَ الْمَضْغُ
تَعْرِيضًا لِصَوْمِهِ لِلْفَسَادِ فَيُكْرَهُ وَلَوْ فَعَلَ لَا يَفْسُدُ
صَوْمُهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ وُصُولَ شَيْءٍ منه إلَى الْجَوْفِ
وَقِيلَ هذا إذَا كان مَعْجُونًا فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ يُفْطِرُهُ لِأَنَّهُ
يَتَفَتَّتُ فَيَصِلُ شَيْءٌ منه إلَى جَوْفِهِ ظَاهِرًا وغالبا
وَيُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْضُغَ لِصَبِيَّتِهَا طَعَامًا وَهِيَ صَائِمَةٌ
لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَصِلَ شَيْءٌ منه إلَى جَوْفِهَا إلَّا إذَا كان لَا
بُدَّ لها من ذلك فَلَا يُكْرَهُ لِلضَّرُورَةِ وَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ
يَذُوقَ الْعَسَلَ أو السَّمْنَ أو الزَّيْتَ وَنَحْوَ ذلك بِلِسَانِهِ لِيَعْرِفَ
أَنَّهُ جَيِّدٌ أو رَدِيءٌ وَإِنْ لم يَدْخُلْ حَلْقَهُ ذلك وَكَذَا يُكْرَهُ
لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَذُوقَ الْمَرَقَةَ لِتَعْرِفَ طَعْمَهَا لِأَنَّهُ يُخَافُ
وُصُولُ شَيْءٍ منه إلَى الْحَلْقِ فَتُفْطِرُ وَلَا بَأْسَ لِلصَّائِمِ أَنْ
يَسْتَاكَ سَوَاءٌ كان السِّوَاكُ يَابِسًا أو رَطْبًا مَبْلُولًا أو غير
مَبْلُولٍ
وقال أبو يُوسُفَ إذَا كان مَبْلُولًا يُكْرَهُ
وقال الشَّافِعِيُّ يُكْرَهُ السِّوَاكُ في آخِرِ النَّهَارِ كَيْفَمَا كان
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَخُلُوفُ
الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ من رِيحِ الْمِسْكِ وَالِاسْتِيَاكُ يُزِيلُ
الْخُلُوفَ فَيُكْرَهُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الِاسْتِيَاكَ بِالْمَبْلُولِ من السِّوَاكِ
إدْخَالُ الْمَاءِ في الْفَمِ من غَيْرِ حَاجَةٍ فَيُكْرَهُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال خَيْرُ خِلَالِ
الصَّائِمِ السِّوَاكُ وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ على أبي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ
وَصَفَ الِاسْتِيَاكَ بِالْخَيْرِيَّةِ مُطْلَقًا من غَيْرِ فَصْلٍ بين
الْمَبْلُولِ وَغَيْرِ الْمَبْلُولِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ في أَوَّلِ النَّهَارِ
وَآخِرِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منه تَطْهِيرُ الْفَمِ فَيَسْتَوِي فيه
الْمَبْلُولُ وَغَيْرُهُ وأول ( ( ( أول ) ) ) النَّهَارِ وَآخِرَهُ
كَالْمَضْمَضَةِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ منه تَفْخِيمُ شَأْنِ الصَّائِمِ وَالتَّرْغِيبُ
في الصَّوْمِ وَالتَّنْبِيهُ على كَوْنِهِ مَحْبُوبًا لِلَّهِ تَعَالَى
وَمُرْضِيهِ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ أو يُحْمَلُ على أَنَّهُمْ كَانُوا
يَتَحَرَّجُونَ عن الْكَلَامِ مع الصَّائِمِ لِتَغَيُّرِ فَمِهِ بِالصَّوْمِ
فَمَنَعَهُمْ عن ذلك وَدَعَاهُمْ إلَى الْكَلَامِ
وَلَا بَأْسَ لِلصَّائِمِ أَنْ يُقَبِّلَ وَيُبَاشِرَ إذَا أَمِنَ على نَفْسِهِ ما
سِوَى ذلك أَمَّا الْقُبْلَةُ فَلِمَا روى أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه سَأَلَ
رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فقال
أَرَأَيْتَ لو تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْتَهُ أَكَانَ يَضُرُّكَ قال لَا
قال فَصُمْ إذًا
وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال هَشَشْتُ إلَى
أَهْلِي ثُمَّ أُتِيتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَقُلْت إنِّي
عَمِلْتُ الْيَوْمَ عَمَلًا عَظِيمًا إنِّي قَبَّلْتُ وأنا صَائِمٌ فقال
أَرَأَيْتَ لو تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ أَكَانَ يَضُرُّكَ قلت لَا
قال فَصُمْ إذًا
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قالت كان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
يُقَبِّلُ
____________________
(2/106)
وهو
صَائِمٌ وَرُوِيَ أَنَّ شَابًّا وَشَيْخًا سَأَلَا رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم عن الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فَنَهَى الشَّابَّ وَرَخَّصَ لِلشَّيْخِ
وقال الشَّيْخُ أَمْلَكُ لِإِرْبِهِ وأنا أَمْلَكُكُمْ لِإِرْبِي وفي رِوَايَةٍ
الشَّيْخُ يَمْلِكُ نَفْسَهُ
وَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فَلِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يُبَاشِرُ وهو صَائِمٌ وكان
أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُبَاشَرَةَ
وَوَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ لَا يُؤْمَنُ على ما سِوَى
ذلك ظَاهِرًا وَغَالِبًا بِخِلَافِ الْقُبْلَةِ وفي حَدِيثَ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ
عنها إشَارَةٌ إلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان مَخْصُوصًا
بِذَلِكَ حَيْثُ قالت وكان أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ
قال أبو يُوسُفَ وَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَتَمَضْمَضَ لِغَيْرِ الْوُضُوءِ
لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَسْبِقَ الْمَاءُ إلَى حلقة وَلَا ضَرُورَةَ فيه
وَإِنْ كان لِلْوُضُوءِ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِإِقَامَةِ
السُّنَّةِ وَأَمَّا الِاسْتِنْشَاقُ وَالِاغْتِسَالُ وَصَبُّ الْمَاءِ على
الرَّأْسِ وَالتَّلَفُّفُ بِالثَّوْبِ الْمَبْلُولِ فَقَدْ قال أبو حَنِيفَةَ
أَنَّهُ يُكْرَهُ
وقال أبو يُوسُفَ لَا يُكْرَهُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم صَبَّ على رَأْسِهِ مَاءً من شِدَّةٍ الْحَرِّ وهو صَائِمٌ
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ كان يَبُلُّ الثَّوْبَ
وَيَتَلَفَّفُ بِهِ وهو صَائِمٌ وَلِأَنَّهُ ليس فيه إلَّا دَفْعُ أَذَى الْحَرِّ
فَلَا يُكْرَهُ كما لو اسْتَظَلَّ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فيه إظْهَارَ الضَّجَرِ من الْعِبَادَةِ
وَالِامْتِنَاعِ عن تَحَمُّلِ مَشَقَّتِهَا وَفِعْلُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم مَحْمُولٌ على حَالٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ حَالُ خَوْفِ الْإِفْطَارِ من
شِدَّةِ الْحَرِّ وَكَذَا فِعْلُ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه مَحْمُولٌ على
مِثْلُ هذه الْحَالَةِ وَلَا كَلَامَ فيه
وَلَا تُكْرَهُ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي
اللَّهُ عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم احْتَجَمَ وهو صَائِمٌ
وَعَنْ أَنَسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
احْتَجَمَ وهو صَائِمٌ مُحْرِمٌ
وَلَوْ احْتَجَمَ لَا يُفْطِرُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ أَصْحَابِ
الحديث يُفْطِرهُ
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مَرَّ على
مَعْقِلِ بن يَسَارٍ وهو يَحْتَجِمُ في رَمَضَانَ فقال أَفْطَرَ الْحَاجِمُ
وَالْمَحْجُومُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم احْتَجَمَ وهو صَائِمٌ وَلَوْ كان الِاحْتِجَامُ
يُفْطِرُ لَمَا فَعَلَهُ وَرَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ
وَالِاحْتِلَامُ
وَأَمَّا ما رُوِيَ من الحديث فَقَدْ قِيلَ أنه كان ذلك في الِابْتِدَاءِ ثُمَّ
رُخِّصَ بَعْدَ ذلك
وَالثَّانِي أَنَّهُ ليس في الحديث إثْبَاتُ الْفِطْرِ بِالْحِجَامَةِ
فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان مِنْهُمَا ما يُوجِبُ الْفِطْرَ وهو ذَهَابُ ثَوَابِ
الصَّوْمِ كما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم مَرَّ بِرَجُلٍ يَحْجِمُ رَجُلًا وَهُمَا يَغْتَابَانِ فقال
أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ أَيْ بِسَبَبِ الْغِيبَةِ مِنْهُمَا على ما
رُوِيَ الْغِيبَةُ تُفْطِرُ الصَّائِمَ وَلِأَنَّ الْحِجَامَةَ لَيْسَتْ إلَّا
إخْرَاجَ شَيْءٍ من الدَّمِ وَالْفِطْرُ مِمَّا يَدْخُلُ وَالْوُضُوءُ مِمَّا
يَخْرُجُ كَذَا قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ التي لها زَوْجٌ أَنْ تَصُومَ تَطَوُّعًا إلَّا بِإِذْنِ
زَوْجِهَا لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يَحِلُّ
لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَصُومَ صَوْمَ
تَطَوُّعٍ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا وَلِأَنَّ له حَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ بها وَلَا
يُمْكِنُهُ ذلك في حَالِ الصَّوْمِ وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا إنْ كان يَضُرُّهُ
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مع الصَّوْمِ فَكَانَ
له مَنْعُهَا فَإِنْ كان صِيَامُهَا لَا يَضُرُّهُ بِأَنْ كان صَائِمًا أو
مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ على الْجِمَاعِ فَلَيْسَ له أَنْ يَمْنَعَهَا لِأَنَّ
الْمَنْعَ كان لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فإذا لم يَقْدِرْ على الِاسْتِمْتَاعِ فَلَا
مَعْنَى لِلْمَنْعِ
وَلَيْسَ لِعَبْدٍ وَلَا أَمَةٍ وَلَا مُدَبَّرٍ وَلَا مُدَبَّرَةٍ وَأُمِّ وَلَدٍ
أَنْ تَصُومَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى لِأَنَّ مَنَافِعَهُ مَمْلُوكَةٌ
لِلْمَوْلَى إلَّا في الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى وهو الْفَرَائِضُ فَلَا يَمْلِكُ
صَرْفَهَا إلَى التَّطَوُّعِ وَسَوَاءٌ كان ذلك يَضُرُّ الْمَوْلَى أو لَا
يَضُرُّهُ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْمَنْعَ هَهُنَا لِمَكَانِ الْمِلْكِ
فَلَا يَقِفُ على الضَّرَرِ
وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُفَطِّرَ الْمَرْأَةَ إذَا صَامَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَكَذَا
لِلْمَوْلَى وَتَقْضِي الْمَرْأَةُ إذَا أَذِنَ لها زَوْجُهَا أو بَانَتْ منه
وَيَقْضِي الْعَبْدُ إذَا أَذِنَ له الْمَوْلَى أو أُعْتِقَ لِأَنَّ الشُّرُوعَ في
التَّطَوُّعِ قد صَحَّ منهما إلَّا أَنَّهُمَا مُنِعَا من الْمُضِيِّ فيه لِحَقِّ
الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى فإذا أَفْطَرَا لَزِمَهُمَا الْقَضَاءُ
وَأَمَّا الْأَجِيرُ الذي اسْتَأْجَرَهُ الرَّجُلُ لِيَخْدِمَهُ فَلَا يَصُومُ
تَطَوُّعًا إلَّا بِإِذْنِهِ لِأَنَّ صَوْمَهُ يَضُرُّ الْمُسْتَأْجِرَ حتى لو كان
لَا يَضُرُّهُ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّ حَقَّهُ في
مَنَافِعِهِ بِقَدْرِ ما يتأدى ( ( ( تتأدى ) ) ) بِهِ الْخِدْمَةُ وَالْخِدْمَةَ
حَاصِلَةٌ له من غَيْرِ خَلَلٍ بِخِلَافِ الْعَبْدِ أن له أَنْ يَمْنَعَهُ وَإِنْ
كان لَا يَضُرُّهُ صَوْمُهُ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُنَاكَ مِلْكُ الرَّأْسِ
وَأَنَّهُ يَظْهَرُ في حَقِّ جَمِيعِ الْمَنَافِعِ سِوَى الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى
وَهَهُنَا الْمَانِعُ مِلْكُ بَعْضِ الْمَنَافِعِ وهو قَدْرُ ما تَتَأَدَّى بِهِ
الْخِدْمَةُ وَذَلِكَ الْقَدْرُ حَاصِلٌ من غَيْرِ خَلَلٍ فَلَا يَمْلِكُ مَنْعَهُ
وَأَمَّا بِنْتُ الرَّجُلِ وَأُمُّهُ وَأُخْتُهُ فَلَهَا أَنْ تطوع ( ( ( تتطوع )
) ) بِغَيْرِ
____________________
(2/107)
إذْنِهِ
لِأَنَّهُ لَا حَقَّ له في مَنَافِعِهَا فَلَا يَمْلِكُ مَنْعَهَا كما لَا
يَمْلِكُ مَنْعَ الْأَجْنَبِيَّةِ
وَلَوْ أَرَادَ الْمُسَافِرُ دُخُولَ مِصْرِهِ أو مِصْرًا آخَرَ يَنْوِي فيه
الْإِقَامَةَ يُكْرَهُ له أَنْ يُفْطِرَ في ذلك الْيَوْمِ وَإِنْ كان مُسَافِرًا
في أَوَّلِهِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْمُحَرِّمُ لِلْفِطْرِ وهو الْإِقَامَةُ
وَالْمُرَخِّصُ وَالْمُبِيحُ وهو السَّفَرُ في يَوْمٍ وَاحِدٍ فَكَانَ
التَّرْجِيحُ لِلْمُحَرِّمِ احْتِيَاطًا فَإِنْ كان أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنْ لَا
يَتَّفِقَ دُخُولُهُ الْمِصْرَ حتى تَغِيبَ الشَّمْسُ فَلَا بَأْسَ بِالْفِطْرِ
فيه
وَلَا بَأْسَ بِقَضَاءِ رَمَضَانَ في عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وهو مَذْهَبُ عُمَرَ
وَعَامَّةُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ إلَّا شيئا حُكِيَ عن عَلِيٍّ رضي
الله عنه أَنَّهُ قال يُكْرَهُ فيها لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ نهى عن قَضَاءِ رَمَضَانَ في الْعَشْرِ والصحيح ( ( ( الصحيح ) ) ) قَوْلُ
الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ } مُطْلَقًا من غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّهَا وَقْتٌ
يُسْتَحَبُّ فيها الصَّوْمُ فَكَانَ الْقَضَاءُ فيها أَوْلَى من الْقَضَاءِ في
غَيْرِهَا وما رُوِيَ من الحديث غَرِيبٌ في حَدِّ الْأَحَادِيثِ فَلَا يَجُوزُ
تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكِتَابِ وَتَخْصِيصُهُ بمثله أو نَحْمِلُهُ على النَّدْبِ
في حَقِّ من اعْتَادَ التَّنَفُّلَ بِالصَّوْمِ في هذه الْأَيَّامِ فَالْأَفْضَلُ
في حَقِّهِ أَنْ يَقْضِيَ في غَيْرِهَا لِئَلَّا تَفُوتَهُ فَضِيلَةُ صَوْمِ هذه
الْأَيَّامِ وَيَقْضِي صَوْمَ رَمَضَانَ في وَقْتٍ آخَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ
كِتَابُ الِاعْتِكَافِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في
بَيَانِ صِفَةِ الإعتكاف وفي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّتِهِ وفي بَيَان رُكْنِهِ
وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ مَحْظُورَاتِ الإعتكاف وما يُفْسِدُهُ وما لَا يُفْسِدُهُ
وفي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ عن وَقْتِهِ
الْمُعَيَّنِ له
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالِاعْتِكَافُ في الْأَصْلِ سُنَّةٌ وَإِنَّمَا يَصِيرُ
وَاجِبًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا قَوْلٌ وهو النَّذْرُ الْمُطْلَقُ
بِأَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا أو شَهْرًا أو نحو ذلك أو
عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ بِأَنْ يَقُولَ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أو إنْ قَدِمَ
فُلَانٌ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا أو نحو ذلك
وَالثَّانِي فِعْلٌ وهو الشُّرُوعُ لِأَنَّ الشُّرُوعَ في التَّطَوُّعَ مُلْزِمٌ
عِنْدَنَا كَالنَّذْرِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ في الْأَصْلِ سُنَّةٌ مُوَاظَبَةُ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فإنه رُوِيَ عن عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي
اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا كان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ من شَهْرِ رَمَضَانَ حتى تَوَفَّاهُ اللَّهُ
تَعَالَى
وَعَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قال عَجَبًا لِلنَّاسِ تَرَكُوا الإعتكاف وقد كان
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَيَتْرُكُهُ ولم يَتْرُكْ
الإعتكاف مُنْذُ دخل الْمَدِينَةَ إلَى أَنْ مَاتَ وَمُوَاظَبَةُ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم عليه دَلِيلُ كَوْنِهِ سُنَّةً في الإصل وَلِأَنَّ
الِاعْتِكَافَ تَقَرُّبٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمُجَاوَرَةِ بَيْتِهِ
وَالْإِعْرَاضِ عن الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ على خِدْمَتِهِ لِطَلَبِ الرَّحْمَةِ
وَطَمَعِ الْمَغْفِرَةِ حتى قال عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ مَثَلُ الْمُعْتَكِفِ
مَثَلُ الذي أَلْقَى نَفْسَهُ بين يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى يقول لَا أَبْرَحُ حتى
يَغْفِرَ لي وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لِمَا فيه من إظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ
تَعَالَى بِمُلَازَمَةِ الْأَمَاكِنِ الْمَنْسُوبَةِ إلَيْهِ وَالْعَزِيمَةُ في
الْعِبَادَاتِ الْقِيَامُ بها بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَانْتِفَاءُ الْحَرَجِ
وَإِنَّمَا رُخِّصَ تَرْكُهَا في بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ
بِالِاعْتِكَافِ اشْتِغَالًا بِالْعَزِيمَةِ حتى لو نَذَرَ بِهِ يَلْتَحِقُ
بِالْعَزَائِمِ الْمُوَظَّفَةِ التي لَا رُخْصَةَ في تَرْكِهَا وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ صِحَّتِهِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى
الْمُعْتَكِفِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَكَفِ فيه أَمَّا ما يَرْجِعُ إلَى
الْمُعْتَكِفِ فَمِنْهَا الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالطَّهَارَةُ عن الْجَنَابَةِ
وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وأنها شَرْطُ الْجَوَازِ في نَوْعَيْ الإعتكاف
الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ جميعا لِأَنَّ الْكَافِرَ ليس من أَهْلِ الْعِبَادَةِ
وَكَذَا الْمَجْنُونُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُؤَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ وهو
ليس من أَهْلِ النِّيَّةِ وَالْجُنُبُ وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ مَمْنُوعُونَ
عن الْمَسْجِدِ وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ لَا تُؤَدَّى إلَّا في الْمَسْجِدِ
وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ فَيَصِحُّ من
الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ لِأَنَّهُ من أَهْلِ الْعِبَادَةِ كما يَصِحُّ منه صَوْمُ
التَّطَوُّعِ وَلَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ فَيَصِحُّ من
الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ إنْ كان لها زَوْجٌ
لِأَنَّهُمَا من أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَإِنَّمَا الْمَانِعُ حَقُّ الزَّوْجِ
وَالْمَوْلَى فإذا وُجِدَ الْإِذْنُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ
وَلَوْ نَذَرَ الْمَمْلُوكُ اعْتِكَافًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ عنه فإذا
أُعْتِقَ قَضَاهُ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا نَذَرَتْ فَلِزَوْجِهَا أَنْ
يَمْنَعَهَا فإذا بَانَتْ قَضَتْ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ فيها
وللمولى ( ( ( وللولي ) ) ) مِلْكَ الذَّاتِ وَالْمَنْفَعَةِ في الْمَمْلُوكِ وفي
الإعتكاف تَأْخِيرُ
____________________
(2/108)
حَقِّهِمَا
في اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ لَهُمَا الْمَنْعُ ما دَامَا في مِلْكِ
الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى فإذا بَانَتْ الْمَرْأَةُ وَأُعْتِقَ الْمَمْلُوكُ
لَزِمَهُمَا قَضَاؤُهُ وَلِأَنَّ النَّذْرَ مِنْهُمَا قد صَحَّ لِوُجُودِهِ من
الْأَهْلِ لَكِنَّهُمَا مُنِعَا لِحَقِّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ فإذا سَقَطَ
حَقُّهُمَا بِالْعِتْقِ وَالْبَيْنُونَةِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيَلْزَمُهُمَا
الْقَضَاءُ
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَيْسَ للمولى ( ( ( للولي ) ) ) أَنْ يَمْنَعَهُ من
الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ
مَنَافِعَ مُكَاتَبِهِ فَكَانَ كَالْحُرِّ في حَقِّ مَنَافِعِهِ وإذا أَذِنَ
الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ بِالِاعْتِكَافِ لم يَكُنْ له أَنْ يَرْجِعَ عنه لِأَنَّهُ
لَمَّا أَذِنَ لها بِالِاعْتِكَافِ فَقَدْ مَلَّكَهَا مَنَافِعَ الِاسْتِمْتَاعِ
بها في زَمَانِ الِاعْتِكَافِ وَهِيَ من أَهْلِ الْمِلْكِ فَلَا يَمْلِكُ
الرُّجُوعَ عن ذلك وَالنَّهْيَ عنه بِخِلَافِ الْمَمْلُوكِ إذَا أَذِنَ له
مَوْلَاهُ بِالِاعْتِكَافِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عنه لِأَنَّ هُنَاكَ ما
مَلَّكَهُ الْمَوْلَى مَنَافِعَهُ لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا
أَعَارَهُ مَنَافِعَهُ وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ في الْعَارِيَّةِ مَتَى شَاءَ
إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ له الرُّجُوعُ لِأَنَّهُ خُلْفٌ في الْوَعْدِ وَغُرُورٌ
فَيُكْرَهُ له ذلك
وَمِنْهَا النِّيَّةُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ
وَمِنْهَا الصَّوْمُ فإنه شَرْطٌ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ بِلَا
خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ليس بِشَرْطٍ وَيَصِحُّ
الِاعْتِكَافُ بِدُونِ الصَّوْمِ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ
رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن عَلِيٍّ
رضي اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ مَذْهَبِنَا
وروى عن عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ مِثْلُ مَذْهَبِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الِاعْتِكَافَ ليس إلَّا الليث ( ( ( اللبث ) ) )
وَالْإِقَامَةَ وَذَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى الصَّوْمِ وَلِأَنَّ الصَّوْمَ
عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ شَرْطَ
الشَّيْءِ تَبَعٌ له وَفِيهِ جَعْلُ الْمَتْبُوعِ تَبَعًا وإنه قَلْبُ
الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا لم يُشْتَرَطْ لِاعْتِكَافِ التَّطَوُّعِ
وَكَذَا يَصِحُّ الشُّرُوعُ في الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ بِدُونِهِ بِأَنْ قال
لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَ رَجَبٍ فَكَمَا رَأَى الْهِلَالَ يَجِبُ
عليه الدُّخُولُ في الِاعْتِكَافِ وَلَا صَوْمَ في ذلك الْوَقْتِ وَلَوْ كان
شَرْطًا لَمَا جَازَ بِدُونِهِ فَضْلًا عن الْوُجُوبِ إذْ الشُّرُوعُ في
الْعِبَادَةِ بِدُونِ شَرْطِهَا لَا يَصِحُّ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ لو قال لِلَّهِ
عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَصَامَ رَمَضَانَ وَاعْتَكَفَ خَرَجَ
عن عُهْدَةِ النَّذْرِ وَإِنْ لم يَجِبْ عليه الصَّوْمُ بِالِاعْتِكَافِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها عن النبي أَنَّهُ قال لَا
اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ وَلِأَنَّ الصَّوْمَ هو الْإِمْسَاكُ عن الْأَكْلِ
وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ ثُمَّ أَحَدُ رُكْنَيْ الصَّوْمِ وهو الْإِمْسَاكُ عن
الْجِمَاعِ شَرْطُ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ فَكَذَا الرُّكْنُ الْآخَرُ وهو
الْإِمْسَاكُ عن الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِاسْتِوَاءِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا في
كَوْنِهِ رُكْنًا لِلصَّوْمِ فإذا كان أَحَدُ الرُّكْنَيْنِ شَرْطًا كان الْآخَرُ
كَذَلِكَ وَلِأَنَّ مَعْنَى هذه الْعِبَادَةِ وهو ما ذَكَرْنَا من الْإِعْرَاضِ عن
الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ على الْآخِرَةِ بِمُلَازَمَةِ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى
لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ تَرْكِ قَضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ إلَّا بِقَدْرِ
الضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ الْقِوَامِ وَذَلِكَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ في
اللَّيَالِي وَلَا ضَرُورَةَ في الْجِمَاعِ
وَقَوْلُهُ الإعتكاف ليس إلَّا اللُّبْثَ وَالْمُقَامَ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ هذا لَا
يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ عن الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ
كما لم يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ عن الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ
شَرْطًا لِصِحَّتِهِ وَالنِّيَّةُ وَكَذَا كَوْنُ الصَّوْمِ عِبَادَةً مَقْصُودَةً
بِنَفْسِهِ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِغَيْرِهِ
أَلَّا تَرَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهِ ثُمَّ
جُعِلَ شَرْطًا لِجَوَازِ الصَّلَاةِ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ كَذَا هَهُنَا
وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ
أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الصَّوْمِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا من اعْتَمَدَ على هذه
الرِّوَايَةِ وَأَمَّا على ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلِأَنَّ في الِاعْتِكَافِ
التَّطَوُّعِ عن أَصْحَابِنَا رِوَايَتَيْنِ في رِوَايَةٍ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ وفي
رِوَايَةٍ غَيْرُ مُقَدَّرٍ أَصْلًا وهو رِوَايَةُ الْأَصْلِ فإذا لم يَكُنْ
مُقَدَّرًا وَالصَّوْمُ عِبَادَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِيَوْمٍ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا
لِمَا ليس بِمُقَدَّرٍ بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ فإنه مُقَدَّرٌ
بِيَوْمٍ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عنه قبل تَمَامِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ
الصَّوْمُ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ
وَأَمَّا إذَا قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَ رَجَبٍ فَإِنَّمَا
أَوْجَبَ عليه الدُّخُولَ في الِاعْتِكَافِ في اللَّيْلِ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ
دَخَلَتْ في الِاعْتِكَافِ الْمُضَافِ إلَى الشَّهْرِ لِضَرُورَةِ اسْمِ الشَّهْرِ
إذْ هو اسْمٌ لِلْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي دَخَلَتْ تَبَعًا لَا أَصْلًا
وَمَقْصُودًا فَلَا يُشْتَرَطُ لها ما يُشْتَرَطُ لِلْأَصْلِ كما إذَا قال لِلَّهِ
عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إنه يَدْخُلُ فيه اللَّيَالِي
وَيَكُونُ أَوَّلُ دُخُولِهِ فيه من اللَّيْلِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَأَمَّا النَّذْرُ بِاعْتِكَافِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّمَا يَصِحُّ لِوُجُودِ
شَرْطِهِ وهو الصَّوْمُ في زَمَانِ الِاعْتِكَافِ وَإِنْ لم يَكُنْ لُزُومُهُ
بِالْتِزَامِ الِاعْتِكَافِ لِأَنَّ ذلك أَفْضَلُ
وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ فَالصَّوْمُ ليس بِشَرْطٍ لِجَوَازِهِ في
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ أَحَدُ رُكْنَيْ الصَّوْمِ عَيْنًا وهو
الْإِمْسَاكُ عن الْجِمَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ
وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ } فَأَمَّا الْإِمْسَاكُ عن الْأَكْلِ
وَالشُّرْبِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ
____________________
(2/109)
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ شَرْطٌ وَاخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ فيه
مَبْنِيٌّ على اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ في اعْتِكَافِ التَّطَوُّعِ أَنَّهُ
مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ أو غَيْرُ مُقَدَّرٍ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ أَنَّهُ
غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَيَسْتَوِي فيه الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَلَوْ سَاعَةً
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ فلما لم يَكُنْ
مُقَدَّرًا على رِوَايَةِ الْأَصْلِ لم يَكُنْ الصَّوْمُ شَرْطًا له لِأَنَّ
الصَّوْمَ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ إذْ صَوْمُ بَعْضِ الْيَوْمِ ليس بِمَشْرُوعٍ فَلَا
يَصْلُحُ ( شَرْطًا لِمَا ليس بمقدر ( ( ( مقدرا ) ) ) وَلَمَّا كان مُقَدَّرًا
بِيَوْمٍ على رواية الحسن فالصوم يصلح شرطا لما ليس بمقدر ولما كان مقدرا بيوم على
رِوَايَةِ الْحَسَنِ فَالصَّوْمُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا له وَالْكَلَامُ
فيه يَأْتِي في مَوْضِعِهِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا
أَنَّهُ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا وَاحِدًا بِصَوْمٍ
وَالتَّعْيِينِ إلَيْهِ فإذا أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قبل
طُلُوعِ الْفَجْرِ فَيَطْلُعُ الْفَجْرُ وهو فيه فَيَعْتَكِفُ يَوْمَهُ ذلك
وَيَخْرُجُ منه بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لِأَنَّ الْيَوْمَ اسْمٌ لِبَيَاضِ
النَّهَارِ وهو من طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَيَجِبُ أَنْ
يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ حتى يَقَعَ اعْتِكَافُهُ في جَمِيعِ
الْيَوْمِ وَإِنَّمَا كان التَّعْيِينُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يُعَيِّنْ الْيَوْمَ
في النَّذْرِ
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً لم يَصِحَّ ولم يَلْزَمْهُ
شَيْءٌ عِنْدَنَا لِأَنَّ الصَّوْمَ شَرْطُ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ فَاللَّيْلُ ليس
بِمَحَلٍّ لِلصَّوْمِ ولم يُوجَدْ منه ما يُوجِبُ دُخُولَهُ في الإعتكاف تَبَعًا
فَالنَّذْرُ لم يُصَادِفْ مَحَلَّهُ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَصِحُّ لِأَنَّ الصَّوْمَ عِنْدَهُ ليس بِشَرْطٍ
لِصِحَّةِ الإعتكاف
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ نَوَى لَيْلَةً بِيَوْمِهَا لَزِمَهُ ذلك ولم
يذكر مُحَمَّدٌ هذا التَّفْصِيلَ في الْأَصْلِ فَإِمَّا أَنْ يُوَفِّقَ بين
الرِّوَايَتَيْنِ فَيَحْمِلَ الْمَذْكُورَ في الْأَصْلِ على ما إذَا لم تَكُنْ له
نِيَّةٌ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ في الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ
وَجْهُ ما روى عن أبي يُوسُفَ اعْتِبَارُ الْفَرْدِ بِالْجَمْعِ وهو أَنَّ ذِكْرَ
اللَّيَالِي بِلَفْظِ الْجَمْعِ يَكُونُ ذِكْرًا لِلْأَيَّامِ كَذَا ذِكْرُ
اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ يَكُونُ ذِكْرًا لِيَوْمٍ وَاحِدٍ
وَالْجَوَابُ أَنَّ هذا إثْبَاتُ اللُّغَةِ بِالْقِيَاسِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ
فَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلًا وَنَهَارًا لَزِمَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ
لَيْلًا وَنَهَارًا وَإِنْ لم يَكُنْ اللَّيْلُ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ لِأَنَّ
اللَّيْلَ يَدْخُلُ فيه تَبَعًا وَلَا يُشْتَرَطُ لِلتَّبَعِ ما يُشْتَرَطُ
لِلْأَصْلِ
وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ قد أَكَلَ فيه لم يَصِحَّ ولم يَلْزَمْهُ شَيْءٌ
لِأَنَّ الإعتكاف الْوَاجِبَ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الصَّوْمِ وَلَا يَصِحُّ
الصَّوْمُ في يَوْمٍ قد أَكَلَ فيه وإذا لم يَصِحَّ الصَّوْمُ لم يَصِحَّ
الِاعْتِكَافُ وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمَيْنِ وَلَا
نِيَّةَ له يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ بِلَيْلَتَيْهِمَا وَتَعْيِينُ ذلك
إلَيْهِ
فإذا أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قبل غُرُوبِ الشَّمْسِ
فَيَمْكُثُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَيَوْمَهَا ثُمَّ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ
وَيَوْمَهَا إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ ثُمَّ يَخْرُجُ من الْمَسْجِدِ وَهَذَا
قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وقال أبو يُوسُفَ اللَّيْلَةُ الْأُولَى لَا تَدْخُلُ في نَذْرِهِ وَإِنَّمَا
تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْمُتَخَلِّلَةُ بين الْيَوْمَيْنِ فَعَلَى قَوْلِهِ
يَدْخُلُ قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ
وَرُوِيَ عن ابْنِ سِمَاعَةَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ له أَنْ يَدْخُلَ قبل غُرُوبِ
الشَّمْسِ وَلَوْ دخل قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْيَوْمَ في الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِبَيَاضِ النَّهَارِ إلَّا
أَنَّ اللَّيْلَةَ الْمُتَخَلِّلَةَ تَدْخُلُ لِضَرُورَةِ حُصُولِ التَّتَابُعِ
وَالدَّوَامِ وَلَا ضَرُورَةَ في دُخُولِ اللَّيْلَةِ الْأُولَى بِخِلَافِ ما إذَا
ذَكَرَ الْأَيَّامَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ حَيْثُ يَدْخُلُ ما بِإِزَائِهَا من
اللَّيَالِي لِأَنَّ الدُّخُولَ هُنَاكَ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كَقَوْلِ
الرَّجُلِ كنا عِنْدَ فُلَانٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيُرِيدُ بِهِ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ وما بِإِزَائِهَا من اللَّيَالِي وَمِثْلُ هذا الْعُرْفِ لم يُوجَدْ في
التَّثْنِيَةِ وَلَهُمَا أَنَّ هذا الْعُرْفَ أَيْضًا ثَابِتٌ في التَّثْنِيَةِ
كما في الْجَمْعِ ويقول ( ( ( يقول ) ) ) الرَّجُلُ كنا عِنْدَ فُلَانٍ يَوْمَيْنِ
وَيُرِيدُ بِهِ يَوْمَيْنِ وما بِإِزَائِهِمَا من اللَّيَالِي
وَيَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَكِنْ تَعْيِينُ
الْيَوْمَيْنِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يُعَيِّنْ في النَّذْرِ وَلَوْ نَوَى
يَوْمَيْنِ خَاصَّةً دُونَ لَيْلَتَيْهِمَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَيَلْزَمُهُ
اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ بِغَيْرِ لَيْلَةٍ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وهو
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ لِأَنَّهُ ليس في لَفْظِهِ
ما يَدُلُّ على التَّتَابُعِ وَالْيَوْمَانِ مُتَفَرِّقَانِ لِتَخَلُّلِ
اللَّيْلَةِ بَيْنَهُمَا فَصَارَ الإعتكاف هَهُنَا كَالصَّوْمِ فَيَدْخُلُ في كل
يَوْمٍ الْمَسْجِدَ قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيَخْرُجُ منه بَعْدَ غُرُوبِ
الشَّمْسِ وَكَذَا لو قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أو
أَكْثَرَ من ذلك وَلَا نِيَّةَ له أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَيَّامُ مع
لَيَالِيهِنَّ وَتَعْيِينُهَا إلَيْهِ لَكِنْ يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ صِفَةِ
التَّتَابُعِ وَإِنْ نَوَى الْأَيَّامَ دُونَ اللَّيَالِي صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِمَا
قُلْنَا وَيَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِغَيْرِ لَيْلَةٍ وَلَهُ
خِيَارُ التَّفْرِيقِ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ تَعَلَّقَتْ بِالْأَيَّامِ
وَالْأَيَّامُ مُتَفَرِّقَةٌ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ إلَّا بِالشَّرْطِ كما
في الصَّوْمِ وَيَدْخُلُ كُلَّ يَوْمٍ قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ
الشَّمْسِ ثُمَّ يَخْرُجُ
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَتَيْنِ وَلَا نِيَّةَ له
يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ لَيْلَتَيْنِ مع يَوْمَيْهِمَا وَكَذَلِكَ لو قال ثَلَاثَ
لَيَالٍ أو أَكْثَرَ من ذلك من اللَّيَالِي وَيَلْزَمُهُ مُتَتَابِعًا لَكِنَّ
التَّعْيِينَ إلَيْهِ لِمَا قُلْنَا وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قبل غُرُوبِ الشَّمْسِ
وَلَوْ نَوَى اللَّيْلَ دُونَ النَّهَارِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّهُ نَوَى
حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّ اللَّيْلَ ليس وَقْتًا
لِلصَّوْمِ وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ الْأَيَّامَ إذَا ذُكِرَتْ بِلَفْظِ
الْجَمْعِ يَدْخُلُ ما بِإِزَائِهَا من اللَّيَالِي وَكَذَا اللَّيَالِي إذَا
ذُكِرَتْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ يَدْخُلُ ما بِإِزَائِهَا من الْأَيَّامِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى في قِصَّةِ زَكَرِيَّا عليه السَّلَامُ { ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا
رَمْزًا } وقال عز وجل في مَوْضِعٍ آخَرَ { ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا }
____________________
(2/110)
وَالْقِصَّةُ
قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ فلما عَبَّرَ في مَوْضِعٍ بِاسْمِ الْأَيَّامِ وفي مَوْضِعٍ
بِاسْمِ اللَّيَالِي دَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا هو وما بِإِزَاءِ
صَاحِبِهِ حتى إن في الْمَوْضِعِ الذي لم تَكُنْ الْأَيَّامُ فيه على عَدَدِ
اللَّيَالِي أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالذِّكْرِ
قال اللَّهُ تَعَالَى { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا }
وَلِلْآيَتَيْنِ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ هَهُنَا لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ فيه كما في
اسْمِ الْجَمْعِ على ما بَيَّنَّا
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَا نِيَّةَ له
فَهُوَ على الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي مُتَتَابِعًا لَكِنَّ التَّعْيِينَ إلَيْهِ
وَلَوْ قال نَوَيْت النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّهُ عَنَى
بِهِ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ دُونَ ما نُقِلَ عنه بِالْعُرْفِ وَالْعُرْفُ أَيْضًا
بِاسْتِعْمَالِ هذه الْحَقِيقَةِ بَاقٍ فيصح ( ( ( فتصح ) ) ) نِيَّتُهُ ثُمَّ هو
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ
عن قَيْدِ التَّتَابُعِ وَكَذَا ذَاتُ الْأَيَّامِ لَا تَقْتَضِي التَّتَابُعَ
لِتَخَلُّلِ ما ليس بِمَحَلٍّ لِلِاعْتِكَافِ بين كل يَوْمَيْنِ وَلَوْ قال
عَنَيْت اللَّيَالِيَ دُونَ النَّهَارِ لم يُعْمَلْ بِنِيَّتِهِ وَلَزِمَهُ اللَّيْلُ
وَالنَّهَارُ لِأَنَّهُ لَمَا نَصَّ على الْأَيَّامِ فإذا قال نَوَيْت بها
اللَّيَالِيَ دُونَ الْأَيَّامِ فَقَدْ نَوَى ما لَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَلَا
يُقْبَلُ قَوْلُهُ
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وقال عَنَيْت
بِهِ اللَّيَالِيَ دُونَ النَّهَارِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ
حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَاللَّيَالِي في اللُّغَةِ اسْمٌ لِلزَّمَانِ الذي كانت
الشَّمْسُ فيه غَائِبَةً إلَّا أن ( ( ( أنها ) ) ) عِنْدَ الْإِطْلَاقِ
تَتَنَاوَلُ ما بِإِزَائِهَا من الْأَيَّامِ بِالْعُرْفِ فإذا عني بِهِ حَقِيقَةَ
كَلَامِهِ وَالْعُرْفُ أَيْضًا بِاسْتِعْمَالِ هذه الْحَقِيقَةِ بَاقٍ صَحَّتْ
نِيَّتُهُ لِمُصَادِفَتِهَا مَحَلَّهَا وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ
أَعْتَكِفَ شَهْرًا يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ أَيَّ شَهْرٍ كان مُتَتَابِعًا
في النَّهَارِ وَاللَّيَالِي جميعا سَوَاءٌ ذَكَرَ التَّتَابُعَ أو لَا
وَتَعْيِينُ ذلك الشَّهْرِ إلَيْهِ فَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قبل غُرُوبِ الشَّمْسِ
فَتَغْرُبُ الشَّمْسُ وهو فيه فَيَعْتَكِفُ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَثَلَاثِينَ
يَوْمًا ثُمَّ يَخْرُجُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِهَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ
بِخِلَافِ ما إذَا قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا ولم يُعَيِّنْ ولم
يذكر التَّتَابُعَ وَلَا نَوَاهُ إنه لَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ بَلْ هو
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ
وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا من لُزُومِ التَّتَابُعِ في هذه الْمَسَائِلِ مَذْهَبُ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ لَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ في شَيْءٍ من
ذلك إلَّا بِذِكْرِ التَّتَابُعِ أو بِالنِّيَّةِ وهو بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ
تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن اللَّفْظَ مُطْلَقٌ عن قَيْدِ التَّتَابُعِ ولم يُنْوَ
التَّتَابُعُ أَيْضًا فيجري على إطْلَاقِهِ كما في الصَّوْمِ
وَلَنَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الإعتكاف عِبَادَةٌ
دَائِمَةٌ وَمَبْنَاهَا على الإتصال لِأَنَّهُ لُبْثٌ وَإِقَامَةٌ وَاللَّيَالِيَ
قَابِلَةٌ لِلُّبْثِ فَلَا بُدَّ من التَّتَابُعِ وَإِنْ كان اللَّفْظُ مُطْلَقًا
عن قَيْدِ التَّتَابُعِ لَكِنْ في لَفْظِهِ ما يَقْتَضِيهِ وفي ذَاتِهِ ما
يُوجِبُهُ بِخِلَافِ ما إذَا نَذَرَ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا وَلَزِمَهُ أَنْ يَصُومَ
شَهْرًا غير مُعَيِّنٍ إنه إذَا عَيَّنَ شَهْرًا له أَنْ يُفَرِّقَ لِأَنَّهُ
أُوجِبَ مُطْلَقًا عن قَيْدِ التَّتَابُعِ وَلَيْسَ مَبْنَى حُصُولِهِ على
التَّتَابُعِ بَلْ على التَّفْرِيقِ لِأَنَّ بين كل عِبَادَتَيْنِ منه وَقْتًا لَا
يَصْلُحُ لها وهو اللَّيْلُ فلم يُوجَدْ فيه قَيْدُ التَّتَابُعِ وَلَا اقْتِضَاءُ
لَفْظُهُ وَتَعْيِينُهُ فَبَقِيَ له الْخِيَارُ وَلِهَذَا لم يَلْزَمْ
التَّتَابُعُ فِيمَا لم يَتَقَيَّدْ بِالتَّتَابُعِ من الصِّيَامِ الْمَذْكُورِ في
الْكِتَابِ كَذَا هذا
وَلَوْ نَوَى في قَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا النَّهَارَ
دُونَ اللَّيْلِ لم تَصِحَّ نِيَّتُهُ وَيَلْزَمُهُ الإعتكاف شَهْرًا
بِالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي جميعا لِأَنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ لِزَمَانٍ مُقَدَّرٍ
بِثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً مُرَكَّبٌ من شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ في نَفْسِهِ كَالْبَلَقِ فإذا أَرَادَ أَحَدَهُمَا
فَقَدْ أَرَادَ بِالِاسْمِ ما لم يُوضَعْ له وَلَا احْتَمَلَهُ فَبَطَلَ كَمَنْ
ذَكَرَ الْبَلَقَ وعني بِهِ الْبَيَاضَ دُونَ السَّوَادِ فلم تُصَادِفْ النِّيَّةُ
مَحَلَّهَا فَلَغَتْ
وَهَذَا بِخِلَافِ اسْمِ الْخَاتَمِ فإنه اسْمٌ لِلْحَلْقَةِ بِطَرِيقِ الإصالة
وَالْفَصُّ كَالتَّابِعِ لها لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ فيها زِينَةً لها فَكَانَ
كَالْوَصْفِ لها فَجَازَ أَنْ يُذْكَرَ الْخَاتَمُ وَيُرَادَ بِهِ الْحَلْقَةُ
فَأَمَّا هَهُنَا فَكُلُّ وَاحِدٍ من الزَّمَانَيْنِ أَصْلٌ فلم يَنْطَلِقْ
الِاسْمُ على أَحَدِهِمَا بِخِلَافِ ما إذَا قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ
شَهْرًا حَيْثُ انْصَرَفَ إلَى النَّهَارِ دُونَ اللَّيَالِي لِأَنَّ هُنَاكَ
أَيْضًا لَا نَقُولُ إنَّ اسْمَ الشَّهْرِ تَنَاوَلَ النَّهَارَ دُونَ اللَّيَالِي
لِمَا ذَكَرْنَا من الِاسْتِحَالَةِ بَلْ تَنَاوَلَ النَّهَارَ وَاللَّيَالِيَ
جميعا فَكَانَ مُضِيفًا النَّذْرَ بِالصَّوْمِ إلَى اللَّيَالِي وَالنَّهَارِ
جميعا مَعًا غير أَنَّ اللَّيَالِيَ لَيْسَتْ مَحَلًّا لِإِضَافَةِ النَّذْرِ
بِالصَّوْمِ إلَيْهَا فلم تُصَادِفْ النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَلَغَا ذِكْرُ
اللَّيَالِي وَالنَّهَارُ مَحَلٌّ لِذَلِكَ فَصَحَّتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهَا على
الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ إن التَّصَرُّفَ الْمُصَادِفَ لِمَحَلِّهِ يَصِحُّ
وَالْمُصَادِفَ لِغَيْرِ مَحَلِّهِ يَلْغُو
فَأَمَّا في الإعتكاف فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحَلٌّ وَلَوْ قال لِلَّهِ
____________________
(2/111)
عَلَيَّ
أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ يَلْزَمُهُ كما الْتَزَمَ وهو
اعْتِكَافُ شَهْرٍ بِالْأَيَّامِ دُونَ اللَّيَالِي لِأَنَّهُ لَمَّا قال
النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ فَقَدْ لَغَا ذِكْرُ الشَّهْرِ بِنَصِّ كَلَامِهِ
كَمَنْ قال رَأَيْت فَرَسًا أَبْلَقَ لِلْبَيَاضِ منه دُونَ السَّوَادِ وكان هو
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ لِأَنَّهُ تَلَفَّظَ
بِالنَّهَارِ وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ كُلَّ اعْتِكَافٍ وَجَبَ في الْأَيَّامِ دُونَ
اللَّيَالِيِ فَصَاحِبُهُ فيه بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ
فَرَّقَ وَكُلُّ اعْتِكَافٍ وَجَبَ في الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي جميعا يَلْزَمُهُ
اعْتِكَافُ شَهْرٍ يَصُومُهُ مُتَتَابِعًا
وَلَوْ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ بِأَنْ قال لِلَّهِ
عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ رَجَبَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فيه يَصُومُهُ
مُتَتَابِعًا وَإِنْ أَفْطَرَ يَوْمًا أو يَوْمَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ ذلك وَلَا
يَلْزَمُهُ قَضَاءُ ما يصلح ( ( ( صح ) ) ) اعْتِكَافُهُ فيه كما إذَا أَوْجَبَ
على نَفْسِهِ صَوْمَ رَجَبٍ على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الصَّوْمِ
فَإِنْ لم يَعْتَكِفْ في رَجَبٍ حتى مَضَى يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ يَصُومُهُ
مُتَتَابِعًا لِأَنَّهُ لَمَّا مَضَى رَجَبٌ من غَيْرِ اعْتِكَافٍ صَارَ في
ذِمَّتِهِ اعْتِكَافُ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَيَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ صِفَةِ
التَّتَابُعِ فيه كما إذَا أَوْجَبَ على نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ
عَيْنِهِ ابْتِدَاءً بِأَنْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا وَلَوْ
أَوْجَبَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ فَاعْتَكَفَ شَهْرًا قَبْلَهُ عن نَذْرِهِ
بِأَنْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ رَجَبًا فَاعْتَكَفَ شَهْرَ رَبِيعٍ
الْآخَرِ أَجْزَأَهُ عن نَذْرِهِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يُجْزِئُهُ وهو على الِاخْتِلَافِ في النَّذْرِ
بِالصَّوْمِ في شَهْرٍ مُعَيَّنٍ فَصَامَ قَبْلَهُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في
كِتَابِ النَّذْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَ رَمَضَانَ يَصِحُّ نذكره ( ( (
نذره ) ) ) وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ في شَهْرِ رَمَضَانَ كُلِّهِ لِوُجُودِ
الإلتزام بِالنَّذْرِ فَإِنْ صَامَ رمضان وَاعْتَكَفَ فيه خَرَجَ عن عُهْدَةِ
النَّذْرِ لِوُجُودِ شَرْطِ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ وهو الصَّوْمُ وَإِنْ لم يَكُنْ
لُزُومُهُ بِالْتِزَامِهِ الِاعْتِكَافَ لِأَنَّ ذلك ليس بِشَرْطٍ إنَّمَا
الشَّرْطُ وُجُودُهُ معه كَمَنْ لَزِمَهُ أَدَاءُ الظُّهْرِ وهو مُحْدِثٌ
يَلْزَمُهُ الطَّهَارَةُ وَلَوْ دخل وَقْتُ الظُّهْرِ وهو على الطَّهَارَةِ
يَصِحُّ أَدَاءُ الظُّهْرِ بها لِأَنَّ الشَّرْطَ هو الطَّهَارَةُ وقد وُجِدَتْ
كَذَا هذا
وَلَوْ صَامَ رَمَضَانَ كُلَّهُ ولم يَعْتَكِفْ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الإعتكاف
بِصَوْمٍ آخَرَ في شَهْرٍ آخَرَ مُتَتَابِعًا كَذَا ذَكَر مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الِاعْتِكَافُ بَلْ يَسْقُطُ
نَذْرُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ نَذْرَهُ انْعَقَدَ غير مُوجِبٍ لِلصَّوْمِ وقد تَعَذَّرَ
إبْقَاؤُهُ كما انْعَقَدَ فَتَسْقُطُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ في الْبَقَاءِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ النَّذْرَ بالإعتكاف في
رَمَضَانَ قد صَحَّ وَوَجَبَ عليه الإعتكاف فيه فإذا لم يُؤَدِّ بَقِيَ وَاجِبًا
عليه كما إذَا نَذَرَ بالإعتكاف في شَهْرٍ آخَرَ بِعَيْنِهِ فلم يُؤَدِّهِ حتى
مَضَى الشَّهْرُ وَإِذًا بَقِيَ وَاجِبًا عليه وَلَا يَبْقَى وَاجِبًا عليه إلَّا
بِوُجُوبِ شَرْطِ صِحَّةِ أَدَائِهِ وهو الصَّوْمُ فَيَبْقَى وَاجِبًا عليه
بِشَرْطِهِ وهو الصَّوْمُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ نَذْرَهُ ما انْعَقَدَ مُوجِبًا لِلصَّوْمِ في رَمَضَانَ
فَنَعَمْ لَكِنْ جَازَ أَنْ يَبْقَى مُوجِبًا لِلصَّوْمِ في غَيْرِ رَمَضَانَ
وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ لِضَرُورَةِ التَّمَكُّنِ من الْأَدَاءِ وَلَا
يَتَمَكَّنُ من الْأَدَاءِ في غَيْرِهِ إلَّا بِالصَّوْمِ فَيَجِبُ عليه الصَّوْمُ
وَيَلْزَمُهُ مُتَتَابِعًا لِأَنَّهُ لَزِمَهُ الإعتكاف في شَهْرٍ بِعَيْنِهِ وقد
فَاتَهُ فَيَقْضِيهِ مُتَتَابِعًا كما إذَا أَوْجَبَ اعْتِكَافَ رَجَبٍ فلم
يَعْتَكِفْ فيه أَنَّهُ يَقْضِيهِ في شَهْرٍ آخَرَ مُتَتَابِعًا كَذَا هذا وَلَوْ
لم يَصُمْ رَمَضَانَ ولم يَعْتَكِفْ فيه فَعَلَيْهِ اعْتِكَافُ شَهْرٍ
مُتَتَابِعًا بِصَوْمٍ وَقَضَاءُ رَمَضَانَ فَإِنْ قَضَى صَوْمَ الشَّهْرِ
مُتَتَابِعًا وَقَرَنَ بِهِ الِاعْتِكَافَ جَازَ وَيَسْقُطُ عنه قَضَاءُ رَمَضَانَ
وَخَرَجَ عن عُهْدَةِ النَّذْرِ لِأَنَّ الصَّوْمَ الذي وَجَبَ فيه الإعتكاف بَاقٍ
فَيَقْضِيهِمَا جميعا يَصُومُ شَهْرًا مُتَتَابِعًا
وَهَذَا لِأَنَّ ذلك الصَّوْمَ لَمَّا كان بَاقِيًا لَا يَسْتَدْعِي وُجُوبُ
الِاعْتِكَافِ فيها صَوْمًا آخَرَ فَبَقِيَ وَاجِبَ الْأَدَاءِ بِعَيْنِ ذلك
الصَّوْمِ كما انْعَقَدَ وَلَوْ صَامَ ولم يَعْتَكِفْ حتى دخل رَمَضَانُ
الْقَابِلُ فَاعْتَكَفَ قَاضِيًا لِمَا فَاتَهُ بِصَوْمِ هذا الشَّهْرِ لم يَصِحَّ
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ بَقَاءَ وُجُوبِ الإعتكاف يَسْتَدْعِي وُجُوبَ صَوْمٍ
يَصِيرُ شَرْطًا لِأَدَائِهِ فَوَجَبَ في ذِمَّتِهِ صَوْمٌ على حِدَةٍ وما وَجَبَ
في الذِّمَّةِ من الصَّوْمِ لَا يَتَأَدَّى بِصَوْمِ الشَّهْرِ
وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمَيْ الْعِيدِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَهُوَ
على الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا في الصَّوْمِ أن ( ( ( وأن ) ) )
على رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عن أبي حَنِيفَةَ يَصِحُّ نَذْرُهُ لَكِنْ يُقَالُ له
اقْضِ في يَوْمٍ آخَرَ وَيُكَفِّرُ الْيَمِينَ إنْ كان أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ
وَإِنْ أعتكف فيها جَازَ وَخَرَجَ عن عُهْدَةِ النَّذْرِ وكان مُسِيئًا
وَعَلَى رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ عن أبي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ
نَذْرُهُ بالإعتكاف فيها أَصْلًا كما لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ بِالصَّوْمِ فيها
وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّوْمَ من لَوَازِمِ الإعتكاف الْوَاجِبِ
فَكَانَ الْجَوَابُ في الِاعْتِكَافِ كَالْجَوَابِ في الصَّوْمِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَكَفِ فيه فَالْمَسْجِدُ وأنه شَرْطٌ في
____________________
(2/112)
نَوْعَيْ
الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا
تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ } وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ
عَاكِفِينَ في الْمَسَاجِدِ مع أَنَّهُمْ لم يُبَاشِرُوا الْجِمَاعَ في
الْمَسَاجِدِ لِيُنْهَوْا عن الْجِمَاعِ فيها فَدَلَّ أَنَّ مَكَانَ الِاعْتِكَافِ
هو الْمَسْجِدُ وَيَسْتَوِي فيه الِاعْتِكَافُ الْوَاجِبُ وَالتَّطَوُّعُ لِأَنَّ
النَّصَّ مُطْلَقٌ ثُمَّ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ
إلَّا في مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ يُرِيدُ بِهِ الرَّجُلَ وقال الطَّحَاوِيُّ أنه
يَصِحُّ في كل مَسْجِدٍ
وَرَوَى الْحَسَنُ بن زِيَادٍ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا في
مَسْجِدٍ تُصَلَّى فيه الصَّلَوَاتُ كُلُّهَا وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عن ابْنِ
مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه روى عنه أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا في الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَأَنَّهُ
ذَهَبَ في ذلك إلَى ما رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَا اعْتِكَافَ إلَّا في
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وروى أَنَّهُ قال لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا لثلاث ( (
( لثلاثة ) ) ) مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هذا وَالْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى
وفي رِوَايَةٍ وَمَسْجِدِ الْأَنْبِيَاءِ
وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ
في الْمَسَاجِدِ } وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال سمعت رَسُولَ
اللَّهِ يقول الِاعْتِكَافُ في كل مَسْجِدٍ له إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ والمروى أَنَّهُ
لَا اعْتِكَافَ إلَّا في الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إنْ ثَبَتَ فَهُوَ على
التَّنَاسُخِ لِأَنَّهُ روى أَنَّ النبي اعْتَكَفَ في مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ
فَصَارَ مَنْسُوخًا بِدَلَالَةِ فِعْلِهِ إذْ فِعْلُ النبي يَصْلُحُ نَاسِخًا
لِقَوْلِهِ أو يُحْمَلُ على بَيَانِ الْأَفْضَلِ كَقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ لِجَارِ
الْمَسْجِدِ إلَّا في الْمَسْجِدِ أو على المجاروة ( ( ( المجاورة ) ) ) على
قَوْلِ من لَا يَكْرَهُهَا
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ إنْ ثَبَتَ فَيُحْمَلُ على الزِّيَارَةِ أو على
بَيَانِ الْأَفْضَلِ فَأَفْضَلُ الِاعْتِكَافِ أَنْ يَكُونَ في الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ ثُمَّ في مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وهو مَسْجِدُ رسول اللَّهِ ثُمَّ في
الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ثُمَّ في الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ ثُمَّ في الْمَسَاجِدِ
الْعِظَامِ لتي ( ( ( التي ) ) ) كَثُرَ أَهْلُهَا وَعَظُمَ
أَمَّا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَمَسْجِدُ رسول اللَّهِ فَلِمَا روى عن النبي
أَنَّهُ قال صَلَاةٌ في مَسْجِدِي هذا تَعْدِلُ أَلْفَ صَلَاةٍ في غَيْرِهِ من
الْمَسَاجِدِ ما خَلَا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلِأَنَّ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
من الْفَضَائِلِ ما ليس لِغَيْرِهِ من كَوْنِ الْكَعْبَةِ فيه وَلُزُومِ
الطَّوَافِ بِهِ ثُمَّ بَعْدَهُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ لِأَنَّهُ مَسْجِدُ
أَفْضَلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صلى اللَّهُ تَعَالَى عليه وَعَلَيْهِمْ
وسلم ثُمَّ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِأَنَّهُ مَسْجِدُ الْأَنْبِيَاءِ عليهم
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ على أَنَّهُ ليس بَعْدَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ رسول اللَّهِ مَسْجِدٌ أَفْضَلُ منه ثُمَّ
الْمَسْجِدُ الْجَامِعُ لِأَنَّهُ مَجْمَعِ الْمُسْلِمِينَ لِإِقَامَةِ
الْجُمُعَةِ ثُمَّ بَعْدَهُ الْمَسَاجِدُ الْكِبَارُ لِأَنَّهَا في مَعْنَى
الْجَوَامِعِ لِكَثْرَةِ أَهْلِهَا
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فذكر في الْأَصْلِ أنها لَا تَعْتَكِفُ إلَّا في مَسْجِدِ
بَيْتِهَا وَلَا تَعْتَكِفُ في مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتَكِفَ في
مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ وأن شَاءَتْ اعْتَكَفَتْ في مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَمَسْجِدُ
بَيْتِهَا أَفْضَلُ لها من مَسْجِدِ حَيِّهَا وَمَسْجِدُ حَيِّهَا أَفْضَلُ لها من
الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ بَلْ
يَجُوزُ اعْتِكَافُهَا في مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ على الرِّوَايَتَيْنِ جميعا بِلَا
خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وَالْمَذْكُورُ في الْأَصْلِ مَحْمُولٌ على نَفْيِ
الْفَضِيلَةِ لَا على نَفْيِ الْجَوَازِ تَوْفِيقًا بين الرِّوَايَتَيْنِ وَهَذَا
عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ اعْتِكَافُهَا في مَسْجِدِ بَيْتِهَا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ قُرْبَةٌ خُصَّتْ بِالْمَسَاجِدِ بِالنَّصِّ
وَمَسْجِدُ بَيْتِهَا ليس بِمَسْجِدٍ حَقِيقَةً بَلْ هو اسْمٌ لِلْمَكَانِ
الْمُعَدِّ لِلصَّلَاةِ في حَقِّهَا حتى لَا يَثْبُتَ له شَيْءٌ من أَحْكَامِ
الْمَسْجِدِ فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ هذه الْقُرْبَةِ فيه وَنَحْنُ نَقُولُ بَلْ
هذه قُرْبَةٌ خُصَّتْ بِالْمَسْجِدِ لَكِنَّ مَسْجِدَ بَيْتِهَا له حُكْمُ
الْمَسْجِدِ في حَقِّهَا في حَقِّ الِاعْتِكَافِ لِأَنَّ له حُكْمَ الْمَسْجِدِ في
حَقِّهَا في حَقِّ الصَّلَاةِ لِحَاجَتِهَا إلَى إحْرَازِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ
فأعطى له حُكْمُ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ في حَقِّهَا حتى كانت صَلَاتُهَا في
بَيْتِهَا أَفْضَلَ على ما روى عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال صَلَاةُ الْمَرْأَةِ
في مَسْجِدِ بَيْتِهَا أَفْضَلُ من صَلَاتِهَا في مَسْجِدِ دَارِهَا وَصَلَاتُهَا
في صَحْنِ دَارِهَا أَفْضَلُ من صَلَاتِهَا في مَسْجِدِ حَيِّهَا وإذا كان له
حُكْمُ الْمَسْجِدِ في حَقِّهَا في حَقِّ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ في حَقِّ الِاعْتِكَافِ
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في اخْتِصَاصِهِ بِالْمَسْجِدِ سَوَاءٌ وَلَيْسَ
لها أَنْ تَعْتَكِفَ في بَيْتِهَا في غَيْرِ مَسْجِدٍ وهو الْمَوْضِعُ الْمُعَدُّ
لِلصَّلَاةِ لِأَنَّهُ ليس لِغَيْرِ ذلك الْمَوْضِعِ من بَيْتِهَا حُكْمُ
الْمَسْجِدِ فَلَا يَجُوزُ اعْتِكَافُهَا فيه وَاَللَّهُ أَعْلَم
فَصْلٌ وَأَمَّا رُكْنُ الِاعْتِكَافِ وَمَحْظُورَاتِهِ وما يُفْسِدُهُ وما لَا
يُفْسِدُهُ فَرُكْنُ الِاعْتِكَافِ هو اللُّبْثُ وَالْإِقَامَةُ يُقَالُ اعْتَكَفَ
وَعَكَفَ أَيْ أَقَامَ وقال اللَّهُ تَعَالَى { قالوا لَنْ نَبْرَحَ عليه
عَاكِفِينَ } أَيْ لَنْ نَزَالَ عليه مُقِيمِينَ وَيُقَالُ فُلَانٌ مُعْتَكِفٌ على
حَرَامٍ أَيْ مُقِيمٌ عليه فسمى من أَقَامَ على الْعِبَادَةِ في الْمَسْجِدِ
مُعْتَكِفًا وَعَاكِفًا
وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ لَا يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ من مُعْتَكَفِهِ في
الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ لَيْلًا وَلَا نهارا ( ( ( ونهارا ) ) ) إلَّا لِمَا لَا
بُدَّ له منه من الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَحُضُورِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ
الِاعْتِكَافَ لَمَّا كان لُبْثًا وَإِقَامَةً فَالْخُرُوجُ يُضَادُّهُ وَلَا
بَقَاءَ لِلشَّيْءِ مع ما يُضَادُّهُ فَكَانَ إبْطَالًا له وَإِبْطَالُ
الْعِبَادَةِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ }
____________________
(2/113)
إلَّا
انا جَوَّزْنَا له الْخُرُوجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ إذْ لَا بُدَّ منها
وَتَعَذَّرَ قَضَاؤُهَا في الْمَسْجِدِ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْخُرُوجِ
وَلِأَنَّ في الْخُرُوجِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ تَحْقِيقَ هذه الْقُرْبَةِ لِأَنَّهُ
لَا يَتَمَكَّنُ الْمَرْءُ من أَدَاءِ هذه الْقُرْبَةِ إلَّا بِالْبَقَاءِ وَلَا
بَقَاءَ بِدُونِ الْقُوتِ عَادَةً وَلَا بُدَّ لِذَلِكَ من الِاسْتِفْرَاغِ على ما
عليه مَجْرَى الْعَادَةِ فَكَانَ الْخُرُوجُ لها من ضَرُورَاتِ الِاعْتِكَافِ
وَوَسَائِلِهِ وما كان من وَسَائِلِ الشَّيْءِ كان حُكْمُهُ حُكْمَ ذلك الشَّيْءِ
فَكَانَ الْمُعْتَكِفُ في حَالِ خُرُوجِهِ عن الْمَسْجِدِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ
كَأَنَّهُ في الْمَسْجِدِ
وقد روى عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان لَا
يَخْرُجُ من مُعْتَكَفِهِ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ
وَكَذَا في الْخُرُوجِ في الْجُمُعَةِ ضَرُورَةٌ لِأَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ وَلَا
يُمْكِنُ إقَامَتُهَا في كل مَسْجِدٍ فَيُحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ إلَيْهَا كما
يُحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ فلم يَكُنْ الْخُرُوجُ إلَيْهَا
مُبْطِلًا لِاعْتِكَافِهِ وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ إذَا خَرَجَ إلَى الْجُمُعَةِ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْخُرُوجَ في الْأَصْلِ مُضَادٌّ للإعتكاف وَمُنَافٍ له
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَرَارٌ وَإِقَامَةٌ وَالْخُرُوجُ انْتِقَالٌ وَزَوَالٌ
فَكَانَ مُبْطِلًا له إلَّا فميا ( ( ( فيما ) ) ) لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه
كَحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وكان يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزَ عن الْخُرُوجِ إلَى
الْجُمُعَةِ بِأَنْ يَعْتَكِفَ في الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ
وَلَنَا أَنَّ إقَامَةَ الْجُمُعَةِ فَرْضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ من يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا
إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } وَالْأَمْرُ بِالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ أَمْرٌ
بِالْخُرُوجِ من الْمُعْتَكَفِ وَلَوْ كان الْخُرُوجُ إلَى الْجُمُعَةِ مُبْطِلًا
لِلِاعْتِكَافِ لَمَا أُمِرَ بِهِ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَمْرًا بِإِبْطَالِ الِاعْتِكَافِ
وأنه حَرَامٌ وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَمَّا كانت فَرْضًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى
عليه والإعتكاف قُرْبَةٌ لَيْسَتْ هِيَ عليه فَمَتَى أَوْجَبَهُ على نَفْسِهِ
بِالنَّذْرِ لم يَصِحَّ نَذْرُهُ في إبْطَالِ ما هو حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى عليه
بَلْ كان نَذْرُهُ عَدَمًا في إبْطَالِ هذا الْحَقِّ وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ
دُونَ الْجُمُعَةِ فَلَا يُؤْذَنُ بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ لِأَجْلِهِ
وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ أن الِاعْتِكَافَ لُبْثٌ وَالْخُرُوجَ
يُبْطِلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْخُرُوجَ إلَى الْجُمُعَةِ لَا يُبْطِلُهُ
لِمَا بَيَّنَّا
وَأَمَّا وَقْتُ الْخُرُوجِ إلَى الْجُمُعَةِ وَمِقْدَارُ ما يَكُونُ في
الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فذكر الْكَرْخِيُّ وقال يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ إلَى
الْجُمُعَةِ عِنْدَ الْأَذَانِ فَيَكُونُ في الْمَسْجِدِ مِقْدَارَ ما يُصَلِّي قَبْلَهَا
أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا أو سِتًّا
وَرَوَى الْحَسَنُ بن زِيَادٍ عن أبي حَنِيفَةَ مِقْدَارَ ما يُصَلِّي قَبْلَهَا
أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا وهو على الِاخْتِلَافِ
في سُنَّةِ الْجُمُعَةِ بَعْدَهَا أنها أَرْبَعٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا
سِتَّةٌ على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الصَّلَاةِ
وقال مُحَمَّدٌ إذَا كان مَنْزِلُهُ بَعِيدًا يَخْرُجُ حين يَرَى أَنَّهُ يَبْلُغُ
الْمَسْجِدَ عِنْدَ النِّدَاءِ وَهَذَا أَمْرٌ يَخْتَلِفُ بِقُرْبِ الْمَسْجِدِ
وَبُعْدِهِ فَيَخْرُجُ في أَيِّ وَقْتٍ يَرَى أَنَّهُ يُدْرِكُ الصَّلَاةَ
وَالْخُطْبَةَ وَيُصَلِّي قبل الْخُطْبَةِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لِأَنَّ أباحة
الْخُرُوجِ إلَى الْجُمُعَةِ إبَاحَةٌ لها بِتَوَابِعِهَا وَسُنَنَهَا من
تَوَابِعِهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَذْكَارِ الْمَسْنُونَةِ فيها
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقِيمَ في الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ بَعْدَ صَلَاةِ
الْجُمُعَةِ إلَّا مِقْدَارَ ما يُصَلِّي بَعْدَهَا أَرْبَعًا أو سِتًّا على
الِاخْتِلَافِ وَلَوْ أَقَامَ يَوْمًا وَلَيْلَةً لَا يُنْتَقَضُ اعْتِكَافُهُ
لَكِنْ يُكْرَهُ له ذلك أَمَّا عَدَمُ الِانْتِقَاضِ فَلِأَنَّ الْجَامِعَ لَمَّا
صَلُحَ لِابْتِدَاءِ الِاعْتِكَافِ فَلَأَنْ يَصْلُحَ لِلْبَقَاءِ أَوْلَى لِأَنَّ
الْبَقَاءَ أَسْهَلُ من الِابْتِدَاءِ وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِأَنَّهُ لَمَّا
ابْتَدَأَ الإعتكاف في مَسْجِدٍ فَكَأَنَّهُ عَيَّنَهُ للإعتكاف فيه فَيُكْرَهُ له
التَّحَوُّلُ عنه مع إمْكَانِ الاتمام فيه
وَلَا يَخْرُجُ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ وَلَا لِصَلَاةِ جِنَازَةٍ لِأَنَّهُ لَا
ضَرُورَةَ إلَى الْخُرُوجِ لِأَنَّ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ لَيْسَتْ من الْفَرَائِضِ
بَلْ من الْفَضَائِلِ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ لَيْسَتْ بِفَرْضِ عَيْنٍ بَلْ
فَرْضُ كِفَايَةٍ تَسْقُطُ عنه بِقِيَامِ الْبَاقِينَ بها فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ
الِاعْتِكَافِ لِأَجْلِهَا وما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من
الرُّخْصَةِ في عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ
فَقَدْ قال أبو يُوسُفَ ذلك مَحْمُولٌ عِنْدَنَا على الِاعْتِكَافِ الذي
يَتَطَوَّعُ بِهِ من غَيْرِ إيجَابٍ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ مَتَى شَاءَ وَيَجُوزُ
أَنْ تُحْمَلَ الرُّخْصَةُ على ما إذَا كان خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ لِوَجْهٍ مُبَاحٍ
كَحَاجَةِ الْإِنْسَانِ أو لِلْجُمُعَةِ ثُمَّ عَادَ مَرِيضًا أو صلى على
جِنَازَةٍ من غَيْرِ أَنْ كان خُرُوجُهُ لِذَلِكَ قَصْدًا وَذَلِكَ جَائِزٌ
أَمَّا الْمَرْأَةُ إذَا اعْتَكَفَتْ في مَسْجِدِ بَيْتِهَا لَا تَخْرُجُ منه إلَى
مَنْزِلِهَا إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ ذلك في حُكْمِ الْمَسْجِدِ لها
على ما بَيَّنَّا فَإِنْ خَرَجَ من الْمَسْجِدِ الذي يَعْتَكِفُ فيه لِعُذْرٍ
بِأَنْ انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ أو أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ مُكْرَهًا أو غَيْرُ
السُّلْطَانِ
____________________
(2/114)
فَدَخَلَ
مَسْجِدًا آخَرَ غَيْرَهُ من سَاعَتِهِ لم يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ وُجِدَ ضِدُّ الِاعْتِكَافِ
وهو الْخُرُوجُ الذي هو تَرْكُ الْإِقَامَةِ فَيَبْطُلُ كما لو خَرَجَ عن
اخْتِيَارٍ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ خَرَجَ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ أَمَّا عِنْدَ
انْهِدَامِ الْمَسْجِدِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الإعتكاف فيه بعدما
انْهَدَمَ فَكَانَ الْخُرُوجُ منه أَمْرًا لَا بُدَّ منه بِمَنْزِلَةِ الْخُرُوجِ
لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ
وَأَمَّا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ فَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ من أَسْبَابِ الْعُذْرِ في
الْجُمْلَةِ فَكَانَ هذا الْقَدْرُ من الْخُرُوجِ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ كما إذَا
خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وهو يَمْشِي مَشْيًا رَفِيقًا فَإِنْ خَرَجَ من
الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ
كان سَاعَةً وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَفْسُدُ حتى يَخْرُجَ أَكْثَرَ
من نِصْفِ يَوْمٍ قال مُحَمَّدٌ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ أَقْيَسُ وَقَوْلُ أبي
يُوسُفَ أَوْسَعُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن الْخُرُوجَ الْقَلِيلَ عَفْوٌ وَإِنْ كان بِغَيْرِ عُذْرٍ
بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وهو يَمْشِي مُتَأَنِّيًا لم
يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ وما دُونَ نِصْفِ الْيَوْمِ فَهُوَ قَلِيلٌ فَكَانَ عَفْوًا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَرَكَ الإعتكاف بِاشْتِغَالِهِ بِضِدِّهِ من غَيْرِ
ضَرُورَةٍ فَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ لِفَوَاتِ الرُّكْنِ وَبُطْلَانُ الشَّيْءِ
بِفَوَاتِ رُكْنِهِ يَسْتَوِي فيه الْكَثِيرُ وَالْقَلِيلُ كَالْأَكْلِ في بَابِ
الصَّوْمِ وفي الْخُرُوجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ضَرُورَةٌ وَأَحْوَالُ الناس في
الْمَشْيِ مُخْتَلِفَةٌ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا فَسَقَطَ اعْتِبَارُ صِفَةِ
الْمَشْيِ وَهَهُنَا لَا ضَرُورَةَ في الْخُرُوجِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافُ إذَا خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَمَكَثَ بَعْدَ
فَرَاغِهِ أَنَّهُ يَنْتَقِضُ اعْتِكَافُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ قَلَّ مُكْثُهُ
أو كَثُرَ وَعِنْدَهُمَا لَا يُنْتَقَضُ ما لم يَكُنْ أَكْثَرَ من نِصْفِ يَوْمٍ
وَلَوْ صَعَدَ الْمِئْذَنَةَ لم يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كان
بَابُ الْمِئْذَنَةِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ الْمِئْذَنَةَ من الْمَسْجِدِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُمْنَعُ فيه كُلُّ مايمنع في الْمَسْجِدِ من الْبَوْلِ
وَنَحْوِهِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فَأَشْبَهَ زَاوِيَةً من زَوَايَا الْمَسْجِدِ
وَكَذَا إذَا كان دَارُهُ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ فَأَخْرَجَ رَأْسَهُ إلَى دَارِهِ
لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّ ذلك ليس بِخُرُوجٍ ألاترى أَنَّهُ لوحلف لَا
يَخْرُجُ من الدَّارِ فَفَعَلَ ذلك لَا يَحْنَثُ في يَمِينِهِ
وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت كان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم يُخْرِجُ رَأْسَهُ من الْمَسْجِدِ فَيَغْسِلُ رَأْسَهُ وَإِنْ غَسَلَ
رَأْسَهُ في الْمَسْجِدِ في إنَاءٍ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا لم يُلَوِّثْ الْمَسْجِدَ
بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَإِنْ كان بِحَيْثُ يَتَلَوَّثُ الْمَسْجِدُ يُمْنَعُ
منه لِأَنَّ تَنْظِيفَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ ولو تَوَضَّأَ في الْمَسْجِدِ في
إنَاءٍ فَهُوَ على هذا التَّفْصِيلِ
وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ فَهَلْ يَفْسُدُ بِالْخُرُوجِ لِغَيْرِ عُذْرٍ
كَالْخُرُوجِ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ فيه رِوَايَتَانِ
في رِوَايَةِ الْأَصْلِ لَا يَفْسُدُ
وفي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بن زِيَادٍ عن أبي حَنِيفَةَ يَفْسُدُ بِنَاءً على أَنَّ
اعْتِكَافَ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ على رِوَايَةِ الْأَصْلِ فَلَهُ أَنْ
يَعْتَكِفَ سَاعَةً من نَهَارٍ أو نِصْفَ يَوْمٍ أو ما شَاءَ من قَلِيلٍ أو
كَثِيرٍ أو يَخْرُجُ فَيَكُونُ مُعْتَكِفًا ما أَقَامَ تَارِكًا ما خَرَجَ وَعَلَى
رِوَايَةِ الْحَسَنِ هو مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ كَالصَّوْمِ وَلِهَذَا قال أنه لَا
يَصِحُّ بِدُونِ الصَّوْمِ كما لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ الْوَاجِبُ بِدُونِ
الصَّوْمِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الشُّرُوعَ في التَّطَوُّعِ مُوجِبٌ للاتمام على
أَصْلِ أَصْحَابِنَا صِيَانَةً للمؤدي عن الْبُطْلَانِ كما في صَوْمِ التَّطَوُّعِ
وَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى صِيَانَةِ الْمُؤَدَّى هَهُنَا
لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُؤَدَّى انْعَقَدَ قُرْبَةً فَيَحْتَاجُ إلَى صيانته ( ( (
صيانة ) ) ) وَذَلِكَ بِالْمُضِيِّ فيه إلَى آخِرِ الْيَوْمِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ لُبْثٌ وَإِقَامَةٌ فَلَا
يَتَقَدَّرُ بِيَوْمٍ كَامِلٍ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ
في كل فِعْلٍ تَامٍّ بِنَفْسِهِ في زَمَانٍ اعْتِبَارُهُ في نَفْسِهِ من غَيْرِ
أَنْ يَقِفَ اعْتِبَارُهُ على وُجُودِ غَيْرِهِ وَكُلُّ لُبْثٍ وَإِقَامَةٍ
تُوجَدُ فَهُوَ فِعْلٌ تَامٌّ في نَفْسِهِ فَكَانَ اعْتِكَافًا في نَفْسِهِ فَلَا
تَقِفُ صِحَّتُهُ وَاعْتِبَارُهُ على وُجُودِ أَمْثَالِهِ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ
هذا هو الْحَقِيقَةُ إلَّا إذَا جاء دَلِيلُ التَّغْيِيرِ فَتُجْعَلُ الْأَفْعَالُ
الْمُتَعَدِّدَةُ الْمُتَغَايِرَةُ حَقِيقَةً مُتَّحِدَةً حُكْمًا كما في
الصَّوْمِ وَمَنْ ادَّعَى التَّغْيِيرَ هَهُنَا يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ
وَقَوْلُهُ الشُّرُوعُ فيه مُوجِبٌ مُسَلَّمٌ لَكِنْ بِقَدْرِ ما اتَّصَلَ بِهِ
الْأَدَاءُ وَلَمَّا خَرَجَ فما أَوْجَبَ إلَّا ذلك الْقَدْرَ فَلَا يَلْزَمُهُ
أَكْثَرُ من ذلك وَلَوْ جَامَعَ في حَالِ الِاعْتِكَافِ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ
لِأَنَّ الْجِمَاعَ من مَحْظُورَاتِ الإعتكاف لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا
تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ } قِيلَ الْمُبَاشَرَةُ
كِنَايَةٌ عن الْجِمَاعِ كَذَا روى عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ ما
ذَكَرَ اللَّهُ عز وجل في الْقُرْآنِ من الْمُبَاشَرَةِ وَالرَّفَثِ
وَالْغَشَيَانِ فَإِنَّمَا عني بِهِ الْجِمَاعَ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حيى
كَرِيمٌ يكنى بِمَا شَاءَ دَلَّتْ الْآيَةُ على أَنَّ الْجِمَاعَ مَحْظُورٌ في
الإعتكاف فإن حَظْرَ الْجِمَاعِ على الْمُعْتَكِفِ ليس لِمَكَانِ الْمَسْجِدِ بَلْ
لِمَكَانِ الإعتكاف وَإِنْ كان ظَاهِرُ النَّهْيِ عن الْمُبَاشَرَةِ في حَالِ
الإعتكاف في الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ عز وجل { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ
عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ } لِأَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ
____________________
(2/115)
نَزَلَتْ
في قَوْمٍ كَانُوا يَعْتَكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ وَكَانُوا يَخْرُجُونَ يَقْضُونَ
حَاجَتَهُمْ في الْجِمَاعِ ثُمَّ يَغْتَسِلُونَ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إلَى
مُعْتَكَفِهِمْ لَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُجَامِعُونَ في الْمَسَاجِدِ لِيُنْهَوْا
عن ذلك بَلْ الْمَسَاجِدُ في قُلُوبِهِمْ كانت أَجَلَّ وَأَعْظَمَ من أَنْ
يَجْعَلُوهَا مَكَانًا لِوَطْءِ نِسَائِهِمْ فَثَبَتَ أَنَّ النَّهْيَ عن
الْمُبَاشَرَةِ في حَالِ الإعتكاف لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ فَكَانَ الْجِمَاعُ من
مَحْظُورَاتِ الإعتكاف فَيُوجِبُ فَسَادَهُ وسواء ( ( ( سواء ) ) ) جَامَعَ
لَيْلًا أو نَهَارًا لِأَنَّ النَّصَّ مُطْلَقٌ فَكَانَ الْجِمَاعُ من
مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَسَوَاءٌ كان عَامِدًا أو
نَاسِيًا بِخِلَافِ الصَّوْمِ فإن جِمَاعَ النَّاسِي لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ
وَالنِّسْيَانُ لم يُجْعَلْ عذرا ( ( ( عذر ) ) ) في بَابِ الِاعْتِكَافِ وَجُعِلَ
عُذْرًا في بَابِ الصَّوْمِ
وَالْفَرْقُ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَكُونَ عُذْرًا
لِأَنَّ فِعْلَ النَّاسِي مَقْدُورُ الِامْتِنَاعِ عنه في الْجُمْلَةِ إذْ
الْوُقُوعُ فيه لَا يَكُونُ إلَّا لِنَوْعِ تَقْصِيرٍ وَلِهَذَا كان النِّسْيَانُ
جَابِرَ الْمُؤَاخَذَةِ عليه عِنْدَنَا وَإِنَّمَا رُفِعَتْ الْمُؤَاخَذَةُ
بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِقَوْلِهِ رَبَّنَا لَا
تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أو أَخْطَأْنَا وَلِهَذَا لم يُجْعَلْ عُذْرًا في بَابِ
الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ عُذْرًا في بَابِ الصَّوْمِ بِالنَّصِّ
فَيُقْتَصَرُ عليه وَالثَّانِي أَنَّ الْمُحَرَّمَ في الإعتكاف عَيْنُ الْجِمَاعِ
فَيَسْتَوِي فيه الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ وَالْمُحَرَّمُ في بَابِ الصَّوْمِ هو
الْإِفْطَارُ لَا عَيْنُ الْجِمَاعِ أو حَرُمَ الْجِمَاعُ لِكَوْنِهِ إفْطَارًا
لَا لِكَوْنِهِ جِمَاعًا فَكَانَتْ حُرْمَتُهُ لِغَيْرِهِ وهو الْإِفْطَارُ
وَالْإِفْطَارُ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِالْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ
وَلَوْ أَكَلَ أو شَرِبَ في النَّهَارِ عَامِدًا فَسَدَ صَوْمُهُ وَفَسَدَ
اعْتِكَافُهُ لِفَسَادِ الصَّوْمِ وَلَوْ أَكَلَ نَاسِيًا لَا يَفْسُدُ
اعْتِكَافُهُ لِأَنَّهُ لَا يُفْسَدُ صَوْمُهُ وَالْأَصْلُ أَنَّ ما كان من
مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ وهو ما ( ( ( مانع ) ) ) منع عنه لِأَجْلِ الإعتكاف
لَا لِأَجْلِ الصَّوْمِ يَخْتَلِفُ فيه الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ وَالنَّهَارُ
وَاللَّيْلُ كَالْجِمَاعِ وَالْخُرُوجِ من الْمَسْجِدِ وما كان من مَحْظُورَاتِ
الصَّوْمِ وهو ما مُنِعَ عنه لِأَجْلِ الصَّوْمِ يَخْتَلِفُ فيه الْعَمْدُ
وَالسَّهْوُ وَالنَّهَارُ وَاللَّيْلُ كَالْجِمَاعِ وَالْخُرُوجِ من الْمَسْجِدِ
وَكَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْفِقْهُ ما بَيَّنَّا
وَلَوْ بَاشَرَ فَأَنْزَلَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ مَنْصُوصٌ
عليها في الْآيَةِ
وقد قِيلَ في بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ إنَّ الْمُبَاشَرَةَ الْجِمَاعُ وما
دُونَهُ وَلِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ مع الْإِنْزَالِ في مَعْنَى الْجِمَاعِ
فَيُلْحَقُ بِهِ
وَكَذَا لو جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ لم
يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّهُ بِدُونِ الْإِنْزَالِ لَا يَكُونُ
في مَعْنَى الْجِمَاعِ لَكِنَّهُ يَكُونُ حَرَامًا وَكَذَا التَّقْبِيلُ
وَالْمُعَانَقَةُ وَاللَّمْسُ إنه إنْ أَنْزَلَ في شَيْءٍ من ذلك فَسَدَ
اعْتِكَافُهُ وَإِلَّا فَلَا يَفْسُدُ
لَكِنَّهُ يَكُونُ حَرَامًا بِخِلَافِ الصَّوْمِ فإن في بَابِ الصَّوْمِ لَا
تَحْرُمُ الدَّوَاعِي إذَا كان يَأْمَنُ على نَفْسِهِ
وَالْفَرْقُ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ عَيْنَ الْجِمَاعِ في بَابِ
الِاعْتِكَافِ مُحَرَّمٌ وَتَحْرِيمُ الشَّيْءِ يَكُونُ تَحْرِيمًا لِدَوَاعِيهِ
لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَيْهِ فَلَوْ لم تَحْرُمْ لَأَدَّى إلَى التَّنَاقُضِ
وَأَمَّا في بَابِ الصَّوْمِ فَعَيْنُ الْجِمَاعِ ليس مُحَرَّمًا إنَّمَا
الْمُحَرَّمُ هو الْإِفْطَارُ أو حَرُمَ الْجِمَاعُ لِكَوْنِهِ إفْطَارًا وَهَذَا
لَا يَتَعَدَّى إلَى الدَّوَاعِي فَهُوَ الْفَرْقُ
وَلَوْ نَظَرَ فَأَنْزَلَ لم يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ لِانْعِدَامِ الْجِمَاعِ
صُورَةً وَمَعْنًى فَأَشْبَهَ الِاحْتِلَامَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَلَا يَأْتِي الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ مُعْتَكِفَةٌ إذَا كانت اعْتَكَفَتْ
بِإِذْنِ زَوْجِهَا لِأَنَّ اعْتِكَافَهَا إذَا كان بِإِذْنِ زَوْجِهَا فإنه لَا
يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عنه لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَجُوزُ
وَطْؤُهَا لِمَا فيه من إفْسَادِ عِبَادَتِهَا وَيَفْسُدُ الِاعْتِكَافُ
بِالرِّدَّةِ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ قُرْبَةٌ وَالْكَافِرُ ليس من أَهْلِ
الْقُرْبَةِ وَلِهَذَا لم يَنْعَقِدْ مع الْكُفْرِ فَلَا يَبْقَى مع الْكُفْرِ
أَيْضًا وَنَفْسُ الْإِغْمَاءِ لَا يُفْسِدُهُ بِلَا خِلَافٍ حتى لَا يَنْقَطِعَ
التَّتَابُعُ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الِاعْتِكَافَ إذَا أَفَاقَ
وَإِنْ أُغْمِيَ عليه أَيَّامًا أو أَصَابَهُ لَمَمٌ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ
وَعَلَيْهِ إذَا بَرَأَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ مُتَتَابِعًا وقد
فَاتَتْ صِفَةُ التَّتَابُعِ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كما في صَوْمِ كَفَّارَةِ
الظِّهَارِ فَإِنْ تَطَاوَلَ الْجُنُونُ وَبَقِيَ سِنِينَ ثُمَّ أَفَاقَ هل يَجِبُ
عليه أَنْ يَقْضِيَ أو يَسْقُطَ عنه فَفِيهِ رِوَايَتَانِ
قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ نَذْكُرهُمَا في مَوْضِعِهِمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ سَكِرَ لَيْلًا لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَفْسُدُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن السَّكْرَانَ كَالْمَجْنُونِ وَالْجُنُونُ يُفْسِدُ الاعتكاد (
( ( الاعتكاف ) ) ) فَكَذَا السُّكْرُ
وَلَنَا أَنَّ السُّكْرَ ليس إلَّا مَعْنًى له أَثَرٌ في الْعَقْلِ مُدَّةً
يَسِيرَةً فَلَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ وَلَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ
كَالْإِغْمَاءِ وَلَوْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ في حَالِ الِاعْتِكَافِ فَسَدَ
اعْتِكَافِهَا لِأَنَّ الْحَيْضَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الِاعْتِكَافِ
لِمُنَافَاتِهَا الصَّوْمَ لهذا ( ( ( ولهذا ) ) ) مُنِعَتْ من انْعِقَادِ
الِاعْتِكَافِ فَتُمْنَعُ من الْبَقَاءِ
وَلَوْ احْتَلَمَ الْمُعْتَكِفُ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ
له فيه فلم يَكُنْ جِمَاعًا وَلَا في مَعْنَى الْجِمَاعِ ثُمَّ إنْ أَمْكَنَهُ
الِاغْتِسَالُ في الْمَسْجِدِ من غَيْرِ أَنْ يَتَلَوَّثَ الْمَسْجِدُ فَلَا
بَأْسَ بِهِ وَإِلَّا فيحرج ( ( ( فيخرج ) ) ) فَيَغْتَسِلَ وَيَعُودَ إلَى
الْمَسْجِدِ وَلَا بَأْسَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيَتَزَوَّجَ
وَيُرَاجِعَ وَيَلْبَسَ وَيَتَطَيَّبَ وَيَدَّهِنَ وَيَأْكُلَ وَيَشْرَبَ بَعْدَ
غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيَتَحَدَّثَ ما بَدَا له بَعْدَ
____________________
(2/116)
أَنْ
لَا يَكُونَ مأثما ( ( ( صائما ) ) ) وَيَنَامَ في الْمَسْجِدِ وَالْمُرَادُ من
الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ هو كَلَامُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ من غَيْرِ نَقْلِ
الْأَمْتِعَةِ إلَى الْمَسْجِدِ لِأَنَّ ذلك مَمْنُوعٌ عنه لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ
لِمَا فيه من اتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ مَتْجَرًا لَا لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ
وَحُكِيَ عن مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ في الْمَسْجِدِ كَأَنَّهُ
يُشِيرُ إلَى ما روى عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال جَنِّبُوا
مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ
وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ
وَلَنَا عُمُومَاتُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ من الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ
من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ
وَرُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لِابْنِ أَخِيهِ جَعْفَرٍ هَلَّا
اشْتَرَيْت خَادِمًا قال كُنْت مُعْتَكِفًا قال وَمَاذَا عَلَيْك لو اشْتَرَيْت
أَشَارَ إلَى جَوَازِ الشِّرَاءِ في الْمَسْجِدِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمَحْمُولٌ على اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ مَتَاجِرَ كَالسُّوقِ
يُبَاعُ فيها وَتُنْقَلُ الْأَمْتِعَةُ إلَيْهَا أو يُحْمَلُ على النَّدْبِ
وَالِاسْتِحْبَابِ تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَأَمَّا النِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ فَلِأَنَّ نُصُوصَ النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ
لَا تَفْصِلُ بين الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ من نَحْوِ قَوْله تَعَالَى { فَانْكِحُوا
ما طَابَ لَكُمْ من النِّسَاءِ } وَنَحْوِ ذلك
وقَوْله تَعَالَى { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } وَنَحْوِ ذلك
وَكَذَا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَاللِّبْسُ وَالطِّيبُ وَالنَّوْمُ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا } وقَوْله تَعَالَى { يا بَنِي آدَمَ خُذُوا
زِينَتَكُمْ عِنْدَ كل مَسْجِدٍ } وقَوْله تَعَالَى { قُلْ من حَرَّمَ زِينَةَ
اللَّهِ التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ من الرِّزْقِ } وَقَوْلِهِ عز
وجل { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا }
وقد رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَفْعَلُ ذلك في حَالِ
اعْتِكَافِهِ في الْمَسْجِدِ مع ما إن الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالنَّوْمَ في
الْمَسْجِدِ في حَالِ الإعتكاف لو مُنِعَ منه لَمُنِعَ من الإعتكاف إذْ ذلك أَمْرٌ
لَا بُدَّ منه
وَأَمَّا التَّكَلُّمُ بِمَا لَا مَأْثَمَ فيه فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } قِيلَ
في بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ أَيْ صِدْقًا وَصَوَابًا لَا كَذِبًا وَلَا
فُحْشًا وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَتَحَدَّثُ
مع أَصْحَابِهِ وَنِسَائِهِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وهو مُعْتَكِفٌ في الْمَسْجِدِ
فَأَمَّا التَّكَلُّمُ بِمَا فيه مَأْثَمٌ فإنه لَا يَجُوزُ في غَيْرِ الْمَسْجِدِ
فَفِي الْمَسْجِدِ أَوْلَى وَلَهُ أَنْ يُحْرِمَ في اعْتِكَافِهِ بِحَجٍّ أو
عُمْرَةٍ وإذا فَعَلَ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ وَأَقَامَ في اعْتِكَافِهِ إلَى أَنْ
يَفْرُغَ منه ثُمَّ يَمْضِي في إحْرَامِهِ إلَّا أَنْ يَخَافَ فَوْتَ الْحَجِّ
فَيَدَعَ الإعتكاف وَيَحُجَّ ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الإعتكاف
أَمَّا صِحَّةُ الْإِحْرَامِ في حَالِ الِاعْتِكَافِ فَلِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ
بَيْنَهُمَا
أَلَا تَرَى أَنَّ الإعتكاف يَنْعَقِدُ مع الْإِحْرَامِ فَيَبْقَى معه أَيْضًا
وإذا صَحَّ إحْرَامُهُ فإنه يُتِمُّ الإعتكاف ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِأَفْعَالِ
الْحَجِّ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا
وَأَمَّا إذَا خَافَ فَوْتَ الْحَجِّ فإنه يَدَعُ الِاعْتِكَافَ لِأَنَّ الْحَجَّ
يَفُوتُ وَالِاعْتِكَافُ لَا يَفُوتُ فَكَانَ الإشتغال بِاَلَّذِي يَفُوتُ أَوْلَى
وَلِأَنَّ الْحَجَّ آكَدُ وَأَهَمُّ من الِاعْتِكَافِ فَالِاشْتِغَالُ بِهِ
أَوْلَى وإذا تَرَكَ الإعتكاف يَقْضِيهِ بَعْدَ الفرغ ( ( ( الفراغ ) ) ) من
الْحَجِّ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ فَاَلَّذِي فَسَدَ لَا يَخْلُو
إمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَأَعْنِي بِهِ الْمَنْذُورَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
تَطَوُّعًا فَإِنْ كان وَاجِبًا يَقْضِي إذَا قَدَرَ على الْقَضَاءِ إلَّا
الرِّدَّةُ خَاصَّةً لِأَنَّهُ إذَا فَسَدَ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَصَارَ
فَائِتًا مَعْنًى فَيَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ جبر ( ( ( جبرا ) ) ) لِلْفَوَاتِ وَيَقْضِي
بِالصَّوْمِ لِأَنَّهُ فَاتَهُ مع الصَّوْمِ فَيَقْضِيهِ مع الصَّوْمِ غير أَنَّ
الْمَنْذُورَ بِهِ إنْ كان اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ يَقْضِي قَدْرَ ما فَسَدَ
لَا غير وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ في
شَهْرٍ بِعَيْنِهِ إذَا أَفْطَرَ يَوْمًا أَنَّهُ يَقْضِي ذلك الْيَوْمَ وَلَا
يَلْزَمُهُ الإستئناف كما في صَوْمِ رَمَضَانَ لِمَا ذَكَرْنَا في كِتَابِ
الصَّوْمِ وإذا كان اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ يَلْزَمُهُ
الِاسْتِقْبَالُ لأن يَلْزَمُهُ مُتَتَابِعًا فيراعى فيه صِفَةَ التَّتَابُعِ
وَسَوَاءٌ فَسَدَ بِصُنْعِهِ من غَيْرِ عُذْرٍ كَالْخُرُوجِ وَالْجِمَاعِ
وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ في النَّهَارِ إلَّا الرِّدَّةُ أو فَسَدَ بِصُنْعِهِ
لِعُذْرٍ كما إذَا مَرِضَ فَاحْتَاجَ إلَى الْخُرُوجِ فَخَرَجَ أو بِغَيْرِ
صُنْعِهِ رَأْسًا كَالْحَيْضِ وَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ الطَّوِيلِ لِأَنَّ
الْقَضَاءَ يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ وَالْحَاجَةُ إلَى الْجَبْرِ مُتَحَقِّقَةٌ
في الْأَحْوَالِ كُلِّهَا إلَّا أَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ في الرِّدَّةِ عُرِفَ
بِالنَّصِّ وهو قَوْله تَعَالَى { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا
يُغْفَرْ لهم ما قد سَلَفَ }
وَقَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْإِسْلَامُ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ
وَالْقِيَاسُ في الْجُنُونِ الطَّوِيلِ أَنْ يُسْقِطَ الْقَضَاءَ كما في صَوْمِ
رَمَضَانَ إلَّا أَنَّ في الِاسْتِحْسَانِ يَقْضِي لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ في
صَوْمِ رَمَضَانَ إنَّمَا كان لِدَفْعِ الْحَرَجِ لِأَنَّ الْجُنُونَ إذَا طَالَ
قَلَّمَا يَزُولُ فَيَتَكَرَّرُ عليه صَوْمُ رَمَضَانَ فيخرج ( ( ( فيحرج ) ) ) في
قَضَائِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ في الإعتكاف
وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ إذَا قَطَعَهُ قبل تَمَامِ الْيَوْمِ فَلَا
شَيْءَ عليه في رِوَايَةِ الْأَصْلِ وفي رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَقْضِي بِنَاءً على
أَنَّ اعْتِكَافَ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ في رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عن أبي
حَنِيفَةَ
وفي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عنه مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ
وقد ذَكَرْنَا الْوَجْهَ لِلرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَأَمَّا حُكْمُهُ إذَا
____________________
(2/117)
فَاتَ
عن وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ له بِأَنْ نَذْرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ إنه إذَا
فَاتَ بَعْضُهُ قَضَاهُ لَا غَيْرُ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كما في
الصَّوْمِ وَإِنْ فَاتَهُ كُلُّهُ قَضَى الْكُلَّ مُتَتَابِعًا لِأَنَّهُ لَمَّا
لم يَعْتَكِفْ حتى مَضَى الْوَقْتُ صَارَ الِاعْتِكَافُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ
فَصَارَ كَأَنَّهُ أَنْشَأَ النَّذْرَ بِاعْتِكَافِ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ فَإِنْ
قَدَرَ على قَضَائِهِ فلم يَقْضِهِ حتى أَيِسَ من حَيَاتِهِ يَجِبُ عليه أَنْ يوصى
بِالْفِدْيَةِ لِكُلِّ يَوْمٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ لِأَجْلِ الصَّوْمِ لَا لِأَجْلِ
الِاعْتِكَافِ كما في قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ في وَقْتٍ
بِعَيْنِهِ
وَإِنْ قَدَرَ على الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فلم يَعْتَكِفْ فَكَذَلِكَ إنْ كان
صَحِيحًا وَقْتَ النَّذْرِ فَإِنْ كان مَرِيضًا وَقْتَ النَّذْرِ فَذَهَبَ
الْوَقْتُ وهو مَرِيضٌ حتى مَاتَ فَلَا شَيْءَ عليه وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا فَهُوَ
على الإختلاف الذي ذَكَرْنَاهُ في الصَّوْمِ الْمَنْذُورِ في وَقْتٍ بِعَيْنِهِ
وإذا نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ تعينه ( ( ( عينه ) ) ) فَجَمِيعُ
الْعُمُرِ وَقْتُهُ كما في النَّذْرِ بِالصَّوْمِ في وَقْتٍ بِغَيْرِ تعينه ( ( (
عينه ) ) ) وفي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى كان مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا لِأَنَّ
الْإِيجَابَ حَصَلَ مُطْلَقًا عن الْوَقْتِ وَإِنَّمَا يتضيق ( ( ( يقتضى ) ) )
عليه الْوُجُوبَ إذَا أَيِسَ من حَيَاتِهِ وَعِنْدَ ذلك يَجِبُ عليه أَنْ يُوصِيَ
بِالْفِدْيَةِ كما في قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ الْمُطْلَقِ فَإِنْ
لم يُوصِ حتى مَاتَ سَقَطَ عنه في أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا حتى لَا
تُؤْخَذُ من تَرِكَتِهِ وَلَا يَجِبُ على الْوَرَثَةِ الْفِدْيَةُ إلَّا أَنْ
يَتَبَرَّعُوا بِهِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَسْقُطُ وَتُؤْخَذُ من تَرِكَتِهِ وَتُعْتَبَرُ من
جَمِيعِ الْمَالِ وَالْمَسْأَلَةُ مَضَتْ في كِتَابِ الزَّكَاةِ
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
كِتَابُ الْحَجِّ الْكِتَابُ يَشْتَمِلُ على فَصْلَيْنِ فَصْلٌ في الْحَجِّ
وَفَصْلٌ في الْعُمْرَةِ أَمَّا فَصْلُ الْحَجِّ فَالْكَلَامُ فيه يَقَعُ في
مَوَاضِعَ في بَيَانِ فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ فَرْضِهِ وفي
بَيَانِ شَرَائِطِ الْفَرْضِيَّةِ وفي بَيَانِ أَرْكَانِ الْحَجِّ وفي بَيَانِ
وَاجِبَاتِهِ وفي بَيَانِ سُنَنِهِ وفي بَيَانِ التَّرْتِيبِ في أَفْعَالِهِ من
الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ أَرْكَانِهِ وفي
بَيَانِ ما يُفْسِدُهُ وَبَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ وفي بَيَانِ ما يُفَوِّتُ
الْحَجَّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فيه وفي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ عن عُمْرِهِ
أَصْلًا وَرَأْسًا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْحَجُّ فَرِيضَةٌ ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالْمَعْقُولِ
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلَهُ تَعَالَى { وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ الْبَيْتِ من
اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } في الْآيَةِ دَلِيلُ وُجُوبِ الْحَجِّ من
وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قال { وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ الْبَيْتِ }
وَعَلَى كَلِمَةُ إيجَابٍ
وَالثَّانِي أَنَّهُ قال تَعَالَى { وَمَنْ كَفَرَ } قِيلَ في التَّأْوِيلِ وَمَنْ
كَفَرَ بِوُجُوبِ الْحَجِّ حتى روى عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال
أَيْ وَمَنْ كَفَرَ بِالْحَجِّ فلم يَرَ حَجَّهُ بِرًّا وَلَا تَرْكَهُ مَأْثَمًا
وقَوْله تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَأَذِّنْ في
الناس بِالْحَجِّ } أَيْ اُدْعُ الناس وَنَادِهِمْ إلَى حَجِّ الْبَيْتِ وَقِيلَ
أَيْ اعلم الناس أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عليهم الْحَجَّ دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى {
يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كل ضَامِرٍ }
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم بُنِيَ الْإِسْلَامُ على
خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ
الزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ من اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا
وَقَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ
وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ
طَيِّبَةً بها أَنْفُسُكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ
وَرُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال من مَاتَ ولم يَحُجَّ
حَجَّةَ الْإِسْلَامِ من غَيْرِ أَنْ يَمْنَعَهُ سُلْطَانٌ جَائِرٌ أو مَرَضٌ
حَابِسٌ أو عَدُوٌّ ظَاهِرٌ فَلْيَمُتْ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ
نَصْرَانِيًّا أو مَجُوسِيًّا
وروى أَنَّهُ قال من مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ
الْحَرَامِ فلم يَحُجَّ فَلَا عليه أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أو نَصْرَانِيًّا
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ على فَرْضِيَّتِهِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَجَبَتْ لِحَقِّ
الْعُبُودِيَّةِ أو لِحَقِّ شُكْرِ النِّعْمَةِ إذْ كُلُّ ذلك لَازِمٌ في العقول (
( ( المعقول ) ) ) وفي الْحَجِّ إظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَشُكْرُ النِّعْمَةِ
أَمَّا إظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ فَلِأَنَّ إظْهَارَ الْعُبُودِيَّةِ هو إظْهَارُ
التَّذَلُّلِ لِلْمَعْبُودِ وفي الْحَجِّ ذلك لِأَنَّ الْحَاجَّ في حَالِ
إحْرَامِهِ يُظْهِرُ الشَّعَثَ وَيَرْفُضُ أَسْبَابَ التَّزَيُّنِ وَالِارْتِفَاقِ
وَيَتَصَوَّرُ بِصُورَةِ عَبْدٍ سَخِطَ عليه مَوْلَاهُ فَيَتَعَرَّضُ بِسُوءِ
حَالِهِ لِعَطْفِ مَوْلَاهُ وَمَرْحَمَتِهِ إيَّاهُ وفي حَالِ وُقُوفِهِ
بِعَرَفَةَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ عَصَى مَوْلَاهُ
فَوَقَفَ بين يَدَيْهِ مُتَضَرِّعًا حَامِدًا له مُثْنِيًا عليه مُسْتَغْفِرًا
لِزَلَّاتِهِ مُسْتَقِيلًا لِعَثَرَاتِهِ وَبِالطَّوَافِ حَوْلَ الْبَيْتِ
يُلَازِمُ الْمَكَانَ الْمَنْسُوبَ إلَى رَبِّهِ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ مُعْتَكِفٍ
على بَابِ مَوْلَاهُ لَائِذٍ بِجَنَابِهِ
وَأَمَّا شُكْرُ النِّعْمَةِ فَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ بَعْضُهَا بَدَنِيَّةٌ
وَبَعْضُهَا مَالِيَّةٌ وَالْحَجُّ عِبَادَةٌ لَا تَقُومُ إلَّا بِالْبَدَنِ
وَالْمَالِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَالِ وَصِحَّةِ
الْبَدَنِ فَكَانَ فيه شُكْرُ النِّعْمَتَيْنِ وَشُكْرُ النِّعْمَةِ ليس إلَّا
اسْتِعْمَالُهَا
____________________
(2/118)
في
طَاعَةِ الْمُنْعِمِ وَشُكْرُ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ فَرْضِهِ فَمِنْهَا أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ لَا فَرْضُ
كِفَايَةٍ فَيَجِبُ على كل من اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْوُجُوبِ عَيْنًا لَا
يَسْقُطُ بِإِقَامَةِ الْبَعْضِ عن الْبَاقِينَ بِخِلَافِ الْجِهَادِ فإنه فَرْضُ
كِفَايَةٍ إذَا قام بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عن الْبَاقِينَ لِأَنَّ الْإِيجَابَ
تَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ من آحَادِ الناس عَيْنًا
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْرُجُ عن عُهْدَةِ ما عليه إلَّا
بِأَدَائِهِ بِنَفْسِهِ إلَّا إذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ منه بِأَدَاءِ غَيْرِهِ
كَالْجِهَادِ وَنَحْوِهِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ في الْحَجِّ
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ في الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً بِخِلَافِ
الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ فإن الصَّلَاةَ تَجِبُ في كل يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ وَالزَّكَاةَ وَالصَّوْمَ يَجِبَانِ في كل سَنَةٍ
مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي
التَّكْرَارَ لِمَا عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَالتَّكْرَارُ في بَابِ
الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ زَائِدٍ لَا بِمُطْلَقِ
الْأَمْرِ وَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحَجِّ سَأَلَ
الْأَقْرَعُ بن حَابِسٍ رضي اللَّهُ عنه رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
فقال يا رَسُولَ اللَّهِ الْحَجُّ في كل عَامٍ أو مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ فقال عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ وفي رِوَايَةٍ قال لَمَّا نَزَلَتْ
آيَةُ الْحَجِّ أَلِعَامِنَا هذا يا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ لِلْأَبَدِ فقال
لِلْأَبَدِ
وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِكُلْفَةٍ عَظِيمَةٍ وَمَشَقَّةٍ
شَدِيدَةٍ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَلَوْ وَجَبَ في كل عَامٍ لَأَدَّى
إلَى الْحَرَجِ وَأَنَّهُ منفى شَرْعًا وَلِأَنَّهُ إذَا لم يُمْكِنْ أَدَاؤُهُ
إلَّا بِحَرَجٍ لَا يُؤَدَّى فَيَلْحَقُ الْمَأْثَمُ وَالْعِقَابُ إلَى هذا
أَشَارَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا سَأَلَهُ الْأَقْرَعُ بن حَابِسٍ وقال
أَلِعَامِنَا هذا أَمْ لِلْأَبَدِ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْأَبَدِ
وَلَوْ قلت في كل عَامٍ لَوَجَبَ وَلَوْ وَجَبَ ثُمَّ تَرَكْتُمْ لَضَلَلْتُمْ
وَاخْتُلِفَ في وُجُوبِهِ على الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ
أَنَّهُ على الْفَوْرِ حتى يَأْثَمَ بِالتَّأْخِيرِ عن أَوَّلِ أَوْقَاتِ
الْإِمْكَانِ وَهِيَ السَّنَةُ الْأُولَى عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ
الْوُجُوبِ وَذَكَرَ أبو سَهْلٍ الزَّجَّاجِيُّ الْخِلَافَ في الْمَسْأَلَةِ بين
أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فقال في قَوْلِ أبي يُوسُفَ يَجِبُ على الْفَوْرِ وفي
قَوْلِ مُحَمَّدٍ على التَّرَاخِي وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وروى عن أبي حَنِيفَةَ
مِثْلُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَرُوِيَ عنه مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الْحَجَّ في وَقْتٍ
مُطْلَقًا لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ الْبَيْتِ من
اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } مطلقا ( ( ( مطلق ) ) ) عن الْوَقْتِ ثُمَّ بَيَّنَ
وَقْتَ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ عز وجل { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } أَيْ
وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَصَارَ الْمَفْرُوضُ هو الْحَجُّ في
أَشْهُرِ الْحَجِّ مُطْلَقًا من الْعُمْرِ فَتَقْيِيدُهُ بِالْفَوْرِ تقييدا ( ( (
تقييد ) ) ) لمطلق ( ( ( المطلق ) ) ) وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ وروى أَنَّ
فَتْحَ مَكَّةَ كان لِسَنَةِ ثَمَانٍ من الْهِجْرَةِ وَحَجَّ رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم في سَنَةِ الْعَشْرِ وَلَوْ كان وُجُوبُهُ على الْفَوْرِ لَمَا
احْتَمَلَ التَّأْخِيرَ منه
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ لو أَدَّى في السَّنَةِ الثَّانِيَةِ أو الثَّالِثَةِ
يَكُونُ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا وَلَوْ كان وَاجِبًا على الْفَوْرِ وقد فَاتَ
الْفَوْرُ فَقَدْ فَاتَ وَقْتُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا لَا
مُؤَدِّيًا كما لو فَاتَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ عن وَقْتِهَا وَصَوْمُ رَمَضَانَ عن
وَقْتِهِ
وَلَهُمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَجِّ في وَقْتِهِ مُطْلَقٌ يَحْتَمِلُ الْفَوْرَ
وَيَحْتَمِلُ التَّرَاخِيَ وَالْحَمْلُ على الْفَوْرِ أَحْوَطُ لِأَنَّهُ إذَا
حُمِلَ عليه يَأْتِي بِالْفِعْلِ على الْفَوْرِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا خَوْفًا من
الْإِثْمِ بِالتَّأْخِيرِ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْفَوْرُ فَقَدْ أتى بِمَا أُمِرَ
بِهِ فَأَمِنَ الضَّرَرَ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّرَاخِي لَا يَضُرُّهُ الْفِعْلُ
على الْفَوْرِ بَلْ يَنْفَعُهُ لِمُسَارَعَتِهِ إلَى الْخَيْرِ وَلَوْ حُمِلَ على
التَّرَاخِي رُبَّمَا لَا يَأْتِي بِهِ على الْفَوْرِ بَلْ يُؤَخَّرُ إلَى
السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فَتَلْحَقُهُ الْمَضَرَّةُ إنَّ أُرِيدَ
بِهِ الْفَوْرُ وَإِنْ كان لَا يَلْحَقُهُ إنْ أُرِيدَ بِهِ التَّرَاخِي فَكَانَ
الْحَمْلُ على الْفَوْرِ حَمْلًا على أَحْوَطِ الْوَجْهَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى
وَهَذَا قَوْلُ إمَامِ الْهُدَى الشَّيْخِ أبي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ في كل
أَمْرٍ مُطْلَقٍ عن الْوَقْتِ أَنَّهُ يُحْمَلُ على الْفَوْرِ لَكِنْ عَمَلًا لَا
اعْتِقَادًا على طَرِيقِ التَّعْيِينِ أَنَّ الْمُرَادَ منه الْفَوْرُ أو
التَّرَاخِي بَلْ يُعْتَقَدُ أَنَّ ما أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ من الْفَوْرِ
وَالتَّرَاخِي فَهُوَ حَقٌّ وَرَوَيْنَا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
قال من مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فلم
يَحُجَّ فَلَا عليه أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أو نَصْرَانِيًّا أَلْحَقَ
الْوَعِيدَ بِمَنْ أَخَّرَ الْحَجَّ عن أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ لِأَنَّهُ
قال من مَلَكَ كَذَا فلم يَحُجَّ وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ بِلَا فَصْلٍ أَيْ لم
يَحُجَّ عَقِيبَ مِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ بِلَا فَصْلٍ
وَأَمَّا طَرِيقُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ فإن لِلْحَجِّ وَقْتًا مُعَيَّنًا من
السَّنَةِ يَفُوتُ عن تِلْكَ السَّنَةِ بِفَوَاتِ ذلك الْوَقْتِ فَلَوْ أَخَّرَهُ
عن السَّنَةِ الْأُولَى وقد يَعِيشُ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وقد لَا يَعِيشُ
فَكَانَ التَّأْخِيرُ عن السَّنَةِ الْأُولَى تَفْوِيتًا له لِلْحَالِ لِأَنَّهُ
لَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ لِلْحَالِ إلَى أَنْ يَجِيءَ وَقْتُ الْحَجِّ من
السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وفي إدْرَاكِهِ السَّنَةَ الثَّانِيَةَ شَكٌّ فَلَا
يَرْتَفِعُ الْفَوَاتُ الثَّابِتُ لِلْحَالِ بِالشَّكِّ وَالتَّفْوِيتُ
____________________
(2/119)
حَرَامٌ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْوُجُوبَ في الْوَقْتِ ثَبَتَ مُطْلَقًا عن الْفَوْرِ
فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ الْفَوْرَ وَيَحْتَمِلُ التَّرَاخِيَ
وَالْحَمْلُ على الْفَوْرِ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا وَيَجُوزُ تَقْيِيدُ
الْمُطْلَقِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ وَأَمَّا تَأْخِيرُ رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم الْحَجَّ عن أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ فَقَدْ قِيلَ أنه
كان لِعُذْرٍ له وَلَا كَلَامَ في حَالِ الْعُذْرِ يَدُلُّ على أَنَّهُ لَا
خِلَافَ في أَنَّ التَّعْجِيلَ أَفْضَلُ وَالرَّسُولُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا
يَتْرُكُ الْأَفْضَلَ إلَّا لِعُذْرٍ على أَنَّ الْمَانِعَ من التَّأْخِيرِ هو
احْتِمَالُ الْفَوَاتِ ولم يَكُنْ في تَأْخِيرِهِ ذلك فَوَاتٌ لِعِلْمِهِ من
طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّهُ يَحُجُّ قبل مَوْتِهِ قال اللَّهُ تَعَالَى { لقد
صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمَنِينَ } وَالثُّنْيَا لِلتَّيَمُّنِ
وَالتَّبَرُّكِ أو لِمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ الْجَمَاعَةَ وقد عَلِمَ
أَنَّ بَعْضَهُمْ يَمُوتُ قبل الدُّخُولِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ لو أَدَّى في السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كان مُؤَدِّيًا لَا
قَاضِيًا فَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ أَثَرَ الْوُجُوبِ على الْفَوْرِ
عَمَلًا في احْتِمَالِ الْإِثْمِ بِالتَّأْخِيرِ عن أَوَّلِ الْوَقْتِ في
الْإِمْكَانِ لَا في إخْرَاجِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ من أَنْ
يَكُونَ وَقْتًا لِلْوَاجِبِ كما في بَابِ الصَّلَاةِ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ
التَّعْجِيلِ إنَّمَا كان تَحَرُّزًا عن الْفَوَاتِ فإذا عَاشَ إلَى السَّنَةِ
الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فَقَدْ زَالَ احْتِمَالُ الْفَوَاتِ فَحَصَلَ
الْأَدَاءُ في وَقْتِهِ كما في بَابِ الصَّلَاةِ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ فَرْضِيَّتِهِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَعُمُّ الرِّجَالَ
وَالنِّسَاءَ وَنَوْعٌ يَخُصُّ النِّسَاءَ أَمَّا الذي يَعُمُّ الرِّجَالَ
وَالنِّسَاءَ فَمِنْهَا الْبُلُوغُ وَمِنْهَا الْعَقْلُ فَلَا حَجَّ على الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُ لَا خِطَابَ عَلَيْهِمَا فَلَا يَلْزَمُهُمَا الْحَجُّ
حتى لو حَجَّا ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ فَعَلَيْهِمَا
حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وما فَعَلَهُ الصَّبِيُّ قبل الْبُلُوغِ يَكُونُ تَطَوُّعًا
وقد روى عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ
عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ
وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ في حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِالْإِجْمَاعِ حتى لو
حَجَّ الْكَافِرُ ثُمَّ أَسْلَمَ يَجِبُ عليه حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَلَا
يُعْتَدُّ بِمَا حَجَّ في حَالِ الْكُفْرِ
وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال أَيُّمَا
أَعْرَابِيٍّ حَجَّ وَلَوْ عَشْرَ حِجَجٍ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا
هَاجَرَ يَعْنِي أَنَّهُ إذَا حَجَّ قبل الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَلِأَنَّ
الْحَجَّ عِبَادَةٌ وَالْكَافِرُ ليس من أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَكَذَا لَا حَجَّ
على الْكَافِرِ في حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ عِنْدَنَا حتى لَا يُؤَاخَذَ
بِالتَّرْكِ
وَعِنْد الشَّافِعِيِّ ليس بِشَرْطٍ وَيَجِبُ على الْكَافِرِ حتى يُؤَاخَذْ بِتَرْكِهِ
في الْآخِرَةِ
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْكُفَّارِ لَا يُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ
عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ
وَهَذَا يُعْرَفُ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَلَا حُجَّةَ له في قَوْله تَعَالَى {
وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ الْبَيْتِ من اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } لِأَنَّ
الْمُرَادَ منه الْمُؤْمِنُونَ بِدَلِيلِ سِيَاقِ الْآيَةِ وهو قَوْلُهُ { وَمَنْ
كَفَرَ فإن اللَّهَ غَنِيٌّ عن الْعَالَمِينَ } وَبِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ يَشْمَلُ
الْحَجَّ وَغَيْرَهُ من الْعِبَادَاتِ وهو أَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ وَالْكَافِرُ
ليس من أَهْلِ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ لِقُدْرَتِهِ
على الْأَدَاءِ بِتَقْدِيمِ الْإِسْلَامِ لِمَا فيه من جَعْلِ الْمَتْبُوعِ
تَبَعًا وَالتَّبَعِ مَتْبُوعًا وَأَنَّهُ قَلَبَ الْحَقِيقَةَ على ما بَيَّنَّا
في كِتَابِ الزَّكَاةِ وَتَخْصِيصُ الْعَامِّ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ جَائِزٌ
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ فَلَا حَجَّ على الْمَمْلُوكِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال أَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ فَعَلَيْهِ
حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا أُعْتِقَ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ
الِاسْتِطَاعَةَ لِوُجُوبِ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلِلَّهِ على الناس
حِجُّ الْبَيْتِ من اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَلَا اسْتِطَاعَةَ بِدُونِ
مِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا
مِلْكَ لِلْعَبْدِ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلَا يَكُونُ مَالِكًا بِالْإِذْنِ فلم
يُوجَدْ شَرْطُ الْوُجُوبِ وَسَوَاءٌ أَذِنَ له الْمَوْلَى بِالْحَجِّ أو
لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَالِكًا إلَّا بإذن ( ( ( بالإذن ) ) ) فلم يَجِبْ
الْحَجُّ عليه فَيَكُونُ ما حَجَّ في حَالِ الرِّقِّ تَطَوُّعًا
وَلِأَنَّ ما رَوَيْنَا من الحديث لَا يَفْصِلُ بين الْإِذْنِ وَعَدَمِ الْإِذْنِ
فَلَا يَقَعُ حَجُّهُ عن حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِحَالٍ بِخِلَافِ الْفَقِيرِ
لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَجُّ عليه في الِابْتِدَاءِ ثُمَّ إذَا حَجَّ
بِالسُّؤَالِ من الناس يَجُوزُ ذلك عن حَجَّةِ الْإِسْلَامِ حتى لو أَيْسَرَ لَا
يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أُخْرَى لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ بِمِلْكِ الزَّادِ
وَالرَّاحِلَةِ وَمَنَافِعِ الْبَدَنِ شَرْطُ الْوُجُوبِ لِأَنَّ الْحَجَّ يُقَامُ
بِالْمَالِ وَالْبَدَنِ جميعا وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ شيئا من ذلك فلم يَجِبْ
عليه ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً
وَالْفَقِيرُ يَمْلِكُ مَنَافِعَ نَفْسِهِ إذْ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فيها إلَّا
أَنَّهُ ليس له مِلْكُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وأنه شَرْطُ ابْتِدَاءِ الْوُجُوبِ
فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ في الإبتداء فإذا بَلَغَ مَكَّةَ وهو يَمْلِكُ مَنَافِعَ
بَدَنِهِ فَقَدْ قَدَرَ على الْحَجِّ بِالْمَشْيِ وَقَلِيلِ زَادٍ فَوَجَبَ عليه
الْحَجُّ فإذا أَدَّى وَقَعَ عن حَجَّةِ الْإِسْلَامِ
فَأَمَّا الْعَبْدُ فَمَنَافِعُ بَدَنِهِ مِلْكُ مَوْلَاهُ ابْتِدَاءً
وَانْتِهَاءً ما دَامَ عَبْدًا فَلَا يَكُونُ قَادِرًا على الْحَجِّ ابْتِدَاءً
وَانْتِهَاءً فلم يَجِبْ عليه
وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْفَقِيرَ إذَا حَضَرَ الْقِتَالَ يُضْرَبُ له بِسَهْمٍ
كَامِلٍ كَسَائِرِ من فُرِضَ عليه الْقِتَالُ وَإِنْ كان لَا يَجِبُ
____________________
(2/120)
عليه
الْجِهَادُ ابْتِدَاءً وَالْعَبْدُ إذَا شَهِدَ الواقعة ( ( ( الوقعة ) ) ) لَا
يُضْرَبُ له بِسَهْمِ الْحُرِّ بَلْ يُرْضَخُ له وما افْتَرَقَا إلَّا لِمَا
ذَكَرْنَا وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا شَهِدَ الْجُمُعَةَ وَصَلَّى أَنَّهُ
يَقَعُ فَرْضًا وَإِنْ كان لَا تَجِبُ عليه الْجُمُعَةُ في الإبتداء لِأَنَّ
مَنَافِعَ الْعَبْدِ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى
وَالْعَبْدُ مَحْجُورٌ عن التَّصَرُّفِ في مِلْكِ مَوْلَاهُ نَظَرًا لِلْمَوْلَى
إلَّا قَدْرَ ما استثنى عن مِلْكِهِ من الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فإنه مبقي فيها على
أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ لِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى في ذلك وَلَيْسَ في ذلك كَبِيرُ
ضَرَرٍ بِالْمَوْلَى لِأَنَّهَا تَتَأَدَّى بِمَنَافِعِ الْبَدَنِ في سَاعَاتٍ
قَلِيلَةٍ فَيَكُونُ فيه نَفْعُ الْعَبْدِ من غَيْرِ ضَرَرٍ بِالْمَوْلَى فإذا
حَضَرَ الْجُمُعَةَ وَفَاتَتْ الْمَنَافِعُ بِسَبَبِ السَّعْيِ فَيُعَدُّ ذلك
الظُّهْرُ وَالْجُمُعَةُ سَوَاءٌ فَنَظَرُ الْمَالِكِ في جَوَازِ الْجُمُعَةِ إذْ
لو لم يَجُزْ له ذلك يَجِبُ عليه أَدَاءُ الظُّهْرِ ثَانِيًا فَيَزِيدُ الضَّرَرُ
في حَقِّ الْمَوْلَى بِخِلَافِ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ فَإِنَّهُمَا لَا
يُؤَدَّيَانِ إلَّا بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ في مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَفِيهِ ضَرَرٌ
بِالْمَوْلَى بِفَوَاتِ مَالِهِ وَتَعْطِيلِ كَثِيرٍ من مَنَافِعِ الْعَبْدِ فلم
يُجْعَلْ مُبْقًى على أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ في حَقِّ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ
وَلَوْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ عن الْفَرْضِ إذَا وُجِدَ من الْعَبْدِ يَتَبَادَرُ
الْعَبِيدُ إلَى الْأَدَاءِ ليكون ( ( ( لكون ) ) ) الْحَجِّ عِبَادَةً
مَرْغُوبَةً وَكَذَا الْجِهَادُ فَيُؤَدِّي إلَى الْإِضْرَارِ بِالْمَوْلَى
فَالشَّرْعُ حَجَرَ عليهم وَسَدَّ هذا الْبَابَ نَظَرًا بِالْمَوْلَى حتى لَا
يَجِبَ إلَّا بِمِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَمِلْكِ مَنَافِعِ الْبَدَنِ
وَلَوْ أَحْرَمَ الصَّبِيُّ ثُمَّ بَلَغَ قبل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَإِنْ مَضَى
على إحْرَامِهِ يَكُونُ حَجُّهُ تَطَوُّعًا عِنْدَنَا
عند ( ( ( وعند ) ) ) الشَّافِعِيِّ يَكُونُ عن حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إذَا وَقَفَ
بِعَرَفَةَ وهو بَالِغٌ وَهَذَا بِنَاءً على أَنَّ من عليه حَجَّةُ الْإِسْلَامِ
إذَا نَوَى النَّفَلَ يَقَعُ عن النَّفْلِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَقَعُ عن
الْفَرْضِ وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي في مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ جَدَّدَ الْإِحْرَامَ بِأَنْ لَبَّى أو نَوَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ
وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ وَطَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ يَكُونُ عن حَجَّةِ
الْإِسْلَامِ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَا الْمَجْنُونُ إذَا أَفَاقَ وَالْكَافِرُ إذَا
أَسْلَمَ قبل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَجَدَّدَ الْإِحْرَامَ
وَلَوْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ ثُمَّ عَتَقَ فَأَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ
الْعِتْقِ لَا يَكُونُ ذلك عن حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ
وَالْكَافِرِ وَالْفَرْقُ أَنَّ إحْرَامَ الْكَافِرِ وَالْمَجْنُونِ لم يَنْعَقِدْ
أَصْلًا لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ وَإِحْرَامُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَقَعَ
صَحِيحًا لَكِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِكَوْنِهِ غير مُخَاطَبٍ فَكَانَ مُحْتَمِلًا
لِلِانْتِقَاضِ فإذا جَدَّدَ الْإِحْرَامَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ انْتَقَضَ
فَأَمَّا إحْرَامُ الْعَبْدِ فإنه وَقَعَ لَازِمًا لِكَوْنِهِ أَهْلًا لِلْخِطَابِ
فَانْعَقَدَ إحْرَامُهُ تَطَوُّعًا فَلَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ الثَّانِي إلَّا
بِفَسْخِ الْأَوَّلِ وأنه لَا يَحْتَمِلُ الإنفساخ
وَمِنْهَا صِحَّةُ الْبَدَنِ فَلَا حَجَّ على الْمَرِيضِ وَالزَّمِنِ
وَالْمُقْعَدِ وَالْمَفْلُوجِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الذي لَا يَثْبُتُ على
الرَّاحِلَةِ بِنَفْسِهِ وَالْمَحْبُوسِ وَالْمَمْنُوعِ من قِبَلِ السُّلْطَانِ
الْجَائِرِ عن الْخُرُوجِ إلَى الْحَجِّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ
الإستطاعة لِوُجُوبِ الْحَجِّ وَالْمُرَادُ منها اسْتِطَاعَةُ التَّكْلِيفِ وَهِيَ
سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ سَلَامَةُ
الْبَدَنِ عن الْآفَاتِ الْمَانِعَةِ عن الْقِيَامِ بِمَا لَا بُدَّ منه في سَفَرِ
الْحَجِّ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَلَا بُدَّ من سَلَامَةِ
الْبَدَنِ وَلَا سَلَامَةَ مع الْمَانِعِ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه في قَوْلِهِ عز وجل { من اسْتَطَاعَ
إلَيْهِ سَبِيلًا } أَنَّ السَّبِيلَ أَنْ يَصِحَّ بَدَنُ الْعَبْدِ وَيَكُونَ له
ثَمَنُ زَادٍ وَرَاحِلَةٍ من غَيْرِ أَنْ يُحْجَبَ وَلِأَنَّ الْقُرَبَ
وَالْعِبَادَاتِ وَجَبَتْ بِحَقِّ الشُّكْرِ لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ على
الْمُكَلَّفِ فإذا مُنِعَ السَّبَبُ الذي هو النِّعْمَةُ وهو سَلَامَةُ الْبَدَنِ
أو الْمَالِ كَيْفَ يُكَلَّفُ بِالشُّكْرِ وَلَا نِعْمَةَ
وَأَمَّا الْأَعْمَى فَقَدْ ذُكِرَ في الْأَصْلِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا
حَجَّ عليه بِنَفْسِهِ وَإِنْ وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً وَقَائِدًا وَإِنَّمَا
يَجِبُ في مَالِهِ إذَا كان له مَالٌ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ في الْأَعْمَى وَالْمُقْعَدِ وَالزَّمِنِ إن
عليهم الْحَجَّ بِأَنْفُسِهِمْ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجِبُ على
الْأَعْمَى الْحَجُّ بِنَفْسِهِ إذَا وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً وَمَنْ يَكْفِيهِ
مُؤْنَةَ سَفَرِهِ في خِدْمَتِهِ وَلَا يَجِبُ على الزَّمِنِ وَالْمُقْعَدِ
وَالْمَقْطُوعِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا ما روى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم سُئِلَ عن
الِاسْتِطَاعَةِ فقال هِيَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ فَسَّرَ صلى اللَّهُ عليه وسلم
الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَلِلْأَعْمَى هذه الِاسْتِطَاعَةُ
فَيَجِبُ عليه الْحَجُّ وَلِأَنَّ الْأَعْمَى يَجِبُ عليه الْحَجُّ بِنَفْسِهِ
إلَّا أَنَّهُ لَا يَهْتَدِي إلَى الطَّرِيقِ بِنَفْسِهِ وَيَهْتَدِي بِالْقَائِدِ
فَيَجِبُ عليه بِخِلَافِ الزَّمِنِ وَالْمُقْعَدِ وَمَقْطُوعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ
لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقْدِرُونَ على الْأَدَاءِ بِأَنْفُسِهِمْ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ في الزَّمِنِ وَالْمُقْعَدِ أَنَّهُمَا يَقْدِرَانِ
بِغَيْرِهِمَا إنْ كَانَا لَا يَقْدِرَانِ بِأَنْفُسِهِمَا وَالْقُدْرَةُ
بِالْغَيْرِ كَافِيَةٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ كَالْقُدْرَةِ بِالزَّادِ
وَالرَّاحِلَةِ وَكَذَا فَسَّرَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الِاسْتِطَاعَةَ
بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وقد وجد ( ( ( وجدا ) ) )
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَعْمَى لَا يَقْدِرُ على
أَدَاءِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا يَهْتَدِي إلَى الطَّرِيقِ بِنَفْسِهِ
وَلَا يَقْدِرُ على ما لَا بُدَّ منه في الطَّرِيقِ
____________________
(2/121)
بِنَفْسِهِ
من الرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ وَغَيْرِ ذلك وَكَذَا الزَّمِنُ وَالْمُقْعَدُ فلم
يَكُونَا قَادِرَيْنِ على الْأَدَاءِ بِأَنْفُسِهِمْ بَلْ بِقُدْرَةِ غَيْرٍ
مُخْتَارٍ وَالْقَادِرُ بِقُدْرَةِ غَيْرٍ مُخْتَارٍ لَا يَكُونُ قَادِرًا على
الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُخْتَارِ يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِ فلم
تَثْبُتْ الِاسْتِطَاعَةُ على الْإِطْلَاقِ وَلِهَذَا لم يَجِبْ الْحَجُّ على
الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الذي لَا يَسْتَمْسِكُ على الرَّاحِلَةِ وَإِنْ كان ثَمَّةَ
غَيْرُهُ يُمْسِكُهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَإِنَّمَا فَسَّرَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ
وَالرَّاحِلَةِ لِكَوْنِهِمَا من الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى الْحَجِّ لَا
لِاقْتِصَارِ الِاسْتِطَاعَةِ عَلَيْهِمَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا كان بَيْنَهُ
وَبَيْنَ مَكَّةَ بَحْرٌ زَاخِرٌ لَا سَفِينَةَ ثَمَّةَ أو عَدُوٌّ حَائِلٌ
يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ لَا يَجِبُ عليه الْحَجُّ مع
وُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَثَبَتَ أَنَّ تَخْصِيصَ الزَّادِ
وَالرَّاحِلَةِ ليس لِاقْتِصَارِ الشَّرْطِ عَلَيْهِمَا بَلْ لِلتَّنْبِيهِ على
أَسْبَابِ الْإِمْكَانِ فكلما كان من أَسْبَابِ الْإِمْكَانِ يَدْخُلُ تَحْتَ
تَفْسِيرِ الِاسْتِطَاعَةِ مَعْنًى وَلِأَنَّ في إيجَابِ الْحَجِّ على الْأَعْمَى
وَالزَّمِنِ وَالْمُقْعَدِ وَالْمَفْلُوجِ وَالْمَرِيضِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ
الذي لَا يَثْبُتُ على الرَّاحِلَةِ بِأَنْفُسِهِمْ حَرَجًا بَيِّنًا وَمَشَقَّةً
شَدِيدَةً وقد قال اللَّهُ عز وجل { وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ من حَرَجٍ
}
وَمِنْهَا مِلْكُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ في حَقِّ النَّائِي عن مَكَّةَ
وَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ أَنَّهُ من شَرَائِطِ
الْوُجُوبِ
وَالثَّانِي في تَفْسِيرِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قال عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ أنه شَرْطٌ فَلَا يَجِبُ
الْحَجُّ بِإِبَاحَةِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ سَوَاءٌ كانت الْإِبَاحَةُ مِمَّنْ
له مِنَّةٌ على الْمُبَاحِ له أو كانت مِمَّنْ لَا مِنَّةَ له عليه كَالْأَبِ وقال
الشَّافِعِيُّ يَجِبُ الْحَجُّ بِإِبَاحَةِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ إذَا كانت
الْإِبَاحَةُ مِمَّنْ لَا مِنَّةَ له على الْمُبَاحِ له كَالْوَالِدِ بَذَلَ
الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ لِابْنِهِ وَلَهُ في الْأَجْنَبِيِّ قَوْلَانِ وَلَوْ
وَهَبَهُ إنْسَانٌ مَالًا يَحُجُّ بِهِ لَا يَجِبُ على الْمَوْهُوبِ له الْقَبُولُ
عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ فيه قَوْلَانِ وقال مَالِكٌ الرَّاحِلَةُ لَيْسَتْ
بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْحَجِّ أَصْلًا لَا مِلْكًا وَلَا إبَاحَةً وَمِلْكُ
الزَّادِ شَرْطٌ حتى لو كان صَحِيحَ الْبَدَنِ وهو يَقْدِرُ على الْمَشْيِ يَجِبُ
عليه الْحَجُّ وَإِنْ لم يَكُنْ له رَاحِلَةٌ
أَمَّا الْكَلَامُ مع مَالِكٍ فَهُوَ احْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {
وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ الْبَيْتِ من اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَمَنْ كان
صَحِيحَ الْبَدَنِ قَادِرًا على الْمَشْيِ وَلَهُ زَادٌ فَقَدْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ
سَبِيلًا فَيَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ
وَلَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَسَّرَ الإستطاعة
بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ جميعا فَلَا تَثْبُتُ الِاسْتِطَاعَةُ بِأَحَدِهِمَا
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقُدْرَةَ على الْمَشْيِ لَا تَكْفِي لِاسْتِطَاعَةِ
الْحَجِّ ثُمَّ شَرْطُ الرَّاحِلَةِ إنَّمَا يُرَاعَى لِوُجُوبِ الْحَجِّ في حَقِّ
من نَأَى عن مَكَّةَ فَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهُمْ فإن الْحَجَّ
يَجِبُ على القوى منهم الْقَادِرِ على الْمَشْيِ من غَيْرِ رَاحِلَةٍ لِأَنَّهُ
لَا حَرَجَ يَلْحَقُهُ في الْمَشْيِ إلَى الْحَجِّ كما لَا يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ
في الْمَشْيِ إلَى الْجُمُعَةِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ فَوَجْهُ قَوْلِهِ إن الِاسْتِطَاعَةَ
الْمَذْكُورَةَ هِيَ الْقُدْرَةُ من حَيْثُ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ
وَالْقُدْرَةُ تَثْبُتُ بِالْإِبَاحَةِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْمِلْكِ إذْ
الْمِلْكُ لَا يُشْتَرَطُ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلْقُدْرَةِ على اسْتِعْمَالِ الزَّادِ
وَالرَّاحِلَةِ أَكْلًا وَرُكُوبًا وإذا ( ( ( ولذا ) ) ) ثَبَتَتْ بِالْإِبَاحَةِ
وَلِهَذَا اسْتَوَى الْمِلْكُ وَالْإِبَاحَةُ في بَابِ الطَّهَارَةِ في الْمَنْعِ
من جَوَازِ التَّيَمُّمِ كَذَا هَهُنَا
وَلَنَا أَنَّ اسْتِطَاعَةَ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ لَا تَثْبُتُ بِالْإِبَاحَةِ
لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَا تَكُونُ لَازِمَةً أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمُبِيحِ أَنْ
يَمْنَعَ الْمُبَاحَ له عن التَّصَرُّفِ في الْمُبَاحِ وَمَعَ قِيَامِ وِلَايَةِ
الْمَنْعِ لَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ الْمُطْلَقَةُ فَلَا يَكُونُ مُسْتَطِيعًا على
الْإِطْلَاقِ فلم يُوجَدْ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَلَا يَجِبُ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ
الطَّهَارَةِ لِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ عَدَمُ الْمَاءِ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى { فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } وَالْعَدَمُ لَا
يَثْبُتُ مع الْبَذْلِ وَالْإِبَاحَةِ
وَأَمَّا تَفْسِيرُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ من الْمَالِ
مِقْدَارَ ما يُبَلِّغُهُ إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا وَجَائِيًا رَاكِبًا لَا مَاشِيًا
بِنَفَقَةٍ وَسَطٍ لَا إسْرَافَ فيها وَلَا تَقْتِيرَ فَاضِلًا عن مَسْكَنِهِ
وَخَادِمِهِ وَفَرَسِهِ وَسِلَاحِهِ وَثِيَابِهِ وَأَثَاثِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ
وَخَدَمِهِ وَكُسْوَتِهِمْ وَقَضَاءِ دُيُونِهِ
وروى عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال وَنَفَقَةُ شَهْرٍ بَعْدَ انْصِرَافِهِ أَيْضًا
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ فَسَّرَ الرَّاحِلَةَ فقال إذَا كان
عِنْدَهُ ما يَفْضُلُ عَمَّا ذَكَرْنَا ما يَكْتَرِي بِهِ شِقَّ محمول ( ( ( محمل
) ) ) أو زَامِلَةً أو رَأْسَ رَاحِلَةٍ وَيُنْفِقُ ذَاهِبًا وَجَائِيًا
فَعَلَيْهِ الْحَجُّ وَإِنْ لم يَكْفِهِ ذلك إلَّا أَنْ يَمْشِيَ أو يَكْتَرِيَ
عُقْبَةً فَلَيْسَ عليه الْحَجُّ مَاشِيًا وَلَا رَاكِبًا عُقْبَةً وَإِنَّمَا
اعْتَبَرْنَا الْفَضْلَ على ما ذَكَرْنَا من الْحَوَائِجِ لِأَنَّهَا من
الْحَوَائِجِ اللَّازِمَةِ التي لَا بُدَّ منها فَكَانَ الْمُسْتَحَقُّ بها
مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ
وما ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا في تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْعِيَالِ سَنَةً
وَالْبَعْضُ شَهْرًا فَلَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ بَلْ هو على حَسَبِ اخْتِلَافِ
الْمَسَافَةِ في الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ لِأَنَّ قَدْرَ النَّفَقَةِ يَخْتَلِفُ
بِاخْتِلَافِ الْمَسَافَةِ فَيُعْتَبَرُ في ذلك قَدْرُ ما يَذْهَبُ وَيَعُودُ إلَى
مَنْزِلِهِ وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ
____________________
(2/122)
عليه
الْحَجُّ إذَا لم يَكْفِ مَالُهُ إلَّا لِلْعُقْبَةِ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ هو
الْحَجُّ رَاكِبًا لَا مَاشِيًا وَالرَّاكِبُ عُقْبَةً لَا يَرْكَبُ في كل
الطَّرِيقِ بَلْ يَرْكَبُ في الْبَعْضِ وَيَمْشِي في الْبَعْضِ
وَذَكَرَ ابن شُجَاعٍ إنه إذَا كانت له دَارٌ لَا يَسْكُنُهَا وَلَا يُؤَاجِرُهَا
وَمَتَاعٌ لَا يَمْتَهِنُهُ وَعَبْدٌ لَا يَسْتَخْدِمُهُ وَجَبَ عليه أَنْ
يَبِيعَهُ وَيَحُجَّ بِهِ وَحُرِّمَ عليه أَخْذُ الزَّكَاةِ إذَا بَلَغَ نِصَابًا
لِأَنَّهُ إذَا كان كَذَلِكَ كان فَاضِلًا عن حَاجَتِهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ وكان
مُسْتَطِيعًا فَيَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ فَإِنْ أَمْكَنَهُ بَيْعُ مَنْزِلِهِ
وإن يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ مَنْزِلًا دُونَهُ وَيَحُجَّ بِالْفَضْلِ فَهُوَ
أَفْضَلُ لَكِنْ لَا يَجِبُ عليه لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى سُكْنَاهُ فَلَا
يُعْتَبَرُ في الْحَاجَةِ قَدْرُ ما لَا بُدَّ منه كما لَا يَجِبُ عليه بَيْعُ
الْمَنْزِلِ وَالِاقْتِصَارُ على السُّكْنَى
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قال إذَا لم يَكُنْ له مَسْكَنٌ وَلَا
خَادِمٌ وَلَا قُوتُ عِيَالِهِ وَعِنْدَهُ دَرَاهِمُ تُبَلِّغُهُ إلَى الْحَجِّ
لَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ ذلك في غَيْرِ الْحَجِّ فَإِنْ فَعَلَ أَثِمَ
لِأَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ لِمِلْكِ الدَّرَاهِمِ فَلَا يُعْذَرُ في التَّرْكِ وَلَا
يَتَضَرَّرُ بِتَرْكِ شِرَاءِ الْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ بِخِلَافِ بَيْعِ
الْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ فإنه يَتَضَرَّرُ بِبَيْعِهِمَا
وَقَوْلُهُ وَلَا قُوتُ عِيَالِهِ مُؤَوَّلٌ وَتَأْوِيلُهُ وَلَا قُوتُ عِيَالِهِ
ما يَزِيدُ على مِقْدَارِ الذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ فَأَمَّا الْمِقْدَارُ
الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ من وَقْتِ الذَّهَابِ إلَى وَقْتِ الرُّجُوعِ فَذَلِكَ
مُقَدَّمٌ على الْحَجِّ لِمَا بَيَّنَّا
وَمِنْهَا أَمْنُ الطَّرِيقِ وأنه من شَرَائِطِ الْوُجُوبِ عِنْدَ بَعْضِ
أَصْحَابِنَا بِمَنْزِلَةِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ
وَهَكَذَا رَوَى ابن شُجَاعٍ عن أبي حَنِيفَةَ وقال بَعْضُهُمْ أنه من شَرَائِطِ
الْأَدَاءِ لَا من شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَفَائِدَةُ هذا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ
في وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ إذَا خَافَ الْفَوْتَ فَمَنْ قال إنَّهُ من شَرَائِطِ
الْأَدَاءِ يقول إنَّهُ تَجِبُ الْوَصِيَّةُ إذَا خَافَ الْفَوْتَ وَمَنْ قال أنه
شَرْطُ الْوُجُوبِ يقول لَا تَجِبُ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الْحَجَّ لم يَجِبْ عليه
ولم يَصِرْ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ فَلَا تَلْزَمُهُ الْوَصِيَّةُ
وَجْهُ قَوْلِ من قال إنَّهُ شَرْطُ الْأَدَاءِ لَا شَرْطُ الْوُجُوبِ ما
رَوَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ
بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ولم يذكر أَمْنَ الطَّرِيقِ
وَجْهُ قَوْلِ من قال إنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ وهو الصَّحِيحُ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى شَرَطَ الِاسْتِطَاعَةَ وَلَا اسْتِطَاعَةَ بِدُونِ أَمْنِ الطَّرِيقِ
كما لَا اسْتِطَاعَةَ بِدُونِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ إلَّا أَنَّ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم بَيَّنَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ بَيَانَ كِفَايَةٍ
لِيُسْتَدَلَّ بِالْمَنْصُوصِ عليه على غَيْرِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا في الْمَعْنَى
وهو إمْكَانُ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ كما لم يذكر أَمْنَ الطَّرِيقِ لم يذكر صِحَّةَ الْجَوَارِحِ
وَزَوَالَ سَائِرِ الْمَوَانِعِ الْحِسِّيَّةِ وَذَلِكَ شَرْطُ الْوُجُوبِ على
أَنَّ الْمَمْنُوعَ عن الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ لَا زَادَ له وَلَا رَاحِلَةَ
معه فَكَانَ شَرْطُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ شَرْطًا لِأَمْنِ الطَّرِيقِ ضَرُورَةً
وَأَمَّا الذي يَخُصُّ النِّسَاءَ فَشَرْطَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا
زَوْجُهَا أو مَحْرَمٌ لها فَإِنْ لم يُوجَدْ أَحَدُهُمَا لَا يَجِبُ عليها
الْحَجُّ وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هذا ليس بِشَرْطٍ وَيَلْزَمُهَا الْحَجُّ وَالْخُرُوجُ من
غَيْرِ زَوْجٍ وَلَا مَحْرَمٍ إذَا كان مَعَهَا نِسَاءٌ في الرُّفْقَةِ ثِقَاتٌ
وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ الْبَيْتِ من
اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَخِطَابُ الناس يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ
وَالْإِنَاثَ بِلَا خِلَافٍ فإذا كان لها زَادٌ وَرَاحِلَةٌ كانت مُسْتَطِيعَةً
وإذا كان مَعَهَا نِسَاءٌ ثِقَاتٌ يُؤْمَنُ الْفَسَادُ عليها فَيَلْزَمُهَا فَرْضُ
الْحَجِّ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم أَنَّهُ قال أَلَا لَا تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ
وَعَنْ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ أو زَوْجٌ وَلِأَنَّهَا إذَا لم
يَكُنْ مَعَهَا زَوْجٌ وَلَا مَحْرَمٌ لَا يُؤْمَنُ عليها إذا النِّسَاءُ لَحْمٌ
على وَضَمٍ إلَّا ما ذُبَّ عنه وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لها الْخُرُوجُ وَحْدَهَا
وَالْخَوْفُ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِنَّ أَكْثَرُ وَلِهَذَا حُرِّمَتْ الْخَلْوَةُ
بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَإِنْ كان مَعَهَا امْرَأَةٌ أُخْرَى
وَالْآيَةُ لَا تَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ حَالَ عَدَمِ الزَّوْجِ وَالْمَحْرَمِ
مَعَهَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَقْدِرُ على الرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ
بِنَفْسِهَا فَتَحْتَاجُ إلَى من يُرْكِبُهَا وَيُنْزِلُهَا وَلَا يَجُوزُ ذلك
لِغَيْرِ الزَّوْجِ وَالْمَحْرَمِ فلم تَكُنْ مُسْتَطِيعَةً في هذه الْحَالَةِ
فَلَا يَتَنَاوَلُهَا النَّصُّ فَإِنْ امْتَنَعَ الزَّوْجُ أو الْمَحْرَمُ عن
الْخُرُوجِ لَا يُجْبَرَانِ على الْخُرُوجِ وَلَوْ امْتَنَعَ من الْخُرُوجِ
لِإِرَادَةِ زَادٍ وَرَاحِلَةٍ هل يَلْزَمُهَا ذلك ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في
شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهَا ذلك وَيَجِبُ عليها
الْحَجُّ بِنَفْسِهَا وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ
أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا ذلك وَلَا يَجِبُ الْحَجُّ عليها
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الْمَحْرَمَ أو الزَّوْجَ من ضَرُورَاتِ
حَجِّهَا بِمَنْزِلَةِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ إذْ لَا يُمْكِنُهَا الْحَجُّ
بِدُونِهِ كما لَا يُمْكِنُهَا الْحَجُّ بِدُونِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَلَا
يُمْكِنُ الزام ذلك الزَّوْجِ أو الْمَحْرَمِ من مَالِ نَفْسِهِ فَيَلْزَمُهَا ذلك
له كما يَلْزَمُهَا الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ لِنَفْسِهَا
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَنَّ هذا من شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ عليها
وَلَا يَجِبُ على الْإِنْسَانِ تَحْصِيلُ شَرْطِ
____________________
(2/123)
الْوُجُوبِ
بَلْ إنْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَجَبَ وَإِلَّا فَلَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَقِيرَ
لَا يَلْزَمُهُ تَحْصِيلُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَيَجِبُ عليه الْحَجُّ
وَلِهَذَا قالوا في الْمَرْأَةِ التي لَا زَوْجَ لها وَلَا مَحْرَمَ أنه لَا
يَجِبُ عليها أَنْ تَتَزَوَّجَ بِمَنْ يَحُجُّ بها كَذَا هذا
وَلَوْ كان مَعَهَا مَحْرَمٌ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ مع الْمَحْرَمِ في الْحَجَّةِ
الْفَرِيضَةِ من غَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ليس لها أَنْ تَخْرُجَ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا
وَجْهُ قَوْلِهِ إن في الْخُرُوجِ تَفْوِيتَ حَقِّهِ الْمُسْتَحَقِّ عليها وهو
الِاسْتِمْتَاعُ بها فَلَا تَمْلِكُ ذلك من غَيْرِ رِضَاهُ
وَلَنَا أنها إذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا فَقَدْ اسْتَطَاعَتْ إلَى حَجِّ الْبَيْتِ
سَبِيلًا لِأَنَّهَا قَدَرَتْ على الرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ وَأَمِنَتْ
الْمَخَاوِفَ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ يَصُونُهَا
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ حَقَّ الزَّوْجِ في الِاسْتِمْتَاعِ يَفُوتُ بِالْخُرُوجِ
إلَى الْحَجِّ فَنَقُولُ مَنَافِعُهَا مُسْتَثْنَاةٌ عن مِلْكِ الزَّوْجِ في
الْفَرَائِضِ كما في الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَنَحْوِ ذلك حتى
لو أَرَادَتْ الْخُرُوجَ إلَى حَجَّةِ التَّطَوُّعِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا
كما في صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ
وَسَوَاءٌ كانت الْمَرْأَةُ شَابَّةً أو عَجُوزًا أنها ( ( ( فإنها ) ) ) لَا
تَخْرُجُ إلَّا بِزَوْجٍ أو مَحْرَمٍ لِأَنَّ ما رَوَيْنَا من الحديث لَا يَفْصِلُ
بين الشَّابَّةِ وَالْعَجُوزِ وَكَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ
بَيْنَهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا من حَاجَةِ الْمَرْأَةِ إلَى من يُرْكِبُهَا
وَيُنْزِلُهَا بَلْ حَاجَةُ الْعَجُوزِ إلَى ذلك أَشَدُّ لِأَنَّهَا أَعْجَزُ
وَكَذَا يُخَافُ عليها من الرِّجَالِ وَكَذَا لَا يُؤْمَنُ عليها من أَنْ
يَطَّلِعَ عليها الرِّجَالُ حَالَ رُكُوبِهَا وَنُزُولِهَا فَتَحْتَاجُ إلَى
الزَّوْجِ أو إلَى الْمَحْرَمِ لِيَصُونَهَا عن ذلك وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ثُمَّ صِفَةُ الْمَحْرَمِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ له نِكَاحُهَا على
التَّأْبِيدِ إمَّا بِالْقَرَابَةِ أو الرَّضَاعِ أو الصِّهْرِيَّةِ لِأَنَّ
الْحُرْمَةَ الْمُؤَبَّدَةَ تُزِيلُ التُّهْمَةَ في الْخَلْوَةِ وَلِهَذَا قالوا
إنَّ الْمَحْرَمَ إذَا لم يَكُنْ مَأْمُونًا عليها لم يَجُزْ لها أَنْ تُسَافِرَ
معه وَسَوَاءٌ كان الْمَحْرَمُ حُرًّا أو عَبْدًا لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يُنَافِي
الْمَحْرَمِيَّةِ وَسَوَاءٌ كان مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا أو مُشْرِكًا لِأَنَّ
الذِّمِّيَّ وَالْمُشْرِكَ يَحْفَظَانِ مَحَارِمَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ
مَجُوسِيًّا لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ نِكَاحِهَا فَلَا تُسَافِرُ معه لِأَنَّهُ
لَا يُؤْمَنُ عليها كَالْأَجْنَبِيِّ
وَقَالُوا في الصَّبِيِّ الذي لم يَحْتَلِمْ وَالْمَجْنُونِ الذي لم يُفِقْ أنهما
لَيْسَا بِمَحْرَمَيْنِ في السَّفَرِ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُمَا
حِفْظُهَا وَقَالُوا في الصَّبِيَّةِ التي لَا يشتهي مِثْلُهَا أنها تُسَافِرُ
بِغَيْرِ مَحْرَمٍ لِأَنَّهُ يُؤْمَنُ عليها فإذا بَلَغَتْ حَدَّ الشَّهْوَةِ لَا
تُسَافِرُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِحَيْثُ لَا يُؤْمَنُ عليها
ثُمَّ الْمَحْرَمُ أو الزَّوْجُ إنَّمَا يُشْتَرَطُ إذَا كان بين الْمَرْأَةِ
وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَإِنْ كان أَقَلَّ من ذلك
حَجَّتْ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ يُشْتَرَطُ لِلسَّفَرِ وما دُونَ
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ليس بِسَفَرٍ فَلَا يُشْتَرَطُ فيه الْمَحْرَمُ كما لَا
يُشْتَرَطُ لِلْخُرُوجِ من مَحِلَةٍ إلَى مَحِلَةٍ ثُمَّ الزَّوْجُ أو الْمَحْرَمُ
شَرْطُ الْوُجُوبِ أَمْ شَرْطُ الْجَوَازِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه كما
اخْتَلَفُوا في أَمْنِ الطَّرِيقِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ لِمَا
ذَكَرْنَا في أَمْنِ الطَّرِيقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَالثَّانِي أَنْ لَا تَكُونَ مُعْتَدَّةً عن طَلَاقٍ أو وَفَاةٍ لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى نهى الْمُعْتَدَّاتِ عن الخروج بِقَوْلِهِ عز وجل { لَا تُخْرِجُوهُنَّ
من بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ } وروى عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ
عنه أَنَّهُ رَدَّ الْمُعْتَدَّاتِ من ذِي الْحُلَيْفَةِ وروى عن عبد اللَّهِ بن
مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ رَدَّهُنَّ من الْجُحْفَةِ وَلِأَنَّ الْحَجَّ
يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ في وَقْتٍ آخَرَ فَأَمَّا الْعِدَّةُ فَإِنَّهَا إنَّمَا
يَجِبُ قَضَاؤُهَا في هذا الْوَقْتِ خَاصَّةً فَكَانَ الْجَمْعُ بين الْأَمْرَيْنِ
أَوْلَى وَإِنْ لَزِمَتْهَا بَعْدَ الْخُرُوجِ إلَى السَّفَرِ وَهِيَ مسافر ( ( (
مسافرة ) ) ) فَإِنْ كان الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا لَا يُفَارِقُهَا زَوْجُهَا
لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُزِيلُ الزَّوْجِيَّةَ وَالْأَفْضَلُ أَنْ
يُرَاجِعَهَا وَإِنْ كانت بَائِنًا أو كانت مُعْتَدَّةً عن وَفَاةٍ فَإِنْ كان
إلَى مَنْزِلِهَا أَقَلُّ من مُدَّةِ سَفَرٍ وَإِلَى مَكَّةَ مُدَّةُ سَفَرٍ
فَإِنَّهَا تَعُودُ إلَى مَنْزِلِهَا لِأَنَّهُ ليس فيه إنْشَاءُ سَفَرٍ فَصَارَ
كَأَنَّهَا في بَلَدِهَا وَإِنْ كان إلَى مَكَّةَ أَقَلُّ من مُدَّةِ سَفَرٍ
وَإِلَى مَنْزِلِهَا مُدَّةُ سَفَرٍ مَضَتْ إلَى مَكَّةَ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ
إلَى الْمَحْرَمِ في أَقَلِّ من مُدَّةِ السَّفَرِ
وَإِنْ كان من الْجَانِبَيْنِ أَقَلُّ من مُدَّةِ السَّفَرِ فَهِيَ بِالْخِيَارِ
إنْ شَاءَتْ مَضَتْ وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ إلَى مَنْزِلِهَا فَإِنْ كان من
الْجَانِبَيْنِ مُدَّةُ سَفَرٍ فَإِنْ كانت في الْمِصْرِ فَلَيْسَ لها أَنْ
تَخْرُجَ حتى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ وَجَدَتْ
مَحْرَمًا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لها أَنْ تَخْرُجَ إذَا وَجَدَتْ
مَحْرَمًا وَلَيْسَ لها أَنْ تَخْرُجَ بِلَا مَحْرَمٍ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كان
ذلك في الْمَفَازَةِ أو في بَعْضِ الْقُرَى بِحَيْثُ لَا تَأْمَنُ على نَفْسِهَا
وَمَالِهَا فَلَهَا أَنْ تَمْضِيَ فَتَدْخُلَ مَوْضِعَ الْأَمْنِ ثُمَّ لَا
تَخْرُجُ منه في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ وَجَدَتْ مَحْرَمًا أو لَا
وَعِنْدَهُمَا تَخْرُجُ إذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا وَهَذِهِ من مَسَائِلِ كِتَابِ
الطَّلَاقِ نذكرها ( ( ( ونذكرها ) ) ) بِدَلَائِلِهَا في فُصُولِ الْعِدَّةِ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
ثُمَّ من لم يَجِبْ عليه الْحَجُّ بِنَفْسِهِ لِعُذْرٍ كَالْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ
وَلَهُ مَالٌ يَلْزَمُهُ أَنْ يُحِجَّ رَجُلًا عنه وَيُجْزِئُهُ عن حَجَّةِ
الْإِسْلَامِ إذَا وَجَدَ شَرَائِطَ جَوَازِ الأحجاج على ما نَذْكُرُهُ وَلَوْ
تَكَلَّفَ وَاحِدٌ مِمَّنْ له عُذْرٌ فَحَجَّ بِنَفْسِهِ أَجْزَأَهُ عن حَجَّةِ
الْإِسْلَامِ إذَا كان
____________________
(2/124)
عَاقِلًا
بَالِغًا حُرًّا لِأَنَّهُ من أَهْلِ الْفَرْضِ إلَّا أَنَّهُ لم يَجِبْ عليه
لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَى مَكَّةَ إلَّا بِحَرَجٍ فإذا تَحَمَّلَ
الْحَرَجَ وَقَعَ مَوْقِعَهُ كَالْفَقِيرِ إذَا حَجَّ وَالْعَبْدِ إذَا حَضَرَ
الْجُمُعَةَ فَأَدَّاهَا وَلِأَنَّهُ إذَا وَصَلَ إلَى مَكَّةَ صَارَ كَأَهْلِ
مَكَّةَ فَيَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ
فإن الْعَبْدَ وَالصَّبِيَّ لَيْسَا من أَهْلِ فَرْضِ الْحَجِّ وَالْمَجْنُونُ ليس
من أَهْلِ الْعِبَادَةِ أَصْلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من الشَّرَائِطِ لِوُجُوبِ الْحَجِّ من الزَّادِ
وَالرَّاحِلَةِ وَغَيْرِ ذلك يُعْتَبَرُ وُجُودُهَا وَقْتَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ
حتى لو مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ في أَوَّلِ السَّنَةِ قبل أَشْهُرِ
الْحَجِّ وَقَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ أَهْلُ بَلَدِهِ إلَى مَكَّةَ فَهُوَ في سَعَةٍ
من صَرْفِ ذلك إلَى حَيْثُ أَحَبَّ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّأَهُّبُ
لِلْحَجِّ قبل خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ لِأَنَّهُ لم يَجِبْ عليه الْحَجُّ
قَبْلَهُ وَمَنْ لَا حَجَّ عليه لَا يَلْزَمُهُ التَّأَهُّبُ لِلْحَجِّ فَكَانَ
بِسَبِيلٍ من التَّصَرُّفِ في مَالِهِ كَيْفَ شَاءَ
وإذا صَرَفَ مَالَهُ ثُمَّ خَرَجَ أَهْلُ بَلَدِهِ لَا يَجِبُ عليه الْحَجُّ
فَأَمَّا إذَا جاء وَقْتُ الْخُرُوجِ وَالْمَالُ في يَدِهِ فَلَيْسَ له أَنْ
يَصْرِفَهُ إلَى غَيْرِهِ على قَوْلِ من يقول بِالْوُجُوبِ على الْفَوْرِ
لِأَنَّهُ إذَا جاء وَقْتُ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ فَقَدْ وَجَبَ عليه الْحَجُّ
لِوُجُودِ الِاسْتِطَاعَةِ فَيَلْزَمُهُ التَّأَهُّبُ لِلْحَجِّ فَلَا يَجُوزُ له
صَرْفُهُ إلَى غَيْرِهِ كَالْمُسَافِرِ إذَا كان معه مَاءٌ لِلطَّهَارَةِ وقد
قَرُبَ الْوَقْتُ لَا يَجُوزُ له اسْتِهْلَاكُهُ في غَيْرِ الطَّهَارَةِ فَإِنْ
صَرَفَهُ إلَى غَيْرِ الْحَجِّ أَثِمَ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا رُكْنُ الْحَجِّ فَشَيْئَانِ أَحَدُهُمَا الْوُقُوفُ بعرنة ( ( (
بعرفة ) ) ) وهو الرُّكْنُ الْأَصْلِيُّ لِلْحَجِّ
وَالثَّانِي طَوَافُ الزِّيَارَةِ
أَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَالْكَلَامُ فيه يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنَّهُ
رُكْنٌ وفي بَيَانِ مَكَانِهِ وفي بَيَانِ زَمَانِهِ وفي بَيَانِ مِقْدَارِهِ وفي
بَيَانِ سُنَنِهِ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ عن وَقْتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عليه قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ
الْبَيْتِ من اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا }
ثم فَسَّرَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْحَجَّ بِقَوْلِهِ الْحَجُّ عَرَفَةَ
أَيْ الْحَجُّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إذْ الْحَجُّ فِعْلٌ وَعَرَفَةُ مَكَانٌ
فَلَا يَكُونُ حَجًّا فَكَانَ الْوُقُوفُ مُضْمَرًا فيه فَكَانَ تَقْدِيرُهُ
الْحَجُّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَالْمُجْمَلُ إذَا الْتَحَقَ بِهِ التَّفْسِيرُ
يَصِيرُ مُفَسَّرًا من الْأَصْلِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قال وَلِلَّهِ على
الناس حِجُّ الْبَيْتِ وَالْحَجُّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي
أَنْ يَكُونَ هو الرُّكْنُ لَا غَيْرُ إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عليه طَوَافُ
الزِّيَارَةِ بِدَلِيلٍ
ثُمَّ قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في سِيَاقِ التَّفْسِيرِ من وَقَفَ
بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ جَعَلَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ اسْمًا لِلْحَجِّ
فَدَلَّ أَنَّهُ رُكْنٌ
فَإِنْ قِيلَ هذا يَدُلُّ على أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَاجِبٌ وَلَيْسَ
بِفَرْضٍ فَضْلًا عن أَنْ يَكُونَ رُكْنًا لِأَنَّهُ عَلَّقَ تَمَامَ الْحَجِّ
بِهِ وَالْوَاجِبُ هو الذي يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهِ التَّمَامُ لَا الْفَرْضُ
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ من قَوْلِهِ فقد تَمَّ حَجُّهُ ليس هو التَّمَامُ
الذي هو ضِدُّ النُّقْصَانِ بَلْ خُرُوجُهُ عن احْتِمَالِ الْفَسَادِ فَقَوْلُهُ
فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ أَيْ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسَادِ بَعْدَ
ذلك لِوُجُودِ الْمُفْسِدِ حتى لو جَامَعَ بَعْدَ ذلك لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ لَكِنْ
تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الْحَجَّ بِقَوْلِهِ { وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ
الْبَيْتِ من اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَفَسَّرَ النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم الْحَجَّ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَصَارَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَرْضًا وهو
رُكْنٌ فَلَوْ حُمِلَ التَّمَامُ الْمَذْكُورُ في الحديث على التَّمَامِ الذي هو
ضِدُّ النُّقْصَانِ لم يَكُنْ فَرْضًا لِأَنَّهُ يُوجَدُ الْحَجُّ بِدُونِهِ
فَيَتَنَاقَضُ فَحُمِلَ التَّمَامُ الْمَذْكُورُ على خُرُوجِهِ عن احْتِمَالِ
الْفَسَادِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ صِيَانَةً لها عن التَّنَاقُضِ
وَقَوْلُهُ عز وجل { ثُمَّ أَفِيضُوا من حَيْثُ أَفَاضَ الناس } قِيلَ إنَّ أَهْلَ
الْحَرَمِ كَانُوا لَا يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ وَيَقُولُونَ نَحْنُ أَهْلُ حَرَمِ
اللَّهِ لَا نُفِيضُ كَغَيْرِنَا مِمَّنْ قَصَدَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ
الْكَرِيمَةَ يَأْمُرُهُمْ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَالْإِفَاضَةِ من حَيْثُ
أَفَاضَ الناس وَالنَّاسُ كَانُوا يُفِيضُونَ من عَرَفَاتٍ وَإِفَاضَتُهُمْ منها
لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ حُصُولِهِمْ فيها فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْإِفَاضَةِ منها
أَمْرًا بِالْوُقُوفِ بها ضَرُورَةً وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها
قالت كانت قُرَيْشٌ وَمَنْ كان على دِينِهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَلَا
يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل قَوْلَهُ { ثُمَّ أَفِيضُوا من
حَيْثُ أَفَاضَ الناس } وَكَذَا الْأُمَّةُ أَجْمَعَتْ على كَوْنِ الْوُقُوفِ
رُكْنًا في الْحَجِّ
وَأَمَّا مَكَانُ الْوُقُوفِ فَعَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ لِقَوْلِ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم عَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ وَلِمَا
رَوَيْنَا من الحديث وهو قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْحَجُّ عَرَفَةَ فَمَنْ
وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ مُطْلَقًا من غَيْرِ تَعْيِينِ مَوْضِعٍ
دُونَ مَوْضِعٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ في بَطْنِ عرفة ( ( (
عرنة ) ) ) لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن ذلك وَأَخْبَرَ أَنَّهُ
وَادِي الشَّيْطَانِ
وَأَمَّا زَمَانُهُ فَزَمَانُ الْوُقُوفِ من حِينِ تَزُولُ الشَّمْسُ من يَوْمِ
عَرَفَةَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي من يَوْمِ
____________________
(2/125)
النَّحْرِ
حتى لو وَقَفَ بِعَرَفَةَ في غَيْرِ هذا الْوَقْتِ كان وُقُوفُهُ وَعَدَمُ
وُقُوفِهِ سَوَاءً لِأَنَّهُ فَرْضٌ مُؤَقَّتٌ فَلَا يَتَأَدَّى في غَيْرِ
وَقْتِهِ كَسَائِرِ الْفَرَائِضِ الْمُؤَقَّتَةِ إلَّا في حَالِ الضَّرُورَةِ
وَهِيَ حَالُ الِاشْتِبَاهِ اسْتِحْسَانًا على ما نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
وَكَذَا الْوُقُوفُ قبل الزَّوَالِ لم يَجُزْ ما لم يَقِفْ بَعْدَ الزَّوَالِ وكذا
من لم يُدْرِكْ عَرَفَةَ بِنَهَارٍ وَلَا بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَقَفَ بِعَرَفَةَ
بَعْدَ الزَّوَالِ وقال خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَكَانَ بَيَانًا لِأَوَّلِ
الْوَقْتِ
وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم من أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ وَمَنْ
فَاتَهُ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ
وَهَذَا بَيَانُ آخِرِ الْوَقْتِ فَدَلَّ أَنَّ الْوَقْتَ يَبْقَى بِبَقَاءِ
اللَّيْلِ وَيَفُوتُ بِفَوَاتِهِ
وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ وَقْتُ الْوُقُوفِ هو اللَّيْلُ فَمَنْ لم يَقِفْ في جُزْءٍ من
اللَّيْلِ لم يَجُزْ وُقُوفُهُ
وَاحْتَجَّ بِمَا روى عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من أَدْرَكَ
عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ عَلَّقَ إدْرَاكَ الْحَجِّ
بِإِدْرَاكِ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَدَلَّ أَنَّ الْوُقُوفَ بِجُزْءٍ من اللَّيْلِ هو
وَقْتُ الرُّكْنِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من وَقَفَ مَعَنَا
هذا الْمَوْقِفَ وَصَلَّى مَعَنَا هذه الصَّلَاةَ وكان وَقَفَ قبل ذلك بِعَرَفَةَ
سَاعَةً من لَيْلٍ أو نَهَارٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ
أَخْبَرَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عن تَمَامِ الْحَجِّ بِالْوُقُوفِ سَاعَةً
من لَيْلٍ أو نَهَارٍ فَدَلَّ أَنَّ ذلك هو وَقْتُ الْوُقُوفِ غَيْرُ عَيْنٍ
وَرَوَيْنَا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من وَقَفَ بِعَرَفَةَ
فَقَدْ ثم ( ( ( تم ) ) ) حَجُّهُ مُطْلَقًا عن الزَّمَانِ إلَّا أَنَّ زَمَانَ ما
قبل الزَّوَالِ وَبَعْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ من يَوْمِ النَّحْرِ ليس بِمُرَادٍ
بِدَلِيلٍ فَبَقِيَ ما بَعْدَ الزَّوَالِ إلَى انْفِجَارِ الصُّبْحِ مُرَادًا
وَلِأَنَّ هذا نَوْعُ نُسُكٍ فَلَا يَخْتَصُّ بِاللَّيْلِ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْمَنَاسِكِ
وَلَا حُجَّةَ له في الحديث لِأَنَّ فيه من أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ
أَدْرَكَ الْحَجَّ وَلَيْسَ فيه أَنَّ من لم يُدْرِكْهَا بِلَيْلٍ مَاذَا حُكْمُهُ
فَكَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَسْكُوتِ فَلَا يَصِحُّ
وَلَوْ اشْتَبَهَ على الناس هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ فَوَقَفُوا بِعَرَفَةَ بَعْدَ
أَنْ أَكْمَلُوا عِدَّةَ ذِي الْقَعْدَةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ شَهِدَ
الشُّهُودُ أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلَالَ يوم كَذَا وَتَبَيَّنَ أَنَّ ذلك
الْيَوْمَ كان يوم النَّحْرِ فَوُقُوفُهُمْ صَحِيحٌ وَحَجَّتُهُمْ تَامَّةٌ
اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُمْ
وَقَفُوا في غَيْرِ وَقْتِ الْوُقُوفِ فَلَا يَجُوزُ كما لو تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ
وَقَفُوا يوم التَّرْوِيَةِ وَأَيُّ فَرْقٍ بين التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ
وَالِاسْتِحْسَانِ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
صَوْمُكُمْ يوم تَصُومُونَ وَأَضْحَاكُمْ يوم تُضَحُّونَ وَعَرَفَتُكُمْ يوم
تَعْرِفُونَ وَرُوِيَ وَحَجُّكُمْ يوم تَحُجُّونَ
فَقَدْ جَعَلَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَقْتَ الْوُقُوفِ أو الْحَجِّ وَقْتَ
تَقِفُ أو تَحُجُّ فيه الناس وَالْمَعْنَى فيه من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا ما قال
بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ هذه شَهَادَةٌ قَامَتْ على النَّفْيِ وَهِيَ نَفْيُ
جَوَازِ الْحَجِّ وَالشَّهَادَةُ على النَّفْيِ بَاطِلَةٌ
وَالثَّانِي أَنَّ شَهَادَتَهُمْ جَائِزَةٌ مَقْبُولَةٌ لَكِنَّ وُقُوفَهُمْ
جَائِزٌ أَيْضًا لِأَنَّ هذا النَّوْعَ من الِاشْتِبَاهِ مِمَّا يَغْلِبُ وَلَا
يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه فَلَوْ لم نَحْكُمْ بِالْجَوَازِ لَوَقَعَ الناس في
الْحَرَجِ بِخِلَافِ ما إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ ذلك الْيَوْمَ كان يوم التَّرْوِيَةِ
لِأَنَّ ذلك نَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ
وَلِأَنَّهُمْ بهذا التَّأْخِيرِ بنو ( ( ( بنوا ) ) ) على دَلِيلٍ ظَاهِرٍ
وَاجِبٍ الْعَمَلِ بِهِ وهو وُجُوبُ إكْمَالِ الْعِدَّةِ إذَا كان بِالسَّمَاءِ
عِلَّةٌ فَعُذِرُوا في الْخَطَأِ بِخِلَافِ التَّقْدِيمِ فإنه خَطَأٌ غَيْرُ
مَبْنِيٍّ على دَلِيلٍ رَأْسًا فلم يُعْذَرُوا فيه
نَظِيرُهُ إذَا اشْتَبَهَتْ الْقِبْلَةُ فَتَحَرَّى وصلي إلَى جِهَةٍ ثُمَّ
تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ جِهَةَ الْقِبْلَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَلَوْ لم
يَتَحَرَّ وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ لم يَجُزْ لِمَا قُلْنَا
كَذَا هذا
وَهَلْ يَجُوزُ وُقُوفُ الشُّهُودِ
رَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ وُقُوفُهُمْ وَحَجُّهُمْ أَيْضًا وقد
قال مُحَمَّدٌ إذَا شَهِدَ عِنْدَ الْإِمَامِ شَاهِدَانِ عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ
بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَإِنْ كان الْإِمَامُ لم يُمْكِنْهُ الْوُقُوفُ في
بَقِيَّةَ اللَّيْلِ مع الناس أو أَكْثَرِهِمْ لم يَعْمَلْ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ
وَوَقَفَ من الْغَدِ بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ شَهِدُوا عَشِيَّةَ
عَرَفَةَ لَكِنْ لَمَّا تَعَذَّرَ على الْجَمَاعَةِ الْوُقُوفُ في الْوَقْتِ وهو
ما بَقِيَ من اللَّيْلِ صَارُوا كَأَنَّهُمْ شَهِدُوا بَعْدَ الْوَقْتِ فَإِنْ كان
الْإِمَامُ يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ مع الناس أو أَكْثَرِهِمْ
بِأَنْ كان يُدْرِكُ الْوُقُوفَ عَامَّةُ الناس إلَّا أَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ
ضَعَفَةُ الناس جَازَ وُقُوفُهُ فَإِنْ لم يَقِفْ فَاتَ حَجُّهُ لِأَنَّهُ تَرَكَ
الْوُقُوفَ في وَقْتِهِ مع عِلْمِهِ بِهِ وَالْقُدْرَةِ عليه
قال مُحَمَّدٌ فَإِنْ اشْتَبَهَ على الناس فَوَقَفَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ يوم
النَّحْرِ وقد كان من رَأَى الْهِلَالَ وَقَفَ يوم عَرَفَةَ لم يُجْزِهِ وُقُوفُهُ
وكان عليه أَنْ يُعِيدَ الْوُقُوفَ مع الْإِمَامِ لِأَنَّ يوم النَّحْرِ صَارَ يوم
الْحَجِّ في حَقِّ الْجَمَاعَةِ وَوَقْتُ الْوُقُوفِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ
فَلَا يُعْتَدُّ بِمَا فَعَلَهُ بِانْفِرَادِهِ
وَكَذَا إذَا أَخَّرَ الْإِمَامُ الْوُقُوفَ لِمَعْنًى يُسَوَّغُ فيه
الِاجْتِهَادُ لم يَجُزْ وُقُوفُ من وَقَفَ قَبْلَهُ
فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عِنْدَ الْإِمَامِ بِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ فَرَدَّ
شَهَادَتَهُمَا لِأَنَّهُ
____________________
(2/126)
لَا
عِلَّةَ بِالسَّمَاءِ فَوَقَفَ بِشَهَادَتِهِمَا قَوْمٌ قبل الْإِمَامِ لم يَجُزْ
وُقُوفُهُمْ لِأَنَّ الْإِمَامَ أَخَّرَ الْوُقُوفَ بِسَبَبٍ يَجُوزُ الْعَمَلُ
عليه في الشَّرْعِ فَصَارَ كما لو أَخَّرَ بِالِاشْتِبَاهِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا قَدْرُهُ فَنُبَيِّنُ الْقَدْرَ الْمَفْرُوضَ وَالْوَاجِبَ أَمَّا
الْقَدْرُ الْمَفْرُوضُ من الْوُقُوفِ فَهُوَ كَيْنُونَتُهُ بِعَرَفَةَ في سَاعَةٍ
من هذا الْوَقْتِ فَمَتَى حَصَلَ إتْيَانُهَا في سَاعَةٍ من هذا الْوَقْتِ
تَأَدَّى فَرْضُ الْوُقُوفِ سَوَاءٌ كان عَالِمًا بها أو جَاهِلًا نَائِمًا أو
يَقْظَانَ مُفِيقًا أو مُغْمًى عليه وَقَفَ بها أو مَرَّ وهو يَمْشِي أو على
الدَّابَّةِ أو مَحْمُولًا لِأَنَّهُ أتى بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ وهو حُصُولُهُ
كَائِنًا بها وَالْأَصْلُ فيه ما رَوَيْنَا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال من وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَالْمَشْيُ وَالسَّيْرُ
لَا يَخْلُو عن وَقْفَةٍ وَسَوَاءٌ نَوَى الوقوف عند الْوُقُوفَ أو لم يَنْوِ
بِخِلَافِ الطَّوَافِ
وَسَنَذْكُرُ الْفَرْقَ في فَصْلِ الطَّوَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَسَوَاءٌ كان
مُحْدِثًا أو جُنُبًا أو حَائِضًا أو نُفَسَاءَ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ
بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْوُقُوفِ لِأَنَّ حَدِيثَ الْوُقُوفِ مُطْلَقٌ عن شَرْطِ
الطَّهَارَةِ
وَلِمَا روى عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِعَائِشَةَ رضي اللَّهُ
عنها حين حَاضَتْ افْعَلِي ما يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ غير أَنَّكَ لَا تَطُوفِي
بِالْبَيْتِ وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْبَيْتِ فَلَا تُشْتَرَطُ
له الطَّهَارَةُ كَرَمْيِ الْجِمَارِ وَسَوَاءٌ كان قد صلى الصَّلَاتَيْنِ أو لم
يُصَلِّ لِإِطْلَاقِ الحديث وَلِأَنَّ الصَّلَاتَيْنِ وَهُمَا الظُّهْرُ
وَالْعَصْرُ لَا تَعَلُّقَ لَهُمَا بِالْوُقُوفِ فَلَا يَكُونُ تَرْكُهُمَا
مَانِعًا من الْوُقُوفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْقَدْرُ الْوَاجِبُ من الْوُقُوفِ فَمِنْ حِينِ تَزُولُ الشَّمْسُ إلَى
أَنْ تَغْرُبَ فَهَذَا الْقَدْرُ من الْوُقُوفِ وَاجِبٌ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ليس بِوَاجِبٍ بَلْ هو سُنَّةٌ بِنَاءً على أَنَّهُ لَا
فَرْقَ عنده بين الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ فإذا لم يَكُنْ فَرْضًا لم يَكُنْ
وَاجِبًا وَنَحْنُ نُفَرِّقُ بين الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ كَفَرْقِ ما بين
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وهو أَنَّ الْفَرْضَ اسْمٌ لِمَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ
بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَالْوَاجِبَ اسْمٌ لِمَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِدَلِيلٍ
فيه شُبْهَةُ الْعَدَمِ على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَأَصْلُ الْوُقُوفِ
ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وهو النَّصُّ الْمُفَسِّرُ من الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ المشهورة ( ( ( والمشهورة ) ) ) وَالْإِجْمَاعُ على
ما ذَكَرْنَا
فَأَمَّا الْوُقُوفُ إلَى جُزْءٍ من اللَّيْلِ فلم يَقُمْ عليه دَلِيلٌ قَاطِعٌ
بَلْ مع شُبْهَةِ الْعَدَمِ أَعْنِي خَبَرَ الْوَاحِدِ وهو ما روى عن النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ
الْحَجَّ أو غير ذلك من الْآحَادِ التي لَا تَثْبُتُ بِمِثْلِهَا الْفَرَائِضُ
فَضْلًا عن الْأَرْكَانِ
وإذا عُرِفَ أَنَّ الْوُقُوفَ من حِينِ زَوَالِ الشَّمْسِ إلَى غُرُوبِهَا وَاجِبٌ
فَإِنْ دَفَعَ منها قبل غُرُوبِ الشَّمْسِ فَإِنْ جَاوَزَ عَرَفَةَ بَعْدَ
الْغُرُوبِ فَلَا شَيْءَ عليه لِأَنَّهُ ما تَرَكَ الْوَاجِبَ وَإِنْ جَاوَزَهَا
قبل الْغُرُوبِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَنَا لِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ فَيَجِبُ عليه
الدَّمُ كما لو تَرَكَ غَيْرَهُ من الْوَاجِبَاتِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا دَمَ عليه لِأَنَّهُ لم يَتْرُكْ الْوَاجِبَ إذْ
الْوُقُوفُ الْمُقَدَّرُ ليس بِوَاجِبٍ عِنْدَهُ وَلَوْ عَادَ إلَى عَرَفَةَ قبل
غُرُوبِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ الْإِمَامُ ثُمَّ دَفَعَ منها بَعْدَ
الْغُرُوبِ مع الْإِمَامِ سَقَطَ عنه الدَّمُ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ
الْمَتْرُوكَ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ وهو على الإختلاف في مُجَاوَزَةِ
الْمِيقَاتِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَالْكَلَامُ فيه على نَحْوِ الْكَلَامِ في تِلْكَ
الْمَسْأَلَةِ وَسَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ في مَوْضِعِهَا
وَإِنْ عَادَ قبل غُرُوبِ الشَّمْسِ بعدما خَرَجَ الْإِمَامُ من عَرَفَةَ ذَكَرَ
الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ عنه الدَّمُ أَيْضًا وَكَذَا رَوَى ابن شُجَاعٍ عن
أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّمَ يَسْقُطُ عنه أَيْضًا لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ
الْمَتْرُوكَ إذْ الْمَتْرُوكُ هو الدَّفْعُ بَعْدَ الْغُرُوبِ وقد اسْتَدْرَكَهُ
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عنه الدَّمُ قال مَشَايِخُنَا
اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ لِمَكَانِ الِاخْتِلَافِ فِيمَا لِأَجْلِهِ يَجِبُ
الدَّمُ فَعَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ الدَّمُ يَجِبُ لِأَجْلِ دَفْعِهِ قبل
الْإِمَامِ ولم يَسْتَدْرِكْ ذلك وَعَلَى رِوَايَةِ ابْنِ شُجَاعٍ يَجِبُ لِأَجْلِ
دَفْعِهِ قبل غُرُوبِ الشَّمْسِ وقد اسْتَدْرَكَهُ بِالْعَوْدِ
وَالْقُدُورِيُّ اعْتَمَدَ على هذه الرِّوَايَةِ وقال هِيَ الصَّحِيحَةُ
وَالْمَذْكُورُ في الْأَصْلِ مُضْطَرِبٌ وَلَوْ عَادَ إلَى عَرَفَةَ بَعْدَ
الْغُرُوبِ لَا يَسْقُطُ عنه الدَّمُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ لَمَّا غَرَبَتْ
الشَّمْسُ عليه قبل الْعَوْدِ فَقَدْ تَقَرَّرَ عليه الدَّمُ الْوَاجِبُ فَلَا
يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالْعَوْدِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ فَحُكْمُهُ أَنَّهُ يَفُوتُ الْحَجُّ في
تِلْكَ السَّنَةِ وَلَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ فيها لِأَنَّ رُكْنَ الشَّيْءِ
ذَاتُهُ وَبَقَاءَ الشَّيْءِ مع فَوَاتِ ذَاتِهِ مُحَالٌ
فَصْلٌ وَأَمَّا طَوَافُ الزِّيَارَةِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ
أَنَّهُ رُكْنٌ وفي بَيَانِ رُكْنِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِهِ وَوَاجِبَاتِهِ
وَسُنَنِهِ وفي بَيَانِ مَكَانِهِ وفي بَيَانِ زَمَانِهِ وفي بَيَانِ مِقْدَارِهِ
وفي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ عن أَيَّامِ النَّحْرِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ رُكْنٌ قَوْله تَعَالَى {
وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وَالْمُرَادُ منه طَوَافُ الزِّيَارَةِ
بِالْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْكُلَّ بِالطَّوَافِ فَيَقْتَضِي
الْوُجُوبَ على الْكُلِّ وَطَوَافُ اللِّقَاءِ لَا يَجِبُ أَصْلًا وَطَوَافُ
الصَّدْرِ لَا يَجِبُ على الْكُلِّ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ على أَهْلِ مَكَّةَ
فَيَتَعَيَّنُ طَوَافُ الزِّيَارَةِ مُرَادًا بِالْآيَةِ وقَوْله تَعَالَى {
وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ الْبَيْتِ } وَالْحَجُّ في اللُّغَةِ هو
____________________
(2/127)
الْقَصْدُ
وفي عُرْفِ الشَّرْعِ هوزيارة الْبَيْتِ وَالزِّيَارَةُ هِيَ الْقَصْدُ إلَى
الشَّيْءِ لِلتَّقَرُّبِ قال الشَّاعِرُ أَلَمْ تَعْلَمِي يا أُمَّ سَعْدٍ
بِأَنَّمَا تخاطاني رَيْبُ الزَّمَانِ لِأَكْثُرَا وَأَشْهَدُ من عَوْفٍ حُلُولًا
كَثِيرَةً يَحُجُّونَ بَيْتَ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا وَقَوْلُهُ يَحُجُّونَ
أَيْ يَقْصِدُونَ ذلك الْبَيْتَ لِلتَّقَرُّبِ فَكَانَ حَجُّ الْبَيْتِ هو
الْقَصْدَ إلَيْهِ لِلتَّقَرُّبِ بِهِ وَإِنَّمَا يُقْصَدُ الْبَيْتُ
لِلتَّقَرُّبِ بِالطَّوَافِ بِهِ فَكَانَ الطَّوَافُ بِهِ رُكْنًا وَالْمُرَادُ
بِهِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ لِمَا بَيَّنَّا وَلِهَذَا يُسَمَّى في عُرْفِ
الشَّرْعِ طَوَافَ الرُّكْنِ فَكَانَ رُكْنًا وَكَذَا الْأُمَّةُ أَجْمَعَتْ على
كَوْنِهِ رُكْنًا وَيَجِبُ على أَهْلِ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِمْ لِعُمُومِ قَوْله
تَعَالَى { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وَقَوْلُهُ عز وجل {
وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ الْبَيْتِ }
فَصْلٌ وَأَمَّا رُكْنُهُ فَحُصُولُهُ كَائِنًا حَوْلَ الْبَيْتِ سَوَاءٌ كان
بِفِعْلِ نَفْسِهِ أو بِفِعْلِ غَيْرِهِ وسوا ( ( ( وسواء ) ) ) ءكان عَاجِزًا عن
الطَّوَافِ بِنَفْسِهِ فَطَافَ بِهِ غَيْرُهُ بِأَمْرِهِ أو بِغَيْرِ أَمْرِهِ أو
كان قَادِرًا على الطَّوَافِ بِنَفْسِهِ فَحَمَلَهُ غَيْرُهُ بِأَمْرِهِ أو بِغَيْرِ
أَمْرِهِ غير أَنَّهُ إنْ كان عَاجِزًا أَجْزَأَهُ وَلَا شَيْءَ عليه وَإِنْ كان
قَادِرًا أَجْزَأَهُ وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّ
الْفَرْضَ حُصُولُهُ كَائِنًا حَوْلَ الْبَيْتِ وقد حَصَلَ وَأَمَّا لُزُومُ
الدَّمِ فتلركه ( ( ( فلتركه ) ) ) الْوَاجِبَ وهو المشي ( ( ( الشيء ) ) )
بِنَفْسِهِ مع الْقُدْرَةِ عليه فَدَخَلَهُ نَقْصٌ فَيَجِبُ جَبْرُهُ بِالدَّمِ
كما إذَا طَافَ رَاكِبًا أو زَحْفًا وهو قَادِرٌ على المشيء ( ( ( المشي ) ) )
وإذا كان عَاجِزًا عن الْمَشْيِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لم يَتْرُكْ
الْوَاجِبَ إذْ لَا وُجُوبَ مع الْعَجْزِ
وَيَجُوزُ ذلك عن الْحَامِلِ وَالْمَحْمُولِ جميعا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ
الْفَرْضَ حُصُولُهُ كَائِنًا حَوْلَ الْبَيْتِ وقد حَصَلَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا كَائِنًا حَوْلَ الْبَيْتِ غير أَنَّ أَحَدَهُمَا حَصَلَ كَائِنًا
بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَالْآخَرُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ
فَإِنْ قِيلَ إنَّ مشى الْحَامِلِ فِعْلٌ وَالْفِعْلُ والواحد ( ( ( الواحد ) ) )
كَيْفَ يَقَعُ عن شَخْصَيْنِ
فَالْجَوَابُ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَفْرُوضَ ليس هو الْفِعْلَ في
الْبَابِ بَلْ حُصُولُ الشَّخْصِ حَوْلَ الْبَيْتِ بِمَنْزِلَةِ الْوُقُوفِ
بِعَرَفَةَ أَنَّ الْمَفْرُوضَ منه حُصُولُهُ كَائِنًا بِعَرَفَةَ لَا فِعْلُ
الْوُقُوفِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَالثَّانِي أَنَّ مَشْيَ الْوَاحِدِ جَازَ أَنْ يَقَعَ عن اثْنَيْنِ في بَابِ
الْحَجِّ كَالْبَعِيرِ الْوَاحِدِ إذَا رَكِبَهُ اثْنَانِ فَطَافَا عليه وَكَذَا
يَجُوزُ في الشَّرْعِ أَنْ يُجْعَلَ فِعْلٌ وَاحِدٌ حَقِيقَةً كَفِعْلَيْنِ
مَعْنًى كَالْأَبِ والوصي ( ( ( الوصي ) ) ) إذَا بَاعَ مَالَ نَفْسِهِ من
الصَّغِيرِ أو اشْتَرَى مَالَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ وَنَحْوِ ذلك كَذَا هَهُنَا
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرْطُهُ وَوَاجِبَاتُهُ فَشَرْطُهُ النِّيَّةُ وهو أَصْلُ
النِّيَّةِ دُونَ التَّعْيِينِ حتى لو لم يَنْوِ أَصْلًا بِأَنْ طَافَ هَارِبًا من
سَبُعٍ أو طَالِبًا لِغَرِيمٍ لم يَجُزْ فَرَّقَ أَصْحَابُنَا بين الطَّوَافِ
وَبَيْنَ الْوُقُوفِ أَنَّ الْوُقُوفَ يَصِحُّ من غَيْرِ نِيَّةِ الْوُقُوفِ
عِنْدَ الْوُقُوفِ وَالطَّوَافَ لَا يَصِحُّ من غَيْرِ نِيَّةِ الطَّوَافِ عِنْدَ
الطَّوَافِ كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيُّ
وَأَشَارَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ إلَى أَنَّ نِيَّةَ
الطَّوَافِ عِنْدَ الطَّوَافِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ أَصْلًا وإن نِيَّةَ الْحَجِّ
عِنْدَ الْإِحْرَامِ كَافِيَةٌ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ مُفْرَدَةٍ كما في
سَائِرِ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَكَمَا في أَفْعَالِ الصَّلَاةِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ على ما ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الْوُقُوفَ رُكْنٌ يَقَعُ
في حَالِ قِيَامِ نَفْسِ الْإِحْرَامِ لِانْعِدَامِ ما يُضَادُّهُ فَلَا يَحْتَاجُ
إلَى نِيَّةٍ مُفْرَدَةٍ بَلْ تَكْفِيهِ النِّيَّةُ السَّابِقَةُ وَهِيَ نِيَّةُ
الْحَجِّ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ في بَابِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ
إلَى إفْرَادِهِمَا بِالنِّيَّةِ لِاشْتِمَالِ نِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمَا
كَذَا الْوُقُوفُ
فَأَمَّا الطَّوَافُ فَلَا يُؤْتَى بِهِ في حَالِ قِيَامِ نَفْسِ الْإِحْرَامِ
لِوُجُودِ ما يُضَادُّهُ لِأَنَّهُ تَحْلِيلٌ لِأَنَّهُ يَقَعُ بِهِ التَّحْلِيلُ
وَلَا إحْرَامَ حَالَ وُجُودِ التَّحْلِيلِ لِأَنَّ الشَّيْءَ حَالَ وُجُودِهِ
مَوْجُودٌ وَوُجُودُهُ يَمْنَعُ الْإِحْرَامَ من الْوُجُودِ فَلَا تَشْتَمِلُ عليه
نِيَّةُ الْحَجِّ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْإِفْرَادِ بِالنِّيَّةِ
كَالتَّسْلِيمِ في بَابِ الصَّلَاةِ إذْ التَّسْلِيمُ تَحْلِيلٌ أو نَقُولُ أن
الْوُقُوفَ يُوجَدُ في حَالِ قِيَامِ الْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ لِبَقَائِهِ في
حَقِّ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَيَتَنَاوَلُهُ نِيَّةُ الْحَجِّ فَلَا يَحْتَاجُ
إلَى نِيَّةٍ على حِدَةٍ وَلَا كَذَلِكَ الطَّوَافُ فإنه يُوجَدُ حَالَ زَوَالِ
الْإِحْرَامِ من وَجْهٍ لِوُقُوعِ التَّحَلُّلِ قَبْلَهُ من وَجْهٍ بِالْحَلْقِ أو
التَّقْصِيرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحِلُّ له كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ
فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى نِيَّةٍ على حِدَةٍ
فَأَمَّا تَعْيِينُ النِّيَّةِ حَالَ وُجُودِهِ في وَقْتِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ
حتى لو نَفَرَ في النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَطَافَ وهو لَا يُعَيِّنُ طَوَافًا يَقَعُ
عن طَوَافِ الزِّيَارَةِ لَا عن الصَّدْرِ لِأَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ
مُتَعَيِّنَةٌ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ
____________________
(2/128)
فَلَا
حَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ كما لو صَامَ رَمَضَانَ بِمُطْلِقٍ النية ( ( (
لنية ) ) ) أَنَّهُ يَقَعُ عن رَمَضَانَ لِكَوْنِ الْوَقْتِ مُتَعَيَّنًا لِصَوْمِهِ
كَذَا هذا
وَكَذَا لو نَوَى تَطَوُّعًا يَقَعُ عن طَوَافِ الزِّيَارَةِ كما لو صَامَ
رَمَضَانَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ وَكَذَلِكَ كُلُّ طَوَافٍ وَاجِبٍ أو سُنَّةٍ
يَقَعُ في وَقْتِهِ من طَوَافِ اللِّقَاءِ وَطَوَافِ الصَّدْرِ فَإِنَّمَا يَقَعُ
عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْوَقْتُ وهو الذي انْعَقَدَ عليه الْإِحْرَامُ دُونَ
غَيْرِهِ سَوَاءٌ عَيَّنَ ذلك بِالنِّيَّةِ أو لم يُعَيِّنْ فَيَقَعُ عن
الْأَوَّلِ وَإِنْ نَوَى الثَّانِيَ لَا يُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ في تَقْدِيمِهِ على
الْأَوَّلِ حتى إنَّ الْمُحْرِمَ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ وَطَافَ لَا يُعَيِّنُ شيأ
أو نَوَى التَّطَوُّعَ فَإِنْ كان مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ يَقَعُ طَوَافُهُ
لِلْعُمْرَةِ وَإِنْ كان مُحْرِمًا بِحَجَّةٍ يَقَعُ طَوَافُهُ لِلْقُدُومِ
لِأَنَّ عَقْدَ الْإِحْرَامِ انْعَقَدَ عليه وَكَذَلِكَ الْقَارِنُ إذَا طَافَ لَا
يُعَيِّنُ شيأ أو نَوَى التَّطَوُّعَ كان ذلك لِلْعُمْرَةِ فَإِنْ طَافَ طَوَافًا
آخَرَ قبل أَنْ يَسْعَى لَا يُعَيِّنُ شيأ أو نَوَى تَطَوُّعًا كان ذلك لِلْحَجِّ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَأَمَّا الطَّهَارَةُ عن الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ
فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الطَّوَافِ وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ عِنْدنَا بَلْ
وَاجِبَةٌ حتى يَجُوزَ الطَّوَافُ بِدُونِهَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ لَا
يَصِحُّ الطَّوَافُ بِدُونِهَا وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم أَنَّهُ قال الطَّوَافُ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ فيه
الْكَلَامَ وإذا كان صَلَاةً فَالصَّلَاةُ لَا جَوَازَ لها بِدُونِ الطَّهَارَةِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } أَمَرَ
بِالطَّوَافِ مُطْلَقًا عن شَرْطِ الطَّهَارَةِ وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ
الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَيُحْمَلُ على التَّشْبِيهِ كما في قَوْله
تَعَالَى { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } أَيْ كَأُمَّهَاتِهِمْ وَمَعْنَاهُ
الطَّوَافُ كَالصَّلَاةِ إمَّا في الثَّوَابِ أو في أَصْلِ الْفَرْضِيَّةِ في
طَوَافِ الزِّيَارَةِ لِأَنَّ كَلَامَ التَّشْبِيهِ لَا عُمُومَ له فَيُحْمَلُ على
الْمُشَابَهَةِ في بَعْضِ الْوُجُوهِ عَمَلًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أو
نَقُولُ الطَّوَافُ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ وَلَيْسَ بِصَلَاةٍ حَقِيقَةٍ فَمِنْ
حَيْثُ أنه ليس بِصَلَاةٍ حَقِيقَةٍ لَا تُفْتَرَضُ له الطَّهَارَةُ وَمِنْ حَيْثُ
أنه يُشْبِهُ الصَّلَاةَ تَجِبُ له الطَّهَارَةُ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ
بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ
وَإِنْ كانت الطَّهَارَةُ من وَاجِبَاتِ الطَّوَافِ فإذا طَافَ من غَيْرِ
طَهَارَةٍ فما دَامَ بِمَكَّةَ تَجِبُ عليه الْإِعَادَةُ لِأَنَّ الْإِعَادَةَ
جَبْرٌ له بِجِنْسِهِ وَجَبْرُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ أَوْلَى لِأَنَّ مَعْنَى
الْجَبْرِ وهو التَّلَافِي فيه أَتَمُّ ثُمَّ إنْ أَعَادَ في أَيَّامِ النَّحْرِ
فَلَا شَيْءَ عليه وَإِنْ أَخَّرَهُ عنها فَعَلَيْهِ دَمٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في مَوْضِعِهَا
وَإِنْ لم يَعُدْ وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ الدَّمُ غير أَنَّهُ إنْ كان
مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ وَإِنْ كان جُنُبًا فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ لِأَنَّ
الْحَدَثَ يُوجِبُ نُقْصَانًا يَسِيرًا فَتَكْفِيهِ الشَّاةُ لِجَبْرِهِ كما لو
تَرَكَ شَوْطًا فَأَمَّا الْجَنَابَةُ فَإِنَّهَا تُوجِبُ نُقْصَانًا مُتَفَاحِشًا
لِأَنَّهَا أَكْبَرُ الْحَدَثَيْنِ فَيَجِبُ لها أَعْظَمُ الْجَابِرَيْنِ
وقد رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال الْبَدَنَةُ تَجِبُ في
الْحَجِّ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا إذَا طَافَ جُنُبًا
وَالثَّانِي إذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ
وإذا لم تَكُنْ الطَّهَارَةُ من شَرَائِطِ الْجَوَازِ فإذا طَافَ وهو مُحْدِثٌ أو
جُنُبٌ وَقَعَ مَوْقِعَهُ حتى لو جَامَعَ بَعْدَهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّ
الْوَطْءَ لم يُصَادِفْ الْإِحْرَامَ لِحُصُولِ التَّحَلُّلِ بِالطَّوَافِ
هذا إذَا طَافَ بَعْدَ أَنْ حَلَقَ أو قَصَّرَ ثُمَّ جَامَعَ فَأَمَّا إذَا طَافَ
ولم يَكُنْ حَلَقَ وَلَا قَصَّرَ ثُمَّ جَامَعَ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّهُ إذَا لم
يَحْلِقْ ولم يُقَصِّرْ فَالْإِحْرَامُ بَاقٍ وَالْوَطْءُ إذَا صَادَفَ
الْإِحْرَامَ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ إلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الشَّاةُ لَا
الْبَدَنَةُ لِأَنَّ الرُّكْنَ صَارَ مُؤَدًّى فَارْتَفَعَتْ الْحُرْمَةُ
الْمُطْلَقَةُ فلم يَبْقَ الْوَطْءُ جَنَابَةً مَحْضَةً بَلْ خَفَّ مَعْنَى
الْجَنَابَةِ فيه فَيَكْفِيهِ أَخَفُّ الْجَابِرَيْنِ
فَأَمَّا الطَّهَارَةُ عن النَّجَسِ فَلَيْسَتْ من شَرَائِطِ الْجَوَازِ
بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يُفْتَرَضُ تَحْصِيلُهَا وَلَا تَجِبُ أَيْضًا لَكِنَّهُ
سُنَّةٌ حتى لو طَافَ وَعَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ أَكْثَرُ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ
جَازَ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ وَأَمَّا سَتْرُ
الْعَوْرَةِ فَهُوَ مِثْلُ الطَّهَارَةِ عن الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ أَيْ أنه ليس
بِشَرْطِ الْجَوَازِ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ لَكِنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا حتى لو طَافَ
عُرْيَانًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ما دَامَ بِمَكَّةَ فَإِنْ رَجَعَ إلَى
أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ الدَّمُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطُ الْجَوَازِ
كَالطَّهَارَةِ عن الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ وَحُجَّتُهُ ما رَوَيْنَا عن النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال الطَّوَافُ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ
أَبَاحَ فيه الْكَلَامَ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ من شَرَائِطِ جَوَازِ الصَّلَاةِ
وَحُجَّتُنَا قَوْله تَعَالَى { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } أَمَرَ
بِالطَّوَافِ مُطْلَقًا عن شَرْطِ السَّتْرِ فيجري على إطْلَاقِهِ وَالْجَوَابُ عن
تَعَلُّقِهِ بِالْحَدِيثِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في الطَّهَارَةِ وَالْفَرْقُ
بين سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَبَيْنَ الطَّهَارَةِ عن النَّجَاسَةِ أَنَّ الْمَنْعَ من
الطَّوَافِ مع الثَّوْبِ النَّجِسِ ليس لِأَجْلِ الطَّوَافِ بَلْ لِأَجْلِ
الْمَسْجِدِ وهو صِيَانَتُهُ عن إدْخَالِ النَّجَاسَةِ فيه وَصِيَانَتُهُ عن
تَلْوِيثِهِ فَلَا يُوجِبُ ذلك نُقْصَانًا في الطَّوَافِ فَلَا حَاجَةَ إلَى
الْجَبْرِ فَأَمَّا الْمَنْعُ من الطَّوَافِ عُرْيَانًا فَلِأَجْلِ الطَّوَافِ لِنَهْيِ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عن الطَّوَافِ عُرْيَانًا بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَلَا لَا يَطُوفَنَّ بَعْدَ
____________________
(2/129)
عَامِي
هذا مُشْرِكٌ وَلَا عُرْيَانٌ وإذا كان النَّهْيُ لِمَكَانِ الطَّوَافِ تَمَكَّنَ
فيه النَّقْصُ فَيَجِبُ جَبْرُهُ بِالدَّمِ لَكِنْ بِالشَّاةِ لَا بِالْبَدَنَةِ
لِأَنَّ النَّقْصَ فيه كَالنَّقْصِ بِالْحَدَثِ لَا كَالنَّقْصِ بِالْجَنَابَةِ
قال مُحَمَّدٌ وَمَنْ طَافَ تَطَوُّعًا على شَيْءٍ من هذه الْوُجُوهِ فَأَحَبُّ
إلَيْنَا إنْ كان بِمَكَّةَ أَنْ يُعِيدَ الطَّوَافَ وَإِنْ كان قد رَجَعَ إلَى
أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ سِوَى الذي طَافَ وَعَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ
لِأَنَّ التَّطَوُّعَ يَصِيرُ وَاجِبًا بِالشُّرُوعِ فيه إلَّا أَنَّهُ دُونَ
الْوَاجِبِ ابْتِدَاءً بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ النَّقْصُ فيه أَقَلَّ
فَيُجْبَرُ بِالصَّدَقَةِ
وَمُحَاذَاةُ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ في الطَّوَافِ لَا تُفْسِدُ عليه طَوَافَهُ
لِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ إنَّمَا عُرِفَتْ مُفْسِدَةً في الشَّرْعِ على خِلَافِ
الْقِيَاسِ في صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ مُشْتَرَكَةٍ وَالطَّوَافُ ليس بِصَلَاةٍ
حَقِيقَةً وَلَا اشْتِرَاكَ أَيْضًا وَالْمُوَالَاةُ في الطَّوَافِ لَيْسَتْ
بِشَرْطٍ حتى لو خَرَجَ الطَّائِفُ من طَوَافِهِ لِصَلَاةِ جِنَازَةٍ أو
مَكْتُوبَةٍ أو لِتَجْدِيدِ وُضُوءٍ ثُمَّ عَادَ بني على طَوَافِهِ وَلَا
يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ } مُطْلَقًا عن شَرْطِ الْمُوَالَاةِ وَرُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ خَرَجَ من الطَّوَافِ وَدَخَلَ السِّقَايَةَ
فَاسْتَسْقَى فسقي فَشَرِبَ ثُمَّ عَادَ وَبَنَى على طَوَافِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ
وَمِنْ وَاجِبَاتِ الطَّوَافِ أَنْ يَطُوفَ مَاشِيًا لَا رَاكِبًا إلَّا من عُذْرٍ
حتى لو طَافَ رَاكِبًا من غَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ما دَامَ
بِمَكَّةَ وَإِنْ عَادَ إلَى أَهْلِهِ يَلْزَمُهُ الدَّمُ وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ليس بِوَاجِبٍ فإذا طَافَ رَاكِبًا من غَيْرِ عُذْرٍ لَا
شَيْءَ عليه وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ طَافَ رَاكِبًا
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ }
وَالرَّاكِبُ ليس بِطَائِفٍ حَقِيقَةً فَأَوْجَبَ ذلك نَقْصًا فيه فَوَجَبَ
جَبْرُهُ بِالدَّمِ
وَأَمَّا فِعْلُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ذلك كان
لِعُذْرٍ كَذَا روى عن عَطَاءٍ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ ذلك كان
بعدما أَسَنَّ وَبَدَنَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذلك لِعُذْرٍ آخَرَ وهو
التَّعْلِيمُ كَذَا روى عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم طَافَ رَاكِبًا لِيَرَاهُ الناس فَيَسْأَلُوهُ وَيَتَعَلَّمُوا منه وَهَذَا
عُذْرٌ
وَعَلَى هذا أَيْضًا يَخْرُجَ ما إذَا طَافَ زَحْفًا أَنَّهُ إنْ كان عَاجِزًا عن
الْمَشْيِ أَجْزَأَهُ وَلَا شَيْءَ عليه لِأَنَّ التلكيف ( ( ( التكليف ) ) )
بِقَدْرِ الْوُسْعِ وَإِنْ كان قَادِرًا عليه الْإِعَادَةُ إنْ كان بِمَكَّةَ
وَالدَّمُ إنْ كان رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ لِأَنَّ الطَّوَافَ مَشْيًا وَاجِبٌ عليه
وَلَوْ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ زَحْفًا وهو قَادِرٌ على
المشيء ( ( ( المشي ) ) ) عليه أَنْ يَطُوفَ مَاشِيًا لِأَنَّهُ نَذَرَ إيقَاعَ
الْعِبَادَةِ على وَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ فَلَغَتْ الْجِهَةُ وَبَقِيَ النَّذْرُ
بِأَصْلِ الْعِبَادَةِ كما إذَا نَذَرَ أَنْ يَطُوفَ لِلْحَجِّ على غَيْرِ
طَهَارَةٍ فَإِنْ طَافَ زَحْفًا أَعَادَ إنْ كان بِمَكَّةَ وَإِنْ رَجَعَ إلَى
أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا طَافَ
زَحْفًا أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ أَدَّى ما أَوْجَبَ على نَفْسِهِ فَيُجْزِئُهُ
كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ في الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ أو
يَصُومَ يوم النَّحْرِ أَنَّهُ يَجِبُ عليه أَنْ يُصَلِّيَ في مَوْضِعٍ آخَرَ وَيَصُومَ
يَوْمًا آخَرَ وَلَوْ صلى في الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَصَامَ يوم النَّحْرِ
أَجْزَأَهُ وَخَرَجَ عن عُهْدَةِ النَّذْرِ كَذَا هذا
وَعَلَى هذا أَيْضًا يَخْرُجُ ما إذَا طَافَ مَحْمُولًا أَنَّهُ إنْ كان لِعُذْرٍ
جَازَ وَلَا شَيْءَ عليه وَإِنْ كان لِغَيْرِ عُذْرٍ جَازَ وَيَلْزَمُهُ الدَّمُ
لِأَنَّ الطَّوَافَ مَاشِيًا وَاجِبٌ عِنْدَ الْقُدْرَةِ على الْمَشْيِ وَتَرْكُ
الْوَاجِبِ من غَيْرِ عُذْرٍ يُوجِبُ الدَّمَ
فَأَمَّا الإبتداء من الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ من شَرَائِطِ
جَوَازِهِ بَلْ هو سُنَّةٌ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حتى لو افْتَتَحَ من غَيْرِ
عُذْرٍ أَجْزَأَهُ مع الْكَرَاهَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } مُطْلَقًا عن شَرْطِ الِابْتِدَاءِ بِالْحَجَرِ
الْأَسْوَدِ إلَّا أَنَّهُ لو لم يَبْدَأْ يُكْرَهُ لِأَنَّهُ تَرَكَ السُّنَّةَ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في الرُّقَيَّاتِ إذَا افْتَتَحَ الطَّوَافَ
من غَيْرِ الْحَجَرِ لم يُعْتَدَّ بِذَلِكَ الشَّوْطِ إلَّا أَنْ يَصِيرَ إلَى
الْحَجَرِ فَيَبْدَأَ منه الطَّوَافَ فَهَذَا يَدُلَّ على أَنَّ الإفتتاح منه شَرْطُ
الْجَوَازِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الِافْتِتَاحَ من
الْحَجَرِ إمَّا على وَجْهِ السُّنَّةِ أو الْفَرْضِ
ما رُوِيَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا انْتَهَى في الْبِنَاءِ
إلَى مَكَانِ الْحَجَرِ قال لِإِسْمَاعِيلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ائْتِنِي
بِحَجَرٍ أَجْعَلْهُ عَلَامَةً لِابْتِدَاءِ الطَّوَافِ فَخَرَجَ وَجَاءَ بِحَجَرٍ
فقال ائْتِنِي بِغَيْرِهِ فَأَتَاهُ بِحَجَرٍ آخَرَ فقال ائْتِنِي بِغَيْرِهِ
فَأَتَاهُ بِثَالِثٍ فَأَلْقَاهُ وقال جَاءَنِي بِحَجَرٍ من أَغْنَانِي عن
حَجَرِكَ فَرَأَى الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ في مَوْضِعِهِ
وَأَمَّا الإبتداء من يَمِينِ الْحَجَرِ لَا من يَسَارِهِ فَلَيْسَ من شَرَائِطِ
الْجَوَازِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا حتى يَجُوزَ الطَّوَافُ مَنْكُوسًا
بِأَنْ افْتَتَحَ الطَّوَافَ عن يَسَارِ الْحَجَرِ وَيُعْتَدُّ بِهِ وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ هو من شَرَائِطِ الْجَوَازِ لَا يَجُوزُ بِدُونِهِ وَاحْتَجَّ بِمَا
روى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم افْتَتَحَ الطَّوَافَ من يَمِينِ
الْحَجَرِ لَا من يَسَارِهِ وَذَلِكَ تَعْلِيمٌ منه صلى اللَّهُ عليه وسلم
مَنَاسِكَ الْحَجِّ وقد قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خُذُوا عَنِّي
مَنَاسِكَكُمْ فَتَجِبُ الْبِدَايَةُ بِمَا بَدَأَ بِهِ النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } مُطْلَقًا
من غَيْرِ شَرْطِ الْبِدَايَةِ
____________________
(2/130)
بِالْيَمِينِ
أو بِالْيَسَارِ وَفِعْلُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مَحْمُولٌ على
الْوُجُوبِ وَبِهِ نَقُولُ إنَّهُ وَاجِبٌ كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْقَاضِي في
شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ تَجِبُ عليه الْإِعَادَةُ ما دَامَ
بِمَكَّةَ وَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ يَجِبُ عليه الدَّمُ وَكَذَا ذَكَرَ في
الْأَصْلِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ وقد قَادِرٌ على اسْتِدْرَاكِهِ
بِجِنْسِهِ فَيَجِبُ عليه ذلك تَلَافِيًا لِلتَّقْصِيرِ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ
وإذا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَقَدْ عَجَزَ عن اسْتِدْرَاكِهِ الْفَائِتَ بِجِنْسِهِ
فَيَسْتَدْرِكُهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ جَبْرًا لِلْفَائِتِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ
على ما هو الْأَصْلُ في ضَمَانِ الْفَوَائِتِ في الشَّرْعِ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ ما يَدُلُّ على
أَنَّهُ سُنَّةٌ فإنه قال أَجْزَأَهُ الطَّوَافُ وَيُكْرَهُ وَهَذَا أَمَارَةُ
السُّنَّةِ
وَأَمَّا سُنَنُهُ فَنَذْكُرُهَا عِنْدَ بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ
وَلَا رَمَلَ في هذا الطَّوَافِ إذَا كان الطَّوَافُ طَوَافَ اللِّقَاءِ وَسَعَى
عَقِيبَهُ وَإِنْ كان لم يَطُفْ طَوَافَ اللِّقَاءِ أو كان قد طَافَ لَكِنَّهُ لم
يَسْعَ عَقِيبَهُ فإنه يَرْمُلُ في طَوَافِ الزِّيَارَةِ
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الرَّمَلَ سُنَّةُ طَوَافٍ عَقِيبَهُ سعى وَكُلُّ طَوَافٍ
يَكُونُ بَعْدَهُ سَعْيٌ يَكُونُ فيه رَمَلٌ وَإِلَّا فَلَا لِمَا نَذْكُرُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ عِنْدَ بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ وَالتَّرْتِيبِ بين أَفْعَالِهِ
وَيُكْرَهُ إنْشَادُ الشَّعْرِ وَالتَّحَدُّثُ في الطَّوَافِ لِمَا رُوِيَ عن
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ
فَأَقِلُّوا فيه الْكَلَامَ وَرُوِيَ أَنَّهُ قال صلى اللَّهُ عليه وسلم فَمَنْ
نَطَقَ فيه فَلَا يَنْطِقُ إلَّا بِخَيْرٍ وَلِأَنَّ ذلك يَشْغَلُهُ عن الدُّعَاءِ
وَيُكْرَهُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّهُ يَتَأَذَّى بِهِ غَيْرُهُ
لِمَا يَشْغَلُهُ ذلك عن الدُّعَاءِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ في
نَفْسِهِ
وقال مَالِكٌ يُكْرَهُ وأنه غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ
مَنْدُوبٌ إلَيْهَا في جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا في حَالِ الْجَنَابَةِ
وَالْحَيْضِ ولم يُوجَدْ وَمِنْ الْمَشَايِخِ من قال التَّسْبِيحُ أَوْلَى لِأَنَّ
مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ لَفْظَةَ لَا بَأْسَ وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ
إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ في الرُّخَصِ
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَطُوفَ وَعَلَيْهِ خُفَّاهُ أو نَعْلَاهُ إذَا كَانَا
طَاهِرَتَيْنِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ طَافَ مع
نَعْلَيْهِ وَلِأَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ مع الْخُفَّيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ مع
أَنَّ حُكْمَ الصَّلَاةِ أَضْيَقُ فَلَأَنْ يَجُوزَ الطَّوَافُ أَوْلَى
وَلَا يَرْمُلُ في هذا الطَّوَافِ إذَا كان طَافَ طَوَافَ اللِّقَاءِ وَسَعَى
عَقِيبَهُ وَإِنْ كان لم يَطُفْ طَوَافَ اللِّقَاءِ أو كان قد طَافَ لكن ( ( (
لكنه ) ) ) لم يَسْعَ عَقِيبَهُ فإنه يَرْمُلُ في طَوَافِ الزِّيَارَةِ
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الرَّمَلَ سُنَّةُ طَوَافٍ عَقِيبَهُ سعى فَكُلُّ طَوَافٍ
بَعْدَ سَعْيٍ يَكُونُ فيه رَمَلٌ وَإِلَّا فَلَا لِمَا نَذْكُرُ عِنْدَ بَيَانِ
سُنَنِ الْحَجِّ وَالتَّرْتِيبِ في أَفْعَالِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا سُنَنُهُ فَنَذْكُرُهَا عِنْدَ بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ
اللَّهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا مَكَانُ الطَّوَافِ فَمَكَانُهُ حَوْلَ الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ
هو الطَّوَافُ حَوْلَهُ فَيَجُوزُ الطَّوَافُ في الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَرِيبًا
من الْبَيْتِ أو بَعِيدًا عنه بَعْدَ أَنْ يَكُونَ في الْمَسْجِدِ حتى لو طَافَ من
وَرَاءِ زَمْزَمَ قَرِيبًا من حَائِطِ الْمَسْجِدِ أَجْزَأَهُ لِوُجُودِ
الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لِحُصُولِهِ حَوْلَ الْبَيْتِ وَلَوْ طَافَ حَوْلَ
الْمَسْجِدِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ حِيطَانُ الْمَسْجِدِ لم يَجُزْ
لِأَنَّ حِيطَانَ الْمَسْجِدِ حَاجِزَةٌ فلم يَطُفْ بِالْبَيْتِ لِعَدَمِ
الطَّوَافِ حَوْلَهُ بَلْ طَافَ بِالْمَسْجِدِ لِوُجُودِ الطَّوَافِ حَوْلَهُ لَا
حَوْلَ الْبَيْتِ وَلِأَنَّهُ لو جَازَ الطَّوَافُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ مع
حَيْلُولَةِ حِيطَانِ الْمَسْجِدِ لَجَازَ حَوْلَ مَكَّةَ وَالْحَرَمِ وَذَا لَا
يَجُوزُ كَذَا هذا
وَيَطُوفُ من خَارِجِ الْحَطِيمِ لِأَنَّ الْحَطِيمَ من الْبَيْتِ على لِسَانِ
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فإنه روى عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال لها إنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ
فَقَصَرُوا الْبَيْتَ عن قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَإِنَّ الْحَطِيمَ من الْبَيْتِ وَلَوْلَا حَدَثَانُ عَهْدِهِمْ
بِالْجَاهِلِيَّةِ لَرَدَدْتُهُ إلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ وَلَجَعَلْتُ له
بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا
وروى أَنَّ رَجُلًا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ في الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ فَأَمَرَهُ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ يُصَلِّيَ في الْحَطِيمِ رَكْعَتَيْنِ
وروى أَنَّ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها نَذَرَتْ بِذَلِكَ فَأَمَرَهَا النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنْ تُصَلِّيَ في الْحَطِيمِ رَكْعَتَيْنِ
فَإِنْ قِيلَ إذَا كان الْحَطِيمُ من الْبَيْتِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ التَّوَجُّهُ
إلَيْهِ في الصَّلَاةِ
فَالْجَوَابُ أَنَّ كَوْنَ الْحَطِيمِ من الْبَيْتِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
وَوُجُوبُ التَّوَجُّهِ إلَى الْبَيْتِ ثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وهو
قَوْله تَعَالَى { وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } وَلَا
يَجُوزُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِنَصِّ الْكِتَابِ بِالْآحَادِ وَلَيْسَ في الطَّوَافِ
من وَرَاءِ الْحَطِيمِ عَمَلًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِنَصِّ
الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وهو قَوْله تَعَالَى { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ } بَلْ فيه عَمَلٌ بِهِمَا جميعا وَلَوْ طَافَ في دَاخِلِ الْحِجْرِ
فَعَلَيْهِ
____________________
(2/131)
أَنْ
يُعِيدَ لِأَنَّ الْحَطِيمَ لَمَّا كان من الْبَيْتِ فإذا طَافَ في دَاخِلِ
الْحَطِيمِ فَقَدْ تَرَكَ الطَّوَافَ بِبَعْضِ الْبَيْتِ وَالْمَفْرُوضُ هو
الطَّوَافُ بِكُلِّ الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَ الطَّوَافَ كُلَّهُ مُرَاعَاةً
لِلتَّرْتِيبِ فَإِنْ أَعَادَ على الْحِجْرِ خَاصَّةً أَجْزَأَهُ لِأَنَّ
الْمَتْرُوكَ هو لَا غَيْرُ وقد ( ( ( فاستدركه ) ) ) استدركه وَلَوْ لم يُعِدْ
حتى عَادَ إلَى أَهْلِهِ يَجِبُ عليه الدَّمُ لِأَنَّ الحظيم ( ( ( الحطيم ) ) )
رُبْعُ الْبَيْتِ فَقَدْ تَرَكَ من طَوَافِهِ رُبْعَهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا زَمَانُ هذا الطَّوَافِ وهو وَقْتُهُ فَأَوَّلُهُ حين يَطْلُعُ
الْفَجْرُ الثَّانِي من يَوْمِ النَّحْرِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا حتى لَا
يَجُوزَ قَبْلَهُ
وقال الشَّافِعِيُّ أَوَّلُ وَقْتِهِ مُنْتَصَفُ لَيْلَةِ النَّحْرِ وَهَذَا
غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ لَيْلَةَ النَّحْرِ وَقْتُ رُكْنٍ آخَرَ وهو الْوُقُوفُ
بِعَرَفَةَ فَلَا يَكُونُ وَقْتًا لِلطَّوَافِ لِأَنَّ الْوَقْتَ الْوَاحِدَ لَا
يَكُونُ وَقْتًا لِرُكْنَيْنِ وَلَيْسَ لِآخِرِهِ زَمَانٌ مُعَيَّنٌ مُوَقَّتٌ
بِهِ فَرْضًا بَلْ جَمِيعُ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي وَقْتُهُ فَرْضًا بِلَا
خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا لَكِنَّهُ مُوَقَّتٌ بِأَيَّامِ النَّحْرِ وُجُوبًا في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ حتى لو أَخَّرَهُ عنها فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَهُ وفي قَوْلِ
أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ غَيْرُ مُوَقَّتٍ أَصْلًا وَلَوْ أَخَّرَهُ عن أَيَّامِ
النَّحْرِ لَا شَيْءَ عليه وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم سُئِلَ
عَمَّنْ ذَبَحَ قبل أَنْ يَرْمِيَ فقال ارْمِ وَلَا حَرَجَ وما سُئِلَ يَوْمَئِذٍ
عن أَفْعَالِ الْحَجِّ قُدِّمَ شَيْءٌ منها أو أُخِّرَ إلَّا قال افْعَلْ وَلَا
حَرَجَ فَهَذَا يَنْفِي تَوْقِيتَ آخِرِهِ وَيَنْفِي وُجُوبَ الدَّمِ
بِالتَّأْخِيرِ وَلِأَنَّهُ لو تَوَقَّتَ آخِرُهُ لَسَقَطَ بِمُضِيِّ آخِرِهِ
كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فلما لم يَسْقُطْ دَلَّ أَنَّهُ لم يَتَوَقَّتُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّأْخِيرَ بِمَنْزِلَةِ التَّرْكِ في حَقِّ وُجُوبِ
الْجَابِرِ بِدَلِيلِ أَنَّ من جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ
أَحْرَمَ يَلْزَمُهُ دَمٌ وَلَوْ لم يُوجَدْ منه إلَّا تَأْخِيرُ النسك ( ( ( الشك
) ) ) وَكَذَا تَأْخِيرُ الْوَاجِبِ في بَابِ الصَّلَاةِ بِمَنْزِلَةِ التَّرْكِ
في حَقِّ وُجُوبِ الْجَابِرِ وهو سَجْدَتَا السَّهْوِ فَكَانَ الْفِقْهُ في ذلك
أَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ كما هو وَاجِبٌ فَمُرَاعَاةُ مَحَلِّ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ
فَكَانَ التَّأْخِيرُ تَرْكًا لِلْمُرَاعَاةِ الْوَاجِبَةِ وَهِيَ مُرَاعَاتُهُ في
مَحَلِّهِ وَالتَّرْكُ تَرْكًا لِوَاجِبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَدَاءُ الْوَاجِبِ في
نَفْسِهِ
وَالثَّانِي مُرَاعَاتُهُ في مَحَلِّهِ فإذا تَرَكَ هذا الْوَاجِبَ يَجِبُ
جَبْرُهُ بِالدَّمِ
وإذا تَوَقَّتْ هذا الطَّوَافُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ وُجُوبًا عِنْدَهُ فإذا
أَخَّرَهُ عنها فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ فَأَوْجَبَ ذلك نُقْصَانًا فيه فَيَجِبُ
جَبْرُهُ بِالدَّمِ وَلَمَّا لم يَتَوَقَّتْ عِنْدَهُمَا فَفِي أَيِّ وَقْتٍ
فَعَلَهُ فَقَدْ فَعَلَهُ في وَقْتِهِ فَلَا يَتَمَكَّنُ فيه نَقْصٌ فَلَا
يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَلَا حُجَّةَ لَهُمَا في الحديث لِأَنَّ فيه نَفْيَ الْحَرَجِ
وهو نَفْيُ الْإِثْمِ وَانْتِفَاءُ الْإِثْمِ لَا يَنْفِي وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ
كما لو حَلَقَ رَأْسَهُ لِأَذًى فيه أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ وَعَلَيْهِ الدَّمُ
كَذَا هَهُنَا
وَقَوْلُهُمَا أنه لَا يَسْقُطُ بِمُضِيِّ آخِرِ الْوَقْتِ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ هذا
لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ مُوَقَّتًا وَوَاجِبًا في الْوَقْتِ كَالصَّلَوَاتِ
الْمَكْتُوبَاتِ أنها لَا تَسْقُطُ بِخُرُوجِ أَوْقَاتِهَا وَإِنْ كانت مؤقتة حتى
تُقْضَى كَذَا هذا وَالْأَفْضَلُ هو الطَّوَافُ في أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ
لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَوَّلُهَا
أَفْضَلُهَا وقد روى أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم طَافَ في أَوَّلِ أَيَّامِ
النَّحْرِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كان يَأْتِي بِالْعِبَادَاتِ في أَفْضَلِ
أَوْقَاتِهَا وَلِأَنَّ هذا الطَّوَافَ يَقَعُ بِهِ تَمَامُ التَّحَلُّلِ وهو
التَّحَلُّلُ من النِّسَاءِ فَكَانَ في تَعْجِيلِهِ صِيَانَةُ نَفْسِهِ عن
الْوُقُوعِ في الْجِمَاعِ وَلُزُومِ الْبَدَنَةِ فَكَانَ أَوْلَى
فَصْلٌ وَأَمَّا مِقْدَارُهُ فَالْمِقْدَارُ الْمَفْرُوضُ منه هو أَكْثَرُ
الْأَشْوَاطِ وهو ثَلَاثَةُ أَشْوَاطٍ وَأَكْثَرُ الشَّوْطِ الرَّابِعِ فَأَمَّا
الْإِكْمَالُ فَوَاجِبٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ حتى لو جَامَعَ بَعْدَ الْإِتْيَانِ
بِأَكْثَرِ الطَّوَافِ قبل الْإِتْمَامِ لَا يَلْزَمُهُ الْبَدَنَةُ وَإِنَّمَا
تَلْزَمُهُ الشَّاةُ وَهَذَا عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ الْفَرْضُ هو سَبْعَةُ
أَشْوَاطٍ لَا يَتَحَلَّلُ بِمَا دُونَهَا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ مَقَادِيرَ الْعِبَادَاتِ لَا تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ
وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
طَافَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ فَلَا يُعْتَدُّ بِمَا دُونَهَا
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وَالْأَمْرُ
الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ على الْمَرَّةِ
الْوَاحِدَةِ إلَى أَكْثَرِ الْأَشْوَاطِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ آخَرَ وهو الْإِجْمَاعُ
وَلَا إجْمَاعَ في الزِّيَادَةِ على أَكْثَرِ الْأَشْوَاطِ وَلِأَنَّهُ أتى
بِأَكْثَرِ الطَّوَافِ وَالْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِيمَا يَقَعُ بِهِ
التَّحَلُّلُ في بَابِ الْحَجِّ كَالذَّبْحِ إذَا لم يَسْتَوْفِ قَطْعَ الْعُرُوقِ
الْأَرْبَعَةِ وَإِنَّمَا كان الْمَفْرُوضُ هذا الْقَدْرَ فإذا أتى بِهِ فَقَدْ
أتى بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ فَيَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْبَدَنَةُ
بِالْجِمَاعِ بَعْدَ ذلك لِأَنَّ ما زَادَ عليه إلَى تَمَامِ السَّبْعَةِ فَهُوَ
وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ فَيَجِبُ بِتَرْكِهِ الشَّاةَ دُونَ الْبَدَنَةِ
كَرَمْيِ الْجِمَارِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
____________________
(2/132)
فَصْلٌ
وَأَمَّا حُكْمُهُ إذَا فَاتَ عن أَيَّامِ النَّحْرِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ
بَلْ يَجِبُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَوْقَاتِ وَقْتُهُ بِخِلَافِ
الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَنَّهُ إذَا فَاتَ عن وَقْتِهِ يَسْقُطُ لِأَنَّهُ
مُوَقَّتٌ بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ ثُمَّ إنْ كان بِمَكَّةَ يَأْتِي بِهِ بِإِحْرَامِهِ
الْأَوَّلِ لأأه قَائِمٌ إذْ التَّحَلُّلُ بِالطَّوَافِ ولم يُوجَدْ وَعَلَيْهِ
لِتَأْخِيرِهِ عن أَيَّامِ النَّحْرِ دَمٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ كان رَجَعَ
إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَكَّةَ بِإِحْرَامِهِ الْأَوَّلِ
وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إحْرَامٍ جَدِيدٍ وهو مُحَرَّمٌ عن النِّسَاءِ إلَى أَنْ
يَعُودَ فَيَطُوفَ وَعَلَيْهِ لِلتَّأْخِيرِ دَمٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَلَا
يجزىء عن هذا الطَّوَافِ بَدَنَةٌ لِأَنَّهُ رُكْنٌ وَأَرْكَانُ الْحَجِّ لَا يجزىء
عنها الْبَدَلُ وَلَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا بَلْ يَجِبُ الاتيان
بِعَيْنِهَا كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ
وَكَذَا لو كان طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَهُوَ وَاَلَّذِي لم يَطُفْ سَوَاءٌ
لِأَنَّ الْأَقَلَّ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ وَإِنْ كان طَافَ جُنُبًا أو على
غَيْرِ وُضُوءٍ أو طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ
أَمَّا إذَا طَافَ جُنُبًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ لَا مَحَالَةَ هو
الْعَزِيمَةُ وَبِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ حتى يُعِيدَ الطَّوَافَ أَمَّا وُجُوبُ
الْعَوْدِ بِطَرِيقِ الْعَزِيمَةِ فَلِتَفَاحُشِ النُّقْصَانِ بِالْجَنَابَةِ
فَيُؤْمَرُ بِالْعَوْدِ كما لو تَرَكَ أَكْثَرَ الْأَشْوَاطِ
وَأَمَّا تَجْدِيدُ الْإِحْرَامِ فَلِأَنَّهُ حَصَلَ التَّحَلُّلُ بِالطَّوَافِ مع
الْجَنَابَةِ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا وَالطَّهَارَةُ عن الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ
لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الطَّوَافِ فإذا حَصَلَ التَّحَلُّلُ صَارَ حَلَالًا
وَالْحَلَالُ لَا يَجُوزُ له دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَإِنْ لم يَعُدْ
إلَى مَكَّةَ لَكِنَّهُ بَعَثَ بَدَنَةً جَازَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَدَنَةَ تَجْبُرُ
النَّقْصَ بِالْجَنَابَةِ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ هو الْعَوْدُ لِأَنَّ النُّقْصَانَ
فَاحِشٌ فَكَانَ الْعَوْدُ أَجْبَرَ له لِأَنَّهُ جَبْرٌ بِالْجِنْسِ
وَأَمَّا إذَا طَافَ مُحْدِثًا أو طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَإِنْ عَادَ
وَطَافَ جَازَ لِأَنَّهُ جَبَرَ النَّقْصَ بِجِنْسِهِ وَإِنْ بَعَثَ شَاةً جَازَ
أَيْضًا لِأَنَّ النَّقْصَ يَسِيرٌ فَيَنْجَبِرُ بِالشَّاةِ وَالْأَفْضَلُ أَنْ
يَبْعَثَ بِالشَّاةِ لِأَنَّ الشَّاةَ تَجْبُرُ النَّقْصَ وَتَنْفَعُ الْفُقَرَاءَ
وَتَدْفَعُ عنه مَشَقَّةَ الرُّجُوعِ وَإِنْ كان بِمَكَّةَ فَالرُّجُوعُ أَفْضَلُ
لِأَنَّهُ جَبْرُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ فَكَانَ أَوْلَى وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا وَاجِبَاتُ الْحَجِّ فَخَمْسَةٌ السَّعْيُ بين الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ وَالْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ وَرَمْيُ الْجِمَارِ وَالْحَلْقُ أو
التَّقْصِيرُ وَطَوَافُ الصَّدْرِ
أَمَّا السَّعْيُ فَالْكَلَامُ فيه يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ صِفَتِهِ وفي
بَيَانِ قَدْرِهِ وفي بَيَانِ رُكْنِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ وفي
بَيَانِ سُنَنِهِ وفي بَيَانِ وَقْتِهِ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا تَأَخَّرَ عن
وَقْتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قال أَصْحَابُنَا أنه وَاجِبٌ وقال الشَّافِعِيُّ أنه
فَرْضٌ حتى لو تَرَكَ الْحَاجُّ خُطْوَةً منه وَأَتَى أَقْصَى بِلَادِ
الْمُسْلِمِينَ يأمر ( ( ( يؤمر ) ) ) بِأَنْ يَعُودَ إلَى ذلك الْمَوْضِعِ
فَيَضَعَ قَدَمَهُ عليه وَيَخْطُو تِلْكَ الْخُطْوَةَ وقال بَعْضُ الناس ليس
بِفَرْضٍ وَلَا وَاجِبٍ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ عز وجل { فَمَنْ حَجَّ
الْبَيْتَ أو اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عليه أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } وَكَلِمَةُ
لَا جُنَاحَ لَا تُسْتَعْمَلُ في الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَيَدُلُّ عليه
قِرَاءَةُ أبي { فَلَا جُنَاحَ عليه أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا }
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عن صَفِيَّةَ بِنْتِ فُلَانٍ أنها سَمِعَتْ
إمرأة سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن ذلك فقال إنَّ اللَّهَ تَعَالَى
كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيْ فَرَضَ عَلَيْكُمْ
إذْ الْكِتَابَةُ عِبَارَةٌ عن الْفَرْضِ كما في قَوْله تَعَالَى { كُتِبَ
عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } وَ { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ } وَغَيْرِ ذلك
وَلَنَا قَوْلُهُ عز وجل { وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ الْبَيْتِ } وَحِجُّ
الْبَيْتِ هو زِيَارَةُ الْبَيْتِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَظَاهِرُهُ
يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ هو الرُّكْنَ لَا غَيْرُ إلَّا
أَنَّهُ زِيدَ عليه الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ بِدَلِيلٍ فَمَنْ ادَّعَى زيادة ( ( (
زيارة ) ) ) السَّعْيِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَقَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم الْحَجُّ عَرَفَةَ فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ
كُلَّ الرُّكْنِ إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عليه طَوَافُ الزِّيَارَةِ فَمَنْ ادَّعَى زِيَادَةَ
السَّعْيِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت ما تَمَّ حَجُّ امرىء قَطُّ إلَّا
بِالسَّعْيِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ لِأَنَّهَا
وَصَفَتْ الْحَجَّ بِدُونِهِ بِالنُّقْصَانِ لَا بِالْفَسَادِ وَفَوْتُ الْوَاجِبِ
هو الذي يُوجِبُ النُّقْصَانَ فَأَمَّا فَوْتُ الْفَرْضِ فَيُوجِبُ الْفَسَادَ
وَالْبُطْلَانَ وَلِأَنَّ الْفَرْضِيَّةَ إنَّمَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ
بِهِ وَلَا يُوجَدُ ذلك في مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ إذَا كان الْخِلَافُ بين أَهْلِ
الدِّيَانَةِ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَيْسَ الْمُرَادُ منها رَفْعَ الْجُنَاحِ على الطَّوَافِ
بِهِمَا مُطْلَقًا بَلْ على الطَّوَافِ بِهِمَا لِمَكَانِ الْأَصْنَامِ التي كانت
هُنَالِكَ لِمَا قِيلَ أنه كان بِالصَّفَا صَنَمٌ وَبِالْمَرْوَةِ صَنَمٌ وَقِيلَ
كان بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَصْنَامٌ فَتَحَرَّجُوا عن الصُّعُودِ
عَلَيْهِمَا وَالسَّعْيِ بَيْنَهُمَا احْتِرَازًا عن التَّشَبُّهِ بِعِبَادَةِ
الْأَصْنَامِ وَالتَّشَبُّهِ بِأَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ فَرَفَعَ اللَّهُ
عَنْهُمْ الْجُنَاحَ بِالطَّوَافِ بِهِمَا أو بَيْنَهُمَا مع كَوْنِ الْأَصْنَامِ
هُنَالِكَ
وَأَمَّا قِرَاءَةُ أبي رضي اللَّهُ عنه فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لَا صِلَةً
زَائِدَةً مَعْنَاهُ لَا جُنَاحَ عليه أَنْ يَطَّوَّفَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ لَا قد
تُزَادُ في الْكَلَامِ صِلَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى { ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ
إذْ أَمَرْتُكَ }
____________________
(2/133)
مَعْنَاهُ أَنْ تَسْجُدَ فَكَانَ كَالْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ في الْمَعْنَى
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا يَصِحُّ تَعَلُّقُ الشَّافِعِيِّ بِهِ على زَعْمِهِ
لِأَنَّهُ قال رَوَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ فُلَانٍ فَكَانَتْ مَجْهُولَةً لَا تدري (
( ( ندري ) ) ) من هِيَ وَالْعَجَبُ منه أَنَّهُ يَأْبَى مَرَّةً قَبُولَ
الْمَرَاسِيلِ لِتَوَهُّمِ الْغَلَطِ وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا تُعْرَفُ
وَلَا يَذْكُرُ اسْمَهَا على أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ فَلَا حُجَّةَ له فيه لِأَنَّ
الْكُنْيَةَ قد تُذْكَرُ وَيُرَادُ بها الْحُكْمُ
قال اللَّهُ تَعَالَى { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ في
كِتَابِ اللَّهِ } أَيْ في حُكْمِ اللَّهِ
وقال عز وجل { كَتَبَ اللَّهُ عليهم ( ( ( عليكم ) ) ) } أَيْ حَكَمَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ فَإِنْ أُرِيدَ بها الْأَوَّلُ تَكُونُ حُجَّةً وَإِنْ أُرِيدَ بها
الثَّانِي لَا تَكُونُ حُجَّةً لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَقْتَصِرُ
على الْفَرْضِيَّةِ بَلْ الْوُجُوبُ وَالِانْتِدَابُ وَالْإِبَاحَةُ من حُكْمِ
اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ أو نَحْمِلُهَا على
الْوُجُوبِ دُونَ الْفَرْضِيَّةِ تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لها عن
التَّنَاقُضِ
وإذا كان وَاجِبًا فَإِنْ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ فَلَا شَيْءَ عليه وَإِنْ تَرَكَهُ
لِغَيْرِ عُذْرٍ لَزِمَهُ دَمٌ لِأَنَّ هذا حُكْمُ تَرْكِ الْوَاجِبِ في هذا
الْبَابِ أَصْلُهُ طَوَافُ الصَّدْرِ وَأَصْلُ ذلك ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَنَّهُ قال من حَجَّ هذا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ
بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ وَرَخَّصَ لِلْحَائِضِ بِخِلَافِ الْأَرْكَانِ فَإِنَّهَا
لَا تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ لِأَنَّ رُكْنَ الشَّيْءِ ذَاتُهُ فإذا لم يَأْتِ بِهِ
فلم يُوجَدْ الشَّيْءُ أَصْلًا كَأَرْكَانِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْوَاجِبِ
وَلَوْ تَرَكَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ ما وَجَبَ في جَمِيعِهِ دَمٌ يَجِبُ في أَكْثَرِهِ دَمٌ
أَصْلُهُ طَوَافُ الصَّدْرِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ
أَشْوَاطٍ أَطْعَمَ لِكُلِّ شَوْطٍ نِصْفَ صَاعٍ من بُرٍّ مِسْكِينًا إلَّا أَنْ
يُبْلِغَهُ ذلك دَمًا فَلَهُ الْخِيَارُ وَالْأَصْلُ في ذلك أَنَّ كُلَّ ما
يَكُونُ في جَمِيعِهِ دَمٌ يَكُونُ في أَقَلِّهِ صَدَقَةٌ لِمَا نَذْكُرُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ تَرَكَ الصُّعُودَ على الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
يُكْرَهُ له ذلك وَلَا شَيْءَ عليه لِأَنَّ الصُّعُودَ عَلَيْهِمَا سُنَّةٌ
فَيُكْرَهُ تَرْكُهُ وَلَكِنْ لو تَرَكَ لَا شَيْءَ عليه كما لو تَرَكَ الرَّمَلَ
في الطَّوَافِ
فَصْلٌ وَأَمَّا قَدْرُهُ فَسَبْعَةُ أَشْوَاطٍ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَلِفِعْلِ
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَيَعُدُّ من الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ
شَوْطًا وَمِنْ الْمَرْوَةِ إلَى الصَّفَا شَوْطًا آخَرَ كَذَا ذَكَرَ في
الْأَصْلِ
وقال الطَّحَاوِيُّ من الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ وَمِنْ الْمَرْوَةِ إلَى
الصَّفَا شَوْطٌ وَاحِدٌ وَالصَّحِيحُ ما ذُكِرَ في الْأَصْلِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم طَافَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ وَلَوْ كان كما
ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ لَكَانَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَوْطًا وَالدَّلِيلُ على أَنَّ
الْمَذْهَبَ ما قُلْنَا أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ في الْأَصْلِ
فقال يبتدىء بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ وَعَلَى ما ذَكَرَهُ
الطَّحَاوِيُّ يَقَعُ الْخَتْمُ بِالصَّفَا لَا بِالْمَرْوَةِ فَدَلَّ أَنَّ
مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا ما ذَكَرْنَا
فَصْلٌ وَأَمَّا رُكْنُهُ فَكَيْنُونَتُهُ بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَوَاءٌ كان
بِفِعْلِ نَفْسِهِ أو بِفِعْلِ غَيْرِهِ عِنْدَ عَجْزِهِ عن السَّعْيِ بِنَفْسِهِ
بِأَنْ كان مُغْمًى عليه أو مَرِيضًا فَسَعَى بِهِ مَحْمُولًا أو سَعَى رَاكِبًا
لِحُصُولِهِ كَائِنًا بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَإِنْ كان قَادِرًا على
الْمَشْيِ بِنَفْسِهِ فَحُمِلَ أو رَكِبَ يَلْزَمُهُ الدَّمُ لِأَنَّ السَّعْيَ
بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ على الْمَشْيِ وَاجِبٌ فإذا تَرَكَهُ فَقَدْ تَرَكَ
الْوَاجِبَ من غَيْرِ عُذْرٍ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ كما لو تَرَكَ الْمَشْيَ في
الطَّوَافِ من غَيْرِ عُذْرٍ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِهِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الطَّوَافِ أو
بَعْدَ أَكْثَرِهِ لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم هَكَذَا فَعَلَ وقد قال
صلى اللَّهُ عليه وسلم خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ وَلِأَنَّ السَّعْيَ تَبَعٌ
لِلطَّوَافِ وَتَبَعُ الشَّيْءِ كَاسْمِهِ وهو أَنْ يَتْبَعَهُ فِيمَا تَقَدَّمَهُ
لَا يَتْبَعُهُ فَلَا يَكُونُ تَبَعًا له إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ بَعْدَ وُجُودِ
أَكْثَرِ الطَّوَافِ قبل تَمَامِهِ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ
وَمِنْهَا الْبِدَايَةُ بِالصَّفَا وَالْخَتْمُ بِالْمَرْوَةِ في الرِّوَايَةِ
الْمَشْهُورَةِ حتى لو بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ وَخَتَمَ بِالصَّفَا لَزِمَهُ
إعَادَةُ شَوْطٍ وَاحِدٍ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
أَنَّ ذلك ليس بِشَرْطٍ وَلَا شَيْءَ عليه لو بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أتى بِأَصْلِ السَّعْيِ وَإِنَّمَا تَرَكَ
التَّرْتِيبَ فَلَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ كما لو تَوَضَّأَ في بَابِ الصَّلَاةِ
وَتَرَكَ التَّرْتِيبَ
وَلَنَا أَنَّ التَّرْتِيبَ هَهُنَا مَأْمُورٌ بِهِ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم وَفِعْلِهِ
أَمَّا قَوْلُهُ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ عز وجل { إنَّ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةَ من شَعَائِرِ اللَّهِ } قالوا بِأَيِّهِمَا نَبْدَأُ يا رَسُولَ
اللَّهِ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم ابدؤا ( ( ( ابدءوا ) ) ) بِمَا بَدَأَ
اللَّهُ بِهِ
وَأَمَّا فِعْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم فإنه بَدَأَ بِالصَّفَا وَخَتَمَ
بِالْمَرْوَةِ وَأَفْعَالُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في مِثْلِ هذا مُوجِبَةٌ
لِمَا تَبَيَّنَ وإذا لَزِمَتْ الْبِدَايَةُ بِالصَّفَا فإذا بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ
إلَى الصَّفَا لَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ الشَّوْطِ فإذا جاء من الصَّفَا إلَى
الْمَرْوَةِ كان هذا أَوَّلَ شَوْطٍ فَيَجِبُ عليه أَنْ يَعُودَ
____________________
(2/134)
بَعْدَ
سِتَّةٍ من الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ حتى يُتِمَّ سَبْعَةً
وَأَمَّا الطَّهَارَةُ عن الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَيَجُوزُ
سَعْيُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ بَعْدَ أَنْ كان طَوَافُهُ بِالْبَيْتِ على
الطَّهَارَةِ عن الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ لِأَنَّ هذا نُسُكٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ
بِالْبَيْتِ فَلَا تُشْتَرَطُ له الطَّهَارَةُ عن الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ
كَالْوُقُوفِ إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ على الطَّهَارَةِ
عن الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ لِأَنَّ السَّعْيَ مُرَتَّبٌ عليه وَمِنْ تَوَابِعِهِ
وَالطَّوَافُ مع الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ حتى تَجِبَ
إعَادَتُهُ فَكَذَا السَّعْيُ الذي هو من تَوَابِعِهِ وَمُرَتَّبٌ عليه فإذا كان
طَوَافُهُ على الطَّهَارَةِ عن الْحَدَثَيْنِ فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ جَوَازِهِ
فَجَازَ وَجَازَ سَعْيُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ تَبَعًا له لِوُجُودِ شَرْطِ
جَوَازِ الْأَصْلِ إذْ التَّبَعُ لَا يُفْرَدُ بِالشَّرْطِ بَلْ يَكْفِيه شَرْطُ
الْأَصْلِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ حُصُولَ الطَّوَافِ على الطَّهَارَةِ عن
الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ من شَرَائِطِ جَوَازِ السَّعْيِ فَإِنْ كان طَاهِرًا
وَقْتَ الطَّوَافِ جَازَ السَّعْيُ سَوَاءٌ كان طَاهِرًا وَقْتَ السَّعْيِ أو لَا
وَإِنْ لم يَكُنْ طَاهِرًا وَقْتَ الطَّوَافِ لم يَجُزْ سَعْيُهُ رَأْسًا سَوَاءٌ
كان طَاهِرًا أو لم يَكُنْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا سُنَنُهُ فَالرَّمَلُ في بَعْضِ كل شَوْطٍ وَالسَّعْيُ في
الْبَعْضِ وَسَنَذْكُرُهَا في بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ لِأَنَّهَا من السُّنَنِ
لَا من الْوَاجِبَاتِ حتى لو رَمَلَ في الْكُلِّ أو سَعَى في الْكُلِّ لَا شَيْءَ
عليه لَكِنَّهُ يَكُونُ مُسِيئًا لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا وَقْتُهُ فَوَقْتُهُ الْأَصْلِيُّ يَوْمُ النَّحْرِ بَعْدَ
طَوَافِ الزِّيَارَةِ لَا بَعْدَ طَوَافِ اللِّقَاءِ لِأَنَّ ذلك سُنَّةٌ
وَالسَّعْيُ وَاجِبٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ الْوَاجِبُ تَبَعًا
لِلسُّنَّةِ فَأَمَّا طَوَافُ الزِّيَارَةِ فَفَرْضٌ وَالْوَاجِبُ يَجُوزُ أَنْ
يُجْعَلَ تَبَعًا لِلْفَرْضِ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ السَّعْيُ بَعْدَ طَوَافِ
اللِّقَاءِ وَجُعِلَ ذلك وَقْتًا له تَرْفِيهًا بِالْحَاجِّ وَتَيْسِيرًا له
لِازْدِحَامِ الِاشْتِغَالِ له يوم النَّحْرِ فَأَمَّا وَقْتُهُ الْأَصْلِيُّ
فَيَوْمُ النَّحْرِ عَقِيبَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِهِ إذَا تَأَخَّرَ عن وَقْتِهِ الْأَصْلِيِّ وَهِيَ
أَيَّامُ النَّحْرِ بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فَإِنْ كان لم يَرْجِعْ إلَى
أَهْلِهِ فإنه يَسْعَى وَلَا شَيْءَ عليه
لِأَنَّهُ أتى بِمَا وَجَبَ عليه وَلَا يَلْزَمُهُ بِالتَّأْخِيرِ شَيْءٌ
لِأَنَّهُ فَعَلَهُ في وَقْتِهِ الْأَصْلِيِّ وهو ما بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ
وَلَا يَضُرُّهُ إنْ كان قد جَامَعَ لِوُقُوعِ التَّحَلُّلِ بِطَوَافِ
الزِّيَارَةِ إذْ السَّعْيُ ليس بِرُكْنٍ حتى يَمْنَعَ التَّحَلُّلَ وإذا صَارَ
حَلَالًا بِالطَّوَافِ فَلَا فَرْقَ بين أَنْ يَسْعَى قبل الْجِمَاعِ أو بَعْدَهُ
غير أَنَّهُ لو كان بِمَكَّةَ يَسْعَى وَلَا شَيْءَ عليه لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كان
رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فعله ( ( ( فعليه ) ) ) دَمٌ لِتَرْكِهِ السَّعْيَ بِغَيْرِ
عُذْرٍ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ يَعُودُ باحرام جَدِيدٍ لِأَنَّ
إحْرَامَهُ الْأَوَّلَ قد ارْتَفَعَ بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ لِوُقُوعِ
التَّحَلُّلِ بِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْإِحْرَامِ وإذا عَادَ وَسَعَى
يَسْقُطُ عنه الدَّمُ لِأَنَّهُ تَدَارَكَ التَّرْكَ وَذَكَرَ في الْأَصْلِ وقال
وَالدَّمُ أَحَبُّ إلَيَّ من الرُّجُوعِ لِأَنَّ فيه مَنْفَعَةً لِلْفُقَرَاءِ
وَالنُّقْصَانُ ليس بِفَاحِشٍ فَصَارَ كما إذَا طَافَ مُحْدِثًا ثُمَّ رَجَعَ إلَى
أَهْلِهِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ فَالْكَلَامُ فيه يَقَعُ في مَوَاضِعَ
في بَيَانِ صِفَتِهِ وَرُكْنِهِ وَمَكَانِهِ وَزَمَانِهِ وَحُكْمِهِ إذَا فَاتَ عن
وَقْتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ فيه أَصْحَابُنَا قال بَعْضُهُمْ أنه وَاجِبٌ
وقال اللَّيْثُ أنه فَرْضٌ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ
تَعَالَى { فإذا أَفَضْتُمْ من عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ
الْحَرَامِ } وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ هو الْمُزْدَلِفَةُ وَالْأَمْرُ
بِالذِّكْرِ عِنْدَهَا يَدُلُّ على فَرْضِيَّةِ الْوُقُوفِ بها
وَلَنَا أَنَّ الْفَرْضِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ ولم
يُوجَدْ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ بين أَهْلِ الدِّيَانَةِ وَأَهْلُ
الدِّيَانَةِ لَا يَخْتَلِفُونَ في مَوْضِعٍ هُنَاكَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ وَدَلِيلُ
الْوُجُوبِ ما رُوِيَ عن عُرْوَةَ بن المضرس ( ( ( مضرس ) ) ) الطَّائِيِّ جاء
إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وقال أَتْعَبْتُ مَطِيَّتِي فما مَرَرْتُ
بِشَرَفٍ إلَّا عَلَوْتُهُ فَهَلْ لي من حَجٍّ وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قال
أَتْعَبْتُ رَاحِلَتِي وَأَجْهَدْتُ نَفْسِي وما تَرَكْتُ جَبَلًا من جِبَالِ طيء
( ( ( طيئ ) ) ) إلَّا وَقَفْتُ عليه فَهَلْ لي من حَجٍّ فقال رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم من وَقَفَ مَعَنَا هذا الْوُقُوفَ وَصَلَّى مَعَنَا هذه
الصَّلَاةَ وقد كان وَقَفَ قبل ذلك بِعَرَفَةَ سَاعَةً بِلَيْلٍ أو نَهَارٍ فَقَدْ
تَمَّ حَجُّهُ فَقَدْ عَلَّقَ تَمَامَ الْحَجِّ بهذا الْوُقُوفِ وَالْوَاجِبُ هو
الذي يَتَعَلَّقُ التَّمَامُ بِوُجُودِهِ لَا الْفَرْضُ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ
بِهِ أَصْلُ الْجَوَازِ لَا صِفَةُ التَّمَامِ وقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
الْحَجُّ عَرَفَةُ من أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ جَعَلَ
الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ كُلَّ الْحَجِّ وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلَّ
الرُّكْنِ وَكَذَا جَعَلَ مُدْرِكَ عَرَفَةَ مُدْرِكًا لِلْحَجِّ وَلَوْ كان
الْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ رُكْنًا لم يَكُنْ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ كُلَّ
الْحَجِّ بَلْ بَعْضَهُ ولم يَكُنْ أَيْضًا مُدْرِكًا
____________________
(2/135)
لِلْحَجِّ
بِدُونِهِ وَهَذَا خِلَافُ الحديث وظاهرالحدي ( ( ( وظاهر ) ) ) يَقْتَضِي أَنْ
يَكُونَ الرُّكْنُ هو الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لَا غَيْرُ إلَّا أَنَّ طَوَافَ
الزِّيَارَةِ عُرِفَ رُكْنًا بِدَلِيلٍ آخَرَ وهو ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلِأَنَّ تَرْكَ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ جَائِزٌ لِعُذْرٍ على ما نُبَيِّنُ
وَلَوْ كان فَرْضًا لَمَا جَازَ تكره ( ( ( تركه ) ) ) أَصْلًا كَسَائِرِ
الْفَرَائِضِ فَدَلَّ أَنَّهُ ليس بِفَرْضٍ بَلْ هو وَاجِبٌ إلَّا أَنَّهُ قد
يَسْقُطُ وُجُوبُهُ لِعُذْرٍ من ضَعْفٍ أو مَرَضٍ أو حَيْضٍ أو نَحْوِ ذلك حتى لو
تَعَجَّلَ ولم يَقِفْ لَا شَيْءَ عليه
وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قِيلَ في تَأْوِيلِهَا أن الْمُرَادَ من الذِّكْرِ هو
صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ وَقِيلَ هو الدُّعَاءُ
وَفَرْضِيَّتُهَا لَا تَقْتَضِي فَرْضِيَّةَ الْوُقُوفِ على أَنَّ مُطْلَقَ
الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ لَا لِلْفَرْضِيَّةِ بَلْ الْفَرْضِيَّةُ ثَبَتَتْ
بِدَلِيلٍ زَائِدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا رُكْنُهُ فَكَيْنُونَتُهُ بِمُزْدَلِفَةَ سَوَاءٌ كان بِفِعْلِ
نَفْسِهِ أو بِفِعْلِ غَيْرِهِ بِأَنْ كان مَحْمُولًا وهو نَائِمٌ أو مُغْمًى عليه
أو كان على دَابَّةٍ لِحُصُولِهِ كَائِنًا بها وَسَوَاءٌ عَلِمَ بها أو لم
يَعْلَمْ لِمَا قُلْنَا وَلِأَنَّ الْفَائِتَ ليس إلَّا النِّيَّةَ وأنها لَيْسَتْ
بِشَرْطٍ كما في الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَسَوَاءٌ وَقَفَ أو مَرَّ مَارًّا
لِحُصُولِهِ كَائِنًا بِمُزْدَلِفَةَ وَإِنْ قَلَّ وَلَا تُشْتَرَطُ له
الطَّهَارَةُ عن الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا تَتَعَلَّقُ
بِالْبَيْتِ فَتَصِحُّ من غَيْرِ طَهَارَةٍ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَرَمْيِ
الْجِمَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا مَكَانُهُ فَجُزْءٌ من أَجْزَاءِ مُزْدَلِفَةَ أَيَّ جُزْءٍ كان
وَلَهُ أَنْ يَنْزِلَ في أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ منها إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي
أَنْ يَنْزِلَ في وَادِي مُحَسِّرٍ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
عَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا
مَوْقِفٌ إلَّا وَادِيَ مُحَسِّرٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ قال مُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا
مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عن الْمُحَسِّرِ فَيُكْرَهُ النُّزُولُ فيه وَلَوْ وَقَفَ
بِهِ أَجْزَأَهُ مع الْكَرَاهَةِ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ وُقُوفُهُ خَلْفَ
الْإِمَامِ على الْجَبَلِ الذي يَقِفُ عليه الْإِمَامُ وهو الْجَبَلُ الذي يُقَالُ
له قُزَحُ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَقَفَ عليه وقال
خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ ولانه يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْإِمَامِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا زَمَانُهُ فما بين طُلُوعِ الْفَجْرِ من يَوْمِ النَّحْرِ
وَطُلُوعِ الشَّمْسِ فَمَنْ حَصَلَ بِمُزْدَلِفَةَ في هذا الْوَقْتِ فَقَدْ
أَدْرَكَ الْوُقُوفَ سَوَاءٌ بَاتَ بها أو لَا وَمَنْ لم يَحْصُلْ بها فيه فَقَدْ
فَاتَهُ الْوُقُوفُ وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ في النِّصْفِ الْأَخِيرِ من لَيْلَةِ النَّحْرِ كما
قال في الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وفي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَالسُّنَّةُ أَنْ يَبِيتَ
لَيْلَةَ النَّحْرِ بِمُزْدَلِفَةَ وَالْبَيْتُوتَةُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ إنَّمَا
الْوَاجِبُ هو الْوُقُوفُ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ وُقُوفُهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ
فَيُصَلِّيَ صَلَاةَ الْفَجْرِ بِغَلَسٍ ثُمَّ يَقِفَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ
الْحَرَامِ فَيَدْعُوَ اللَّهَ تَعَالَى وَيَسْأَلَهُ حَوَائِجَهُ إلَى أَنْ
يُسْفِرَ ثُمَّ يُفِيضَ منه قبل طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى مِنًى وَلَوْ أَفَاضَ
بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قبل صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا شَيْءَ عليه
لِتَرْكِهِ السُّنَّةِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ فَوَاتِهِ عن وَقْتِهِ إنه إنْ كان لِعُذْرٍ فَلَا شَيْءَ
عليه لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قَدَّمَ ضَعَفَةَ
أَهْلِهِ ولم يَأْمُرْهُمْ بِالْكَفَّارَةِ وَإِنْ كان فَوَاتُهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ
فَعَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ من غَيْرِ عُذْرٍ وَإِنَّهُ يُوجِبُ
الْكَفَّارَةَ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا رَمْيُ الْجِمَارِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ
وُجُوبِ الرَّمْيِ وفي تَفْسِيرِ الرَّمْيِ وفي بَيَانِ وَقْتِهِ وفي بَيَانِ
مَكَانِهِ وفي بَيَانِ عَدَدِ الْجِمَارِ وَقَدْرِهَا وَجِنْسِهَا وَمَأْخَذِهَا
وَمِقْدَارِ ما يرمي كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ كل مَوْضِعٍ وَكَيْفِيَّةِ الرَّمْيِ وما
يُسَنُّ في ذلك وَيُسْتَحَبُّ وما يُكْرَهُ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا تَأَخَّرَ
عن وَقْتِهِ أو فَاتَ عن وَقْتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَدَلِيلُ وُجُوبِهِ الْإِجْمَاعُ وَقَوْلُ رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم وَفِعْلُهُ أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ
أَجْمَعَتْ على وُجُوبِهِ
وَأَمَّا قَوْلُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فما رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا
سَأَلَهُ وقال إنِّي ذَبَحْتُ ثُمَّ رَمَيْتُ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم ارْمِ
وَلَا حَرَجَ وَظَاهِرُ الْأَمْرِ يَقْتَضِي وجوبع ( ( ( وجوب ) ) ) الْعَمَلِ
وَأَمَّا فِعْلُهُ فَلِأَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم رَمَى وَأَفْعَالُ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم فِيمَا لم يَكُنْ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ ولم يَكُنْ من
حَوَائِجِ نَفْسِهِ وَلَا من أُمُورِ الدُّنْيَا مَحْمُولٌ على الْوُجُوبِ
لِوُرُودِ النُّصُوصِ بِوُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ وَالِاتِّبَاعِ له وَلُزُومِ
طَاعَتِهِ وَحُرْمَةِ مُخَالَفَتِهِ فَكَانَتْ أَفْعَالُهُ فِيمَا قُلْنَا
مَحْمُولَةً على الْوُجُوبِ لَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا على طَرِيقِ
التَّعْيِينِ لِاحْتِمَالِ الْخُصُوصِ كما في بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ نَحْوِ صَلَاةِ
اللَّيْلِ وَبَعْضِ الْمُبَاحَاتِ وهو حِلُّ تِسْعِ نِسْوَةٍ أو زِيَادَةٍ عليها
فَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ منها عَيْنًا يُؤَدِّي إلَى اعْتِقَادِ غَيْرِ الْوَاجِبِ
وَاجِبًا في حَقِّهِ وَغَيْرِ =ج6.=
ج6. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587
الْمُبَاحِ
مُبَاحًا في حَقِّهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَأَمَّا الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ عَمَلًا
مع الإعتقاد مُبْهِمًا أَنَّ ما أَرَادَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ حَقٌّ مِمَّا لَا
ضَرَرَ فيه لِأَنَّهُ إنْ كان وَاجِبًا يَخْرُجُ عن الْعُهْدَةِ بِفِعْلِهِ وَإِنْ
لم يَكُنْ وَاجِبًا يُثَابُ على فِعْلِهِ فَكَانَ مما قُلْنَاهُ احْتِرَازًا عن
الضَّرَرِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا تَفْسِيرُ رَمْيِ الْجِمَارِ فَرَمْيُ الْجِمَارِ في اللُّغَةِ هو
الْقَذْفُ بِالْأَحْجَارِ الصِّغَارِ وَهِيَ الْحَصَى إذْ الْجِمَارُ جَمْعُ
جَمْرَةٍ وَالْجَمْرَةُ هِيَ الْحَجَرُ الصَّغِيرُ وَهِيَ الْحَصَاةُ وفي عُرْفِ
الشَّرْعِ هو الْقَذْفُ بِالْحَصَى في زَمَانٍ مَخْصُوصٍ وَمَكَانٍ مَخْصُوصٍ
وَعَدَدٍ مَخْصُوصٍ على ما نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا قام عِنْدَ الْجَمْرَةِ وَوَضَعَ الْحَصَاةَ
عِنْدَهَا وَضْعًا إنه لم يُجْزِهِ لِعَدَمِ الرَّمْيِ وهو الْقَذْفُ وَإِنْ
طَرَحَهَا طَرْحًا أَجْزَأَهُ لِوُجُودِ الرَّمْيِ إلَّا أَنَّهُ رَمْيٌ خَفِيفٌ
فَيُجْزِئُهُ وَسَوَاءٌ رَمَى بِنَفْسِهِ أو بِغَيْرِهِ عِنْدَ عَجْزِهِ عن
الرَّمْيِ بِنَفْسِهِ كَالْمَرِيضِ الذي لَا يَسْتَطِيعُ الرَّمْيَ فَوَضَعَ
الْحَصَى في كَفِّهِ فَرَمَى بها أو رَمَى عنه غَيْرُهُ لِأَنَّ أَفْعَالَ
الْحَجِّ تَجْرِي فيها النِّيَابَةُ كَالطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ
وَمُزْدَلِفَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا وَقْتُ الرَّمْيِ فَأَيَّامُ الرَّمْيِ أَرْبَعَةٌ يَوْمُ
النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَمَّا يَوْمُ النَّحْرِ فَأَوَّلُ
وَقْتِ الرَّمْيِ منه ما بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قبل الزَّوَالِ وَهَذَا
عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ إذَا انْتَصَفَ لَيْلَةُ النَّحْرِ دخل وَقْتُ الْجِمَارِ كما
قال في الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ فإذا طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَجَبَ
وقال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ لَا يَجُوزُ قبل طُلُوعِ الشَّمْسِ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إنه قَدَّمَ
ضَعَفَةَ أَهْلِهِ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا
تَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ حتى تَكُونُوا مُصْبِحِينَ نهى عن الرَّمْيِ قبل
الصُّبْحِ وَرُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يلج ( ( ( يلطح ) ) )
أَفْخَاذَ أُغَيْلِمَةِ بَنِي عبد الْمُطَّلِبِ وكان يقول لهم لَا تَرْمُوا
جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ حتى تَكُونُوا مُصْبِحِينَ
فَإِنْ قِيلَ قد رُوِيَ أَنَّهُ قال لَا تَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ حتى
تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَهَذَا حُجَّةُ سُفْيَانَ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذلك مَحْمُولٌ
على بَيَانِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ تَوْفِيقًا بين الرِّوَايَتَيْنِ بِقَدْرِ
الْإِمْكَانِ وَبِهِ نَقُولُ أن الْمُسْتَحَبَّ ذلك
وَأَمَّا آخِرُهُ فَآخِرُ النَّهَارِ كَذَا قال أبو حَنِيفَةَ إنَّ وَقْتَ
الرَّمْيِ يوم النَّحْرِ يَمْتَدُّ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ
وقال أبو يُوسُفَ يَمْتَدُّ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ فإذا زَالَتْ الشَّمْسُ
يَفُوتُ الْوَقْتُ وَيَكُونُ فِيمَا بَعْدَهُ قَضَاءٌ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ أَوْقَاتَ الْعِبَادَةِ لَا تُعْرَفُ إلَّا
بِالتَّوْقِيفِ وَالتَّوْقِيفُ وَرَدَ بِالرَّمْيِ في يَوْمِ النَّحْرِ قبل
الزَّوَالِ فَلَا يَكُونُ ما بَعْدَهُ وَقْتًا له أَدَاءً كما في سَائِرِ أَيَّامِ
النَّحْرِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ وَقْتَهُ فيها بَعْدَ الزَّوَالِ لم يَكُنْ قبل
الزَّوَالِ وَقْتًا له وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ الْأَيَّامِ
وهو أَنَّ في سَائِرِ الْأَيَّامِ ما بَعْدَ الزاول ( ( ( الزوال ) ) ) إلَى
غُرُوبِ الشَّمْسِ وَقْتَ الرَّمْيِ فَكَذَا في هذا الْيَوْمِ لِأَنَّ هذا
الْيَوْمَ إنَّمَا يُفَارِقُ سَائِرَ الْأَيَّامِ في ابْتِدَاءِ الرَّمْيِ لَا في
انْتِهَائِهِ فَكَانَ مِثْلَ سَائِرِ الْأَيَّامِ في الِانْتِهَاءِ فَكَانَ
آخِرُهُ وَقْتَ الرَّمْيِ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ فَإِنْ لم يَرْمِ حتى غَرَبَتْ
الشَّمْسُ فَيَرْمِي قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ من الْيَوْمِ الثَّانِي أَجْزَأَهُ
وَلَا شَيْءَ عليه في قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَلِلشَّافِعِيِّ فيه قَوْلَانِ في
قَوْلٍ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ فَاتَ الْوَقْتُ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ
وفي قَوْلٍ لَا يَفُوتُ إلَّا في آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَذِنَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا بِاللَّيْلِ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ رَخَّصَ لهم
ذلك لِعُذْرٍ لِأَنَّا نَقُولُ ما كان لهم عُذْرٌ لِأَنَّهُ كان يُمْكِنُهُمْ أَنْ
يَسْتَنِيبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيَأْتِي بِالنَّهَارِ فَيَرْمِي فَثَبَتَ أَنَّ
الْإِبَاحَةَ كانت لِعُذْرٍ فَيَدُلُّ على الْجَوَازِ مُطْلَقًا فَلَا يَجِبُ
الدَّمُ
فَإِنْ أَخَّرَ الرَّمْيَ حتى طَلَعَ الْفَجْرُ من الْيَوْمِ الثَّانِي رَمَى
وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلتَّأْخِيرِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ لَا شَيْءَ عليه وَالْكَلَامُ فيه يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الرَّمْيَ
مُؤَقَّتٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا ليس بِمُؤَقَّتٍ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وهو
على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في طَوَافِ الزِّيَارَةِ في أَيَّامِ النَّحْرِ
أَنَّهُ مُؤَقَّتٌ بها وُجُوبًا عِنْدَهُ حتى يَجِبَ الدَّمُ بِالتَّأْخِيرِ عنها
وَعِنْدَهُمْ ليس بِمُؤَقَّتٍ أَصْلًا فَلَا يَجِبُ بِالتَّأْخِيرِ شَيْءٌ
وَالْحُجَجُ من الْجَانِبَيْنِ وَجَوَابُ أبي حَنِيفَةَ عن تَعَلُّقِهِمَا
بِالْخَبَرِ وَالْمَعْنَى ما ذَكَرْنَا في الطَّوَافِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا وَقْتُ الرَّمْيِ من الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي من
أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وهو الْيَوْمُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ من أَيَّامِ
الرَّمْيِ فيعد ( ( ( فبعد ) ) ) الزَّوَالِ حتى لَا يَجُوزَ الرَّمْيُ فِيهِمَا
قبل الزَّوَالِ في الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عن أبي حَنِيفَةَ وَرُوِيَ عن أبي
حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَرْمِيَ في الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ
بَعْدَ الزَّوَالِ فَإِنْ رَمَى قَبْلَهُ جَازَ
وجهه ( ( ( وجه ) ) ) هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ قبل الزَّوَالِ وَقْتُ
____________________
(2/137)
الرَّمْيِ
في يَوْمِ النَّحْرِ فَكَذَا في الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ لِأَنَّ
الْكُلَّ أَيَّامُ النَّحْرِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ ما رُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم رَمَى الْجَمْرَةَ يوم النَّحْرِ ضُحًى
وَرَمَى في بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَهَذَا بَابٌ لَا يُعْرَفُ
بِالْقِيَاسِ بَلْ بِالتَّوْقِيفِ فَإِنْ أَخَّرَ الرَّمْيَ فِيهِمَا إلَى
اللَّيْلِ فَرَمَى قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ وَلَا شَيْءَ عليه لِأَنَّ
اللَّيْلَ وَقْتُ الرَّمْيِ في أَيَّامِ الرَّمْيِ لِمَا رَوَيْنَا من الحديث فإذا
رَمَى في الْيَوْمِ الثَّانِي من أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ الزَّوَالِ
فَأَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ من مِنًى إلَى مَكَّةَ وهو الْمُرَادُ من النَّفْرِ
الْأَوَّلِ فَلَهُ ذلك لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ تَعَجَّلَ في يَوْمَيْنِ
فَلَا إثْمَ عليه } أَيْ من نَفَرَ إلَى مَكَّةَ بعد ما رَمَى يَوْمَيْنِ من
أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَتَرَكَ الرَّمْيَ في الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَلَا إثْمَ
عليه في تَعْجِيلِهِ وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَتَعَجَّلَ بَلْ يَتَأَخَّرَ إلَى
آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وهو الْيَوْمُ الثَّالِثُ منها فَيَسْتَوْفِي
الرَّمْيَ في الْأَيَّامِ كُلِّهَا ثُمَّ يَنْفِرُ وهو المعنى من النَّفْرِ الثَّانِي
وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عليه }
وفي ظَاهِرِ هذه الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ إشْكَالٌ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا
أَنَّهُ ذَكَرَ قَوْله تَعَالَى { فَلَا إثْمَ عليه } في الْمُتَعَجِّلِ
وَالْمُتَأَخِّرِ جميعا وَهَذَا إنْ كان يَسْتَقِيمُ في حَقِّ الْمُتَعَجِّلِ
لِأَنَّهُ يَتَرَخَّصُ لَا يَسْتَقِيمُ في حَقِّ الْمُتَأَخِّرِ لِأَنَّهُ أَخَذَ
بِالْعَزِيمَةِ وَالْأَفْضَلِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ قال تَعَالَى في الْمُتَأَخِّرِ { فَلَا إثْمَ عليه لِمَنْ
اتَّقَى } قَيَّدَهُ بِالتَّقْوَى وَهَذَا التَّقْيِيدُ بِالْمُتَعَجِّلِ أَلْيَقُ
لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالرُّخْصَةِ ولم يَذْكَرْ فيه هذا التَّقْيِيدَ
وَالْجَوَابُ عن الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ
عنه أَنَّهُ قال في هذه الْآيَةِ فَمَنْ تَعَجَّلَ في يَوْمَيْنِ غُفِرَ له وَمَنْ
تَأَخَّرَ غُفِرَ له وَكَذَا رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ
قال في قَوْله تَعَالَى { فَلَا إثْمَ عليه } رَجَعَ مَغْفُورًا له وَأَمَّا
قَوْله تَعَالَى { لِمَنْ اتَّقَى } فَهُوَ بَيَانُ أَنَّ ما سَبَقَ من وَعْدِ
الْمَغْفِرَةِ لِلْمُتَعَجِّلِ وَالْمُتَأَخِّرِ بِشَرْطِ التَّقْوَى
ثُمَّ من أَهْلِ التَّأْوِيلِ من صَرَفَ التَّقْوَى إلَى الِاتِّقَاءِ عن قَتْلِ
الصَّيْدِ في الْإِحْرَامِ أَيْ لِمَنْ اتَّقَى قَتْلَ الصَّيْدِ في حَالِ
الْإِحْرَامِ وَصَرَفَ
أَيْضًا قَوْله تَعَالَى { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أَيْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا
تَسْتَحِلُّوا قَتْلَ الصَّيْدِ في الْإِحْرَامِ وَمِنْهُمْ من صَرَفَ التَّقْوَى
إلَى الِاتِّقَاءِ عن الْمَعَاصِي كُلِّهَا في الْحَجِّ وَفِيمَا بَقِيَ من
عُمُرِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ منه التَّقْوَى عَمَّا حُظِرَ عليه
الْإِحْرَامُ من الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ وَغَيْرِهَا وَاَللَّهُ
تعالى أَعْلَمُ
وَإِنَّمَا يَجُوزُ له النَّفْرُ في الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ ما لم
يَطْلُعْ الْفَجْرُ من الْيَوْمِ الثَّانِي فإذا طَلَعَ الْفَجْرُ لم يَجُزْ له
النَّفْرُ
وَأَمَّا وَقْتُ الرَّمْيِ من الْيَوْمِ الثَّالِثِ من أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وهو
الْيَوْمُ الرَّابِعُ من أَيَّامِ الرَّمْيِ فَالْوَقْتُ الْمُسْتَحَبُّ له بَعْدَ
الزَّوَالِ وَلَوْ رَمَى قبل الزَّوَالِ يَجُوزُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وفي
قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عن جَابِرٍ
رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم رَمَى الْجَمْرَةَ يوم
النَّحْرِ ضُحًى وَرَمَى في بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَأَوْقَاتُ
الْمَنَاسِكِ لَا تُعْرَفُ قِيَاسًا فَدَلَّ أَنَّ وَقْتَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ
وَلِأَنَّ هذا يَوْمٌ من أَيَّامِ الرَّمْيِ فَكَانَ وَقْتُ الرَّمْيِ فيه بَعْدَ
الزَّوَالِ كَالْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ من أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال
إذَا اُفْتُتِحَ النَّهَارُ من آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ جَازَ الرَّمْيُ
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَهُ سَمَاعًا من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إذْ هو
بَابٌ لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فَصَارَ الْيَوْمُ الْأَخِيرُ من
أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَخْصُوصًا من حديث جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه بهذا الحديث أو
يُحْمَلُ فِعْلُهُ في الْيَوْمِ الْأَخِيرِ على الِاسْتِحْبَابِ وَلِأَنَّ له أَنْ
يَنْفِرَ قبل الرَّمْيِ وَيَتْرُكَ الرَّمْيَ في هذا الْيَوْمِ رَأْسًا فإذا جَازَ
له تَرْكُ الرَّمْيِ أَصْلًا فَلَأَنْ يَجُوزَ له الرَّمْيُ قبل الزَّوَالِ
أَوْلَى وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا مَكَانُ الرَّمْيِ فَفِي يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ جَمْرَةِ
الْعَقَبَةِ وفي الْأَيَّامِ الْأُخَرِ عِنْدَ ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ عِنْدَ
الْجَمْرَةِ الْأُولَى وَالْوُسْطَى وَالْعَقَبَةِ وَيُعْتَبَرُ في ذلك كُلِّهِ
مَكَانُ وُقُوعِ الْجَمْرَةِ لَا مَكَانُ الرَّمْيِ حتى لو رَمَاهَا من مَكَان
بَعِيدٍ فَوَقَعَتْ الْحَصَاةُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لم تَقَعْ
عِنْدَهُ لم تُجْزِهَا إلَّا إذَا وَقَعَتْ بِقُرْبٍ منها لِأَنَّ ما يَقْرُبُ من
ذلك الْمَكَانِ كان في حُكْمِهِ لِكَوْنِهِ تَبَعًا له وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْكَلَامُ في عَدَدِ الْجِمَارِ وَقَدْرِهَا وَجِنْسِهَا
وَمَأْخَذِهَا وَمِقْدَارِ ما يُرْمَى كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ كل مَوْضِعٍ وَكَيْفِيَّةِ
الرَّمْيِ وما يُسَنُّ في ذلك وما يُسْتَحَبُّ وما يُكْرَهُ فَيَأْتِي إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى في بَيَانِ سُنَنِ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِهِ إذَا تَأَخَّرَ عن وَقْتِهِ أو فَاتَ فَنَقُولُ
إذَا تَرَكَ من جِمَارِ يَوْمِ النَّحْرِ حَصَاةً أو حَصَاتَيْنِ أو ثَلَاثًا إلَى
الْغَدِ فانه يَرْمِي ما تَرَكَ أو يَتَصَدَّقُ لِكُلِّ حَصَاةٍ نِصْفَ صَاعٍ من
حِنْطَةٍ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ قَدْرُ الطَّعَامِ دَمًا فَيُنْقِصُ ما شَاءَ وَلَا
____________________
(2/138)
يَبْلُغُ
دَمًا وَالْأَصْلُ أَنَّ ما يَجِبُ في جَمِيعِهِ دَمٌ يَجِبُ في أَقَلِّهِ
صَدَقَةٌ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهَهُنَا لو تَرَكَ جَمِيعَ
الرَّمْيِ إلَى الْغَدِ كان عليه دَمٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فإذا تَرَكَ أَقَلَّهُ
تَجِبُ عليه الصَّدَقَةُ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ دَمًا لِمَا نَذْكُرُ وَإِنْ تَرَكَ
الْأَكْثَرَ منها فَعَلَيْهِ دَمٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ في جَمِيعِهِ
دَمٌ عِنْدَهُ فَكَذَا في أَكْثَرِهِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ في جَمِيعِهِ دَمٌ فَكَذَا في
أَكْثَرِهِ فَإِنْ تَرَكَ رمى أَحَدِ الْجِمَارِ الثَّلَاثِ من الْيَوْمِ
الثَّانِي فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِأَنَّهُ تَرَكَ أَقَلَّ وَظِيفَةِ الْيَوْمِ وهو
رَمْيُ سَبْعِ حَصَيَاتٍ فَكَانَ عليه صَدَقَةً إلَى أَنْ يَصِيرَ الْمَتْرُوكُ
أَكْثَرَ من نِصْفِ الْوَظِيفَةِ لِأَنَّ وَظِيفَةَ كل يَوْمٍ ثَلَاثُ جِمَارٍ
فَكَانَ رَمْيُ جَمْرَةٍ منها أَقَلَّهَا
وَلَوْ تَرَكَ الْكُلَّ وهو الْجِمَارُ الثَّلَاثُ فيه لَلَزِمَهُ عِنْدَهُ دَمٌ
فَيَجِبُ في أَقَلِّهَا الصَّدَقَةُ بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وهو يَوْمُ
النَّحْرِ إذَا تَرَكَ الْجَمْرَةَ فيه وهو سَبْعُ حَصَيَاتٍ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ
دَمٌ عِنْدَهُ لِأَنَّ سَبْعَ حَصَيَاتٍ كُلُّ وَظِيفَةِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ
فَكَانَ تَرْكُهُ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ كل وَظِيفَةِ الْيَوْمِ الثَّانِي
وَالثَّالِثِ وَذَلِكَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ حَصَاةً وَتَرْكُ ثَلَاثِ حَصَيَاتٍ فيه
بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ جَمْرَةٍ تَامَّةٍ من الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ
وَهِيَ سَبْعُ حَصَيَاتٍ فَإِنْ تَرَكَ الرَّمْيَ كُلَّهُ في سَائِرِ الْأَيَّامِ
إلَى آخِرِ أَيَّامِ الرَّمْيِ وهو الْيَوْمُ الرَّابِعُ فإنه يَرْمِيهَا فيه على التَّرْتِيبِ
وَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا دَمَ عليه لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ
الرَّمْيَ مُؤَقَّتٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا ليس بِمُؤَقَّتٍ
ثُمَّ على قَوْلِهِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا دَمٌ وَاحِدٌ وَإِنْ كان تَرْكُ وطيفة (
( ( وظيفة ) ) ) يَوْمٍ وَاحِدٍ بِانْفِرَادِهِ يُوجِبُ دَمًا وَاحِدًا وَمَعَ ذلك
لَا يَجِبُ عليه لِتَأْخِيرِ الْكُلِّ إلَّا دَمٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ جِنْسَ
الْجِنَايَةِ وَاحِدٌ حَظْرُهَا إحْرَامٌ وَاحِدٌ من جِهَةٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمَةٍ
فَيَكْفِيهَا دَمٌ وَاحِدٌ كما لو حَلَقَ الْمُحْرِمُ رُبْعَ رَأْسِهِ أَنَّهُ
يَجِبُ عليه دَمٌ وَاحِدٌ وَلَوْ حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ يَلْزَمُهُ دَمٌ وَاحِدٌ
أَيْضًا وَكَذَا لو طَيَّبَ عُضْوًا وَاحِدًا أو طَيَّبَ أَعْضَاءَهُ كُلَّهَا أو
لَبِسَ ثَوْبًا وَاحِدًا أو لَبِسَ ثِيَابًا كَثِيرَةً لَا يَلْزَمُهُ في ذلك كُلِّهِ
إلَّا دَمٌ وَاحِدٌ كَذَا هَهُنَا
بِخِلَافِ ما إذَا قَتَلَ صَيُودًا أَنَّهُ يَجِبُ عليه لِكُلِّ صَيْدٍ جَزَاؤُهُ
على حِدَةٍ لِأَنَّ الْجِهَةَ هُنَاكَ مُتَقَوِّمَةٌ فَإِنْ تَرَكَ الْكُلَّ حتى
غَرَبَتْ الشَّمْسُ من آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وهو آخِرُ أَيَّامِ الرَّمْيِ
يَسْقُطُ عنه الرَّمْيُ وَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ في قَوْلِهِمْ جميعا أَمَّا
سُقُوطُ الرَّمْيِ فَلِأَنَّ الرَّمْيَ عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ وَالْأَصْلُ في
الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ إذَا فَاتَ وَقْتُهَا أَنْ تَسْقُطَ وَإِنَّمَا
الْقَضَاءُ في بَعْضِ الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ يَجِبُ بِدَلِيلٍ مُبْتَدَأٍ
ثُمَّ إنَّمَا وَجَبَ هُنَاكَ لِمَعْنًى لَا يُوجَدُ هَهُنَا وهو أَنَّ الْقَضَاءَ
صَرَفَ ماله إلَى ما عليه فَيَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ جِنْسُ الْفَائِتِ
مَشْرُوعًا في وَقْتِ الْقَضَاءِ فَيُمْكِنَهُ صَرْفُ ماله إلَى ما عليه وَهَذَا
لَا يُوجَدُ في الرَّمْيِ لِأَنَّهُ ليس في غَيْرِ هذه الْأَيَّامِ رَمْيٌ
مَشْرُوعٌ على هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ لِيَصْرِفَ ماله إلَى ما عليه فَتَعَذَّرَ
الْقَضَاءُ فَسَقَطَ ضَرُورَةً
وَنَظِيرُ هذا إذَا فَاتَتْهُ صَلَاةٌ في أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا في
غَيْرِهَا إنه يَقْضِيهَا بِلَا تَكْبِيرٍ لِأَنَّهُ ليس في وَقْتِ الْقَضَاءِ
تَكْبِيرٌ مَشْرُوعٌ لِيَصْرِفَ ماله إلَى ما عليه فَسَقَطَ أَصْلًا كَذَا هذا
وَأَمَّا وُجُوبُ الدَّمِ فَلِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ عن وَقْتِهِ أَمَّا عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ رَمْيَ كل يَوْمٍ مُؤَقَّتٌ وَعِنْدَهُمَا إنْ لم
يَكُنْ مُؤَقَّتًا فَهُوَ مُؤَقَّتٌ بِأَيَّامِ الرَّمْيِ فَقَدْ تَرَكَ
الْوَاجِبَ عن وَقْتِهِ فَإِنْ تَرَكَ التَّرْتِيبَ في الْيَوْمِ الثَّانِي
فَبَدَأَ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَرَمَاهَا ثُمَّ بِالْوُسْطَى ثُمَّ بِاَلَّتِي
تَلِي الْمَسْجِدَ ثُمَّ ذَكَرَ ذلك في يَوْمِهِ فإنه يَنْبَغِي أَنْ يُعِيدَ
الْوُسْطَى وَجَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَإِنْ لم يُعِدْ أَجْزَأَهُ وَلَا يُعِيدُ
الْجَمْرَةَ الْأُولَى
أَمَّا إعَادَةُ الْوُسْطَى وَجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَلِتَرْكِهِ التَّرْتِيبَ
فإنه مَسْنُونٌ لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم رَتَّبَ فإذا تَرَكَ
الْمَسْنُونَ تُسْتَحَبُّ الْإِعَادَةُ وَلَا يُعِيدُ الْأُولَى لِأَنَّهُ إذَا
أَعَادَ الْوُسْطَى وَالْعَقَبَةَ صَارَتْ هِيَ الْأُولَى وَإِنْ لم يُعِدْ
الْوُسْطَى وَالْعَقَبَةَ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ الرَّمَيَاتِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ
يَنْفَرِدَ بَعْضُهَا من بَعْضٍ بِدَلِيلِ أَنَّ يوم النَّحْرِ يرمي فيه جَمْرَةُ
الْعَقَبَةِ وَلَا يرمي غَيْرُهَا من الْجِمَارِ وَفِيمَا جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ
الْبَعْضُ من الْبَعْضِ لَا يُشْتَرَطُ فيه التَّرْتِيبُ كَالْوُضُوءِ
بِخِلَافِ تَرْتِيبِ السَّعْيِ على الطَّوَافِ أَنَّهُ شَرْطٌ لِأَنَّ السَّعْيَ
لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ عن الطَّوَافِ بِحَالٍ فَإِنْ رَمَى كُلَّ جَمْرَةٍ
بِثَلَاثِ حَصَيَاتٍ ثُمَّ ذَكَرَ ذلك فإنه يَبْدَأُ فَيَرْمِي الْأُولَى
بِأَرْبَعِ حَصَيَاتٍ حتى يُتِمَّ ذلك لِأَنَّ رَمْيَ تِلْكَ الْجَمْرَةِ غَيْرُ
مُرَتَّبٍ على غَيْرِهِ فَيَجِبُ عليه أَنْ يُتِمَّ ذلك بِأَرْبَعِ حَصَيَاتٍ
ثُمَّ يُعِيدُ الْوُسْطَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ لِأَنَّ قَدْرَ ما فَعَلَ حَصَلَ قبل
الْأُولَى فَيُعِيدُ مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو فَعَلَ الْكُلَّ يُعِيدُ فإذا رَمَى الثَّلَاثَ أَوْلَى
أَنْ يُعِيدَ وَكَذَلِكَ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ فَإِنْ كان قد رَمَى كُلَّ
وَاحِدَةٍ بِأَرْبَعِ حَصَيَاتٍ فإنه يَرْمِي كُلَّ وَاحِدَةٍ بِثَلَاثٍ ثَلَاثٌ
لِأَنَّ الْأَرْبَعَ أَكْثَرُ الرَّمْيِ فَيَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فَصَارَ
كَأَنَّهُ ذرتب ( ( ( رتب ) ) ) الثَّانِيَ
____________________
(2/139)
على
رَمْيٍ كَامِلٍ وَكَذَا الثَّالِثُ وَإِنْ اسْتَقْبَلَ رَمْيَهَا فَهُوَ أَفْضَلُ
لِيَكُونَ الرَّمْيُ في الثَّلَاثِ الْبَوَاقِي على أوجه ( ( ( الوجه ) ) )
الْمَسْنُونِ وهو التَّرْتِيبُ وَلَوْ نَقَصَ حَصَاةً لَا يَدْرِي من أَيَّتِهِنَّ
نَقَصَهَا أَعَادَ على كل واحدة مِنْهُنَّ حصاة حَصَاةً إسْقَاطًا لِلْوَاجِبِ عن
نَفْسِهِ بِيَقِينٍ كَمَنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً من الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ
لَا يَدْرِي أَيَّتَهَا هِيَ أَنَّهُ يُعِيدُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ لِيَخْرُجَ عن
الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ كَذَا هذا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْحَلْقُ أو التَّقْصِيرُ فَالْكَلَامُ فيه يَقَعُ في وُجُوبِهِ
وفي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ وفي بَيَانِ زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ وفي بَيَانِ
حُكْمِهِ إذَا وُجِدَ وفي بَيَانِ حُكْمِ تَأَخُّرِهِ عن وَقْتِهِ وَفِعْلِهِ في
غَيْرِ مَكَانِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْحَلْقُ أو التَّقْصِيرُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا إذَا كان على رَأْسه
شَعْرٌ لَا يَتَحَلَّلُ بِدُونِهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ليس بِوَاجِبٍ
وَيَتَحَلَّلُ من الْحَجِّ بِالرَّمْيِ وَمِنْ الْعُمْرَةِ بِالسَّعْيِ احْتَجَّ
بما ( ( ( عما ) ) ) روى عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ عُمَرَ رضي
اللَّهُ عنه خَطَبَ بِعَرَفَةَ وَعَلَّمَهُمْ أَمْرَ الْحَجِّ فقال لهم إذَا
جِئْتُمْ مِنًى فَمَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ له ما حُرِّمَ على
الْحَاجِّ إلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ حتى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } وروى عن ابْنِ عُمَرَ رضي
اللَّهُ عنه أَنَّ التَّفَثَ حِلَاقُ الشَّعْرِ وَلُبْسُ الثِّيَابِ وما يَتْبَعُ
ذلك وهو قَوْلُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أنه حَلْقُ الرَّأْسِ وَقَصُّ الأظافير ( ( (
الأظافر ) ) ) وَالشَّارِبِ وَلِأَنَّ التَّفَثَ في اللُّغَةِ الْوَسَخُ يُقَالُ
امْرَأَةٌ تَفِثَةٌ إذَا كانت خَبِيثَةَ الرَّائِحَةِ وقَوْله تَعَالَى { لقد
صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمَنِينَ مُحَلِّقِينَ رؤوسكم وَمُقَصِّرِينَ }
قِيلَ في بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ إنَّ قَوْلَهُ لَتَدْخُلُنَّ خَبَرٌ
بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ أَيْ اُدْخُلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ
شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رؤسكم وَمُقَصِّرِينَ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ
الدُّخُولِ بِصِفَةِ الْحَلْقِ أو التَّقْصِير لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ
الْعَمَلِ وَالِاسْتِثْنَاءُ على هذا التَّأْوِيلِ يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ {
آمِنِينَ } أَيْ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَأْمَنُوا تَدْخُلُوا وَإِنْ شَاءَ لَا
تَأْمَنُوا لَا تَدْخُلُونَهُ
وَإِنْ كانت الْآيَةُ على الأخبار وَالْوَعْدِ على ما يَقْتَضِيه ظَاهِرُ الصِّيغَةِ
فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُخْبَرُ بِهِ على ما أَخْبَرَ وهو دُخُولُهُمْ
مُحَلِّقِينَ وَمُقَصِّرِينَ وَذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِاخْتِيَارِهِمْ وقد يُوجَدُ
وقد لَا يُوجَدْ فَلَا بُدَّ من الدُّخُولِ لِيَكُونَ الْوُجُوبُ حَامِلًا لهم على
التَّحْصِيلِ فَيُوجَدَ الْمُخْبَرُ بِهِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا فَالِاسْتِثْنَاءُ
على هذا التَّأْوِيلِ يَكُونُ على طَرِيقِ التَّيَمُّنِ وَالتَّبَرُّكِ بِاسْمِ
اللَّهِ تَعَالَى أو يَرْجِعُ إلَى دُخُولِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ لِجَوَازِ
أَنْ يَمُوتَ الْبَعْضُ أو يُمْنَعَ بِمَانِعٍ فَيُحْمَلَ عليه لِئَلَّا يُؤَدِّيَ
إلَى الْخُلْفِ في الْخَبَرِ وَقَوْلُهُ { مُحَلِّقِينَ رؤوسكم وَمُقَصِّرِينَ }
أَيْ بَعْضُكُمْ مُحَلِّقِينَ وَبَعْضُكُمْ مُقَصِّرِينَ لِإِجْمَاعِنَا على
أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بين الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ فَدَلَّ أَنَّ الْحَلْقَ أو
التَّقْصِيرَ وَاجِبٌ لَكِنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا
وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً وَاحِدَةً
فقال اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ فَقِيلَ له والمصرين ( ( ( والمقصرين )
) ) فقال اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ فَقِيلَ له وَالْمُقَصِّرِينَ فقال
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ وَالْمُقَصِّرِينَ وَلِأَنَّ في الْحَلْقِ
تَقْصِيرًا وَزِيَادَةً وَلَا حَلْقَ في التَّقْصِيرِ أَصْلًا فَكَانَ الْحَلْقُ
أَفْضَلَ
وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فَيُضْمَرُ فيه الْحَلْقُ أو
التَّقْصِيرُ مَعْنَاهُ فَمَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ وَحَلَقَ أو قَصَّرَ فَقَدْ
حَلَّ وَيَجِبُ حَمْلُهُ على هذا لِيَكُونَ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ
هذا إذَا كان على رَأْسِهِ شَعْرٌ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ أَجَرَى الْمُوسَى على
رَأْسِهِ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قال من جاءه ( ( ( جاء ) ) ) يوم
النَّحْرِ ولم يَكُنْ على رَأْسِهِ شَعْرٌ أَجْرَى الْمُوسَى على رَأْسِهِ
وَالْقُدُورِيُّ رَوَاهُ مَرْفُوعًا إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَلِأَنَّهُ إذَا عجزوا ( ( ( عجز ) ) ) عن تَحْقِيقِ الْحَلْقِ فلم يَعْجِزْ عن
التَّشَبُّهِ بِالْحَالِقِينَ وقد قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من تَشَبَّهَ
بِقَوْمٍ فَهُوَ منهم فَإِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ بِالنُّورَةِ أَجْزَأَهُ وَالْمُوسَى
أَفْضَلُ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وهو إزَالَةُ الشَّعْرِ
وَأَمَّا أَفْضَلِيَّةُ الْحَلْقِ بِالْمُوسَى فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {
مُحَلِّقِينَ رؤوسكم } وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْحَلْقِ يَقَعُ على الْحَلْقِ
بِالْمُوسَى وَكَذَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حَلَقَ بِالْمُوسَى وكان
يَخْتَارُ من الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا
وَهَذَا إذَا لم يَكُنْ مُحْصَرًا فَأَمَّا الْمُحْصَرُ فَلَا حَلْقَ عليه في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ عليه الْحَلْقُ
وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في بَيَانِ أَحْكَامِ
الْإِحْصَارِ وَلَوْ وَجَبَ عليه الْحَلْقُ أو ( ( ( والتقصير ) ) ) التقصير
فَغَسَلَ رَأْسَهُ بالخطمى مَقَامَ الْحَلْقِ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَعَلَيْهِ
الدَّمُ لِغَسْلِ رَأْسِهِ بالخطمى في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وفي قَوْلِ أبي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا دَمَ عليه ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ الْخِلَافَ
وقال الْجَصَّاصُ لَا أَعْرِفُ فيه خِلَافًا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ
الدَّمُ لِأَنَّ الْحَلْقَ أو التَّقْصِيرَ وَاجِبٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَقَعُ
التَّحَلُّلُ إلَّا بِأَحَدِهِمَا ولم
____________________
(2/140)
يُوجَدْ
فَكَانَ إحْرَامُهُ بَاقِيًا فإذا غَسَلَ رَأْسَهُ بالخطمى فَقَدْ أَزَالَ
التَّفَثَ في حَالِ قِيَامِ الْإِحْرَامِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
وَلَا حَلْقَ على الْمَرْأَةِ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه عن
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ليس على النِّسَاءِ حَلْقٌ وَإِنَّمَا
عَلَيْهِنَّ تَقْصِيرٌ وَرَوَتْ عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم أنه نهى الْمَرْأَةَ أَنْ تَحْلِقَ رَأْسَهَا
وَلِأَنَّ الْحَلْقَ في النِّسَاءِ مُثْلَةٌ وَلِهَذَا لم تَفْعَلْهُ وَاحِدَةٌ من
نِسَاءِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَكِنَّهَا تُقَصِّرُ فَتَأْخُذُ من
أَطْرَافِ شَعْرِهَا قَدْرَ أُنْمُلَةٍ لِمَا رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه
أَنَّهُ سُئِلَ فَقِيلَ له كَمْ يقصر ( ( ( تقصر ) ) ) الْمَرْأَةُ فقال هذه
وَأَشَارَ إلَى أُنْمُلَتِهِ
ولي ( ( ( وليس ) ) ) على الْحَاجِّ إذَا حَلَقَ أَنْ يَأْخُذَ من لِحْيَتِهِ شيئا
وقال الشَّافِعِيُّ إذَا حَلَقَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ من لِحْيَتِهِ شيئا
لِلَّهِ تَعَالَى وَهَذَا ليس بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْوَاجِبَ حَلْقُ الرَّأْسِ
بِالنَّصِّ الذي تَلَوْنَا وَلِأَنَّ حل ( ( ( حلق ) ) ) اللِّحْيَةِ من بَابِ
الْمُثْلَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَيَّنَ الرِّجَالَ بِاللِّحَى وَالنِّسَاءَ
بِالذَّوَائِبِ على ما رُوِيَ في الحديث أن لِلَّهِ تَعَالَى مَلَائِكَةً تَسْبِيحُهُمْ
سُبْحَانَ من زَيَّنَ الرِّجَالَ بِاللِّحَى وَالنِّسَاءَ بِالذَّوَائِبِ
وَلِأَنَّ ذلك تَشَبُّهٌ بِالنَّصَارَى فَيُكْرَهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فَأَمَّا الْحَلْقُ فَالْأَفْضَلُ حَلْقُ
جَمِيعِ الرَّأْسِ لِقَوْلِهِ عز وجل { مُحَلِّقِينَ رؤوسكم } وَالرَّأْسُ اسْمٌ
لللجميع ( ( ( للجميع ) ) ) وَكَذَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ فإنه رُوِيَ أَنَّهُ رَمَى ثُمَّ ذَبَحَ ثُمَّ
دَعَا بِالْحَلَّاقِ فَأَشَارَ إلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فخلقه ( ( ( فحلقه ) ) )
وَفَرَّقَ شَعْرَهُ بين الناس ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْأَيْسَرِ فَحَلَقَهُ
وَأَعْطَاهُ لِأُمِّ سُلَيْمٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ قال صلى اللَّهُ عليه وسلم أَوَّلُ
نُسُكِنَا في يَوْمِنَا هذا الرَّمْيُ ثُمَّ الذَّبْحُ ثُمَّ الْحَلْقُ
وَالْحَلْقُ الْمُطْلَقُ يَقَعُ على حَلْقِ جَمِيعِ الرَّأْسِ وَلَوْ حَلَقَ
بَعْضَ الرَّأْسِ فَإِنْ حَلَقَ أَقَلَّ منن الرُّبْعِ لم يُجْزِهِ وَإِنْ حَلَقَ
رُبْعَ الرَّأْسِ أَجْزَأَهُ وَيُكْرَهُ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّ رُبْعَ
الرَّأْسِ يَقُومُ مَقَامَ كُلِّهِ في الْقُرَبِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرَّأْسِ
كَمَسْحِ رُبْعِ الرَّأْسِ في بَابِ الْوُضُوءِ
وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِأَنَّ الْمَسْنُونَ هو حَلْقُ جَمِيعِ الرَّأْسِ لِمَا
ذَكَرْنَا وَتَرْكُ الْمَسْنُونِ مَكْرُوهٌ وَأَمَّا التَّقْصِيرُ فَالتَّقْدِيرُ
فيه بِالْأُنْمُلَةِ لِمَا رَوَيْنَا من حديث عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه لَكِنَّ
أَصْحَابَنَا قالوا يَجِبُ أَنْ يَزِيدَ في التَّقْصِيرِ على قَدْرِ الْأُنْمُلَةِ
لِأَنَّ الْوَاجِبَ هذا الْقَدْرُ من أَطْرَافِ جَمِيعِ الشَّعْرِ وَأَطْرَافُ
جَمِيعِ الشَّعْرِ لَا يَتَسَاوَى طُولُهَا عَادَةً بَلْ تَتَفَاوَتُ فَلَوْ
قَصَّرَ قَدْرَ الْأُنْمُلَةِ لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا قَدْرَ الْأُنْمُلَةِ من
جَمِيعِ الشَّعْرِ بَلْ من بَعْضِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَزِيدَ عليه حتى يَسْتَيْقِنَ
بِاسْتِيفَاءِ قَدْرِ الْوَاجِبِ فَيَخْرُجُ عن الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ فَزَمَانُهُ أَيَّامُ النَّحْرِ
وَمَكَانُهُ الْحَرَمُ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ أن الْحَلْقَ يَخْتَصُّ
بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وقال أبو يُوسُفَ لَا يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ وَلَا
بِالْمَكَانِ وقال مُحَمَّدٌ يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ ولا بِالزَّمَانِ وقال زُفَرُ
يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ لَا بِالْمَكَانِ حتى لو أَخَّرَ الْحَلْقَ عن أَيَّامِ
النَّحْرِ أو حَلَقَ خَارِجَ الْحَرَمِ يَجِبُ عليه الدَّمُ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا دَمَ عليه فِيهِمَا جميعا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
يَجِبُ عليه الدَّمُ في الْمَكَانِ وَلَا يَجِبُ في اللزمان ( ( ( الزمان ) ) )
وَعِنْدَ زُفَرَ يَجِبُ في الزَّمَانِ وَلَا يَجِبُ في الْمَكَانِ
احْتَجَّ زُفَرُ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حَلَقَ
عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْحَلْقِ وَحُدَيْبِيَةُ من
الْحِلِّ فَلَوْ اخْتَصَّ بِالْمَكَانِ وهو الْحَرَمُ لَمَا جَازَ في غَيْرِهِ
وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَمَا فَعَلَ بِنَفْسِهِ وَلَمَا أَمَرَ أَصْحَابَهُ فَدَلَّ
أَنَّ الْحَلْقَ لَا يَخْتَصُّ جَوَازُهُ بِالْمَكَانِ وهو الْحَرَمُ وَهَذَا
أَيْضًا حُجَّةُ أبي يُوسُفَ في الْمَكَانِ
وَلِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ في أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ ما رُوِيَ
أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال حَلَقْتُ قبل
أَنْ أَذْبَحَ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ وَجَاءَهُ آخَرُ
فقال ذَبَحْتُ قبل أَنْ أَرْمِيَ فقال ارْمِ وَلَا حَرَجَ فما سُئِلَ في ذلك
الْيَوْمِ عن تَقْدِيمِ نُسُكٍ وَتَأْخِيرِهِ إلَّا قال افْعَلْ وَلَا حَرَجَ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم حَلَقَ في أَيَّامِ النَّحْرِ
في الْحَرَمِ فَصَارَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِمُطْلَقِ الْكِتَابِ وَيَجِبُ عليه
بِتَأْخِيرِهِ دَمٌ عِنْدَهُ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْوَاجِبِ بِمَنْزِلَةِ التَّرْكِ
في حَقِّ وُجُوبِ الْجَابِرِ لِمَا ذَكَرْنَا في طَوَافِ الزِّيَارَةِ
وَأَمَّا حَدِيثُ الْحُدَيْبِيَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ
بَعْضُهَا من الْحِلِّ وَبَعْضُهَا من الْحَرَمِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ حَلَقُوا
في الْحَرَمِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ مع ما أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان نَزَلَ بِالْحُدَيْبِيَةِ في الْحِلِّ وكان
يُصَلِّي في الْحَرَمِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لم يَحْلِقْ في الْحِلِّ وَلَهُ
سَبِيلُ الْحَلْقِ في الْحَرَمِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَنَقُولُ بِمُوجَبِهِ أنه لَا حَرَجَ في
التَّأْخِيرِ عن الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وهو الْإِثْمُ لَكِنَّ انْتِفَاءَ
الْإِثْمِ لَا يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْكَفَّارَةِ كما في كَفَّارَةِ الْحَلْقِ
عِنْدَ الْأَذَى وَكَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَأِ وَلَوْ لم يَحْلِقْ حتى خَرَجَ من
الْحَرَمِ ثُمَّ عَادَ إلَى الْحَرَمِ فَحَلَقَ أو قَصَّرَ فَلَا دَمَ عليه
لِوُجُودِ الشَّرْطِ على قَوْلِ من يَجْعَلُ الْمَكَانَ شَرْطًا
____________________
(2/141)
فَصْلٌ
وَأَمَّا حُكْمُ الْحَلْقِ فَحُكْمُهُ حُصُولُ التَّحَلُّلِ وهو صَيْرُورَتُهُ
حَلَالًا يُبَاحُ له جَمِيعُ ما حَظَرَ عليه الْإِحْرَامُ إلَّا النِّسَاءَ
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا
وقال مَالِكٌ إلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ وقال اللَّيْثُ إلَّا النِّسَاءَ
وَالصَّيْدَ
وقال الشَّافِعِيُّ يَحِلُّ له بِالْحَلْقِ الْوَطْءُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ
وَالْمُبَاشَرَةِ احْتَجَّ مَالِكٌ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال إذَا حَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ
وَالطِّيبَ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها عن
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من رَمَى ثُمَّ ذَبَحَ ثُمَّ حَلَقَ
فَقَدْ حَلَّ له كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ على الْكُلِّ
لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَخْبَرَ أَنَّهُ حَلَّ له كُلُّ شَيْءٍ
وَاسْتَثْنَى النِّسَاءَ فَبَقِيَ الطِّيبُ وَالصَّيْدُ دَاخِلَيْنِ تَحْتَ نَصِّ
المستنثى ( ( ( المستثنى ) ) ) منه وهو إحْلَالُ ما سِوَى النِّسَاءِ وَخَرَجَ
الْوَطْءُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَالْمُبَاشَرَةِ عن الْإِحْلَالِ بِنَصِّ
الِاسْتِثْنَاءِ
وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فقد ( ( ( فقيل ) ) ) قيل أنه لَمَّا بَلَغَ عَائِشَةَ
رضي اللَّهُ تعالى عنها قالت يَغْفِرُ اللَّهُ لِهَذَا الشَّيْخِ لقد طَيَّبْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حين حَلَقَ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ تَأْخِيرِهِ عن زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ فَوُجُوبُ الدَّمِ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ خَالَفَهُ في الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ
وَمُحَمَّدٌ وَافَقَهُ في الْمَكَانِ لَا في الزَّمَانِ وَزُفَرُ وَافَقَهُ في
الزَّمَانِ لَا في الْمَكَانِ على ما ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا طَوَافُ الصَّدْرِ فَالْكَلَامُ فيه يَقَعُ في مَوَاضِعَ في
بَيَانِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِهِ وفي بَيَانِ قَدْرِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ
وما يُسَنُّ له أَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدَ فَرَاغِهِ منه وفي بَيَانِ وَقْتِهِ وفي
بَيَانِ مَكَانِهِ وَحُكْمِهِ إذَا نَفَرَ ولم يَطُفْ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَطَوَافُ الصَّدْرِ وَاجِبٌ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ
سُنَّةٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ مَبْنِيٌّ على أَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بين الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ
وَلَيْسَ بِفَرْضٍ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا لَكِنَّهُ سُنَّةٌ
لِفِعْلِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إيَّاهُ على الْمُوَاظَبَةِ وأنه
دَلِيلُ السُّنَّةِ ثُمَّ دَلِيلُ عَدَمِ الْوُجُوبِ أَنَّا أَجْمَعنَا على
أَنَّهُ لَا يَجِبُ على الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَلَوْ كان وَاجِبًا لَوَجَبَ
عَلَيْهِمَا كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ وَنَحْنُ نُفَرِّقُ بين الْفَرْضِ
وَالْوَاجِبِ على ما عُرِفَ وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَنَّهُ قال من حَجَّ هذا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِهِ
الطَّوَافَ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ إلَّا أَنَّ الْحَائِضَ
خُصَّتْ عن هذا الْعُمُومِ بِدَلِيلٍ وهو ما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ تَرْكَ طَوَافِ الصَّدْرِ لِعُذْرِ الْحَيْضِ
ولم يَأْمُرْهُنَّ بِإِقَامَةِ شَيْءٍ آخَرَ مَقَامَهُ وهو الدَّمُ وَهَذَا أَصْلٌ
عِنْدَنَا في كل نُسُكٍ جَازَ تَرْكُهُ لِعُذْرٍ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ من
الْمَعْذُورِ كَفَّارَةٌ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُهُ فَبَعْضُهَا شَرَائِطُ والوجوب ( ( ( الوجوب ) ) )
وَبَعْضُهَا شَرَائِطُ الْجَوَازِ أَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَمِنْهَا أَنْ
يَكُونَ من أَهْلِ الْآفَاقِ فَلَيْسَ على أَهْلِ مَكَّةَ وَلَا من كان مَنْزِلُهُ
دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ إلَى مَكَّةَ طَوَافُ الصَّدْرِ إذَا حَجُّوا لِأَنَّ هذا
الطَّوَافَ إنَّمَا وَجَبَ تَوْدِيعًا لِلْبَيْتِ وَلِهَذَا يُسَمَّى طَوَافَ
الْوَدَاعِ وَيُسَمَّى طَوَافَ الصَّدْرِ لِوُجُودِهِ عِنْدَ صُدُورِ الْحُجَّاجِ
وَرُجُوعِهِمْ إلَى وَطَنِهِمْ وَهَذَا لَا يُوجَدُ في أَهْلِ مَكَّةَ لِأَنَّهُمْ
في وَطَنِهِمْ وَأَهْلُ دَاخِلِ الْمَوَاقِيتِ في حُكْمِ أَهْلِ مَكَّةَ فَلَا
يَجِبُ عليهم كما لَا يَجِبُ على أَهْلِ مَكَّةَ
وقال أبو يُوسُفَ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَطُوفَ الْمَكِّيُّ طَوَافَ الصَّدْرِ
لِأَنَّهُ وُضِعَ لِخَتْمِ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ في
أَهْلِ مَكَّةَ
وَلَوْ نَوَى الْآفَاقِيُّ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ أَبَدًا بِأَنْ تَوَطَّنَ بها
وَاِتَّخَذَهَا دَارًا فَهَذَا لَا يحلو ( ( ( يخلو ) ) ) من أَحَدِ وَجْهَيْنِ
إمَّا إن نَوَى الْإِقَامَةَ بها قبل أَنْ يَحِلَّ النَّفْرُ الْأَوَّلُ وَإِمَّا
إن نَوَى بعدما حَلَّ النَّفْرُ الْأَوَّلُ فَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ قبل أَنْ
يَحِلَّ النَّفْرُ الْأَوَّلُ سَقَطَ عنه طَوَافُ الصَّدْرِ أَيْ لَا يَجِبُ عليه
بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ نَوَى بعدما حَلَّ النَّفْرُ الْأَوَّلُ لَا يَسْقُطُ وَعَلَيْهِ
طَوَافُ الصَّدْرِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ يَسْقُطُ عنه إلَّا
إذَا كان شَرَعَ فيه
وَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا نَوَى الْإِقَامَةَ صَارَ كَوَاحِدٍ من أَهْلِ
مَكَّةَ وَلَيْسَ على أَهْلِ مَكَّةَ طَوَافُ الصَّدْرِ إلَّا إذَا شَرَعَ فيه
لِأَنَّهُ وَجَبَ عليه بِالشُّرُوعِ فَلَا يَجُوزُ له تَرْكُهُ بَلْ يَجِبُ عليه
الْمُضِيُّ فيه
وَوَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا حَلَّ له النَّفْرُ فَقَدْ وَجَبَ
عليه الطَّوَافُ لِدُخُولِ وَقْتِهِ إلَّا أَنَّهُ مُرَتَّبٌ على طَوَافِ الزِّيَارَةِ
كَالْوِتْرِ مع الْعِشَاءِ فَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ بَعْدَ ذلك لَا تَعْمَلُ كما
إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ
وَمِنْهَا الطَّهَارَةُ من الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَلَا يَجِبُ على الْحَائِضِ
وَالنُّفَسَاءِ حتى لَا يَجِبُ عليهما ( ( ( عليهم ) ) ) الدَّمُ بِالتَّرْكِ
لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم رَخَّصَ لِلْحُيَّضِ
تَرْكَ هذا الطَّوَافِ
____________________
(2/142)
لَا
إلَى بَدَلٍ فَدَلَّ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِنَّ إذْ لو كان وَاجِبًا
لَمَا جَازَ تَرْكُهُ لَا إلَى بَدَلٍ وهو الدَّمُ فَأَمَّا الطَّهَارَةُ عن
الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْوُجُوبِ وَيَجِبُ على
الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُمَا إزَالَةُ الْحَدَثِ
وَالْجَنَابَةِ فلم يَكُنْ ذلك عُذْرًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِهِ فَمِنْهَا النِّيَّةُ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ
فَلَا بُدَّ له من النِّيَّةِ فَأَمَّا تَعْيِينُ النِّيَّةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ
حتى لو طَافَ بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ لَا يُعَيِّنُ شيأ أو نَوَى تَطَوُّعًا
كان لِلصَّدْرِ لِأَنَّ الْوَقْتَ تَعَيَّنَ له فَتَنْصَرِفُ مُطْلَقُ النِّيَّةِ
إلَيْهِ كما في صَوْمِ رَمَضَانَ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ طَوَافِ
الزِّيَارَةِ حتى إذَا نَفَرَ في النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَطَافَ طَوَافًا لَا
يَنْوِي شيئا أو نَوَى تَطَوُّعًا أو الصَّدْرَ يَقَعُ عن الزِّيَارَةِ لَا عن
الصَّدْرِ لِأَنَّ الْوَقْتَ له طَوَافٌ وَطَوَافُ الصَّدْرِ مُرَتَّبٌ عليه
فَأَمَّا النَّفْرُ على فَوْرِ الطَّوَافِ فَلَيْسَ من شَرَائِطِ جَوَازِهِ حتى لو
طَافَ لِلصَّدْرِ ثُمَّ تَشَاغَلَ بِمَكَّةَ بَعْدَهُ لَا يَجِبُ عليه طَوَافٌ آخَرُ
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال من حَجَّ هذا
الْبَيْتَ فَلِيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِهِ الطَّوَافَ فَقَدْ أَمَرَ أَنْ يَكُونَ
آخِرُ عَهْدِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَلَمَّا تَشَاغَلَ بَعْدَهُ لم يَقَعْ
الطَّوَافُ أخر عَهْدِهِ بِهِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يجوزان ( ( ( يجوز ) ) ) إذْ لم
يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ منه آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ نُسُكًا لَا
إقَامَةً وَالطَّوَافُ آخِرُ مَنَاسِكِهِ بِالْبَيْتِ وَإِنْ تَشَاغَلَ بِغَيْرِهِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال إذَا طَافَ لِلصَّدْرِ ثُمَّ أَقَامَ إلَى
الْعِشَاءِ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَطُوفَ طَوَافًا آخَرَ لِئَلَّا يَحُولَ بين
طَوَافِهِ وَبَيْنَ نَفْرِهِ حَائِلٌ
وَكَذَا الطَّهَارَةُ عن الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِهِ
فَيَجُوزُ طَوَافُهُ إذَا كان مُحْدِثًا أو جُنُبًا وَيُعْتَدُّ بِهِ
وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَ طَاهِرًا فَإِنْ لم يُعِدْ جَازَ وَعَلَيْهِ شَاةٌ إنْ
كان جُنُبًا لِأَنَّ النَّقْصَ كَثِيرٌ فَيُجْبَرُ بِالشَّاةِ
كما لو تَرَكَ أَكْثَرَ الْأَشْوَاطِ وَإِنْ كان مُحْدِثًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ
عن أبي حَنِيفَةَ في رِوَايَةٍ عليه صَدَقَةٌ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ
وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ النَّقْصَ يَسِيرٌ فَصَارَ كَشَوْطٍ
أو شَوْطَيْنِ وفي رِوَايَةٍ عليه شَاةٌ لِأَنَّهُ طَوَافٌ وَاجِبٌ فاشبه طَوَافَ
الزِّيَارَةِ وَكَذَا سَتْرُ عَوْرَتِهِ ليس بِشَرْطٍ لِلْجَوَازِ حتى لو طَافَ
مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ قَدْرَ ما لَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ جَازَ وَلَكِنْ
يَجِبُ عليه الدَّمُ وَكَذَا الطَّهَارَةُ عن النَّجَاسَةِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ
وَلَا شَيْءَ عليه وَالْفَرْقُ ما ذَكَرْنَا في طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شرائط ( ( ( قدره ) ) ) جوازه ( ( ( وكيفيته ) ) ) فمنها ( ( (
فمثل ) ) ) النية ( ( ( سائر ) ) ) لأنه ( ( ( الأطوفة ) ) ) عبادة ( ( ( ونذكر )
) ) فلا ( ( ( السنن ) ) ) بد ( ( ( التي ) ) ) له ( ( ( تتعلق ) ) ) من ( ( ( به
) ) ) النية فأما تعيين النية فليس بشرط حتى لو طاف بعد طواف الزيارة لا يعين شيأ
أو نوى تطوعا كان للصدر لأن الوقت تعين له فتنصرف مطلق النية إليه كما في صوم ( (
( بيان ) ) ) رمضان ( ( ( سنن ) ) ) ومنها ( ( ( الحج ) ) ) أن يكون بعد طواف
الزيارة حتى إذا نفر في النفر الأول فطاف طوافا لا ينوي شيئا أو نوى تطوعا أو
الصدر يقع عن الزيارة لا عن الصدر لأن الوقت له طواف وطواف الصدر مرتب عليه فأما
النفر على فور الطواف فليس من شرائط جوازه حتى لو طاف للصدر ثم تشاغل بمكة بعده لا
يجب عليه طواف آخر
فإن قيل أليس أن النبي ( ( ( شاء ) ) ) صلى اللَّهُ عليه وسلم قال من حج هذا البيت
فليكن آخر عهده به الطواف فقد أمر أن يكون آخر عهده الطواف بالبيت ولما تشاغل بعده
لم يقع الطواف أخر عهده به فيجب أن لا يجوزان إذ لم يأت بالمأمور به
فالجواب أن المراد منه آخر عهده بالبيت نسكا لا إقامة والطواف آخر مناسكه بالبيت
وإن تشاغل بغيره وروي عن أبي حنيفة أنه قال إذا طاف للصدر ثم أقام إلى العشاء فأحب
إلي أن يطوف طوافا آخر لئلا يحول بين طوافه وبين نفره حائل
وكذا الطهارة عن الحدث والجنابة ليست بشرط لجوازه فيجوز طوافه إذا كان محدثا أو
جنبا ويعتد به والأفضل أن يعيد طاهرا فإن لم يعد جاز وعليه شاة إن كان جنبا لأن
النقص كثير فيجبر بالشاة
كما لو ترك أكثر الأشواط وإن كان محدثا ففيه روايتان عن أبي حنيفة في رواية عليه
صدقة وهي الرواية الصحيحة وهو قول أبي يوسف ومحمد لأن النقص يسير فصار كشوط أو
شوطين وفي رواية عليه شاة لأنه طواف واجب فاشبه طواف الزيارة وكذا ستر عورته ليس
بشرط للجواز حتى لو طاف مكشوف العورة قدر ما لا تجوز به الصلاة جاز ولكن يجب عليه
الدم وكذا الطهارة عن النجاسة إلا أنه يكره ولا شيء عليه والفرق ما ذكرنا في طواف
الزيارة والله أعلم
فَصْلٌ وَأَمَّا وَقْتُهُ فَقَدْ رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال يَنْبَغِي
لِلْإِنْسَانِ إذَا أَرَادَ السَّفَرَ أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الصَّدْرِ حين يُرِيدُ
أَنْ يَنْفِرَ وَهَذَا بَيَانُ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ لَا بَيَانُ أَصْلِ
الْوَقْتِ وَيَجُوزُ في أَيَّامِ النَّحْرِ وَبَعْدَهَا وَيَكُونُ أَدَاءً لإقضاء
حتى لو طَافَ طَوَافَ الصَّدْرِ ثُمَّ أَطَالَ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ ولم يَنْوِ
الْإِقَامَةَ ها ( ( ( بها ) ) ) ولم يَتَّخِذْهَا دَارًا جَازَ طَوَافُهُ وَإِنْ
أَقَامَ سَنَةً بَعْدَ الطَّوَافِ إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ طَوَافُهُ
عِنْدَ الصَّدْرِ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِالتَّأْخِيرِ عن
أَيَّامِ النَّحْرِ بِالْإِجْمَاعِ
فَصْلٌ وَأَمَّا مَكَانُهُ فَحَوْلَ الْبَيْتِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِهِ لِقَوْلِ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من حَجَّ هذا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرَ عَهْدِهِ
بِهِ الطَّوَافُ وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ هو الطَّوَافُ حَوْلَهُ فَإِنْ نَفَرَ
ولم يَطُفْ يَجِبُ عليه أَنْ يَرْجِعَ وَيَطُوفَ ما لم يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ
لِأَنَّهُ تَرَكَ طَوَافًا وَاجِبًا وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ من غَيْرِ
الْحَاجَةِ إلَى تَجْدِيدِ الْإِحْرَامِ فَيَجِبُ عليه أَنْ يَرْجِعَ وَيَأْتِيَ
بِهِ وَإِنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ لَا يَجِبُ عليه الرُّجُوعُ لِأَنَّهُ لَا
يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلَّا بِالْتِزَامِ عُمْرَةٍ بِالْتِزَامِ إحْرَامِهَا
ثُمَّ إذَا أَرَادَ أَنْ يَمْضِيَ مضي وَعَلَيْهِ دَمٌ
وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ رَجَعَ وإذا رَجَعَ
يبتديء بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ بِطَوَافِ الصَّدْرِ وَلَا شَيْءَ عليه
لِتَأْخِيرِهِ عن مَكَانِهِ وَقَالُوا الْأَوْلَى أَنْ لَا يَرْجِعَ وَيُرِيقُ
دَمًا مَكَانَ الطَّوَافِ لِأَنَّ هذا أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ وَأَيْسَرُ عليه
لِمَا فيه من دَفْعِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ وَضَرَرِ الْتِزَامِ الْإِحْرَامِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ سُنَنِ الْحَجِّ وَبَيَانُ التَّرْتِيبِ في أَفْعَالِهِ
من الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ الوفيق ( ( (
التوفيق ) ) ) إذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ اغْتَسَلَ أو تَوَضَّأَ وَالْغُسْلُ
أَفْضَلُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا بَلَغَ
ذَا الْحُلَيْفَةِ اغْتَسَلَ لِإِحْرَامِهِ وَسَوَاءٌ كان رَجُلًا أو امْرَأَةً
وَالْمَرْأَةُ طَاهِرَةٌ عن الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أو حَائِضٌ أو نُفَسَاءُ
لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من إقَامَةِ هذه السُّنَّةِ النَّظَافَةُ فَيَسْتَوِي فيها
الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَحَالُ طُهْرِ الْمَرْأَةِ وَحَيْضُهَا وَنِفَاسُهَا
وَالدَّلِيلُ عليه أَيْضًا ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
لَمَّا نَزَلَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ في بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ أَتَاهُ أبو بَكْرٍ
الصِّدِّيقُ رضي اللَّهُ عنه وقال
____________________
(2/143)
له
إنَّ أَسْمَاءَ قد نَفِسَتْ وَكَانَتْ وَلَدَتْ مُحَمَّدَ بن أبي بَكْرٍ رضي
اللَّهُ عنه فقال له النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم مُرْهَا فَلْتَغْتَسِلْ
وَلْتُحْرِمْ بِالْحَجِّ
وَكَذَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها حَاضَتْ فَأَمَرَهَا
بِالِاغْتِسَالِ وَالْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ وَالْأَمْرُ بِالِاغْتِسَالِ في
الْحَدِيثَيْنِ على وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِيجَابِ لِأَنَّ
الِاغْتِسَالَ عن الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ لَا يَجِبُ حَالَ قِيَامِ الْحَيْضِ
وَالنِّفَاسِ وَإِنَّمَا كان الِاغْتِسَالُ أَفْضَلَ لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم اخْتَارَهُ على الْوُضُوءِ لِإِحْرَامِهِ وكان يَخْتَارُ من
الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا وَكَذَا أَمَرَ بِهِ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ رضي اللَّهُ
عنهما وَلِأَنَّ مَعْنَى النَّظَافَةِ فيه أَتَمُّ وَأَوْفَرُ
وَيَلْبَسُ ثَوْبَيْنِ إزَارًا وَرِدَاءً لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم لَبِسَ ثَوْبَيْنِ إزَارًا وَرِدَاءً وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ
مَمْنُوعٌ عن لُبْسِ الْمِخْيَطِ وَلَا بُدَّ من سَتْرِ الْعَوْرَةِ وما يتقي بِهِ
الْحَرُّ وَالْبَرْدُ وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَحْصُلُ بِإِزَارٍ وَرِدَاءٍ
جَدِيدَيْنِ كَانَا أو غَسِيلَيْنِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ الْجَدِيدَ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَنْظَفُ وَيَنْبَغِي
لِوَلِيِّ من أَحْرَمَ من الصِّبْيَانِ الْعُقَلَاءِ أَنْ يُجَرِّدَهُ
وَيُلْبِسَهُ ثَوْبَيْنِ إزَارًا وَرِدَاءً لِأَنَّ الصَّبِيَّ في مُرَاعَاةِ
السُّنَنِ كَالْبَالِغِ وَيَدْهُنُ بِأَيِّ دُهْنٍ شَاءَ وَيَتَطَيَّبُ بِأَيِّ
طِيبٍ شَاءَ سَوَاءٌ كان طِيبًا تَبْقَى عَيْنُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ أو لَا
تَبْقَى في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَوَّلًا
ثُمَّ رَجَعَ وقال يُكْرَهُ له أَنْ يَتَطَيَّبَ بِطِيبٍ تَبْقَى عَيْنُهُ بَعْدَ
الْإِحْرَامِ وحكى عن مُحَمَّدٍ في سَبَبِ رُجُوعِهِ أَنَّهُ قال كنت لَا أَرَى
بِهِ بَأْسًا حتى رأيت قَوْمًا أَحْضَرُوا طِيبًا كَثِيرًا وَرَأَيْتُ أَمْرًا
شَنِيعًا فَكَرِهْتُهُ
وهو قَوْلُ مَالِكٍ
احْتَجَّ مُحَمَّدٌ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال
لِلْأَعْرَابِيِّ اغْسِلْ عَنْكَ هذا الْخَلُوفَ وَرُوِيَ عن عُمَرَ وَعُثْمَانَ
رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا كَرِهَا ذلك وَلِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ عَيْنُهُ
يَنْتَقِلُ من الْمَوْضِعِ الذي طَيَّبَهُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَيَصِيرُ
كَأَنَّهُ طَيَّبَ ذلك الْمَوْضِعَ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْإِحْرَامِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها
قالت طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ حين أَحْرَمَ
وَلِإِحْلَالِهِ حين أَحَلَّ قبل أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَلَقَدْ رأيت وَبِيصَ
الطِّيبِ في مَفَارِقِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بَعْدَ إحْرَامِهِ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَبِيصَ الطِّيبِ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ مع بَقَاءِ عَيْنِهِ
فَدَلَّ أَنَّ الطِّيبَ كان بِحَيْثُ تَبْقَى عَيْنُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ
وَلِأَنَّ التَّطَيُّبَ بَعْدُ حَصَلَ مُبَاحًا في الِابْتِدَاءِ لِحُصُولِهِ في
غَيْرِ حَالِ الْإِحْرَامِ وَالْبَقَاءُ على التَّطَيُّبِ لَا يُسَمَّى تَطَيُّبًا
فَلَا يُكْرَهُ كما إذَا حَلَقَ رَأْسَهُ ثُمَّ أَحْرَمَ
وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَهُوَ مَحْمُولٌ على ما إذَا كان عليه ثَوْبٌ
مُزَعْفَرٌ وَالرَّجُلُ يُمْنَعُ من الْمُزَعْفَرِ في غَيْرِ حَالِ الْإِحْرَامِ
فَفِي حَالِ الْإِحْرَامِ أَوْلَى حَمَلْنَاهُ على هذا تَوْفِيقًا بين
الْحَدِيثَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ فَقَدْ رُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ
رضي اللَّهُ عنهما بِخِلَافِهِ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ
بِقَوْلِهِمَا
وما ذُكِرَ من مَعْنَى الِانْتِقَالِ إلَى مَكَان آخَرَ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ
اعْتِبَارَهُ يُوجِبُ الْجَزَاءَ لو انْتَقَلَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ
وَلَوْ ابْتَدَأَ الطِّيبَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَوَجَبَتْ عليه الْكَفَّارَةُ
فَكَفَّرَ وَبَقِيَ عليه هل يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى بِبَقَاءِ الطِّيبِ
عليه اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى
لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِحْرَامِ كان مَحْظُورًا لِوُجُودِهِ في حَالِ
الْإِحْرَامِ فَكَذَا الْبَقَاءُ عليه بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وقال
بَعْضُهُمْ لَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى لِأَنَّ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ قد
سَقَطَ عنه بِالْكَفَّارَةِ وَالْبَقَاءُ على الطِّيبِ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ
كما في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى
ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
قال أَتَانِي آتٍ من رَبِّي وأنا بِالْعَقِيقِ وقال لي صَلِّ في هذا الْوَادِي
الْمُبَارَكِ رَكْعَتَيْنِ وَقُلْ لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ لِأَنَّهُ كان
قَارِنًا ثُمَّ يَنْوِي الْإِحْرَامَ وَيُسْتَحَبُّ له أَنْ يَتَكَلَّمَ
بِلِسَانِهِ ما نوي بِقَلْبِهِ فَيَقُولَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ
اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي وإذا
أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ يقول اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ
فَيَسِّرْهَا لي وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي وإذا أَرَادَ الْقِرَانَ يقول اللَّهُمَّ
إنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ فَيَسِّرْهُمَا لي وَتَقَبَّلْهُمَا مِنِّي
لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ فيها كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ
فَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ بِالتَّيْسِيرِ وَالتَّسْهِيلِ وَبِالْقَبُولِ بَعْدَ
التَّحْصِيلِ إذْ لَا كُلُّ عِبَادَةٍ تُقْبَلُ
أَلَا تَرَى أَنَّ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لَمَّا بَنَيَا الْبَيْتَ على الْوَجْهِ الذي أُمِرَا بِبِنَائِهِ
سَأَلَا رَبَّهُمَا قَبُولَ ما فَعَلَا فَقَالَا رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ
أنت السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَذْكُرَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ أو
هُمَا في إهْلَالِهِ وَيُقَدِّمُ الْعُمْرَةَ على الْحَجِّ في الذِّكْرِ إذَا
أَهَلَّ بِهِمَا فيقول لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ لِمَا رَوَيْنَا عن النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال أَتَانِي آتٍ من رَبِّي وأنا بِالْعَقِيقِ فقال
صَلِّ في هذا الْوَادِي الْمُبَارَكِ رَكْعَتَيْنِ وَقُلْ لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ
وَحَجَّةٍ وَإِنَّمَا يُقَدِّمُ الْعُمْرَةَ على الْحَجِّ في الذِّكْرِ
____________________
(2/144)
لِأَنَّ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أُمِرَ أَنْ يَقُولَ كَذَلِكَ وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ
تُقَدَّمُ على الْحَجِّ في الْفِعْلِ فَكَذَا في الذِّكْرِ
ثُمَّ يُلَبِّي في دُبُرِ كل صَلَاةٍ وهو الْأَفْضَلُ عِنْدَنَا وقال
الشَّافِعِيُّ الْأَفْضَلُ أَنْ يُلَبِّيَ بعدما اسْتَوَى على رَاحِلَتِهِ
وقال مَالِكٌ بعدما اسْتَوَى على الْبَيْدَاءِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فيه
لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ في أَوَّلِ تَلْبِيَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَبَّى دُبُرَ صَلَاتِهِ
وَرُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَبَّى حين ما اسْتَوَى على
رَاحِلَتِهِ وروي جَابِرُ بن عبد اللَّهِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ صلى اللَّهُ
عليه وسلم لَبَّى حين اسْتَوَى على الْبَيْدَاءِ وَأَصْحَابُنَا أَخَذُوا
بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّهَا مُحْكَمَةٌ في
الدَّلَالَةِ على الْأَوَّلِيَّةِ وَرِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ رضي اللَّهُ
عنهما مُحْتَمَلَةٌ لِجَوَازِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه لم يَشْهَدْ
تَلْبِيَةَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم دُبُرَ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا شَهِدَ
تَلْبِيَتَهُ حَالَ اسْتِوَائِهِ على الرَّاحِلَةِ فَظَنَّ أَنَّ ذلك أَوَّلُ
تَلْبِيَتِهِ فَرَوَى ما رَأَى وَجَابِرٌ لم يَرَ تَلْبِيَتَهُ إلَّا عِنْدَ
اسْتِوَائِهِ على الْبَيْدَاءِ فَظَنَّ أَنَّهُ أَوَّلُ تَلْبِيَتِهِ فَرَوَى ما رَأَى
وَالدَّلِيلُ على صِحَّةِ هذا التَّأْوِيلِ ما رُوِيَ عن سَعِيدِ بن جُبَيْرٍ
أَنَّهُ قال قلت لِابْنِ عَبَّاسٍ كَيْفَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم في إهْلَالِهِ فقال أنا أَعْلَمُ بِذَلِكَ صل رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم في مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ وَأَهَلَّ
بِالْحَجِّ وَكَانَتْ نَاقَتُهُ مُسَرَّجَةً على بَابِ الْمَسْجِدِ وابن عُمَرَ
عِنْدَهَا فَرَآهُ قَوْمٌ فَقَالُوا أَهَلَّ عَقِيبَ الصَّلَاةِ ثُمَّ اسْتَوَى
على رَاحِلَتِهِ وَأَهَلَّ فَكَانَ الناس يَأْتُونَهُ أَرْسَالًا فَأَدْرَكَهُ
قَوْمٌ فَقَالُوا إنَّمَا أَهَلَّ حين اسْتَوَى على رَاحِلَتِهِ ثُمَّ ارْتَفَعَ
على الْبَيْدَاءِ فَأَهَلَّ فَأَدْرَكَهُ قَوْمٌ فَقَالُوا إنَّمَا أَهَلَّ حين
ارْتَفَعَ على الْبَيْدَاءِ وإيم اللَّهِ لقد أَوْجَبَهُ في مُصَلَّاهُ
وَيُكْثِرُ التَّلْبِيَةَ بَعْدَ ذلك في أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ فَرَائِضَ كانت أو
نَوَافِلَ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يُكْثِرُ في أَدْبَارِ الْمَكْتُوبَاتِ
دُونَ النَّوَافِلِ وَالْفَوَائِتِ وَأَجْرَاهَا مَجْرَى التَّكْبِيرِ في أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ وَالْمَذْكُورُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ في أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ
عَامًّا من غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَلِأَنَّ فَضِيلَةَ التَّلْبِيَةِ عَقِيبَ
الصَّلَاةِ لِاتِّصَالِهَا بِالصَّلَاةِ التي هِيَ ذِكْرُ اللَّهِ عز وجل إذْ
الصَّلَاةُ من أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا يُوجَدُ
في التَّلْبِيَةِ عَقِيبَ كل صَلَاةٍ وَكُلَّمَا عَلَا شَرَفًا وَكُلَّمَا هَبَطَ
وَادِيًا وَكُلَّمَا لَقِيَ رَكْبًا وَكُلَّمَا اسْتَيْقَظَ من مَنَامِهِ
وَبِالْأَسْحَارِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم كَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ
وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ وَالْعَجُّ هو رَفْعُ
الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَالثَّجُّ هو سَيَلَانُ الدَّمِ وَعَنْ خَلَّادِ بن
السَّائِبِ الْأَنْصَارِيِّ عن أبيه رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم أَنَّهُ قال أَتَانِي جِبْرِيلُ وَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي وَمَنْ
مَعِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ فَإِنَّهَا من شَعَائِرِ
الْحَجِّ أَمَرَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ في التَّلْبِيَةِ وَأَشَارَ إلَى الْمَعْنَى
وهو أنها من شَعَائِرِ الْحَجِّ وَالسَّبِيلُ في أَذْكَارٍ هِيَ من شَعَائِرِ
الْحَجِّ إشْهَارُهَا وَإِظْهَارُهَا كَالْأَذَانِ وَنَحْوِهِ
وَالسُّنَّةُ أَنْ يَأْتِيَ بِتَلْبِيَةِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَهِيَ أَنْ يَقُولَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لك
لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لك وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَك كَذَا
رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ هذه الْأَلْفَاظُ في تَلْبِيَةِ رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَالسُّنَّةُ أَنْ يَأْتِيَ بها وَلَا يَنْقُصُ
شيئا منها وَإِنْ زَادَ عليها فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَزِيدُ عليها كما لَا يَنْقُصُ منها وَهَذَا غَيْرُ
سَدِيدٍ لِأَنَّهُ لو نَقَصَ منها لَتَرَكَ شيئا من السُّنَّةِ وَلَوْ زَادَ عليها
فَقَدْ أتى بِالسُّنَّةِ وَزِيَادَةٍ وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ عن جَمَاعَةٍ من
الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَزِيدُونَ على تَلْبِيَةِ
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان ابن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه يَزِيدُ
لَبَّيْكَ عَدَدَ التُّرَابِ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ لَبَّيْكَ
لَبَّيْكَ إلَهَ الْحَقِّ لَبَّيْكَ
وكان ابن عُمَرَ يَزِيدُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْكَ
لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إلَيْك وَيُرْوَى وَالْعَمَلُ وَالرَْغْبَاءُ إلَيْكَ
وَلِأَنَّ هذا من بَابِ الْحَمْدِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عليه
فَالزِّيَادَةُ عليه تَكُونُ مُسْتَحَبَّةً لَا مَكْرُوهَةً
ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ في تَلْبِيَةِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
في هذه الْكَلِمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لك
رويت ( ( ( ورويت ) ) ) بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ وَالْكَسْرُ أَصَحُّ وَهَكَذَا
ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَقُولَ بِالْكَسْرِ
وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى الْفَتْحِ فيها يَكُونُ على التَّفْسِيرِ
أو التَّعْلِيلِ أَيْ أُلَبِّي بِأَنَّ الْحَمْدَ لك أو أُلَبِّي لِأَنَّ
الْحَمْدَ لك أَيْ لِأَجْلِ أَنَّ الْحَمْدَ لك وإذا كَسَرْتَهَا صَارَ ما بعدهما
( ( ( بعدها ) ) ) ثَنَاءً وَذِكْرًا مُبْتَدَأً لَا تَفْسِيرًا وَلَا تَعْلِيلًا
فَكَانَ أَبْلَغَ في الذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ فَكَانَ أَفْضَلَ
وإذا قَدِمَ مَكَّةَ فَلَا يَضُرُّهُ لَيْلًا دَخَلَهَا أو نَهَارًا لِمَا رُوِيَ
أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم دَخَلَهَا نَهَارًا وَرُوِيَ أَنَّهُ دَخَلَهَا
لَيْلًا وَكَذَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنها أنها دَخَلَتْهَا
لَيْلًا
وَرُوِيَ أَنَّ
____________________
(2/145)
الْحَسَنَ
وَالْحُسَيْنَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما دَخَلَاهَا لَيْلًا وما رُوِيَ عن
عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه أَنَّهُ نهى عن دُخُولِ مَكَّةَ لَيْلًا فَهُوَ
مَحْمُولٌ على نَهْيِ الشَّفَقَةِ مَخَافَةَ السَّرِقَةِ كَذَا أَوَّلَهُ
إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ وَلِأَنَّهُ إذَا دخل لَيْلًا لَا يَعْرِفُ مَوْضِعَ
النُّزُولِ فَلَا يَدْرِي أَيْنَ يَنْزِلُ وَرُبَّمَا نَزَلَ في غَيْرِ مَوْضِعِ
النُّزُولِ فَيَتَأَذَّى بِهِ وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ
وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَدْخُلَ من بَابِ بَنِي شَيْبَةَ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ
افْتَحْ لي أَبْوَابَ رَحْمَتَكَ وَأَعِذْنِي من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وإذا
وَقَعَ نَظَرُهُ على الْبَيْتِ يقول وَيُخْفِي سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ هذا بَيْتُكَ
عَظَّمْتَهُ وَشَرَّفْتَهُ وَكَرَّمْتَهُ فَزِدْهُ تَعْظِيمًا وَتَشْرِيفًا
وَتَكْرِيمًا وَيَبْدَأُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فإذا اسْتَقْبَلَهُ كَبَّرَ
وَرَفَعَ يَدَيْهِ كما يَرْفَعُهُمَا في الصَّلَاةِ لَكِنْ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ
لِمَا رُوِيَ عن مَكْحُولٍ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا دخل
الْمَسْجِدَ بَدَأَ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ
وَرَوَيْنَا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ قال لَا
تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا في سَبْعِ مَوَاطِنَ وَذَكَرَ من جُمْلَتِهَا عِنْدَ
اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ثُمَّ يُرْسِلُهُمَا وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ إنْ
أَمْكَنَهُ ذلك من غَيْرِ أَنْ يُؤْذِيَ أَحَدًا
والافضل أَنْ يُقَبِّلَهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه
الْتَزَمَهُ وَقَبَّلَهُ وقال رأيت رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِك
حَفِيًّا
وَرُوِيَ أَنَّهُ قال وَاَللَّهِ إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ
وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رأيت رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
يُقَبِّلُكَ ما قَبَّلْتُكَ وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى قال لَوْلَا أَنِّي رأيت
رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَسْتَلِمُكَ ما اسْتَلَمْتُكَ ثُمَّ
اسْتَلَمَهُ
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم اسْتَقْبَلَ الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَيْهِ
عليه فَبَكَى طَوِيلًا ثُمَّ الْتَفَتَ فإذا هو بِعُمَرَ يَبْكِي فقال له ما
يُبْكِيكَ فقال يا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُكَ تَبْكِي فَبَكَيْتُ لِبُكَائِكَ
فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم هَهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما قال طَافَ رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم في حَجَّةِ الْوَدَاعِ على بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ
بِمِحْجَنٍ ثُمَّ يَرُدُّهُ إلَى فيه وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ تَعَالَى
عنهما عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَيُبْعَثَنَّ الْحَجَرُ
يوم الْقِيَامَةِ وَلَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا وَأُذُنَانِ يَسْمَعُ بِهِمَا
وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ فَيَشْهَدُ لِمَنْ اسْتَلَمَهُ بِالْحَقِّ
وَرُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كَانُوا
يَسْتَلِمُونَ الْحَجَرَ ثُمَّ يُقَبِّلُونَهُ فَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ أن
أَمْكَنَهُ ذلك من غَيْرِ أَنْ يُؤْذِيَ أَحَدًا لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِعُمَرَ يا أَبَا حَفْصٍ إنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ
وَإِنَّكَ تُؤْذِي الضَّعِيفَ فإذا وَجَدْتَ مَسْلَكًا فَاسْتَلِمْ وَإِلَّا
فَدَعْ وَكَبِّرْ وَهَلِّلْ وَلِأَنَّ الِاسْتِلَامَ سُنَّةٌ وَإِيذَاءُ
الْمُسْلِمِ حَرَامٌ وَتَرْكُ الْحَرَامِ أَوْلَى من الاتيان بِالسُّنَّةِ وإذا لم
يُمْكِنْهُ ذلك من غَيْرِ أَنْ يُؤْذِيَ اسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ
وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عليه وَصَلَّى على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كما
يُصَلِّي عليه في الصَّلَاةِ
ولم يُذْكَرْ عن أَصْحَابِنَا فيه دُعَاءٌ بِعَيْنِهِ لِأَنَّ الدَّعَوَاتِ لَا
تُحْصَى وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كان يقول إذَا أَتَيْتَ الرُّكْنَ فَقُلْ
اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ إجَابَةَ دَعْوَتِكَ وَابْتِغَاءَ رِضْوَانِكَ
وَاتِّبَاعَ سُنَّةِ نَبِيُّكَ
وَعَنْ عَطَاءٍ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه قال كان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم إذَا مَرَّ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ قال أَعُوذُ بِرَبِّ هذا الْحَجَرِ من
الدَّيْنِ وَالْفَقْرِ وَضِيقِ الصَّدْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَلَا يَقْطَعُ
التَّلْبِيَةَ عِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ وَيَقْطَعُهَا في الْعُمْرَةِ لِمَا
نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يَفْتَتِحُ الطَّوَافَ وَهَذَا الطَّوَافُ
يُسَمَّى طَوَافَ اللِّقَاءِ وَطَوَافَ التَّحِيَّةِ وَطَوَافَ أَوَّلِ عَهْدٍ
بِالْبَيْتِ وأنه سُنَّةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ أنه فَرْضٌ
وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عز وجل { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ
} أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَدَلَّ على الْوُجُوبِ وَالْفَرْضِيَّةِ
وَلَنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ على أَهْلِ مَكَّةَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كان رُكْنًا
لَوَجَبَ عليهم لِأَنَّ الْأَرْكَانَ لَا تَخْتَلِفُ بين أَهْلِ مَكَّةَ
وَغَيْرِهِمْ كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ فلما لم يَجِبْ على أَهْلِ مَكَّةَ دَلَّ
أَنَّهُ ليس بِرُكْنٍ وَالْمُرَادُ من الْآيَةِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ لِإِجْمَاعِ
أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَلِأَنَّهُ خَاطَبَ الْكُلَّ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ
وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ هو الذي يَجِبُ على الْكُلِّ فَأَمَّا طَوَافُ اللِّقَاءِ
فإنه لَا يَجِبُ على أَهْلِ مَكَّةَ دَلَّ على أَنَّ الْمُرَادَ هو طَوَافُ
الزِّيَارَةِ وَكَذَا سِيَاقُ الْآيَةِ دَلِيلٌ عليه لِأَنَّهُ أَمَرَنَا بِذَبْحِ
الْهَدَايَا بِقَوْلِهِ عز وجل { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ
على ما رَزَقَهُمْ من بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } وَأَمَرَ بِقَضَاءِ التَّفَثِ وهو
الْحَلْقُ وَالطَّوَافَ بِالْبَيْتِ عَقِيبَ ذَبْحِ الْهَدْيِ لِأَنَّ كَلِمَةَ
ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ مع التَّعْقِيبِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْحَلْقُ
وَالطَّوَافُ مُرَتَّبَيْنِ على الذَّبْحِ وَالذَّبْحُ يَخْتَصُّ بِأَيَّامِ
النَّحْرِ لَا يَجُوزُ قَبْلَهَا فَكَذَا الْحَلْقُ وَالطَّوَافُ وهو طَوَافُ
الزِّيَارَةِ
فَأَمَّا طَوَافُ اللِّقَاءِ فإنه يَكُونُ سَابِقًا على أَيَّامِ
____________________
(2/146)
النَّحْرِ
فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ من الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ وَبِهِ
نَقُولُ إنَّهُ رُكْنٌ
وإذا افْتَتَحَ الطَّوَافَ يَأْخُذُ عن يَمِينِهِ مِمَّا يَلِي الْبَابَ فَيَطُوفُ
بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَرْمُلُ في الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ وَيَمْشِي على
هينته ( ( ( هيئته ) ) ) في الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِيَةِ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
اسْتَلَمَ الْحَجَرَ ثُمَّ أَخَذَ عن يَمِينِهِ مِمَّا يَلِي الْبَابَ فَطَافَ
بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ
وَأَمَّا الرَّمَلُ فَالْأَصْلُ فيه أَنَّ كُلَّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ فَمِنْ
سُنَنِهِ الإضطباع وَالرَّمَلُ في الثَّلَاثَةِ الْأَشْوَاطِ الْأُوَلِ منه
وَكُلُّ طَوَافٍ ليس بَعْدَهُ سَعْيٌ فَلَا رَمَلَ فيه وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ
الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى إلَّا ما حُكِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ
عنهما أَنَّ الرَّمَلَ في الطَّوَافِ ليس بِسُنَّةٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّمَا رَمَلَ وَنَدَّبَ
أَصْحَابَهُ إلَيْهِ لِإِظْهَارِ الْجَلَدِ لِلْمُشْرِكِينَ وَإِبْدَاءِ
الْقُوَّةِ لهم من أَنْفُسِهِمْ فإنه رُوِيَ أَنَّهُ دخل رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ وَكُفَّارُ قُرَيْشٍ قد صُفَّتْ عِنْدَ دَارِ
النَّدْوَةِ يَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ وَيَسْتَضْعِفُونَهُمْ وَيَقُولُونَ
أَوْهَنَتْهُمْ حمي يَثْرِبَ فلما دخل رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
الْمَسْجِدَ اضْطَبَعَ بِرِدَائِهِ وَرَمَلَ ثُمَّ قال رَحِمَ اللَّهُ أمرا
أَبْدَى من نَفْسِهِ جَلَدًا وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال رَحِمَ
اللَّهُ أمرأ أَرَاهُمْ الْيَوْمَ من نَفْسِهِ قُوَّةً
وَذَلِكَ الْمَعْنَى قد زَالَ فلم يَبْقَ الرَّمَلُ سُنَّةً لَكِنَّا نَقُولُ
الرِّوَايَةُ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما لَا تَكَادُ تَصِحُّ
لِأَنَّهُ قد صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم رَمَلَ بَعْدَ
فَتْحِ مَكَّةَ
وَرُوِيَ عن ان عُمَرَ رضي اللَّهُ تعالى عنهما أَنَّهُ قال كان رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ خَبَّ ثَلَاثًا
وَمَشَى أَرْبَعًا وَكَذَا أَصْحَابُهُ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بَعْدَهُ
رَمَلُوا وَكَذَا الْمُسْلِمُونَ إلَى يَوْمِنَا هذا فَصَارَ الرَّمَلُ سُنَّةً
مُتَوَاتِرَةً فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ أَوَّلَ الرَّمَلِ كان لِذَلِكَ
السَّبَبِ وهو إظْهَارُ الْجَلَادَةِ وَإِبْدَاءُ الْقُوَّةِ لِلْكَفَرَةِ ثُمَّ
زَالَ ذلك السَّبَبُ وَبَقِيَتْ سُنَّةُ الرَّمَلِ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ
أَنَّ بَقَاءَ السَّبَبِ ليس بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ الْحُكْمِ كَالْبَيْعِ
وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ لَمَّا رَمَلَ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم بَعْدَ زَوَالِ ذلك السَّبَبِ صَارَ الرَّمَلُ سُنَّةً
مُبْتَدَأَةً فَنَتَّبِعُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في ذلك وَإِنْ كان لَا
نَعْقِلُ مَعْنَاهُ وَإِلَى هذا أَشَارَ عُمَرُ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه حين
رَمَلَ في الطَّوَافِ وقال مالي أَهُزُّ كَتِفِي وَلَيْسَ هَهُنَا أَحَدٌ
رَأَيْتُهُ لَكِنْ اتبع رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أو قال لَكِنْ
أَفْعَلُ ما فَعَلَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَيَرْمُلُ من الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال سَعِيدُ بن جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
لَا يَرْمُلُ بين الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَبَيْنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَإِنَّمَا
يَرْمُلُ من الْجَانِبِ الْآخَرِ
وَجْهُ قَوْلِهِمْ إن الرَّمَلَ في الْأَصْلِ كان لِإِظْهَارِ الْجَلَادَةِ
لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكُونَ إنَّمَا كَانُوا يَطَّلِعُونَ على
الْمُسْلِمِينَ من ذلك الْجَانِبِ فإذا صَارُوا إلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ لم
يَطَّلِعُوا عليهم لِصَيْرُورَةِ الْبَيْتِ حَائِلًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم رَمَلَ ثَلَاثًا
من الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ
وَالْجَوَابُ عن قَوْلِهِمْ إن الرَّمَلَ كان لِإِظْهَارِ الْقُوَّةِ
وَالْجَلَادَةِ أن الرَّمَلَ الْأَوَّلَ كان لِذَلِكَ وقد زَالَ وَبَقِيَ حُكْمُهُ
أو صَارَ الرَّمَلُ بَعْدَ ذلك سُنَّةً مُبْتَدَأَةً لَا لِمَا شُرِعَ له
الْأَوَّلُ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ لَا نَعْقِلُهُ
وَأَمَّا الِاضْطِبَاعُ فَلِمَا رَوَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم كان يَرْمُلُ مُضْطَبِعًا بِرِدَائِهِ وَتَفْسِيرُ الِاضْطِبَاعِ
بِالرِّدَاءِ هو أَنْ يُدْخِلَ الرِّدَاءَ من تَحْتِ إبْطِهِ الْأَيْمَنِ
وَيَرُدَّ طَرَفَهُ على يَسَارِهِ وَيُبْدِيَ مَنْكِبَهُ الْأَيْمَنَ وَيُغَطِّيَ
الْأَيْسَرَ سُمِّيَ اضْطِبَاعًا لِمَا فيه من الضَّبُعِ وهو الْعَضُدُ لِمَا فيه
من إبْدَاءِ الضَّبْعَيْنِ وَهُمَا الْعَضُدَانِ فَإِنْ زُوحِمَ في الرَّمَلِ
وَقَفَ فإذا وَجْدَ فُرْجَةً رَمَلَ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ من فِعْلِهِ الأعلى
وَجْهِ السُّنَّةِ فَيَقِفُ إلَى أَنْ يُمْكِنَهُ فِعْلُهُ على وَجْهِ السُّنَّةِ
وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ في كل شَوْطٍ يَفْتَتِحُ بِهِ إنْ اسْتَطَاعَ من غَيْرِ
أَنْ يُؤْذِيَ أَحَدًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
كان كُلَّمَا مَرَّ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ اسْتَلَمَهُ ولأأ كُلَّ شَوْطٍ
طَوَافٌ على حِدَةٍ فَكَانَ اسْتِلَامُ الْحَجَرِ فيه مَسْنُونًا كَالشَّوْطِ
الْأَوَّلِ وَإِنْ لم يَسْتَطِعْ اسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ
وَأَمَّا الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ فلم يذكر في الْأَصْلِ أَنَّ اسْتِلَامَهُ
سُنَّةٌ وَلَكِنَّهُ قال إنْ اسْتَلَمَهُ فَحَسَنٌ وَإِنْ تَرَكَهُ لم يَضُرَّهُ
في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ
مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَلِمُهُ
وَلَا يَتْرُكُهُ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ اسْتِلَامَهُ سُنَّةٌ وَلَا خِلَافَ
في أَنَّ تَقْبِيلَهُ ليس بِسُنَّةٍ وقال الشَّافِعِيُّ يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُ
يَدَهُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ما رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه أَنَّهُ
قال رأيت رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ
وَلَا يستلم ( ( ( يتسلم ) ) ) غيره ( ( ( غيرهما ) ) )
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
____________________
(2/147)
رضي
اللَّهُ تعالى عنهما قال كان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَسْتَلِمُ
الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَيَضَعُ خَدَّهُ عليه
وَجْهُ ما ذَكَرَ في الْأَصْلِ وهو أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بسمنون ( ( (
بمسنون ) ) ) أَنَّهُ ليس من السُّنَّةِ تَقْبِيلُهُ وَلَوْ كان مَسْنُونًا
لَسُنَّ تَقْبِيلُهُ كَالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَعَنْ جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه
أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ ولم
يُقَبِّلْهُ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ
وَأَمَّا الرُّكْنَانِ الأخران وَهُمَا الْعِرَاقِيُّ وَالشَّامِيُّ فَلَا
يَسْتَلِمُهُمَا عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وهو قَوْلُنَا
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ وَسُوَيْدِ بن غَفَلَةَ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ أَنَّهُ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ الْأَرْبَعَةَ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ رَأَى مُعَاوِيَةَ وَسُوَيْدًا
اسْتَلَمَا جَمِيعَ الْأَرْكَانِ فقال ابن عَبَّاسٍ لِمُعَاوِيَةَ إنَّمَا
يَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ فقال مُعَاوِيَةُ ليس شَيْءٌ من الْبَيْتِ
مَهْجُورًا
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لان الِاسْتِلَامَ إنَّمَا عُرِفَ سُنَّةً
بِفِعْلِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم ما اسْتَلَمَ غبر الرُّكْنَيْنِ
ولما رَوَيْنَا عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال رأيت رَسُولَ اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم يَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ وَلَا يَسْتَلِمُ
غَيْرَهُمَا وَلِأَنَّ الِاسْتِلَامَ لِأَرْكَانِ الْبَيْتِ وَالرُّكْنُ
الشَّامِيُّ وَالْعِرَاقِيُّ لَيْسَا من الْأَرْكَانِ حَقِيقَةً لِأَنَّ رُكْنَ
الشَّيْءِ نَاحِيَتُهُ وَهُمَا في وَسَطِ الْبَيْتِ لِأَنَّ الْحَطِيمَ من
الْبَيْتِ وَجُعِلَ طَوَافُهُ من وَرَاءِ الْحَطِيمِ فَلَوْ لم يُجْعَلْ طَوَافُهُ
من وَرَائِهِ لَصَارَ تَارِكًا الطَّوَافَ بِبَعْضِ الْبَيْتِ إلَّا أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ في الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وإذا فَرَغَ من الطَّوَافِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْمَقَامِ أو حَيْثُ
تَيَسَّرَ عليه من الْمَسْجِدِ وَرَكْعَتَا الطَّوَافِ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ سُنَّةٌ بِنَاءً على أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْوَاجِبَ إلَّا
الْفَرْضَ وَلَيْسَتَا بِفَرْضٍ وقد وَاظَبَ عَلَيْهِمَا رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم فَكَانَتَا سُنَّةً وَنَحْنُ نُفَرِّقُ بين الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ
وَنَقُولُ الْفَرْضُ ما ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَالْوَاجِبُ
ما ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِدَلِيلٍ غَيْرِ مَقْطُوعٍ بِهِ وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ
قَوْلُهُ عز وجل { وَاِتَّخِذُوا من مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }
قِيلَ في بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ إنَّ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ ما ظَهَرَ فيه
آثَارُ قَدَمَيْهِ الشَّرِيفَيْنِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وهو حِجَارَةٌ كان
يَقُومُ عليها حين نُزُولِهِ وَرُكُوبِهِ من الْإِبِلِ حين كان يَأْتِي إلَى
زِيَارَةِ هَاجَرَ وَوَلَدِهِ إسْمَاعِيلَ فَأَمَرَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
بِاِتِّخَاذِ ذلك الْمَوْضِعِ مُصَلًّى يُصَلِّي عِنْدَهُ صَلَاةَ الطَّوَافِ
مُسْتَقْبِلًا الْكَعْبَةَ على ما رُوِيَ أَنَّ النبي عليه السَّلَامُ لَمَّا
قَدِمَ مَكَّةَ قام إلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ لِيُصَلِّيَ
فقال عُمَرُ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه أَلَا نَتَّخِذُ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ مصلي
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاِتَّخِذُوا من مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }
وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ
وَرُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا فَرَغَ من الطَّوَافِ أتى
الْمَقَامَ وَصَلَّى عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {
وَاِتَّخِذُوا من مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }
وَرُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ نَسِيَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ
فَقَضَاهُمَا بِذِي طُوًى فَدَلَّ أنها وَاجِبَةٌ ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ
فَيَسْتَلِمُهُ لِيَكُونَ افْتِتَاحُ السَّعْيِ بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ كما يَكُونُ افْتِتَاحُ الطَّوَافِ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ
الْأَسْوَدِ وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ كُلَّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ فإنه يَعُودُ
بَعْدَ الصَّلَاةِ إلَى الْحَجَرِ وَكُلُّ طَوَافٍ لَا سعى بَعْدَهُ لَا يَعُودُ
إلَى الْحَجَرِ كَذَا رُوِيَ عن عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّهُ لَا يَعُودُ وَإِنْ كان بَعْدَهُ سعى
وهو قَوْلُ عُمَرَ ابن ( ( ( بن ) ) ) عبد الْعَزِيزِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ
يَعُودُ لِمَا رُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم لَمَّا فَرَغَ من طَوَافِهِ صلى رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ وَقَرَأَ
فِيهِمَا آيَاتٍ من سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَقَرَأَ فِيهِمَا { وَاِتَّخِذُوا من
مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وَرَفَعَ صَوْتَهُ يُسْمِعُ الناس ثُمَّ رَجَعَ
إلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ وَلِأَنَّ السَّعْيَ مُرَتَّبٌ على الطَّوَافِ لَا
يَجُوزُ قَبْلَهُ
وَيُكْرَهُ أَنْ يَفْصِلَ بين الطَّوَافِ وَبَيْنَ السَّعْيِ فَصَارَ كَبَعْضِ
أَشْوَاطِ الطَّوَافِ وَالِاسْتِلَامُ بين كل شَوْطَيْنِ سُنَّةٌ وَهَذَا
الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ في طَوَافٍ لَا يَكُونُ بَعْدَهُ سَعْيٌ لِأَنَّهُ إذَا لم
يَكُنْ بَعْدَهُ سَعْيٌ لَا يُوجَدُ الْمُلْحَقُ له بِالْأَشْوَاطِ فَلَا يَعُودُ
إلَى الْحَجَرِ
ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّفَا لِمَا روي جَابِرٌ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم اسْتَلَمَ الرُّكْنَ وَخَرَجَ إلَى الصَّفَا فقال نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ
اللَّهُ بِهِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ من شَعَائِرِ
اللَّهِ }
ولم يُذْكَرْ في الْكِتَابِ أَنَّهُ من أَيِّ بَابٍ يَخْرُجُ من بَابِ الصَّفَا أو
من حَيْثُ تَيَسَّرَ له وما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
خَرَجَ من بَابِ الصَّفَا فَذَلِكَ ليس على وَجْهِ السُّنَّةِ عِنْدَنَا
وَإِنَّمَا خَرَجَ منه لِقُرْبِهِ من الصَّفَا أو لِأَمْرٍ آخَرَ وَيَصْعَدُ على
الصَّفَا إلَى حَيْثُ يَرَى الْكَعْبَةَ فَيُحَوِّلُ وَجْهَهُ إلَيْهَا
وَيُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُثْنِي عليه وَيُصَلِّي
على النبي صلى
____________________
(2/148)
اللَّهُ
عليه وسلم وَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى بِحَوَائِجِهِ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ
وَيَجْعَلُ بُطُونَ كَفَّيْهِ إلَى السَّمَاءِ لِمَا رُوِيَ عن جَابِرٍ رضي
اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم رَقَى على الصَّفَا حتى بَدَا له
الْبَيْتُ ثُمَّ كَبَّرَ ثَلَاثًا وقال لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا
شَرِيكَ له له الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يحي ( ( ( يحيي ) ) ) وَيُمِيتُ وهو على
كل شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَنْجَزَ وَعَدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ
وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ وَجَعَلَ يَدْعُو بَعْدَ ذلك ثُمَّ يَهْبِطُ نحو
الْمَرْوَةِ فَيَمْشِي على هينته ( ( ( هيئته ) ) ) حتى يَنْتَهِيَ إلَى بَطْنِ
الْوَادِي
فإذا كان عِنْدَ الْمِيلِ الْأَخْضَرِ في بَطْنِ الْوَادِي سعي حتى يُجَاوِزَ
الْمَيْلَ الْأَخْضَرَ فَيَسْعَى بين الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ لِحَدِيثِ
جَابِرٍ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا فَرَغَ من الدُّعَاءِ مَشَى نحو
الْمَرْوَةِ حتى إذَا انْتَصَبَتْ قَدَمَاهُ في بَطْنِ الْوَادِي سَعَى وقال في
سَعْيِهِ رَبِّ إغفر وَارْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ إنَّكَ أنت الْأَعَزُّ
الْأَكْرَمُ
وكان عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه إذَا رَمَلَ بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قال
اللَّهُمَّ اسْتَعْمِلْنِي بِسُنَّةِ نَبِيُّكَ وَتَوَفَّنِي على مِلَّتِهِ
وَأَعِذْنِي من عَذَابِ الْقَبْرِ ثُمَّ يَمْشِي على هينته ( ( ( هيئته ) ) ) حتى
يَأْتِيَ الْمَرْوَةَ فَيَصْعَدُ عليها وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ
فَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُثْنِي عليه وَيُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ وَيُصَلِّي
على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَيَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى حَوَائِجَهُ
فَيَفْعَلُ على الْمَرْوَةِ مِثْلَ ما فَعَلَ على الصَّفَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم هَكَذَا فَعَلَ وَيَطُوفُ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ
أَشْوَاطٍ هَكَذَا يَبْدَأُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ وَيَسْعَى في
بَطْنِ الْوَادِي في كل شَوْطٍ وَيَعُدُّ الْبِدَايَةَ شَوْطًا وَالْعَوْدَ
شَوْطًا آخَرَ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ أنهما يُعَدَّانِ جميعا
شَوْطًا وَاحِدًا وأنه خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا
تَقَدَّمَ فإذا فَرَغَ من السَّعْيِ فَإِنْ كان مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ ولم
يَسُقْ الهدى يَحْلِقُ أو يُقَصِّرُ فَيَحِلُّ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ هِيَ
الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ فإذا أتى بِهِمَا لم يَبْقَ عليه شَيْءٌ من أَفْعَالِ
الْعُمْرَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ منها بِالتَّحَلُّلِ وَذَلِكَ
بِالْحَلْقِ أو التَّقْصِيرِ كَالتَّسْلِيمِ في بَابِ الصَّلَاةِ وَالْحَلْقُ
أَفْضَلُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فإذا حَلَقَ أو قَصَّرَ حَلَّ له
جَمِيعُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ
وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا
وقال الشَّافِعِيُّ يَقَعُ التَّحَلُّلُ من الْعُمْرَةِ بِالسَّعْيِ وَمِنْ
الْحَجِّ بِالرَّمْيِ وَالْمَسْأَلَةُ قد مَرَّتْ في بَيَانِ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ
وَإِنْ كان قد سَاقَ الهدى لَا يَحْلِقُ وَلَا يُقَصِّرُ لِلْعُمْرَةِ بَلْ
يُقِيمُ حَرَامًا إلَى يَوْمِ النَّحْرِ لَا يَحِلُّ له التَّحَلُّلُ إلَّا يوم
النَّحْرِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَوْقُ الْهَدْيِ لَا يَمْنَعُ من التَّحَلُّلِ وَنَذْكُرُ
الْمَسْأَلَةَ في التَّمَتُّعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَإِنْ كان مُحْرِمًا بِالْحَجِّ فَإِنْ كان مُفْرِدًا بِهِ يُقِيمُ على
إحْرَامِهِ وَلَا يَتَحَلَّلُ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ عليه بَاقِيَةٌ فَلَا
يَجُوزُ له التَّحَلُّلُ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ وَمِنْ الناس من قال يَجُوزُ له
أَنْ يَفْتَتِحَ إحْرَامَ الْحَجِّ بِفِعْلِ الْعُمْرَةِ وهو الطَّوَافُ
وَالسَّعْيُ وَالتَّحَلُّلُ منها بِالْحَلْقِ أو التَّقْصِيرِ لِمَا رُوِيَ عن
جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ أَصْحَابَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
كَانُوا أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرِدِينَ فقال لهم النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَحِلُّوا من إحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ الْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
وَقَصِّرُوا ثُمَّ أَقِيمُوا حَلَالًا حتى إذَا كان يَوْمُ التَّرْوِيَةِ
أَهِلُّوا بِالْحَجِّ
فَالْجَوَابُ أَنَّ ذلك كان ثُمَّ نُسِخَ
وَعَنْ أبي ذَرٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال أَشْهَدُ أَنَّ فَسْخَ الْإِحْرَامِ
كان خَاصًّا لِلرَّكْبِ الَّذِينَ كَانُوا مع النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَإِنْ كان قَارِنًا فإنه يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ عِنْدَنَا
فَيَبْدَأُ أَوَّلًا بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ لِلْعُمْرَةِ فَيَطُوفُ وَيَسْعَى
لِلْعُمْرَةِ ثُمَّ يَطُوفُ وَيَسْعَى لِلْحَجِّ كما وَصَفْنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ يَطُوفُ لَهُمَا جميعا طَوَافًا وَاحِدًا وَيَسْعَى لَهُمَا سَعْيًا
وَاحِدًا وَهَذَا بِنَاءً على أَنَّ الْقَارِنَ عِنْدَنَا مُحْرِمٌ
بِإِحْرَامَيْنِ بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ واحرام الْحَجِّ وَلَا يَدْخُلُ إحْرَامُ
الْعُمْرَةِ في إحْرَامِ الْحَجِّ وَعِنْدَهُ يُحْرِمُ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ
وَيَدْخُلُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ في إحْرَامِ الْحَجِّ لِأَنَّ نَفْسَ الْعُمْرَةِ
لَا تَدْخُلُ في الْحَجَّةِ وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ على أَصْلِهِ رُكْنٌ لِمَا
نَذْكُرُ فَكَانَ من أَفْعَالِ الْحَجِّ وَالْأَفْعَالُ يَجُوزُ فيها التَّدَاخُلُ
كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَالْحُدُودِ وَغَيْرِهَا
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَعِمْرَانَ بن
الحصين ( ( ( حصين ) ) ) رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
فَرَّقَ بين الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ وَسَعَى لَهُمَا
سَعْيَيْنِ وَلِأَنَّ الْقَارِنَ مُحْرِمٌ بِالْعُمْرَةِ وَمُحْرِمٌ بِالْحَجَّةِ
حَقِيقَةً لِأَنَّ قَوْلَهُ لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ مَعْنَاهُ لَبَّيْكَ
بِعُمْرَةٍ وَلَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ كَقَوْلِهِ جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو أَنَّ
مَعْنَاهُ جَاءَنِي زَيْدٌ وَجَاءَنِي عَمْرٌو وإذا كان مُحْرِمًا بِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا يَطُوفُ وَيَسْعَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَوَافًا على حِدَةٍ
وَسَعْيًا على حِدَةٍ وَكَذَا تَسْمِيَةُ الْقِرَانِ يَدُلُّ على ما قُلْنَا إذْ
الْقِرَانُ حَقِيقَةً يَكُونُ بين شَيْئَيْنِ إذْ هو ضَمُّ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ
وَمَعْنَى الضَّمِّ حَقِيقَةً فِيمَا قُلْنَا لَا فِيمَا قَالَهُ وَاعْتِبَارُ
الْحَقِيقَةِ أَصْلٌ في الشَّرِيعَةِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمَعْنَاهُ دخل وَقْتُ الْعُمْرَةِ في وَقْتِ الْحَجِّ
لِأَنَّ سَبَبَ ذلك أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الْعُمْرَةَ في وَقْتِ الْحَجِّ
من أَفْجَرِ الْفُجُورِ ثُمَّ
____________________
(2/149)
رَخَّصَ
لهم النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ في الْحَجِّ إلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيْ دخل وَقْتُ الْعُمْرَةِ في وَقْتِ الْحَجَّةِ وهو
أَشْهُرُ الْحَجِّ وَيُحْتَمَلُ ما قُلْنَا وَيُحْتَمَلُ ما قَالَهُ فَلَا يَكُونُ
حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ
وَلَوْ طَافَ الْقَارِنُ طَوَافَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ
مُتَوَالِيَيْنِ أَجْزَأَهُ وقد أَسَاءَ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهُ أتى
بِوَظِيفَةٍ من الطَّوَافَيْنِ وَالسَّعْيَيْنِ وَأَمَّا الْإِسَاءَةُ
فَلِتَرْكِهِ السُّنَّةَ وَهِيَ تَقْدِيمُ أَفْعَالِ الْحَجِّ على أَفْعَالِ
الْعُمْرَةِ وَلَوْ طَافَ أَوَّلًا بِحَجَّتِهِ وَسَعَى لها ثُمَّ طَافَ
لِعُمْرَتِهِ وَسَعَى لها فَنِيَّتُهُ لَغْوٌ وَطَوَافُهُ الْأَوَّلُ وَسَعْيُهُ
يَكُونَانِ لِلْعُمْرَةِ لِمَا مَرَّ أَنَّ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ تَتَرَتَّبُ على
ما أَوْجَبَهُ إحْرَامُهُ وَإِحْرَامُهُ أَوْجَبَ تَقْدِيمَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ
على أَفْعَالِ الْحَجِّ فَلَغَتْ نِيَّتُهُ
وإذا فَرَغَ من أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لَا يَحْلِقُ وَلَا يُقَصِّرُ لِأَنَّهُ
بَقِيَ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِ الْحَجِّ وَإِنْ كان مُتَمَتِّعًا فإذا قَدِمَ
مَكَّةَ فإنه يَطُوفُ وَيَسْعَى لِعُمْرَتِهِ ثُمَّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ في
أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَلْبَسُ الْإِزَارَ وَالرِّدَاءَ وَيُلَبِّي بِالْحَجِّ
لِأَنَّ هذا ابْتِدَاءُ دُخُولِهِ في الْحَجِّ لِلْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ
وَلَهُ أَنْ يُحْرِمَ من جَوْفِ مَكَّةَ أو من الْأَبْطَحِ أو من أَيِّ حَرَمٍ
شَاءَ وَلَهُ أَنْ يُحْرِمَ يوم التَّرْوِيَةِ عِنْدَ الْخُرُوجِ إلَى مِنًى
وَقِيلَ يوم التَّرْوِيَةِ وَكُلَّمَا قَدَّمَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ على يَوْمِ
التَّرْوِيَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ الْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ يوم التَّرْوِيَةِ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمَرَ
أَصْحَابَهُ بِالْإِحْرَامِ يوم التَّرْوِيَةِ فَدَلَّ أَنَّ ذلك أَفْضَلُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من أَرَادَ
الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ النَّدْبُ وَلِأَنَّ
التَّعْجِيلَ من بَابِ الْمُسَارَعَةِ إلَى الْعِبَادَةِ فَكَانَ أَوْلَى
وَلِأَنَّهُ أَشَقُّ على الْبَدَنِ لِأَنَّهُ إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ يَحْتَاجُ
إلَى الِاجْتِنَابِ عن مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ
أَحْمَزُهَا على لِسَانِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَمَّا الْحَدِيثُ
فَإِنَّمَا نَدَبَ إلَى الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ يوم التَّرْوِيَةِ لِرُكْنٍ
خَاصٍّ اخْتَارَ لهم الْأَيْسَرَ على الْأَفْضَلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَمَرَهُمْ
بِفَسْخِ إحْرَامِ الْحَجِّ وَأَنَّهُ لَا يُفْسَخُ الْيَوْمَ
وإذا أَحْرَمَ الْمُتَمَتِّعُ بِالْحَجِّ فَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَلَا يَسْعَى
في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ لِلْحَجِّ لِمَنْ
قَدِمَ مَكَّةَ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ وَالْمُتَمَتِّعُ إنَّمَا قَدِمَ مَكَّةَ
بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ لَا بِإِحْرَامِ الْحَجِّ وَإِنَّمَا يُحْرِمُ لِلْحَجِّ
من مَكَّةَ وَطَوَافُ الْقُدُومِ لَا يَكُونُ بِدُونِ الْقُدُومِ وَكَذَلِكَ لَا
يَطُوفُ وَلَا يَسْعَى أَيْضًا لِأَنَّ السَّعْيَ بِدُونِ الطَّوَافِ غَيْرُ
مَشْرُوعٍ وَلِأَنَّ الْمَحَلَّ الْأَصْلِيَّ لِلسَّعْيِ ما بَعْدَ طَوَافِ
الزِّيَارَةِ لِأَنَّ السَّعْيَ وَاجِبٌ وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ فَرْضٌ
وَالْوَاجِبُ يَصْلُحُ تَبَعًا لِلْفَرْضِ فَأَمَّا طَوَافُ الْقُدُومِ فَسُنَّةٌ
وَالْوَاجِبُ لَا يَتْبَعُ السُّنَّةَ إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ تَقْدِيمَهُ على
مَحَلِّهِ الْأَصْلِيّ عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ فَصَارَ وَاجِبًا عَقِيبَهُ
بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ وإذا لم يُوجَدْ طَوَافُ الْقُدُومِ يُؤَخَّرُ السَّعْيُ
إلَى مَحَلِّهِ الأصلى فَلَا يَجُوزُ قبل طَوَافِ الزِّيَارَةِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إذَا أَحْرَمَ
بِالْحَجِّ يوم التَّرْوِيَةِ أو قَبْلَهُ فَإِنْ شَاءَ طَافَ وَسَعَى قبل أَنْ
يَأْتِيَ إلَى مِنًى وهو أَفْضَلُ وروي هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ طَافَ
وَسَعَى لَا بَأْسَ بِهِ
وَوَجْهُ ذلك أَنَّ هذا الطَّوَافَ ليس بِوَاجِبٍ بَلْ هو سُنَّةٌ وقد وَرَدَ
الشَّرْعُ بِوُجُوبِ السَّعْيِ عَقِيبَهُ وَإِنْ كان وَاجِبًا رُخْصَةً
وَتَيْسِيرًا في حَقِّ الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ وَالْقَارِنِ فَكَذَا
الْمُتَمَتِّعُ وَالْجَوَابُ نعم أنه سُنَّةٌ لَكِنَّهُ سُنَّةُ الْقُدُومِ
لِلْحَجِّ لِمَنْ قَدِمَ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ وَالْمُتَمَتِّعُ لم يَقْدَمْ
مَكَّةَ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ فَلَا يَكُونُ سُنَّةً في حَقِّهِ وَعَنْ الْحَسَنِ
بن زِيَادٍ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا قبل الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ فقال إذَا
أَحْرَمَ يوم التَّرْوِيَةِ طَافَ وَسَعَى إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ بَعْدَ
الزَّوَالِ
وَوَجْهُهُ أَنَّ بَعْدَ الزَّوَالِ يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ إلَى مِنًى فَلَا
يَشْتَغِلُ بِغَيْرِهِ وَقَبْلَ الزَّوَالِ لَا يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ فَكَانَ له
أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى وَالْجَوَابُ ما ذَكَرْنَا وإذا فَرَغَ الْمُفْرِدُ
بِالْحَجِّ أو الْقَارِنُ من السَّعْيِ يُقِيمُ على إحْرَامِهِ وَيَطُوفُ طَوَافَ
التَّطَوُّعِ مَاشِيًا إلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ لِأَنَّ الطَّوَافَ خَيْرُ
مَوْضُوعٍ كَالصَّلَاةِ فَمَنْ شَاءَ اسْتَقَلَّ وَمَنْ شَاءَ اسْتَكْثَرَ
وَطَوَافُ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ من صَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِلْغُرَبَاءِ وَأَمَّا
لِأَهْلِ مَكَّةَ فَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ لِأَنَّ الْغُرَبَاءَ يَفُوتُهُمْ
الطَّوَافُ إذْ لَا يُمْكِنُهُمْ الطَّوَافُ في كل مَكَان وَلَا تَفُوتُهُمْ
الصَّلَاةُ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ فِعْلُهَا في كل مَكَان وَأَهْلُ مَكَّةَ لَا
يَفُوتُهُمْ الطَّوَافُ وَلَا الصَّلَاةُ فَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ الصَّلَاةُ أَفْضَلُ
وَعَلَى هذا الْغَازِي الْحَارِسُ في دَارِ الْحَرْبِ أَنَّهُ إنْ كان هُنَاكَ من
يَنُوبَ عنه في دَارِ الْحَرْبِ فَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ له وَإِنْ لم
يَكُنْ فَالْحِرَاسَةُ أَفْضَلُ
وَلَا يَرْمُلُ في هذا الطَّوَافِ بَلْ يَمْشِي على هَيْئَتِهِ وَلَا يَسْعَى
بَعْدَهُ بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ غير السَّعْيِ الْأَوَّلِ وَيُصَلِّي لِكُلِّ
أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ في الْوَقْتِ الذي لَا يُكْرَهُ فيه التَّطَوُّعُ
وَيُكْرَهُ الْجَمْعُ بين أُسْبُوعَيْنِ من غَيْرِ صَلَاةٍ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ سَوَاءٌ انصرف ( ( ( الصرف ) ) )
____________________
(2/150)
عن
شَفْعٍ أو وِتْرٍ وقال أبو يُوسُفَ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا انْصَرَفَ عن وِتْرٍ نحو
أَنْ يَنْصَرِفَ عن ثَلَاثَةِ أَسَابِيعَ أو عن خَمْسَةِ أَسَابِيعَ أو عن
سَبْعَةِ أَسَابِيعَ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها كانت تَجْمَعُ بين
الطَّوَافِ ثُمَّ تُصَلِّي بَعْدَهُ ثُمَّ فَرَّقَ أبو يُوسُفَ بين انْصِرَافِهِ
عن شَفْعٍ أو عن وِتْرٍ فقال إذَا انْصَرَفَ عن أُسْبُوعَيْنِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ
عَشَرَ أو أَرْبَعَةُ أَسَابِيعَ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ يُكْرَهُ
وَلَوْ انْصَرَفَ عن ثَلَاثَةٍ أو عن خَمْسَةٍ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ
شَفْعٌ وَالثَّانِيَ وِتْرٌ وَأَصْلُ الطَّوَافِ سَبْعَةٌ وَهِيَ وِتْرٌ
وَلَهُمَا أَنَّ تَرْتِيبَ الرَّكْعَتَيْنِ على الطَّوَافِ كَتَرْتِيبِ السَّعْيِ
عليه لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاجِبٌ ثُمَّ لو جَمَعَ بين أُسْبُوعَيْنِ
من الطَّوَافِ وَأَخَّرَ السَّعْيَ يُكْرَهُ فَكَذَا إذَا جَمَعَ بين
أُسْبُوعَيْنِ منه وَأَخَّرَ الصَّلَاةَ
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها فَيُحْمَلُ أنها فَعَلَتْ ذلك
لِضَرُورَةٍ وَعُذْرٍ
فإذا كان يَوْمُ التَّرْوِيَةِ وهو الْيَوْمُ الثَّامِنُ من ذِي الْحِجَّةِ
يَرُوحُ مع الناس إلَى مِنًى فَيُصَلِّي بها الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ
وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ لِمَا رُوِيَ عن ابْنَ عُمَرَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم أَنَّهُ قال جاء جِبْرِيلُ إلَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ يوم
التَّرْوِيَةِ فَخَرَجَ بِهِ إلَى مِنًى فَصَلَّى بِهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ
وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ ثُمَّ غَدَا بِهِ إلَى عَرَفَاتٍ
وَرُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَمَّا كان يَوْمُ التَّرْوِيَةِ
تَوَجَّهَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى مِنًى فَصَلَّى بها الظُّهْرَ
وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ الصبح ( ( ( والصبح ) ) ) ثُمَّ مَكَثَ
قَلِيلًا حتى طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَسَارَ إلَى عَرَفَاتٍ
فَإِنْ دَفَعَ منها قبل طُلُوعِ الشَّمْسِ جَازَ وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ لِمَا
رَوَيْنَا فَيَخْرُجُ إلَى عَرَفَاتٍ على السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ فإذا انْتَهَى
إلَيْهَا نَزَلَ بها حَيْثُ أَحَبَّ إلَّا في بَطْنِ عُرَنَةَ لِمَا رُوِيَ عنه
أَنَّهُ قال عَرَفَاتٌ كُلُّهَا مواقف ( ( ( موقف ) ) ) إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ
وَيَغْتَسِلُ يوم عَرَفَةَ وَغُسْلُ يَوْمِ عَرَفَةَ سُنَّةٌ كَغُسْلِ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَعِنْدَ الْإِحْرَامِ وَذَكَرَ في الْأَصْلِ إنْ
اغْتَسَلَ فَحَسَنٌ وَهَذَا يُشِيرُ إلَى الِاسْتِحْبَابِ ثُمَّ غُسْلُ يَوْمِ
عَرَفَةَ لِأَجْلِ يَوْمِ عَرَفَةَ أو لِأَجْلِ الْوُقُوفِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في غُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ في كِتَابِ
الطَّهَارَةِ فإذا زَالَتْ الشَّمْسُ صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ فَأَذَّنَ
الْمُؤَذِّنُونَ وَالْإِمَامُ على الْمِنْبَرِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فإذا
فَرَغُوا من الْأَذَانِ قام الْإِمَامُ وَخَطَبَ خُطْبَتَيْنِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ رُوِيَ عنه مِثْلُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ وَالْإِمَامُ في
الْفُسْطَاطِ ثُمَّ يَخْرُجُ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ من الْأَذَانِ
فَيَصْعَدُ الْمِنْبَرَ وَيَخْطُبُ
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عنه في بَابِ خُطَبِ الْحَجِّ أَنَّ الْإِمَامَ يَبْدَأُ
بِالْخُطْبَةِ قبل الْأَذَانِ فإذا مَضَى صَدْرٌ من خُطْبَتِهِ أَذَّنَ
الْمُؤَذِّنُونَ ثُمَّ يُتِمُّ خُطْبَتَهُ بَعْدَ الْأَذَانِ أَمَّا تَقْدِيمُ
الْخُطْبَةِ على الصَّلَاةِ فَلِأَنَّ النبي قَدَّمَهَا على الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ
الْمَقْصُودَ من هذه الْخُطْبَةِ تَعْلِيمُ أَحْكَامِ الْمَنَاسِكِ فَلَا بُدَّ من
تَقْدِيمِهَا لِيَعْلَمُوا وَلِأَنَّهُ لو أَخَّرَهَا يَتَبَادَرُ الْقَوْمُ إلَى
الْوُقُوفِ وَلَا يَسْتَمِعُونَ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ من هذه الْخُطْبَةِ
ثُمَّ هذه الْخُطْبَةُ سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ لو جَمَعَ بين الظُّهْرِ
وَالْعَصْرِ فَصَلَّاهُمَا من غَيْرِ خُطْبَةٍ أَجْزَأَهُ بِخِلَافِ خُطْبَةِ
الْجُمُعَةِ لِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْجُمُعَةُ بِدُونِهَا وَالْفَرْقُ أَنَّ هذه
الْخُطْبَةَ لِتَعْلِيمِ الْمَنَاسِكِ لَا لِجَوَازِ الْجَمْعِ بين الصَّلَاتَيْنِ
وَفَرْضِيَّةُ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ لِقَصْرِ الصَّلَاةِ وَقِيَامِهَا مَقَامَ
الْبَعْضِ على ما قالت عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها إنَّمَا قُصِرَتْ الْجُمُعَةُ
لِمَكَانِ الْخُطْبَةِ وَقَصْرُ الصَّلَاةِ تَرْكُ شَطْرِهَا
وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ إلَّا لِأَجْلِ الْفَرْضِ فَكَانَتْ الْخُطْبَةُ
فَرْضًا وَلَا قَصْرَ هَهُنَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الْفَرْضَيْنِ يؤدي على
الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ فلم تَكُنْ الْخُطْبَةُ فَرْضًا إلَّا أَنَّهُ يَكُونُ
مُسِيئًا بِتَرْكِ الْخُطْبَةِ لِأَنَّهُ تَرَكَ السُّنَّةَ
وَلَوْ خَطَبَ قبل الزَّوَالِ أَجْزَأَهُ وقد أَسَاءَ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّ
هذه الْخُطْبَةَ لَيْسَتْ من شَطْرِ الصَّلَاةِ فَلَا يُشْتَرَطُ لها الْوَقْتُ
وَأَمَّا الْإِسَاءَةُ فَلِتَرْكِهِ السُّنَّةَ إذْ السُّنَّةُ أَنْ تَكُونَ
الْخُطْبَةُ بَعْدَ الزَّوَالِ بِخِلَافِ خُطْبَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فإنه إذَا
خَطَبَ قبل الزَّوَالِ لَا تَجُوزُ الْجُمُعَةُ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ هُنَاكَ من
فَرَائِضِ الْجُمُعَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قُصِرَتْ الْجُمُعَةُ لِمَكَانِهَا
وَلَا يُتْرَكُ بَعْضُ الفروض ( ( ( الفرض ) ) ) إلَّا لِأَجْلِ الْفَرْضِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ في وَقْتِ صُعُودِ الْإِمَامِ على الْمِنْبَرِ أَنَّهُ
يَصْعَدُ قبل الْأَذَانِ أو بَعْدَهُ فَوَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّ
الصَّلَاةَ التي تؤدي في هذا الْوَقْتِ هِيَ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ
فَيَكُونُ الْأَذَانُ فِيهِمَا قبل خُرُوجِ الْإِمَامِ كما في سَائِرِ
الصَّلَوَاتِ وَكَمَا في الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ في غَيْرِ هذا الْمَكَانِ
وَالزَّمَانِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هذه الْخُطْبَةَ لَمَّا كانت
مُتَقَدِّمَةً على الصَّلَاةِ كان هذا الْأَذَانُ لِلْخُطْبَةِ فَيَكُونُ بَعْدَ
صُعُودِ الْإِمَامِ على الْمِنْبَرِ كَخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ
عَمَّا قَالَهُ أبو يُوسُفَ إن
____________________
(2/151)
هذه
صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لِأَنَّا نَقُولُ نعم لَكِنْ نُقَدِّمُ عليها
الْخُطْبَةَ فَيَكُونُ وَقْتُ الْأَذَانِ بَعْدَ ما صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ
لِلْخُطْبَةِ كما في خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ فإذا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُونَ من
الْأَذَانِ قام الْإِمَامُ وَخَطَبَ خُطْبَتَيْنِ قَائِمًا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا
بِجِلْسَةٍ خَفِيفَةٍ كما يَفْصِلُ في خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ
وَصِفَةُ الْخُطْبَةِ هِيَ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُثْنِيَ عليه
وَيُكَبِّرَ وَيُهَلِّلَ وَيَعِظَ الناس فَيَأْمُرَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ
عز وجل وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ اللَّهُ عنه وَيُعَلِّمَهُمْ مَنَاسِكَ
الْحَجِّ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ في الْأَصْلِ وُضِعَتْ لِمَا ذَكَرْنَا من الْحَمْدِ
وَالثَّنَاءِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ وَيُزَادُ
في هذه الْخُطْبَةِ تَعْلِيمُ مَعَالِمِ الْحَجِّ لِحَاجَةِ الْحُجَّاجِ إلَى ذلك
لِيَتَعَلَّمُوا الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَالْإِفَاضَةَ منها وَالْوُقُوفَ
بِمُزْدَلِفَةَ فإذا فَرَغَ من الْخُطْبَةِ أَقَامَ الْمُؤَذِّنُونَ فَصَلَّى
الْإِمَامُ بِهِمْ صَلَاةَ الظُّهْرِ ثُمَّ يَقُومُ الْمُؤَذِّنُونَ فَيُقِيمُونَ
لِلْعَصْرِ فيصلى بِهِمْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ
وَلَا يَشْتَغِلُ الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ بِالسُّنَنِ وَالتَّطَوُّعِ فِيمَا
بَيْنَهُمَا لِأَنَّ النبي جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِعَرَفَةَ يوم عَرَفَةَ بِأَذَانٍ
وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ ولم يَتَنَفَّلْ قَبْلَهُمَا وَلَا بَعْدَهُمَا مع
حِرْصِهِ على النَّوَافِلِ
فَإِنْ اشْتَغَلُوا فِيمَا بَيْنَهُمَا بِتَطَوُّعٍ أو غَيْرِهِ أَعَادُوا
الْأَذَانَ لِلْعَصْرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُؤَذَّنَ لِكُلِّ مَكْتُوبَةٍ
وَإِنَّمَا عُرِفَ تَرْكُ الْأَذَانِ بِفِعْلِ النبي وَأَنَّهُ لم يَشْتَغِلْ
فِيمَا بين الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِالتَّطَوُّعِ وَلَا بِغَيْرِهِ فَبَقِيَ
الْأَمْرُ عِنْدَ الِاشْتِغَالِ على الْأَصْلِ وَيُخْفِي الْإِمَامُ الْقِرَاءَةَ
فِيهِمَا بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ فإنه يَجْهَرُ فِيهِمَا
بِالْقِرَاءَةِ لِأَنَّ الْجَهْرَ بِالْقِرَاءَةِ هُنَاكَ من الشَّعَائِرِ
وَالسَّبِيلُ في الشَّعَائِرِ إشْهَارُهَا في الْجَهْرِ زِيَادَةُ إشْهَارٍ
فَشُرِعَتْ تِلْكَ الصَّلَاةُ كَذَلِكَ فَأَمَّا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ فَهُمَا
على حَالِهِمَا لم يَتَغَيَّرَا لِأَنَّهُمَا كَظُهْرِ سَائِرِ الْأَيَّامِ
وَعَصْرِ سَائِرِ الْأَيَّامِ وَالْحَادِثُ ليس إلَّا اجْتِمَاعُ الناس
وَاجْتِمَاعُهُمْ لِلْوُقُوفِ لَا لِلصَّلَاةِ وَإِنَّمَا اجْتِمَاعُهُمْ في حَقِّ
الصَّلَاةِ حَصَلَ اتِّفَاقًا
ثُمَّ إنْ كان الْإِمَامُ مُقِيمًا من أَهْلِ مَكَّةَ يُتِمُّ كُلَّ وَاحِدَةٍ من
الصَّلَاتَيْنِ أَرْبَعًا أَرْبَعًا وَالْقَوْمُ يُتِمُّونَ معه وَإِنْ كَانُوا
مُسَافِرِينَ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا اقْتَدَى بِالْمُقِيمِ في الْوَقْتِ
يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ لِأَنَّهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ صَارَ تَابِعًا
له في هذه الصَّلَاةِ وَإِنْ كان الْإِمَامُ مُسَافِرًا يُصَلِّي كُلَّ وَاحِدَةٍ
من الصَّلَاتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فإذا سَلَّمَ يقول لهم أَتِمُّوا
صَلَاتَكُمْ يا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفَرٌ
ثُمَّ لِجَوَازِ الْجَمْعِ أَعْنِي تَقْدِيمَ الْعَصْرِ على وَقْتِهَا
وَأَدَاءَهَا في وَقْتِ الظُّهْرِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عليه وَبَعْضُهَا
مُخْتَلَفٌ فيه أَمَّا الْمُتَّفَقُ عليه فَهُوَ شَرْطَانِ
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ أَدَاؤُهَا عَقِيبَ الظُّهْرِ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا
عليها لِأَنَّهَا شُرِعَتْ مُرَتَّبَةً على الظُّهْرِ فَلَا يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ
إلَّا بِأَسْبَابٍ مُسْقِطَةٍ ولم تُوجَدْ فَلَا تَسْقُطُ فَلَزِمَ مُرَاعَاةُ
التَّرْتِيبِ
وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ مُرَتَّبَةً على ظُهْرٍ جَائِزَةً اسْتِحْسَانًا حتى لو
صلى الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ في يَوْمِ غَيْمٍ ثُمَّ
اسْتَبَانَ لهم أَنَّ الظُّهْرَ وَقَعَتْ قبل الزَّوَالِ وَالْعَصْرَ بَعْدَ
الزَّوَالِ فَعَلَيْهِمْ إعَادَةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جميعا اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ هذا شَرْطًا وَلَيْسَ عليه إلَّا إعَادَةُ
الظُّهْرِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ الِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ الْأَيَّامِ فإنه إذَا صلى الْعَصْرَ
في سَائِرِ الْأَيَّامِ على ظَنِّ أَنَّهُ صلى الظُّهْرَ ثُمَّ تَبَيَّنَّ أَنَّهُ
لم يُصَلِّهَا يُعِيدُ الظُّهْرَ خَاصَّةً كَذَا هَهُنَا وَالْجَامِعُ أَنَّهُ صلى
الْعَصْرَ على ظَنِّ أَنَّهُ ليس عليه إلَّا إعَادَةُ الظُّهْرِ فَأَشْبَهَ
النَّاسِيَ وَالنِّسْيَانُ عُذْرٌ مُسْقِطٌ لِلتَّرْتِيبِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعَصْرَ مُؤَدَّاةٌ قبل وَقْتِهَا حَقِيقَةً
فَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَجُوزَ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ قبل وَقْتِهَا
وَإِنَّمَا عَرَفْنَا جَوَازَهَا بِالنَّصِّ مُرَتَّبَةً على ظُهْرٍ جَائِزَةٍ
فإذا لم تَجُزْ بَقِيَ الْأَمْرُ فيها على الْأَصْلِ
وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فيه فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ أَدَاءُ الصَّلَاتَيْنِ
بِالْجَمَاعَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ حتى لو صلى الْعَصْرَ وَحْدَهُ أو الظُّهْرَ
وَحْدَهُ لَا تَجُوزُ الْعَصْرُ قبل وَقْتِهَا عِنْدَهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ هذا ليس بِشَرْطٍ وَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا على وَقْتِهَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ جَوَازَ التَّقْدِيمِ لِصِيَانَةِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ
لِأَنَّ أَدَاءَ الْعَصْرِ في وَقْتِهَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُقُوفِ
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين الْوَحَدَانِ وَالْجَمَاعَةِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَوَازَ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عن الْأَصْلِ
لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ وَالْعِبَادَاتُ الْمُؤَقَّتَةُ لَا يَجُوزُ
تَقْدِيمُهَا على أَوْقَاتِهَا إلَّا أَنَّ جَوَازَ تَقْدِيمِ الْعَصْرِ على
وَقْتِهَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَيُرَاعَى فيه عَيْنُ
ما وَرَدَ بِهِ النَّصُّ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِجَوَازِ أَدَاءِ الْعَصْرِ كَامِلًا
مُرَتَّبًا على ظُهْرٍ كَامِلٍ وَهِيَ الْمُؤَدَّاةُ بِالْجَمَاعَةِ
وَالْمُؤَدَّاةُ لَا بِجَمَاعَةٍ لَا تُسَاوِيهَا في الْفَضِيلَةِ فَلَا يَكُونُ
في مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عليه
وَقَوْلُهُمَا أن الْجَوَازَ ثَبَتَ لِصِيَانَةِ الْوُقُوفِ مَمْنُوعٌ وَلَا
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا بِهِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُنَافِي الْوُقُوفَ
لِأَنَّهَا في نَفْسِهَا وُقُوفٌ وَالشَّيْءُ لَا يُنَافِي نَفْسَهُ وَإِنَّمَا
ثَبَتَ نَصًّا غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَيُتَّبَعُ فيه مَوْرِدُ النَّصِّ وهو ما
ذَكَرْنَا ولم يُوجَدْ وَلَوْ أَدْرَكَ
____________________
(2/152)
رَكْعَةً
من كل وَاحِدَةٍ من الصَّلَاتَيْنِ مع الْإِمَامِ بِأَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً من
الظُّهْرِ ثُمَّ قام الْإِمَامُ وَدَخَلَ في الْعَصْرِ فَقَامَ الرَّجُلُ وَقَضَى
ما فَاتَهُ من الظُّهْرِ فلما فَرَغَ من الظُّهْرِ دخل في صَلَاةِ الْإِمَامِ في
الْعَصْرِ وَأَدْرَكَ شيئا من كل وَاحِدَةٍ من الصَّلَاتَيْنِ مع الْإِمَامِ جَازَ
له تَقْدِيمُ الْعَصْرِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ
فَتَقَعُ الْعَصْرُ مُرَتَّبَةً على ظُهْرٍ كَامِلٍ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ أَدَاءُ الصَّلَاتَيْنِ بِإِمَامٍ وهو الْخَلِيفَةُ أو
نَائِبُهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ حتى لو صلى الظُّهْرَ بِجَمَاعَةٍ لَكِنْ لَا
مع الْإِمَامِ وَالْعَصْرَ مع الْإِمَامِ لم تَجُزْ الْعَصْرُ عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا هذا ليس بِشَرْطٍ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ جَوَازَ التَّقْدِيمِ
ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عن الْأَصْلِ مُرَتَّبًا على ظُهْرٍ كَامِلٍ وَهِيَ
الْمُؤَدَّاةُ بِالْجَمَاعَةِ مع الْإِمَامِ أو نَائِبِهِ فَالْمُؤَدَّاةُ
بِجَمَاعَةٍ من غَيْرِ إمَامٍ أو نَائِبِهِ لَا تَكُونُ مِثْلَهَا في الْفَضِيلَةِ
فَلَا تَكُونُ في مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ
وَلَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ بَعْدَ ما خَطَبَ فَأَمَرَ رَجُلًا بِالصَّلَاةِ جَازَ
له أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ الصَّلَاتَيْنِ جميعا سَوَاءٌ شَهِدَ الْمَأْمُورُ
الْخُطْبَةَ أو لم يَشْهَدْ بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ لَيْسَتْ
هُنَاكَ من شَرَائِطِ جَوَازِ الْجُمُعَةِ وَهَهُنَا الْخُطْبَةُ لَيْسَتْ
بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْجَمْعِ بين الصَّلَاتَيْنِ وَالْفَرْقُ ما بَيَّنَّا فَإِنْ
لم يَأْمُرْ الْإِمَامُ أَحَدًا فَتَقَدَّمَ وَاحِدٌ من عَرَضِ الناس وَصَلَّى
بِهِمْ الصَّلَاتَيْنِ جميعا لم يَجُزْ الْجَمْعُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ
الْإِمَامَ أو نَائِبَهُ شَرْطٌ عِنْدَهُ ولم يُوجَدْ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ
وَإِنْ كان الْمُتَقَدِّمُ رَجُلًا من ذِي سُلْطَانٍ كَالْقَاضِي وَصَاحِبِ
الشُّرَطِ جَازَ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ فَإِنْ كان الْإِمَامُ سَبَقَهُ
الْحَدَثُ في الظُّهْرِ فَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا فإنه يُصَلِّي بِهِمْ الظُّهْرَ
وَالْعَصْرَ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِمَامِ فَإِنْ فَرَغَ من الْعَصْرِ قبل
أَنْ يَرْجِعَ الْإِمَامُ فإن الْإِمَامَ لَا يُصَلِّي الْعَصْرَ إلَّا في
وَقْتِهَا لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَخْلَفَ صَارَ كَوَاحِدٍ من الْمُؤْتَمِّينَ
وَالْمُؤْتَمُّ إذَا صلى الظُّهْرُ مع الْإِمَامِ ولم يُصَلِّ الْعَصْرَ معه لَا
يُصَلِّي الْعَصْرَ إلَّا في وَقْتِهَا كَذَا هذا
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ حَالَ أَدَاءِ الصَّلَاتَيْنِ جميعا
حتى لو صلى الظُّهْرَ بِجَمَاعَةٍ مع الْإِمَامِ وهو حَلَالٌ من أَهْلِ مَكَّةَ
ثُمَّ أَحْرَمَ لِلْحَجِّ لَا يَجُوزُ له أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ إلَّا في
وَقْتِهَا كَذَا ذُكِرَ في نَوَادِرِ الصَّلَاةِ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ في غَيْرِ
رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يَجُوزُ وهو قَوْلُ زُفَرَ وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ
النَّوَادِرِ لِأَنَّ الْعَصْرَ شُرِعَتْ مُرَتَّبَةً على ظُهْرٍ كَامِلٍ وهو
ظُهْرُ الْمُحْرِمِ وَظُهْرُ الْحَلَالِ لَا يَكُونُ مِثْلَ ظُهْرِ الْمُحْرِمِ في
الْفَضِيلَةِ فَلَا يَجُوزُ تَرْتِيبُ الْعَصْرِ على ظُهْرٍ هِيَ دُونَ
الْمَنْصُوصِ عليه
وَعَلَى هذا إذَا صلى الظُّهْرَ بِجَمَاعَةٍ مع الْإِمَامِ وهو مُحْرِمٌ لَكِنْ
بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَا يُجْزِئُهُ الْعَصْرُ
إلَّا في وَقْتِهَا وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ كما في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ ظُهْرَ الْمُحْرِمِ بِالْعُمْرَةِ لَا يَكُونُ
مِثْلَ ظُهْرِ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ في الْفَضِيلَةِ فَلَا يَكُونُ أَدَاءُ
الْعَصْرِ في مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ فَلَا تَجُوزُ إلَّا في وَقْتِهَا وَلَوْ
نَفَرَ الناس عن الْإِمَامِ فَصَلَّى وَحْدَهُ الصَّلَاتَيْنِ أَجْزَأَهُ
وَدَلَّتْ هذه الْمَسْأَلَةُ على أَنَّ الشَّرْطَ في الْحَقِيقَةِ هو الْإِمَامُ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا الْجَمَاعَةُ فإن الصَّلَاتَيْنِ جَازَتَا لِلْإِمَامِ
وَلَا جَمَاعَةَ فَتُبْنَى الْمَسَائِلُ عليه إذْ هو أَقْرَبُ إلَى الصِّيغَةِ
وَلَا يَلْزَمُهُ على هذا ما إذَا سَبَقَ الْإِمَامَ الْحَدَثُ في صَلَاةِ
الظُّهْرِ فَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا وَذَهَبَ الْإِمَامُ لِيَتَوَضَّأَ فَصَلَّى
الْخَلِيفَةُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ثُمَّ جاء الْإِمَامُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ له
أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ إلَّا في وَقْتِهَا لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ هُنَاكَ
ليس لِعَدَمِ الْجَمَاعَةِ بَلْ لِعَدَمِ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ خَرَجَ عن أَنْ
يَكُونَ إمَامًا فَصَارَ كَوَاحِدٍ من الْمُؤْتَمِّينَ أو يُقَالُ الْجَمَاعَةُ
شَرْطُ الْجَمْعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَكِنْ في حَقِّ
غَيْرِ الْإِمَامِ لَا في حَقِّ الْإِمَامِ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
فَإِنْ مَاتَ الْإِمَامُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ خَلِيفَتُهُ جَازَ لِأَنَّ مَوْتَ
الْإِمَامِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ وِلَايَةِ خُلَفَائِهِ كَوِلَايَةِ
السَّلْطَنَةِ وَالْقَضَاءِ فإذا فَرَغَ الْإِمَامُ من الصَّلَاةِ رَاحَ إلَى
الْمَوْقِفِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ وَرَاحَ الناس معه لِأَنَّ النبي رَاحَ إلَيْهِ
عَقِيبَ الصَّلَاةِ
وَيَرْفَعُ الْأَيْدِيَ بَسْطًا يَسْتَقْبِلُ كما يَسْتَقْبِلُ الدَّاعِي بيده
وَوَجْهِهِ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال رأيت
رَسُولَ اللَّهِ يَدْعُو بِعَرَفَاتٍ بَاسِطًا يَدَيْهِ في نَحْرِهِ
كَاسْتِطْعَامِ الْمِسْكِينِ فَيَقِفُ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ
يُكَبِّرُونَ وَيُهَلِّلُونَ وَيَحْمَدُونَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُثْنُونَ عليه
وَيُصَلُّونَ على النبي وَيَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى حَوَائِجَهُمْ
وَيَتَضَرَّعُونَ إلَيْهِ بِالدُّعَاءِ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال
أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ أَهْلِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ ما قلت وَقَالَتْ
الْأَنْبِيَاءُ قَبْلِي عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حيى لا يموت بيده
الخير وهو على كل شيء قدير وعن على ي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال إن أكصر دعائي ودعاء
____________________
(2/153)
الأنبياء
قبلي عشية يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الْمُلْكُ وَلَهُ
الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وهو حَيٌّ لَا يَمُوتُ بيده الْخَيْرُ وهو على كل
شَيْءٍ قَدِيرٌ
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي قال إنَّ أَكْثَرَ دُعَائِي وَدُعَاءِ
الْأَنْبِيَاءِ قبلي ( ( ( قبل ) ) ) عَشِيَّةِ يَوْمِ عَرَفَةَ لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له له الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ
وهو على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ اجْعَلْ في قَلْبِي نُورًا وفي سَمْعِي
نُورًا وفي بَصَرِي نُورًا اللَّهُمَّ اشْرَحْ لي صَدْرِي وَيَسِّرْ لي أَمْرِي
وَأَعُوذُ بِكَ من وَسْوَاسِ الصُّدُورِ وسيآت ( ( ( وسيئات ) ) ) الْأُمُورِ
وَفِتْنَةِ الْفَقْرِ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ من شَرِّ ما يَلِجُ في
اللَّيْلِ وَشَرِّ ما تَهُبُّ بِهِ الرِّيَاحُ
وَلَيْسَ عن أَصْحَابِنَا فيه دُعَاءٌ مُوَقَّتٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَدْعُو
بِمَا شَاءَ وَلِأَنَّ تَوْقِيتَ الدُّعَاءِ يَذْهَبُ بِالرِّقَّةِ لِأَنَّهُ
يَجْرِي على لِسَانِهِ من غَيْرِ قَصْدِهِ فَيَبْعُدُ عن الْإِجَابَةِ ويلي ( ( (
ويلبي ) ) ) في مَوْقِفِهِ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ وَلَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ
وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ إذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ
يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ لَبَّى حتى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ
وَرُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَبَّى عَشِيَّةَ
يَوْمِ عَرَفَةَ فَقِيلَ له ليس هذا مَوْضِعَ التَّلْبِيَةِ فقال أَجَهِلَ الناس
أَمْ نَسَوْا فَوَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لقد حَجَجْتُ مع رسول
اللَّهِ فما تَرَكَ التَّلْبِيَةَ حتى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ إلَّا أَنْ
يُخَلِّلَهَا أو يَخْلِطَهَا بِتَكْبِيرٍ وَتَهْلِيلٍ وَلِأَنَّ التَّلْبِيَةَ
ذِكْرٌ يُؤْتَى بِهِ في ابْتِدَاءِ هذه الْعِبَادَةِ وَتَكَرَّرَ في أَثْنَائِهَا
فَأَشْبَهَ التَّكْبِيرَ في بَابِ الصَّلَاةِ وكان يَنْبَغِي أَنْ يُؤْتَى بِهِ
إلَى آخِرِ أَرْكَانِ هذه الْعِبَادَةِ كَالتَّكْبِيرِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا
الْقِيَاسَ فِيمَا بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ أو ما يَقُومُ مَقَامَ
الرَّمْيِ في الْقَطْعِ بِالْإِجْمَاعِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيمَا قبل ذلك على
أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَسَوَاءٌ كان مُفْرِدًا بِالْحَجِّ أو قَارِنًا أو مُتَمَتِّعًا بِخِلَافِ
الْمُفْرِدِ بِالْعُمْرَةِ أَنَّهُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا اسْتَلَمَ
الْحَجَرَ حين يَأْخُذُ في طَوَافِ الْعُمْرَةِ لِأَنَّ الطَّوَافَ رُكْنٌ في
الْعُمْرَةِ فَأَشْبَهَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ في الْحَجِّ وَهُنَاكَ يَقْطَعُ
التَّلْبِيَةَ قبل الطَّوَافِ كَذَا هَهُنَا وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ في
الْمَوْقِفِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال خَيْرُ
الْمَجَالِسِ ما اُسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ
وَرُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال رَكِبَ رسول اللَّهِ حتى أتى
الْمَوْقِفَ فَاسْتَقْبَلَ بِهِ الْقِبْلَةَ فلم يَزَلْ وَاقِفًا حتى غَرَبَتْ
الشَّمْسُ فَإِنْ انْحَرَفَ قَلِيلًا لم يَضُرَّهُ لِأَنَّ الْوُقُوفَ ليس
بِصَلَاةٍ وَكَذَا لو وَقَفَ وهو مُحْدِثٌ أو جُنُبٌ لم يَضُرَّهُ لِمَا مَرَّ
أَنَّ الْوُقُوفَ عِبَادَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ فَلَا يُشْتَرَطُ له
الطَّهَارَةُ كَرَمْيِ الْجِمَارِ
وَالْأَفْضَلُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقِفَ على رَاحِلَتِهِ لِأَنَّ النبي وَقَفَ
رَاكِبًا وَكُلَّمَا قَرُبَ في وُقُوفِهِ من الْإِمَامِ فَهُوَ أَفْضَلُ لِأَنَّ
الْإِمَامَ يُعَلِّمُ الناس وَيَدْعُو فَكَلَّمَا كان أَقْرَبَ كان أَمْكَنَ من
السَّمَاعِ
وَعَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ فإنه يُكْرَهُ الْوُقُوفُ
فيه لِمَا ذَكَرْنَا في بَيَانِ مَكَانِ الْوُقُوفِ فَيَقِفُ إلَى غُرُوبِ
الشَّمْسِ فإذا غَرَبَتْ الشَّمْسُ دَفَعَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ معه وَلَا
يَدْفَعُ أَحَدٌ قبل غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا الْإِمَامُ وَلَا غَيْرُهُ لِمَا مَرَّ
أَنَّ الْوُقُوفَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَاجِبٌ
وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ خَطَبَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فقال أَمَّا بَعْدُ فإن هذا
يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَإِنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كانت تَدْفَعُ من هَهُنَا
وَالشَّمْسُ على رؤوس الْجِبَالِ مِثْلُ الْعَمَائِمِ على رؤوس الرِّجَالِ فَخَالِفُوهُمْ
وَأَمَرَ النبي بِالدَّفْعِ منه بَعْدَ الْغُرُوبِ فَإِنْ خَافَ بَعْضُ الْقَوْمِ
الزِّحَامَ أو كانت بِهِ عِلَّةٌ فَيُقَدَّمُ قبل الْإِمَامِ قَلِيلًا ولم
يُجَاوِزْ حَدَّ عَرَفَةَ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ إذَا لم يُجَاوِزْ حَدَّ
عَرَفَةَ فَهُوَ في مَكَانِ الْوُقُوفِ وقد دَفَعَ الضَّرَرَ عن نَفْسِهِ وَإِنْ
ثَبَتَ على مَكَانِهِ حتى يَدْفَعَ الْإِمَامُ فَهُوَ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { ثُمَّ أَفِيضُوا من حَيْثُ أَفَاضَ الناس }
وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يُدْفَعُوا وَعَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ
حتى يَأْتُوا مُزْدَلِفَةَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي أَفَاضَ من عَرَفَةَ
وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ حتى رُوِيَ أَنَّهُ كان يَكْبَحُ نَاقَتَهُ
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا دَفَعَ من عَرَفَاتٍ فقال أَيُّهَا الناس إنَّ الْبِرَّ
ليس في إيجَافِ الْخَيْلِ وَلَا في إبضاع الْإِبِلِ بَلْ على هَيِّنَتِكُمْ
وَلِأَنَّ هذا مَشْيٌ إلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّهُمْ يَأْتُونَ مُزْدَلِفَةَ
لِيُصَلُّوا بها الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وقد قال النبي إذَا أَتَيْتُمْ
الصَّلَاةَ فَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ وَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ
تَسْعَوْنَ وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فَإِنْ أَبْطَأَ الْإِمَامُ
بِالدَّفْعِ وَتَبَيَّنَ لِلنَّاسِ اللَّيْلُ دَفَعُوا قبل الْإِمَامِ لِأَنَّهُ
إذَا تَبَيَّنَ اللَّيْلُ فَقَدْ جاء أَوَانُ الدَّفْعِ وَالْإِمَامُ
بِالتَّأْخِيرِ تَرَكَ السُّنَّةَ فَلَا يَنْبَغِي لهم أَنْ يَتْرُكُوهَا
وإذا أتى مُزْدَلِفَةَ يَنْزِلُ حَيْثُ شَاءَ عن يَمِينِ الطَّرِيقِ أو عن
يَسَارِهِ وَلَا يَنْزِلُ على قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَلَا في وَادِي مُحَسِّرٍ
لِقَوْلِ النبي مُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا وَادِي مُحَسِّرٍ وَإِنَّمَا
لَا يَنْزِلُ على الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الناس عن الْجَوَازِ
فَيَتَأَذَّوْنَ بِهِ فإذا دخل وَقْتُ الْعِشَاءِ يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ
وَيُقِيمُ فَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِهِمْ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ في وَقْتِ صَلَاةِ
الْعِشَاءِ ثُمَّ يُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ الْعِشَاءِ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ
وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ
وقال الشَّافِعِيُّ
____________________
(2/154)
بِأَذَانَيْنِ
وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ احْتَجَّ زُفَرُ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِمُزْدَلِفَةَ بِإِقَامَتَيْنِ وَلِأَنَّ هذا أَحَدُ
نَوْعَيْ الْجَمْعِ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ وهو الْجَمْعُ بِعَرَفَةَ
وَالْجَمْعُ هُنَاكَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ
كَذَا هَهُنَا
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ وَخُزَيْمَةَ بن ثَابِتٍ رضي اللَّهُ
عنهما أَنَّ النبي صلى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِمُزْدَلِفَةَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ
وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ
وَعَنْ أبي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال صَلَّيْتُهُمَا
مع رسول اللَّهِ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ وما احْتَجَّ بِهِ
زُفَرُ مَحْمُولٌ على الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَيُسَمَّى الْأَذَانُ إقَامَةً
كما يُقَالُ سَنَةُ الْعُمَرَيْنِ وَيُرَادُ بِهِ سَنَةُ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي
اللَّهُ عنهما
وقال بين كل أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ إلَّا الْمَغْرِبَ وَأَرَادَ بِهِ
الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ كَذَا هَهُنَا
وَالْقِيَاسُ على الْجَمْعِ الْآخَرِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ هُنَاكَ الصَّلَاةُ
الثَّانِيَةُ وَهِيَ الْعَصْرُ تُؤَدَّى في غَيْرِ وَقْتِهَا فَتَقَعُ الْحَاجَةُ
إلَى إقَامَةٍ أُخْرَى لِلْإِعْلَامِ بِالشُّرُوعِ فيها وَالصَّلَاةُ الثَّانِيَةُ
هَهُنَا وَهِيَ الْعِشَاءُ تُؤَدَّى في وَقْتِهَا فيستغني عن تَجْدِيدِ
الْإِعْلَامِ كَالْوِتْرِ مع الْعِشَاءِ وَلَا يَتَشَاغَلُ بَيْنَهُمَا
بِتَطَوُّعٍ وَلَا بِغَيْرِهِ لِأَنَّ النبي لم يَتَشَاغَلْ بَيْنَهُمَا
بِتَطَوُّعٍ وَلَا بِغَيْرِهِ فَإِنْ تَطَوَّعَ بَيْنَهُمَا أو تَشَاغَلَ بِشَيْءٍ
أَعَادَ الْإِقَامَةَ لِلْعِشَاءِ لِأَنَّهَا انْقَطَعَتْ عن الْإِعْلَامِ
الْأَوَّلِ فَاحْتَاجَتْ إلَى إعْلَامٍ آخَرَ فَإِنْ صلى الْمَغْرِبَ وَحْدَهُ
وَالْعِشَاءَ وَحْدَهُ أَجْزَأَهُ بِخِلَافِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ على
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أنه لَا يَجُوزُ إلَّا بِجَمَاعَةٍ عِنْدَهُ
وَالْفَرْقُ له أَنَّ الْمَغْرِبَ تُؤَدَّى فِيمَا هو وَقْتُهَا في الْجُمْلَةِ
إنْ لم يَكُنْ وَقْتُ أَدَائِهَا فَكَانَ الْجَمْعُ هَهُنَا بِتَأْخِيرِ
الْمَغْرِبِ عن وَقْتِ أَدَائِهَا فَيَجُوزُ فِعْلُهَا وَحْدَهُ كما لو
تَأَخَّرَتْ عنه بِسَبَبٍ آخَرَ فَقَضَاهُ في وَقْتِ الْعِشَاءِ وَحْدَهُ
وَالْعَصْرُ هُنَاكَ تُؤَدَّى فِيمَا ليس وَقْتَهَا أَصْلًا وَرَأْسًا فَلَا
يَجُوزُ إذْ لَا جَوَازَ لِلصَّلَاةِ قبل وَقْتِهَا وَإِنَّمَا عَرَفْنَا
جَوَازَهَا بِالشَّرْعِ وَإِنَّمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بها بِجَمَاعَةٍ فَيَتْبَعُ
مَوْرِدَ الشَّرْعِ
وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا مع الْإِمَامِ بِجَمَاعَةٍ لِأَنَّ الصَّلَاةَ
بِجَمَاعَةٍ أَفْضَلُ
وَلَوْ صلى الْمَغْرِبَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قبل أَنْ يَأْتِيَ مُزْدَلِفَةَ
فَإِنْ كان يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ مُزْدَلِفَةَ قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ لم
تَجُزْ صَلَاتُهُ وَعَلَيْهِ إعادتها ( ( ( إعادته ) ) ) ما لم يَطْلُعْ الْفَجْرُ
في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ
وقال أبو يُوسُفَ تُجْزِئُهُ وقد أَسَاءَ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا صلى
الْعِشَاءَ في الطَّرِيقِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَدَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ في وَقْتَيْهِمَا
لِأَنَّهُ ثَبَتَ كَوْنُ هذا الْوَقْتِ وَقْتًا لَهُمَا بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ
وَالسُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ الْمُطْلَقَةِ عن الْمَكَانِ على ما ذَكَرْنَا في
كِتَابِ الصَّلَاةِ فَيَجُوزُ كما لو أَدَّاهَا في غَيْرِ لَيْلَةِ
الْمُزْدَلِفَةِ إلَّا أَنَّ التَّأْخِيرَ سُنَّةٌ وَتَرْكُ السُّنَّةِ لَا
يَسْلُبُ الْجَوَازَ بَلْ يُوجِبُ الْإِسَاءَةَ وَلَهُمَا ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ لَمَّا دَفَعَ من عَرَفَاتٍ وكان أُسَامَةُ بن زَيْدٍ رضي اللَّهُ عنه
رَدِيفَ رسول اللَّهِ قال فلما بَلَغَ الشِّعْبَ الْأَيْسَرَ الذي دُونَ
الْمُزْدَلِفَةِ أَنَاخَ فَبَالَ ثُمَّ جاء فَصَبَبْتُ عليه الْوُضُوءَ
فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا فقلت الصَّلَاةُ يا رَسُولَ اللَّهِ فقال
الصَّلَاةُ أَمَامَكَ وَرُوِيَ أَنَّهُ قال الْمُصَلَّى أَمَامَك فَجَاءَ
مُزْدَلِفَةَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ
فَدَلَّ الْحَدِيثُ على اخْتِصَاصِ جَوَازِهَا في حَالِ الِاخْتِيَارِ
وَالْإِمْكَانِ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ وهو وَقْتُ الْعِشَاءِ بمزدلفه ولم يُوجَدْ
فَلَا يَجُوزُ وَيُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ في وَقْتِهَا وَمَكَانِهَا ما دَامَ
الْوَقْتُ قَائِمًا فَإِنْ لم يُعِدْ حتى طَلَعَ الْفَجْرُ أَعَادَ إلَى
الْجَوَازِ عِنْدَهُمَا أَيْضًا لِأَنَّ الْكِتَابَ الْكَرِيمَ وَالسُّنَنَ
الْمَشْهُورَةَ تَقْتَضِي الْجَوَازَ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي كَوْنَ الْوَقْتِ
وَقْتًا لها وإنها مُطْلَقَةٌ عن الْمَكَانِ
وَحَدِيثُ أُسَامَةَ رضي اللَّهُ عنه يَقْتَضِي عَدَمَ الْجَوَازِ وَأَنَّهُ من
أَخْبَارِ الْآحَادِ وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ على وَجْهٍ
يَتَضَمَّنُ بُطْلَانَ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ
فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَيُعْمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا قبل طُلُوعِ
الْفَجْرِ وَيُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ وَيُعْمَلُ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ
وَالسُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ فِيمَا بَعْدَ طُلُوعِهِ فَلَا نَأْمُرُهُ
بِالْإِعَادَةِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
هذا إذَا كان يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ مُزْدَلِفَةَ قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ
فَأَمَّا إذَا خشيء ( ( ( خشي ) ) ) أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ قبل أَنْ يَصِلَ إلَى
مُزْدَلِفَةَ لِأَجْلِ ضِيقِ الْوَقْتِ بِأَنْ كان في آخِرِ اللَّيْلِ بِحَيْثُ
يَطْلُعُ الْفَجْرُ قبل أَنْ يَأْتِيَ مُزْدَلِفَةَ فإنه يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ
هَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ يَفُوتُ
وَقْتُ الْجَمْعِ فَكَانَ في تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ صِيَانَتُهَا عن الْفَوَاتِ
فَإِنْ كان لَا يَخْشَى الْفَوَاتَ لِأَجْلِ ضِيقِ الْوَقْتِ وَلَكِنَّهُ ضَلَّ عن
الطَّرِيقِ لَا يُصَلِّي بَلْ يُؤَخِّرُ إلَى أَنْ يَخَافَ طُلُوعَ الْفَجْرِ لو
لم يَصِلْ فَعِنْدَ ذلك يُصَلِّي لِمَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَيَبِيتُ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ بمزدلفه لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بَاتَ بها
فَإِنْ مَرَّ بها مَارًّا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ من غَيْرِ أَنْ يَبِيتَ بها
فَلَا شَيْءَ عليه وَيَكُونُ مُسِيئًا وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ
____________________
(2/155)
أتى
بِالرُّكْنِ وهو كَيْنُونَتُهُ بمزدلفه بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَكِنَّهُ
يَكُونُ مُسِيئًا لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ وَهِيَ الْبَيْتُوتَةُ بها فإذا طَلَعَ
الْفَجْرُ صلى الْإِمَامُ بِهِمْ صَلَاةَ الْفَجْرِ بِغَلَسٍ لِمَا رُوِيَ عن عبد
اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال ما رأيت رَسُولَ اللَّهِ
صلى صَلَاةً لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاةَ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ وَصَلَاةَ
الْمَغْرِبِ بِجَمْعٍ وَصَلَاةَ الْفَجْرِ يَوْمَئِذٍ فإنه صَلَّاهَا قبل
وَقْتِهَا بِغَلَسٍ أَيْ صَلَّاهَا قبل وَقْتِهَا الْمُسْتَحَبِّ بِغَلَسٍ
وَلِأَنَّ الْفَائِتَ بِالتَّغْلِيسِ فَضِيلَةُ الْإِسْفَارِ وإنها مُمْكِنُ
الِاسْتِدْرَاكِ في كل يَوْمٍ فَأَمَّا فَضِيلَةُ الْوُقُوفِ فَلَا تُسْتَدْرَكُ
في غَيْرِ ذلك الْيَوْمِ فإذا صلى الْإِمَامُ بِهِمْ وَقَفَ بِالنَّاسِ وَوَقَفُوا
وَرَاءَهُ أو معه وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِفُهُمْ على الْجَبَلِ الذي
يُقَالُ له قُزَحُ وهو تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلْمَشْعَرِ الْحَرَامِ أَنَّهُ
الْجَبَلُ وما حَوْلَهُ
وَعِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ هو مُزْدَلِفَةُ
فَيَقِفُونَ إلَى أَنْ يُسْفِرَ جِدًّا يَدْعُونَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُكَبِّرُونَ
وَيُهَلِّلُونَ وَيَحْمَدُونَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُثْنُونَ عليه وَيُصَلُّونَ على
النبي وَيَسْأَلُونَ حَوَائِجَهُمْ ثُمَّ يَدْفَعُ منها إلَى مِنًى قبل طُلُوعِ
الشَّمْسِ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال إنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كانت تَنْفِرُ
من هذا الْمَقَامِ وَالشَّمْسُ على رؤوس الْجِبَالِ فَخَالِفُوهُمْ فَأَفَاضَ قبل
طُلُوعِ الشَّمْسِ وقد كانت الْجَاهِلِيَّةُ تَقُولُ بِمُزْدَلِفَةَ أَشْرِقْ
ثَبِيرَ كَيْمَا نُغِيرُ وهو جَبَلٌ عَالٍ تَطْلُعُ عليه الشَّمْسُ قبل كل
مَوْضِعٍ فَخَالَفَهُمْ رسول اللَّهِ فَدَفَعَ قبل طُلُوعِ الشَّمْسِ
وَإِنْ دَفَعَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قبل أَنْ يُصَلِّيَ الناس الْفَجْرَ
فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا شَيْءَ عليه
أَمَّا الْإِسَاءَةُ فَلِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَجْرَ وَيَقِفَ
ثُمَّ يُفِيضَ فإذا لم يَفْعَلْ فَقَدْ تَرَكَ السُّنَّةَ فَيَكُونُ مُسِيئًا
وَأَمَّا عَدَمُ لُزُومِ شَيْءٍ فَلِأَنَّهُ وُجِدَ منه الرُّكْنُ وهو الْوُقُوفُ
وَلَوْ سَاعَةً وإذا أَفَاضَ من جَمْعٍ دَفَعَ على هَيِّنَتِهِ لِأَنَّ النبي
كَذَا فَعَلَ وَيَأْخُذُ حصا ( ( ( حصى ) ) ) الْجِمَارِ من مُزْدَلِفَةَ أو من
الطَّرِيقِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي أَمَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما
أَنْ يَأْخُذَ الْحَصَى من مُزْدَلِفَةَ وَعَلَيْهِ فِعْلُ الْمُسْلِمِينَ وهو
أَحَدُ نَوْعَيْ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ رَمَى بِحَصَاةٍ أَخَذَهَا من الْجَمْرَةِ
أَجْزَأَهُ وقد أَسَاءَ
وقال مَالِكٌ لَا تُجْزِئُهُ لِأَنَّهَا حَصًى مُسْتَعْمَلَةٌ
وَلَنَا قَوْلُهُ ارْمِ وَلَا حَرَجَ مُطْلَقًا وَتَعْلِيلُ مَالِكٍ لَا
يَسْتَقِيمُ على أَصْلِهِ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ عِنْدَهُ طَاهِرٌ
وَطَهُورٌ حتى يَجُوزَ الْوُضُوءُ بِهِ فَالْحِجَارَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ أَوْلَى
وَإِنَّمَا كُرِهَ ذلك عِنْدَنَا لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ ابن عَبَّاسٍ
فَقِيلَ له إنَّ من عَهْدِ إبْرَاهِيمَ إلَى يَوْمِنَا هذا في الْجَاهِلِيَّةِ
وَالْإِسْلَامِ يَرْمِي الناس وَلَيْسَ هَهُنَا إلَّا هذا الْقَدْرُ فقال كُلُّ
حَصَاةٍ تُقْبَلُ فَإِنَّهَا تُرْفَعُ وما لَا يُقْبَلُ فإنه يَبْقَى وَمِثْلُ هذا
لَا يُعْرَفُ إلَّا سَمَاعًا من رسول اللَّهِ فَيُكْرَهُ أَنْ يرمى بِحَصَاةٍ لم
تُقْبَلْ فَيَأْتِيَ مِنًى فَيَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ سَبْعَ حَصَيَاتٍ
لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أتى مِنًى لم يَعْرُجْ على شَيْءٍ حتى رَمَى
جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ سَبْعَ حَصَيَاتٍ
ويقطع ( ( ( يقطع ) ) ) التَّلْبِيَةَ مع أَوَّلِ حَصَاةٍ يَرْمِي بها جَمْرَةَ
الْعَقَبَةِ لِمَا رَوَى أُسَامَةُ بن زَيْدٍ وَالْفَضْلُ بن عَبَّاسٍ أَنَّ النبي
قَطَعَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ حَصَاةٍ رَمَى بها جمر ( ( ( جمرة ) ) )
الْعَقَبَةِ وكان أُسَامَةُ رَدِيفَ رسول اللَّهِ من عَرَفَاتٍ إلَى مُزْدَلِفَةَ
وَالْفَضْلُ كان رَدِيفَهُ من مُزْدَلِفَةَ إلَى مِنًى
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عن ذلك فقال أخبرني أَخِي الْفَضْلُ أَنَّ
النبي قَطَعَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ حَصَاةٍ رَمَى بها جَمْرَةَ
الْعَقَبَةِ وكان رَدِيفَ رسول اللَّهِ وَسَوَاءٌ كان في الْحَجِّ الصَّحِيحِ أو
في الْحَجِّ الْفَاسِدِ إنه يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مع أَوَّلِ حَصَاةٍ يَرْمِي
بها جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ لِأَنَّ أَعْمَالَهَا لَا تَخْتَلِفُ فَلَا يَخْتَلِفُ
وَقْتُ قَطْعِ التَّلْبِيَةِ وَسَوَاءٌ كان مُفْرِدًا بِالْحَجِّ أو قَارِنًا أو
مُتَمَتِّعًا لِأَنَّ الْقَارِنَ وَالْمُتَمَتِّعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ فَكَانَ كَالْمُفْرِدِ بِهِ
وَلَا يَقْطَعُ الْقَارِنُ التَّلْبِيَةَ إذَا أَخَذَ في طَوَافِ الْعُمْرَةِ
لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ وَإِنَّمَا يَقْطَعُ عندما يَقْطَعُ
الْمُفْرِدُ بِالْحَجَّةِ لِأَنَّهُ بَعْدَ إتْيَانِهِ بِالْعُمْرَةِ
كَالْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ
فَأَمَّا الْمُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ الْمُفْرَدَةِ فإنه يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ
إذَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَأَخَذَ في طَوَافِ الْعُمْرَةِ وَالْفَرْقُ بين
الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ وَبَيْنَ الْمُحْرِمِ بِالْعُمْرَةِ الْمُفْرَدَةِ
ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وقال مَالِكٌ في الْمُفْرِدِ بِالْعُمْرَةِ يَقْطَعُ
التَّلْبِيَةَ إذَا رَأَى الْبَيْتَ
وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ قَطْعَ التَّلْبِيَةِ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ هو
نُسُكٌ كَالرَّمْيِ في حَقِّ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ وَرُؤْيَةُ الْبَيْتِ ليس
بِنُسُكٍ فَلَا يَقْطَعُ عِنْدَنَا
فَأَمَّا اسْتِلَامُ الْحَجَرِ فَنُسُكٌ كَالرَّمْيِ فَيَقْطَعُ عِنْدَهُ لَا
عِنْدَ الرُّؤْيَةِ
قال مُحَمَّدٌ إنَّ فَائِتَ الْحَجِّ إذَا تَحَلَّلَ بِالْعُمْرَةِ يَقْطَعُ
التَّلْبِيَةَ حين ( ( ( حيث ) ) ) يَأْخُذُ في الطَّوَافِ كَذَا هذا
وَالْقَارِنُ إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ في الطَّوَافِ الثاني
( ( ( والثاني ) ) ) الذي يَتَحَلَّلُ بِهِ من حَجَّتِهِ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ
____________________
(2/156)
ما
فَاتَتْهُ إذْ ليس لها وَقْتٌ مُعَيَّنٌ فَيَأْتِي بها فَيَطُوفُ وَيَسْعَى كما
كان يَفْعَلُ لو لم يَفُتْهُ الْحَجُّ وَإِنَّمَا فَاتَهُ الْحَجُّ فَيَفْعَلُ ما
يَفْعَلُهُ فَائِتُ الْحَجِّ وهو أَنْ يَتَحَلَّلَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَهِيَ
الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ كَالْمُقِيمِ فَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا أَخَذَ في
طَوَافِ الْحَجِّ
وَالْمُحْصَرُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا ذَبَحَ عنه هَدْيَهُ لِأَنَّهُ إذَا
ذَبَحَ هَدْيَهُ فَقَدْ تَحَلَّلَ وَلَا تَلْبِيَةَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ فَإِنْ
حَلَقَ الْحَاجُّ قبل أَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ
لِأَنَّهُ بِالْحَلْقِ تَحَلَّلَ من الْإِحْرَامِ لِمَا رَوَيْنَا عن النبي
أَنَّهُ قال لِمَنْ حَلَقَ قبل الرَّمْيِ ارْمِ وَلَا حَرَجَ فَثَبَتَ أَنَّ
التَّحَلُّلَ من الْإِحْرَامِ يَحْصُلُ بِالْحَلْقِ قبل الرَّمْيِ وَلَا
تَلْبِيَةَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ فَإِنْ زَارَ الْبَيْتَ قبل أَنْ يَرْمِيَ
وَيَحْلِقَ وَيَذْبَحَ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ إنه يُلَبِّي ما لم يَحْلِقْ أو تَزُولُ الشَّمْسُ من
يَوْمِ النَّحْرِ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ في رِوَايَةٍ مِثْلُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَرَوَى هِشَامٌ عنه وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عنه أَنَّ من لم يَرْمِ قَطَعَ
التَّلْبِيَةَ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ من يَوْمِ النَّحْرِ وَرَوَى هِشَامٌ عنه
رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ
فَظَاهِرُ رِوَايَتِهِ مع أبي حَنِيفَةَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ وَإِنْ طَافَ فَإِحْرَامُهُ قَائِمٌ لم
يَتَحَلَّلْ بهذا الطَّوَافِ إذَا لم يَحْلِقْ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ له
الطِّيبُ وَاللُّبْسُ فَالْتَحَقَ الطَّوَافُ بِالْعَدَمِ وَصَارَ كَأَنَّهُ لم
يَطُفْ فَلَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إلَّا إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ لِأَنَّ من
أَصْلِهِ أَنَّ هذا الرَّمْيَ مُؤَقَّتٌ بِالزَّوَالِ فإذا زَالَتْ الشَّمْسُ
يَفُوتُ وَقْتُهُ وَيَفْعَلُ بَعْدَهُ قَضَاءً فَصَارَ فَوَاتُهُ عن وَقْتِهِ
بِمَنْزِلَةِ فِعْلِهِ في وَقْتِهِ وَعِنْدَ فِعْلِهِ في وَقْتِهِ يَقْطَعُ
التَّلْبِيَةَ كَذَا عِنْدَ فَوَاتِهِ عن وَقْتِهِ بِخِلَافِ ما إذَا حَلَقَ قبل
الرَّمْيِ لِأَنَّهُ تَحَلَّلَ بِالْحَلْقِ وَخَرَجَ عن إحْرَامِهِ حتى يُبَاحَ له
الطِّيبُ وَاللُّبْسُ لِذَلِكَ افْتَرَقَا
وَلَهُمَا أَنَّ الطَّوَافَ وَإِنْ كان قبل الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ وَالذَّبْحِ
فَقَدْ وَقَعَ التَّحَلُّلُ بِهِ في حَقِّ النِّسَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو
جَامَعَ بَعْدَهُ لَا يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ فَكَانَ التَّحَلُّلُ بِالطَّوَافِ
كَالتَّحَلُّلِ بِالْحَلْقِ فَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ بِهِ كما يَقْطَعُ
بِالْحَلْقِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ أن إحْرَامَهُ قَائِمٌ بَعْدَ
الطَّوَافِ لِأَنَّا نَقُولُ نعم لَكِنْ في حَقِّ الطِّيبِ وَاللُّبْسِ لَا في
حَقِّ النِّسَاءِ فلم يَكُنْ قَائِمًا مُطْلَقًا وَالتَّلْبِيَةُ لم تُشْرَعْ
إلَّا في الْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ
وَلَوْ ذَبَحَ قبل الرَّمْيِ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ إذَا
كان قَارِنًا أو مُتَمَتِّعًا وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن مُحَمَّدٍ وَإِنْ
كان مُفْرِدًا بِالْحَجِّ لَا يَقْطَعُ لِأَنَّ الذَّبْحَ من الْقَارِنِ
وَالْمُتَمَتِّعِ مُحَلَّلٌ كَالْحَلْقِ وَلَا تَلْبِيَةَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ
فَأَمَّا الْمُفْرِدُ فَتَحَلُّلُهُ لَا يَقِفُ على ذَبْحِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ
ليس بِوَاجِبٍ عليه فَلَا يَقْطَعُ عِنْدَهُ التَّلْبِيَةَ وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ
عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ وَالتَّحَلُّلُ لَا يَقَعُ
بِالذَّبْحِ على هذه الرِّوَايَةِ عِنْدَهُ وَإِنَّمَا يَقَعُ بِالرَّمْيِ أو
بِالْحَلْقِ
وَيَرْمِي سَبْعَ حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَزَفِ لِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ
قال لِعَبْدِ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما ائْتِنِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ
مِثْلَ حَصَى الْخَزَفِ فَأَتَاهُ بِهِنَّ فَجَعَلَ يُقَلِّبُهُنَّ بيده وَيَقُولُ
مِثْلُهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ لَا تغلو ( ( ( تغلوا ) ) ) فَإِنَّمَا هَلَكَ من كان
قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ في الدِّينِ
وقد قالوا لَا يَزِيدُ على ذلك لِمَا رُوِيَ عن مُعَاذٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال
خَطَبَنَا رسول اللَّهِ بِمِنًى وَعَلَّمَنَا الْمَنَاسِكَ وقال ارْمُوا سَبْعَ
حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَزَفِ وَوَضَعَ إحْدَى سَبَّابَتَيْهِ على الْأُخْرَى
كَأَنَّهُ يَخْذِفُ وَلِأَنَّهُ لو كان أَكْبَرَ من ذلك فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ
يُصِيبَ غَيْرَهُ لِازْدِحَامِ الناس فَيَتَأَذَّى بِهِ
وَيَرْمِي من بَطْنِ الْوَادِي وَيُكَبِّرُ مع كل حَصَاةٍ يَرْمِيهَا لِمَا روى عن
عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ
سَبْعَ حَصَيَاتٍ من بَطْنِ الْوَادِي يُكَبِّرُ مع كل حَصَاةٍ يَرْمِيهَا فَقِيلَ
له أن نَاسًا يَرْمُونَ من فَوْقِهَا فقال عبد اللَّهِ رضي اللَّهُ عنه هذا
وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَقَامُ الذي أُنْزِلَتْ عليه سُورَةُ الْبَقَرَةِ
وَكَذَا رُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ كان يَرْمِي جَمْرَةَ
الْعَقَبَةِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُتْبِعُ كُلَّ حَصَاةٍ بِتَكْبِيرَةٍ وَيَقُولُ
أن النبي كان يَفْعَلُ ذلك
وَعَنْ ابْنِهِ سَالِمِ بن عبد اللَّهِ أَنَّهُ اسْتَبْطَنَ الْوَادِي فَرَمَى
الْجَمْرَةَ سَبْعَ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مع كل حَصَاةٍ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ
أَكْبَرُ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا وَعَمَلًا
مَشْكُورًا وقال حدثني أبي أَنَّ النبي كان يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ من هذا
الْمَكَانِ وَيَقُولُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ مِثْلَ ما قلت وَإِنْ رَمَى من
فَوْقِ الْعَقَبَةِ أَجْزَأَهُ لَكِنَّ السُّنَّةَ ما ذَكَرْنَا وَكَذَا لو جَعَلَ
بَدَلَ التَّكْبِيرِ تَسْبِيحًا أو تَهْلِيلًا جَازَ وَلَا يَكُونُ مسيأ ( ( (
مسيئا ) ) ) وقد قالوا إذَا رَمَى لِلْعَقَبَةِ يَجْعَلُ الْكَعْبَةَ عن يَسَارِهِ
وَمِنًى عن يَمِينِهِ وَيَقُومُ فيها حَيْثُ يَرَى مَوْقِعَ حَصَاهُ لِمَا رُوِيَ
عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى إلَى
الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى جَعَلَ الْكَعْبَةَ عن يَسَارِهِ وَمِنًى عن يَمِينِهِ
وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَجْزَأَهُ حَجَرًا كان أو طِينًا أو غَيْرَهُمَا مِمَّا هو من
جِنْسِ الْأَرْضِ وَهَذَا عِنْدَنَا
____________________
(2/157)
وقال
الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْحَجَرِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا أَمْرٌ يُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ وَالتَّوْقِيفُ وَرَدَ
بِالْحَصَى وَالْحَصَى هِيَ الْأَحْجَارُ الصِّغَارُ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا عن النبي أَنَّهُ قال ارْمِ وَلَا حَرَجَ
وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال أَوَّلُ نُسُكِنَا في يَوْمِنَا هذا الرَّمْيُ
ثُمَّ الذَّبْحُ ثُمَّ الْحَلْقُ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال من رَمَى وَذَبَحَ
وَحَلَقَ فَقَدْ حَلَّ له كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ مُطْلَقًا عن صِفَةِ
الرَّمْيِ وَالرَّمْيُ بِالْحَصَى من النبي وَأَصْحَابِهِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
مَحْمُولٌ على الْأَفْضَلِيَّةِ لَا الْجَوَازِ تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ لِمَا
صَحَّ من مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ على الْمُقَيَّدِ
بَلْ يَجْرِي الْمُطْلَقُ على إطْلَاقِهِ وَالْمُقَيَّدُ على تَقْيِيدِهِ ما
أَمْكَنَ وَهَهُنَا أَمْكَنَ بِأَنْ يُحْمَلَ الْمُطْلَقُ على أَصْلِ الْجَوَازِ
وَالْمُقَيَّدُ على الْأَفْضَلِيَّةِ
وَلَا يَقِفُ عِنْدَ هذه الْجَمْرَةِ لِلدُّعَاءِ بَلْ يَنْصَرِفُ إلَى رَحْلِهِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ رَمْيٍ ليس بَعْدَهُ رَمْيٌ في ذلك الْيَوْمِ لَا يَقِفُ
عِنْدَهُ وَكُلُّ رَمْيٍ بَعْدَهُ رَمْيٌ في ذلك الْيَوْمِ يَقِفُ عِنْدَهُ
لِأَنَّ النبي لم يَقِفْ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَوَقَفَ عِنْدَ
الْجَمْرَتَيْنِ ثُمَّ الرَّمْيُ مَاشِيًا أَفْضَلُ أو رَاكِبًا فَقَدْ رُوِيَ عن
أبي يُوسُفَ أَنَّهُ فَصَّلَ في ذلك تَفْصِيلًا فإنه حَكَى أَنَّ إبْرَاهِيمَ بن
الْجَرَّاحِ دخل على أبي يُوسُفَ وهو مَرِيضٌ في الْمَرَضِ الذي مَاتَ فيه
فَسَأَلَهُ أبو يُوسُفَ فقال أَيُّهُمَا أَفْضَلُ الرَّمْيُ مَاشِيًا أو رَاكِبًا
فقال مَاشِيًا فقال أَخْطَأْتَ ثُمَّ قال رَاكِبًا فقال أَخْطَأْتَ وقال كُلُّ
رَمْيٍ بَعْدَهُ رمى فَالْمَاشِي أَفْضَلُ وَكُلُّ رَمْيٍ لَا رَمْيَ بَعْدَهُ
فَالرَّاكِبُ أَفْضَلُ قال فَخَرَجْتُ من عِنْدِهِ فَسَمِعْتُ النَّاعِيَ بِمَوْتِهِ
قبل أَنْ أَبْلُغَ الْبَابَ
ذَكَرْنَا هذه الْحِكَايَةَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ بَلَغَ حِرْصَهُ في التَّعْلِيمِ
حتى لم يَسْكُتْ عنه في رَمَقِهِ فَيُقْتَدَى بِهِ في التَّحْرِيضِ على
التَّعْلِيمِ وَهَذَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ رَمْيٍ بَعْدَهُ رَمْيٌ فَالسُّنَّةُ
فيه هو الْوُقُوفُ لِلدُّعَاءِ وَالْمَاشِي أَمْكَنُ لِلْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ
وَكُلُّ رَمْيٍ لَا رَمْيَ بَعْدَهُ فَالسُّنَّةُ فيه هو الِانْصِرَافُ لَا
الْوُقُوفُ وَالرَّاكِبُ أَمْكَنُ من الِانْصِرَافِ
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ رَمَى رَاكِبًا وقال
خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هذا
فَالْجَوَابُ أَنَّ ذلك مَحْمُولٌ على رَمْيٍ لَا رَمْيَ بَعْدَهُ أو على
التَّعْلِيمِ لِيَرَاهُ الناس فَيَتَعَلَّمُوا منه مَنَاسِكَ الْحَجِّ فَإِنْ رَمَى
إحْدَى الْجِمَارِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ جميعا دَفْعَةً وَاحِدَةً فَهِيَ عن
وَاحِدَةٍ وَيَرْمِي سِتَّةً أُخْرَى لِأَنَّ التَّوْقِيفَ وَرَدَ بِتَفْرِيقِ
الرَّمَيَاتِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الِاسْتِنْجَاءِ أَنَّهُ
إذَا اسْتَنْجَى بِحَجَرٍ وَاحِدٍ وَأَنْقَاهُ كَفَاهُ وَلَا يراعي فيه الْعَدَدُ
عِنْدَنَا لِأَنَّ وُجُوبَ الِاسْتِنْجَاءِ ثَبَتَ مَعْقُولًا بِمَعْنَى
التَّطْهِيرِ فإذا حَصَلَتْ الطَّهَارَةُ بِوَاحِدٍ اكْتَفَى بِهِ فَأَمَّا
الرَّمْيُ فَإِنَّمَا وَجَبَ تَعَبُّدًا مَحْضًا فيراعي فيه مَوْرِدُ التَّعَبُّدِ
وَأَنَّهُ وَرَدَ بِالتَّفْرِيقِ فَيَقْتَصِرُ عليه
فَإِنْ رَمَى أَكْثَرَ من سَبْعِ حَصَيَاتٍ لم تَضُرَّهُ الزِّيَادَةُ لِأَنَّهُ
أتى بِالْوَاجِبِ وَزِيَادَةٍ وَالسُّنَّةُ أَنْ يَرْمِيَ بَعْدَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ من يَوْمِ النَّحْرِ قبل الزَّوَالِ لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي اللَّهُ
عنه أَنَّ النبي لم يَرْمِ يوم النَّحْرِ ضُحًى وَرَمَى بَعْدَ ذلك بَعْدَ
الزَّوَالِ وَلَوْ رَمَى قبل طُلُوعِ الشَّمْسِ بَعْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ
أَجْزَأَهُ خِلَافًا لِسُفْيَانَ وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَا يَرْمِي يَوْمَئِذٍ غَيْرَهَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي لم يَرْمِ يوم
النَّحْرِ إلَّا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ
فإذا فَرَغَ من هذا الرَّمْيِ لَا يَقِفُ وَيَنْصَرِفُ إلَى رَحْلِهِ فَإِنْ كان
مُنْفَرِدًا بِالْحَجِّ يَحْلِقُ أو يُقَصِّرُ وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ لِمَا
ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَا ذَبَحَ عليه وَإِنْ كان قَارِنًا أو
مُتَمَتِّعًا يَجِبُ عليه أَنْ يَذْبَحَ وَيَحْلِقَ وَيُقَدِّمَ الذَّبْحَ على
الْحَلْقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ويذكروا ( ( ( ليذكروا ) ) ) اسْمَ اللَّهِ في
أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ على ما رَزَقَهُمْ من بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا منها
وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } رَتَّبَ
قَضَاءَ التَّفَثِ وهو الْحَلْقُ على الذَّبْحِ
وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال أَوَّلُ نُسُكِنَا في يَوْمِنَا هذا الرَّمْيُ ثُمَّ
الذَّبْحُ ثُمَّ الْحَلْقُ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ رَمَى ثُمَّ ذَبَحَ ثُمَّ دَعَا
بِالْحَلَّاقِ فَإِنْ حَلَقَ قبل الذَّبْحِ من غَيْرِ إحْصَارٍ فَعَلَيْهِ
لِحَلْقِهِ قبل الذَّبْحِ دَمٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ وَجَمَاعَةٌ من أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عليه
وَأَجْمَعُوا على أَنَّ الْمُحْصَرَ إذَا حَلَقَ قبل الذَّبْحِ أَنَّهُ تَجِبُ
عليه الْفِدْيَةُ احْتَجَّ من خَالَفَهُ بِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ سُئِلَ عن
رَجُلٍ حَلَقَ قبل أَنْ يَذْبَحَ فقال إذبح وَلَا حَرَجَ وَلَوْ كان التَّرْتِيبُ
وَاجِبًا لَكَانَ في تَرْكِهِ حَرَجٌ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الِاسْتِدْلَال بِالْمُحْصَرِ إذَا حَلَقَ قبل الذَّبْحِ
لِأَذًى في رَأْسِهِ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ بِالنَّصِّ فَاَلَّذِي
يَحْلِقُ رَأْسَهُ بِغَيْرِ أَذًى بِهِ أَوْلَى وَلِهَذَا قال أبو حَنِيفَةَ
بِزِيَادَةِ التَّغْلِيظِ في حَقِّ من حَلَقَ رَأْسَهُ قبل الذَّبْحِ بِغَيْرِ
أَذًى حَيْثُ قال لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ الدَّمِ وَصَاحِبُ الْأَذَى مُخَيَّرٌ بين
الدَّمِ وَالطَّعَامِ وَالصِّيَامِ كما خَيَّرَهُ
____________________
(2/158)
اللَّهُ
تَعَالَى وَهَذَا هو الْمَعْقُولُ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ سَبَبٌ لِتَخْفِيفِ
الْحُكْمِ وَتَيْسِيرِهِ فَالْمَعْقُولُ أَنْ يَجِبَ في حَالِ الِاخْتِيَارِ
بِذَلِكَ السَّبَبِ زِيَادَةُ غِلَظٍ لم يَكُنْ في حَالِ الْعُذْرِ فَأَمَّا أَنْ
يَسْقُطَ من الْأَصْلِ في غَيْرِ حَالَةِ الْعُذْرِ وَيَجِبَ في حَالَةِ الْعُذْرِ
فَمُمْتَنِعٌ
وَلَا حُجَّةَ لهم في الحديث لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا حَرَجَ الْمُرَادُ منه
الْإِثْمُ لَا الْكَفَّارَةُ وَلَيْسَ من ضَرُورَةِ انْتِفَاءِ الْإِثْمِ
انْتِفَاءُ الْكَفَّارَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ على من حَلَقَ
رَأْسَهُ لِأَذًى بِهِ وَلَا إثْمَ عليه وَكَذَا يَجِبُ على الخاطىء
فإذا حَلَقَ الْحَاجُّ أو قَصَّرَ حَلَّ له كُلُّ شَيْءٍ حَظَرَ عليه الْإِحْرَامُ
إلَّا النِّسَاءَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
ثُمَّ يَزُورُ الْبَيْتَ من يَوْمِهِ ذلك أو من الْغَدِ أو بَعْدَ الْغَدِ وَلَا
يُؤَخِّرُهَا عنها وَأَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي طَافَ في
أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ فَيَطُوفُ أُسْبُوعًا لِأَنَّ النبي هَكَذَا طَافَ
وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَرْمُلُ في هذا الطَّوَافِ لِأَنَّهُ لَا
سعى عَقِيبَهُ لِأَنَّهُ قد طَافَ طَوَافَ اللِّقَاءِ وَسَعَى عَقِيبَهُ حتى لو لم
يَكُنْ طَافَ طَوَافَ اللِّقَاءِ وَلَا سعى فإنه يَرْمُلُ في طَوَافِ الزِّيَارَةِ
وَيَسْعَى بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَقِيبَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَلَوْ
أَخَّرَهُ عن أَيَّامِ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا شَيْءَ عليه وَالْمَسْأَلَةُ قد مَضَتْ فإذا
طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ كُلَّهُ أو أَكْثَرَهُ حَلَّ له النِّسَاءُ أَيْضًا
لِأَنَّهُ قد خَرَجَ من الْعِبَادَةِ وما بَقِيَ عليه شَيْءٌ من أَرْكَانِهَا
وَالْأَصْلُ أَنَّ في الْحَجِّ إحْلَالَيْنِ الْإِحْلَالُ الْأَوَّلُ بِالْحَلْقِ
أو بِالتَّقْصِيرِ وَيَحِلُّ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ وَالْإِحْلَالُ
الثَّانِي بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ وَيَحِلُّ بِهِ النِّسَاءُ أَيْضًا ثُمَّ
يَرْجِعُ إلَى مِنًى وَلَا يَبِيتُ بِمَكَّةَ وَلَا في الطَّرِيقِ هو السُّنَّةُ
لِأَنَّ النبي هَكَذَا فَعَلَ وَيُكْرَهُ أَنْ يَبِيتَ في غَيْرِ مِنًى في
أَيَّامِ مِنًى فَإِنْ فَعَلَ لَا شَيْءَ عليه وَيَكُونُ مسيأ ( ( ( مسيئا ) ) )
لِأَنَّ الْبَيْتُوتَةَ بها لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ بَلْ هِيَ سُنَّةٌ وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ يَجِبُ عليه الدَّمُ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عِنْدَهُ وَاحْتَجَّ
بِفِعْلِ النبي وَأَفْعَالِهِ على الْوُجُوبِ في الْأَصْلِ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَرْخَصَ لِلْعَبَّاسِ أَنْ يَبِيتَ
بِمَكَّةَ لِلسِّقَايَةِ وَلَوْ كان ذلك وَاجِبًا لم يَكُنْ الْعَبَّاسُ يَتْرُكُ
الْوَاجِبَ لِأَجْلِ السِّقَايَةِ وَلَا كان النبي يُرَخِّصُ له في ذلك وَفِعْلُ
النبي مَحْمُولٌ على السُّنَّةِ تَوْفِيقًا بين الدَّلِيلَيْنِ
وإذا بَاتَ بِمِنًى فإذا كان من الْغَدِ وهو الْيَوْمُ الْأَوَّلُ من أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ وَالثَّانِي من أَيَّامِ الرَّمْيِ فإنه يَرْمِي الْجِمَارَ
الثَّلَاثَ بَعْدَ الزَّوَالِ في ثَلَاثِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا الْمُسَمَّى
بِالْجَمْرَةِ الْأُولَى وَهِيَ التي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ وهو مَسْجِدُ
إبْرَاهِيمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيَرْمِي عِنْدَهَا سَبْعَ حَصَيَاتٍ
مِثْلَ حَصَى الْخَزَفِ يُكَبِّرُ مع كل حَصَاةٍ فإذا فَرَغَ منها يَقِفُ
عِنْدَهَا فَيُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُثْنِي عليه
وَيُصَلِّي على النبي وَيَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى حوائحه ( ( ( حوائجه ) ) )
ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى فَيَفْعَلُ بها مِثْلَ ما فَعَلَ
بِالْأُولَى وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ بَسْطًا ثُمَّ يَأْتِي
جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ ما فَعَلَ بِالْجَمْرَتَيْنِ
الْأُولَتَيْنِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَقِفُ لِلدُّعَاءِ بَعْدَ هذه الْجَمْرَةِ بَلْ
يَنْصَرِفُ إلَى رَحْلِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَمَى الْجِمَارَ
الثَّلَاثَ في أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَابْتَدَأَ بِاَلَّتِي تَلِي مَسْجِدَ
الْخَيْفِ وَوَقَفَ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ ولم يَقِفْ عِنْدَ الثَّالِثَةِ
وَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فَلِقَوْلِ النبي لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا في
سَبْعِ مَوَاطِنَ
وَذَكَرَ من جُمْلَتِهَا وَعِنْدَ الْمَقَامَيْنِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ
فإذا كان الْيَوْمُ الثَّانِي من أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وهو الْيَوْمُ الثَّالِثُ
من أَيَّامِ الرَّمْيِ رمي الْجِمَارَ الثَّلَاثَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَفَعَلَ
مِثْلَ ما فَعَلَ أَمْسِ فإذا رَمَى فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ من مِنًى
وَيَدْخُلَ مَكَّةَ نَفَرَ قبل غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَا شَيْءَ عليه لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { فَمَنْ تَعَجَّلَ في يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عليه } وَإِنْ أَقَامَ ولم
يَنْفِرْ حتى غَرَبَتْ الشَّمْسُ يُكْرَهُ له أَنْ يَنْفِرَ حتى تَطْلُعَ
الشَّمْسُ من الْيَوْمِ الثَّالِثِ من أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وهو الْيَوْمُ
الرَّابِعُ من أَيَّامِ الرَّمْيِ وَيَرْمِي الْجِمَارَ الثَّلَاثَ وَلَوْ نَفَرَ
قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ لَا شَيْءَ عليه وقد أَسَاءَ
أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهُ نَفَرَ في وَقْتٍ لم يَجِبْ فيه الرَّمْيُ بَعْدُ
بِدَلِيلِ إنه لو رَمَى فيه عن الْيَوْمِ الرَّابِعِ لم يَجُزْ فَجَازَ فيه
النَّفْرُ كما لو رَمَى الْجِمَارَ في الْأَيَّامِ كُلِّهَا ثُمَّ نَفَرَ
وَأَمَّا الْإِسَاءَةُ فَلِأَنَّهُ تَرَكَ السُّنَّةَ فإذا طَلَعَ الْفَجْرُ من
الْيَوْمِ الثَّالِثِ من أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ ثُمَّ
يَنْفِرُ فَإِنْ نَفَرَ قبل الرَّمْيِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّهُ تَرَكَ
الْوَاجِبَ وإذا أَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ في النَّفْرِ الْأَوَّلِ أو في النَّفْرِ
الثَّانِي فإنه يَحْمِلُ ثِقَلَهُ معه وَيُكْرَهُ تَقْدِيمُهُ لِمَا رُوِيَ عن
النبي أَنَّهُ قال الْمَرْءُ من حَيْثُ رَحْلُهُ وَرُوِيَ الْمَرْءُ من حَيْثُ
أَهْلُهُ وَلِأَنَّهُ لو فَعَلَ ذلك يَشْتَغِلُ قَلْبُهُ بِذَلِكَ وَلَا يَخْلُو
من ضَرَرٍ
وقد رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان يَضْرِبُ على ذلك
وَحُكِيَ عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه
____________________
(2/159)
إنَّمَا
كان يُضْرِبُ على تَقْدِيمِ الثِّقَلِ مَخَافَةَ السَّرِقَةِ
ثُمَّ يَأْتِي الْأَبْطَحَ ويسمي الْمُحَصَّبَ وهو مَوْضِعٌ بين مِنًى وَبَيْنَ
مَكَّةَ فَيَنْزِلُ بِهِ سَاعَةً فإنه سُنَّةٌ عِنْدَنَا لِمَا رُوِيَ عن نَافِعٍ
عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النبي وَأَبَا بَكْرٍ
وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم نَزَلُوا بِالْأَبْطَحِ ثُمَّ يَدْخُلُ
مَكَّةَ فَيَطُوفُ طَوَافَ الصَّدْرِ تَوْدِيعًا لِلْبَيْتِ وَلِهَذَا يُسَمَّى
طَوَافَ الْوَدَاعِ وإنه وَاجِبٌ على أَهْلِ الْآفَاقِ عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا
فِيمَا تَقَدَّمَ فَيَطُوفُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ لَا رَمَلَ فيها لِأَنَّهُ طَوَافٌ
لَا سَعْيَ بَعْدَهُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ
لِأَنَّهُ لم يَبْقَ عليه شَيْءٌ من الْأَرْكَانِ وَالْوَاجِبَاتِ كَذَا ذَكَرَ في
الْأَصْلِ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ في مُخْتَصَرِهِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا فَرَغَ من
طَوَافِ الصَّدْرِ يَأْتِي الْمَقَامَ فَيُصَلِّي عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ
يَأْتِي زَمْزَمَ فَيَشْرَبُ من مَائِهَا وَيَصُبُّ على وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ ثُمَّ
يَأْتِي الْمُلْتَزَمَ وهو ما بين الحر ( ( ( الحجر ) ) ) الاسود وَالْبَابِ
فَيَضَعُ صَدْرَهُ وَجَبْهَتَهُ عليه وَيَتَشَبَّثُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ
وَيَدْعُو ثُمَّ يَرْجِعُ وَذَكَرَ في الْعُيُونِ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ قال في
آخِرِهِ وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ وَيُكَبِّرُ ثُمَّ يَرْجِعُ وَرُوِيَ عن أبي
حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال إنْ دخل الْبَيْتَ فَحَسَنٌ وَإِنْ لم يَدْخُلْ لم
يَضُرَّهُ وَيَقُولُ عِنْدَ رُجُوعِهِ آبيون ( ( ( آيبون ) ) ) تَائِبُونَ
عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ صَدَقَ اللَّهُ وَعَدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ
وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ أَرْكَانِهِ فَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فإنه كما هو شَرْطُ
الْوُجُوبِ فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ
وَالْكَافِرُ ليس من أَهْلِ أداء الْعِبَادَةِ وَمِنْهَا الْعَقْلُ فَلَا يَجُوزُ
أَدَاءُ الْحَجِّ من الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ كما لَا يَجِبُ
عَلَيْهِمَا فَأَمَّا الْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَا من شَرَائِطِ الْجَوَازِ
فَيَجُوزُ حَجُّ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ وَالْعَبْدِ الْكَبِيرِ
بِإِذْنِ مَوْلَاهُ لَكِنَّهُ لَا يَقَعُ عن حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِعَدَمِ
الْوُجُوبِ وَمِنْهَا الْإِحْرَامُ عِنْدَنَا وَالْكَلَامُ في الْإِحْرَامِ يَقَعُ
في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنَّهُ شَرْطٌ وفي بَيَانِ ما يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا
وفي بَيَانِ زَمَانِ الْإِحْرَامِ وفي بَيَانِ مَكَانِهِ وفي بَيَانِ ما يُحْرِمُ
بِهِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْمُحْرِمِ إذَا مُنِعَ عن الْمُضِيِّ في مُوجَبِ
الْإِحْرَامِ وفي بَيَانِ ما يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ وما لَا يَحْظُرُهُ وفي
بَيَانِ ما يَجِبُ بِفِعْلِ الْمَحْظُورِ منه
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْإِحْرَامُ شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ
عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رُكْنٌ وعني بِهِ أَنَّهُ جُزْءٌ من أَفْعَالِ
الْحَجِّ وهو على الِاخْتِلَافِ في تحريمة الصَّلَاةَ وَيَتَضَمَّنُ الْكَلَامُ في
هذا الْفَصْلِ بَيَانَ زَمَانِ الْإِحْرَامِ أَنَّهُ جَمِيعُ السَّنَةِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَهُ أَشْهُرُ الْحَجِّ حتى يَجُوزَ الْإِحْرَامُ قبل أَشْهُرِ الْحَجِّ
عِنْدَنَا لَكِنَّهُ يُكْرَهُ وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ رَأْسًا وَيَنْعَقِدُ
إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ لَا لِلْحَجَّةِ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا يَنْعَقِدُ
لِلْحَجَّةِ
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ أَنَّ الْإِحْرَامَ لَمَّا كان شَرْطًا
لِجَوَازِ أَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ عِنْدَنَا جَازَ وُجُودُهُ قبل هُجُومِ وَقْتِ
أَدَاءِ الْأَفْعَالِ كما تَجُوزُ الطَّهَارَةُ قبل دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ
وَلَمَّا كان رُكْنًا عِنْدَهُ لم يَجُزْ سَابِقًا على وَقْتِهِ لِأَنَّ أَدَاءَ
أَفْعَالِ الْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ قبل وَقْتِهَا لَا يَجُوزُ كَالصَّلَاةِ
وَغَيْرِهَا فَنَتَكَلَّمُ في الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً وَابْتِدَاءً أَمَّا
الْبِنَاءُ فَوَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنَّ الذي أَحْرَمَ بِالْحَجِّ يُؤْمَرُ
باتمامه وَكَذَا الْمُحْرِمُ لِلصَّلَاةِ يُؤْمَرُ باتمامها لَا بِالِابْتِدَاءِ
فَلَوْ لم يَكُنْ الْإِحْرَامُ من أَفْعَالِ الْحَجِّ لَأَمَرَ بِالِابْتِدَاءِ
لَا بالاتمام فَدَلَّ أَنَّهُ رُكْنٌ في نَفْسِهِ وَشَرْطٌ لِجَوَازِ أَدَاءِ ما
بَقِيَ من الْأَفْعَالِ
وَلَنَا أَنَّ رُكْنَ الشَّيْءِ ما يَأْخُذُ الإسم منه ثُمَّ قد يَكُونُ بِمَعْنًى
وَاحِدٍ كَالْإِمْسَاكِ في بَابِ الصَّوْمِ
وقد يَكُونُ مَعَانِيَ مُخْتَلِفَةً كَالْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ في بَابِ الصَّلَاةِ وَالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ في بَابِ الْبَيْعِ
وَنَحْوِ ذلك وَشَرْطُهُ ما يَأْخُذُ الِاعْتِبَارَ منه كَالطَّهَارَةِ
لِلصَّلَاةِ وَالشَّهَادَةِ في النِّكَاحِ وَغَيْرِ ذلك وَالْحَجُّ يَأْخُذُ
الِاسْمَ من الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ لَا من الْإِحْرَامِ
قال اللَّهُ تَعَالَى { وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ الْبَيْتِ من اسْتَطَاعَ
إلَيْهِ سَبِيلًا } وَحِجُّ الْبَيْتِ هو زِيَارَةُ الْبَيْتِ
وقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْحَجُّ عَرَفَةَ أَيْ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ
ولم يُطْلِقْ اسْمَ الْحَجِّ على الْإِحْرَامِ وَإِنَّمَا بِهِ اعْتِبَارُ
الرُّكْنَيْنِ فَكَانَ شَرْطًا لَا رُكْنًا وَلِهَذَا جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ
شَرْطًا لِأَدَاءِ ما بَقِيَ من الْأَفْعَالِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أنه يُؤْمَرُ بالاتمام بَعْدَ الْإِحْرَامِ مَمْنُوعٌ بَلْ لَا
يُؤْمَرُ بِهِ ما لم يُؤَدِّ بَعْدَ الْإِحْرَامِ شيئا من أَفْعَالِ الْحَجِّ
وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ فَالشَّافِعِيُّ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } أَيْ وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ إذْ الْحَجُّ
نَفْسُهُ لَا يَكُونُ أَشْهُرًا لِأَنَّهُ فِعْلٌ وَالْأَشْهُرُ أَزْمِنَةٌ فَقَدْ
عَيَّنَ اللَّهُ أَشْهُرًا مَعْلُومَةً وَقْتًا لِلْحَجِّ وَالْحَجُّ في عُرْفِ
الشَّرْعِ اسْمٌ لِجُمْلَةٍ من الْأَفْعَالِ مع شَرَائِطِهَا منها الْإِحْرَامُ
فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ على وَقْتِهِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { يَسْأَلُونَكَ عن الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ
لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْأَشْهُرُ
كُلُّهَا وَقْتًا لِلْحَجِّ فَيَقْتَضِي جَوَازَ الْإِحْرَامِ بِأَدَاءِ أَفْعَالِ
الْحَجِّ في الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا تَعْيِينَ هذه
الْأَشْهُرِ لِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ بِدَلِيلٍ آخَرَ وهو قَوْلُهُ { الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } فَيُعْمَلُ بِالنَّصَّيْنِ فَيُحْمَلُ ما تَلَوْنَا على
الْإِحْرَامِ
____________________
(2/160)
الذي
هو شَرْطٌ وَيُحْمَلُ ما تَلَوْتُمْ على نَفْسِ الْأَعْمَالِ عَمَلًا بِالنَّصِّ
بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ
ثُمَّ يَجُوزُ الإحرم ( ( ( الإحرام ) ) ) من غَيْرِ مَكَانِ الْحَجِّ
بِالْإِجْمَاعِ فَيَجُوزُ في غَيْرِ زَمَانِ الْحَجِّ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ
لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال من سُنَّةِ
الْحَجِّ أَنْ لَا يُحْرَمَ بِالْحَجِّ إلَّا في أَشْهُرِ الْحَجِّ وَمُخَالِفَةُ
السُّنَّةِ مَكْرُوهَةٌ
ثُمَّ اختلفو ( ( ( اختلفوا ) ) ) في أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِأَجْلِ الْوَقْتِ أَمْ
لِغَيْرِهِ منهم من قال الْكَرَاهَةُ لَيْسَتْ لِأَجْلِ الْوَقْتِ بَلْ
لِمَخَافَةِ الْوُقُوعِ في مخظورات ( ( ( محظورات ) ) ) الْإِحْرَامِ حتى أَنَّ من
أَمِنَ ذلك لَا يُكْرَهُ له وَمِنْهُمْ من قال إنَّ الْكَرَاهَةَ لِنَفْسِ
الْوَقْتِ فإن ابْنَ سِمَاعَةَ روي عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال أَكْرَهُ
الْإِحْرَامَ قبل الْأَشْهُرِ وَيَجُوزُ إحْرَامُهُ وهو لَابِسٌ أو جَالِسٌ في
خَلُوقٍ أو طِيبٍ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَدُلُّ على أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِنَفْسِ
الْوَقْتِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ
التَّوْفِيقُ لَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا نَوَى وَقَرَنَ النِّيَّةَ بِقَوْلٍ
وَفِعْلٍ هو من خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ أو دَلَائِلِهِ أَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا
بِأَنْ لَبَّى نَاوِيًا بِهِ الْحَجَّ إنْ أَرَادَ بِهِ الْإِفْرَادَ بِالْحَجِّ
أو الْعُمْرَةِ إنْ أَرَادَ الْإِفْرَادَ بِالْعُمْرَةِ أو الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ
إنْ أَرَادَ الْقِرَانَ لِأَنَّ التَّلْبِيَةَ من خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ
وَسَوَاءٌ تَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ ما نَوَى بِقَلْبِهِ أو لَا لِأَنَّ النِّيَّةَ
عَمَلُ الْقَلْبِ لَا عَمَلُ اللِّسَانِ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ
بِلِسَانِهِ ما نَوَى بِقَلْبِهِ فيقول اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ كَذَا فَيَسِّرْهُ
لي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي لِمَا ذَكَرْنَا في بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ وَذَكَرْنَا
التَّلْبِيَةَ الْمَسْنُونَةَ
وَلَوْ ذَكَرَ مَكَانَ التَّلْبِيَةِ التَّهْلِيلَ أو التَّسْبِيحَ أو
التَّحْمِيدَ أو غير ذلك مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى
مَقْرُونًا بِالنِّيَّةِ يَصِيرُ مُحْرِمًا وَهَذَا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ في بَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا في الصَّلَاةِ بِكُلِّ
ذِكْرٍ هو ثَنَاءٌ خَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى يُرَادُ بِهِ تَعْظِيمُهُ لَا غَيْرُ
وهو ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عن أبي يُوسُفَ هَهُنَا وَفَرَّقَ بين الْحَجِّ
وَالصَّلَاةِ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا إلَّا بِلَفْظِ
التَّلْبِيَةِ كما لَا يَصِيرُ شَارِعًا في الصَّلَاةِ إلَّا بِلَفْظِ
التَّكْبِيرِ فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ مَرَّا على أَصْلِهِمَا أَنَّ
الذِّكْرَ الْمَوْضُوعَ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ لَا يَخْتَصُّ بِلَفْظٍ دُونَ
لَفْظٍ فَفِي بَابِ الْحَجِّ أَوْلَى وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَبِي يُوسُفَ على
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عنه أَنَّ بَابَ الْحَجِّ أَوْسَعُ من بَابِ الصَّلَاةِ فإن
أَفْعَالَ الصَّلَاةِ لَا يَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ وَبَعْضُ الْأَفْعَالِ
يَقُومُ مَقَامَ الْبَعْضِ كَالْهَدْيِ فإنه يَقُومُ مَقَامَ كَثِيرٍ من أَفْعَالِ
الْحَجِّ في حَقِّ الْمُحْصَرِ
وَسَوَاءٌ كان بِالْعَرَبِيَّةِ أو غَيْرِهَا وهو يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أو لَا
يُحْسِنُهَا وَهَذَا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ في الصَّلَاةِ
ظَاهِرٌ وهو ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عن مُحَمَّدٍ في الْحَجِّ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ
لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا إلَّا إذَا كان لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ كما في بَابِ
الصَّلَاةِ فَهُمَا مَرَّا على أَصْلِهِمَا وَمُحَمَّدٌ على ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
عنه فَرَّقَ بين الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ له على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا لِأَبِي يُوسُفَ في الْمَسْأَلَةِ
الْأُولَى وَتَجُوزُ النِّيَابَةُ في التَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ بِنَفْسِهِ
بِأَمْرِهِ بِلَا خِلَافٍ حتى لو تَوَجَّهَ يُرِيدُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فأغمى
عليه فَلَبَّى عنه أَصْحَابُهُ وقد كان أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ حتى لو عَجَزَ عنه
بِنَفْسِهِ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنْ لم يَأْمُرْهُمْ بِذَلِكَ نَصًّا
فَأَهَلُّوا عنه جَازَ أَيْضًا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ فَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ تَجُوزُ النِّيَابَةُ في
أَفْعَالِ الْحَجِّ عِنْدَ عَجْزِهِ عنها بِنَفْسِهِ من الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ
وَالْوُقُوفِ حتى لو طِيفَ بِهِ وسعى وَوُقِفَ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ ليس لِلْإِنْسَانِ إلَّا ما سَعَى }
ولم يُوجَدْ منه السَّعْيُ في التَّلْبِيَةِ لِأَنَّ فِعْلَ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ
فِعْلَهُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يُجْعَلُ فِعْلًا له تَقْدِيرًا بِأَمْرِهِ ولم
يُوجَدْ بِخِلَافِ الطَّوَافِ وَنَحْوِهِ فإن الْفِعْلَ هُنَاكَ ليس بِشَرْطٍ بَلْ
الشَّرْطُ حُصُولُهُ في ذلك الْمَوْضِعِ على ما ذَكَرْنَا وقد حَصَلَ وَالشَّرْطُ
هَهُنَا هو التَّلْبِيَةُ وَقَوْلُ غَيْرِهِ لَا يَصِيرُ قَوْلًا له إلَّا
بِأَمْرِهِ ولم يُوجَدْ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَمْرَ هَهُنَا مَوْجُودٌ دَلَالَةً وَهِيَ
دَلَالَةُ عَقْدِ الْمُرَافَقَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من رُفَقَائِهِ
الْمُتَوَجِّهِينَ إلَى الْكَعْبَةِ يَكُونُ آذِنًا لِلْآخَرِ باعانته فِيمَا
يَعْجِزُ عنه من أَمْرِ الْحَجِّ فَكَانَ الْأَمْرُ مَوْجُودًا دَلَالَةً وسعى
الْإِنْسَانِ جَازَ أَنْ يُجْعَلَ سَعْيًا لِغَيْرِهِ بِأَمْرِهِ فَقُلْنَا
بِمُوجَبِ الْآيَةِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى
وَلَوْ قَلَّدَ بَدَنَةً يُرِيدُ بِهِ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ أو بِالْعُمْرَةِ
أو بِهِمَا وَتَوَجَّهَ مَعَهَا يَصِيرُ مُحْرِمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ
الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ } ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى بَعْدَهُ
{ وإذا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } وَالْحِلُّ يَكُونُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ولم يذكر
الْإِحْرَامَ في الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ التَّقْلِيدَ بِقَوْلِهِ عز وجل {
وَلَا الْقَلَائِدَ } فَدَلَّ أَنَّ التَّقْلِيدَ منهم مع التَّوَجُّهِ كان
إحْرَامًا إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عليه النِّيَّةُ بِدَلِيلٍ آخَرَ
وَعَنْ جَمَاعَةٍ
____________________
(2/161)
من
الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ منهم عَلِيٌّ وابن مَسْعُودٍ وابن عُمَرَ
وَجَابِرٌ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا إذَا قَلَّدَ فَقَدْ أَحْرَمَ
وَكَذَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال إذَا قَلَّدَ وهو
يُرِيدُ الْحَجَّ أو الْعُمْرَةَ فَقَدْ أَحْرَمَ وَلِأَنَّ التَّقْلِيدَ مع
التَّوَجُّهِ من خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ فَالنِّيَّةُ اقْتَرَنَتْ بِمَا هو من
خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ فَأَشْبَهَ التَّلْبِيَةَ
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت
لَا يُحْرِمُ إلَّا من أَهَلَّ وَلَبَّى فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَصِيرُ
مُحْرِمًا بِالتَّقْلِيدِ
فَالْجَوَابُ أَنَّ ذلك مَحْمُولٌ على ما إذَا قَلَّدَ ولم يَخْرُجْ مَعَهَا
تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ وَبِهِ نَقُولُ أن بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ لَا يَصِيرُ
مُحْرِمًا على ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت كان رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ وَيُقِيمُ فَلَا يَحْرُمُ عليه
شَيْءٌ وَالتَّقْلِيدُ هو تَعْلِيقُ على عُنُقِ الْبَدَنَةِ من عُرْوَةٍ مُزَادَةٍ
أو شِرَاكِ نَعْلٍ من أُدْمٍ أو غَيْرِ ذلك من الْجُلُودِ
وَإِنْ قَلَّدَ ولم يَتَوَجَّهْ ولم يَبْعَثْ على يَدِ غَيْرِهِ ولم يَصِرْ
مُحْرِمًا وَإِنْ بَعَثَ على يَدِ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِنَفْسِ
التَّوْجِيهِ من غَيْرِ تَوَجُّهٍ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
لِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت إنِّي كنت لافتل قَلَائِدَ
بُدْنِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَيَبْعَثُهَا وَيَمْكُثُ عِنْدَنَا
حَلَالًا بِالْمَدِينَةِ لَا يَجْتَنِبُ ما يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ وَلِأَنَّ
التَّوْجِيهَ من غَيْرِ تَوَجُّهٍ ليس إلَّا أَمْرٌ بِالْفِعْلِ فَلَا يَصِيرُ
بِهِ مُحْرِمًا كما لو أَمَرَ غَيْرَهُ بِالتَّلْبِيَةِ
وَلَوْ تَوَجَّهَ بِنَفْسِهِ بعدما قَلَّدَ وَبَعَثَ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا ما لم
يَلْحَقْهَا وَيَتَوَجَّهُ مَعَهَا فإذا لَحِقَهَا وَتَوَجَّهَ مَعَهَا عِنْدَ ذلك
يَصِيرُ مُحْرِمًا إلَّا في هَدْيِ الْمُتْعَةِ فإن هُنَاكَ يَصِيرُ مُحْرِمًا
بِنَفْسِ التَّوَجُّهِ قبل أَنْ يَلْحَقَهُ
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِيرَ مُحْرِمًا ثُمَّ أَيْضًا ما لم يَلْحَقْ
وَيَتَوَجَّهْ معه لِأَنَّ السَّيْرَ بِنَفْسِهِ بِدُونِ الْبَدَنَةِ ليس من
خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ وَلَا دَلِيلَ أَنَّهُ يُرِيدُ الْإِحْرَامَ فَلَا يَصِيرُ
بِهِ مُحْرِمًا إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ وَاسْتَحْسَنَّا في هَدْيِ
الْمُتْعَةِ لِمَا أَنَّ لهدي ( ( ( للهدي ) ) ) فَضْلَ تَأْثِيرٍ في الْبَقَاءِ
على الْإِحْرَامِ ما ليس لِغَيْرِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو سَاقَ الْهَدْيَ لَا
يَجُوزُ له أَنْ يَتَحَلَّلَ وَإِنْ لم يَسُقْ جَازَ له التَّحَلُّلُ فإذا كان له
فَضْلُ تَأْثِيرٍ في الْبَقَاءِ على الْإِحْرَامِ جَازَ أَنْ يَكُونَ له تَأْثِيرٌ
في الِابْتِدَاءِ وقد قالوا أنه يَصِيرُ مُحْرِمًا بِنَفْسِ التَّوَجُّهِ في
أَثَرِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَإِنْ لم يَلْحَقْ الْهَدْيَ إذَا كان في أَشْهُرِ
الْحَجِّ فَأَمَّا في غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَا يَصِيرُ مُحْرِمًا حتى
يَلْحَقَ الْهَدْيَ لِأَنَّ أَحْكَامَ التَّمَتُّعِ لَا تَثْبُتُ قبل أَشْهُرِ
الْحَجِّ فَلَا يَصِيرُ هذا الْهَدْيُ لِلْمُتْعَةِ قبل أَشْهُرِ الْحَجِّ فَكَانَ
هَدْيَ التَّطَوُّعِ
وَلَوْ جَلَّلَ الْبَدَنَةَ وَنَوَى الْحَجَّ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا وَإِنْ
تَوَجَّهَ مَعَهَا لِأَنَّ التَّجْلِيلَ ليس من خَصَائِصِ الْحَجِّ لِأَنَّهُ
إنَّمَا يَفْعَلُ ذلك لِدَفْعِ الحجر ( ( ( الحر ) ) ) وَالْبَرْدِ عن الْبَدَنَةِ
أو لِلتَّزْيِينِ وَلَوْ قَلَّدَ الشَّاةَ يَنْوِي بِهِ الْحَجَّ وَتَوَجَّهَ
مَعَهَا لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا وَإِنْ نَوَى الْإِحْرَامَ لِأَنَّ تَقْلِيدَ
الْغَنَمِ ليس بِسُنَّةٍ عِنْدَنَا فلم يَكُنْ من دَلَائِلِ الْإِحْرَامِ فَضْلًا
عن أَنْ يَكُونَ من خَصَائِصِهِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْغَنَمَ لَا تُقَلَّدُ
قَوْله تَعَالَى { وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ } عَطَفَ الْقَلَائِدَ على
الْهَدْيِ وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ في الْأَصْلِ وَاسْمُ الهدى
يَقَعُ على الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ جميعا فَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ
الهدى نَوْعَانِ ما يُقَلَّدُ وما لَا يُقَلَّدُ ثُمَّ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ
يُقَلَّدَانِ بِالْإِجْمَاعِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْغَنَمَ لَا تُقَلَّدُ لِيَكُونَ
عَطْفُ الْقَلَائِدِ على الهدى عَطْفَ الشَّيْءِ على غَيْرِهِ فَيَصِحُّ
وَلَوْ أَشْعَرَ بَدَنَتَهُ وَتَوَجَّهَ مَعَهَا لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا لِأَنَّ
الْإِشْعَارَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ وَإِيلَامُ
الْحَيَوَانِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالتَّقْلِيدِ وهو
الْإِعْلَامُ بِكَوْنِ الْمُشْعِرِ هَدْيًا لِئَلَّا يُتَعَرَّضَ له لو ضَلَّ
وَالْإِتْيَانُ بِفِعْلٍ مَكْرُوهٍ لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ الْإِحْرَامِ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ على قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ قال بَعْضُهُمْ إنْ
أَشْعَرَ وَتَوَجَّهَ مَعَهَا يَصِيرُ مُحْرِمًا عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْإِشْعَارَ
سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا كَالتَّقْلِيدِ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلَ الْإِحْرَامِ
كَالتَّقْلِيدِ
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا عِنْدَهُمَا أَيْضًا لِأَنَّ الْإِشْعَارَ
ليس بِسُنَّةٍ عِنْدَهُمَا بَلْ هو مُبَاحٌ فلم يَكُنْ قُرْبَةً فَلَا يَصْلُحُ
دَلِيلَ الْإِحْرَامِ
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْإِشْعَارَ عِنْدَهُمَا حَسَنٌ ولم
يسمع ( ( ( يسمه ) ) ) سُنَّةً لِأَنَّهُ من حَيْثُ أنه إكْمَالٌ لِمَا شُرِعَ له
التَّقْلِيدُ وهو إعْلَامُ الْمُقَلِّدِ بِأَنَّهُ هَدْيٌ لِمَا أَنَّ تَمَامَ
الْإِعْلَامِ تَحْصُلُ بِهِ سُنَّةٌ وَمِنْ حَيْثُ أنه مُثْلَةٌ بدعة ( ( ( وبدعة
) ) ) فَتَرَدَّدَ بين السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَسَمَّاهُ حَسَنًا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْإِشْعَارُ سُنَّةٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَشْعَرَ وَالْجَوَابُ أَنَّ ذلك كان في
الِابْتِدَاءِ حين كانت الْمَثُلَةُ مَشْرُوعَةً ثُمَّ لَمَّا نهى عن الْمَثُلَةِ
انْتَسَخَ بِنَسْخِ الْمَثُلَةِ وَذَلِكَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
فَعَلَ ذلك قَطْعًا لِأَيْدِي الْمُشْرِكِينَ عن التَّعَرُّضِ لِلْهَدَايَا لو
ضَلَّتْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا ما يَتَعَرَّضُونَ لِلْهَدَايَا وَالتَّقْلِيدُ ما
كان يَدُلُّ دَلَالَةً تَامَّةً أنها هَدْيٌ فَكَانَ يَحْتَاجُ إلَى الْإِشْعَارِ
لِيَعْلَمُوا أنها هَدْيٌ وقد زَالَ هذا الْمَعْنَى في زَمَانِنَا فَانْتَسَخَ
بِانْتِسَاخِ الْمَثُلَةِ
ثُمَّ الْإِشْعَارُ
____________________
(2/162)
هو
الطَّعْنُ في أَسْفَلِ السَّنَامِ وَذَلِكَ من قِبَلِ الْيَسَارِ عِنْدَ أبي
يُوسُفَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ من قِبَلِ الْيَمِينِ وَكُلُّ ذلك مَرْوِيٌّ عن
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فإنه كان يَدْخُلُ بين بَعِيرَيْنِ من قِبَلِ الرؤس
وكان يَضْرِبُ أَوَّلًا الذي عن يَسَارِهِ من قِبَلِ يَسَارِ سَنَامِهِ ثُمَّ
يَعْطِفُ على الْآخَرِ فَيَضْرِبُهُ من قِبَلِ يَمِينِهِ اتِّفَاقًا لِلْأَوَّلِ
لَا قَصْدًا فَصَارَ الطَّعْنُ على الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ أَصْلِيًّا وَالْآخَرُ
اتِّفَاقِيًّا بَلْ الِاعْتِبَارُ الْأَصْلِيُّ أَوْلَى وَاَللَّهُ عز وجل
أَعْلَمُ
هذا الذي ذَكَرْنَا في أَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ما
لم يَقْتَرِنْ بها قَوْلٌ أو ( ( ( وفعل ) ) ) فعل هو من خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ
أو دَلَائِلِهِ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَبِهِ
أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ إنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ
لِأَنَّهُ جَعَلَ نِيَّةَ الْإِحْرَامِ احراما وَالنِّيَّةُ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ
بَلْ هِيَ شَرْطٌ لِأَنَّهَا عَزْمٌ على الْفِعْلِ وَالْعَزْمُ على فِعْلٍ ليس ذلك
الْفِعْلَ بَلْ هو عَقْدٌ على أَدَائِهِ وهو أَنْ تَعْقِدَ قَلْبَكَ عليه أَنَّكَ
فَاعِلُهُ لَا مَحَالَةَ قال اللَّهُ تَعَالَى { فإذا عَزَمَ الْأَمْرُ } أَيْ
جَدَّ الْأَمْرُ وفي الحديث خَيْرُ الْأُمُورِ عَوَازِمُهَا أَيْ ما وَكَّدْتَ
رَأْيَكَ عليه وَقَطَعْتَ التَّرَدُّدَ عنه وَكَوْنُهُ رُكْنًا يُشْعِرُ
بِكَوْنِهِ من أَفْعَالِ الْحَجِّ فَكَانَ تَنَاقُضًا
ثُمَّ جَعْلُ الْإِحْرَامِ عِبَارَةً عن مُجَرَّدِ النِّيَّةِ مُخَالِفٌ لِلُّغَةِ
فإن الْإِحْرَامَ في اللُّغَةِ هو الْإِهْلَالُ يُقَالُ أَحْرَمَ أَيْ أَهَلَّ
بِالْحَجِّ وهو مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِنَا أَيْ الْإِهْلَالُ لَا بُدَّ منه إمَّا
بِنَفْسِهِ أو بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ على ما بَيَّنَّا وَالدَّلِيلُ على أَنَّ
الْإِهْلَالَ شَرْطٌ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
لِعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها وقد رَآهَا حَزِينَةً ما لَكِ فقالت أنا قَضَيْتُ
عُمْرَتِي وَأَلْقَانِي الْحَجُّ عَارِكًا فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم ذَاكَ
شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى على بَنَاتِ آدَمَ حُجِّي وَقُولِي مِثْلَ ما
يقول الناس في حَجِّهِمْ فَدَلَّ قَوْلُهُ قُولِي ما يقول الناس في حَجِّهِمْ على
لُزُومِ التَّلْبِيَةِ لِأَنَّ الناس يَقُولُونَهَا وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ
إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا حَيْثُ أَمَرَهَا بِاتِّبَاعِهِمْ
بِقَوْلِهِ قُولِي ما يقول الناس في حَجِّهِمْ
وَرَوَيْنَا عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت لَا يُحْرِمُ إلَّا من
أَهَلَّ وَلَبَّى لم ( ( ( ولم ) ) ) يُرْوَ عن غَيْرِهَا خِلَافُهُ فَيَكُونُ
إجْمَاعًا وَلِأَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ في أَحْكَامِ
الشَّرْعِ عَرَفْنَا ذلك بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ
أَمَّا النَّصُّ ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إنَّ
اللَّهَ تَعَالَى عَفَا عن أُمَّتِي ما تَحَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ ما لم
يَتَكَلَّمُوا أو يفعلو ( ( ( يفعلوا ) ) )
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ النِّيَّةَ وُضِعَتْ لِتَعْيِينِ جِهَةِ
الْفِعْلِ في الْعِبَادَةِ وَتَعْيِينُ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ
وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ولم يُعَيِّنْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَعَلَيْهِ
حَجَّةُ الْإِسْلَامِ يَقَعُ عن حَجَّةِ الْإِسْلَامِ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَقَعَ عن حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إلَّا بِتَعْيِينِ
النِّيَّةِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْوَقْتَ يَقْبَلُ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ فَلَا بُدَّ من
التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ أَنَّهُ يَتَأَدَّى
بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ لِأَنَّ الْوَقْتَ هُنَاكَ لَا يَقْبَلُ صَوْمًا آخَرَ
فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ وَالِاسْتِحْسَانُ أَنَّ الظَّاهِرَ
من حَالِ من عليه حَجَّةُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ
حَجَّةَ التَّطَوُّعِ ويبقى نَفْسَهُ في عهده الْفَرْضِ فَيُحْمَلُ على حَجَّةِ
الْإِسْلَامِ بِدَلَالَةِ حَالِهِ فَكَانَ الْإِطْلَاقُ فيه تَعْيِينًا كما في
صَوْمِ رَمَضَانَ
وَلَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ يَقَعُ عن التَّطَوُّعِ لِأَنَّا إنَّمَا أَوْقَعْنَاهُ
عن الْفَرْضِ عِنْدَ إطْلَاقِ النِّيَّةِ بِدَلَالَةِ حَالِهِ وَالدَّلَالَةُ لَا
تَعْمَلُ مع النَّصِّ بِخِلَافِهِ وَلَوْ لَبَّى يَنْوِي الْإِحْرَامَ وَلَا
نِيَّةَ له في حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ مَضَى في أَيِّهِمَا شَاءَ ما لم يَطُفْ
بِالْبَيْتِ شَوْطًا فَإِنْ طَافَ شَوْطًا كان إحْرَامُهُ عن الْعُمْرَةِ
وَالْأَصْلُ في انْعِقَادِ الْإِحْرَامِ بِالْمَجْهُولِ ما رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا
وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رضي اللَّهُ عنهما لَمَّا قدهما ( ( ( قدما ) ) )
من الْيَمَنِ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ قال لَهُمَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
بِمَاذَا أَهْلَلْتُمَا فَقَالَا بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم فَصَارَ هذا أَصْلًا في انْعِقَادِ الْإِحْرَامِ بِالْمَجْهُولِ
وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ عِنْدَنَا وَلَيْسَ بِأَدَاءٍ
بَلْ هو عَقْدٌ على الْأَدَاءِ فَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ مُجْمَلًا وَيَقِفَ على
الْبَيَانِ
وإذا انْعَقَدَ إحْرَامُهُ جَازَ له أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ حَجَّةً أو عُمْرَةً
وَلَهُ الْخِيَارُ في ذلك يَصْرِفُهُ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ ما لم يَطُفْ
بِالْبَيْتِ شَوْطًا وَاحِدًا فإذا طَافَ بِالْبَيْتِ شَوْطًا وَاحِدًا كان
إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ لِأَنَّ الطَّوَافَ رُكْنٌ في الْعُمْرَةِ وَطَوَافُ
اللِّقَاءِ في الْحَجِّ ليس بِرُكْنٍ بَلْ هو سُنَّةٌ فايقاعه عن الرُّكْنِ
أَوْلَى وَتَتَعَيَّنُ الْعُمْرَةُ بِفِعْلِهِ كما تتعيبن ( ( ( تتعين ) ) ) بِقَصْدِهِ
قال الْحَاكِمُ في الْأَصْلِ وَكَذَلِكَ لو لم يَطُفْ حتى جَامَعَ أو أَحْصَرَ
كانت عُمْرَةً لِأَنَّ الْقَضَاءَ قد لَزِمَهُ فَيَجِبُ عليه الْأَقَلُّ إذْ
الْأَقَلُّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وهو الْعُمْرَةُ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مَكَانِ الْإِحْرَامِ فَمَكَانُ الْإِحْرَامِ هو
الْمُسَمَّى بِالْمِيقَاتِ فَنَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الْمَوَاقِيتِ وما
يَتَعَلَّقُ بها من الْأَحْكَامِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
الْمَوَاقِيتُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الناس وَالنَّاسُ في حَقِّ الْمَوَاقِيتِ
أَصْنَافٌ ثَلَاثَةٌ
____________________
(2/163)
صِنْفٌ
منهم يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الْآفَاقِ وَهُمْ الَّذِينَ مَنَازِلُهُمْ خَارِجَ
الْمَوَاقِيتِ التي وَقَّتَ لهم رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَهِيَ
خَمْسَةٌ كَذَا رُوِيَ في الحديث أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ
وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ وَلِأَهْلِ الْعِرَاقِ
ذَاتَ عَرْقٍ وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم هُنَّ لِأَهْلِهِنَّ وَلِمَنْ مَرَّ
بِهِنَّ من غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أو الْعُمْرَةَ
وَصِنْفٌ منهم يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الْحِلِّ وَهُمْ الذي ( ( ( الذين ) ) )
مَنَازِلُهُمْ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ خَارِجَ الْحَرَمِ كَأَهْلِ
بُسْتَانِ بَنِي عَامِرٍ وَغَيْرِهِمْ وَصِنْفٌ منهم أَهْلَ الْحَرَمِ وَهُمْ
أَهْلُ مَكَّةَ أَمَّا الصِّنْفُ الْأَوَّلُ فَمِيقَاتُهُمْ ما وَقَّتَ لهم رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ منهم أَنْ يُجَاوِزَ
مِيقَاتَهُ إذَا أَرَادَ الْحَجَّ أو الْعُمْرَةَ إلَّا مُحْرِمًا لِأَنَّهُ
لَمَّا وُقِّتَ لهم ذلك فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مُقَيَّدًا وَذَلِكَ
إمَّا الْمَنْعُ من تَقْدِيمِ الْإِحْرَامِ عليه وَإِمَّا الْمَنْعُ من
تَأْخِيرِهِ عنه وَالْأَوَّلُ ليس بِمُرَادٍ لِإِجْمَاعِنَا على جَوَازِ تَقْدِيمِ
الْإِحْرَامِ عليه فَتَعَيَّنَ الثَّانِي وهو الْمَنْعُ من تَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ
عنه
وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ وقال إنِّي
أَحْرَمْتُ بَعْدَ الْمِيقَاتِ فقال له ارْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ فَلَبِّ وَإِلَّا
فَلَا حَجَّ لَك فَإِنِّي سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يقول لَا
يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا وَكَذَلِكَ لو أَرَادَ
بِمُجَاوَزَةِ هذه الْمَوَاقِيتِ دُخُولَ مَكَّةَ لَا يَجُوزُ له أَنْ
يُجَاوِزَهَا إلَّا مُحْرِمًا سَوَاءٌ أَرَادَ بِدُخُولِ مَكَّةَ النُّسُكَ من
الْحَجِّ أو الْعُمْرَةِ أو التِّجَارَةِ أو حَاجَةٍ أُخْرَى عِنْدَنَا وقال
الشَّافِعِيُّ إنْ دَخَلَهَا لِلنُّسُكِ وَجَبَ عليه الْإِحْرَامُ وَإِنْ
دَخَلَهَا لِحَاجَةٍ جَازَ دُخُولُهُ من غَيْرِ إحْرَامٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ تَجُوزُ السُّكْنَى بِمَكَّةَ من غَيْرِ إحْرَامٍ
فَالدُّخُولُ أَوْلَى لِأَنَّهُ دُونَ السُّكْنَى
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال أَلَا إنَّ مَكَّةَ
حَرَامٌ مُنْذُ خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى لم تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا
تَحِلُّ لاحد بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لي سَاعَةً من نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ
حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الحديث وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ من ثَلَاثَةِ
أَوْجُهٍ أَحَدُهَا بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَلَا إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ
وَالثَّانِي بِقَوْلِهِ لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي
وَالثَّالِثُ بِقَوْلِهِ ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
مُطْلَقًا من غَيْرِ فَصْلٍ
وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ تعالى عنهما عن النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم أَنَّهُ قال لَا يَحِلُّ دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَلِأَنَّ هذه
بُقْعَةٌ شَرِيفَةٌ لها قَدْرٌ وَخَطَرٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَالدُّخُولُ
فيها يَقْتَضِي الْتِزَامَ عِبَادَةٍ إظْهَارًا لِشَرَفِهَا على سَائِرِ
الْبِقَاعِ وَأَهْلُ مَكَّةَ بِسُكْنَاهُمْ فيها جُعِلُوا مُعَظِّمِينَ لها
بِقِيَامِهِمْ بِعِمَارَتِهَا وَسَدَانَتِهَا وَحِفْظِهَا وَحِمَايَتِهَا لِذَلِكَ
أُبِيحَ لهم السُّكْنَى
وَكُلَّمَا قُدِّمَ الْإِحْرَامُ على الْمَوَاقِيتِ هو أَفْضَلُ وَرُوِيَ عن أبي
حَنِيفَةَ أَنَّ ذلك أَفْضَلُ إذَا كان يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا ما
يَمْنَعُ منه الْإِحْرَامُ
وقال الشَّافِعِيُّ الْإِحْرَامُ من الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ بِنَاءً على أَصْلِهِ
أَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ فَيَكُونُ من أَفْعَالِ الْحَجِّ وَلَوْ كان كما زَعَمَ
لَمَا جَازَ تَقْدِيمُهُ على الْمِيقَاتِ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ لَا يَجُوزُ
تَقْدِيمُهَا على أَوْقَاتِهَا وَتَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ على الْمِيقَاتِ جَائِزٌ
بِالْإِجْمَاعِ إذَا كان في أَشْهُرِ الْحَجِّ وَالْخِلَافُ في الْأَفْضَلِيَّةِ
دُونَ الْجَوَازِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }
وَرُوِيَ عن عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا
إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا من دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ
وَرُوِيَ عن أُمِّ سَلَمَةَ رضي اللَّهُ عنها عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال من أَحْرَمَ من الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
بِحَجٍّ أو عُمْرَةٍ غَفَرَ اللَّهُ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ
وَوَجَبَتْ له الْجَنَّةُ
هذا إذَا قَصَدَ مَكَّةَ من هذه الْمَوَاقِيتِ فَأَمَّا إذَا قَصَدَهَا من طَرِيقٍ
غَيْرِ مَسْلُوكٍ فإنه يُحْرِمُ إذَا بَلَغَ مَوْضِعًا يُحَاذِي مِيقَاتًا من هذه
الْمَوَاقِيتِ لِأَنَّهُ إذَا حَاذَى ذلك الْمَوْضِعَ مِيقَاتًا من الْمَوَاقِيتِ
صَارَ في حُكْمِ الذي يُحَاذِيهِ في الْقُرْبِ من مَكَّةَ وَلَوْ كان في الْبَحْرِ
فَصَارَ في مَوْضِعٍ لو كان مَكَانَ الْبَحْرِ بَرٌّ لم يَكُنْ له أَنْ
يُجَاوِزَهُ إلَّا بِإِحْرَامٍ فإنه يُحْرِمُ كَذَا قال أبو يُوسُفَ وَلَوْ حَصَلَ
في شَيْءٍ من هذه الْمَوَاقِيتِ من ليس من أَهْلِهَا فَأَرَادَ الْحَجَّ أو
الْعُمْرَةَ أو دُخُولَ مَكَّةَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ ذلك الْمِيقَاتِ الذي
حَصَلَ فيه لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم هُنَّ لِأَهْلِهِنَّ وَلِمَنْ
مَرَّ بِهِنَّ من غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أو الْعُمْرَةَ
وَرُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال من وَقَّتْنَا له وَقْتًا
فَهُوَ له وَلِمَنْ مَرَّ بِهِ من غَيْرِ أَهْلِهِ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أو الْعُمْرَةَ
وَلِأَنَّهُ إذَا مَرَّ بِهِ صَارَ من أَهْلِهِ فَكَانَ حُكْمُهُ في
الْمُجَاوَزَةِ حُكْمَهُمْ
وَلَوْ جَاوَزَ مِيقَاتًا من هذه الْمَوَاقِيتِ من غَيْرِ إحْرَامٍ إلَى مِيقَاتٍ
آخَرَ جَازَ له لِأَنَّ الْمِيقَاتَ الذي صَارَ إلَيْهِ صَارَ مِيقَاتًا له لِمَا
رَوَيْنَا من الْحَدِيثَيْنِ إلَّا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُحْرِمَ من
الْمِيقَاتِ الْأَوَّلِ هَكَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال في غَيْرِ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ إذَا مَرُّوا على الْمَدِينَةِ
____________________
(2/164)
فَجَاوَزُوهَا
إلَى الْجُحْفَةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُحْرِمُوا من ذِي
الْحُلَيْفَةِ لِأَنَّهُمْ إذَا حَصَلُوا في الْمِيقَاتِ الْأَوَّلِ لَزِمَهُمْ
مُحَافَظَةُ حُرْمَتِهِ فَيُكْرَهُ لهم تَرْكُهَا
وَلَوْ جَاوَزَ مِيقَاتًا من الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ يُرِيدُ الْحَجَّ أو
الْعُمْرَةَ فَجَاوَزَهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ عَادَ قبل أَنْ يُحْرِمَ
وَأَحْرَمَ من الْمِيقَاتِ وَجَاوَزَهُ مُحْرِمًا لَا يَجِبُ عليه دَمٌ
بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَمَّا عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ قبل أَنْ يُحْرِمَ
وَأَحْرَمَ الْتَحَقَتْ تِلْكَ الْمُجَاوَزَةُ بِالْعَدَمِ وَصَارَ هذا ابْتِدَاءَ
إحْرَامٍ منه وَلَوْ أَحْرَمَ بعدما جَاوَزَ الْمِيقَاتَ قبل أَنْ يَعْمَلَ شيئا
من أَفْعَالِ الْحَجِّ ثُمَّ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ وَلَبَّى سَقَطَ عنه الدَّمُ
وَإِنْ لم يُلَبِّ لَا يَسْقُطُ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَسْقُطُ لَبَّى أو لم يُلَبِّ
وقال زُفَرُ لَا يَسْقُطُ لَبَّى أو لم يُلَبِّ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ وُجُوبَ الدَّمِ بِجِنَايَتِهِ على الْمِيقَاتِ
بِمُجَاوَزَتِهِ إيَّاهُ من غَيْرِ إحْرَامٍ وَجِنَايَتُهُ لَا تَنْعَدِمُ
بِعَوْدِهِ فَلَا يَسْقُطُ الدَّمُ الذي وَجَبَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ حَقَّ الْمِيقَاتِ في مُجَاوَزَتِهِ إيَّاهُ مُحْرِمًا
لَا في إنْشَاءِ الْإِحْرَامِ منه بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو أَحْرَمَ من دُوَيْرَةِ
أَهْلِهِ وَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ ولم يُلَبِّ لَا شَيْءَ عليه فَدَلَّ أَنَّ حَقَّ
الْمِيقَاتِ في مُجَاوَزَتِهِ إيَّاهُ مُحْرِمًا لَا في إنْشَاءِ الْإِحْرَامِ منه
وبعدما عَادَ إلَيْهِ مُحْرِمًا فَقَدْ جَاوَزَهُ مُحْرِمًا فَلَا يَلْزَمُهُ
الدَّمُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما رَوَيْنَا عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ
قال لِلَّذِي أَحْرَمَ بَعْدَ الْمِيقَاتِ ارْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ فَلَبِّ
وَإِلَّا فَلَا حَجَّ لك أَوْجَبَ التَّلْبِيَةَ من الْمِيقَاتِ فَلَزِمَ
اعْتِبَارُهَا وَلِأَنَّ الْفَائِتَ بِالْمُجَاوَزَةِ هو التَّلْبِيَةُ فَلَا
يَقَعُ تَدَارُكُ الْفَائِتِ إلَّا بِالتَّلْبِيَةِ بِخِلَافِ ما إذَا أَحْرَمَ من
دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ ثُمَّ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ من غَيْرِ إنْشَاءِ الْإِحْرَامِ
لِأَنَّهُ إذَا أَحْرَمَ من دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ صَارَ ذلك مِيقَاتًا وقد لَبَّى
منه فَلَا يَلْزَمُهُ تَلْبِيَةٌ وإذا لم يُحْرِمْ من دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ كان
مِيقَاتُهُ الْمَكَانَ الذي تَجِبُ التَّلْبِيَةُ منه وهو الْمِيقَاتُ
الْمَعْهُودُ
وما قَالَهُ زُفَرُ إنَّ الدَّمَ إنَّمَا وَجَبَ عليه بِجِنَايَتِهِ على
الْمِيقَاتِ مُسَلَّمٌ لَكِنْ لَمَّا عَادَ قبل دُخُولِهِ في أَفْعَالِ الْحَجِّ
فما جَنَى عليه بَلْ تَرَكَ حَقَّهُ في الْحَالِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّدَارُكِ
وقد تَدَارَكَهُ بِالْعَوْدِ إلَى التَّلْبِيَةِ وَلَوْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ
بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَأَحْرَمَ ولم يَعُدْ إلَى الْمِيقَاتِ حتى طَافَ شَوْطًا أو
شَوْطَيْنِ أو وَقَفَ بِعَرَفَةَ أو كان إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ ثُمَّ عَادَ إلَى
الْمِيقَاتِ لَا يَسْقُطُ عنه الدَّمُ لِأَنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَ الْإِحْرَامُ
بِأَفْعَالِ الْحَجِّ تَأَكَّدَ عليه الدَّمُ فَلَا يَسْقُطُ بِالْعَوْدِ وَلَوْ
عَادَ إلَى مِيقَاتٍ آخَرَ غَيْرِ الذي جَاوَزَهُ قبل أَنْ يَفْعَلَ شيئا من
أَفْعَالِ الْحَجِّ سَقَطَ عنه الدَّمُ وَعَوْدُهُ إلَى هذا الْمِيقَاتِ وَإِلَى
مِيقَاتٍ آخَرَ سَوَاءٌ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ على ما ذَكَرْنَا
وروى عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ فَصَّلَ في ذلك تَفْصِيلًا فقال إنْ كان الْمِيقَاتُ
الذي عَادَ إلَيْهِ يُحَاذِي الْمِيقَاتَ الْأَوَّلَ أو أَبْعَدَ من الْحَرَمِ
يَسْقُطُ عنه الدَّمُ وَإِلَّا فَلَا وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
لِمَا ذَكَرْنَا إن كُلَّ وَاحِدٍ من هذه الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ مِيقَاتٌ
لِأَهْلِهِ وَلِغَيْرِ أَهْلِهِ بِالنَّصِّ مُطْلَقًا عن اعْتِبَارِ الْمُحَاذَاةِ
وَلَوْ لم يَعُدْ إلَى الْمِيقَاتِ لَكِنَّهُ أَفْسَدَ إحْرَامَهُ بِالْجِمَاعِ
قبل طَوَافِ الْعُمْرَةِ إنْ كان إحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ أو قبل الْوُقُوفِ
بِعَرَفَةَ إنْ كان إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ سَقَطَ عنه ذلك الدَّمُ لِأَنَّهُ
يَجِبُ عليه الْقَضَاءُ وَانْجَبَرَ ذلك كُلُّهُ بِالْقَضَاءِ كَمَنْ سَهَا في
صَلَاتِهِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا فَقَضَاهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه سُجُودُ
السَّهْوِ
وَكَذَلِكَ إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ فإنه يَتَحَلَّلُ بِالْعُمْرَةِ وَعَلَيْهِ
قَضَاءُ الْحَجِّ وَسَقَطَ عنه ذلك الدَّمُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ وَلَوْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ
أو الْحَرَمَ من غَيْرِ إحْرَامٍ يَلْزَمُهُ إمَّا حَجَّةٌ وَإِمَّا عُمْرَةٌ
لِأَنَّ مُجَاوَزَةَ الْمِيقَاتِ على قَصْدِ دُخُولِ مَكَّةَ أو الْحَرَمِ بِدُونِ
الْإِحْرَامِ لَمَّا كان حَرَامًا كانت الْمُجَاوَزَةُ الْتِزَامًا لِلْإِحْرَامِ
دَلَالَةً كَأَنَّهُ قال لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ إحْرَامٌ وَلَوْ قال ذلك
يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أو عُمْرَةٌ كَذَا إذَا فَعَلَ ما يَدُلُّ على الِالْتِزَامِ
كَمَنْ شَرَعَ في صَلَاةِ التَّطَوُّعِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ
رَكْعَتَيْنِ كما إذَا قال لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ
فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أو بِالْعُمْرَةِ قَضَاءً لِمَا عليه من ذلك
لِمُجَاوَزَتِهِ الْمِيقَاتَ ولم يَرْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ فَعَلَيْهِ دَمٌ
لِأَنَّهُ جَنَى على الْمِيقَاتِ لِمُجَاوَزَتِهِ إيَّاهُ من غَيْرِ إحْرَامٍ ولم
يَتَدَارَكْهُ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ جَبْرًا فَإِنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ حتى
تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ثُمَّ أَحْرَمَ يُرِيدُ قَضَاءَ ما وَجَبَ عليه بِدُخُولِهِ
مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ أَجْزَأَهُ في ذلك مِيقَاتُ أَهْلِ مَكَّةَ في الْحَجِّ
بِالْحَرَمِ وفي الْعُمْرَةِ بِالْحِلِّ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَامَ بِمَكَّةَ صَارَ
في حُكْمِ أَهْلِ مَكَّةَ فَيُجْزِئُهُ إحْرَامُهُ من مِيقَاتِهِمْ فَإِنْ كان حين
دخل مَكَّةَ عَادَ في تِلْكَ السَّنَةِ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ
عليه من حَجَّةِ الْإِسْلَامِ أو حَجَّةِ نَذْرٍ أو عُمْرَةِ نَذْرٍ سَقَطَ ما
وَجَبَ عليه لِدُخُولِهِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَسْقُطَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ما وَجَبَ عليه لِدُخُولِ
مَكَّةَ وهو قَوْلُ زُفَرَ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ
ثُمَّ عَاد إلَى الْمِيقَاتِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا
يُجْزِئُهُ عَمَّا لَزِمَهُ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ قد وَجَبَ عليه حج ( ( ( حجة ) ) ) أو
____________________
(2/165)
عُمْرَةٌ
بِسَبَبِ الْمُجَاوَزَةِ فَلَا يَسْقُطُ عنه بِوَاجِبٍ آخَرَ كما لو نَذَرَ
بِحَجَّةٍ أَنَّهُ لَا تَسْقُطُ عنه بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَكَذَا لو فَعَلَ ذلك
بعدما تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ
وَجْهُ الإستحسان أَنَّ لُزُومَ الْحَجَّةِ أو الْعُمْرَةِ ثَبَتَ تَعْظِيمًا
لِلْبُقْعَةِ وَالْوَاجِبُ عليه تَعْظِيمُهَا بِمُطْلَقِ الْإِحْرَامِ لَا
بِإِحْرَامٍ على حِدَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُهَا ابْتِدَاءً
بِإِحْرَامِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ فإنه لو أَحْرَمَ من الْمِيقَاتِ ابْتِدَاءً
بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَجْزَأَهُ ذلك عن حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَعَنْ حُرْمَةِ
الْمِيقَاتِ وَصَارَ كَمَنْ دخل الْمَسْجِدَ وَأَدَّى فَرْضَ الْوَقْتِ قام ذلك
مَقَامَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَكَذَا لو نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْرَ
رَمَضَانَ فَصَامَ رَمَضَانَ مُعْتَكِفًا جَازَ وَقَامَ صَوْمُ رَمَضَانَ مَقَامَ
الصَّوْمِ الذي هو شَرْطُ الإعتكاف بِخِلَافِ ما إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ
لِأَنَّهُ لَمَّا لم يَقْضِ حَقَّ الْبُقْعَةِ حتى تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ صَارَ
مُفَوِّتًا حَقَّهَا فَصَارَ ذلك دَيْنًا عليه وَصَارَ أَصْلًا وَمَقْصُودًا
بِنَفْسِهِ فَلَا يَتَأَدَّى بِغَيْرِهِ كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْرَ
رَمَضَانَ فلم يَصُمْ ولم يَعْتَكِفْ حتى قَضَى شَهْرَ رَمَضَانَ مع الإعتكاف
جَازَ فَإِنْ صَامَ رَمَضَانَ ولم يَعْتَكِفْ فيه حتى دخل شَهْرُ رَمَضَانَ
الْقَابِلُ فَاعْتَكَفَ فيه قَضَاءً عَمَّا عليه لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الصَّوْمَ
صَارَ أَصْلًا وَمَقْصُودًا بِنَفْسِهِ كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ لو أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مَنْذُورَةٍ في السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لم
يُجْزِهِ لِأَنَّهُ يُكْرَهُ تَأْخِيرُ الْعُمْرَةِ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ
وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ فإذا صَارَ إلَى وَقْتٍ يُكْرَهُ تَأْخِيرُ الْعُمْرَةِ
إلَيْهِ صَارَ تَأْخِيرُهَا كَتَفْوِيتِهَا فَإِنْ دخل مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ
ثُمَّ خَرَجَ فَعَادَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ فَدَخَلَهَا
بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَجَبَ عليه لِكُلِّ وَاحِدٍ من الدُّخُولَيْنِ حَجَّةٌ أو
عُمْرَةٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الدُّخُولَيْنِ سَبَبُ لوجوب ( ( ( الوجوب ) )
) فَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ جَازَ عن الدُّخُولِ الثَّانِي إذَا كان
في سَنَتِهِ ولم يَجُزْ عن الدُّخُولِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قبل
الدُّخُولِ الثَّانِي صَارَ دَيْنًا فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ
هذا إذَا جَاوَزَ أَحَدَ هذه الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ يُرِيدُ الْحَجَّ أو
الْعُمْرَةَ أو دُخُولَ مَكَّةَ أو الْحَرَمِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَأَمَّا إذَا لم
يُرِدْ ذلك وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ بُسْتَانَ بَنِي عَامِرٍ أو غَيْرَهُ
لِحَاجَةٍ فَلَا شَيْءَ عليه لِأَنَّ لُزُومَ الْحَجِّ أو الْعُمْرَةِ بِالْمُجَاوَزَةِ
من غَيْرِ إحْرَامٍ لِحُرْمَةِ الْمِيقَاتِ تَعْظِيمًا لِلْبُقْعَةِ وَتَمْيِيزًا
لها من بَيْنِ سَائِرِ الْبِقَاعِ في الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ فَيَصِيرُ
مُلْتَزِمًا لِلْإِحْرَامِ منه فإذا لم يُرِدْ الْبَيْتَ لم يَصِرْ مُلْتَزِمًا
لِلْإِحْرَامِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَإِنْ حَصَلَ في الْبُسْتَانِ أو ما
وَرَاءَهُ من الْحِلِّ ثُمَّ بَدَا له أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ لِحَاجَةٍ من غَيْرِ
إحْرَامٍ فَلَهُ ذلك لِأَنَّهُ بِوُصُولِهِ إلَى أَهْلِ الْبُسْتَانِ صَارَ
كَوَاحِدٍ من أَهْلِ الْبُسْتَانِ وَلِأَهْلِ الْبُسْتَانِ أَنْ يَدْخُلُوا
مَكَّةَ لِحَاجَةٍ من غَيْرِ إحْرَامٍ فَكَذَا له وَقِيلَ إنَّ هذا هو الْحِيلَةُ
في إسْقَاطِ الْإِحْرَامِ عن نَفْسِهِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عنه الْإِحْرَامُ وَلَا يَجُوزُ له
أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ما لم يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ بِنِيَّةِ
أَنْ يُقِيمَ بِالْبُسْتَانِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا لِأَنَّهُ لَا
يَثْبُتُ لَلِبْسَتَانِ حُكْمُ الْوَطَنِ في حَقِّهِ إلَّا بِنِيَّةِ مُدَّةِ
الْإِقَامَةِ وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا
وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّانِي فَمِيقَاتُهُمْ لِلْحَجِّ أو الْعُمْرَةِ دُوَيْرَةٍ
أَهْلِهِمْ أو حَيْثُ شاؤا من الْحِلِّ الذي بين دُوَيْرَةٍ أَهْلِهِمْ وَبَيْنَ
الْحَرَمِ لِقَوْلِهِ عز وجل { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }
رَوَيْنَا عن عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا حين
سُئِلَا عن هذه الْآيَةِ إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا من دُوَيْرَةِ
أَهْلِك فَلَا يَجُوزُ لهم أَنْ يُجَاوِزُوا مِيقَاتَهُمْ لِلْحَجِّ أو
الْعُمْرَةِ إلَّا مُحْرِمِينَ وَالْحِلُّ الذي بين دُوَيْرَةِ أَهْلِهِمْ
وَبَيْنَ الْحَرَمِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَيَجُوزُ إحْرَامُهُمْ إلَى آخِرِ أَجْزَاءِ
الْحِلِّ كما يَجُوزُ إحْرَامُ الأفاقي من دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ إلَى آخِرِ
أَجْزَاءِ مِيقَاتِهِ فَلَوْ جَاوَزَ أَحَدٌ منهم مِيقَاتَهُ يُرِيدُ الْحَجَّ أو
الْعُمْرَةَ فَدَخَلَ الْحَرَمَ من غَيْرِ إحْرَامٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ
وَلَوْ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ قبل أَنْ يُحْرِمَ أو بعدما أَحْرَمَ فَهُوَ على
التَّفْصِيلِ والإتفاق وَالِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في الْآفَاقِيِّ إذَا
جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَكَذَلِكَ الأفاقي إذَا حَصَلَ في
الْبُسْتَانِ أو الْمَكِّيُّ إذَا خَرَجَ إلَيْهِ فَأَرَادَ أَنْ يَحُجَّ أو
يَعْتَمِرَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْبُسْتَانِ وَكَذَلِكَ الْبُسْتَانِيُّ أو
الْمَكِّيُّ إذَا خَرَجَ إلَى الْآفَاقِ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ أَهْلِ الْآفَاقِ
لَا تَجُوزُ مُجَاوَزَتُهُ مِيقَاتَ أَهْلِ الْآفَاقِ وهو يُرِيدُ الْحَجَّ أو
الْعُمْرَةَ إلَّا مُحْرِمًا لِمَا رَوَيْنَا من الْحَدِيثَيْنِ وَيَجُوزُ لِمَنْ
كان من أَهْلِ هذا الْمِيقَاتِ وما بَعْدَهُ دُخُولُ مَكَّةَ لِغَيْرِ الْحَجِّ أو
الْعُمْرَةِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ عِنْدَنَا وَلَا يَجُوزُ ذلك في أَحَدِ قَوْلَيْ
الشَّافِعِيِّ وَذَكَرَ في قَوْلِهِ الثَّالِثِ إذَا تَكَرَّرَ دُخُولُهُمْ يَجِبُ
عليهم الْإِحْرَامُ في كل سَنَةٍ مَرَّةً
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
رَخَّصَ لِلْحَطَّابِينَ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَعَادَةُ
الْحَطَّابِينَ أَنَّهُمْ لَا يَتَجَاوَزُونَ الْمِيقَاتَ
وَرُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ خَرَجَ من مَكَّةَ إلَى
قَدِيدٍ فَبَلَغَهُ خَبَرُ فِتْنَةٍ بِالْمَدِينَةِ فَرَجَعَ وَدَخَلَ مَكَّةَ
بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَلِأَنَّ الْبُسْتَانَ من تَوَابِعِ الْحَرَمِ فَيَلْحَقُ بِهِ
وَلِأَنَّ مَصَالِحَ أَهْلِ الْبُسْتَانِ تَتَعَلَّقُ بِمَكَّةَ فَيَحْتَاجُونَ
إلَى الدُّخُولِ في كل وَقْتٍ فَلَوْ مُنِعُوا من الدُّخُولِ إلَّا بِإِحْرَامٍ
لَوَقَعُوا في الْحَرَجِ وَأَنَّهُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا
وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّالِثُ فَمِيقَاتُهُمْ لِلْحَجِّ الْحَرَمُ وَلِلْعُمْرَةِ
الْحِلُّ فَيُحْرِمُ الْمَكِّيُّ من دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ لِلْحَجِّ أو حَيْثُ
شَاءَ من الْحَرَمِ وَيُحْرِمُ لِلْعُمْرَةِ من الْحِلِّ وهو التَّنْعِيمُ أو
غَيْرُهُ أَمَّا الْحَجُّ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }
____________________
(2/166)
وَرَوَيْنَا عن عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا
إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا من دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ إلَّا أَنَّ
الْعُمْرَةَ صَارَتْ مَخْصُوصَةً في حَقِّ أَهْلِ الْحَرَمِ فَبَقِيَ الْحَجُّ
مُرَادًا في حَقِّهِمْ
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ
بِفَسْخِ إحْرَامِ الْحَجِّ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ أَمَرَهُمْ يوم التَّرْوِيَةِ
أَنْ يُحْرِمُوا بِالْحَجِّ من الْمَسْجِدِ وَفَسْخِ إحْرَامِ الْحَجِّ بِعَمَلِ
الْعُمْرَةِ وَإِنْ نُسِخَ فَالْإِحْرَامُ من الْمَسْجِدِ لم يُنْسَخْ وَإِنْ
شَاءَ أَحْرَمَ من الْأَبْطَحِ أو حَيْثُ شَاءَ من الْحَرَمِ لَكِنْ من
الْمَسْجِدِ أَوْلَى لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِبَادَةٌ واتيان الْعِبَادَةِ في
الْمَسْجِدِ أَوْلَى كَالصَّلَاةِ
وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
لَمَّا أَرَادَ الْإِفَاضَةَ من مَكَّةَ دخل على عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها
وَهِيَ تَبْكِي فقالت أَكُلُّ نِسَائِكَ يَرْجِعْنَ بِنُسُكَيْنِ وأنا أَرْجِعُ
بِنُسُكٍ وَاحِدٍ فَأَمَرَ أَخَاهَا عَبْدَ الرحمن بن أبي بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه
أَنْ يَعْتَمِرَ بها من التَّنْعِيمِ وَلِأَنَّ من شَأْنِ الْإِحْرَامِ أَنْ
يَجْتَمِعَ في أَفْعَالِهِ الْحِلُّ وَالْحُرُمُ فَلَوْ أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ
بِالْعُمْرَةِ من مَكَّةَ وَأَفْعَالُ الْعُمْرَةِ تؤدي بِمَكَّةَ لم يَجْتَمِعْ
في أَفْعَالِهَا الْحِلُّ وَالْحَرَمِ بَلْ يَجْتَمِعُ كُلُّ أَفْعَالِهَا في
الْحَرَمِ وَهَذَا خِلَافُ عَمَلِ الْإِحْرَامِ في الشَّرْعِ
وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ من التَّنْعِيمِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَحْرَمَ منه وَكَذَا أَصْحَابُهُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا
يُحْرِمُونَ لِعُمْرَتِهِمْ منه وَكَذَلِكَ من حَصَلَ في الْحَرَمِ من غَيْرِ
أَهْلِهِ فَأَرَادَ الْحَجَّ أو الْعُمْرَةَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْحَرَمِ
لِأَنَّهُ صَارَ منهم فإذا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ لِلْحَجِّ أَحْرَمَ من
دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ أو حَيْثُ شَاءَ من الْحَرَمِ وإذا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ
بِالْعُمْرَةِ يَخْرُجُ إلَى التَّنْعِيمِ وَيُهِلُّ بِالْعُمْرَةِ في الْحِلِّ
وَلَوْ تَرَكَ الْمَكِّيُّ مِيقَاتَهُ فَأَحْرَمَ لِلْحَجِّ من الْحِلِّ
وَلِلْعُمْرَةِ من الْحَرَمِ يَجِبُ عليه الدَّمُ إلَّا إذَا عَادَ وَجَدَّدَ
التَّلْبِيَةَ أو لم يُجَدِّدْ على التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا
في الأفاقي وَلَوْ خَرَجَ من الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ ولم يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ
ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ له أَنْ يَعُودَ إلَيْهَا من غَيْرِ
إحْرَامٍ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَحْتَاجُونَ إلَى الْخُرُوجِ إلَى الْحِلِّ
لِلِاحْتِطَابِ والإحتشاش وَالْعَوْدِ إلَيْهَا فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُمْ
الْإِحْرَامَ عِنْدَ كل خُرُوجٍ لَوَقَعُوا في الْحَرَجِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُحْرَمُ بِهِ فما يُحْرَمُ بِهِ في الْأَصْلِ
ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ الْحَجُّ وَحْدَهُ وَالْعُمْرَةُ وَحْدَهَا وَالْعُمْرَةُ مع
الْحَجِّ وَعَلَى حَسَبِ تَنَوُّعِ الْمُحْرَمِ بِهِ يَتَنَوَّعُ الْمُحْرِمُونَ
وَهْم في الْأَصْلِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ مُفْرِدٌ بِالْحَجِّ ومرد ( ( ( ومفرد ) )
) بِالْعُمْرَةِ وَجَامِعٌ بَيْنَهُمَا فَالْمُفْرِدُ بِالْحَجِّ هو الذي يُحْرِمُ
بِالْحَجِّ لَا غَيْرُ وَالْمُفْرِدُ بِالْعُمْرَةِ هو الذي يُحْرِمُ
بِالْعُمْرَةِ لَا غَيْرُ وَأَمَّا الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا فَنَوْعَانِ قَارِنٌ
وَمُتَمَتِّعٌ فَلَا بُدَّ من بَيَانِ مَعْنَى الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ في
عُرْفِ الشَّرْعِ وَبَيَانِ ما يَجِبُ عَلَيْهِمَا بِسَبَبِ الْقِرَانِ
وَالتَّمَتُّعِ وَبَيَانِ الْأَفْضَلِ من أَنْوَاعِ ما يُحْرَمُ بِهِ أَنَّهُ
الْإِفْرَادُ أو الْقِرَانُ أو التَّمَتُّعُ
أَمَّا الْقَارِنُ في عُرْفِ الشَّرْعِ فَهُوَ اسْمٌ لِآفَاقِيٍّ يَجْمَعُ بين
إحْرَامِ الْعُمْرَةِ وَإِحْرَامِ الْحَجِّ قبل وُجُودِ رُكْنِ الْعُمْرَةِ وهو
الطَّوَافُ كُلُّهُ أو أَكْثَرُهُ فَيَأْتِي بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا ثُمَّ يَأْتِي
بِالْحَجِّ قبل أَنْ يَحِلَّ من الْعُمْرَةِ بِالْحَلْقِ أو التَّقْصِيرِ سَوَاءٌ
جَمَعَ بين الْإِحْرَامَيْنِ بِكَلَامٍ مَوْصُولٍ أو مَفْصُولٍ حتى لو أَحْرَمَ
بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ ذلك قبل الطَّوَافِ لِلْعُمْرَةِ
أو أَكْثَرِهِ كان قَارِنًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْقِرَانِ وهو الْجَمْعُ بين
الْإِحْرَامَيْنِ وَشَرْطِهِ وَلَوْ كان إحْرَامُهُ لِلْحَجِّ بَعْدَ طَوَافِ
الْعُمْرَةِ أو أَكْثَرِهِ لَا يَكُونُ قَارِنًا بَلْ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا
لِوُجُودِ مَعْنَى التَّمَتُّعِ وهو أَنْ يَكُونَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ بَعْدَ
وُجُودِ رُكْنِ الْعُمْرَةِ كُلِّهِ وهو الطَّوَافُ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ أو
أَكْثَرِهِ وهو أَرْبَعَةُ أَشْوَاطٍ على ما نَذْكُرُ في تَفْسِيرِ الْمُتَمَتِّعِ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَكَذَلِكَ لو أَحْرَمَ بِالْحَجَّةِ أَوَّلًا ثُمَّ بَعْدَ ذلك أَحْرَمَ
بِالْعُمْرَةِ يَكُونُ قَارِنًا لِإِتْيَانِهِ بِمَعْنَى الْقِرَانِ إلَّا أَنَّهُ
يُكْرَهُ له ذلك لِأَنَّهُ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ إذْ السُّنَّةُ تَقْدِيمُ
إحْرَامِ الْعُمْرَةِ على إحْرَامِ الْحَجِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَدِّمُ
الْعُمْرَةَ على الْحَجَّةِ في الْفِعْلِ فَكَذَا في الْقَوْلِ ثُمَّ إذَا فَعَلَ
ذلك يُنْظَرُ إنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قبل أَنْ يَطُوفَ لِحَجَّتِهِ عليه أَنْ
يَطُوفَ أَوَّلًا لِعُمْرَتِهِ وَيَسْعَى لها ثُمَّ يَطُوفَ لِحَجَّتِهِ وَيَسْعَى
لها مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ في الْفِعْلِ فَإِنْ لم يَطُفْ لِلْعُمْرَةِ وَمَضَى
إلَى عَرَفَاتٍ وَوَقَفَ بها صَارَ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ
تَحْتَمِلُ الِارْتِفَاضَ لِأَجْلِ الْحَجَّةِ في الْجُمْلَةِ لِمَا رُوِيَ عن
عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قَدِمَتْ مَكَّةَ مُعْتَمِرَةً فَحَاضَتْ فقال
لها النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أرفضي عُمْرَتَكِ وَأَهِلِّي
____________________
(2/167)
بِالْحَجِّ
وَاصْنَعِي في حَجَّتِكِ ما يَصْنَعُ الْحَاجُّ وَهَهُنَا وُجِدَ دَلِيلُ الإرتفاض
وهو الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِالرُّكْنِ الْأَصْلِيِّ
لِلْحَجِّ فَيَتَضَمَّنُ ارْتِفَاضَ الْعُمْرَةِ ضَرُورَةً لِفَوَاتِ التَّرْتِيبِ
في الْفِعْلِ
وَهَلْ يَرْتَفِضُ بِنَفْسِ التَّوَجُّهِ إلَى عَرَفَاتٍ ذَكَرَ في الْجَامِعِ
الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يَرْتَفِضُ وَذَكَرَ في كِتَابِ الْمَنَاسِكِ فيه
الْقِيَاسَ والإستحسان فقال الْقِيَاسُ أَنْ يَرْتَفِضَ وفي الإستحسان لَا
يَرْتَفِضُ عَنَى بِهِ الْقِيَاسَ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ في بَابِ الصَّلَاةِ
فِيمَنْ صلى الظُّهْرَ يوم الْجُمُعَةِ في مَنْزِلِهِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى
الْجُمُعَةِ أَنَّهُ يَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ عِنْدَهُ كَذَا هَهُنَا يَنْبَغِي أَنْ
تَرْتَفِضَ عُمْرَتُهُ بِالْقِيَاسِ على ذلك إلَّا أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ وقال لَا
يَرْتَفِضَ ما لم يَقِفْ بِعَرَفَاتٍ وَفَرَّقَ بين الْعُمْرَةِ وَبَيْنَ
الصَّلَاةِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ له أَنَّ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ من ضَرُورَاتِ أَدَاءِ
الْجُمُعَةِ وَأَدَاءُ الْجُمُعَةِ يُنَافِي بَقَاءَ الظُّهْرِ فَكَذَا ما هو من
ضَرُورَاتِهِ إذْ الثَّابِتُ ضَرُورَةً شَيْءٌ مُلْحَقٌ بِهِ وَهَهُنَا
التَّوَجُّهُ إلَى عَرَفَاتٍ وَإِنْ كان من ضَرُورَاتِ الْوُقُوفِ بها لَكِنَّ
الْوُقُوفَ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الْعُمْرَةِ صَحِيحَةً فإن عُمْرَةَ الْقَارِنِ
وَالْمُتَمَتِّعِ تَبْقَى صَحِيحَةً مع الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَإِنَّمَا
الْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ في الْأَفْعَالِ فما لم تُوجَدْ
أَرْكَانُ الْحَجِّ قبل أَرْكَانِ الْعُمْرَةِ لَا يُوجَدُ فَوَاتُ التَّرْتِيبِ
وَذَلِكَ هو الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَأَمَّا التَّوَجُّهُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ فَلَا
يُوجِبُ فَوَاتَ التَّرْتِيبِ في الْأَفْعَالِ
وَإِنْ كان طَافَ لِلْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فَالْمُسْتَحَبُّ له
أَنْ يَرْفُضَ عُمْرَتَهُ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ في الْفِعْلِ إذْ السُّنَّةُ
هِيَ تَقْدِيمُ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ على أَفْعَالِ الْحَجِّ فإذا تَرَكَ
التَّقْدِيمَ فَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْبِدْعَةُ فَيُسْتَحَبُّ له أَنْ يَرْفُضَ
لَكِنْ لَا يُؤْمَرُ بِذَلِكَ حَتْمًا لِأَنَّ المؤدي من أَفْعَالِ الْحَجِّ وهو
طَوَافُ اللِّقَاءِ ليس بِرُكْنٍ وَلَوْ مَضَى عليها أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ أتى
بِأَصْلِ النُّسُكِ وَإِنَّمَا تَرَكَ السُّنَّةَ بِتَرْكِ التَّرْتِيبِ في
الْفِعْلِ وأنه يُوجِبُ الْإِسَاءَةَ دُونَ الْفَسَادِ وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ
لِأَنَّهُ قَارِنٌ لِجَمْعِهِ بين إحْرَامِ الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ وَالْقِرَانُ
جَائِزٌ مَشْرُوعٌ وَلَوْ رَفَضَهَا يَقْضِيهَا لِأَنَّهَا لَزِمَتْهُ
بِالشُّرُوعِ فيها وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِهَا لِأَنَّ رَفْضَ الْعُمْرَةِ فَسْخٌ
لِلْإِحْرَامِ بها وإنه أَعْظَمُ من إدْخَالِ النَّقْصِ في الْإِحْرَامِ وَذَا
يُوجِبُ الدَّمَ فَهَذَا أَوْلَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْمُتَمَتِّعُ في عُرْفِ الشَّرْعِ فَهُوَ اسْمٌ لِآفَاقِيٍّ يُحْرِمُ
بِالْعُمْرَةِ وَيَأْتِي بِأَفْعَالِهَا من الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ أو يَأْتِي
بِأَكْثَرِ رُكْنِهَا وهو الطَّوَافُ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ أو أَكْثَرَ في
أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ في أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَحُجُّ من
عَامِهِ ذلك قبل أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ فِيمَا بين ذلك إلْمَامًا صَحِيحًا
فَيَحْصُلَ له النُّسُكَانِ في سَفَرٍ وَاحِدٍ سَوَاءٌ حَلَّ من إحْرَامِ
الْعُمْرَةِ بِالْحَلْقِ أو التَّقْصِيرِ أو لم يَحِلَّ إذَا كان سَاقَ الْهَدْيَ
لِمُتْعَتِهِ فإنه لَا يَجُوزُ التَّحَلُّلُ بَيْنَهُمَا
وَيُحْرِمُ بِالْحَجِّ قبل أَنْ يَحِلَّ من إحْرَامِ الْعُمْرَةِ
وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ سَوْقُ الْهَدْيِ لَا يَمْنَعُ من التَّحَلُّلِ فَصَارَ
الْمُتَمَتِّعُ نَوْعَيْنِ مُتَمَتِّعٌ لم يَسُقْ الْهَدْيَ وَمُتَمَتِّعٌ سَاقَ
الْهَدْيَ فَاَلَّذِي لم يَسُقْ الْهَدْيَ يَجُوزُ له التَّحَلُّلُ إذَا فَرَغَ من
أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ بِلَا خِلَافٍ وإذا تَحَلَّلَ صَارَ حَلَالًا كَسَائِرِ
الْمُتَحَلِّلِينَ إلَى أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ لِأَنَّهُ إذَا تَحَلَّلَ من
الْعُمْرَةِ فَقَدْ خَرَجَ منها ولم يَبْقَ عليه شَيْءٌ فَيُقِيمُ بِمَكَّةَ
حَلَالًا أَيْ لَا يُلِمُّ بِأَهْلِهِ لِأَنَّ الْإِلْمَامَ بِالْأَهْلِ يُفْسِدُ
التَّمَتُّعَ
وَأَمَّا الذي سَاقَ الهدى فإنه لَا يَحِلُّ له التَّحَلُّلُ إلَّا يوم النَّحْرِ
بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْحَجِّ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحِلُّ له التَّحَلُّلُ وَسَوْقُ الْهَدْيِ لَا يَمْنَعُ
من التَّحَلُّلِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عن أَنَسٍ رضي اللَّهُ عنه
أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ
يخلقوا ( ( ( يحلقوا ) ) ) إلَّا من كان معه الْهَدْيُ
وفي حديث أَسْمَاءَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال من كان معه هَدْيٌ
فَلْيَقُمْ على إحْرَامِهِ وَمَنْ لم يَكُنْ معه هَدْيٌ فَلْيَحْلِقْ وَرُوِيَ
أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يحلوا ( ( ( يحلقوا ) ) ) قالوا له إنَّكَ
لم تَحِلَّ فقال إنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ فَلَا أُحِلُّ من إحْرَامِي إلَى يَوْمِ
النَّحْرِ
وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم لو اسْتَقْبَلْتُ من أَمْرِي ما اسْتَدْبَرْتُ لَمَا
سُقْتُ الْهَدْيَ وَتَحَلَّلْتُ كما أَحَلُّوا فَقَدْ أَخْبَرَ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَنَّ الذي مَنَعَهُ من الْحِلِّ سَوْقُ الْهَدْيِ وَلِأَنَّ لِسَوْقِ
الْهَدْيِ أَثَرًا في الْإِحْرَامِ حتى يَصِيرَ بِهِ دَاخِلًا في الْإِحْرَامِ
فَجَازَ أَنْ يَكُونَ له أَثَرٌ في حَالِ الْبَقَاءِ حتى يَمْنَعَ من التَّحَلُّلِ
وَسَوَاءٌ كان إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ في أَشْهُرِ الْحَجِّ أو قَبْلَهَا
عِنْدَنَا بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ أو رُكْنِهَا أو
بِأَكْثَرِ الرُّكْنِ في الْأَشْهُرِ أَنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ شَرْطُ كَوْنِهِ مُتَمَتِّعًا الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ في
الْأَشْهُرِ حتى لو أَحْرَمَ بها قبل الْأَشْهُرِ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا وَإِنْ
أتى بِأَفْعَالِهَا في الْأَشْهُرِ وَالْكَلَامُ فيه بِنَاءً على أَصْلٍ قد
ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وهو أَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَهُ رُكْنٌ فَكَانَ من
أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَلَا بُدَّ من وُجُودِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ في أَشْهُرِ
الْحَجِّ ولم يُوجَدْ بَلْ وُجِدَ بَعْضُهَا في الْأَشْهُرِ وَعِنْدَنَا ليس
بِرُكْنٍ بَلْ هو شَرْطٌ فَتُوجَدُ
____________________
(2/168)
أَفْعَالُ
الْعُمْرَةِ في الْأَشْهُرِ فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا
وَلَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَلَا لِأَهْلِ دَاخِلِ الْمَوَاقِيتِ التي بَيْنَهَا
وَبَيْنَ مَكَّةَ قِرَانٌ وَلَا تَمَتُّعٌ
وقال الشَّافِعِيُّ يَصِحُّ قِرَانُهُمْ وَتَمَتُّعُهُمْ
وَجْهُ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فما
اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ } من غَيْرِ فَصْلٍ بين أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { ذلك لِمَنْ لم يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ } جَعَلَ التَّمَتُّعَ لِمَنْ لم يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ على الْخُصُوصِ لِأَنَّ اللَّامَ للإختصاص ثُمَّ حَاضِرُو الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ الْحِلِّ الَّذِينَ مَنَازِلُهُمْ
دَاخِلُ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ وقال مَالِكٌ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ خَاصَّةً
لِأَنَّ مَعْنَى الْحُضُورِ لهم
وقال الشَّافِعِيُّ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ
مَسَافَةٌ لَا تُقْصَرُ فيها الصَّلَاةُ لِأَنَّهُ إذَا كان كَذَلِكَ كان من
تَوَابِعِ مَكَّةَ وَإِلَّا فَلَا وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ الَّذِينَ هُمْ
دَاخِلُ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ مَنَازِلُهُمْ من تَوَابِعِ مَكَّةَ بِدَلِيلِ
أَنَّهُ يَحِلُّ لهم أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ لِحَاجَةٍ بِغَيْرِ إحْرَامٍ
فَكَانُوا في حُكْمِ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَرُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال ليس لِأَهْلِ مَكَّةَ
تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ وَلِأَنَّ دُخُولَ الْعُمْرَةِ في أَشْهُرِ الْحَجِّ
ثَبَتَ رُخْصَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } قِيلَ في
بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ أَيْ لِلْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وَاللَّامُ
للإختصاص فَيَقْتَضِي اخْتِصَاصَ هذه الْأَشْهُرِ بِالْحَجِّ وَذَلِكَ بِأَنْ لَا
يَدْخُلَ فيها غَيْرُهُ إلَّا أَنَّ الْعُمْرَةَ دَخَلَتْ فيها رُخْصَةٌ
لِلْآفَاقِيِّ ضَرُورَةَ تَعَذُّرِ إنْشَاءِ السَّفَرِ لِلْعُمْرَةِ نطرا ( ( (
نظرا ) ) ) له بِإِسْقَاطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ
في حَقِّ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ بِمَعْنَاهُمْ فلم تَكُنْ الْعُمْرَةُ مَشْرُوعَةً
في أَشْهُرِ الْحَجِّ في حَقِّهِمْ
وَكَذَا رُوِيَ عن ذلك الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ قال كنا نَعُدُّ الْعُمْرَةَ في
أَشْهُرِ الْحَجِّ من أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثُمَّ رُخِّصَ وَالثَّابِتُ بِطَرِيقِ
الرُّخْصَةِ يَكُونُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ في حَقِّ
أَهْلِ الْآفَاقِ لَا في حَقِّ أَهْلِ مَكَّةَ على ما بَيَّنَّا فَبَقِيَتْ
الْعُمْرَةُ في أَشْهُرِ الْحَجِّ في حَقِّهِمْ مَعْصِيَةً
وَلِأَنَّ من شَرْطِ التَّمَتُّعِ أَنْ تَحْصُلَ الْعُمْرَةُ وَالْحَجُّ
لِلْمُتَمَتِّعِ في أَشْهُرِ الْحَجِّ من غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ فِيمَا
بَيْنَهُمَا وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ في حَقِّ الْمَكِّيِّ لِأَنَّهُ يُلِمُّ
بِأَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا لَا مَحَالَةَ فلم يُوجَدْ شَرْطُ التَّمَتُّعِ في
حَقِّهِ
وَلَوْ جَمَعَ الْمَكِّيُّ بين الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ في أَشْهُرِ الْحَجِّ
فَعَلَيْهِ دَمٌ لَكِنْ دَمُ كَفَّارَةِ الذَّنْبِ لَا دَمُ نُسُكٍ شُكْرًا
لِلنِّعْمَةِ عِنْدَنَا حتى لَا يُبَاحَ له أَنْ يَأْكُلَ منه وَلَا يَقُومُ
الصَّوْمُ مَقَامَهُ إذَا كان مُعْسِرًا وَعِنْدَهُ هو دَمُ نُسُكٍ يَجُوزُ له
أَنْ يَأْكُلَ منه وَيَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ إذَا لم يَجِدْ الْهَدْيَ
وَلَوْ أَحْرَمَ الْآفَاقِيُّ بِالْعُمْرَةِ قبل أَشْهُرِ الْحَجِّ فَدَخَلَ
مَكَّةَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ وهو يُرِيدُ التَّمَتُّعَ فَيَنْبَغِي أَنْ
يُقِيمَ مُحْرِمًا حتى تَدْخُلَ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَيَأْتِيَ بِأَفْعَالِ
الْعُمْرَةِ ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَيَحُجَّ من عَامِهِ ذلك فَيَكُونَ
مُتَمَتِّعًا فَإِنْ أتى بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ أو بأكثرهاقبل أَشْهُرِ الْحَجِّ
ثُمَّ دخل أَشْهُرُ الْحَجِّ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحَجَّ من عَامِهِ ذلك لم
يَكُنْ مُتَمَتِّعًا لِأَنَّهُ لم يَتِمَّ له الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ في أَشْهُرِ
الْحَجِّ
وَلَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ أُخْرَى بعدما دخل أَشْهُرُ الْحَجِّ لم يَكُنْ
مُتَمَتِّعًا في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهُ صَارَ في حُكْمِ أَهْلِ مَكَّةَ
بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَارَ مِيقَاتُهُمْ مِيقَاتَهُ فَلَا يَصِحُّ له التَّمَتُّعُ
إلَّا أَنْ يَعُودَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ
في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وفي قَوْلِهِمَا إلَّا أَنْ يَعُودَ إلَى أَهْلِهِ أو
إلَى مَوْضِعٍ يَكُونُ لِأَهْلِهِ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ على ما نَذْكُرُ
وَلَوْ أَحْرَمَ من لَا تَمَتُّعَ له من الْمَكِّيِّ وَنَحْوِهِ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ
أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ يَلْزَمُهُ رَفْضُ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا
مَعْصِيَةٌ وَالنُّزُوعُ عن الْمَعْصِيَةِ لَازِمٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ أَحْرَمَ
بِعُمْرَةٍ ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ قبل أَنْ يَطُوفَ لِعُمْرَتِهِ رَأْسًا فإنه
يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ لِأَنَّهَا أَقَلُّ عَمَلًا وَالْحَجُّ أَكْثَرُ عَمَلًا
فَكَانَتْ الْعُمْرَةُ أَخَفَّ مُؤْنَةً من الْحَجَّةِ فَكَانَ رَفْضُهَا أَيْسَرَ
وَلِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ حَصَلَتْ بِسَبَبِهَا لِأَنَّهَا هِيَ التي دَخَلَتْ في
وَقْتِ الْحَجِّ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالرَّفْضِ وَيَمْضِي على حَجَّتِهِ
وَعَلَيْهِ لِرَفْضِ عُمْرَتِهِ دَمٌ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ لِمَا
نَذْكُرُ
وَإِنْ كان طَافَ لِعُمْرَتِهِ جَمِيعَ الطَّوَافِ أو أَكْثَرَهُ لَا يَرْفُضُ
الْعُمْرَةَ بَلْ يَرْفُضُ الْحَجَّ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ مُؤَدَّاةٌ وَالْحَجَّ
غَيْرُ مُؤَدًّى فَكَانَ رَفْضُ الْحَجِّ امْتِنَاعًا عن الْأَدَاءِ وَرَفْضُ
الْعُمْرَةِ إبْطَالًا لِلْعَمَلِ والإمتناع عن الْعَمَلِ دُونَ إبْطَالِ
الْعُمْرَةِ فَكَانَ أَوْلَى
وَإِنْ كان طَافَ لها شَوْطًا أو شَوْطَيْنِ أو ثَلَاثَةً يَرْفُضُ الْحَجَّ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ رَفْضَ الْعُمْرَةِ أَدْنَى وَأَخَفُّ مُؤْنَةً أَلَا
تَرَى أنها سُمِّيَتْ الْحَجَّةَ الصُّغْرَى فَكَانَتْ أَوْلَى بِالرَّفْضِ وَلَا
عِبْرَةَ بِالْقَدْرِ الْمُؤَدَّى منها لِأَنَّهُ أَقَلُّ وَالْأَكْثَرُ غَيْرُ
مُؤَدًّى وَالْأَقَلُّ بِمُقَابَلَةِ الْأَكْثَرِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ
فَكَأَنَّهُ لم يُؤَدِّ شيئا منها وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ رَفْضَ الْحَجَّةِ امْتِنَاعٌ من الْعَمَلِ وَرَفْضَ
الْعُمْرَةِ إبْطَالٌ لِلْعَمَلِ والإمتناع دُونَ الْإِبْطَالِ فَكَانَ أَوْلَى
وَبَيَانُ ذلك أَنَّهُ لم يُوجَدْ لِلْحَجِّ عَمَلٌ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ له إلَّا
الْإِحْرَامُ وَأَنَّهُ ليس من
____________________
(2/169)
الْأَدَاءِ
في شَيْءٍ لِأَنَّهُ شَرْطٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ عِنْدَنَا على ما بَيَّنَّا فِيمَا
تَقَدَّمَ فَلَا يَكُونُ رَفْضُ الْحَجِّ إبْطَالًا لِلْعَمَلِ بَلْ يَكُونُ
امْتِنَاعًا فَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَقَدْ أَدَّى منها شيئا وَإِنْ قَلَّ وكان
رَفْضُهَا إبْطَالًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ من الْعَمَلِ فَكَانَ الإمتناع أَوْلَى
لِمَا قُلْنَا وإذا رَفَضَ الْحَجَّةَ عنه فَعَلَيْهِ لِرَفْضِهَا دَمٌ وَقَضَاءُ
حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وإذا رَفَضَ الْعُمْرَةَ عِنْدَهُمَا فَعَلَيْهِ لِرَفْضِهَا
دَمٌ وَقَضَاءُ عُمْرَةٍ
وَالْأَصْلُ في جِنْسِ هذه الْمَسَائِلِ أَنَّ كُلَّ من لَزِمَهُ رَفْضُ عُمْرَةٍ
فَرَفَضَهَا فَعَلَيْهِ لِرَفْضِهَا دَمٌ لِأَنَّهُ تَحَلَّلَ منها قبل وَقْتِ
التَّحَلُّلِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ كَالْمُحْصَرِ وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ مَكَانُهَا
قَضَاءً لِأَنَّهَا قد وَجَبَتْ عليه بِالشُّرُوعِ فإذا أَفْسَدَهَا يَقْضِيهَا وَكُلُّ
من لَزِمَهُ رَفْضُ حَجَّةٍ فَرَفَضَهَا فَعَلَيْهِ لِرَفْضِهَا دَمٌ وَعَلَيْهِ
حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ أَمَّا لُزُومُ الدَّمِ لِرَفْضِهَا فَلِمَا ذَكَرْنَا في
الْعُمْرَةِ وَأَمَّا لُزُومُ الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ فَأَمَّا الْحَجَّةُ
فَلِوُجُوبِهَا بِالشُّرُوعِ وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَلِعَدَمِ إتْيَانِهِ
بِأَفْعَالِ الْحَجَّةِ في السَّنَةِ التي أَحْرَمَ فيها فَصَارَ كَفَائِتِ
الْحَجِّ فَيَلْزَمُهُ الْعُمْرَةُ كما يَلْزَمُ فَائِتُ الْحَجِّ
فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجَّةِ من سَنَتِهِ فَلَا عُمْرَةَ عليه وَكُلُّ من
لَزِمَهُ رَفْضُ أَحَدِهِمَا فَمَضَى فيها فَعَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّ الْجَمْعَ
بَيْنَهُمَا مَعْصِيَةٌ فَقَدْ أَدْخَلَ النَّقْصَ في أَحَدِهِمَا فَيَلْزَمُهُ
دَمٌ
لَكِنَّهُ يَكُونُ دَمَ كَفَّارَةٍ لَا دَمَ مُتْعَةٍ حتى لَا يَجُوزَ له أَنْ
يَأْكُلَ منه وَلَا يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ إنْ كان مُعْسِرًا
وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ ما إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ مَعًا
أو بِعُمْرَتَيْنِ مَعًا قال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ لَزِمَتَاهُ جميعا وقال
مُحَمَّدٌ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا إحْدَاهُمَا وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنه إذَا أَحْرَمَ بِعِبَادَتَيْنِ لَا يُمْكِنُهُ
الْمُضِيُّ فِيهِمَا جميعا فَلَا يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ بِهِمَا جميعا كما لو
أَحْرَمَ بِصَلَاتَيْنِ أو صَوْمَيْنِ بِخِلَافِ ما إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ
وَعُمْرَةٍ لِأَنَّ الْمُضِيَّ فِيهِمَا مُمْكِنٌ فَيَصِحُّ إحْرَامُهُ بِهِمَا
كما لو نَوَى صَوْمًا وَصَلَاةً وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ
أَحْرَمَ بِمَا يَقْدِرُ عليه في وَقْتَيْنِ فَيَصِحُّ إحْرَامُهُ كما لو أَحْرَمَ
بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا
وَثَمَرَةُ هذا الإختلاف تَظْهَرُ في وُجُوبِ الْجَزَاءِ إذَا قَتَلَ صَيْدًا
عِنْدَهُمَا يَجِبُ جزاآن ( ( ( جزاءان ) ) ) لِانْعِقَادِ الْإِحْرَامِ بِهِمَا
جميعا وَعِنْدَهُ يَجِبُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لإنعقاد الْإِحْرَامِ بأحدهما ( ( (
بإحداهما ) ) ) ثُمَّ اخْتَلَفَ أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ في وَقْتِ ارْتِفَاضِ
إحْدَاهُمَا عِنْدَ أبي يُوسُفَ يَرْتَفِضُ عَقِيبَ الْإِحْرَامِ بِلَا فَصْلٍ
وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ في الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عنه يَرْتَفِضُ
إذَا قَصَدَ مَكَّةَ وفي رِوَايَةٍ لَا يَرْتَفِضُ حتى يبتديء بِالطَّوَافِ
وَلَوْ أَحْرَمَ الأفاقي بِالْعُمْرَةِ فَأَدَّاهَا في أَشْهُرِ الْحَجِّ وَفَرَغَ
منها وَحَلَّ من عُمْرَتِهِ ثُمَّ عَادَ إلَى أَهْله حَلَالًا ثُمَّ رَجَعَ إلَى
مَكَّةَ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحَجَّ من عَامِهِ ذلك لم يَكُنْ مُتَمَتِّعًا حتى
لَا يَلْزَمَهُ الْهَدْيُ بَلْ يَكُونُ مُفْرِدًا بِعُمْرَةٍ وَمُفْرَدًا
بِحَجَّةٍ لِأَنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ بين الْإِحْرَامَيْنِ إلْمَامًا صَحِيحًا
وَهَذَا يَمْنَعُ التَّمَتُّعَ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا أَعْرِفُ الْإِلْمَامَ وَنَحْنُ نَقُولُ إنْ كُنْتَ لَا
تَعْرِفُ مَعْنَاهُ لُغَةً فَمَعْنَاهُ في اللُّغَةِ الْقُرْبُ
يُقَالُ أَلَمَّ بِهِ أَيْ قَرُبَ منه وَإِنْ كُنْتَ لَا تَعْرِفُ حُكْمَهُ
شَرْعًا فَحُكْمُهُ أَنْ يَمْنَعَ التَّمَتُّعَ لِمَا رُوِيَ عن عُمَرَ وَابْنِ
عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إذَا أَقَامَ بِمَكَّةَ صَحَّ
تَمَتُّعُهُ وَإِنْ عَادَ إلَى أَهْلِهِ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ وكما رُوِيَ عن
جَمَاعَةٍ من التَّابِعِينَ مِثْلَ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدِ بن جُبَيْرٍ
وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا
كَذَلِكَ وَمِثْلُ هذا لَا يُعْرَفُ رَأْيًا وَاجْتِهَادًا فَالظَّاهِرُ
سَمَاعُهُمْ ذلك من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَلِأَنَّ التَّمَتُّعَ في حَقِّ الأفاقي ثَبَتَ رُخْصَةً لِيَجْمَعَ بين
النُّسُكَيْنِ وَيَصِلَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ في سَفَرٍ وَاحِدٍ من غَيْرِ أَنْ
يَتَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا ما يُنَافِي النُّسُكَ وهو الِارْتِفَاقُ وَلَمَّا
أَلَمَّ بِأَهْلِهِ فَقَدْ حَصَلَ له مُرَافِقُ الْوَطَنِ فَبَطَلَ الإتصال
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ أُخْرَى وَحَجَّ كان مُتَمَتِّعًا لِأَنَّ
حُكْمَ الْعُمْرَةِ الْأُولَى قد سَقَطَ بِإِلْمَامِهِ بِأَهْلِهِ فَيَتَعَلَّقُ
الْحُكْمُ بِالثَّانِيَةِ وقد جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحَجَّةِ في أَشْهُرِ
الْحَجِّ من غَيْرِ إلْمَامٍ فَكَانَ مُتَمَتِّعًا وَلَوْ كان إلْمَامُهُ بِأَهْلِهِ
بعدما طَافَ لِعُمْرَتِهِ قبل أَنْ يَحْلِقَ أو يُقَصِّرَ ثُمَّ حَجَّ من عَامِهِ
ذلك قبل أَنْ يَحِلَّ من الْعُمْرَةِ في أَهْلِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ لِأَنَّ
الْعَوْدَ مُسْتَحَقٌّ عليه لِأَجْلِ الْحَلْقِ لِأَنَّ من جَعَلَ الْحَرَمَ
شَرْطًا لِجَوَازِ الْحَلْقِ وهو أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ لَا بُدَّ من
الْعَوْدِ وَعِنْدَ من لم يَجْعَلْهُ شَرْطًا وهو أبو يُوسُفَ كان الْعَوْدُ
مُسْتَحَبًّا إنْ لم يَكُنْ مُسْتَحَقًّا
وَأَمَّا الْإِلْمَامُ الْفَاسِدُ الذي لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّمَتُّعِ فَهُوَ
أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ فإذا فَرَغَ من الْعُمْرَةِ عَادَ إلَى وَطَنِهِ فَلَا
يَبْطُلُ تَمَتُّعُهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ حتى لو عَادَ إلَى
مَكَّةَ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحَجَّ من عَامِهِ ذلك كان مُتَمَتِّعًا في
قَوْلِهِمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَبْطُلُ تَمَتُّعُهُ حتى لو حَجَّ من عَامِهِ ذلك
لم يَكُنْ مُتَمَتِّعًا
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَانِعَ من صِحَّةِ التَّمَتُّعِ وهو
الْإِلْمَامُ بِالْأَهْلِ قد وُجِدَ وَالْعَوْدُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عليه
بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو بَدَا له من التَّمَتُّعِ جَازَ له ذَبْحُ الْهَدْيِ هَهُنَا
وإذا لم يُسْتَحَقَّ عليه الْعَوْدُ
____________________
(2/170)
صَارَ
كَأَنْ لم يَسُقْ الْهَدْيَ وَلَوْ لم يَسُقْ الْهَدْيَ يَبْطُلُ تَمَتُّعُهُ
كَذَا هذا
وَلَهُمَا أَنَّ الْعَوْدَ مُسْتَحَقٌّ عليه ما دَامَ على نِيَّةِ التَّمَتُّعِ
فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِلْمَامِ فَلَا يَبْطُلُ تَمَتُّعُهُ كَالْقَارِنِ إذَا
عَادَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من بُطْلَانِ التَّمَتُّعِ بِالْإِلْمَامِ
الصَّحِيحِ إذَا عَادَ إلَى أَهْلِهِ
فَأَمَّا إذَا عَادَ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ بِأَنْ خَرَجَ من الْمِيقَاتِ وَلَحِقَ
بِمَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ الْقِرَانُ وَالتَّمَتُّعُ كَالْبَصْرَةِ مَثَلًا أو
نَحْوِهَا وَاِتَّخَذَ هُنَاكَ دَارًا أو لم يَتَّخِذْ تَوَطَّنَ بها أو لم
يَتَوَطَّنْ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ وَحَجَّ من عَامِهِ ذلك فَهَلْ يَكُونُ
مُتَمَتِّعًا ذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ولم
يذكر الْخِلَافَ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَيْضًا أَنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا في
قَوْلِهِمْ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ
وَهَذَا وما إذَا أَقَامَ بِمَكَّةَ ولم يَبْرَحْ منها سَوَاءٌ
وَأَمَّا في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا
وَلُحُوقُهُ بِمَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ وَلُحُوقُهُ
بِأَهْلِهِ سَوَاءٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ وَوَصَلَ إلَى مَوْضِعٍ
لِأَهْلِهِ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ السَّفَرِ الْأَوَّلِ
وَخَرَجَ من أَنْ يَكُونَ من أَهْلِ مَكَّةَ لِوُجُودِ إنْشَاءِ سَفَرٍ آخَرَ
فَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا كما لو رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ
أَنَّ وُصُولَهُ إلَى مَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ الْقِرَانُ وَالتَّمَتُّعُ لَا يُبْطِلُ
السَّفَرَ الْأَوَّلَ ما لم يَعُدْ إلَى مَنْزِلِهِ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ ما دَامَ
يَتَرَدَّدُ في سَفَرِهِ يُعَدُّ ذلك كُلُّهُ منه سَفَرًا وَاحِدًا ما لم يَعُدْ
إلَى مَنْزِلِهِ ولم يَعُدْ هَهُنَا فَكَانَ السَّفَرُ الْأَوَّلُ قَائِمًا
فَصَارَ كَأَنَّهُ لم يَبْرَحْ من مَكَّةَ فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا وَيَلْزَمُهُ
هَدْيُ الْمُتْعَةِ
وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ في أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَفْسَدَهَا
وَأَتَمَّهَا على الْفَسَادِ وَحَلَّ منها ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحَجَّ من
عَامِهِ ذلك قبل أَنْ يَقْضِيَهَا لم يَكُنْ مُتَمَتِّعًا لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ
مُتَمَتِّعًا إلَّا بِحُصُولِ الْعُمْرَةِ وَالْحَجَّةِ وَلَمَّا أَفْسَدَ
الْعُمْرَةَ فلم تَحْصُلْ له الْعُمْرَةُ وَالْحَجَّةُ فَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا
وَلَوْ قَضَى عُمْرَتَهُ وَحَجَّ من عَامِهِ ذلك فَهَذَا لَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ
أَوْجُهٍ فَإِنْ فَرَغَ من عُمْرَتِهِ الْفَاسِدَةِ وَحَلَّ منها وَرَجَعَ إلَى
أَهْلِهِ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ وَقَضَى عُمْرَتَهُ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ
وَحَجَّ من عَامِهِ ذلك فإنه يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ
لَمَّا لَحِقَ بِأَهْلِهِ صَارَ من أَهْلِ التَّمَتُّعِ وقد أتى بِهِ فَكَانَ
مُتَمَتِّعًا
وإذا فَرَغَ من عُمْرَتِهِ الْفَاسِدَةِ وَحَلَّ منها لَكِنَّهُ لم يَخْرُجْ من
الْحَرَمِ أو خَرَجَ منه لَكِنَّهُ لم يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ حتى قَضَى عُمْرَتَهُ
وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ حَلَّ
من عُمْرَتِهِ الْفَاسِدَةِ صَارَ كَوَاحِدٍ من أَهْلِ مَكَّةَ وَلَا تَمَتُّعَ
لِأَهْلِ مَكَّةَ وَيَكُونُ مُسِيئًا وَعَلَيْهِ لِإِسَاءَتِهِ دَمٌ
وَإِنْ فَرَغَ من عُمْرَتِهِ الْفَاسِدَةِ وَحَلَّ منها وَخَرَجَ من الْحَرَمِ
وَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ حتى قَضَى عُمْرَتَهُ وَلَحِقَ بِمَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ
التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ كَالْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ
وَقَضَى عُمْرَتَهُ الْفَاسِدَةَ ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجٍّ وَحَجَّ من عَامِهِ ذلك
لم يَكُنْ مُتَمَتِّعًا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ كَأَنَّهُ لم يَبْرَحْ من مَكَّةَ
وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا كَأَنَّهُ لَحِقَ
بِأَهْلِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ في مَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ التَّمَتُّعُ
وَالْقِرَانُ صَارَ من أَهْلِ ذلك الْمَوْضِعِ وَبَطَلَ حُكْمُ ذلك السَّفَرِ
ثُمَّ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ كان هذا إنْشَاءَ سَفَرٍ وقد حَصَلَ له نُسُكَانِ في
هذا السَّفَرِ وهو عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ فكيون ( ( ( فيكون ) ) ) مُتَمَتِّعًا كما
لو رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ وَقَضَى عُمْرَتَهُ في أَشْهُرِ
الْحَجِّ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحَجَّ من عَامِهِ ذلك أَنَّهُ يَكُونُ
مُتَمَتِّعًا كَذَا هذا بِخِلَافِ ما إذَا اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا لِأَنَّهُ
صَارَ من أَهْلِ مَكَّةَ وَلَا تَمَتُّعَ لِأَهْلِ مَكَّةَ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حُكْمَ السَّفَرِ الْأَوَّلِ بَاقٍ لِأَنَّ
الْإِنْسَانَ إذَا خَرَجَ من وَطَنِهِ مُسَافِرًا فَهُوَ على حُكْمِ السَّفَرِ ما
لم يَعُدْ إلَى وَطَنِهِ وإذا كان حُكْمُ السَّفَرِ الْأَوَّلِ بَاقِيًا فَلَا
عِبْرَةَ بِقُدُومِهِ الْبَصْرَةَ وَاِتِّخَاذِهِ دَارًا بها فَصَارَ كَأَنَّهُ
أَقَامَ بِمَكَّةَ لم يَبْرَحْ منها حتى قَضَى عُمْرَتَهُ الْفَاسِدَةَ وإذا كان
كَذَلِكَ لم يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ولم يَلْزَمْهُ الدَّمُ لِأَنَّهُ لَمَّا
أَفْسَدَ الْعُمْرَةَ لَزِمَهُ أَنْ يَقْضِيَهَا من مَكَّةَ وهو أَنْ يُحْرِمَ
بِالْعُمْرَةِ من مِيقَاتِ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ وَذَلِكَ دَلِيلُ
إلْحَاقِهِ بِأَهْلِ مَكَّةَ فَصَارَتْ عُمْرَتُهُ وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّتَيْنِ
لِصَيْرُورَةِ مِيقَاتِهِ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مِيقَاتَ أَهْلِ مَكَّةَ فَلَا
يَكُونُ مُتَمَتِّعًا لِوُجُودِ الْإِلْمَامِ بِمَكَّةَ كما فَرَغَ من عُمْرَتِهِ
وَصَارَ كَالْمَكِّيِّ إذَا خَرَجَ إلَى أَقْرَبِ الْآفَاقِ وَأَحْرَمَ
بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ وَأَتَى بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ
بِالْحَجِّ وَحَجَّ من عَامِهِ ذلك لم يَكُنْ مُتَمَتِّعًا كَذَا هذا
بِخِلَافِ ما إذَا رَجَعَ إلَى وَطَنِهِ لِأَنَّهُ إذَا رَجَعَ إلَى وَطَنِهِ
فَقَدْ قَطَعَ حُكْمَ السَّفَرِ الْأَوَّلِ بِابْتِدَاءِ سَفَرٍ آخَرَ فَانْقَطَعَ
حُكْمُ كَوْنِهِ بِمَكَّةَ فَبَعْدَ ذلك إذَا أتى مَكَّةَ وَقَضَى الْعُمْرَةَ
وَحَجَّ فَقَدْ حَصَلَ له النُّسُكَانِ في سَفَرٍ وَاحِدٍ فَصَارَ مُتَمَتِّعًا
هذا إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ في أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَفْسَدَهَا
وَأَتَمَّهَا على الْفَسَادِ فَأَمَّا إذَا أَحْرَمَ بها قبل أَشْهُرِ الْحَجِّ
ثُمَّ أَفْسَدَهَا وَأَتَمَّهَا على الْفَسَادِ فَإِنْ لم يَخْرُجْ من الْمِيقَاتِ
حتى دخل أَشْهُرُ الْحَجِّ وَقَضَى عُمْرَتَهُ في أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ
أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحَجَّ من عَامِهِ ذلك فإنه لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا
بِالْإِجْمَاعِ وَحُكْمُهُ كَمَكِّيٍّ تَمَتَّعَ لِأَنَّهُ صَارَ كَوَاحِدٍ من
____________________
(2/171)
أَهْلِ
مَكَّةَ لِمَا ذَكَرْنَا وَيَكُونُ مُسِيئًا وَعَلَيْهِ لإساته ( ( ( لإساءته ) )
) دَمٌ وَإِنْ عَادَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِ
الْعُمْرَةِ وَقَضَى عُمْرَتَهُ في أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ
وَحَجَّ من عَامِهِ ذلك يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالْإِجْمَاعِ لِمَا مَرَّ
وَإِنْ عَادَ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ وَلَحِقَ بِمَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ التَّمَتُّعُ
وَالْقِرَانُ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ وَقَضَى
عُمْرَتَهُ في أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحَجَّ من عَامِهِ
ذلك فَهَذَا على وَجْهَيْنِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ في وَجْهٍ يَكُونُ
مُتَمَتِّعًا وهو ما إذَا رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ خَارِجَ الْمِيقَاتِ ثُمَّ عَادَ
إلَى مَكَّةَ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ وَقَضَى عُمْرَتَهُ في أَشْهُرِ
الْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحَجَّ من عَامِهِ ذلك وفي وَجْهٍ لَا
يَكُونُ مُتَمَتِّعًا وهو ما إذَا رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ وَعِنْدَ
أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا في الْوَجْهَيْنِ جميعا
لَهُمَا أَنَّ لُحُوقَهُ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِمَنْزِلَةِ لُحُوقِهِ بِأَهْلِهِ
وَلَوْ لَحِقَ بِأَهْلِهِ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فَكَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ في الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَدْرَكَتْهُ أَشْهُرُ
الْحَجِّ وهو من أَهْلِ التَّمَتُّعِ لِأَنَّهَا أَدْرَكَتْهُ خَارِجَ الْمِيقَاتِ
وفي الْوَجْهِ الثَّانِي أَدْرَكَتْهُ وهو ليس من أَهْلِ التَّمَتُّعِ لِكَوْنِهِ
مَمْنُوعًا شَرْعًا عن التَّمَتُّعِ وَلَا يَزُولُ الْمَنْعُ حتى يَلْحَقَ
بِأَهْلِهِ وَلَوْ اعْتَمَرَ في أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ عَادَ إلَى أَهْلِهِ قبل
أَنْ يَحِلَّ من عُمْرَتِهِ وَأَلَمَّ بِأَهْلِهِ وهو مُحْرِمٌ ثُمَّ عَادَ إلَى
مَكَّةَ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ وَأَتَمَّ عُمْرَتَهُ ثُمَّ حَجَّ من عَامِهِ ذلك
فَهَذَا على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ
فَإِنْ كان طَافَ لِعُمْرَتِهِ شَوْطًا أو شَوْطَيْنِ أو ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ
ثُمَّ عَادَ إلَى أَهْلِهِ وهو مُحْرِمٌ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ بِذَلِكَ
الْإِحْرَامِ وَأَتَمَّ عُمْرَتَهُ وَحَجَّ من عَامِهِ ذلك فإنه يَكُونُ
مُتَمَتِّعًا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ اعْتَمَرَ وَحَلَّ من عُمْرَتِهِ ثُمَّ عَادَ
إلَى أَهْلِهِ حَلَالًا ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ وَحَجَّ من عَامِهِ ذلك لَا
يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ إلْمَامَهُ بِأَهْلِهِ صَحِيحٌ
وَأَنَّهُ يَمْنَعُ التَّمَتُّعَ وَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ بعدما طَافَ
أَكْثَرَ طَوَافِ عُمْرَتِهِ أو كُلَّهُ ولم يَحِلَّ بَعْدَ ذلك وَأَلَمَّ
بِأَهْلِهِ مُحْرِمًا ثُمَّ عَادَ وَأَتَمَّ بَقِيَّةَ عُمْرَتِهِ وَحَجَّ من
عَامِهِ ذلك فإنه يَكُونُ مُتَمَتِّعًا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وفي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا
وَجْهُ قَوْلِهِ إنه أَدَّى الْعُمْرَةَ بِسَفَرَيْنِ وَأَكْثَرُهَا حَصَلَ في
السَّفَرِ الْأَوَّلِ وَهَذَا يَمْنَعُ التَّمَتُّعَ وَلَهُمَا أَنَّ إلْمَامَهُ
بِأَهْلِهِ لم يَصِحَّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُبَاحُ له الْعَوْدُ إلَى مَكَّةَ
بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ من غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى إحْرَامٍ جَدِيدٍ فَصَارَ
كَأَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ وَكَذَا لو اعْتَمَرَ في أَشْهُرِ الْحَجِّ وَمِنْ
نِيَّتِهِ التَّمَتُّعُ وَسَاقَ الْهَدْيَ لِأَجْلِ تَمَتُّعِهِ فلما فَرَغَ منها
عَادَ إلَى أَهْلِهِ مُحْرِمًا ثُمَّ عَادَ وَحَجَّ من عَامِهِ ذلك فإنه يَكُونُ
مُتَمَتِّعًا في قَوْلِهِمَا لِأَنَّ إلْمَامَهُ بِأَهْلِهِ لم يَصِحَّ فَصَارَ
كَأَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا وَلَوْ
خَرَجَ الْمَكِّيُّ إلَى الْكُوفَةِ فَأَحْرَمَ بها لِلْعُمْرَةِ ثُمَّ دخل
مَكَّةَ فَأَحْرَمَ بها لِلْحَجِّ لم يَكُنْ مُتَمَتِّعًا لِأَنَّهُ حَصَلَ له
الْإِلْمَامُ بِأَهْلِهِ بين الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ فَمَنَعَ التَّمَتُّعَ
كَالْكُوفِيِّ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَسَوَاءٌ سَاقَ الْهَدْيَ أو لم يَسُقْ
يَعْنِي إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ بعدماخرج إلَى الْكُوفَةِ وَسَاقَ الْهَدْيَ
لم يَكُنْ مُتَمَتِّعًا وَسَوْقُهُ الْهَدْيَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ إلْمَامِهِ
بِخِلَافِ الْكُوفِيِّ لِأَنَّ الْكُوفِيَّ إنَّمَا يَمْنَعُ سَوْقُ الْهَدْيِ
صِحَّةَ إلْمَامِهِ لِأَنَّ الْعَوْدَ مُسْتَحَقٌّ عليه فَأَمَّا الْمَكِّيُّ
فَلَا يُسْتَحَقُّ عليه الْعَوْدُ فَصَحَّ إلْمَامُهُ مع السَّوْقِ كما يَصِحُّ مع
عَدَمِهِ
وَلَوْ خَرَجَ الْمَكِّيُّ إلَى الْكُوفَةِ فَقَرَنَ صَحَّ قِرَانُهُ لِأَنَّ
الْقِرَانَ يَحْصُلُ بِنَفْسِ الْإِحْرَامِ فَلَا يُعْتَبَرُ فيه الْإِلْمَامُ
فَصَارَ بِعَوْدِهِ إلَى مَكَّةَ كَالْكُوفِيِّ إذَا قَرَنَ ثُمَّ عَادَ إلَى
الْكُوفَةِ وذلك ( ( ( وذكر ) ) ) ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ قِرَانَ
الْمَكِّيِّ بَعْدَ خُرُوجِهِ إلَى الْكُوفَةِ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كان خُرُوجُهُ
من مَكَّةَ قبل أَشْهُرِ الْحَجِّ فَأَمَّا إذَا دَخَلَتْ عليه أَشْهُرُ الْحَجِّ
وهو بِمَكَّةَ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ فَقَرَنَ لم يَصِحَّ قِرَانُهُ
لِأَنَّهُ حين دُخُولِ الْأَشْهُرِ عليه كان على صِفَةٍ لَا يَصِحُّ له
التَّمَتُّعُ وَلَا الْقِرَانُ في هذه السَّنَةِ لِأَنَّهُ في أَهْلِهِ فَلَا
يَتَغَيَّرُ ذلك بِالْخُرُوجِ إلَى الْكُوفَةِ
وفي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ في
رَمَضَانَ وَأَقَامَ على إحْرَامِهِ إلَى شَوَّالٍ من قَابِلٍ ثُمَّ طَافَ لِعُمْرَتِهِ
في الْعَامِ الْقَابِلِ من شَوَّالٍ ثُمَّ حَجَّ في ذلك الْعَامِ أَنَّهُ
مُتَمَتِّعٌ لِأَنَّهُ بَاقٍ على إحْرَامِهِ وقد أتى بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ
وَالْحَجِّ في أَشْهُرِ الْحَجِّ فَصَارَ كَأَنَّهُ ابْتَدَأَ الْإِحْرَامَ
بِالْعُمْرَةِ في أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ من عَامِهِ ذلك وَلَوْ فَعَلَ ذلك كان
مُتَمَتِّعًا كَذَا هذا
وَبِمِثْلِهِ من وَجَبَ عليه أَنْ يَتَحَلَّلَ من الْحَجِّ بِعُمْرَةٍ فَأَخَّرَ
إلَى الْعَامِ الْقَابِلِ فَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ في شَوَّالٍ وَحَجَّ من عَامِهِ
ذلك لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا لِأَنَّهُ ما أتى بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لها بَلْ
لِلتَّحَلُّلِ عن إحْرَامِ الْحَجِّ فلم تَقَعْ هذه الْأَفْعَالُ مُعْتَدًّا بها
عن الْعُمْرَةِ فلم يَكُنْ مُتَمَتِّعًا بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَجِبُ على الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ بِسَبَبِ
التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ أَمَّا الْمُتَمَتِّعُ فَيَجِبُ عليه الهدى الإجماع ( (
( بالإجماع ) ) ) وَالْكَلَامُ في الهدى في مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِ الْهَدْيِ وفي
بَيَانِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ شَرْطِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ صِفَةِ الْوَاجِبِ
____________________
(2/172)
وفي
بَيَانِ مَكَانِ إقَامَتِهِ وفي بَيَانِ زَمَانِ الْإِقَامَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْهَدْيُ الْمَذْكُورُ في آيَةِ التَّمَتُّعِ اخْتَلَفَ فيه
الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ عن عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ
رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا هو شَاةٌ
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ بَدَنَةٌ أو
بَقَرَةٌ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ يَقَعُ على الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ
لَكِنَّ الشَّاةَ هَهُنَا مُرَادَةٌ من الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِإِجْمَاعِ
الْفُقَهَاءِ حتى أَجْمَعُوا على جَوَازِهَا عن الْمُتْعَةِ وَالدَّلِيلُ عليه
أَيْضًا
ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عن الْهَدْيِ
فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم أَدْنَاهُ شَاةٌ إلَّا أَنَّ الْبَدَنَةَ أَفْضَلُ من
الْبَقَرَةِ وَالْبَقَرَةُ أَفْضَلُ من الشَّاةِ لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم في تَفْسِيرِ الْهَدْيِ أَدْنَاهُ شَاةٌ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ
أَعْلَاهُ الْبَدَنَةُ وَالْبَقَرَةُ
وَرُوِيَ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال الْمُبَكِّرُ إلَى الْجُمُعَةِ
كَالْمُهْدِي بَدَنَةً ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً كَالْمُهْدِي شَاةً
وَكَذَا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم سَاقَ الْبُدْنَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كان
يَخْتَارُ من الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا وَلِأَنَّ الْبَدَنَةَ أَكْثَرُ لَحْمًا
وَقِيمَةً من الْبَقَرَةِ وَالْبَقَرَةُ أَكْثَرُ لَحْمًا وَقِيمَةً من الشَّاةِ
فَكَانَ أَنْفَعَ لِلْفُقَرَاءِ فَكَانَ أَفْضَلَ
وَأَمَّا وُجُوبُهُ فإنه وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ
تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ } أَيْ
فَعَلَيْهِ ذَبْحُ ما اسْتَيْسَرَ من الهدى كما في قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ كان
مِنْكُمْ مَرِيضًا أو بِهِ أَذًى من رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } الْآيَةَ أَيْ فَحَلَقَ
فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَقَوْلُهُ عز وجل { فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ } مَعْنَاهُ فَأَفْطَرَ فَلْيَصُمْ في عِدَّةٍ من
أَيَّامٍ أُخَرَ
وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِهِ فَالْقُدْرَةُ عليه لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ
ما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ وَلَا وُجُوبَ إلَّا على الْقَادِرِ فَإِنْ لم
يَقْدِرْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ إلَى
أَهْلِهِ لِقَوْلِهِ عز وجل { فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في
الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } مَعْنَاهُ
فَمَنْ لم يَجِدْ الْهَدْيَ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ
إذَا رَجَعْتُمْ
وَلَا يَجُوزُ له أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ في أَشْهُرِ الْحَجِّ قبل أَنْ
يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ بِلَا خِلَافٍ وَهَلْ يَجُوزُ له بَعْدَ ما أَحْرَمَ
بِالْعُمْرَةِ في أَشْهُرِ الْحَجِّ قبل أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ قال
أَصْحَابُنَا يَجُوزُ سَوَاءٌ طَافَ لِعُمْرَتِهِ أو لم يَطُفْ بَعْدَ أَنْ
أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ حتى يُحْرِمَ بِالْحَجِّ
كَذَا ذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ الْخِلَافَ وَذَكَرَ إمَامُ الْهُدَى الشيخ
أبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَجُوزَ ما
لم يَشْرَعْ في الْحَجِّ وهو قَوْلُ زُفَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ لم
يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ } وَإِنَّمَا يَكُونُ في
الْحَجِّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فيه وَذَلِكَ بِالْإِحْرَامِ وَلِأَنَّ على أَصْلِ
الشَّافِعِيِّ دَمُ الْمُتْعَةِ دَمُ كَفَّارَةٍ وَجَبَ جَبْرًا لِلنَّقْصِ وما لم
يُحْرِمْ بِالْحَجِّ لَا يَظْهَرُ النَّقْصُ
وَلَنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ سَبَبٌ لِوُجُودِ الْإِحْرَامِ
بِالْحَجَّةِ فَكَانَ الصَّوْمُ تَعْجِيلًا بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ فَجَازَ
وَقَبْلَ وُجُودِ الْعُمْرَةِ لم يُوجَدْ السَّبَبُ فلم يَجُزْ وَلِأَنَّ
السُّنَّةَ في الْمُتَمَتِّعِ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ
كَذَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ
بِذَلِكَ وإذا كانت السُّنَّةُ في حَقِّهِ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ عَشِيَّةَ
التَّرْوِيَةِ فَلَا يُمْكِنُهُ صِيَامُ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ ذلك
وَإِنَّمَا بَقِيَ له يَوْمٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ
قد نهى عن الصِّيَامِ فيها فَلَا بُدَّ من الْحُكْمِ بِجَوَازِ الصَّوْمِ بَعْدَ
إحْرَامِ الْعُمْرَةِ قبل الشُّرُوعِ في الْحَجِّ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قِيلَ في تَأْوِيلِهَا أن الْمُرَادَ منها وَقْتُ
الْحَجِّ وهو الصَّحِيحُ إذْ الْحَجُّ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا لِلصَّوْمِ
وَالْوَقْتُ يَصْلُحُ ظَرْفًا له فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ
فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في وَقْتِ الْحَجِّ كما في قَوْله تَعَالَى {
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } أَيْ وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ
وَعَلَى هذا صَارَتْ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ حُجَّةً لنا عليه لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَوْجَبَ على الْمُتَمَتِّعِ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في وَقْتِ
الْحَجِّ وهو أَشْهُرُ الْحَجِّ وقد صَامَ في أَشْهُرِ الْحَجِّ فَجَازَ إلَّا
أَنَّ زَمَانَ ما قبل الْإِحْرَامِ صَارَ مَخْصُوصًا من النَّصِّ
وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ آخِرُهَا يَوْمُ عَرَفَةَ بِأَنْ
يَصُومَ قبل يوم التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَدَلًا عن الْهَدْيِ
وَأَفْضَلُ أَوْقَاتِ الْبَدَلِ وَقْتُ الْيَأْسِ عن الْأَصْلِ لِمَا يَحْتَمِلُ
الْقُدْرَةَ على الْأَصْلِ قَبْلَهُ وَلِهَذَا كان الْأَفْضَلُ تَأْخِيرَ
التَّيَمُّمِ إلَى آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الْمَاءِ
قَبْلَهُ وَهَذِهِ الْأَيَّامُ آخِرُ وَقْتِ هذا الصَّوْمِ عِنْدَنَا فإذا مَضَتْ
ولم يَصُمْ فيها فَقَدْ فَاتَ الصَّوْمُ وَسَقَطَ عنه وَعَادَ الْهَدْيُ فَإِنْ لم
يَقْدِرْ عليه يَتَحَلَّلُ وَعَلَيْهِ دَمَانِ دَمُ التَّمَتُّعِ وَدَمُ
التَّحَلُّلِ قبل الْهَدْيِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَفُوتُ بِمُضِيِّ هذه
الْأَيَّامِ ثُمَّ له قَوْلَانِ في قَوْلٍ يَصُومُهَا في أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
وفي قَوْلٍ يَصُومُهَا بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ } أَيْ في وَقْتِ الْحَجِّ لِمَا بَيَّنَّا عَيْنَ
وَقْتِ الْحَجِّ لِصَوْمِ هذه الْأَيَّامِ إلَّا أَنَّ يوم النَّحْرِ خَرَجَ من
أَنْ
____________________
(2/173)
يَكُونَ
وَقْتًا لِهَذَا الصَّوْمِ بِالْإِجْمَاعِ وما رَوَاهُ ليس وَقْتَ الْحَجِّ فَلَا
يَكُونُ مَحِلًّا لِهَذَا الصَّوْمِ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال الْمُتَمَتِّعُ إنَّمَا
يَصُومُ قبل يَوْمِ النَّحْرِ وَعَنْ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَجُلًا
أَتَاهُ يوم النَّحْرِ وهو مُتَمَتِّعٌ لم يَصُمْ
فقال له عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه إذبح شَاةً فقال الرَّجُلُ ما أَجِدُهَا فقال له
عُمَرُ سَلْ قَوْمَكَ فقال ليس هَهُنَا منهم أَحَدٌ فقال عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه
يا مُغِيثُ أَعْطِهِ عَنِّي ثَمَنَ شَاةٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قال ذلك سَمَاعًا
من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِأَنَّ مِثْلَ ذلك لَا يُعْرَفُ رَأْيًا
وَاجْتِهَادًا
وَأَمَّا صَوْمُ السَّبْعَةِ فَلَا يَجُوزُ قبل الْفَرَاغِ من أَفْعَالِ الْحَجِّ
بِالْإِجْمَاعِ وَهَلْ يَجُوزُ بَعْدَ الْفَرَاغِ من أَفْعَالِ الْحَجِّ بِمَكَّةَ
قبل الرُّجُوعِ إلَى الْأَهْلِ قال أَصْحَابُنَا يَجُوزُ وقال الشَّافِعِيُّ لَا
يَجُوزُ
إلَّا بَعْدَ الرُّجُوعِ إلَى الْأَهْلِ إلَّا إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ
فَيَصُومُهَا بِمَكَّةَ فَيَجُوزُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَسَبْعَةٍ
إذَا رَجَعْتُمْ } أَيْ إذَا رَجَعْتُمْ إلَى أَهْلِيكُمْ
وَلَنَا هذه الْآيَةُ بِعَيْنِهَا لِأَنَّهُ قال عز وجل { إذَا رَجَعْتُمْ }
مُطْلَقًا فَيَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا رَجَعَ من مِنًى إلَى مَكَّةَ وَصَامَهَا
يَجُوزُ وَهَكَذَا قال بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ إذَا رَجَعْتُمْ من مِنًى
وقال بَعْضُهُمْ إذَا فَرَغْتُمْ من أَفْعَالِ الْحَجِّ
وَقِيلَ إذَا أتى وَقْتُ الرُّجُوعِ
وَلَوْ وَجَدَ الْهَدْيَ قبل أَنْ يَشْرَعَ في صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أو في
خِلَالِ الصَّوْمِ أو بَعْدَ ما صَامَ فَوَجَدَهُ في أَيَّامِ النَّحْرِ قبل أَنْ
يَحْلِقَ أو يُقَصِّرَ يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ وَيَسْقُطُ حُكْمُ الصَّوْمِ
عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ وَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ
الصَّوْمِ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ عن الْهَدْيِ وقد قَدَرَ على
الْأَصْلِ قبل حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَبَطَل حُكْمُ الْبَدَلِ كما لو
وَجَدَ الْمَاءَ في خِلَالِ التَّيَمُّمِ
وَلَوْ وَجَدَ الْهَدْيَ في أَيَّامِ الذَّبْحِ أو بَعْدَ ما حَلَقَ أو قَصَّرَ
فَحَلَّ قبل أَنْ يَصُومَ السَّبْعَةَ صَحَّ صَوْمُهُ وَلَا يَجِبُ عليه الْهَدْيُ
لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الْبَدَلِ وهو التَّحَلُّلُ قد حَصَلَ فَالْقُدْرَةُ على
الْأَصْلِ بَعْدَ ذلك لَا تُبْطِلُ حُكْمَ الْبَدَلِ كما لو صلى بِالتَّيَمُّمِ
ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ
وَاخْتَلَفَ أبو بَكْرٍ الرَّازِيّ وأبو عبد اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ في صَوْمِ
السَّبْعَةِ قال الْجُرْجَانِيُّ إنَّهُ ليس بِبَدَلٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ
مع وُجُودِ الْهَدْيِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا جَوَازَ لِلْبَدَلِ مع وُجُودِ
الْأَصْلِ كما في التُّرَابِ مع الْمَاءِ وَنَحْوِ ذلك
وقال الرَّازِيّ أنه بَدَلٌ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا حَالَ الْعَجْزِ عن
الْأَصْلِ وَجَوَازُهُ حَالَ وُجُودِ الْأَصْلِ لَا يُخْرِجُهُ عن كَوْنِهِ
بَدَلًا وَلَوْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ولم يَحِلَّ حتى مَضَتْ أَيَّامُ
الذَّبْحِ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ فَصَوْمُهُ مَاضٍ وَلَا هَدْيَ عليه كَذَا رَوَى
الْحَسَنُ بن زِيَادٍ عن أبي حَنِيفَةَ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ في مُخْتَصَرِهِ لِأَنَّ
الذَّبْحَ يَتَوَقَّتُ بِأَيَّامِ الذَّبْحِ عِنْدَنَا فإذا مَضَتْ فَقَدْ حَصَلَ
الْمَقْصُودُ وهو إبَاحَةُ التَّحَلُّلِ فَكَأَنَّهُ تَحَلَّلَ ثُمَّ وَجَدَ
الْهَدْيَ
وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيها
قال أَصْحَابُنَا إنَّهُ دَمُ نُسُكٍ وَجَبَ شُكْرًا لِمَا وُفِّقَ لِلْجَمْعِ بين
النُّسُكَيْنِ بِسَفَرٍ وَاحِدٍ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ منه وَيُطْعِمَ من شَاءَ
غَنِيًّا كان الْمُطْعَمُ أو فَقِيرًا وَيُسْتَحَبُّ له أَنْ يَأْكُلَ الثُّلُثَ
وَيَتَصَدَّقَ بِالثُّلُثِ وَيُهْدِيَ الثُّلُثَ لِأَقْرِبَائِهِ وَجِيرَانِهِ
سَوَاءٌ كَانُوا فُقَرَاءَ أو أَغْنِيَاءَ كَدَمِ الْأُضْحِيَّةَ لِقَوْلِهِ عز
وجل { فَكُلُوا منها وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ }
وقال الشَّافِعِيُّ إنَّهُ دَمُ كَفَّارَةٍ وَجَبَ جَبْرًا لِلنَّقْصِ بِتَرْكِ
إحْدَى السَّفْرَتَيْنِ لِأَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ
لِلْغَنِيِّ أَنْ يَأْكُلَ منه وَسَبِيلُهُ سَبِيلُ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ
وَأَمَّا الْقَارِنُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُتَمَتِّعِ في وُجُوبِ الْهَدْيِ عليه
إنْ وَجَدَ وَالصَّوْمُ إنْ لم يَجِدْ وَإِبَاحَةُ الْأَكْلِ من لَحْمِهِ
لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ لِأَنَّهُ في مَعْنَى الْمُتَمَتِّعِ فِيمَا لِأَجْلِهِ
وَجَبَ الدَّمُ وهو الْجَمْعُ بين الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ في سَفَرٍ وَاحِدٍ
وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان قَارِنًا فَنَحَرَ
الْبُدْنَ وَأَمَرَ عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه فَأَخَذَ من كل بَدَنَةٍ قِطْعَةً
فَطَبَخَهَا وَأَكَلَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم من لَحْمِهَا وَحَسَا من
مَرَقِهَا
وَأَمَّا مَكَانُ هذا الدَّمِ فَالْحَرَمُ لَا يَجُوزُ في غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } وَمَحِلُّهُ
الْحَرَمُ وَالْمُرَادُ منه هدى الْمُتْعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ
تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ } والهدى
اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ أَيْ يُبْعَثُ وَيُنْقَلُ
إلَيْهِ
وَأَمَّا زَمَانُهُ فَأَيَّامُ النَّحْرِ حتى لو ذَبَحَ قَبْلَهَا لم يَجُزْ
لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ عِنْدَنَا فَيَتَوَقَّتُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ
كَالْأُضْحِيَّةِ
وَأَمَّا بَيَانُ أَفْضَلِ أَنْوَاعِ ما يُحْرِمُ بِهِ فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عن
أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ ثُمَّ التَّمَتُّعَ ثُمَّ الْإِفْرَادَ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ من التَّمَتُّعِ وَبِهِ
أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وقال مَالِكٌ التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في كِتَابِ الرَّدِّ على أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّ حَجَّةً
كُوفِيَّةً وَعُمْرَةً كُوفِيَّةً أَفْضَلُ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَفْرَدَ بِالْحَجِّ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَدَلَّ أَنَّ الْإِفْرَادَ
أَفْضَلُ إذْ هو صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يَخْتَارُ من الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا
وَلَنَا أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قَرَنَ بين
الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ رَوَاهُ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وابن عَبَّاسٍ
____________________
(2/174)
وَجَابِرٌ
وَأَنَسٌ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَرُوِيَ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
أَتَانِي آتٍ من رَبِّي وأنا بِالْعَقِيقِ فقال قُمْ فَصَلِّ في هذا الْوَادِي
الْمُبَارَكِ رَكْعَتَيْنِ وَقُلْ لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ في حَجَّةٍ
حتى رُوِيَ عن أَنَسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان
يَصْرُخُ بها صُرَاخًا وَيَقُولُ لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ في حَجَّةٍ فَدَلَّ أَنَّهُ
صلى اللَّهُ عليه وسلم كان قَارِنًا وَرُوِيَ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
قال تَابِعُوا بين الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فإن الْمُتَابَعَةَ بَيْنَهُمَا تَزِيدُ
في الْعُمُرِ وَتَنْفِي الْفَقْرَ وَلِأَنَّ الْقِرَانَ وَالتَّمَتُّعَ جَمْعٌ بين
عِبَادَتَيْنِ بِإِحْرَامَيْنِ فَكَانَ أَفْضَلَ من إتْيَانِ عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ
بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ
وَإِنَّمَا كان الْقِرَانُ أَفْضَلَ من التَّمَتُّعِ لِأَنَّ الْقَارِنَ حَجَّتُهُ
وَعُمْرَتُهُ آفَاقِيَّتَانِ لِأَنَّهُ يُحْرِمُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا من
الْآفَاقِ وَالْمُتَمَتِّعُ عُمْرَتُهُ آفَاقِيَّةٌ وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّةٌ
لِأَنَّهُ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ من الْآفَاقِ وَبِالْحَجَّةِ من مَكَّةَ
وَالْحَجَّةُ الْآفَاقِيَّةُ أَفْضَلُ من الْحَجَّةِ الْمَكِّيَّةِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }
وَرَوَيْنَا عن عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا
إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا من دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ وما كان أَتَمَّ
فَهُوَ أَفْضَلُ
وَأَمَّا ما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَالْمَشْهُورُ ما رَوَيْنَا وَالْعَمَلُ
بِالْمَشْهُورِ أَوْلَى مع ما أَنَّ فِيمَا رَوَيْنَا زِيَادَةً لَيْسَتْ في
رِوَايَتِهِ وَالزِّيَادَةُ بِرِوَايَةِ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ على أَنَّا
نَجْمَعُ بين الرِّوَايَتَيْنِ على ما هو الْأَصْلُ عِنْدَ تَعَارُضِ
الدَّلِيلَيْنِ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فَنَقُولُ كان
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قَارِنًا لَكِنَّهُ كان يُسَمِّي الْعُمْرَةَ
وَالْحَجَّةَ في التَّلْبِيَةِ بِهِمَا مَرَّةً وكان صلى اللَّهُ عليه وسلم
يُلَبِّي بِهِمَا لَكِنَّهُ كان يُسَمِّي بِإِحْدَاهُمَا مَرَّةً إذْ تَسْمِيَةُ
ما يُحْرِمُ بِهِ في التَّلْبِيَةِ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ التَّلْبِيَةِ فَرَاوِي
الْإِفْرَادِ سَمِعَهُ يسمى الْحَجَّةَ في التَّلْبِيَةِ فَبَنَى الْأَمْرَ على
الظَّاهِرِ فَظَنَّهُ مُفْرِدًا فراوى ( ( ( فروى ) ) ) الْإِفْرَادَ وَرَاوِي
الْقِرَانِ وَقَفَ على حَقِيقَةِ الْحَالِ فروي الْقِرَانَ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمُحْرِمِ إذَا مُنِعَ عن الْمُضِيِّ في
الْإِحْرَامِ وهو الْمُسَمَّى بِالْمُحْصَرِ في عُرْفِ الشَّرْعِ فَالْكَلَامُ في
الْإِحْصَارِ في الْأَصْلِ في ثَلَاثِ مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِ الْإِحْصَارِ
أَنَّهُ ما هو وَمِمَّ يَكُونُ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْإِحْصَارِ وفي بَيَانِ
حُكْمِ زَوَالِ الْإِحْصَارِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُحْصَرُ في اللُّغَةِ هو الْمَمْنُوعُ وَالْإِحْصَارُ هو
الْمَنْعُ وفي عُرْفِ الشَّرْعِ هو اسْمٌ لِمَنْ أَحْرَمَ ثُمَّ مُنِعَ عن
الْمُضِيِّ في مُوجَبِ الْإِحْرَامِ سَوَاءٌ كان الْمَنْعُ من الْعَدُوِّ أو
الْمَرَضِ أو الْحَبْسِ أو الْكَسْرِ أو الْعَرَجِ وَغَيْرِهَا من الْمَوَانِعِ من
إتْمَامِ ما أَحْرَمَ بِهِ حَقِيقَةً أو شَرْعًا وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا إحْصَارَ إلَّا من الْعَدُوِّ وَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ
آيَةَ الْإِحْصَارِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فما اسْتَيْسَرَ
من الْهَدْيِ } نَزَلَتْ في أَصْحَابِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حين
أُحْصِرُوا من الْعَدُوِّ وفي آخِرِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ دَلِيلٌ عليه وهو
قَوْلُهُ عز وجل { فإذا أَمِنْتُمْ } وَالْأَمَانُ من الْعَدُوِّ يَكُونُ وَرُوِيَ
عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا لَا حَصْرَ
إلَّا من عَدُوٍّ
وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فما اسْتَيْسَرَ من
الْهَدْيِ } وَالْإِحْصَارُ هو الْمَنْعُ وَالْمَنْعُ كما يَكُونُ من الْعَدُوِّ
يَكُونُ من الْمَرَضِ وَغَيْرِهِ وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ عِنْدَنَا لَا
بِخُصُوصِ السَّبَبِ إذْ الْحُكْمُ يَتْبَعُ اللَّفْظَ لَا السَّبَبَ
وَعَنْ الْكِسَائِيّ وَأَبِي مُعَاذٍ أَنَّ الْإِحْصَارَ من الْمَرَضِ وَالْحَصْرَ
من الْعَدُوِّ فَعَلَى هذا كانت الْآيَةُ خَاصَّةً في الْمَمْنُوعِ بِسَبَبِ
الْمَرَضِ وَأَمَّا قَوْلُهُ عز وجل { فإذا أَمِنْتُمْ } فَالْجَوَابُ عن
التَّعَلُّقِ بِهِ من وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَمْنَ كما يَكُونُ من الْعَدُوِّ يَكُونُ من زَوَالِ
الْمَرَضِ لِأَنَّهُ إذَا زَالَ مَرَضُ الْإِنْسَانِ أَمِنَ الْمَوْتَ منه أو
أَمِنَ زِيَادَةَ الْمَرَضِ وَكَذَا بَعْضُ الْأَمْرَاضِ قد تَكُونُ أَمَانًا من
الْبَعْضِ كما قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الزُّكَامُ أَمَانٌ من الْجُذَامِ
وَالثَّانِي أَنَّ هذا يَدُلُّ على أَنَّ الْمُحْصَرَ من الْعَدُوِّ مُرَادٌ من
الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وَهَذَا لَا يَنْفِي كَوْنَ الْمُحْصَرِ من الْمَرَضِ
مُرَادًا منها
وما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ إنْ
ثَبَتَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ مُطْلَقُ الْكِتَابِ كَيْفَ وَإِنَّهُ
لَا يُرَى نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم قال من كُسِرَ أو عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ من
قَابِلٍ وَقَوْلُهُ حَلَّ أَيْ جَازَ له أَنْ يَحِلَّ بِغَيْرِ دَمٍ لِأَنَّهُ لم
يُؤْذَنْ له بِذَلِكَ شَرْعًا وهو كَقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إذَا
أَقْبَلَ اللَّيْلُ من هَهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ من هَهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ
الصَّائِمُ
وَمَعْنَاهُ أَيْ حَلَّ له الْإِفْطَارُ فَكَذَا هَهُنَا مَعْنَاهُ حَلَّ له أَنْ
يَحِلَّ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ مُحْصَرًا من الْعَدُوِّ وَمِنْ خِصَالِهِ
التَّحَلُّلُ لِمَعْنًى هو مَوْجُودٌ في الْمَرَضِ وَغَيْرِهِ وهو الْحَاجَةُ إلَى
التَّرْفِيهِ وَالتَّيْسِيرِ لِمَا يَلْحَقُهُ من الضَّرَرِ وَالْحَرَجِ
بِإِبْقَائِهِ على الْإِحْرَامِ مُدَّةً مَدِيدَةً وَالْحَاجَةُ إلَى التَّرْفِيهِ
وَالتَّيْسِيرِ مُتَحَقِّقَةٌ في الْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ فَيَتَحَقَّقُ
الْإِحْصَارُ وَيَثْبُتُ مُوجَبُهُ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَمْلِكُ دَفْعَ
____________________
(2/175)
شَرِّ
الْعَدُوِّ عن نَفْسِهِ بِالْقِتَالِ فَيَدْفَعُ الْإِحْصَارَ عن نَفْسِهِ وَلَا
يُمْكِنُهُ دَفْعُ الْمَرَضِ عن نَفْسِهِ فلما جُعِلَ ذلك عُذْرًا فَلَأَنْ
يُجْعَلَ هذا عُذْرًا أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَسَوَاءٌ كان الْعَدُوُّ الْمَانِعُ كَافِرًا أو مُسْلِمًا لِتَحَقُّقِ
الْإِحْصَارِ مِنْهُمَا وهو الْمَنْعُ عن الْمُضِيِّ في مُوجَبِ الْإِحْرَامِ
فَيَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ الْآيَةِ وَكَذَا ما ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى
الْمُوجِبِ لِثُبُوتِ حُكْمِ الْإِحْصَارِ وهو إبَاحَةُ التَّحَلُّلِ وَغَيْرُهُ
لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين الْإِحْصَارِ من الْمُسْلِمِ وَمِنْ الْكَافِرِ وَلَوْ
سُرِقَتْ نَفَقَتُهُ أو هَلَكَتْ رَاحِلَتُهُ فَإِنْ كان لَا يَقْدِرُ على
الْمَشْيِ فَهُوَ مُحْصَرٌ لِأَنَّهُ مُنِعَ من الْمُضِيِّ في مُوجَبِ
الْإِحْرَامِ فَكَانَ مُحْصَرًا كما لو مَنَعَهُ الْمَرَضُ وَإِنْ كان يَقْدِرُ
على الْمَشْيِ فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ لِأَنَّهُ قَادِرٌ على الْمُضِيِّ في مُوجَبِ
الْإِحْرَامِ فَلَا يَجُوزُ له التحال ( ( ( التحلل ) ) ) وَيَجِبُ عليه الْمَشْيُ
إلَى الْحَجِّ إنْ كان مُحْرِمًا بِالْحَجِّ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَجِبَ على
الْإِنْسَانِ الْمَشْيُ إلَى الْحَجِّ ابْتِدَاءً وَيَجِبُ عليه بَعْدَ الشُّرُوعِ
فيه كَالْفَقِيرِ الذي لَا زَادَ له وَلَا رَاحِلَةَ شَرَعَ في الْحَجِّ أَنَّهُ
يَجِبُ عليه الْمَشْيُ وَإِنْ كان لَا يَجِبُ عليه ابْتِدَاءً قبل الشُّرُوعِ
كَذَا هذا
قال أبو يُوسُفَ فَإِنْ قَدَرَ على الْمَشْيِ في الْحَالِ وَخَافَ أَنْ يَعْجِزَ
جَازَ له التَّحَلُّلُ لِأَنَّ الْمَشْيَ الذي لَا يُوصِلُهُ إلَى الْمَنَاسِكِ
وُجُودُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَ مُحْصَرًا فَيَجُوزُ له
التَّحَلُّلُ كما لو لم يَقْدِرْ على الْمَشْيِ أَصْلًا وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ
الْمَرْأَةُ إذَا أَحْرَمَتْ وَلَا زَوْجَ لها وَمَعَهَا مَحْرَمٌ فَمَاتَ مَحْرَمُهَا
أو أَحْرَمَتْ وَلَا مَحْرَمَ مَعَهَا وَلَكِنْ مَعَهَا زَوْجُهَا فَمَاتَ
زَوْجُهَا أنها مُحْصَرَةٌ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا من الْمُضِيِّ في
مُوجَبِ الْإِحْرَامِ بِلَا زَوْجٍ وَلَا مَحْرَمٍ وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا
أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ وَلَهَا مَحْرَمٌ وَزَوْجٌ فَمَنَعَهَا
زَوْجُهَا إنها مُحْصَرَةٌ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا من حَجَّةِ
التَّطَوُّعِ كما أَنَّ له أَنْ يَمْنَعَهَا عن صَوْمِ التَّطَوُّعِ فَصَارَتْ
مَمْنُوعَةً شَرْعًا بِمَنْعِ الزَّوْجِ فَصَارَتْ مُحْصَرَةً كَالْمَمْنُوعِ
حَقِيقَةً بِالْعَدُوِّ وَغَيْرِهِ
وَإِنْ أَحْرَمَتْ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ وَلَيْسَ لها زَوْجٌ فَلَيْسَتْ
بِمُحْصَرَةٍ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْنُوعَةٍ عن الْمُضِيِّ في مُوجَبِ
الْإِحْرَامِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا وَكَذَلِكَ إذَا كان لها مَحْرَمٌ وَلَهَا
زَوْجٌ فَأَحْرَمَتْ بِإِذْنِ الزَّوْجِ إنها لَا تَكُونُ مُحْصَرَةً وَتَمْضِي في
إحْرَامِهَا لِأَنَّ الزَّوْجَ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ بِالْإِذْنِ وَإِنْ
أَحْرَمَتْ وَلَيْسَ لها مَحْرَمٌ فَإِنْ لم يَكُنْ لها زَوْجٌ فَهِيَ مُحْصَرَةٌ
لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عن الْمُضِيِّ في مُوجَبِ الْإِحْرَامِ بِغَيْرِ زَوْجٍ
وَلَا مَحْرَمٍ
وَإِنْ كان لها زَوْجٌ فَإِنْ أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهَا
مَمْنُوعَةٌ من الْمُضِيِّ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِإِذْنِهِ
لَا تَكُونُ مُحْصَرَةً لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْنُوعَةٍ وَإِنْ أَحْرَمَتْ
بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَلَا مَحْرَمَ لها وَلَا زَوْجَ فَهِيَ مُحْصَرَةٌ
لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عن الْمُضِيِّ في مُوجَبِ الْإِحْرَامِ لِحَقِّ اللَّهِ
تَعَالَى وَهَذَا الْمَنْعُ أَقْوَى من مَنْعِ الْعِبَادِ
وَإِنْ كان لها مَحْرَمٌ وَزَوْجٌ وَلَهَا اسْتِطَاعَةٌ عِنْدَ خُرُوجِ أَهْلِ
بَلَدِهَا فَلَيْسَتْ بِمُحْصَرَةٍ لِأَنَّهُ ليس لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا من
الْفَرَائِضِ كَالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَإِنْ كان لها
زَوْجٌ وَلَا مَحْرَمَ مَعَهَا فَمَنَعَهَا الزَّوْجُ فَهِيَ مُحْصَرَةٌ في
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يُجْبَرُ على الْخُرُوجِ وَلَا
يَجُوزُ لها الْخُرُوجُ بِنَفْسِهَا وَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْذَنَ لها
بِالْخُرُوجِ وَلَوْ أَذِنَ لَا يَعْمَلُ إذْنُهُ فَكَانَتْ مُحْصَرَةً وَهَلْ
لِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ له أَنْ يُحَلِّلَهَا
لِأَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ مُحْصَرَةً مَمْنُوعَةً عن الْخُرُوجِ وَالْمُضِيِّ
بِمَنْعِ الزَّوْجِ صَارَ هذا كَحَجِّ التَّطَوُّعِ وَهُنَاكَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا
فَكَذَا هذا
وَلَوْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَهُوَ مُحْصَرٌ
لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عن الْمُضِيِّ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلِلْمَوْلَى أَنْ
يُحَلِّلَهُ وَإِنْ كان بِإِذْنِهِ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ إلَّا أَنَّهُ
يُكْرَهُ له ذلك لِأَنَّهُ خُلْفٌ في الْوَعْدِ وَلَا يَكُونُ الْحَاجُّ مُحْصَرًا
بعدما وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَيَبْقَى مُحْرِمًا عن النِّسَاءِ إلَى أَنْ يَطُوفَ
طَوَافَ الزِّيَارَةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ } أَيْ فَإِنْ
أُحْصِرْتُمْ عن إتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ على
قَوْلِهِ { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وقد تَمَّ حَجُّهُ
بِالْوُقُوفِ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْحَجُّ عَرَفَةَ فَمَنْ وَقَفَ
بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَبَعْدَ تَمَامِ الْحَجِّ لَا يَتَحَقَّقُ
الْإِحْصَارُ وَلِأَنَّ الْمُحْصَرَ اسْمٌ لِفَائِتِ الْحَجِّ وَبَعْدَ وُجُودِ
الرُّكْنِ الْأَصْلِيِّ وهو الْوُقُوفُ لَا يُتَصَوَّرُ الْفَوَاتُ فَلَا يَكُونُ
مُحْصَرًا وَلَكِنَّهُ يَبْقَى مُحْرِمًا عن النِّسَاءِ إلَى أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ
الزِّيَارَةِ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ عن النِّسَاءِ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ طَوَافِ
الزِّيَارَةِ
فَإِنْ مُنِعَ حتى مَضَى أَيَّامُ النَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ ثُمَّ خلى سَبِيلُهُ
يَسْقُطُ عنه الْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ وَرَمْيُ الْجِمَارِ وَعَلَيْهِ دَمٌ
لِتَرْكِ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ وَدَمٌ لِتَرْكِ الرَّمْيِ لِأَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاجِبٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ
وَطَوَافَ الصَّدْرِ وَعَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ عن أَيَّامِ
النَّحْرِ دَمٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَكَذَا عليه لِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ عن
أَيَّامِ النَّحْرِ دَمٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا شَيْءَ عليه وَالْمَسْأَلَةُ
مَضَتْ في
____________________
(2/176)
مَوْضِعِهَا
وَلَا إحْصَارَ بعدما قَدِمَ مَكَّةَ أو الْحَرَمَ إنْ كان لَا يُمْنَعُ من
الطَّوَافِ ولم يذكر في الْأَصْلِ أَنَّهُ إنْ مُنِعَ من الطَّوَافِ مَاذَا
حُكْمُهُ
وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ إنْ قَدَرَ على الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ جميعا أو
قَدَرَ على أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ وَإِنْ لم يَقْدِرْ على وَاحِدٍ
مِنْهُمَا فَهُوَ مُحْصَرٌ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الرَّجُلُ
مُحْصَرًا بعدما دخل الْحَرَمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَكَّةَ عَدُوٌّ غَالِبٌ
يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّخُولِ إلَى مَكَّةَ كما حَالَ الْمُشْرِكُونَ بين
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَبَيْنَ دُخُولِ مَكَّةَ فإذا كان كَذَلِكَ
فَهُوَ مُحْصَرٌ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ هل على أَهْلِ
مَكَّةَ إحْصَارٌ فقال لَا
فقلت كان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فقال
كانت مَكَّةُ إذْ ذَاكَ حَرْبًا وَهِيَ الْيَوْمَ دَارُ إسْلَامٍ وَلَيْسَ فيها
إحْصَارٌ
وَالصَّحِيحُ ما ذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ من التَّفْصِيلِ إنه إنْ كان يَقْدِرُ على
الْوُقُوفِ أو على الطَّوَافِ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا وَإِنْ لم يَقْدِرْ على
وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ مُحْصَرًا أَمَّا إذَا كان يَقْدِرُ على الْوُقُوفِ
فَلِمَا ذَكَرْنَا
وَأَمَّا إذَا كان يَصِلُ إلَى الطَّوَافِ فَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالدَّمِ
إنَّمَا رُخِّصَ لِلْمُحْصَرِ لِتَعَذُّرِ الطَّوَافِ قَائِمًا مَقَامَهُ بَدَلًا
عنه بِمَنْزِلَةِ فَائِتِ الْحَجِّ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ وهو
الطَّوَافُ فإذا قَدَرَ على الطَّوَافِ فَقَدْ قَدَرَ على الْأَصْلِ فَلَا يَجُوزُ
التَّحَلُّلُ وَأَمَّا إذَا لم يَقْدِرْ على الْوُصُولِ إلَى أَحَدِهِمَا
فَلِأَنَّهُ في حُكْمِ الْمُحْصَرِ في الْحِلِّ فَيَجُوزُ له أَنْ يَتَحَلَّلَ
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
ثُمَّ الْإِحْصَارُ كما يَكُونُ عن الْحَجِّ يَكُونُ عن الْعُمْرَةِ عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال بَعْضُهُمْ لَا إحْصَارَ عن الْعُمْرَةِ وَجْهُ
قَوْلِهِ أَنَّ الْإِحْصَارَ لِخَوْفِ الْفَوْتِ وَالْعُمْرَةُ لَا تَحْتَمِلُ
الْفَوْتَ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَوْقَاتِ وَقْتٌ لها فَلَا يُخَافُ فَوْتُهَا
بِخِلَافِ الْحَجِّ فإنه يَحْتَمِلُ الْفَوْتَ فَيَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ عنه
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ }
عَقِيبَ قَوْلِهِ عز وجل { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } فَكَانَ
الْمُرَادُ منه وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ عن إتْمَامِهِمَا فما
اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَأَصْحَابَهُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ حُصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ فَحَالَ كُفَّارُ
قُرَيْشٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ وَكَانُوا مُعْتَمِرِينَ فَنَحَرُوا
هَدْيَهُمْ وَحَلَقُوا رؤوسهم وقضي رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَأَصْحَابُهُ عُمْرَتَهُمْ في الْعَامِ الْقَابِلِ حتى سُمِّيَتْ عُمْرَةَ
الْقَضَاءِ وَلِأَنَّ التحللل ( ( ( التحلل ) ) ) بِالْهَدْيِ في الْحَجِّ
لِمَعْنًى هو مَوْجُودٌ في الْعُمْرَةِ وهو ما ذَكَرْنَا من التَّضَرُّرِ
بِامْتِدَادِ الْإِحْرَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْإِحْصَارِ فَالْإِحْصَارُ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ
لَكِنَّ الْأَصْلَ فيه حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا جَوَازُ التَّحَلُّلِ عن الإحرام ( (
( الإحصار ) ) ) وَالثَّانِي وُجُوبُ قَضَاءِ ما أَحْرَمَ بِهِ بَعْدَ
التَّحَلُّلِ أَمَّا جَوَازُ التَّحَلُّلِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في
تَفْسِيرِ التَّحَلُّلِ وفي بَيَانِ جَوَازِهِ وفي بَيَانِ ما يَتَحَلَّلُ بِهِ
وفي بَيَانِ مَكَانِهِ وفي بَيَانِ زَمَانِهِ وفي بَيَانِ حُكْمِ التَّحَلُّلِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالتَّحَلُّلُ هو فَسْخُ الْإِحْرَامِ وَالْخُرُوجُ منه
بِالطَّرِيقِ الْمَوْضُوعِ له شَرْعًا وَأَمَّا دَلِيلُ جَوَازِهِ فَقَوْلُهُ
تَعَالَى { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ } وَفِيهِ إضْمَارٌ
وَمَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ عن إتْمَامِ الْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ وَأَرَدْتُمْ أَنْ تَحِلُّوا فَاذْبَحُوا ما تَيَسَّرَ من الْهَدْيِ
إذْ الْإِحْصَارُ نَفْسُهُ لَا يُوجِبُ الْهَدْيَ
أَلَا تَرَى أَنَّ له أَنْ لَا يَتَحَلَّلَ وَيَبْقَى مُحْرِمًا كما كان إلَى أ ن
يَزُولَ الْمَانِعُ فَيَمْضِيَ في مُوجِبِ الْإِحْرَامِ وهو كَقَوْلِهِ تَعَالَى {
فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو بِهِ أَذًى من رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } مَعْنَاهُ
فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو بِهِ أَذًى من رَأْسِهِ فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ
وَإِلَّا فَكَوْنُ الْأَذَى في رَأْسِهِ لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ وَكَذَا قَوْله
تَعَالَى { فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ
أُخَرَ } مَعْنَاهُ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ وَإِلَّا فَنَفْسُ
الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ لَا يُوجِبُ الصَّوْمَ في عِدَّةٍ من أَيَّامٍ أُخَرَ
وَكَذَا قَوْلُهُ { فَمَنْ اُضْطُرَّ غير بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عليه }
مَعْنَاهُ فَأَكَلَ فَلَا إثْمَ عليه وَإِلَّا فَنَفْسُ الإضطرار لَا يُوجِبُ
الْإِثْمَ كَذَا هَهُنَا وَلِأَنَّ الْمُحْصَرَ مُحْتَاجٌ إلَى التَّحَلُّلِ
لِأَنَّهُ مُنِعَ عن الْمُضِيِّ في مُوجِبِ لإحرام ( ( ( الإحرام ) ) ) على وَجْهٍ
لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعَ فَلَوْ لم يَجُزْ له التَّحَلُّلُ لَبَقِيَ مُحْرِمًا
لَا يَحِلُّ له ما حَظَرَهُ الْإِحْرَامُ إلَى أَنْ يَزُولَ الْمَانِعُ فَيَمْضِيَ
في مُوجِبِ الْإِحْرَامِ وَفِيهِ من الضَّرَرِ وَالْحَرَجِ ما لَا يَخْفَى
فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّحَلُّلِ وَالْخُرُوجِ من الْإِحْرَامِ دَفْعًا
لِلضَّرَرِ وَالْحَرَجِ وَسَوَاءٌ كان الْإِحْصَارُ عن الْحَجِّ أو عن الْعُمْرَةِ
أو عنهما عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عز وجل
أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَتَحَلَّلُ بِهِ فَالْمُحْصَرُ نَوْعَانِ نَوْعٌ لَا
يَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ وَنَوْعٌ يَتَحَلَّلُ بِغَيْرِ الْهَدْيِ أَمَّا
الذي لَا يَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ فَكُلُّ من مُنِعَ من الْمُضِيِّ في
مُوجِبِ الْإِحْرَامِ حَقِيقَةً أو مُنِعَ منه شَرْعًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى
لَا لِحَقِّ الْعَبْدِ على ما ذَكَرْنَا فَهَذَا لَا يَتَحَلَّلُ
____________________
(2/177)
إلَّا
بِالْهَدْيِ وهو أَنْ يَبْعَثَ بِالْهَدْيِ أو بِثَمَنِهِ لِيَشْتَرِيَ بِهِ
هَدْيًا فَيُذْبَحَ عنه وما لم يُذْبَحْ لَا يَحِلُّ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ سَوَاءٌ كان شَرَطَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ إلا حلال بِغَيْرِ ذَبْحٍ
عِنْدَ الْإِحْصَارِ أو لم يَشْتَرِطْ
وقال بَعْضُ الناس الْمُحْصَرُ يَحِلُّ بِغَيْرِ هَدْيٍ إلَّا إذَا كان معه هَدْيٌ
فَيَذْبَحُهُ وَيَحِلُّ وَقِيلَ إنَّهُ قَوْلُ مَالِكٍ
وقال بَعْضُهُمْ إنْ كان لم يَشْتَرِطْ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ عِنْدَ
الْإِحْصَارِ من غَيْرِ هَدْيٍ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْهَدْيِ وَإِنْ كان شَرَطَ
عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ عِنْدَ الْإِحْصَارِ من غَيْرِ هَدْيٍ لَا
يَحِلُّ إلَّا بِالْهَدْيِ احْتَجَّ من قال بِالتَّحَلُّلِ من غَيْرِ هَدْيٍ بِمَا
رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حَلَّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ
عن احصاره بِغَيْرِ هَدْيٍ لِأَنَّ الْهَدْيَ الذي نَحَرَهُ كان هَدْيًا سَاقَهُ
لِعُمْرَتِهِ لَا لِإِحْصَارِهِ فَنَحَرَ هَدْيَهُ على النِّيَّةِ الْأُولَى
وَحَلَّ من إحْصَارِهِ بِغَيْرِ دَمٍ فَدَلَّ أَنَّ الْمُحْصَرَ يَحِلُّ بِغَيْرِ
هَدْيٍ يُحَقِّقُ ما قُلْنَا إنَّهُ ليس في حديث صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّهُ
نَحَرَ دَمَيْنِ وَإِنَّمَا نَحَرَ دَمًا وَاحِدًا وَلَوْ كان الْمُحْصَرُ لَا
يَحِلُّ إلَّا بِدَمٍ لَنَحَرَ دَمَيْنِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَنْقُولٍ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رؤوسكم حتى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ } مَعْنَاهُ حتى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَيُذْبَحَ نهى عز وجل عن
حَلْقِ الرَّأْسِ قبل ذَبْحِ الْهَدْيِ في مَحِلِّهِ وهو الْحَرَمُ من غَيْرِ
فَصْلٍ بين ما إذَا كان معه هَدْيٌ وَقْتَ الْإِحْصَارِ أَمْ لَا شَرَطَ
الْمُحْصَرُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ عِنْدَ الْإِحْصَارِ أو لم يَشْرِطْ
فَيَجْرِي على إطْلَاقِهِ وَلِأَنَّ شَرْعَ التَّحَلُّلِ ثَبَتَ بِطَرِيقِ
الرُّخْصَةِ لِمَا فيه من فَسْخِ الْإِحْرَامِ وَالْخُرُوجِ منه قبل أَوَانِهِ
فَكَانَ ثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ
بِالتَّحَلُّلِ بِالْهَدْيِ فَلَا يَثْبُتُ التَّحَلُّلُ بِدُونِهِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ فيه ما يَدُلُّ على أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم حَلَّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عن إحْصَارِهِ بِغَيْرِ هَدْيٍ إذْ لَا
يُتَوَهَّمُ على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ يَكُونَ حَلَّ من إحْصَارِهِ
بِغَيْرِ هَدْيٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُحْصَرَ أَنْ لَا يَحِلَّ حتى
يَنْحَرَ هَدْيَهُ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَلَكِنَّ وَجْهَ ذلك وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ وهو مَعْنَى الْمَرْوِيِّ في حديث صُلْحِ الحيبية ( ( ( الحديبية ) ) )
أَنَّهُ نَحَرَ دَمًا وَاحِدًا إن الْهَدْيَ الذي كان سَاقَهُ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم كان هَدْيَ مُتْعَةٍ أو قِرَانٍ فلما مُنِعَ عن الْبَيْتِ سَقَطَ عنه
دَمُ الْقِرَانِ فَجَازَ له أَنْ يَجْعَلَهُ من دَمِ الْإِحْصَارِ
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قُلْتُمْ أن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم صَرَفَ الْهَدْيَ عن
سَبِيلِهِ وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ من بَاعَ هَدِيَّةَ التَّطَوُّعِ فَهُوَ
مُسِيءٌ لِمَا أَنَّهُ صَرَفَهُ عن سَبِيلِهِ
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا مُشَابَهَةَ بين الْفَصْلَيْنِ لِأَنَّ الذي بَاعَهُ
صَرَفَهُ عن سَبِيلِ التَّقَرُّبِ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى رَأْسًا فَأَمَّا
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فلم يَصْرِفْ الْهَدْيَ عن سَبِيلِ التَّقَرُّبِ
أَصْلًا وَرَأْسًا بَلْ صَرَفَهُ إلَى ما هو أَفْضَلُ وهو الْوَاجِبُ وهو دَمُ
الْإِحْصَارِ وَمِمَّا يَدُلُّ على أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم جَعَلَ
الْهَدْيَ لِإِحْصَارِهِ ما رُوِيَ أَنَّهُ لم يَحْلِقْ حتى نَحَرَ هَدْيَهُ وقال
أَيُّهَا الناس إنحروا وَحِلُّوا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ وإذا لم يَتَحَلَّلْ
إلَّا بِالْهَدْيِ وَأَرَادَ التَّحَلُّلَ يَجِبُ أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ أو
ثَمَنَهُ ليشتري بِهِ الْهَدْيُ فَيُذْبَحُ عنه وَيَجِبُ أَنْ يُوَاعِدَهُمْ
يَوْمًا مَعْلُومًا يُذْبَحُ فيه فَيَحِلُّ بَعْدَ الذَّبْحِ وَلَا يَحِلُّ
قَبْلَهُ بَلْ يَحْرُمُ عليه كما يَحْرُمُ على الْمُحْرِمِ غَيْرِ الْمُحْصَرِ
فَلَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ وَلَا يَفْعَلُ شيئا من مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ حتى
يَكُونَ الْيَوْمُ الذي وَاعَدَهُمْ فيه وَيَعْلَمُ أَنَّ هَدْيَهُ قد ذُبِحَ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رؤوسكم حتى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ
} حتى لو فَعَلَ شيئا من مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ قبل ذَبْحِ الهدى يَجِبُ عليه
ما يَجِبُ على الْمُحْرِمِ إذَا لم يَكُنْ مُحْصَرًا
وَسَنَذْكُرُ ذلك إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في مَوْضِعِهِ حتى لو حَلَقَ قبل
الذَّبْحِ تَجِبُ عليه الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ حَلَقَ لِغَيْرِ عُذْرٍ أو لِعُذْرٍ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو بِهِ أَذًى من رَأْسِهِ
فَفِدْيَةٌ من صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ } أَيْ فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا
أو بِهِ أَذًى من رَأْسِهِ فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ من صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من
أَيَّامٍ أُخَرَ } أَيْ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ
وَعَنْ كَعْبِ بن عُجْرَةَ قال في نَزَلَتْ الْآيَةُ وَذَلِكَ أَنَّ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم مَرَّ بِي وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ على وَجْهِي
فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ فَقُلْت نعم يا رَسُولَ
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم إحلق وَأَطْعِمْ
سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ من حِنْطَةٍ أو صُمْ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ أو اُنْسُكْ نَسِيكَةً فَنَزَلَتْ الْآيَةُ وَالنُّسُكُ جَمْعُ نَسِيكَةٍ
وَالنَّسِيكَةُ الذَّبِيحَةُ وَالْمُرَادُ منه الشَّاةُ لِإِجْمَاعِ
الْمُسْلِمِينَ على أَنَّ الشَّاةَ مُجْزِئَةٌ في الْفِدْيَةِ
وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال
لِكَعْبِ بن عُجْرَةَ اُنْسُكْ شَاةً وإذا وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ عليه إذَا حَلَقَ
رَأْسَهُ لِأَذًى بِالنَّصِّ فَيَجِبُ عليه إذَا حَلَقَ لَا لِأَذًى بِدَلَالَةِ
النَّصِّ لِأَنَّ الْعُذْرَ سَبَبُ تَخْفِيفِ الْحُكْمِ في الْجُمْلَةِ فلما
وَجَبَ في حَالِ الضَّرُورَةِ فَفِي حَالِ الِاخْتِيَارِ
____________________
(2/178)
أَوْلَى
وَلَا يجزىء دَمُ الْفِدْيَةِ إلَّا في الْحَرَمِ كَدَمِ الْإِحْصَارِ وَدَمِ
الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ
وَأَمَّا الصَّدَقَةُ وَالصَّوْمُ فَإِنَّهُمَا يُجْزِيَانِ حَيْثُ شَاءَ وقال
الشَّافِعِيُّ لَا تجزىء الصَّدَقَةُ إلَّا بِمَكَّةَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْهَدْيَ يَخْتَصُّ بِمَكَّةَ فَكَذَا الصَّدَقَةُ
وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَهْلَ الْحَرَمِ يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَفِدْيَةٌ من صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ }
مُطْلَقًا عن الْمَكَانِ إلَّا أَنَّ النُّسُكَ قَيْدٌ بِالْمَكَانِ بِدَلِيلٍ
فَمَنْ ادَّعَى تَقْيِيدَ الصَّدَقَةِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَأَمَّا قَوْلُهُ
إنَّ الْهَدْيَ إنَّمَا اخْتَصَّ بِالْحَرَمِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ أَهْلُ الْحَرَمِ
فَكَذَا الصَّدَقَةُ فَنَقُولُ هذا الِاعْتِبَارُ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ
في أَنَّهُ لو ذَبَحَ الْهَدْيَ في غَيْرِ الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ في الْحَرَمِ
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَوْ ذَبَحَ في الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِهِ على غَيْرِ
أَهْلِ الْحَرَمِ يَجُوزُ وَالدَّلِيلُ على التَّفْرِقَةِ بين الْهَدْيِ
وَالْإِطْعَامِ أَنَّ من قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَهْدِيَ ليس له أَنْ يَذْبَحَ
إلَّا بِمَكَّةَ
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أو لِلَّهِ عَلَيَّ
عَشَرَةُ دَرَاهِمَ صَدَقَةً له أَنْ يُطْعِمَ وَيَتَصَدَّقَ حَيْثُ شَاءَ فَدَلَّ
على التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا وَلَوْ حَلَّ على ظَنِّ أَنَّهُ ذُبِحَ عنه ثُمَّ
تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يُذْبَحْ فَهُوَ مُحْرِمٌ كما كان لَا يَحِلُّ ما لم
يُذْبَحْ عنه لِعَدَمِ شَرْطِ الْحِلِّ وهو ذَبْحُ الْهَدْيِ وَعَلَيْهِ
لِإِحْلَالِهِ تَنَاوُلَ مَحْظُورِ إحْرَامِهِ دَمٌ لِأَنَّهُ جَنَى على
إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ كَفَّارَةً لِذَنْبِهِ ثُمَّ الْهَدْيُ بَدَنَةٌ
أو بَقَرَةٌ أو شَاةٌ وَأَدْنَاهُ شَاةٌ لِمَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّ الْهَدْيَ في
اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يهدي أَيْ يُبْعَثُ وَيُنْقَلُ وفي الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا
يهدي إلَى حرم ( ( ( الحرم ) ) ) وَكُلُّ ذلك مِمَّا يهدي إلَى الْحَرَمِ
وَالْأَفْضَلُ هو الْبَدَنَةُ ثُمَّ الْبَقَرَةُ لِمَا ذَكَرْنَا في
الْمُتَمَتِّعِ وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
لَمَّا أُحْصِرَ بالحديبة ( ( ( بالحديبية ) ) ) نَحَرَ الْبُدْنَ وكان يَخْتَارُ
من الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا وَإِنْ كان قَارِنًا لَا يَحِلُّ إلَّا بِدَمَيْنِ
عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحِلُّ بِدَمٍ وَاحِدٍ بِنَاءً على أَصْلٍ
ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ أن الْقَارِنَ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ فَلَا
يَحِلُّ إلَّا بِهَدْيَيْنِ وَعِنْدَهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ وَيَدْخُلُ
إحْرَامُ الْعُمْرَةِ في الْحَجَّةِ فَيَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ وَلَوْ بَعَثَ
الْقَارِنُ بِهَدْيَيْنِ ولم يُبَيِّنْ أَيُّهُمَا لِلْحَجِّ وَأَيُّهُمَا
لِلْعُمْرَةِ لم يَضُرَّهُ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَهُمَا وَاحِدٌ فَلَا يُشْتَرَطُ
فيه تَعْيِينُ النِّيَّةِ كَقَضَاءِ يَوْمَيْنِ من رَمَضَانَ
وَلَوْ بَعَثَ الْقَارِنُ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِيَتَحَلَّلَ من الْحَجِّ وَيَبْقَى
في إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لم يَتَحَلَّلْ من وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ تَحَلُّلَ
الْقَارِنِ من أَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِتَحَلُّلِهِ من الْآخَرِ
لِأَنَّ الْهَدْيَ بَدَلٌ عن الطَّوَافِ ثُمَّ لَا يَتَحَلَّلُ بِأَحَدِ
الطَّوَافَيْنِ عن أَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ فَكَذَا بِأَحَدِ الْهَدْيَيْنِ وَلَوْ
كان أَحْرَمَ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَنْوِي حَجَّةً وَلَا عُمْرَةً ثُمَّ أُحْصِرَ
يَحِلُّ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الْإِحْرَامَ
بِالْمَجْهُولِ صَحِيحٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وكان الْبَيَانُ إلَيْهِ
إنْ شَاءَ صَرَفَهُ إلَى الْحَجِّ وَإِنْ شَاءَ إلَى الْعُمْرَةِ لِأَنَّهُ هو
الْمُجْمِلُ فَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ كما في الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَتَعَيَّنَ الْعُمْرَةُ بِالْإِحْصَارِ لِعَدَمِ
التَّعْيِينِ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا لِأَنَّ ذلك أَنْ يَأْخُذَ في عَمَلِ
أَحَدِهِمَا ولم يُوجَدْ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَقَالُوا تَتَعَيَّنُ
الْعُمْرَةُ بِالْإِحْصَارِ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ أَقَلُّهُمَا وهو مُتَيَقِّنٌ
وَلَوْ كان أَحْرَمَ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ وَسَمَّاهُ ثُمَّ نَسِيَهُ وَأُحْصِرَ
يَحِلُّ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ إما الْحِلُّ بِهَدْيٍ
وَاحِدٍ فَلِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ وَأَيُّهُمَا كان فإنه يَقَعُ
التَّحَلُّلُ منه بِدَمٍ وَاحِدٍ وإما لُزُومُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ فَلِأَنَّهُ
يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان قد أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ وَيُحْتَمَلُ بِعُمْرَةٍ فَإِنْ كان
إحْرَامُهُ بِحَجَّةٍ فَالْعُمْرَةُ لَا تَنُوبُ مَنَابَهَا وَإِنْ كان بِالْعُمْرَةِ
فَالْحَجَّةُ لَا تَنُوبُ مَنَابَهَا فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا
احْتِيَاطًا لِيُسْقِطَ الْفَرْضَ عن نَفْسِهِ بِيَقِينٍ كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً من
الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَنَّهُ يَجِبُ عليه إعَادَةُ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لِيُسْقِطَ
الْفَرْضَ عن نَفْسِهِ بِيَقِينٍ كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ إنْ لم يُحْصَرْ وَوَصَلَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وعمر ة وَيَكُونُ عليه ما
على الْقَارِنِ لِأَنَّهُ جَمَعَ بين الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ على طَرِيقِ
النُّسُكِ وَأَمَّا مَكَانُ ذَبْحِ الْهَدْيِ فَالْحَرَمُ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ أَنْ يَذْبَحَ في الْمَوْضِعِ الذي أُحْصِرَ فيه
احْتَجَّ لما ( ( ( بما ) ) ) رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
نَحَرَ الْهَدْيَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ولم يَبْلُغْنَا أَنَّهُ نَحَرَ في
الْحَرَمِ وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ ثَبَتَ رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا
وَذَلِكَ في الذَّبْحِ في أَيِّ مَوْضِعٍ كان
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رؤوسكم حتى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ } وَلَوْ كان كُلُّ مَوْضِعٍ مَحِلًّا له لم يَكُنْ لِذِكْرِ الْمَحِلِّ
فَائِدَةٌ وَلِأَنَّهُ عز وجل قال ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
أَيْ إلَى الْبُقْعَةِ التي فيها الْبَيْتُ بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى {
وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } إن الْمُرَادَ منه نَفْسُ الْبَيْتِ
لِأَنَّ هُنَاكَ ذَكَرَ بِالْبَيْتِ وَهَهُنَا ذَكَرَ إلَى الْبَيْتِ وَأَمَّا ما
رُوِيَ من الحديث فَقَدْ رُوِيَ في رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ نَحَرَ هَدْيَهُ
عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ في الْحَرَمِ فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَاتُ فلم يَصِحَّ
الِاحْتِجَاجُ بِهِ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم نَزَلَ الْحُدَيْبِيَةَ فَحَالَ الْمُشْرِكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دُخُولِ
مَكَّةَ فَجَاءَ
____________________
(2/179)
سُهَيْلُ
بن عَمْرٍو يَعْرِضُ عليه الصُّلْحَ وَأَنْ يَسُوقَ الْبُدْنَ وَيَنْحَرَ حَيْثُ
شَاءَ فَصَالَحَهُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ
يَنْحَرَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بُدْنَهُ في الْحِلِّ مع إمْكَانِ
النَّحْرِ في الْحَرَمِ وهو بِقُرْبِ الْحَرَمِ بَلْ هو فيه وَرُوِيَ عن مَرْوَانَ
وَالْمِسْوَرِ بن مَخْرَمَةَ قَالَا نَزَلَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
بِالْحُدَيْبِيَةِ في الْحِلِّ وكان يُصَلِّي في الْحَرَمِ فَهَذَا يَدُلُّ على
أَنَّهُ كان قَادِرًا على أَنْ يَنْحَرَ بُدْنَهُ في الْحَرَمِ حَيْثُ كان
يُصَلِّي في الْحَرَمِ وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَتْرُكَ نَحْرَ الْبُدْنِ في
الْحَرَمِ وَلَهُ سَبِيلُ النَّحْرِ في الْحَرَمِ وَلِأَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ
مَكَانٌ يَجْمَعُ الْحِلَّ وَالْحَرَمَ جميعا فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْحَرَ في
الْحِلِّ مع كَوْنِهِ قَادِرًا على النَّحْرِ في الْحَرَمِ وَلَوْ حَلَّ من
إحْرَامِهِ على ظَنِّ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا عنه في الْحَرَمِ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُمْ
ذَبَحُوا في غَيْرِ الْحَرَمِ فَهُوَ على إحْرَامِهِ وَلَا يَحِلُّ منه إلَّا
بِذَبْحِ الْهَدْيِ في الْحَرَمِ لِفَقْدِ شَرْطِ التَّحَلُّلِ وهو الذَّبْحُ في
الْحَرَمِ فَبَقِيَ مُحْرِمًا كما كان وَعَلَيْهِ لِإِحْلَالِهِ في تَنَاوُلِهِ
مَحْظُورَاتِ إحْرَامِهِ دَمٌ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ لو بَعَثَ الْهَدْيَ وَوَاعَدَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوا عنه في الْحَرَمِ
في يَوْمٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ حَلَّ من إحْرَامِهِ على ظَنِّ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا عنه
فيه ثُمَّ تَبَيَّنَ إنهم لم يَذْبَحُوا فإنه يَكُونُ مُحْرِمًا لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ بَعَثَ هَدْيَيْنِ وهو مُفْرِدٌ فإنه يَحِلُّ من إحْرَامِهِ بِذَبْحِ
الْأَوَّلِ مِنْهُمَا وَيَكُونُ الأخر تَطَوُّعًا لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِلِّ
عِنْدَ وُجُودِ ذَبْحِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا وَلَوْ كان قَارِنًا لَا يَحِلُّ إلَّا
بِذَبْحِهِمَا وَلَا يَحِلُّ بِذَبْحِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِلِّ في
حَقِّهِ الزَّمَانُ فما لم يوجد ( ( ( يوجدا ) ) ) إلا يَحِلُّ وَلَوْ أَرَادَ
أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ فلم يَجِدْ هَدْيًا يَبْعَثُ وَلَا ثَمَنَهُ هل
يَحِلُّ بِالصَّوْمِ وَيَكُونُ الصَّوْمُ بَدَلًا عنه
قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَحِلُّ بِالصَّوْمِ وَلَيْسَ الصَّوْمُ
بَدَلًا عن هَدْيِ الْمُحْصَرِ وهو ظَاهِرُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَيُقِيمُ حَرَامًا
حتى يُذْبَحَ الْهَدْيُ عنه في الْحَرَمِ أو يَذْهَبَ إلَى مَكَّةَ فَيَحِلُّ من
إحْرَامِهِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وهو الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيُ بين
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَيَحْلِقُ أو يُقَصِّرُ كما يَفْعَلُهُ إذَا فَاتَهُ
الْحَجُّ وهو أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ
وقال عَطَاءُ بن أبي رَبَاحٍ في الْمُحْصَرِ لَا يَجِدُ الْهَدْيَ قَوَّمَ
الْهَدْيَ طَعَامًا وَتَصَدَّقَ بِهِ على الْمَسَاكِينِ فَإِنْ لم يَكُنْ عِنْدَهُ
طَعَامٌ صَامَ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا وهو مَرْوِيٌّ عن أبي يُوسُفَ
وقال الشَّافِعِيُّ في قَوْلِ أن الْهَدْيَ لِلْإِحْصَارِ بَدَلًا وَاخْتَلَفَ
قَوْلُهُ في مَاهِيَّةِ الْبَدَلِ فقال في قَوْلِ الْبَدَلُ هو الصَّوْمُ مِثْلَ
صَوْمِ الْمُتْعَةِ وفي قَوْلِ الْبَدَلُ هو الْإِطْعَامُ وَهَلْ يَقُومُ
الصَّوْمُ مَقَامَهُ له فيه قَوْلَانِ وَجْهُ قَوْلِ من قال إنَّ له بَدَلًا أَنَّ
هذا دَمٌ يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ له بَدَلٌ كَدَمِ
الْمُتْعَةِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رؤوسكم حتى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ } أَيْ حتى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَيُذْبَحُ نهى اللَّهُ عن
حَلْقِ الرَّأْسِ مَمْدُودًا إلَى غَايَةِ ذَبْحِ الْهَدْيِ وَالْحُكْمُ
الْمَمْدُودُ إلَى غَايَةٍ لَا يَنْتَهِي قبل وُجُودِ الْغَايَةِ فَيَقْتَضِي أَنْ
لَا يتحصل ( ( ( يتحلل ) ) ) ما لم يَذْبَحْ الْهَدْيَ سَوَاءٌ صَامَ أو أَطْعَمَ
أولا وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالدَّمِ قبل إتْمَامِ موجب ( ( ( مواجب ) ) )
الْإِحْرَامِ عُرِفَ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يحوز ( ( ( يجوز ) ) )
إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ بِالرَّأْيِ
وَأَمَّا الْحَلْقُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِلتَّحَلُّلِ وَيَحِلُّ الْمُحْصَرُ
بِالذَّبْحِ بِدُونِ الْحَلْقِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِنْ حَلَقَ
فَحَسَنٌ
وقال أبو يُوسُفَ أَرَى عليه أَنْ يَحْلِقَ فَإِنْ لم يَفْعَلْ فَلَا شَيْءَ عليه
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال هو وَاجِبٌ لَا يَسَعُهُ تَرْكُهُ وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ
وقال إنَّمَا لَا يَجِبُ الْحَلْقُ عِنْدَهُمَا إذَا أُحْصِرَ في الْحِلِّ لِأَنَّ
الْحَلْقَ يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ فَأَمَّا إذَا أُحْصِرَ في الْحَرَمِ يَجِبُ
الْحَلْقُ عِنْدَهُمَا
احْتَجَّ أبو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
حَلَقَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْحَلْقِ
فَدَلَّ أَنَّ الْحَلْقَ وَاجِبٌ
وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ }
مَعْنَاهُ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ وَأَرَدْتُمْ أَنْ تَحِلُّوا فإذبحوا ما
اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ جَعَلَ ذَبْحَ الْهَدْيِ في حَقِّ الْمُحْصَرِ إذَا
أَرَادَ الْحِلَّ كُلٌّ مُوجِبٌ الْإِحْصَارَ فَمَنْ أَوْجَبَ الْحَلْقَ فَقَدْ
جَعَلَهُ بَعْضَ الْمُوجِبِ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَلِأَنَّ الْحَلْقَ
لِلتَّحَلُّلِ عن أَفْعَالِ الْحَجِّ وَالْمُحْصَرُ لَا يَأْتِي بِأَفْعَالِ
الْحَجِّ فَلَا حَلْقَ عليه
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَعَلَى ما ذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ لَا حُجَّةَ فيه لِأَنَّ
الْحُدَيْبِيَةَ بَعْضُهَا في الْحِلِّ وَبَعْضُهَا في الْحَرَمِ فَيُحْتَمَلُ
أَنَّهُ أُحْصِرَ في الْحَرَمِ فَأُمِرَ بِالْحَلْقِ
وَأَمَّا على جَوَابِ الْمَذْكُورِ في الْأَصْلِ فَهُوَ مَحْمُولٌ على النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ
وَأَمَّا زَمَانُ ذَبْحِ الْهَدْيِ فَمُطْلَقُ الْوَقْتِ لَا يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ
النَّحْرِ سَوَاءٌ كان الْإِحْصَارُ عن الْحَجِّ أو عن الْعُمْرَةِ
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إنَّ الْمُحْصَرَ عن الْحَجِّ لَا يُذْبَحُ عنه
إلَّا في أَيَّامِ النَّحْرِ لَا يَجُوزُ في غَيْرِهَا وَلَا خِلَافَ في
الْمُحْصَرِ عن الْعُمْرَةِ إنه يُذْبَحُ عنه في أَيِّ وَقْتٍ كان وَجْهُ
قَوْلِهِمَا أن هذا الدَّمَ سَبَبٌ لِلتَّحَلُّلِ من إحْرَامِ الْحَجِّ
فَيَخْتَصُّ بِزَمَانِ التَّحَلُّلِ كَالْحَلْقِ بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ فإن
التَّحَلُّلَ من إحْرَامِهَا بِالْحَلْقِ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ فَكَذَا
____________________
(2/180)
بِالْهَدْيِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّحَلُّلَ من الْمُحْصَرِ تَحَلُّلٌ قبل أَوَانِ
التَّحَلُّلِ يُبَاحُ لِضَرُورَةِ دَفْعِ الضَّرَرِ بِبَقَائِهِ مُحْرِمًا
رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا فَلَا يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ كَالطَّوَافِ الذي
يَتَحَلَّلُ بِهِ فَائِتُ الْحَجِّ إذْ الْمُحْصَرُ فَائِتُ الْحَجِّ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
وَأَمَّا حُكْمُ التَّحَلُّلِ فَصَيْرُورَتُهُ حَلَالًا يُبَاحُ له تَنَاوُلُ
جَمِيعِ ما حَظَرَهُ الْإِحْرَامُ لِارْتِفَاعِ الْحَاظِرِ فَيَعُودُ حَلَالًا كما
كان قبل الْإِحْرَامِ وَأَمَّا الذي يَتَحَلَّلُ بِهِ بِغَيْرِ ذَبْحِ الْهَدْيِ
فَكُلُّ مُحْصَرٍ مُنِعَ عن الْمُضِيِّ في مُوجِبِ الْإِحْرَامِ شَرْعًا لَحِقَ
الْعَبْدَ كَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ الْمَمْنُوعَيْنِ شَرْعًا لِحَقِّ الزَّوْجِ
وَالْمَوْلَى بِأَنْ أَحْرَمَتْ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا أو أَحْرَمَ
الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَلِلزَّوْجِ وَالْمَوْلَى أَنْ
يُحَلِّلَهُمَا في الْحَالِ من غَيْرِ ذَبْحِ الْهَدْيِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ في
هذا في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في جَوَازِ هذا النَّوْعِ من التَّحَلُّلِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَتَحَلَّلُ بِهِ
أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِ الْمَرْأَةِ حَقُّ الزَّوْجِ
وَمِلْكُهُ عليها فَيَحْتَاجُ إلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذلك مع
قِيَامِ الْإِحْرَامِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّحَلُّلِ وَلَا سَبِيلَ إلَى
تَوْقِيفِهِ على ذَبْحِ الْهَدْيِ في الْحَرَمِ لِمَا فيه من إبْطَالِ حَقِّهِ
لِلْحَالِ فَكَانَ له أَنْ يُحَلِّلَهَا لِلْحَالِ وَعَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ
تَبْعَثَ الْهَدْيَ أو ثَمَنَهُ إلَى الْحَرَمِ لِيُذْبَحَ عنها لِأَنَّهَا
تَحَلَّلَتْ بِغَيْرِ طَوَافٍ وَعَلَيْهَا حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ كما على الرَّجُلِ
الْمُحْصَرِ إذَا تَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ بِخِلَافِ ما إذَا أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ
الْإِسْلَامِ وَلَا زَوْجَ لها وَلَا مَحْرَمَ أو كان لها زَوْجٌ أو مَحْرَمٌ
فَمَاتَ إنها لَا تَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ لِأَنَّ الْمَنْعَ هُنَاكَ
لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِحَقِّ الْعَبْدِ فَكَانَ تَحَلُّلُهَا جَائِزًا
لاحقا مُسْتَحَقًّا عليها لِأَحَدٍ أَلَا تَرَى أن لها أَنْ تَبْقَى على
إحْرَامِهَا ما لم تَجِدْ مَحْرَمًا أو زَوْجًا فَكَانَ تَحَلُّلُهَا بِمَا هو
الْمَوْضُوعُ لِلتَّحَلُّلِ في الْأَصْلِ وهو ذَبْحُ الْهَدْيِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَكَذَا الْعَبْدُ بِمَنَافِعِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى فَيَحْتَاجُ إلَى تَصْرِيفِهِ
في وُجُوهِ مَصَالِحِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذلك مع قِيَامِ الْإِحْرَامِ فَيَحْتَاجُ
إلَى التَّحَلُّلِ في الْحَالِ لِمَا فيه من التَّوْقِيفِ على ذَبْحِ الْهَدْيِ في
الْحَرَمِ من تَعْطِيلِ مَصَالِحِهِ فَيُحَلِّلُهُ الْمَوْلَى لِلْحَالِ
وَعَلَى الْعَبْدِ إذَا عَتَقَ هَدْيُ الْإِحْصَارِ وَقَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ
لِأَنَّ الْحَجَّ وَجَبَ عليه بِالشُّرُوعِ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا أَهْلًا إلَّا
أَنَّهُ تَعَذَّرَ عليه الْمُضِيُّ لِحَقِّ الْمَوْلَى فإذا عَتَقَ زَالَ حَقُّهُ
وَتَجِبُ عليه الْعُمْرَةُ لِفَوَاتِ الْحَجِّ في عَامِهِ ذلك وَلَوْ كان أَحْرَمَ
الْعَبْدُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ يُكْرَهُ لِلْمَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهُ بَعْدَ ذلك
لِأَنَّهُ رُجُوعٌ عَمَّا وَعَدَ وَخُلْفٌ في الْوَعْدِ فَيُكْرَهُ وَلَوْ
حَلَّلَهُ جَازَ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِمَنَافِعِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ وَزُفَرَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَذِنَ لِلْعَبْدِ في
الْحَجِّ ليس له أَنْ يُحَلِّلَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ له فَقَدْ أَسْقَطَ
حَقَّهُ بِالْإِذْنِ فَأَشْبَهَ الْحُرَّ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْمُحَلِّلَ بَعْدَ الْإِذْنِ قَائِمٌ وهو الْمِلْكُ إلَّا
أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا قُلْنَا وإذا حَلَّلَهُ لَا هَدْيَ عليه لِأَنَّ
الْمَوْلَى لَا يَجِبُ عليه لِعَبْدِهِ شَيْءٌ
وَلَوْ أُحْصِرَ الْعَبْدُ بعدما أَحْرَمَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى ذَكَرَ
الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ
الْمَوْلَى إنْفَاذُ هَدْيٍ لِأَنَّهُ لو لَزِمَهُ لَلَزِمَهُ لِحَقِّ الْعَبْدِ
وَلَا يَجِبُ لِلْعَبْدِ على مَوْلَاهُ حَقٌّ فَإِنْ أَعْتَقَهُ وَجَبَ عليه أَنْ
يَبْعَثَ الْهَدْيَ لِأَنَّهُ إذَا أُعْتِقَ صَارَ مِمَّنْ يُثْبَتُ له عليه حَقٌّ
فَصَارَ كَالْحُرِّ إذَا حَجَّ عن غَيْرِهِ فَأُحْصِرَ أَنَّهُ يَجِبُ على
الْمَحْجُوجِ عنه أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ على الْمَوْلَى
أَنْ يَذْبَحَ عنه هَدْيًا في الْحَرَمِ فَيَحِلَّ لِأَنَّ هذا الدَّمَ وَجَبَ
لِبَلِيَّةٍ اُبْتُلِيَ بها الْعَبْدُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ
النَّفَقَةِ وَالنَّفَقَةُ على الْمَوْلَى وَكَذَا دَمُ الْإِحْصَارِ وَلِهَذَا
كان دَمُ الْإِحْصَارِ في مَالِ الْمَيِّتِ إذَا أُحْصِرَ الْحَاجُّ عن الْمَيِّتِ
لَا عليه كَذَا هذا
وَلَوْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ أو الْأَمَةُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى ثُمَّ بَاعَهُمَا
يَجُوزُ الْبَيْعُ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْنَعَهُمَا وَيُحَلِّلَهُمَا في قَوْلِ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وفي قَوْلِ زُفَرَ ليس له ذلك وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا
بِالْعَيْبِ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الْمَرْأَةُ إذَا أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ
التَّطَوُّعِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا وَعِنْدَ زُفَرَ
ليس له ذلك كَذَا حَكَى الْقَاضِي الْخِلَافَ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ الْخِلَافَ بين أبي
يُوسُفَ وَزُفَرَ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الذي انْتَقَلَ إلَى الْمُشْتَرِي هو
ما كان لِلْبَائِعِ ولم يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يُحَلِّلَهُ عِنْدَهُ لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ بِالْإِذْنِ كَذَا الْمُشْتَرِي
وَلَنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ لم يَقَعْ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي فَصَارَ كَأَنَّهُ
أَحْرَمَ في مِلْكِهِ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَوْ كان كَذَلِكَ كان له
أَنْ يُحَلِّلَهُ كَذَا هذا
وقال مُحَمَّدٌ إذَا أَذِنَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ في الْحَجِّ ثُمَّ بَاعَهُ لَا
أَكْرَهُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَهُ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ في حَقِّ
الْبَائِعِ لِمَا فيه من خَلْفِ الْوَعْدِ ولم يُوجَدْ ذلك من الْمُشْتَرِي وروي
ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في أَمَةٍ لها زَوْجٌ أَذِنَ لها مَوْلَاهَا في
الْحَجِّ فَأَحْرَمَتْ ليس لِزَوْجِهَا أَنْ يُحَلِّلَهَا لِأَنَّ التَّحَلُّلَ
إنَّمَا ثَبَتَ لِلزَّوْجِ بِمَنْعِهَا من السَّفَرِ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ منها
وَمَنْعُ الْأَمَةِ من السَّفَرِ إلَى مَوْلَاهَا دُونَ الزَّوْجِ أَلَا تَرَى أَنَّ
الْمَوْلَى
____________________
(2/181)
لو
سَافَرَ بها لم يَكُنْ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا فَكَذَا إذَا أَذِنَ لها في السَّفَرِ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَتَحَلَّلُ بِهِ فَالتَّحَلُّلُ عن هذا النَّوْعِ من
الْإِحْصَارِ يَقَعُ بِفِعْلِ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى أَدْنَى مَحْظُورَاتِ
الْإِحْرَامِ من قَصِّ ظُفْرِهِمَا أو تَطْيِيبِهِمَا أو بِفِعْلِهِمَا ذلك
بِأَمْرِ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى أو بِامْتِشَاطِ الزَّوْجَةِ رَأْسَهَا بِأَمْرِ
الزَّوْجِ أو تَقْبِيلِهَا أو مُعَانَقَتِهَا فَتَحِلُّ بِذَلِكَ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال
لِعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها حين حَاضَتْ في الْعُمْرَةِ امْتَشِطِي وَارْفُضِي
عَنْك الْعُمْرَةَ وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ صَارَ حَقًّا عَلَيْهِمَا لِلزَّوْجِ
وَالْمَوْلَى فَجَازَ بِمُبَاشَرَتِهِمَا أَدْنَى ما يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ
وَلَا يَكُونُ التَّحَلُّلُ بِقَوْلِهِ حَلَلْتُكِ لِأَنَّ هذا تَحْلِيلٌ من
الْإِحْرَامِ فَلَا يَقَعُ بِالْقَوْلِ كَالرَّجُلِ الْحُرِّ إذَا أُحْصِرَ فقال
حَلَلْت نَفْسِي
وَأَمَّا وُجُوبُ قَضَاءِ ما أَحْرَمَ بِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ فَجُمْلَةُ
الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمُحْصَرَ لَا يَخْلُو إمَّا إن كان أَحْرَمَ بِالْحَجَّةِ
لَا غَيْرُ وَإِمَّا إن كان أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ لَا غَيْرُ وَإِمَّا إن كان
أَحْرَمَ بِهِمَا بِأَنْ كان قَارِنًا فَإِنْ كان أَحْرَمَ بِالْحِجَّةِ لَا
غَيْرُ فَإِنْ بَقِيَ وَقْتُ الْحَجِّ عِنْدَ زَوَالِ الْإِحْصَارِ وَأَرَادَ أَنْ
يَحُجَّ من عَامِهِ ذلك أَحْرَمَ وَحَجَّ وَلَيْسَ عليه نِيَّةُ الْقَضَاءِ وَلَا
عُمْرَةَ عليه كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ
وَذَكَرَ ابن أبي مَالِكٍ عن أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ وَعَلَيْهِ دَمٌ
لِرَفْضِ الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ وَإِنْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ فَعَلَيْهِ
قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَلَا تَسْقُطُ عنه تِلْكَ الْحَجَّةُ إلَّا بِنِيَّةِ
الْقَضَاءِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ عليه قَضَاءَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ في
الْوَجْهَيْنِ جميعا وَعَلَيْهِ نِيَّةُ الْقَضَاءِ فِيهِمَا وهو قَوْلُ زُفَرَ
ذَكَرَهُ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ وَعَلَى هذا
التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ ما إذَا أَحْرَمَتْ الْمَرْأَةُ بِحَجَّةِ
التَّطَوُّعِ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا فَمَنَعَهَا زَوْجُهَا فَحَلَّلَهَا ثُمَّ
أَذِنَ لها بِالْإِحْرَامِ فَأَحْرَمَتْ في عَامِهَا ذلك أو تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ
فَأَحْرَمَتْ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ ما تَحُجُّهُ في هذا الْعَامِ دخل في حَدِّ الْقَضَاءِ
لِأَنَّهُ يؤدي بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ لِانْفِسَاخِ الْأَوَّلِ بِالتَّحَلُّلِ
فَيَكُونُ قَضَاءً فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ وَعَلَيْهِ
حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ كما لو تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ
وَلَنَا أَنَّ الْقَضَاءَ اسْمٌ لِلْفَائِتِ عن الْوَقْتِ وَوَقْتُ الْحَجِّ بَاقٍ
فَكَانَ فعل الْحَجُّ فيه أَدَاءً لَا قَضَاءً فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةِ
الْقَضَاءِ وَلَا تَلْزَمُهُ الْعُمْرَةُ لِأَنَّ لُزُومَهَا لِفَوَاتِ الْحَجِّ
في عَامِهِ ذلك ولم يَفُتْ
وقال الشَّافِعِيُّ عليه قَضَاءُ حَجَّةٍ لَا غَيْرُ وَإِنْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قال حَجَّةٌ بِحَجَّةٍ
وَعُمْرَةٌ بِعُمْرَةٍ وهو المعنى له في الْمَسْأَلَةِ أن الْقَضَاءَ يَكُونُ
مِثْلَ الْفَائِتِ وَالْفَائِتُ هو الْحَجَّةُ لَا غَيْرُ فَمِثْلُهَا الْحَجَّةُ
لَا غَيْرُ
وَرَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من كُسِرَ أو
عَرِجَ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ من قَابِلٍ ولم يذكر الْعُمْرَةَ وَلَوْ كانت
وَاجِبَةً لَذَكَرَهَا
وَلَنَا الْأَثَرُ وَالنَّظَرُ أَمَّا الْأَثَرُ فما رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ
وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا في الْمُحْصَرِ بِحَجَّةٍ
يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ
وَأَمَّا النَّظَرُ فَلِأَنَّ الْحَجَّ قد وَجَبَ عليه بِالشُّرُوعِ ولم يَمْضِ
فيه بَلْ فَاتَهُ في عَامِهِ ذلك وَفَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ
الْعُمْرَةِ
فَإِنْ قِيلَ فَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِالطَّوَافِ لَا بِالدَّمِ
وَالْمُحْصَرُ قد حَلَّ بِالدَّمِ وَقَامَ الدَّمُ مَقَامَ الطَّوَافِ من الذي
يَفُوتُهُ الْحَجُّ فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ طَوَافٌ آخَرُ
فَالْجَوَابُ أَنَّ الدَّمَ الذي حَلَّ بِهِ الْمُحْصَرُ ما وَجَبَ بَدَلًا عن
الطَّوَافِ لِيُقَالَ أنه قام مَقَامَ الطَّوَافِ فَلَا يَجِبُ عليه طَوَافٌ آخَرُ
وَإِنَّمَا وَجَبَ لِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ لِأَنَّ الْمُحْصَرَ لو لم يَبْعَثْ
هَدْيًا لَبَقِيَ على إحْرَامِهِ مُدَّةً مَدِيدَةً وَفِيهِ حَرَجٌ وَضَرَرٌ
فَجَعَلَ له أَنْ يَتَعَجَّلَ الْخُرُوجَ من إحْرَامِهِ وَيُؤَخِّرَ الطَّوَافَ
الذي لَزِمَهُ بِدَمٍ يُهَرِيقهُ فَحَلَّ بِالدَّمِ ولم يَبْطُلْ الطَّوَافُ وإذا
لم يُبْطِلْ الدَّمُ عنه الطَّوَافَ ولم يُجْعَلْ بَدَلًا عنه فَعَلَيْهِ أَنْ
يَأْتِيَ بِهِ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ فَيَكُونَ ذلك عُمْرَةً وَالدَّلِيلُ على أَنَّ
دَمَ الْإِحْصَارِ ما وَجَبَ بَدَلًا عن الطَّوَافِ الذي يَتَحَلَّلُ بِهِ فَائِتٌ
الحج ( ( ( لحج ) ) ) أَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ لو أَرَادَ أَنْ يَفْسَخَ الطَّوَافَ
الذي لَزِمَهُ بِدَمٍ يُرِيقُهُ بَدَلًا عنه ليس له ذلك بِالْإِجْمَاعِ فَثَبَتَ
أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ لِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ بِهِ لَا بَدَلًا عن الطَّوَافِ
فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنِّهِ
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما إنْ ثَبَتَ فَهُوَ تَمَسُّكٌ
بِالْمَسْكُوتِ لِأَنَّ قَوْلَهُ حَجَّةٌ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٌ بِعُمْرَةٍ
يَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَجَّةِ بِالْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ بِالْعُمْرَةِ وَهَذَا
لَا يَنْفِي وُجُوبَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجَّةِ بِالْحَجَّةِ وَلَا يَقْتَضِي
أَيْضًا فَكَانَ مَسْكُوتًا عنه فَيَقِفُ على قِيَامِ الدَّلِيلِ وقد قام دَلِيلُ
الْوُجُوبِ وهو ما ذَكَرْنَا وهو كَقَوْلِهِ تَعَالَى { الْحُرُّ بِالْحُرِّ
وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } أَنَّهُ لَا يَنْفِي قَتْلَ
الْحُرِّ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالذَّكَرِ بِالْإِجْمَاعِ
كَذَا هذا
وَيُحْمَلُ على فَائِتِ الْحَجِّ وهو الذي لم يُدْرِكْ الْوُقُوفَ بعرفة بِدَلِيلِ
أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ من
قَابِلٍ وَلَا عُمْرَةَ عليه
وَإِنْ كان إحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ لَا غَيْرُ قَضَاهَا لِوُجُوبِهَا
بِالشُّرُوعِ في أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ لِأَنَّهُ ليس لها وَقْتٌ
____________________
(2/182)
مُعَيَّنٌ
وَإِنْ كان أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجَّةِ إنْ كان قَارِنًا فَعَلَيْهِ
قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَتَيْنِ
أَمَّا قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ فَلِوُجُوبِهِمَا بِالشُّرُوعِ وَأَمَّا
عُمْرَةٌ أُخْرَى فَلِفَوَاتِ الْحَجِّ في عَامِهِ ذلك
وَهَذَا على أَصْلِنَا
فَأَمَّا على أَصْلِ الشَّافِعِيِّ فَلَيْسَ عليه إلَّا حَجَّةٌ بِنَاءً على
أَصْلِهِ أَنَّ الْقَارِنَ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ وَيَدْخُلُ إحْرَامُ
الْعُمْرَةِ في الْحَجَّةِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ
وَالْمُفْرِدُ بِالْحَجِّ إذَا أحضر ( ( ( أحصر ) ) ) لَا يَجِبُ عليه إلَّا
قَضَاءُ حَجَّةٍ عِنْدَهُ فَكَذَا الْقَارِنُ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَأَمَّا حُكْمُ زَوَالِ الْإِحْصَارِ فَالْإِحْصَارُ إذَا زَالَ لَا يَخْلُو من
أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إن زَالَ قبل بَعْثِ الْهَدْيِ أو بعدما بَعَثَ فَإِنْ
زَالَ قبل أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ مَضَى على مُوجِبِ إحْرَامِهِ وَإِنْ كان قد
بَعَثَ الْهَدْيَ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ فَهَذَا لَا يَخْلُو من أَرْبَعَةِ
أَوْجُهٍ إمَّا إن كان يَقْدِرُ على إدْرَاكِ الْهَدْيِ وَالْحَجِّ أو لَا
يَقْدِرُ على إدْرَاكِهِمَا جميعا أو يَقْدِرُ على إدْرَاكِ الْهَدْيِ دُونَ
الْحَجِّ أو يَقْدِرُ على إدْرَاكِ الْحَجِّ دُونَ الْهَدْيِ
فَإِنْ كان يَقْدِرُ على إدْرَاكِ الْهَدْيِ وَالْحَجِّ لم يَجُزْ له التَّحَلُّلُ
وَيَجِبُ عليه الْمُضِيُّ فإن إبَاحَةَ التَّحَلُّلِ لِعُذْرِ الْإِحْصَارِ
وَالْعُذْرُ قد زَالَ
وَإِنْ كان لَا يَقْدِرُ على إدْرَاكِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لم يَلْزَمْهُ الْمُضِيُّ
وَجَازَ له التَّحَلُّلُ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ في الْمُضِيِّ فَتَقَرَّرَ
الْإِحْصَارُ فَيَتَقَرَّرُ حُكْمُهُ
وَإِنْ كان يَقْدِرُ على إدْرَاكِ الْهَدْيِ وَلَا يَقْدِرُ على إدْرَاكِ الْحَجِّ
لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ أَيْضًا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ في إدْرَاكِ الْهَدْيِ
دُونَ إدْرَاكِ الْحَجِّ إذْ الذَّهَابُ لِأَجْلِ إدْرَاكِ الْحَجِّ فإذا كان لَا
يُدْرِكُ الْحَجَّ فَلَا فَائِدَةَ في الذَّهَابِ فَكَانَتْ قُدْرَتُهُ على
إدْرَاكِ الْهَدْيِ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ
وَإِنْ كان يَقْدِرُ على إدْرَاكِ الْحَجِّ وَلَا يَقْدِرُ على إدْرَاكِ الْهَدْيِ
قِيلَ إنَّ هذا الْوَجْهَ الرَّابِعَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ على مَذْهَبِ أبي
حَنِيفَةَ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَهُ لَا يَتَوَقَّفُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ
بَلْ يَجُوزُ قَبْلَهَا فَيُتَصَوَّرُ إدْرَاكُ الْحَجِّ دُونَ إدْرَاكِ الْهَدْيِ
فَأَمَّا على مَذْهَبِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ هذا الْوَجْهُ
إلَّا في الْمُحْصَرِ عن الْعُمْرَةِ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَهُمَا
مُؤَقَّتٌ بِأَيَّامِ النَّحْرِ فإذا أَدْرَكَ الْحَجَّ فَقَدْ أَدْرَكَ الْهَدْيَ
ضَرُورَةً وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمَا في الْمُحْصَرِ عن الْعُمْرَةِ
لِأَنَّ الْإِحْصَارَ عنها لَا يَتَوَقَّتُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ بِلَا خِلَافٍ
وإذا عُرِفَ هذا فَقِيَاسُ مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ في هذا الْوَجْهِ أَنَّهُ
يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ وَلَا يَجُوزُ له التَّحَلُّلُ لِأَنَّهُ إذَا قَدَرَ على
إدْرَاكِ الْحَجِّ لم يَعْجِزْ عن الْمُضِيِّ في الْحَجِّ فلم يُوجَدْ عُذْرُ
الْإِحْصَارِ فَلَا يَجُوزُ له التَّحَلُّلُ وَيَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ وفي الِاسْتِحْسَانِ
لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ وَيَجُوزُ له التَّحَلُّلُ إلَّا أَنَّهُ إذَا كان لَا
يَقْدِرُ على إدْرَاكِ الْهَدْيِ صَارَ كَأَنَّ الْإِحْصَارَ زَالَ عنه
بِالذَّبْحِ فَيَحِلُّ بِالذَّبْحِ عنه وَلِأَنَّ الْهَدْيَ قد مَضَى في سَبِيلِهِ
بِدَلِيلِ إنه لَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالذَّبْحِ على من بَعَثَ على يَدِهِ
بَدَنَةً فَصَارَ كَأَنَّهُ قَدَرَ على الذَّهَابِ بَعْدَ ما ذُبِحَ عنه
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ وما لَا يَحْظُرُهُ وَبَيَانُ
ما يَجِبُ بِفِعْلِ الْمَحْظُورِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ مَحْظُورَاتِ
الْإِحْرَامِ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ نَوْعٌ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْحَجِّ
وَنَوْعٌ يُوجِبُ فَسَادَهُ
أَمَّا الذي لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْحَجِّ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
اللِّبَاسِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الطِّيبِ وما يَجْرِي مَجْرَاهُ من إزَالَةِ
الشَّعَثِ وَقَضَاءِ التَّفَثِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى تَوَابِعِ الْجِمَاعِ
وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الصَّيْدِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُحْرِمُ لَا
يَلْبَسُ الْمَخِيطَ جُمْلَةً وَلَا قَمِيصًا وَلَا قُبَاءَ وَلَا جُبَّةً وَلَا
سَرَاوِيلَ وَلَا عِمَامَةً وَلَا قَلَنْسُوَةً وَلَا يَلْبَسُ خُفَّيْنِ إلَّا
أَنْ لا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْطَعُهُمَا أَسْفَلَ
الْكَعْبَيْنِ فَيَلْبَسُهُمَا
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم وقال ما يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ من الثِّيَابِ فقال لَا
يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا
الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ إلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ
فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ من الْكَعْبَيْنِ وَلَا
يَلْبَسْ من الثِّيَابِ شيئا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ وَلَا
تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ
فَإِنْ قِيلَ في هذا الحديث ضَرْبُ إشْكَالٍ لِأَنَّ فيه أَنَّ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ فقال لَا يَلْبَسُ كَذَا وَكَذَا من
الْمَخِيطِ فَسُئِلَ عن شَيْءٍ فَعَدَلَ عن مَحِلِّ السُّؤَالِ وَأَجَابَ عن
شَيْءٍ آخَرَ لم يسئل ( ( ( يسأل ) ) ) عنه
وَهَذَا مَحِيدٌ عن الْجَوَابِ أو يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ في
مَذْكُورٍ دَلِيلًا على أَنَّ الْحُكْمَ في غَيْرِهِ بِخِلَافِهِ وَهَذَا خِلَافُ
الْمَذْهَبِ
فَالْجَوَابُ عنه من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
السُّؤَالُ عَمَّا لَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ وَأَضْمَرَ ( لَا ) في مَحِلِّ
السُّؤَالِ لِأَنَّ لَا تَارَةً تُزَادُ في الْكَلَامِ وَتَارَةً تُحْذَفُ عنه
قال اللَّهُ تَعَالَى { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا } أَيْ لَا
تَضِلُّوا فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا لَا يَلْبَسُهُ
الْمُحْرِمُ فقال لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ كَذَا وَكَذَا فَكَانَ الْجَوَابُ
مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ
وَالثَّانِي يُحْتَمَلُ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عَلِمَ غَرَضَ
السَّائِلِ وَمُرَادَهُ أَنَّهُ طَلَبَ منه بَيَانَ ما لَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ
بَعْدَ إحْرَامِهِ إمَّا بِقَرِينَةِ حَالِهِ أو بِدَلِيلٍ آخَرَ أو بِالْوَحْيِ
فَأَجَابَ عَمَّا في ضَمِيرِهِ من غَرَضِهِ وَمَقْصُودِهِ
وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى خَبَرًا عن إبْرَاهِيمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
{ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ من الثَّمَرَاتِ من آمَنَ
منهم بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ }
____________________
(2/183)
فَأَجَابَهُ اللَّهُ عز وجل بِقَوْلِهِ { وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا
ثُمَّ أَضْطَرُّهُ } سَأَلَ إبْرَاهِيمُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَبَّهُ عز
وجل أَنْ يَرْزُقَ من آمَنَ من أَهْلِ مَكَّةَ من الثَّمَرَاتِ فَأَجَابَهُ
تَعَالَى أَنَّهُ يَرْزُقُ الْكَافِرَ أَيْضًا لَمَّا عَلِمَ أَنَّ مُرَادَ
إبْرَاهِيمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من سُؤَالِهِ أَنْ يَرْزُقَ ذلك
الْمُؤْمِنَ منهم دُونَ الْكَافِرِ فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا كان في
ضَمِيرِهِ كَذَا هذا
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَمَّا خَصَّ الْمَخِيطَ أَنَّهُ لَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ
بَعْدَ تَقَدُّمِ السُّؤَالِ عَمَّا يَلْبَسُهُ دَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ في غَيْرِ
الْمَخِيطِ بِخِلَافِهِ وَالتَّنْصِيصُ على حُكْمٍ في مَذْكُورٍ إنَّمَا لَا
يَدُلُّ على تَخْصِيصِ ذلك الْحُكْمِ بِهِ بِشَرَائِطَ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا أَنْ
لَا يَكُونَ فيه حَيْدٌ عن الْجَوَابِ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ عليه الْحَيْدُ
فَأَمَّا إذَا كان فإنه يَدُلُّ عليه صِيَانَةً لِمَنْصِبِ النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم عن الْحَيْدِ عن الْجَوَابِ عن السُّؤَالِ
وَالثَّانِي من الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ غَيْرِ الْمَذْكُورِ خِلَافَ
حُكْمِ الْمَذْكُورِ وَهَهُنَا لَا يُحْتَمَلُ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا
يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ أَصْلًا وَفِيهِ تَعْرِيضُهُ لِلْهَلَاكِ بِالْحَرِّ أو الْبَرْدِ
وَالْعَقْلُ يَمْنَعُ من ذلك فَكَانَ الْمَنْعُ من أَحَدِ النَّوْعَيْنِ في
مِثْلِهِ إطْلَاقًا لِلنَّوْعِ الْآخَرِ وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى { اللَّهُ
الذي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فيه } أن جَعْلَ اللَّيْلِ لِلسُّكُونِ
يَدُلُّ على جَعْلِ النَّهَارِ لِلْكَسْبِ وَطَلَبِ الْمَعَاشِ إذْ لَا بُدَّ من
الْقُوتِ لِلْبَقَاءِ وكان جَعْلُ اللَّيْلِ لِلسُّكُونِ تَعْيِينًا لِلنَّهَارِ
لِطَلَبِ الْمَعَاشِ
وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ ذلك في غَيْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَأَمَّا في
الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَيَدُلُّ عليه لِمَا قد صَحَّ من مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا ان
الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نهى عن ضِدِّهِ وَالنَّهْيَ عن الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ
وَالتَّنْصِيصُ هَهُنَا في مَحِلِّ النَّهْيِ فَكَانَ ذلك دَلِيلًا على أَنَّ
الْحُكْمَ في غَيْرِ الْمَخِيطِ بِخِلَافِهِ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
وَلِأَنَّ لُبْسَ الْمَخِيطِ من بَابِ الِارْتِفَاقِ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ
وَالتَّرَفُّهِ في اللُّبْسِ وَحَالُ الْمُحْرِمِ يُنَافِيهِ وَلِأَنَّ الْحَاجَّ
في حَالِ إحْرَامِهِ يُرِيدُ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِسُوءِ حَالِهِ إلَى مَوْلَاهُ
يَسْتَعْطِفُ نَظَرَهُ وَمَرْحَمَتَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَسْخُوطِ عليه
في الشَّاهِدِ أَنَّهُ يَتَعَرَّضُ بِسُوءِ حَالِهِ لِعَطْفِ سَيِّدِهِ وَلِهَذَا
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْمُحْرِمُ الْأَشْعَثُ الْأَغْبَرُ وَإِنَّمَا
يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ من لُبْسِ الْمَخِيطِ إذَا لَبِسَهُ على الْوَجْهِ
الْمُعْتَادِ فَأَمَّا إذَا لَبِسَهُ لَا على أوجه ( ( ( الوجه ) ) ) الْمُعْتَادِ
فَلَا يُمْنَعُ منه بِأَنْ اتَّشَحَ بِالْقَمِيصِ أو اتَّزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ
لِأَنَّ مَعْنَى الِارْتِفَاقِ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ وَالتَّرَفُّهِ في
اللُّبْسِ لَا يَحْصُلُ بِهِ وَلِأَنَّ لُبْسَ الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ على هذا
الْوَجْهِ في مَعْنَى الِارْتِدَاءِ والإتزار لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ في حِفْظِهِ
إلَى تَكَلُّفٍ كما يَحْتَاجُ إلَى التَّكَلُّفِ في حِفْظِ الرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ
وَذَا غَيْرُ مَمْنُوعٍ عنه وَلَوْ أَدْخَلَ مَنْكِبَيْهِ في الْقَبَاءِ ولم
يُدْخِلْ يَدَيْهِ في كُمَّيْهِ جَازَ له ذلك في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ لَا يَجُوزُ وَجْهُ قَوْلِهِ إن هذا لُبْسُ الْمَخِيطِ إذْ اللُّبْسُ
هو التَّغْطِيَةُ وَفِيهِ تَغْطِيَةُ أَعْضَاءٍ كَثِيرَةٍ بِالْمَخِيطِ من
الْمَنْكِبَيْنِ وَالظَّهْرِ وَغَيْرِهَا فَيُمْنَعُ من ذلك كَإِدْخَالِ
الْيَدَيْنِ في الْكُمَّيْنِ
وَلَنَا أَنَّ الْمَمْنُوعَ عنه هو اللُّبْسُ الْمُعْتَادُ وَذَلِكَ في الْقَبَاءِ
الْإِلْقَاءُ على الْمَنْكِبَيْنِ مع إدْخَالِ الْيَدَيْنِ في الْكُمَّيْنِ
وَلِأَنَّ الإرتفاق بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ وَالتَّرَفُّهَ في اللُّبْسِ لَا
يَحْصُلُ إلَّا بِهِ ولم يُوجَدْ فَلَا يُمْنَعُ منه وَلِأَنَّ إلْقَاءَ
الْقَبَاءِ على الْمَنْكِبَيْنِ دُونَ إدْخَالِ الْيَدَيْنِ في الْكُمَّيْنِ
يُشْبِهُ الِارْتِدَاءَ وَالِاتِّزَارَ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى حِفْظِهِ عليه
لِئَلَّا يَسْقُطَ إلَى تَكَلُّفٍ كما يَحْتَاجُ إلَى ذلك في الرِّدَاءِ
وَالْإِزَارِ وهو لم يُمْنَعْ من ذلك كَذَا هذا
بِخِلَافِ ما إذَا أَدْخَلَ يَدَيْهِ في كُمَّيْهِ لِأَنَّ ذلك لُبْسٌ مُعْتَادٌ
يَحْصُلُ بِهِ الِارْتِفَاقُ بِهِ وَالتَّرَفُّهُ في اللُّبْسِ وَيَقَعُ بِهِ
الْأَمْنُ عن السُّقُوطِ وَلَوْ أَلْقَاهُ على مَنْكِبَيْهِ وَزَرَّهُ لَا يَجُوزُ
لِأَنَّهُ إذَا زَرَّهُ فَقَدْ تَرَفَّهَ في لُبْسِ الْمَخِيطِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ في حِفْظِهِ إلَى تَكَلُّفٍ وَلَوْ لم يَجِدْ
رِدَاءً وَلَهُ قَمِيصٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشُقَّ قَمِيصَهُ وَيَرْتَدِيَ بِهِ
لِأَنَّهُ لَمَّا شَقَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الرِّدَاءِ وَكَذَا إذَا لم يَجِدْ
إزَارًا وَلَهُ سَرَاوِيلُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَفْتُقَ سَرَاوِيلَهُ خَلَا
مَوْضِعِ التِّكَّةِ وَيَأْتَزِرَ بِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا فَتَقَهُ صَارَ
بِمَنْزِلَةِ الْإِزَارِ
وَكَذَا إذَا لم يَجِدْ نَعْلَيْنِ وَلَهُ خُفَّانِ فَلَا بَأْسَ أَنْ
يَقْطَعَهُمَا أَسْفَلَ الْكَعْبَيْنِ فَيَلْبَسَهُمَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي
اللَّهُ عنه وَرَخَّصَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُتَأَخِّرُونَ لُبْسَ
الصَّنْدَلَةِ قِيَاسًا على الْخُفِّ الْمَقْطُوعِ لِأَنَّهُ في مَعْنَاهُ وَكَذَا
لُبْسُ الْمِيثَمِ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَلْبَسُ الْجَوْرَبَيْنِ لِأَنَّهُمَا في
مَعْنَى الْخُفَّيْنِ وَلَا يُغَطِّي رَأْسَهُ بِالْعِمَامَةِ وَلَا غَيْرِهَا
مِمَّا يَقْصِدُ بِهِ التَّغْطِيَةَ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ عن تَغْطِيَةِ
رَأْسِهِ بِمَا يَقْصِدُ بِهِ التَّغْطِيَةَ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال في
____________________
(2/184)
الْمُحْرِمِ
الذي وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ في أحافيق ( ( ( أخاقيق ) ) ) حردان ( ( ( جرذان ) )
) فَمَاتَ لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فإنه يُبْعَثُ يوم
الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا وَلَوْ حَمَلَ على رَأْسِهِ شيئا فَإِنْ كان مِمَّا
يَقْصِدُ بِهِ التَّغْطِيَةَ من لِبَاسِ الناس لَا يَجُوزُ له ذلك لِأَنَّهُ
كَاللُّبْسِ وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَقْصِدُ بِهِ التَّغْطِيَةَ كَإِجَّانَةٍ أو
عِدْلِ بَزٍّ وَضَعَهُ على رَأْسِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ
ذلك لُبْسًا وَلَا تَغْطِيَةً وَكَذَا لَا يُغَطِّي الرَّجُلُ وَجْهَهُ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ له تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا
تُغَطِّي وَجْهَهَا وَكَذَا لَا بَأْسَ أَنْ تُسْدِلَ على وَجْهِهَا بِثَوْبٍ
وَتُجَافِيَهُ عن وَجْهِهَا
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
إحْرَامُ الرَّجُلِ في رَأْسِهِ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ في وَجْهِهَا جَعَلَ
إحْرَامَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا في مَحَلٍّ خَاصٍّ وَلَا خُصُوصَ مع الشَّرِكَةِ
وَلِهَذَا لَمَّا خَصَّ الْوَجْهَ في الْمَرْأَةِ بِأَنَّ إحْرَامَهَا فيه لم
يَكُنْ في رَأْسِهَا فَكَذَا في الرَّجُلِ وَلِأَنَّ مبني أَحْوَالِ الْمُحْرِمِ
على خِلَافِ الْعَادَةِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا لِأَنَّ الْعَادَةَ هو الْكَشْفُ
في الرِّجَالِ فَكَانَ السَّتْرُ على خِلَافِ الْعَادَةِ بِخِلَافِ النِّسَاءِ فإن
الْعَادَةَ فِيهِنَّ السَّتْرُ فَكَانَ الْكَشْفُ خِلَافَ الْعَادَةِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إحْرَامُ الرَّجُلِ
في رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَلَا حُجَّةَ له فِيمَا روي لِأَنَّ فيه أَنَّ إحْرَامَ
الرَّجُلِ في رَأْسِهِ وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ في وَجْهِهِ وَلَا
يُوجِبُ أَيْضًا فَكَانَ مَسْكُوتًا عنه فَيَقِفُ على قِيَامِ الدَّلِيلِ وقد قام
الدَّلِيلُ وهو ما رَوَيْنَا وَهَكَذَا نَقُولُ في الْمَرْأَةِ إنا إنَّمَا عَرَفْنَا
أَنَّ إحْرَامَهَا ليس في رَأْسِهَا لا بِقَوْلِهِ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ في
وَجْهِهَا بَلْ بِدَلِيلٍ آخَرَ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا أُصْبِغَ بِوَرْسٍ أو زَعْفَرَانٍ وَإِنْ لم يَكُنْ
مَخِيطًا لِخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه وَلِأَنَّ الْوَرْسَ
وَالزَّعْفَرَانَ طِيبٌ وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ من اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ في
بَدَنِهِ وَلَا يَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ وهو الْمَصْبُوغُ بِالْعُصْفُرِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ
عنها لَبِسَتْ الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ وَرُوِيَ أَنَّ
عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَنْكَرَ على عبد اللَّهِ بن جَعْفَرٍ لُبْسَ
الْمُعَصْفَرِ في الْإِحْرَامِ فقال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه ما أَرَى أَنَّ
أَحَدًا يُعَلِّمُنَا السُّنَّةَ
وَلَنَا ما روى أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنْكَرَ على طَلْحَةَ لُبْسَ
الْمُعَصْفَرِ في الْإِحْرَامِ فقال طَلْحَةُ رضي اللَّهُ عنه إنَّمَا هو
مُمَشَّقٌ بِمَغْرَةٍ فقال عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه إنكم أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى
بِكُمْ فَدَلَّ إنْكَارُ عُمَرَ وَاعْتِذَارُ طَلْحَةَ رضي اللَّهُ عنهما على
أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ من ذلك وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُمَشَّقَ
مَكْرُوهٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ قال إنَّكُمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِكُمْ أَيْ من
شَاهَدَ ذلك رُبَّمَا يَظُنُّ أَنَّهُ مَصْبُوغٌ بِغَيْرِ الْمَغْرَةِ
فَيَعْتَقِدُ الْجَوَازَ فَكَانَ سَبَبًا لِلْوُقُوعِ في الْحَرَامِ عَسَى
فَيُكْرَهُ وَلِأَنَّ الْمُعَصْفَرَ طِيبٌ لِأَنَّ له رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَكَانَ
كَالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها فَقَدْ رُوِيَ عنها أنها كَرِهَتْ
الْمُعَصْفَرَ في الْإِحْرَامِ
أو يُحْمَلُ على الْمَصْبُوغِ بِمِثْلِ الْعُصْفُرِ كَالْمَغْرَةِ وَنَحْوِهَا وهو
الْجَوَابُ عن قَوْلِ عمر ( ( ( علي ) ) ) رضي اللَّهُ عنه
على أَنَّ قَوْلَهُ مُعَارِضٌ بِقَوْلِ عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه وهو إنْكَارُهُ
فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِلتَّعَارُضِ هذا إذَا لم يَكُنْ مَغْسُولًا
فَأَمَّا إذَا كان قد غُسِلَ حتى صَارَ لَا يَنْفُضُ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا
رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
قال لَا بَأْسَ أَنْ يُحْرِمَ الرَّجُلُ في ثَوْبٍ مَصْبُوغٍ بِوَرْسٍ أو
زَعْفَرَانٍ قد غُسِلَ وَلَيْسَ له نَفْضٌ وَلَا رَدْغٌ
وَقَوْله صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَنْفُضُ له تَفْسِيرَانِ مَنْقُولَانِ عن
مُحَمَّدٍ روى عنه لَا يَتَنَاثَرُ صِبْغُهُ وَرُوِيَ لَا يَفُوحُ رِيحُهُ وَالتَّعْوِيلُ
على زَوَالِ الرَّائِحَةِ حتى لو كان لَا يَتَنَاثَرُ صِبْغُهُ وَلَكِنْ يَفُوحُ
رِيحُهُ يُمْنَعُ منه لِأَنَّ ذلك دَلِيلُ بَقَاءِ الطِّيبِ إذْ الطِّيبُ ما له
رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ وَكَذَا ما صُبِغَ بِلَوْنِ الْهَرَوِيِّ لِأَنَّهُ صِبْغٌ
خَفِيفٌ فيه أَدْنَى صُفْرَةٍ لَا تُوجَدُ منه رَائِحَةٌ
وقال أبو يُوسُفَ في الْإِمْلَاءِ لَا يَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَوَسَّدَ
ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِالزَّعْفَرَانِ وَلَا الْوَرْسِ وَلَا يَنَامُ عليه
لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمِلًا لِلطِّيبِ فَكَانَ كَاللُّبْسِ وَلَا بَأْسَ
بِلُبْسِ الْخَزِّ وَالصُّوفِ وَالْقَصَبِ وَالْبُرْدِ وَإِنْ كان مُلَوَّنًا
كَالْعَدَنِيِّ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ ليس فيه أَكْثَرُ من الزِّينَةِ
وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ من ذلك وَلَا بَأْسَ أَنْ يَلْبَسَ الطَّيْلَسَانَ
لِأَنَّ الطَّيْلَسَانَ ليس بِمَخِيطٍ وَلَا يَزُرُّهُ كَذَا رُوِيَ عن ابْنِ
عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَالصَّحِيحُ
قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ لِأَنَّ الزِّرَةَ مَخِيطٌ في نَفْسِهَا فإذا زَرَّهُ فَقَدْ
اشْتَمَلَ الْمَخِيطُ عليه فَيُمْنَعُ منه وَلِأَنَّهُ إذَا زرة لَا يَحْتَاجُ في
حِفْظِهِ إلَى تَكَلُّفِ فَأَشْبَهَ لُبْسَ الْمَخِيطِ بِخِلَافِ الرِّدَاءِ
وَالْإِزَارِ وَيُكْرَهُ أَنْ يُخَلِّلَ الْإِزَارَ بِالْخِلَالِ وَأَنْ يَعْقِدَ
الْإِزَارَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم رَأَى
مُحْرِمًا قد عَقَدَ ثَوْبَهُ بِحَبْلٍ فقال له انْزِعْ الْحَبْلَ وَيْلَكَ
وَرُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ
____________________
(2/185)
يَعْقِدَ
الْمُحْرِمُ الثَّوْبَ عليه وَلِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَخِيطَ في عَدَمِ الْحَاجَةِ
في حِفْظِهِ إلَى تَكَلُّفٍ وَلَوْ فَعَلَ لَا شَيْءَ عليه لِأَنَّهُ ليس
بِمَخِيطٍ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَحَزَّمَ بِعِمَامَةٍ يَشْتَمِلُ بها وَلَا
يَعْقِدُهَا لِأَنَّ اشْتِمَالَ الْعِمَامَةِ عليه اشْتِمَالُ غَيْرِ الْمَخِيطِ
فَأَشْبَهَ الِاتِّشَاحَ بِقَمِيصٍ فَإِنْ عَقَدَهَا كُرِهَ له ذلك لِأَنَّهُ
يُشْبِهُ الْمَخِيطَ كَعَقْدِ الْإِزَارِ وَلَا بَأْسَ بِالْهِمْيَانِ
وَالْمِنْطَقَةِ لِلْمُحْرِمِ سَوَاءٌ كان في الْهِمْيَانِ نَفَقَتُهُ أو نَفَقَةُ
غَيْرِهِ وَسَوَاءٌ كان شَدَّ الْمِنْطَقَةَ بِالْإِبْزِيمِ أو بِالسُّيُورِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ في الْمِنْطَقَةِ إنْ شَدَّهُ بِالْإِبْزِيمِ يُكْرَهُ وَإِنْ
شَدَّهُ بِالسُّيُورِ لَا يُكْرَهُ وقال مَالِكٌ في الْهِمْيَانِ إنْ كان فيه
نَفَقَتُهُ لَا يُكْرَهُ وَإِنْ كان فيه نَفَقَةُ غَيْرِهِ يُكْرَهُ وَجْهُ
قَوْلِهِ أَنَّ شَدَّ الْهِمْيَانِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ اسْتِيثَاقُ
النَّفَقَةِ وَلَا ضَرُورَةَ في نَفَقَةِ غَيْرِهِ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْإِبْزِيمَ مَخِيطٌ فَالشَّدُّ بِهِ يَكُونُ
كَزِرِّ الْإِزَارِ بِخِلَافِ السَّيْرِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها سُئِلَتْ عن الْهِمْيَانِ
فقالت أَوْثِقْ عَلَيْك نَفَقَتَك أَطْلَقَتْ الْقَضِيَّةَ ولم تَسْتَفْسِرْ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما قال رَخَّصَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم في الْهِمْيَانِ يَشُدُّهُ الْمُحْرِمُ في وَسَطِهِ إذَا كانت فيه
نَفَقَتُهُ
وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ من التَّابِعِينَ وَرُوِيَ عن سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ رضي
اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَا بَأْسَ بالهيمان ( ( ( بالهميان ) ) ) وهو قَوْلُ سَعِيدِ
بن جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَلِأَنَّ
اشْتِمَالَ الْهِمْيَانِ وَالْمِنْطَقَةِ عليه كَاشْتِمَالِ الْإِزَارِ فَلَا
يُمْنَعُ عنه وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَظِلَّ الْمُحْرِمُ بِالْفُسْطَاطِ عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ يُكْرَهُ وَاحْتَجَّ بما بِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ
عنه أَنَّهُ كَرِهَ ذلك
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان يلقى على شَجَرَةٍ
ثَوْبًا أو نِطْعًا فَيَسْتَظِلُّ بِهِ
وروى أَنَّهُ ضُرِبَ لِعُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه فسطاطا ( ( ( فسطاط ) ) )
بِمِنًى فَكَانَ يَسْتَظِلُّ بِهِ وَلِأَنَّ الِاسْتِظْلَالَ بِمَا لَا يُمَاسُّهُ
بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِظْلَالِ بِالسَّقْفِ وَذَا غَيْرُ مَمْنُوعٍ عنه
كَذَا هذا فَإِنْ دخل تَحْتَ سِتْرِ الْكَعْبَةِ حتى غَطَّاهُ فَإِنْ كان
السِّتْرُ يُصِيبُ وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ يُكْرَهُ له ذلك لِأَنَّهُ يُشْبِهُ سَتْرَ
وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ بِثَوْبٍ وَإِنْ كان مُتَجَافِيًا فَلَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ
بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ تَحْتَ ظُلَّةٍ وَلَا بَأْسَ أَنْ تُغَطِّيَ الْمَرْأَةُ
سَائِرَ جَسَدِهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ بِمَا شَاءَتْ من الثِّيَابِ الْمَخِيطَةِ وَغَيْرِهَا
وَأَنْ تَلْبَسَ الْخُفَّيْنِ غير أنها لَا تُغَطِّي وَجْهَهَا أَمَّا سَتْرُ
سَائِرِ بَدَنِهَا فَلِأَنَّ بَدَنَهَا عَوْرَةٌ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ بِمَا ليس
بِمَخِيطٍ مُتَعَذَّرٌ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى لُبْسِ الْمَخِيطِ
وَأَمَّا كَشْفُ وَجْهِهَا فَلِمَا رَوَيْنَا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال إحْرَامُ الْمَرْأَةِ في وَجْهِهَا
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قالت كان الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا
وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ مع رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فإذا حَاذَوْنَا
أَسْدَلَتْ إحْدَانَا جِلْبَابَهَا من رَأْسِهَا على وَجْهِهَا فإذا جَاوَزُونَا
رَفَعْنَا
فَدَلَّ الْحَدِيثُ على أَنَّهُ ليس لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُغَطِّيَ وَجْهَهَا
وَأَنَّهَا لو أَسْدَلَتْ على وَجْهِهَا شيئا وَجَافَتْهُ عنه لَا بَأْسَ بِذَلِكَ
وَلِأَنَّهَا إذَا جَافَتْهُ عن وَجْهِهَا صَارَ كما لو جَلَسَتْ في قُبَّةٍ أو
اسْتَتَرَتْ بِفُسْطَاطٍ وَلَا بَأْسَ لها أَنْ تَلْبَسَ الْحَرِيرَ وَالذَّهَبَ
وَتَتَحَلَّى بِأَيِّ حِلْيَةٍ شَاءَتْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَرِهَ ذلك وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ
أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه كان يُلْبِسُ نِسَاءَهُ الذَّهَبَ
وَالْحَرِيرَ في الْإِحْرَامِ وَلِأَنَّ لُبْسَ هذه الْأَشْيَاءِ من بَابِ
التَّزَيُّنِ وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ من الزِّينَةِ وَلَا يَلْبَسُ
ثَوْبًا مَصْبُوغًا لِأَنَّ الْمَانِعَ ما فيه من الصَّبْغِ من الطِّيبِ لَا من
الزِّينَةِ وَالْمَرْأَةُ تُسَاوِي الرَّجُلَ في الطِّيبِ
وَأَمَّا لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ فَلَا يُكْرَهُ عِنْدَنَا وهو قَوْلُ عَلِيٍّ
وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنهما
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فإنه ذَكَرَ في آخِرِهِ وَلَا
تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ في
بَدَنِهَا السَّتْرُ فَيَجِبُ مُخَالَفَتُهَا بِالْكَشْفِ كَوَجْهِهَا
وَلَنَا ما روى أَنَّ سَعْدَ بن أبي وَقَّاصٍ رضي اللَّهُ عنه كان يُلْبِسُ
بَنَاتِهِ وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ الْقُفَّازَيْنِ وَلِأَنَّ لُبْسَ الْقُفَّازَيْنِ
ليس إلَّا تَغْطِيَةَ يَدَيْهَا بِالْمَخِيطِ وإنها غَيْرُ مَمْنُوعَةٍ عن ذلك فإن
لها أَنْ تُغَطِّيَهُمَا بِقَمِيصِهَا وَإِنْ كان مَخِيطًا فَكَذَا بِمِخْيَطٍ
آخَرَ بِخِلَافِ وَجْهِهَا
وَقَوْلُهُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ نَهْيُ نَدْبٍ حَمَلْنَاهُ عليه
جَمْعًا بين الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَجِبُ بِفِعْلِ هذا الْمَحْظُورِ وهو لُبْسُ الْمَخِيطِ
فَالْوَاجِبُ بِهِ يَخْتَلِفُ في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يَجِبُ الدَّمُ عَيْنًا
وفي بَعْضِهَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ عَيْنًا وفي بَعْضِهَا يَجِبُ أَحَدُ
الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ غير عَيْنِ الصِّيَامِ أو الصَّدَقَةِ أو الدَّمِ
وَجِهَاتُ التَّعْيِينِ إلَى من عليه كما في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالْأَصْلُ
أَنَّ الِارْتِفَاقَ الْكَامِلَ بِاللُّبْسِ يُوجِبُ فِدَاءً كَامِلًا
فَيَتَعَيَّنُ فهي ( ( ( فيه ) ) ) الدَّمُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ إنْ فَعَلَهُ من
غَيْرِ عُذْرٍ وَإِنْ فَعَلَهُ لِعُذْرٍ فَعَلَيْهِ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ
وَالِارْتِفَاقُ الْقَاصِرُ يُوجِبُ فِدَاءً قَاصِرًا وهو الصَّدَقَةُ إثْبَاتًا
لِلْحُكْمِ على قَدْرِ الْعِلَّةِ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا لَبِسَ الْمَخِيطَ من قَمِيصٍ أو جُبَّةٍ أو
سَرَاوِيلَ أو عِمَامَةٍ أو قَلَنْسُوَةٍ
____________________
(2/186)
أو
خُفَّيْنِ أو جَوْرَبَيْنِ من غَيْرِ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ يَوْمًا كَامِلًا
فَعَلَيْهِ الدَّمُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ لِأَنَّ لُبْسَ أَحَدِ هذه الْأَشْيَاءِ
يَوْمًا كَامِلًا ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ فَيُوجِبُ كَفَّارَةً كَامِلَةً وَهِيَ
الدَّمُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ
وَإِنْ لَبِسَ أَقَلَّ من يَوْمٍ لَا دَمَ عليه وَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ وكان أبو
حَنِيفَةَ يقول أَوَّلًا إنْ لَبِسَ أَكْثَرَ الْيَوْمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَكَذَا
رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ ثُمَّ رَجَعَ وقال لَا دَمَ عليه حتى يَلْبَسَ يَوْمًا
كَامِلًا
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا لَبِسَ أَقَلَّ من يَوْمٍ يُحْكَمُ عليه
بِمِقْدَارِ ما لَبِسَ من قِيمَةِ الشَّاةِ إنْ لَبِسَ نِصْفَ يَوْمٍ فَعَلَيْهِ
قِيمَةُ نِصْفِ شَاةٍ على هذا الْقِيَاسِ
وَهَكَذَا رُوِيَ عنه في الْحَلْقِ
وقال الشَّافِعِيُّ يَجِبُ عليه الدَّمُ وَإِنْ لَبِسَ سَاعَةً وَاحِدَةً
وَجْهُ قَوْلِهِ إن اللُّبْسَ وَلَوْ سَاعَةً ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ لِوُجُودِ
اشْتِمَالِ الْمَخِيطِ على بَدَنِهِ فَيَلْزَمُهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ
وَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارُ الْبَعْضِ بِالْكُلِّ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الِارْتِفَاقَ بِاللُّبْسِ في
أَكْثَرِ الْيَوْمِ بِمَنْزِلَةِ الِارْتِفَاقِ في كل ( ( ( كله ) ) ) لِأَنَّهُ
ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ فإن الْإِنْسَانَ قد يَلْبَسُ أَكْثَرَ الْيَوْمِ ثُمَّ
يَعُودُ إلَى مَنْزِلِهِ قبل دُخُولِ اللَّيْلِ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ إن اللُّبْسَ أَقَلُّ من يَوْمِ ارْتِفَاقٍ نَاقِصٍ
لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منه دَفْعُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَذَلِكَ بِاللُّبْسِ في كل
الْيَوْمِ وَلِهَذَا اتَّخَذَ الناس في الْعَادَةِ لِلنَّهَارِ لِبَاسًا
وَلِلَّيْلِ لِبَاسًا وَلَا يَنْزِعُونَ لِبَاسَ النَّهَارِ إلَّا في اللَّيْلِ
فَكَانَ اللُّبْسُ في بَعْضِ الْيَوْمِ ارْتِفَاقًا قَاصِرًا فَيُوجِبُ كَفَّارَةً
قَاصِرَةً وَهِيَ الصَّدَقَةُ كَقَصِّ ظُفْرٍ وَاحِدٍ وَمِقْدَارُ الصَّدَقَةِ
نِصْفُ صَاعٍ من بُرٍّ
كَذَا رَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُطْعِمُ مِسْكِينًا نِصْفَ
صَاعٍ من بُرٍّ وَكُلُّ صَدَقَةٍ تَجِبُ بِفِعْلِ ما يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ
فَهِيَ مُقَدَّرَةٌ بِنِصْفِ صَاعٍ إلَّا ما يَجِبُ بِقَتْلِ الْقَمْلَةِ
وَالْجَرَادَةِ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ من لَبِسَ ثَوْبًا يَوْمًا إلَّا
سَاعَةً فَعَلَيْهِ من الدَّمِ بِمِقْدَارِ ما لَبِسَ أَيْ من قِيمَةِ الدَّمِ
لِمَا قُلْنَا وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أبي يُوسُفَ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ
الْمُقَدَّرَةَ لِلْمِسْكِينِ في الشَّرْعِ لَا تَنْقُصُ عن نِصْفِ صَاعٍ
كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالْفِطْرِ وَالظِّهَارِ
وَكَذَا لو أَدْخَلَ مَنْكِبَيْهِ في الْقَبَاءِ ولم يُدْخِلْ يَدَيْهِ في
كُمَّيْهِ لَكِنَّهُ زَرَّهُ عليه أو زَرَّ عليه طَيْلَسَانًا يَوْمًا كَامِلًا
فَعَلَيْهِ دَمٌ لِوُجُودِ الِارْتِفَاقِ الْكَامِلِ بِلُبْسِ الْمَخِيطِ إذْ
الْمُزَرَّرُ مَخِيطٌ
وَكَذَا لو غَطَّى رُبْعَ رَأْسِهِ يَوْمًا فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِ دَمٌ وَإِنْ كان
أَقَلَّ من الرُّبْعِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ كَذَا ذُكِرَ في الإصل
وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا دَمَ عليه حتى
يُغَطِّيَ الْأَكْثَرَ من رَأْسِهِ وَلَا أَقُولُ حتى يُغَطِّيَ رَأْسَهُ كُلَّهُ
وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ تَغْطِيَةَ الْأَقَلِّ ليس
بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ فَلَا يَجِبُ بِهِ جَزَاءٌ كَامِلٌ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ رُبْعَ الرَّأْسِ له حُكْمُ الْكُلِّ في هذا
الْبَابِ كَحَلْقِ رُبْعِ الرَّأْسِ وَعَلَى هذا إذَا غَطَّتْ الْمَرْأَةُ رُبْعَ
وَجْهِهَا وَكَذَا لو غَطَّى الرَّجُلُ رُبْعَ وَجْهِهِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا شَيْءَ عليه لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عن ذلك
عِنْدَهُ وَالْمَسْأَلَةُ قد تَقَدَّمَتْ
وَلَوْ عَصَبَ على رَأْسِهِ أو وَجْهِهِ يَوْمًا أو أَكْثَرَ فَلَا شَيْءَ عليه
لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ وَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ
عن التَّغْطِيَةِ وَلَوْ عَصَبَ شيئا من جَسَدِهِ لِعِلَّةٍ أو غَيْرِ عِلَّةٍ لَا
شَيْءَ عليه لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عن تَغْطِيَةِ بَدَنِهِ بِغَيْرِ
الْمَخِيطِ وَيُكْرَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذلك بِغَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّ الشَّدَّ عليه
يُشْبِهُ لُبْسَ الْمَخِيطِ هذا إذَا لَبِسَ الْمَخِيطَ يَوْمًا كَامِلًا حَالَةَ
الِاخْتِيَارِ فَأَمَّا إذَا لَبِسَهُ لِعُذْرٍ وَضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ أَيْ
الْكَفَّارَاتُ شَاءَ الصِّيَامَ أو الصَّدَقَةَ أو الدَّمَ
وَالْأَصْلُ فيه قَوْله تَعَالَى في كَفَّارَةِ الْحَلْقِ من مَرَضٍ أو أَذًى في
الرَّأْسِ { فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو بِهِ أَذًى من رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ
من صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ }
وَرَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِكَعْبِ بن
عُجْرَةَ أَيُؤْذِيك هَوَامُّ رَأْسِك قال نعم فقال احْلِقْ وَاذْبَحْ شَاةً أو
صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أو أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ
صَاعٍ من بُرٍّ وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ بِالتَّخْيِيرِ في الْحَلْقِ لَكِنَّهُ
مَعْلُولٌ بِالتَّيْسِيرِ وَالتَّسْهِيلِ لِلضَّرُورَةِ وَالْعُذْرِ وقد وُجِدَ
هَهُنَا وَالنَّصُّ الْوَارِدُ هُنَاكَ يَكُونُ وَارِدًا هَهُنَا دَلَالَةً
وَقِيلَ إنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَتَخَيَّرُ بين أَحَدِ الْأَشْيَاءِ
الثَّلَاثَةِ في حَالَةِ الِاخْتِيَارِ أَيْضًا وَأَنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ
التَّخْيِيرَ في حَالِ الضَّرُورَةِ لِلتَّيْسِيرِ وَالتَّخْفِيفِ وَالْجَانِي لَا
يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ
وَيَجُوزُ في الطَّعَامِ التَّمْلِيكُ وَالتَّمْكِينُ وهو طَعَامُ الْإِبَاحَةِ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ فيه إلَّا التَّمْلِيكُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ
في كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَيَجُوزُ في الصِّيَامِ التَّتَابُعُ وَالتَّفَرُّقُ لِإِطْلَاقِ اسْمِ الصَّوْمِ
في النَّصِّ وَلَا يَجُوزُ الذَّبْحُ إلَّا في الْحَرَمِ كَذَبْحِ الْمُتْعَةِ
إلَّا إذَا ذَبَحَ في غَيْرِ الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ على سِتَّةِ
مَسَاكِينَ على كل وَاحِدٍ منهم قَدْرُ قِيمَةِ نِصْفِ صَاعٍ من حِنْطَةٍ
فَيَجُوزُ على طَرِيقِ الْبَدَلِ عن الطَّعَامِ وَيَجُوزُ الصَّوْمُ في
الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا الصَّدَقَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ لَا تُجْزِيه إلَّا بِمَكَّةَ نَظَرًا لِأَهْلِ مَكَّةَ لِأَنَّهُمْ
يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَلِهَذَا لم يَجُزْ الدَّمُ إلَّا بِمَكَّةَ
وَلَنَا إن نَصَّ الصَّدَقَةِ مُطْلَقٌ عن الْمَكَانِ فَيَجْرِي على إطْلَاقِهِ
وَالْقِيَاسُ على الدَّمِ بِمَعْنَى الِانْتِفَاعِ فَاسِدٌ لِمَا ذَكَرْنَا في
الْإِحْصَارِ وَإِنَّمَا عُرِفَ اخْتِصَاصُ جَوَازِ الذَّبْحِ بِمَكَّةَ
بِالنَّصِّ وهو قَوْله تَعَالَى { حتى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } ولم
____________________
(2/187)
يُوجَدْ
مِثْلُهُ في الصَّدَقَةِ وقد ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا لم يَجِدْ
الْإِزَارَ وَأَمْكَنَهُ فَتْقُ السَّرَاوِيلِ وَالتَّسَتُّرُ بِهِ فَتَقَهُ
فَإِنْ لَبِسَهُ يَوْمًا ولم يَفْتُقْهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا
وقال الشَّافِعِيُّ يَلْبَسُهُ وَلَا شَيْءَ عليه وَجْهُ قَوْلِهِ إن
الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِلُبْسِ مَحْظُورٍ وَلُبْسُ السَّرَاوِيلِ في هذه
الْحَالَةِ ليس بِمَحْظُورٍ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ لُبْسُ غَيْرِ الْمَخِيطِ
إلَّا بِالْفَتْقِ وفي الْفَتْقِ تَنْقِيصُ مَالِهِ
وَلَنَا أَنَّ حَظْرَ لُبْسِ الْمَخِيطِ ثَبَتَ بِعَقْدِ الْإِحْرَامِ وَيُمْكِنُهُ
التَّسَتُّرُ بِغَيْرِ الْمَخِيطِ في هذه الْحَالَةِ بِالْفَتْقِ فَيَجِبُ عليه
الْفَتْقُ وَالسَّتْرُ بِالْمَفْتُوقِ أَوْلَى فإذا لم يَفْعَلْ فَقَدْ ارْتَكَبَ
مَحْظُورَ إحْرَامِهِ يَوْمًا كَامِلًا فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ وَقَوْلُهُ في
الْفَتْقِ تَنْقِيصُ مَالِهِ مُسَلَّمٌ لَكِنْ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى
وَأَنَّهُ جَائِزٌ كَالزَّكَاةِ وَقَطْعِ الْخُفَّيْنِ أَسْفَلَ من الْكَعْبَيْنِ
إذَا لم يَجِدْ النَّعْلَيْنِ وَيَسْتَوِي في وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِلُبْسِ
الْمِخْيَطِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ وَالطَّوْعُ وَالْكُرْهُ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا شَيْءَ على النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ ويستوى أَيْضًا ما
إذَا لَبِسَ بِنَفْسِهِ أو أَلْبَسَهُ غَيْرُهُ وهو لَا يَعْلَمُ بِهِ عِنْدَنَا
خِلَافًا له
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِارْتِكَابِ مَحْظُورِ
الْإِحْرَامِ لِكَوْنِهِ جِنَايَةً وَلَا حَظْرَ مع النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ
فَلَا يُوصَفُ فِعْلُهُ بِالْجِنَايَةِ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَلِهَذَا
جُعِلَ النِّسْيَانُ عُذْرًا في بَابِ الصَّوْمِ بِالْإِجْمَاعِ وَالْإِكْرَاهُ
عِنْدِي
وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ في حَالِ الذِّكْرِ وَالطَّوْعِ
لِوُجُودِ ارْتِفَاقٍ كَامِلٍ وَهَذَا يُوجَدُ في حَالِ الْكُرْهِ وَالسَّهْوِ
وَقَوْلُهُ فِعْلُ النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ لَا يُوصَفُ بِالْحَظْرِ مَمْنُوعٌ
بَلْ الْحَظْرُ قَائِمٌ حَالَةَ النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ وَفِعْلُ النَّاسِي
وَالْمُكْرَهِ مَوْصُوفٌ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً وَإِنَّمَا أَثَّرَ النِّسْيَانُ
وَالْإِكْرَاهُ في ارْتِفَاعِ الْمُؤَاخَذَةِ في الْآخِرَةِ لِأَنَّ فِعْلَ
النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ جَائِزُ الْمُؤَاخَذَةِ عليه عَقْلًا عِنْدَنَا
وَإِنَّمَا رُفِعَتْ الْمُؤَاخَذَةُ شَرْعًا بِبَرَكَةِ دعاء ( ( ( دعا ) ) )
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِقَوْلِهِ { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا
أو أَخْطَأْنَا }
وَقَوْلُهُ ? < رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وما
اُسْتُكْرِهُوا عليه > ? وَالِاعْتِبَارُ بِالصَّوْمِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ
في الْإِحْرَامِ أَحْوَالًا مُذَكِّرَةً يَنْدُرُ النِّسْيَانُ مَعَهَا غَايَةَ
النُّدْرَةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ وَلَا مُذَكِّرَ لِلصَّوْمِ فَجُعِلَ
عُذْرًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَلِهَذَا لم يُجْعَلْ عُذْرًا في بَابِ الصَّلَاةِ
لِأَنَّ أَحْوَالَ الصَّلَاةِ مُذَكِّرَةٌ كَذَا هذا
وَلَوْ جَمَعَ الْمُحْرِمُ اللِّبَاسَ كُلَّهُ الْقَمِيصَ وَالْعِمَامَةَ
وَالْخُفَّيْنِ لَزِمَهُ دَمٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ لُبْسٌ وَاحِدٌ وَقَعَ على جِهَةٍ
وَاحِدَةٍ فَيَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَالْإِيلَاجَاتِ في الْجِمَاعِ
وَلَوْ اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ إلَى لُبْسِ ثَوْبٍ فَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ فَإِنْ
لَبِسَهُمَا على مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ
كَفَّارَةُ الضَّرُورَةِ بِأَنْ اضْطَرَّ إلَى قَمِيصٍ وَاحِدٍ فَلَبِسَ
قَمِيصَيْنِ أو قَمِيصًا وَجُبَّةً أو اُضْطُرَّ إلَى الْقَلَنْسُوَةِ فَلَبِسَ
قَلَنْسُوَةً وَعِمَامَةً لِأَنَّ اللُّبْسَ حَصَلَ على وَجْهٍ وَاحِدٍ فَيُوجِبُ
كَفَّارَةً وَاحِدَةً
كما إذَا اضْطَرَّ إلَى لُبْسِ قَمِيصٍ فَلَبِسَ جُبَّةً وَإِنْ لَبِسَهُمَا على
مَوْضِعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَغَيْرِ مَوْضِعِ
الضَّرُورَةِ كما إذَا اضْطَرَّ إلَى لُبْسِ الْعِمَامَةِ أو الْقَلَنْسُوَةِ
فَلَبِسَهُمَا مع الْقَمِيصِ أو غَيْرِ ذلك فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ كَفَّارَةُ
الضَّرُورَةِ لِلُبْسِهِ ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَكَفَّارَةُ الِاخْتِيَارِ
لِلُبْسِهِ ما لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا لِلضَّرُورَةِ ثُمَّ
زَالَتْ الضَّرُورَةُ فَدَامَ على ذلك يَوْمًا أو يَوْمَيْنِ فما دَامَ في شَكٍّ
من زَوَالِ الضَّرُورَةِ لَا يَجِبُ عليه إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَفَّارَةُ
الضَّرُورَةِ وَإِنْ تَيَقَّنَ بِأَنَّ الضَّرُورَةَ قد زَالَتْ فَعَلَيْهِ
كَفَّارَتَانِ كَفَّارَةُ ضَرُورَةٍ وَكَفَّارَةُ اخْتِيَارٍ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ
كانت ثَابِتَةً بقين ( ( ( بيقين ) ) ) فَلَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهَا بِالشَّكِّ
على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أن الثَّابِتَ يَقِينًا لَا يَزَالُ بِالشَّكِّ
وإذا كان كَذَلِكَ فَاللُّبْسُ الثَّانِي وَقَعَ على الْوَجْهِ الذي وَقَعَ عليه
الْأَوَّلُ فَكَانَ لُبْسًا وَاحِدًا فَيُوجِبُ كَفَّارَةً وَاحِدَةً وإذا
اسْتَيْقَنَ بِزَوَالِ الضَّرُورَةِ فَاللُّبْسُ الثَّانِي حَصَلَ على غَيْرِ
الْوَجْهِ الذي حَصَلَ عليه الْأَوَّلُ فَيُوجِبُ عليه كَفَّارَةً أُخْرَى
وَنَظِيرُ هذا ما إذَا كان بِهِ قَرْحٌ أو جُرْحٌ اضْطَرَّ إلَى مُدَاوَاتِهِ
بِالطِّيبِ أَنَّهُ ما دَامَ بَاقِيًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ كان
تَكَرَّرَ عليه الدَّوَاءُ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ بَاقِيَةٌ فَوَقَعَ الْكُلُّ على
وَجْهٍ وَاحِدٍ وَلَوْ بَرَأَ ذلك الْقَرْحُ أو الْجُرْحُ وَحَدَثَ قَرْحٌ آخَرُ
أو جِرَاحَةٌ أُخْرَى فداواها ( ( ( فداوها ) ) ) بِالطِّيبِ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ
أُخْرَى لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قد زَالَتْ فَوَقَعَ الثَّانِي على غَيْرِ الْوَجْهِ
الْأَوَّلِ وَكَذَا الْمُحْرِمُ إذَا مَرِضَ أو أَصَابَتْهُ الْحُمَّى وهو
يَحْتَاجُ إلَى لُبْسِ الثَّوْبِ في وَقْتٍ وَيَسْتَغْنِي عنه في وَقْتِ الْحُمَّى
فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ما لم تَزُلْ عنه تِلْكَ الْعِلَّةُ لِحُصُولِ
اللُّبْسِ على جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ زَالَتْ عنه تِلْكَ
____________________
(2/188)
الْحُمَّى
وَأَصَابَتْهُ حُمَّى أُخْرَى عَرَفَ ذلك أو زَالَ عنه ذلك الْمَرَضُ وَجَاءَهُ
مَرَضٌ آخَرُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ سَوَاءٌ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ أو لم
يُكَفِّرْ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عليه كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ما لم يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ فَإِنْ
كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ
إنْ شَاءَ اللَّهُ في بَيَانِ الْمَحْظُورِ الذي يُفْسِدُ الْحَجَّ وهو الْجِمَاعُ
بِأَنْ جَامَعَ في مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَوْ جُرِحَ له قَرْحٌ أو
أَصَابَهُ جُرْحٌ وهو يُدَاوِيهِ بِالطِّيبِ فَخَرَجَتْ قُرْحَةٌ أُخْرَى أو
أَصَابَهُ جُرْحٌ آخَرُ وَالْأَوَّلُ على حَالِهِ لم يَبْرَأْ فَدَاوَى الثَّانِي
فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لم يَبْرَأْ فَالضَّرُورَةُ
بَاقِيَةٌ فَالْمُدَاوَاةُ الثَّانِيَةُ حَصَلَتْ على الْجِهَةِ التي حَصَلَتْ
عليها الْأُولَى فَيَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ
وَلَوْ حَصَرَهُ عَدُوٌّ فَاحْتَاجَ إلَى لُبْسِ الثِّيَابِ فَلَبِسَ ثُمَّ ذَهَبَ
فَنَزَعَ ثُمَّ عَادَ فَعَادَ أو كان الْعَدُوُّ لم يَبْرَحْ مَكَانَهُ فَكَانَ
يَلْبَسُ السِّلَاحَ فَيُقَاتِلُ بِالنَّهَارِ وَيَنْزِعُ بِاللَّيْلِ فَعَلَيْهِ
كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ما لم يَذْهَبْ هذا الْعَدُوُّ وَيَجِيءُ عَدُوٌّ آخَرُ
لِأَنَّ الْعُذْرَ وَاحِدٌ وَالْعُذْرُ الْوَاحِدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّبْسِ له
إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ
وَالْأَصْلُ في جِنْسِ هذه الْمَسَائِلِ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى اتِّحَادِ
الْجِهَةِ وَاخْتِلَافِهَا لَا إلَى صُورَةِ اللُّبْسِ فَإِنْ لَبِسَ الْمَخِيطَ
أَيَّامًا فَإِنْ لم يَنْزِعْ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا يَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ
بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ اللُّبْسَ على وَجْهٍ وَاحِدٌ
وَكَذَلِكَ إذَا كان بلبسه ( ( ( يلبسه ) ) ) بِالنَّهَارِ وَيَنْزِعُهُ بِاللَّيْلِ
لِلنَّوْمِ من غَيْرِ أَنْ يَعْزِمَ على تَرْكِهِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا دَمٌ
وَاحِدٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَعْزِمْ على التَّرْكِ كان اللُّبْسُ
على وَجْهٍ وَاحِدٍ فَإِنْ لَبِسَ يَوْمًا كَامِلًا فَأَرَاقَ دَمًا ثُمَّ دَامَ
على لُبْسِهِ يَوْمًا كَامِلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ آخَرُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ
الدَّوَامَ على اللُّبْسِ بِمَنْزِلَةِ لُبْسِ مُبْتَدَأٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو
أَحْرَمَ وهو مُشْتَمِلٌ على الْمَخِيطِ فَدَامَ عليه بَعْدَ الْإِحْرَامِ يَوْمًا
كَامِلًا يَلْزَمُهُ دَمٌ
وَلَوْ لَبِسَهُ يَوْمًا كَامِلًا ثُمَّ نَزَعَهُ وَعَزَمَ على تَرْكِهِ ثُمَّ
لَبِسَ بَعْدَ ذلك فَإِنْ كان كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى
بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ فَقَدْ الْتَحَقَ اللُّبْسُ
الْأَوَّلُ بِالْعَدَمِ فَيُعْتَبَرُ الثَّانِي لُبْسًا آخَرَ مُبْتَدَأً وإن لم
يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ وفي قَوْلِ مُحَمَّدٍ عليه كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ ما لم يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ كان اللُّبْسُ على حَالِهِ
فإذا وُجِدَ الثَّانِي فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وإذا
كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ بَطَلَ الْأَوَّلُ فَيُعْتَبَرُ الثَّانِي لُبْسًا ثَانِيًا
فَيُوجِبُ كَفَّارَةً أُخْرَى كما إذَا جَامَعَ في يَوْمَيْنِ من شَهْرِ رَمَضَانَ
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَمَّا نَزَعَ على عَزْمِ التَّرْكِ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ
اللُّبْسِ الْأَوَّلِ فَيُعْتَبَرُ الثَّانِي لُبْسًا مُبْتَدَأً فَيَتَعَلَّقُ
بِهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى
وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ النَّزْعَ على عَزْمِ التَّرْكِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ
اللُّبْسَتَيْنِ في الْحُكْمِ تَخَلَّلَهُمَا التَّكْفِيرُ أولا
وَعِنْدَهُ لَا يَخْتَلِفُ إلَّا إذَا تَخَلَّلَهُمَا التَّكْفِيرُ
وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِالْوَرْسِ أو الزَّعْفَرَانِ فَعَلَيْهِ دَمٌ
لِأَنَّ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ لَهُمَا رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَقَدْ
اسْتَعْمَلَ الطِّيبَ في بَدَنِهِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ وَكَذَا إذَا لَبِسَ
الْمُعَصْفَرَ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ عِنْدنَا إذْ
الْمُعَصْفَرُ طِيبٌ لِأَنَّ له رَائِحَةً طَيِّبَةً وَعَلَى الْقَارِنِ في
جَمِيعِ ما يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ مَثَلًا ما على الْمُفْرِدِ من الدَّمِ
وَالصَّدَقَةِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ فَأَدْخَلَ النَّقْصَ
في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الطِّيبِ وما يَجْرِي مَجْرَاهُ من إزَالَةِ
الشَّعَثِ وَقَضَاءِ التَّفَثِ
أَمَّا الطِّيبُ فَنَقُولُ لَا يَتَطَيَّبُ الْمُحْرِمُ لِقَوْلِ النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم الْمُحْرِمُ الْأَشْعَثُ الْأَغْبَرُ وَالطِّيبُ يُنَافِي
الشَّعَثَ
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَعَلَيْهِ
مَقْطَعَانِ مُضَمَّخَانِ بِالْخَلُوقِ فقال ما أَصْنَعُ في حَجَّتِي يا رَسُولَ
اللَّهِ فَسَكَتَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حتى أَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ فلما
سَرَى عنه قال صلى اللَّهُ عليه وسلم أَيْنَ السَّائِلُ فقال الرَّجُلُ أنا فقال
اغْسِلْ هذا الطِّيبَ عَنْك وَاصْنَعْ في حَجَّتِك ما كُنْت صَانِعًا في عُمْرَتِك
وَرَوَيْنَا أَنَّ مُحْرِمًا وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ فقال النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فإنه يُبْعَثُ يوم
الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا جَعْلُ كَوْنِهِ مُحْرِمًا عِلَّةُ حُرْمَةِ تَخْمِيرِ
الرَّأْسِ وَالتَّطَيُّبِ في حَقِّهِ فَإِنْ طَيَّبَ عُضْوًا كَامِلًا كَالرَّأْسِ
وَالْفَخِذِ وَالسَّاقِ وَنَحْوِ ذلك فَعَلَيْهِ دَمٌ وَإِنْ طَيَّبَ أَقَلَّ من
عُضْوٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ وقال مُحَمَّدٌ يُقَوَّمُ ما يَجِبُ فيه الدَّمُ
فَيَتَصَدَّقُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ حتى لو طَيَّبَ رُبْعَ عُضْوٍ فَعَلَيْهِ من
الصَّدَقَةِ قَدْرُ قِيمَةِ رُبْعِ شَاةٍ وَإِنْ طَيَّبَ نِصْفَ عُضْوٍ تَصَدَّقَ
بِقَدْرِ قِيمَةِ نِصْفِ شَاةٍ هَكَذَا
وَذَكَرَ الْحَاكِمُ في الْمُنْتَقَى في مَوْضِعٍ إذَا طَيَّبَ مِثْلَ الشَّارِبِ
أو بِقَدْرِهِ من اللِّحْيَةِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ
وفي مَوْضِعٍ إذَا طَيَّبَ مِقْدَارَ رُبْعِ الرَّأْسِ فَعَلَيْهِ دَمٌ أَعْطَى
الرُّبْعَ حُكْمَ الْكُلِّ كما في الْحَلْقِ
وقال الشَّافِعِيُّ في قَلِيلِ الطِّيبِ وَكَثِيرِهِ دَمٌ لِوُجُودِ الِارْتِفَاقِ
وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ الْبَعْضَ بِالْكُلِّ وَالصَّحِيحُ ما ذُكِرَ في الْأَصْلِ
لِأَنَّ تَطْيِيبَ عُضْوٍ كَامِلٍ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ فَكَانَ
____________________
(2/189)
جِنَايَةً
كَامِلَةً فَيُوجِبُ كَفَّارَةً كَامِلَةً وَتَطْيِيبَ ما دُونِهِ ارْتِفَاقٌ
قَاصِرٌ فَيُوجِبُ كَفَّارَةً قَاصِرَةً إذا الْحُكْمُ يَثْبُتُ على قَدْرِ
السَّبَبِ فَإِنْ طَيَّبَ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةً من كل عُضْوٍ يَجْمَعُ ذلك
كُلَّهُ فإذا بَلَغَ عُضْوًا كَامِلًا يَجِبُ عليه دَمٌ وَإِنْ لم يَبْلُغْ
فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ طَيَّبَ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا فَإِنْ كان في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ
دَمٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ جِنْسَ الْجِنَايَةِ وَاحِدٌ حَظَرَهَا إحْرَامٌ وَاحِدٌ من
جِهَةٍ غَيْرِ مُتَقَوَّمَةٍ فَيَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ وَإِنْ كان في مَجْلِسَيْنِ
مُخْتَلِفَيْنِ بِأَنْ طَيَّبَ كُلَّ عُضْوٍ في مَجْلِسٍ على حِدَةٍ فَعَلَيْهِ
لِكُلِّ وَاحِدٍ دَمٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ سَوَاءٌ ذَبَحَ
لِلْأَوَّلِ أو لم يَذْبَحْ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ أو لم يُكَفِّرْ
وقال مُحَمَّدٌ إنْ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ لم يَذْبَحْ فَعَلَيْهِ
دَمٌ وَاحِدٌ وَالِاخْتِلَافُ فيه كَالِاخْتِلَافِ في الْجِمَاعِ بِأَنْ جَامَعَ
قبل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ثُمَّ جَامَعَ إنه إنْ كان ذلك في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ
يَجِبُ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمٌ وَاحِدٌ وَإِنْ كان في مَجْلِسَيْنِ
مُخْتَلِفَيْنِ يَجِبُ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمَانِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ آخَرُ وَإِنْ لم
يَذْبَحْ يَكْفِي دَمٌ وَاحِدٌ قياسيا ( ( ( قياسا ) ) ) على كَفَّارَةِ
الْإِفْطَارِ في شَهْرِ رَمَضَانَ وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
وَلَوْ ادَّهَنَ بِدُهْنٍ فَإِنْ كان الدُّهْنُ مُطَيِّبًا كَدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ
وَالْوَرْدِ وَالزِّئْبَقِ وَالْبَانِ والحري وَسَائِرِ الْأَدْهَانِ التي فيها
الطِّيبُ فَعَلَيْهِ دَمٌ إذَا بَلَغَ عُضْوًا كَامِلًا
وَحُكِيَ عن الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْبَنَفْسَجَ ليس بِطِيبٍ وَأَنَّهُ غَيْرُ
سَدِيدٍ لِأَنَّهُ دُهْنٌ مُطَيِّبٌ فَأَشْبَهَ ألبان وَغَيْرَهُ من الْأَدْهَانِ
الْمُطَيِّبَةِ وَإِنْ كان غير مُطَيِّبٍ بِأَنْ أدهن بِزَيْتٍ أو بِشَيْرَجٍ
فَعَلَيْهِ دَمٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عليه
صَدَقَةٌ
وقال الشَّافِعِيُّ إنْ اسْتَعْمَلَهُ في شَعْرِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَإِنْ
اسْتَعْمَلَهُ في بَدَنِهِ فَلَا شَيْءَ عليه واحتجا ( ( ( احتجا ) ) ) بِمَا
رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ادَّهَنَ بِزَيْتٍ وهو
مُحْرِمٌ وَلَوْ كان ذلك مُوجِبًا لِلدَّمِ لَمَا فَعَلَ صلى اللَّهُ عليه وسلم
لِأَنَّهُ ما كان يَفْعَلُ ما يُوجِبُ الدَّمَ وَلِأَنَّ غير الْمُطَيِّبِ من الإدهان
يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْغِذَاءِ فَأَشْبَهَ اللَّحْمَ وَالشَّحْمَ
وَالسَّمْنَ إلَّا أَنَّهُ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ
لَا لِكَوْنِهِ طِيبًا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما روى عن أَمِّ حَبِيبَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّهُ لَمَّا
نُعِيَ إلَيْهَا وَفَاةُ أَخِيهَا قَعَدَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَدْعَتْ
بِزِنَةِ زَيْتٍ وقال ( ( ( وقالت ) ) ) ما لي إلَى الطِّيبِ من حَاجَةٍ لَكِنِّي
سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ
تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحُدَّ على مَيِّتٍ فَوْقَ
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا على زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا سَمَّتْ
الزَّيْتَ طِيبًا وَلِأَنَّهُ أَصْلُ الطِّيبِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُطَيَّبُ
بِإِلْقَاءِ الطَّيِّبِ فيه فإذا اسْتَعْمَلَهُ على وَجْهِ الطَّيِّبِ كان
كَسَائِرِ الْأَدْهَانِ الْمُطَيِّبَةِ وَلِأَنَّهُ يُزِيلُ الشَّعَثَ الذي هو
عَلَمُ الْإِحْرَامِ وَشِعَارُهُ على ما نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ فَصَارَ جَارِحًا
إحْرَامَهُ بِإِزَالَةِ عَلَمِهِ فَتَكَامَلَتْ جِنَايَتُهُ فَيَجِبُ الدَّمُ
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على حَالِ الضَّرُورَةِ لِأَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم
كما كان لَا يَفْعَلُ ما يُوجِبُ الدَّمَ كان لَا يَفْعَلُ ما يُوجِبُ الصَّدَقَةَ
وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ فَكَانَ الْمُرَادُ منه حَالَةَ الْعُذْرِ
وَالضَّرُورَةِ ثُمَّ إنَّهُ ليس فيه أَنَّهُ لم يُكَفِّرْ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ
فَعَلَ وَكَفَّرَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً
وَلَوْ دَاوَى بِالزَّيْتِ جُرْحَهُ أو شُقُوقَ رِجْلَيْهِ فَلَا كَفَّارَةَ عليه
لِأَنَّهُ ليس بِطِيبٍ بِنَفْسِهِ وَإِنْ كان أَصْلَ الطِّيبِ لَكِنَّهُ ما
اسْتَعْمَلَهُ على وَجْهِ الطِّيبِ فَلَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ بِخِلَافِ ما
إذَا تَدَاوَى بِالطِّيبِ لَا لِلتَّطَيُّبِ أَنَّهُ تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ
لِأَنَّهُ طِيبٌ في نَفْسِهِ فَيَسْتَوِي فيه اسْتِعْمَالُهُ لِلتَّطَيُّبِ أو
لِغَيْرِهِ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ وَإِنْ دَهَنَ شُقَاقَ رِجْلَيْهِ طَعَنَ عليه في
ذلك فَقِيلَ الصَّحِيحُ شُقُوقُ رِجْلَيْهِ وَإِنَّمَا قال مُحَمَّدٌ ذلك
اقْتِدَاءً بِعُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي اللَّهُ عنه فإنه قال هَكَذَا في هذه
الْمَسْأَلَةِ وَمِنْ سِيرَةِ أَصْحَابِنَا الِاقْتِدَاءُ بِأَلْفَاظِ
الصَّحَابَةِ وَمَعَانِي كَلَامِهِمْ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَإِنْ ادَّهَنَ
بِشَحْمٍ أو سَمْنٍ فَلَا شَيْءَ عليه لِأَنَّهُ ليس بِطِيبٍ في نَفْسِهِ وَلَا
أَصْلَ لِلطِّيبِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُطَيَّبُ بِإِلْقَاءِ الطِّيبِ فيه وَلَا
يَصِيرُ طِيبًا بِوَجْهٍ
وقد قال أَصْحَابُنَا أن الْأَشْيَاءَ التي تُسْتَعْمَلُ في الْبَدَنِ على
ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ هو طِيبٌ مَحْضٌ مُعَدٌّ لِلتَّطَيُّبِ بِهِ
كَالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ وَالْعَنْبَرِ وَغَيْرِ ذلك وَتَجِبُ بِهِ
الْكَفَّارَةُ على أَيِّ وَجْهٍ اُسْتُعْمِلَ حتى قالوا لو دَاوَى عَيْنَهُ
بِطِيبٍ تَجِبُ عليه الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْعَيْنَ عُضْوٌ كَامِلٌ اسْتَعْمَلَ
فيه الطِّيبَ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ
وَنَوْعٌ ليس بِطِيبٍ بِنَفْسِهِ وَلَا فيه مَعْنَى الطِّيبِ وَلَا يَصِيرُ طِيبًا
بِوَجْهٍ كَالشَّحْمِ فَسَوَاءٌ أُكِلَ أو اُدُّهِنَ بِهِ أو جُعِلَ في شُقَاقِ
الرِّجْلِ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ
وَنَوْعٌ ليس بِطِيبٍ بِنَفْسِهِ لَكِنَّهُ أَصْلُ الطِّيبِ يُسْتَعْمَلُ على
وَجْهِ الطِّيبِ وَيُسْتَعْمَلُ على وَجْهِ الأدام كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ
فَيُعْتَبَرُ فيه الِاسْتِعْمَالُ فَإِنْ اُسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ الْأَدْهَانِ
في الْبَدَنِ يعطي له حُكْمُ الطِّيبِ وَإِنْ
____________________
(2/190)
اُسْتُعْمِلَ
في مَأْكُولٍ أو شُقَاقِ رِجْلٍ لَا يعطي له حُكْمُ الطِّيبِ كَالشَّحْمِ وَلَوْ
كان الطِّيبُ في طَعَامٍ طُبِخَ وَتَغَيَّرَ فَلَا شَيْءَ على الْمُحْرِمِ في
أَكْلِهِ سَوَاءٌ كان يُوجَدُ ريه ( ( ( ريحه ) ) ) أو لَا لِأَنَّ الطِّيبَ صَارَ
مُسْتَهْلَكًا في الطَّعَامِ بِالطَّبْخِ وَإِنْ كان لم يُطْبَخْ يُكْرَهُ إذَا
كان رِيحُهُ يُوجَدُ منه وَلَا شَيْءَ عليه لِأَنَّ الطَّعَامَ غَالِبٌ عليه
فَكَانَ الطِّيبُ مَغْمُورًا مُسْتَهْلَكًا فيه وَإِنْ أَكَلَ عَيْنَ الطِّيبِ غير
مَخْلُوطٍ بِالطَّعَامِ فَعَلَيْهِ الدَّمُ إذَا كان كَثِيرًا
وَقَالُوا في الْمِلْحِ يُجْعَلُ فيه الزَّعْفَرَانُ أَنَّهُ إنْ كان
الزَّعْفَرَانُ غَالِبًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْمِلْحَ يَصِيرُ
تَبَعًا له فَلَا يُخْرِجُهُ عن حُكْمِ الطِّيبِ وَإِنْ كان الْمِلْحُ غَالِبًا
فَلَا كَفَّارَةَ عليه لِأَنَّهُ ليس فيه مَعْنَى الطِّيبِ
وقد رُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ كان يَأْكُلُ الخشكنا بخ الْأَصْفَرَ
وهو مُحْرِمٌ وَيَقُولُ لَا بَأْسَ بِالْخَبِيصِ الْأَصْفَرِ لِلْمُحْرِمِ فَإِنْ
تَدَاوَى الْمُحْرِمُ بِمَا لَا يُؤْكَلُ من الطِّيبِ لِمَرَضٍ أو عِلَّةٍ أو
اكْتَحَلَ بِطِيبٍ لِعِلَّةٍ فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ شَاءَ لِمَا
ذَكَرْنَا إن ما يَحْظُرُهُ إلا حرام إذَا فَعَلَهُ الْمُحْرِمُ لِضَرُورَةٍ
وَعُذْرٍ فَعَلَيْهِ إحْدَى الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ وَيُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ
أَنْ يَشُمَّ الطِّيبَ وَالرَّيْحَانَ كَذَا رُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ رضي
اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا كَرِهَا شَمَّ الرَّيْحَانِ لِلْمُحْرِمِ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَلَوْ شَمَّهُ
لَا شَيْءَ عليه عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ تَجِبُ عليه الْفِدْيَةُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الطِّيبَ ماله رَائِحَةٌ وَالرَّيْحَانُ له رَائِحَةٌ
طَيِّبَةٌ فَكَانَ طِيبًا وَإِنَّا نَقُولُ نعم أنه طِيبٌ لَكِنَّهُ لم يَلْتَزِقْ
بِبَدَنِهِ وَلَا بِثِيَابِهِ شَيْءٌ منه وَإِنَّمَا شَمَّ رَائِحَتَهُ فَقَطْ
وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ كما لو جَلَسَ عِنْدَ الْعَطَّارِينَ فَشَمَّ
رَائِحَةَ الْعِطْرِ إلَّا أَنَّهُ كره ( ( ( ذكره ) ) ) لِمَا فيه من
الِارْتِفَاقِ وَكَذَا كُلُّ نَبَاتٍ له رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ وَكُلُّ ثَمَرَةٍ لها
رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ بِالرَّائِحَةِ وَلَوْ فَعَلَ لَا
شَيْءَ عليه لِأَنَّهُ لم يَلْتَزِقْ بِبَدَنِهِ وَثِيَابِهِ شَيْءٌ منه
وَحُكِيَ عن مَالِكٍ أَنَّهُ كان يَأْمُرُ بِرَفْعِ الْعَطَّارِينَ بِمَكَّةَ في
أَيَّامِ الْحَجِّ وَذَلِكَ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَأَصْحَابَهُ لم يَفْعَلُوا ذلك فَإِنْ شَمَّ الْمُحْرِمُ رَائِحَةَ طِيبٍ
تَطَيَّبَ بِهِ قبل الْإِحْرَامِ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الطِّيبِ
حَصَلَ في وَقْتٍ مُبَاحٍ فَبَقِيَ شَمُّ نَفْسِ الرَّائِحَةِ فَلَا يُمْنَعُ منه
كما لو مَرَّ بِالْعَطَّارِينَ
وروي ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ رَجُلًا لو دخل بَيْتًا قد أَجْمَرَ
وَطَالَ مُكْثُهُ بِالْبَيْتِ فَعَلِقَ في ثَوْبِهِ شَيْءٌ يَسِيرٌ فَلَا شَيْءَ
عليه لِأَنَّ الرَّائِحَةَ لم تَتَعَلَّقْ بِعَيْنٍ وَبِمُجَرَّدِ الرَّائِحَةِ
لَا يُمْنَعُ منها فَإِنْ اسْتَجْمَرَ بِثَوْبٍ فَعَلِقَ بِثَوْبِهِ شَيْءٌ
كَثِيرٌ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ هَهُنَا تَعَلَّقَتْ بِعَيْنٍ وقد
اسْتَعْمَلَهَا في بَدَنِهِ فَصَارَ كما لو تَطَيَّبَ
وَذَكَرَ ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ اكْتَحَلَ بِكُحْلٍ قد طَيَّبَ
مَرَّةً أو مَرَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَإِنْ كان كَثِيرًا فَعَلَيْهِ دَمٌ
لِأَنَّ الطِّيبَ إذَا غَلَبَ الْكُحْلَ فَلَا فَرْقَ بين اسْتِعْمَالِهِ على
طَرِيقِ التَّدَاوِي أو التَّطَيُّبِ فَإِنْ مَسَّ طِيبًا فَلَزِقَ بيده فَهُوَ
بِمَنْزِلَةِ التَّطَيُّبِ لِأَنَّهُ طَيَّبَ بِهِ يَدَهُ وَإِنْ لم يَقْصِدْ بِهِ
التَّطَيُّبَ لِأَنَّ الْقَصْدَ ليس بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَقَالُوا
فِيمَنْ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ فَأَصَابَ يَدَهُ من طِيبِهِ أن عليه الْكَفَّارَةَ
لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ الطِّيبَ وَإِنْ لم يَقْصِدْ بِهِ التَّطَيُّبَ وَوُجُوبُ
الْكَفَّارَةِ لَا يَقِفُ على الْقَصْدِ فَإِنْ دَاوَى جُرْحًا أو تَطَيَّبَ
لِعِلَّةٍ ثُمَّ حَدَثَ جُرْحٌ آخَرُ قبل أَنْ يَبْرَأَ الْأَوَّلُ فَعَلَيْهِ
كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْعُذْرَ الْأَوَّلَ بَاقٍ فكانت ( ( ( فكان ) ) )
جِهَةُ الِاسْتِعْمَالِ وَاحِدَةً فَتَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كما قُلْنَا
في لُبْسِ الْمَخِيطِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْتَجِمَ الْمُحْرِمُ وَيَفْتَصِدَ
وَيَبُطَّ الْقُرْحَةَ وَيَعْصِبَ عليه الْخِرْقَةَ وَيَجْبُرَ الْكَسْرَ
وَيَنْزِعَ الضِّرْسَ إذَا اشْتَكَى منه وَيَدْخُلَ الْحَمَّامَ وَيَغْتَسِلَ
لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم احْتَجَمَ وهو صَائِمٌ
مُحْرِمٌ بالفاحة ( ( ( بالقرحة ) ) ) وَالْفَصْدُ وَبَطُّ الْقُرْحَةِ
وَالْجُرْحِ في مَعْنَى الْحِجَامَةِ وَلِأَنَّهُ ليس في هذه الْأَشْيَاءِ إلَّا
شَقُّ الْجِلْدَةِ وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عن ذلك وَلِأَنَّهَا من بَابِ التَّدَاوِي
وَالْإِحْرَامُ لَا يَمْنَعُ من التَّدَاوِي وَكَذَا جَبْرُ الْكَسْرِ من بَابِ
الْعِلَاجِ وَالْمُحْرِمُ لَا يُمْنَعُ منه وَكَذَا قَلْعُ الضِّرْسِ وهو أَيْضًا
من بَابِ إزَالَةِ الضَّرَرِ فَيُشْبِهُ قَطْعَ الْيَدِ من الْأَكَلَةِ وَذَا لَا
يُمْنَعُ منه الْمُحْرِمُ كَذَا هذا
وَأَمَّا الِاغْتِسَالُ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم اغْتَسَلَ وهو مُحْرِمٌ وقال ما نَفْعَلُ بِأَوْسَاخِنَا فَإِنْ غَسَلَ
رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ بِالْخِطْمِيِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ
أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عليه صَدَقَةٌ لَهُمَا أَنَّ الْخِطْمِيَّ ليس بِطِيبٍ
وَإِنَّمَا يُزِيلُ الْوَسَخَ فَأَشْبَهَ الْأُشْنَانَ فَلَا يَجِبُ بِهِ الدَّمُ
وَتَجِبُ الصَّدَقَةُ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ لَا لِأَنَّهُ طِيبٌ
وَلِأَبِي حينفة ( ( ( حنيفة ) ) ) أَنَّ الْخِطْمِيَّ طِيبٌ لأنه له رَائِحَةً
طَيِّبَةً فَيَجِبُ بِهِ الدَّمُ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الطِّيبِ وَلِأَنَّهُ
يُزِيلُ الشَّعَثَ وَيَقْتُلُ الْهَوَامَّ فَأَشْبَهَ الْحَلْقَ فَإِنْ خَضَّبَ
رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ بِالْحِنَّاءِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّ الْحِنَّاءَ طِيبٌ
لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى الْمُعْتَدَّةَ
أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ وقال الْحِنَّاءُ طِيبٌ
____________________
(2/191)
وَلِأَنَّ
الطِّيبَ ماله رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ وَلِلْحِنَّاءِ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَكَانَ
طِيبًا وَإِنْ خَضَّبَتْ الْمُحْرِمَةُ يَدَيْهَا بِالْحِنَّاءِ فَعَلَيْهَا دَمٌ
وَإِنْ كان قَلِيلًا فَعَلَيْهَا صَدَقَةٌ لِأَنَّ الِارْتِفَاقَ الْكَامِلَ لَا
يَحْصُلُ إلَّا بِتَطْيِيبِ عُضْوٍ كَامِلٍ وَالْقُسْطُ طِيبٌ لِأَنَّ له رَائِحَةٌ
طَيِّبَةٌ وَلِهَذَا يُتَبَخَّرُ بِهِ وَيُلْتَذُّ بِرَائِحَتِهِ وَالْوَسْمَةُ
ليس بِطِيبٍ لِأَنَّهُ ليس لها رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ بَلْ كَرِيهَةٌ وَإِنَّمَا
تُغَيِّرُ الشَّعْرَ وَذَلِكَ ليس من بَابِ الِارْتِفَاقِ بَلْ من بَابِ
الزِّينَةِ فَإِنْ خَافَ أَنْ يَقْتُلَ دَوَابَّ الرَّأْسِ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ
لِأَنَّهُ يُزِيلُ التَّفَثَ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْوَسْمَةِ أَنَّ عليه دَمًا
لَا لِأَجْلِ الْخِضَابِ بَلْ لِأَجْلِ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ وَالْكُحْلُ ليس
بِطِيبٍ وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَكْتَحِلَ بِكُحْلٍ ليس فيه طِيبٌ
وقال ابن أبي لَيْلَى هو طِيبٌ وَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَكْتَحِلَ بِهِ
وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ ليس له رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَلَا يَكُونُ
طِيبًا وَيَسْتَوِي في وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِالتَّطَيُّبِ الذِّكْرُ وَالنِّسْيَانُ
وَالطَّوْعُ وَالْكُرْهُ عِنْدَنَا كما في لُبْسِ الْمَخِيطِ خِلَافًا
لِلشَّافِعِيِّ على ما مَرَّ وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ في الطِّيبِ سَوَاءٌ في
الْحَظْرِ وَوُجُوبِ الْجَزَاءِ لِاسْتِوَائِهِمَا في الْحَاظِرِ وَالْمُوجِبِ
لِلْجَزَاءِ وَكَذَا الْقَارِنُ وَالْمُفْرِدُ إلَّا أَنَّ على الْقَارِنِ
مِثْلَيْ ما على الْمُفْرِدِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ
فَأَدْخَلَ نَقْصًا في إحْرَامَيْنِ فَيُؤَاخَذُ بِجَزَاءَيْنِ وَلَا يَحِلُّ
لِلْقَارِنِ وَالْمُفْرِدِ التَّطَيُّبُ ما لم يَحْلِقَا أو يُقَصِّرَا لِبَقَاءِ
الْإِحْرَامِ قبل الْحَلْقِ أو التَّقْصِيرِ فَكَانَ الْحَاظِرُ بَاقِيًا
فَيَبْقَى الْحَظْرُ وَكَذَا الْمُعْتَمِرُ لِمَا قُلْنَا وقد ذَكَرْنَا ذلك
فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا ما يَجْرِي مجري الطِّيبِ من إزَالَةِ الشَّعَثِ وَقَضَاءِ
التَّفَثِ فَحَلْقُ الشَّعْرِ وَقَلْمُ الظُّفْرِ أَمَّا الْحَلْقُ فَنَقُولُ لَا
يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ قبل يَوْمِ النَّحْرِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رؤوسكم حتى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ }
وَقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْمُحْرِمُ الْأَشْعَثُ الْأَغْبَرُ
وَسُئِلَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم من الْحَاجُّ فقال الشَّعِثُ
التَّفِثُ وَحَلْقُ الرَّأْسِ يُزِيلُ الشَّعَثَ وَالتَّفَثَ وَلِأَنَّهُ من بَابِ
الِارْتِفَاقِ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ عن ذلك
وَلِأَنَّهُ نَوْعُ نَبَاتٍ اسْتَفَادَ إلا من بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَيَحْرُمُ
التَّعَرُّضُ له كَالنَّبَاتِ الذي اسْتَفَادَ إلا من بِسَبَبِ الْحَرَمِ وهو
الشَّجَرُ والخلي وَكَذَا لَا يُطْلِي رَأْسَهُ بِنُورَةٍ لِأَنَّهُ في مَعْنَى
الْحَلْقِ وَكَذَا لَا يُزِيلُ شَعْرَةً من شَعْرِ رَأْسِهِ وَلَا يُطْلِيهَا
بِالنُّورَةِ لِمَا قُلْنَا
فَإِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ فَإِنْ حَلَقَهُ من غَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لَا
يُجْزِيهِ غَيْرُهُ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَإِنْ حَلَقَهُ
لِعُذْرٍ فَعَلَيْهِ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ لِقَوْلِهِ عز وجل { فَمَنْ
كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو بِهِ أَذًى من رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ من صِيَامٍ أو
صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ } وَلِمَا رَوَيْنَا من حديث كَعْبِ بن عُجْرَةَ وَلِأَنَّ
الضَّرُورَةَ لها أَثَرٌ في التَّخْفِيفِ فَخُيِّرَ بين الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ
تَخْفِيفًا وَتَيْسِيرًا وَإِنْ حَلَقَ ثُلُثَهُ أو رُبُعَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ
وَإِنْ حَلَقَ دُونَ الرُّبُعِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ كَذَا ذُكِرَ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ ولم يذكر الِاخْتِلَافَ
وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ في مُخْتَصَرِهِ الِاخْتِلَافَ فقال إذَا حَلَقَ رُبُعَ
رَأْسِهِ يَجِبُ عليه الدَّمُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ ما لم يَحْلِقْ أَكْثَرَ رَأْسِهِ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ
في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْحَاكِمِ إذَا حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ يَجِبُ عليه دَمٌ
في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ إذَا حَلَقَ أَكْثَرَهُ يَجِبُ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إذَا حَلَقَ شعرة يَجِبُ
وقال الشَّافِعِيُّ إذَا حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ يَجِبُ
وقال مَالِكٌ لَا يَجِبُ إلَّا بِحَلْقِ الْكُلِّ وَعَلَى هذا إذَا حَلَقَ
لِحْيَتَهُ أو ثُلُثَهَا أو رُبُعَهَا
احْتَجَّ مَالِكٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رؤوسكم حتى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وَالرَّأْسُ اسْمٌ لِكُلِّ هذا الْمَحْدُودِ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الثَّلَاثَ جَمْعٌ صَحِيحٌ فَيَقُومُ مَقَامَ
الْكُلِّ وَلِهَذَا قام مَقَامَ الْكُلِّ في مَسْحِ الرَّأْسِ وَلِأَنَّ الشَّعْرَ
نَبَاتٌ اسْتَفَادَ إلا من بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَيَسْتَوِي فيه قَلِيلُهُ
وَكَثِيرُهُ كَالنَّبَاتِ الذي اسْتَفَادَ إلا من بِسَبَبِ الْحَرَمِ من الشَّجَرِ
والخلي وَأَمَّا الْكَلَامُ بين أَصْحَابِنَا فَمَبْنِيٌّ على أَنَّ حَلْقَ
الْكَثِيرِ يُوجِبُ الدَّمَ وَالْقَلِيلِ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ وَاخْتَلَفُوا في
الْحَدِّ الْفَاصِلِ بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَجَعَلَ أبو حَنِيفَةَ ما دُونَ
الرُّبُعِ قَلِيلًا وَالرُّبُعَ وما فَوْقَهُ كَثِيرًا وَهُمَا على ما ذَكَرَ
الطَّحَاوِيُّ جَعَلَا ما دُونَ النِّصْفِ قَلِيلًا وما زَادَ على النِّصْفِ
كَثِيرًا وَالْوَجْهُ لَهُمَا أَنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ من أَسْمَاءِ
الْمُقَابَلَةِ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذلك بمقابلة فَإِنْ كان مُقَابِلُهُ قَلِيلًا
فَهُوَ كَثِيرٌ وَإِنْ كان كَثِيرًا فَهُوَ قَلِيلٌ فَيَلْزَمُ منه أَنْ يَكُونَ
الرُّبُعُ قَلِيلًا لِأَنَّ ما يُقَابِلُهُ كَثِيرٌ فَكَانَ هو قَلِيلًا
وَالْوَجْهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الرُّبُعَ في حَلْقِ الرَّأْسِ بِمَنْزِلَةِ
الْكُلِّ
أَلَا تَرَى أَنَّ من عَادَةِ كَثِيرٍ من الْأَجْيَالِ من الْعَرَبِ وَالتُّرْكِ
وَالْكُرْدِ الِاقْتِصَارَ على حَلْقِ رُبُعِ الرَّأْسِ وَلِذَا يقول الْقَائِلُ
رَأَيْت فُلَانًا يَكُونُ صَادِقًا في مَقَالَتِهِ وَإِنْ لم يَرَ إلَّا أَحَدَ
جَوَانِبِهِ الْأَرْبَعِ وَلِهَذَا أُقِيمَ مَقَامَ الْكُلِّ في الْمَسْحِ وفي
الْخُرُوجِ من الْإِحْرَامِ بِأَنْ حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ لِلتَّحَلُّلِ
____________________
(2/192)
وَالْخُرُوجِ
من الْإِحْرَامِ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ وَيَخْرُجُ من الْإِحْرَامِ فَكَانَ حَلْقُ
رُبُعِ الرَّأْسِ ارْتِفَاقًا كَامِلًا فَكَانَتْ جِنَايَةً كَامِلَةً فَيُوجِبُ
كَفَّارَةً كَامِلَةً وَكَذَا حَلْقُ رُبُعِ اللِّحْيَةِ لِأَهْلِ بَعْضِ
الْبِلَادِ مُعْتَادٌ كَالْعِرَاقِ وَنَحْوِهَا فَكَانَ حَلْقُ الرُّبُعِ منها
كَحَلْقِ الْكُلِّ وَلَا حُجَّةَ لِمَالِكٍ في الْآيَةِ لِأَنَّ فيها نَهْيًا عن
حَلْقِ الْكُلِّ وَذَا لَا يَنْفِي النَّهْيَ عن حَلْقِ الْبَعْضِ فَكَانَ
تَمَسُّكًا بِالْمَسْكُوتِ فَلَا يَصِحُّ وما قَالَهُ الشَّافِعِيُّ غَيْرُ
سَدِيدٍ لِأَنَّ آخِذَ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ لَا يُسَمَّى حَالِقًا في الْعُرْفِ
فَلَا يَتَنَاوَلُهُ نَصُّ الْحَلْقِ كما لَا يُسَمَّى مَاسِحُ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ
مَاسِحًا في الْعُرْفِ حتى لم يَتَنَاوَلْهُ نَصُّ الْمَسْحِ على أَنَّ وُجُوبَ
الدَّمِ مُتَعَلِّقٌ بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ وَحَلْقُ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ ليس
بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ فَلَا يُوجِبُ كَفَّارَةً كَامِلَةً
وَقَوْلُهُ إنَّهُ نَبَاتٌ اسْتَفَادَ إلا من بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ مُسَلَّمٌ
لَكِنَّ هذا يَقْتَضِي حُرْمَةَ التَّعَرُّضِ لِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَنَحْنُ
بِهِ نَقُولُ وَلَا كَلَامَ فيه وَإِنَّمَا الْكَلَامُ في وُجُوبِ الدَّمِ وَذَا
يَقِفُ على ارْتِفَاقٍ كَامِلٍ ولم يُوجَدْ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِمَا
إنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ يُعْرَفُ بِالْمُقَابَلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ
الرُّبُعَ كَثِيرٌ من غَيْرِ مُقَابَلَةٍ في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَيُعْمَلُ عليه
في مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ وَلَوْ أَخَذَ شيئا من رَأْسِهِ أو لِحْيَتِهِ أو
لَمَسَ شيئا من ذلك فَانْتَثَرَ منه شَعْرَةٌ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِوُجُودِ
الِارْتِفَاقِ بِإِزَالَةِ التَّفَثِ هذا إذَا حَلَقَ رَأْسَ نَفْسِهِ فَأَمَّا
إذَا حَلَقَ رَأْسَ غَيْرِهِ فَعَلَى الْحَالِقِ صَدَقَةٌ عِنْدَنَا
وقال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا شَيْءَ على الْحَالِقِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ لِوُجُودِ الِارْتِفَاقِ ولم يُوجَدْ
من الْحَالِقِ
وَلَنَا أَنَّ الْمُحْرِمَ كما هو مَمْنُوعٌ من حَلْقِ رَأْسِ نَفْسِهِ مَمْنُوعٌ
من حَلْقِ رَأْسِ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ عز وجل { وَلَا تَحْلِقُوا رؤوسكم حتى
يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وَالْإِنْسَانُ لَا يَحْلِقُ رَأْسَ نَفْسِهِ عادة
إلَّا أَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ عليه حَلْقُ رَأْسِ غَيْرِهِ يَحْرُمُ عليه حَلْقُ
رَأْسِ نَفْسِهِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى فَتَجِبُ عليه الصَّدَقَةُ وَلَا يَجِبُ
عليه الدَّمُ لِعَدَمِ الِارْتِفَاقِ في حَقِّهِ وَسَوَاءٌ كان الْمَحْلُوقُ
حَلَالًا أو حَرَامًا لِمَا قُلْنَا غير أَنَّهُ إنْ كان حَلَالًا لَا شَيْءَ عليه
وَإِنْ كان حَرَامًا فَعَلَيْهِ الدَّمُ لِحُصُولِ الِارْتِفَاقِ الْكَامِلِ له
وَسَوَاءٌ كان الْحَلْقُ بِأَمْرِ الْمَحْلُوقِ أو بِغَيْرِ أَمْرِهِ طَائِعًا أو
مُكْرَهًا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ إنْ كان مُكْرَهًا فَلَا شَيْءَ عليه وَإِنْ لم يَكُنْ
مُكْرَهًا لَكِنَّهُ سَكَتَ فَفِيهِ وَجْهَانِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ
الْإِكْرَاهَ لَا يَسْلُبُ الْحَظْرَ وَكَمَالُ الِارْتِفَاقِ مَوْجُودٌ فَيَجِبُ
عليه كَمَالُ الْجَزَاءِ وَلَيْسَ له أَنْ يَرْجِعَ بِهِ على الْحَالِقِ وَعَنْ
الْقَاضِي أبي حَازِمٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ عليه بِالْكَفَّارَةِ لِأَنَّ الْحَالِقَ
هو الذي أَدْخَلَهُ في عُهْدَةِ الضَّمَانِ فَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ عليه
كَالْمُكْرَهِ على اتلاف الْمَالِ
وَلَنَا أَنَّ الِارْتِفَاقَ الْكَامِلَ حَصَلَ له فَلَا يَرْجِعُ على أَحَدٍ إذْ
لو رَجَعَ لَسَلِمَ له الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
كَالْمَغْرُورِ إذَا وطىء الْجَارِيَةَ وَغَرِمَ الْعُقْرَ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ
بِهِ على الْغَارِّ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَإِنْ كان الْحَالِقُ حَلَالًا فَلَا شَيْءَ عليه وَحُكْمُ الْمَحْلُوقِ ما
ذَكَرنَا وَإِنْ حَلَقَ شَارِبَهُ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِأَنَّ الشَّارِبَ تَبَعٌ
لِلِّحْيَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْبُتُ تَبَعًا لِلِّحْيَةِ وَيُؤْخَذُ تَبَعًا
لِلِّحْيَةِ أَيْضًا وَلِأَنَّهُ قَلِيلٌ فَلَا يَتَكَامَلُ مَعْنَى الْجِنَايَةِ
وَذُكِرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُحْرِمٌ أَخَذَ من شَارِبِهِ فَعَلَيْهِ
حُكُومَةُ عَدْلٍ وَهِيَ أَنْ يَنْظُرَ كَمْ تَكُونُ مَقَادِيرُ أَدْنَى ما يَجِبُ
في اللِّحْيَةِ من الدَّمِ وهو الرُّبُعُ فَتَجِبُ الصَّدَقَةُ بِقَدْرِهِ حتى لو
كان مِثْلَ رُبُعِ اللِّحْيَةِ يَجِبُ رُبُعُ قِيمَةِ الشَّاةِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ
لِلِّحْيَةِ وَقَوْلُهُ أَخَذَ من شَارِبِهِ إشَارَةً إلَى الْقَصِّ وهو
السُّنَّةُ في الشَّارِبِ لَا الْحَلْقُ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ الْآثَارِ أَنَّ السُّنَّةَ فيه الْحَلْقُ
وَنُسِبَ ذلك إلَى أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وَالصَّحِيحُ أَنَّ السُّنَّةَ فيه الْقَصُّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَبَعُ
اللِّحْيَةِ وَالسُّنَّةُ في اللِّحْيَةِ الْقَصُّ لَا الْحَلْقُ كَذَا في
الشَّارِبِ وَلِأَنَّ الْحَلْقَ يَشِينُهُ وَيَصِيرُ بِمَعْنَى الْمُثْلَةِ
وَلِهَذَا لم يَكُنْ سُنَّةً في اللِّحْيَةِ بَلْ كان بِدْعَةً فَكَذَا في
الشَّارِبِ وَلَوْ حَلَقَ الرَّقَبَةَ فَعَلَيْهِ الدَّمُ لِأَنَّهُ عُضْوٌ
كَامِلٌ مَقْصُودٌ بِالِارْتِفَاقِ بِحَلْقِ شَعْرِهِ فَتَجِبُ كَفَّارَةٌ
كَامِلَةٌ كما في حَلْقِ الرَّأْسِ وَلَوْ نَتَفَ أَحَدِ الابطين فَعَلَيْهِ دَمٌ
لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ نَتَفَ الابطين جميعا تَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ جِنْسَ
الْجِنَايَةِ وَاحِدٌ وَالْحَاظِرُ وَاحِدٌ وَالْجِهَةُ غَيْرُ مُتَقَوَّمَةٍ
فَتَكْفِيهَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ نَتَفَ من أَحَدِ الْإِبْطَيْنِ
أَكْثَرَهُ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ فِيمَا له نَظِيرٌ في
الْبَدَنِ لَا يُقَامُ مَقَامَ كُلِّهِ بِخِلَافِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ
وَالرَّقَبَةِ وما لَا نَظِيرَ له في الْبَدَنِ ثُمَّ ذَكَرَ في الْإِبْطِ
النَّتْفَ في في الْأَصْلِ وهو إشَارَةٌ إلَى أَنَّ السُّنَّةَ فيه النَّتْفُ وهو
كَذَلِكَ
وَذُكِرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْحَلْقُ وهو إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ ليس
بِحَرَامٍ وَلَوْ حَلَقَ مَوْضِعَ الْمَحَاجِمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فيه صَدَقَةٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ مَوْضِعَ الْحِجَامَةِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْحَلْقِ
بَلْ هو تَابِعٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِحَلْقِهِ دَمٌ كَحَلْقِ الشَّارِبِ لِأَنَّهُ
إذَا لم يَكُنْ مَقْصُودًا بِالْحَلْقِ لَا تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ بِحَلْقِهِ
فَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ
____________________
(2/193)
وَلِأَنَّهُ
إنَّمَا يَحْلِقُ لِلْحِجَامَةِ لَا لِنَفْسِهِ وَالْحِجَامَةُ لَا تُوجِبُ
الدَّمَ لِأَنَّهُ ليس من مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ على ما بَيَّنَّا فَكَذَا ما
يَفْعَلُ لها وَلِأَنَّ ما عليه من الشَّعْرِ قَلِيلٌ فَأَشْبَهَ الصَّدْرَ وَالسَّاعِدَ
وَالسَّاقَ وَلَا يَجِبُ بِحَلْقِهَا دَمٌ بَلْ صَدَقَةٌ كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هذا عُضْوٌ مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ لِمَنْ يَحْتَاجُ
إلَى حلقة لأنه الْحِجَامَةَ أَمْرٌ مَقْصُودٌ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهَا
لِاسْتِفْرَاغِ الْمَادَّةِ الدَّمَوِيَّةِ وَلِهَذَا لَا يُحْلَقُ تَبَعًا
لِلرَّأْسِ وَلَا لِلرَّقَبَةِ فَأَشْبَهَ حَلْقَ الْإِبْطِ وَالْعَانَةِ
وَيَسْتَوِي في وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِالْحَلْقِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ وَالطَّوْعُ
وَالْكُرْهُ عِنْدَنَا وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ غير
أَنَّ الْقَارِنَ يَلْزَمُهُ جزاآن ( ( ( جزاءان ) ) ) عِنْدَنَا لِكَوْنِهِ
مُحْرِمًا بِإِحْرَامَيْنِ على ما بَيَّنَّا
وَأَمَّا قَلْمُ الظُّفْرِ فَنَقُولُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَلْمُ أَظْفَارِهِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } وَقَلْمُ الْأَظْفَارِ من
قَضَاءِ التَّفَثِ رَتَّبَ اللَّهُ تَعَالَى قَضَاءَ التَّفَثِ على الذَّبْحِ
لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ بِكَلِمَةٍ مَوْضُوعَةٍ لِلتَّرْتِيبِ مع التَّرَاخِي
بِقَوْلِهِ عز وجل { ويذكروا ( ( ( ليذكروا ) ) ) اسْمَ اللَّهِ في أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ
على ما رَزَقَهُمْ من بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا منها وَأَطْعِمُوا
الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } { ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } فَلَا يَجُوزُ الذَّبْحُ
وَلِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ عن ذلك
وَلِأَنَّهُ نَوْعُ نَبَاتٍ اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ
فَيَحْرُمُ التَّعَرُّضُ له كَالنَّوْعِ الْآخَرِ وهو النَّبَاتُ الذي اسْتَفَادَ
الآمن بِسَبَبِ الْحَرَمِ فَإِنْ قَلَمَ أَظَافِيرَ يَدٍ أو رِجْلٍ من غَيْرِ
عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ فَتَكَامَلَتْ
الْجِنَايَةُ فَتَجِبُ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ وَإِنْ قَلَّمَ أَقَلَّ من يَدٍ أو
رِجْلٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِكُلِّ ظُفْرٍ نِصْفُ صَاعٍ وَهَذَا قَوْلُ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ إذَا قَلَمَ ثَلَاثَةَ أَظْفَارٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَجْهُ قَوْلِهِ
أَنَّ ثَلَاثَةَ أَظَافِيرَ من الْيَدِ أَكْثَرُهَا وَالْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ
الْكُلِّ في هذا الْبَابِ كما في حَلْقِ الرَّأْسِ وَلِأَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
أَنَّ قَلْمَ ما دُونَ الْيَدِ ليس بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ فَلَا يُوجِبُ كَفَّارَةً
كَامِلَةً وَأَمَّا قَوْلُهُ الْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فَنَقُولُ إنَّ
الْيَدَ الْوَاحِدَةَ قد أُقِيمَتْ مَقَامَ كل الْأَطْرَافِ في وُجُوبِ الدَّمِ
وما أُقِيمَ مَقَامَ الْكُلِّ لَا يَقُومُ أَكْثَرُهُ مَقَامَهُ كما في الرَّأْسِ
أَنَّهُ لَمَّا أُقِيمَ الرُّبُعُ فيه مَقَامَ الْكُلِّ لَا يُقَامُ أَكْثَرُ
الرُّبُعِ مَقَامَهُ وَهَذَا لِأَنَّهُ لو أُقِيمَ أَكْثَرُ ما أُقِيمَ مَقَامَ
الْكُلِّ مَقَامَهُ لَأُقِيمَ أَكْثَرُ أَكْثَرِهِ مَقَامَهُ فَيُؤَدِّي إلَى
إبْطَالِ التَّقْدِيرِ أَصْلًا وَرَأْسًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ
فَإِنْ قَلَمَ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ من الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ مُتَفَرِّقَةَ
الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِكُلِّ ظُفْرٍ نِصْفُ صَاعٍ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ عليه دَمٌ وَكَذَلِكَ لو قَلَمَ من كل عُضْوٍ من الْأَعْضَاءِ
الْأَرْبَعَةِ أَرْبَعَةَ أَظَافِيرَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ عِنْدَهُمَا وَإِنْ كان
يَبْلُغُ جُمْلَتُهَا سِتَّةَ عَشَرَ ظُفْرًا وَيَجِبُ في كل ظُفْرٍ نِصْفُ صَاعٍ
من بُرٍّ إلَّا إذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الطَّعَامِ دَمًا فَيُنْقِصَ منه ما شَاءَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عليه دَمٌ فَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ عَدَدَ الْخَمْسَةِ لَا
غَيْرُ ولم يَعْتَبِرْ التَّفَرُّقَ وَالِاجْتِمَاعَ وأبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ
اعْتَبَرَا مع عَدَدِ الْخَمْسَةِ صِفَةَ الِاجْتِمَاعِ وهو أَنْ يَكُونَ من
مَحِلٍّ وَاحِدٍ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إن قَلْمَ أَظَافِيرِ يَدٍ وَاحِدَةٍ أو رِجْلٍ وَاحِدَةٍ
إنَّمَا أَوْجَبَ الدَّمَ لِكَوْنِهَا رُبُعَ الْأَعْضَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ
وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْتَوِي فيه الْمُجْتَمِعُ وَالْمُتَفَرِّقُ أَلَا تَرَى
أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا في الْأَرْشِ بِأَنْ قَطَعَ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ
مُتَفَرِّقَةٍ فَكَذَا هذا
وَلَهُمَا أَنَّ الدَّمَ إنَّمَا يَجِبُ بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ وَلَا يَحْصُلُ ذلك
بِالْقَلْمِ مُتَفَرِّقًا لِأَنَّ ذلك شَيْنٌ وَيَصِيرُ مُثْلَةً فَلَا تَجِبُ
بِهِ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ وَيَجِبُ في كل ظُفْرٍ نِصْفُ صَاعٍ من حِنْطَةٍ إلَّا
أَنْ تَبْلُغَ قِيمَةَ الطَّعَامِ دَمًا فينقص ( ( ( ينقص ) ) ) منه ما شَاءَ
لِأَنَّا إنَّمَا لم نُوجِبْ عليه الدَّمَ لِعَدَمِ تَنَاهِي الْجِنَايَةِ
لِعَدَمِ ارْتِفَاقٍ كَامِلٍ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَبْلُغَ قِيمَةَ الدَّمِ فَإِنْ
اخْتَارَ الدَّمَ فَلَهُ ذلك وَلَيْسَ عليه غَيْرُهُ
فَإِنْ قَلَمَ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ من يَدٍ وَاحِدَةٍ أو رِجْلٍ وَاحِدَةٍ ولم
يُكَفِّرْ ثُمَّ قَلَمَ أَظَافِيرَ يَدِهِ الْأُخْرَى أو رِجْلِهِ الْأُخْرَى
فَإِنْ كان في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ دَمٌ لِمَا سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كان في مَجْلِسَيْنِ فَعَلَيْهِ دَمَانِ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ عليه دَمٌ وَاحِدٌ ما لم يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ وَأَجْمَعُوا على
أَنَّهُ لو قَلَمَ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ من يَدٍ وَاحِدَةٍ أو رِجْلٍ وَاحِدَةٍ
وَحَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ وَطَيَّبَ عُضْوًا وَاحِدًا أَنَّ عليه لِكُلِّ جِنْسٍ
دَمًا على حِدَةٍ سَوَاءٌ كان في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أو في مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ
وَأَجْمَعُوا في كَفَّارَةِ الْفِطْرِ على أَنَّهُ إذَا جَامَعَ في الْيَوْمِ
الْأَوَّلِ وَأَكَلَ في الْيَوْمِ الثَّانِي وَشَرِبَ في الْيَوْمِ الثَّالِثِ
أَنَّهُ إنْ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى وَإِنْ لم
يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَأَبُو حَنِيفَةَ وأبو
يُوسُفَ جَعَلَا اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ كَاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَمُحَمَّدٌ
جَعَلَ اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ كَاتِّحَادِهِ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ وَعَلَى
هذا إذَا قَطَعَ أَظَافِيرَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ أَنَّهُ إنْ كان في
مَجْلِسٍ وَاحِدٍ يَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ عليه بِقَلْمِ أَظَافِيرِ كل عُضْوٍ من يَدٍ
____________________
(2/194)
أو
رِجْلٍ دَمٌ وَإِنْ كان في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الدَّمَ إنَّمَا يَجِبُ لِحُصُولِ الِارْتِفَاقِ
الْكَامِلِ لِأَنَّ بِذَلِكَ تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ فَتَتَكَامَلُ
الْكَفَّارَةُ وَقَلْمُ أَظَافِيرِ كل عُضْوٍ ارْتِفَاقٌ على حِدَةٍ فَيَسْتَدْعِي
كَفَّارَةً على حِدَةٍ
وجه ( ( ( ووجه ) ) ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ جِنْسَ الْجِنَايَةِ وَاحِدٌ
حَظَرَهَا إحْرَامٌ وَاحِدٌ بِجِهَةٍ غَيْرِ متقومه فَلَا يُوجِبُ إلَّا دَمًا
وَاحِدًا كما في حَلْقِ الرَّأْسِ أَنَّهُ إذَا حَلَقَ الرُّبُعَ يَجِبُ عليه دَمٌ
وَلَوْ حَلَقَ الْكُلَّ يَجِبُ عليه دَمٌ وَاحِدٌ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَإِنْ كان في مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ يَجِبُ لِكُلٍّ من ذلك كَفَّارَةٌ في قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ سَوَاءٌ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ أو لَا وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ إنْ لم يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِهَتْكِ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ وقد
انْهَتَكَ حُرْمَتُهُ بِقَلْمِ أَظَافِيرِ الْعُضْوِ الْأَوَّلِ وَهَتْكُ
الْمَهْتُوكِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى وَلِهَذَا لَا
يَجِبُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى بِالْإِفْطَارِ في يَوْمَيْنِ من رَمَضَانَ لِأَنَّ
وُجُوبَهَا بِهَتْكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ جَبْرًا لها وقد انْهَتَكَ بِإِفْسَادِ
الصَّوْمِ في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَلَا يُتَصَوَّرُ هَتْكًا بِالْإِفْسَادِ في
الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ كَذَا هذا
بِخِلَافِ ما إذَا كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ انْجَبَرَ الْهَتْكُ
بِالْكَفَّارَةِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ فَعَادَتْ حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ
فإذا هَتَكَهَا تَجِبُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى جَبْرًا لها كما في كَفَّارَةِ
رَمَضَانَ
وَلَهُمَا أَنَّ كَفَّارَةَ الْإِحْرَامِ تَجِبُ بِالْجِنَايَةِ على الْإِحْرَامِ
وَالْإِحْرَامُ قَائِمٌ فَكَانَ كُلُّ فِعْلٍ جِنَايَةً على حِدَةٍ على
الْإِحْرَامِ فَيَسْتَدْعِي كَفَّارَةً على حِدَةٍ إلَّا أَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ
الْمَجْلِسِ جُعِلَتْ الْجِنَايَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ حَقِيقَةً مُتَّحِدَةً
حُكْمًا لِأَنَّ الْمَجْلِسَ جُعِلَ في الشَّرْعِ جَامِعًا لِلْأَفْعَالِ
الْمُخْتَلِفَةِ كما في خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ
وَالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ في الْبَيْعِ وَغَيْرِ ذلك
فإذا اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ أَعْطَى لِكُلِّ جِنَايَةٍ حُكْمَ نَفْسِهَا
فَيُعْتَبَرُ في الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بها بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ
لِأَنَّهَا ما وَجَبَتْ بِالْجِنَايَةِ على الصَّوْمِ بَلْ جَبْرًا لِهَتْكِ
حُرْمَةِ الشَّهْرِ وَحُرْمَةُ الشَّهْرِ وَاحِدَةٌ لَا تَتَجَزَّأُ وقد
انْهَتَكَتْ حُرْمَتُهُ بِالْإِفْطَارِ الْأَوَّلِ فَلَا يُحْتَمَلُ الْهَتْكُ
ثَانِيًا
وَلَوْ قَلَمَ أَظَافِيرَ يَدٍ لِأَذًى في كَفِّهِ فَعَلَيْهِ أَيُّ
الْكَفَّارَاتِ شَاءَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ما حَظَرَهُ الْإِحْرَامُ إذَا
فَعَلَهُ الْمُحْرِمُ عن ضَرُورَةٍ وَعُذْرٍ فَكَفَّارَتُهُ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ
الثَّلَاثَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ انْكَسَرَ ظُفْرُ الْمُحْرِمِ فَانْقَطَعَتْ منه شَظِيَّةٌ فَقَلَعَهَا لم
يَكُنْ عليه شَيْءٌ إذَا كان مِمَّا لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهَا كَالزَّائِدَةِ
وَلِأَنَّهَا خَرَجَتْ عن احْتِمَالِ النَّمَاءِ فَأَشْبَهَتْ شَجَرَ الْحَرَمِ
إذَا يَبِسَ فَقَطَعَهُ إنْسَانٌ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عليه كَذَا هذا
وَإِنْ قَلَمَ الْمُحْرِمُ أَظَافِيرَ حَلَالٍ أو مُحْرِمٍ أو قَلَمَ الْحَلَالُ
أَظَافِيرَ مُحْرِمٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْحَلْقِ وقد ذَكَرْنَا ذلك كُلَّهُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالذِّكْرُ وَالنِّسْيَانُ وَالطَّوْعُ وَالْكُرْهُ في
وُجُوبِ الْفِدْيَةِ بِالْقَلْمِ سَوَاءٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ
وَكَذَا يَسْتَوِي فيه الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ إلَّا
أَنَّ على الْقَارِنِ ضِعْفَ ما على الْمُفْرِدِ لِمَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى تَوَابِعِ الْجِمَاعِ فَيَجِبُ على
الْمُحْرِمِ أَنْ يَجْتَنِبَ الدَّوَاعِيَ من التَّقْبِيلِ وَاللَّمْسِ بِشَهْوَةٍ
وَالْمُبَاشَرَةِ وَالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لِقَوْلِهِ عز وجل { فَمَنْ
فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ في الْحَجِّ }
قِيلَ في بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ أن الرَّفَثَ جَمِيعُ حَاجَاتِ الرِّجَالِ
إلَى النِّسَاءِ وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنها عَمَّا يَحِلُّ
لِلْمُحْرِمِ من امْرَأَتِهِ فقالت يَحْرُمُ عليه كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الْكَلَامَ
فَإِنْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ أَنْزَلَ أو لم يُنْزِلْ أو قَبَّلَ أو
لَمَسَ بِشَهْوَةٍ أو بَاشَرَ فَعَلَيْهِ دَمٌ لَكِنْ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ أَمَّا
عَدَمُ فَسَادِ الْحَجِّ فَلِأَنَّ ذلك حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْجِمَاعِ في
الْفَرْجِ على طَرِيقِ التَّغْلِيظِ وَأَمَّا وُجُوبُ الدَّمِ فَلِحُصُولِ
ارْتِفَاقٍ كَامِلٍ مَقْصُودٍ
وقد روى عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما أَنَّهُ قال إذَا بَاشَرَ
الْمُحْرِمُ امْرَأَتَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ ولم يَرَوْ عن غَيْرِهِ خِلَافُهُ
وَسَوَاءٌ فَعَلَ ذَاكِرًا أو نَاسِيًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَلَوْ
نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ عن شَهْوَةٍ فَأَمْنَى فَلَا شَيْءَ عليه
بِخِلَافِ الْمَسِّ عن شَهْوَةٍ أَنَّهُ يُوجِبُ الدَّمَ أَمْنَى أو لم يُمْنِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ اللَّمْسَ اسْتِمْتَاعٌ بِالْمَرْأَةِ وَقَضَاءٌ
لِلشَّهْوَةِ فَكَانَ ارْتِفَاقًا كَامِلًا فَأَمَّا النَّظَرُ فَلَيْسَ من بَابِ
الِاسْتِمْتَاعِ وَلَا قَضَاءِ الشَّهْوَةِ بَلْ هو سَبَبٌ لِزَرْعِ الشَّهْوَةِ
في الْقَلْبِ وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَمَّا يَزْرَعُ الشَّهْوَةِ
كَالْأَكْلِ وَذُكِرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا لَمَسَ بِشَهْوَةٍ فَأَمْنَى
فَعَلَيْهِ دَمٌ وَقَوْلُهُ أَمْنَى ليس على سَبِيلِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ ذُكِرَ
في الْأَصْلِ أَنَّ عليه دَمًا أَنْزَلَ أو لم يُنْزِلْ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الصَّيْدِ فَنَقُولُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ
أَنْ يَتَعَرَّضَ لِصَيْدِ الْبَرِّ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ عِنْدَنَا
إلَّا المؤذى المبتدىء ( ( ( المبتدئ ) ) ) بالأذى غَالِبًا وَالْكَلَامُ في هذا
الْفَصْلِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِ الصَّيْدِ أَنَّهُ ما هو وفي بَيَانِ
____________________
(2/195)
أَنْوَاعِهِ
وفي بَيَانِ ما يَحِلُّ اصْطِيَادُهُ لِلْمُحْرِمِ وما يَحْرُمُ عليه وفي بَيَانِ
حُكْمِ ما يَحْرُمُ عليه اصْطِيَادُهُ إذَا اصْطَادَهُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالصَّيْدُ هو الْمُمْتَنِعُ الْمُتَوَحِّشُ من الناس في
أَصْلِ الْخِلْقَةِ إمَّا بِقَوَائِمِهِ أو بِجَنَاحِهِ فَلَا يَحْرُمُ على
الْمُحْرِمِ ذَبْحُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ
بِصَيْدٍ لِعَدَمِ الِامْتِنَاعِ وَالتَّوَحُّشِ من الناس وَكَذَا الدَّجَاجُ
وَالْبَطُّ الذي يَكُونُ في الْمَنَازِلِ وهو الْمُسَمَّى بِالْبَطِّ
الْكَسْكَرِيِّ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الصَّيْدِ فِيهِمَا وهو الِامْتِنَاعُ
وَالتَّوَحُّشُ فَأَمَّا الْبَطُّ الذي يَكُونُ عِنْدَ الناس وَيَطِيرُ فَهُوَ
صَيْدٌ لِوُجُودِ مَعْنَى الصَّيْدِ فيه وَالْحَمَامُ الْمُسَرْوِلُ صَيْدٌ
وَفِيهِ الْجَزَاءُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ مَالِكٍ ليس بِصَيْدٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الصَّيْدَ اسْمٌ لِلْمُتَوَحِّشِ وَالْحَمَامُ الْمُسَرْوِلِ
مُسْتَأْنَسٌ فَلَا يَكُونُ صَيْدًا كَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ الذي يَكُونُ في
الْمَنَازِلِ
وَلَنَا أَنَّ جِنْسَ الْحَمَامِ مُتَوَحِّشٌ في أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَإِنَّمَا
يُسْتَأْنَسُ الْبَعْضُ منه بِالتَّوَلُّدِ وَالتَّأْنِيسِ مع بَقَائِهِ صَيْدًا
كَالظَّبْيَةِ الْمُسْتَأْنَسَةِ وَالنَّعَامَةِ الْمُسْتَأْنَسَةِ وَالطُّوطِيُّ
وَنَحْوِ ذلك حتى يَجِبَ فيه الْجَزَاءُ وَكَذَا الْمُسْتَأْنَسُ في الْخِلْقَةِ
قد يَصِيرُ مُسْتَوْحِشًا كَالْإِبِلِ إذَا تَوَحَّشَتْ وَلَيْسَ له حُكْمُ
الصَّيْدِ حتى لَا يَجِبُ فيه الْجَزَاءُ فَعُلِمَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالتَّوَحُّشِ
وَالِاسْتِئْنَاسِ في أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَجِنْسُ الْحَمَامِ مُتَوَحِّشٌ في
أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَإِنَّمَا يُسْتَأْنَسُ الْبَعْضُ منه لِعَارِضٍ فَكَانَ
صَيْدًا بِخِلَافِ الْبَطِّ الذي يَكُونُ عِنْدَ الناس في الْمَنَازِلِ فإن ذلك
ليس من جِنْسِ الْمُتَوَحِّشِ بَلْ هو من جِنْسٍ آخَرَ وَالْكَلْبُ ليس بِصَيْدٍ
لِأَنَّهُ ليس بِمُتَوَحِّشٍ بَلْ هو مُسْتَأْنَسٌ سَوَاءٌ كان أَهْلِيًّا أو حشيا
( ( ( وحشيا ) ) ) لِأَنَّ الْكَلْبَ أَهْلِيٌّ في الْأَصْلِ لَكِنْ رُبَّمَا
يَتَوَحَّشُ لِعَارِضٍ فَأَشْبَهَ الْإِبِلَ إذَا تَوَحَّشَتْ وَكَذَا
السِّنَّوْرُ الْأَهْلِيُّ ليس بِصَيْدٍ لِأَنَّهُ مُسْتَأْنَسٌ
وَأَمَّا الْبَرِّيُّ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ رَوَى هِشَامٌ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ
فيه الْجَزَاءَ وَرَوَى الْحَسَنُ عنه أَنَّهُ لَا شَيْءَ فيه كَالْأَهْلِيِّ
وَجْهُ رِوَايَةِ هِشَامٍ أَنَّهُ مُتَوَحِّشٌ فَأَشْبَهَ الثَّعْلَبَ وَنَحْوَهُ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ جِنْسَ السِّنَّوْرِ مُسْتَأْنَسٌ في أَصْلِ
الْخِلْقَةِ وَإِنَّمَا يَتَوَحَّشُ الْبَعْضُ منه لِعَارِضٍ فَأَشْبَهَ
الْبَعِيرَ إذَا تَوَحَّشَ وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْبُرْغُوثِ وَالْبَعُوضِ
وَالنَّمْلَةِ والذباب ( ( ( والذئاب ) ) ) وَالْحَلَمِ وَالْقُرَادِ
وَالزُّنْبُورِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَيْدٍ لِانْعِدَامِ التَّوَحُّشِ
وَالِامْتِنَاعِ
أَلَا تَرَى أنها تَطْلُبُ الْإِنْسَانَ مع امْتِنَاعِهِ منها وقد رُوِيَ عن عُمَرَ
رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان يُقَرِّدُ بَعِيرَهُ وهو مُحْرِمٌ وَلِأَنَّ هذه
الْأَشْيَاءَ من الْمُؤْذِيَاتِ الْمُبْتَدِئَةِ بِالْأَذَى غَالِبًا
فَالْتَحَقَتْ بِالْمُؤْذِيَاتِ الْمَنْصُوصِ عليها من الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ
وَغَيْرِهِمَا وَلَا يَقْتُلُ الْقَمْلَةَ لَا لِأَنَّهَا صَيْدٌ بَلْ لِمَا فيها
من أزالة التَّفَثِ لِأَنَّهُ مُتَوَلَّدٌ من الْبَدَنِ كَالشَّعْرِ وَالْمُحْرِمُ
مَنْهِيٌّ عن إزَالَةِ التَّفَثِ من بَدَنِهِ فَإِنْ قَتَلَهَا تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ
كما لو أَزَالَ شَعْرَةً ولم يذكر في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِقْدَارَ الصَّدَقَةِ
وروي الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال إذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ قَمْلَةً أو
أَلْقَاهَا أَطْعَمَ كِسْرَةً وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ أو ثَلَاثًا أَطْعَمَ
قَبْضَةً من الطَّعَامِ وَإِنْ كانت كَبِيرَةً أَطْعَمَ نِصْفَ صَاعٍ وَكَذَا لَا
يَقْتُلُ الْجَرَادَةَ لِأَنَّهَا صَيْدُ الْبَرِّ أَمَّا كَوْنُهُ صَيْدًا
فَلِأَنَّهُ مُتَوَحِّشٌ في أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَأَمَّا كَوْنُهُ صَيْدَ الْبَرِّ
فلأنه ( ( ( فلأن ) ) ) تَوَالُدَهُ في الْبَرِّ وَلِذَا لَا يَعِيشُ إلَّا في
الْبَرِّ حتى لو وَقَعَ في الْمَاءِ يَمُوتُ فَإِنْ قَتَلَهَا تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ
من الطَّعَامِ
وقد رُوِيَ عن عُمَرَ أَنَّهُ قال تمرة ( ( ( ثمرة ) ) ) خَيْرٌ من جَرَادَةٍ
وَلَا بَأْسَ له بِقَتْلِ هَوَامِّ الْأَرْضِ من الْفَأْرَةِ وَالْحَيَّةِ
وَالْعَقْرَبِ وَالْخَنَافِسِ وَالْجِعْلَانِ وَأُمِّ حنين ( ( ( حبين ) ) )
وَصَيَّاحِ اللَّيْلِ وَالصَّرْصَرِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَيْدٍ
بَلْ من حَشَرَاتِ الْأَرْضِ وَكَذَا الْقُنْفُذُ وابن عِرْسٍ لِأَنَّهُمَا من
الْهَوَامِّ حتى قال أبو يُوسُفَ ابن عِرْسٍ من سِبَاعِ الْهَوَامِّ وَالْهَوَامُّ
لَيْسَتْ بِصَيْدٍ لِأَنَّهَا لَا تَتَوَحَّشُ من الناس وقال أبو يُوسُفَ في
الْقُنْفُذِ الْجَزَاءُ لِأَنَّهُ من جِنْسِ الْمُتَوَحِّشِ وَلَا يبتدىء
بِالْأَذَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِهِ وَبَيَانُ ما يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ اصْطِيَادُهُ
وما يَحْرُمُ عليه من كل نَوْعٍ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الصَّيْدُ في
الْأَصْلِ نَوْعَانِ بَرِّيٌّ وَبَحْرِيٌّ فَالْبَحْرِيُّ هو الذي تَوَالُدُهُ في
الْبَحْرِ سَوَاءٌ كان لَا يَعِيشُ إلَّا في الْبَحْرِ أو يَعِيشُ في الْبَحْرِ
وَالْبَرِّ وَالْبَرِّيُّ ما يَكُونُ تَوَالُدُهُ في الْبَرِّ سَوَاءٌ كان لَا
يَعِيشُ إلَّا في الْبَرِّ أو يَعِيشُ في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَالْعِبْرَةُ
لِلتَّوَالُدِ
أَمَّا صَيْدُ الْبَحْرِ فَيَحِلُّ اصْطِيَادُهُ لِلْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ جميعا
مَأْكُولًا كان أو غير مَأْكُولٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ
الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } وَالْمُرَادُ منه
اصْطِيَادُ ما في الْبَحْرِ لِأَنَّ الصَّيْدَ مَصْدَرٌ يُقَالُ صَادَ يَصِيدُ
صَيْدًا وَاسْتِعْمَالُهُ في الْمَصِيدِ مَجَازٌ وَالْكَلَامُ بِحَقِيقَتِهِ
إبَاحَةُ اصْطِيَادِ ما في الْبَحْرِ عَامًّا
وَأَمَّا صَيْدُ الْبَرِّ فَنَوْعَانِ مَأْكُولٌ وَغَيْرُ مَأْكُولٍ أَمَّا
الْمَأْكُولُ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ اصْطِيَادُهُ نحو الظَّبْيِ
وَالْأَرْنَبِ وَحِمَارِ الْوَحْشِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَالطُّيُورِ التي يُؤْكَلُ
لُحُومُهَا بَرِّيَّةً كانت أو بَحْرِيَّةً لِأَنَّ الطُّيُورَ كُلَّهَا
بَرِّيَّةٌ لِأَنَّ تَوَالُدَهَا في الْبَرِّ وإنما ( ( ( إنما ) ) ) يَدْخُلُ
بَعْضُهَا في الْبَحْرِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ
وَالْأَصْلُ فيه قَوْله تَعَالَى { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما
دُمْتُمْ حُرُمًا } وقَوْله
____________________
(2/196)
تَعَالَى
{ لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ظَاهِرُ الْآيَتَيْنِ يَقْتَضِي
تَحْرِيمَ صَيْدِ الْبَرِّ لِلْمُحْرِمِ عَامًّا أو مُطْلَقًا إلَّا ما خُصَّ أو
قُيِّدَ بِدَلِيلٍ
وقَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ
بِشَيْءٍ من الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } وَالْمُرَادُ منه
الِابْتِلَاءُ بِالنَّهْيِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى في سِيَاقِ الْآيَةِ { فَمَنْ
اعْتَدَى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أَيْ اعْتَدَى بِالِاصْطِيَادِ
بَعْدَ تَحْرِيمِهِ وَالْمُرَادُ منه صَيْدُ الْبَرِّ لِأَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ
مُبَاحٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } وَكَذَا لَا
يَحِلُّ له الدَّلَالَةُ عليه وَالْإِشَارَةُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم الدَّالُّ على الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ وَالدَّالُّ على الشَّرِّ كَفَاعِلِهِ
وَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ وَالْإِشَارَةَ سَبَبٌ إلَى الْقَتْلِ وَتَحْرِيمُ
الشَّيْءِ تَحْرِيمٌ لِأَسْبَابِهِ وَكَذَا لَا يَحِلُّ له الْإِعَانَةُ على
قَتْلِهِ لِأَنَّ الْإِعَانَةَ فَوْقَ الدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ وَتَحْرِيمُ
الْأَدْنَى تَحْرِيمُ الْأَعْلَى من طَرِيقِ الْأَوْلَى كَالتَّأْفِيفِ مع
الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ
وَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْكُولِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَكُونُ مُؤْذِيًا طَبْعًا
مُبْتَدِئًا بِالْأَذَى غَالِبًا وَنَوْعٌ لَا يبتدىء بِالْأَذَى غَالِبًا أَمَّا
الذي يبتدىء بِالْأَذَى غَالِبًا فَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُلَهُ وَلَا شَيْءَ
عليه وَذَلِكَ نحو الْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ لِأَنَّ دَفْعَ
الْأَذَى من غَيْرِ سَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْأَذَى وَاجِبٌ فَضْلًا عن الْإِبَاحَةِ
وَلِهَذَا أَبَاحَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قَتْلَ الْخَمْسِ
الْفَوَاسِقِ لِلْمُحْرِمِ في الْحِلِّ وَالْحَرَمِ بِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم خَمْسٌ من الْفَوَاسِقِ يَقْتُلهُنَّ الْمُحْرِمُ في الْحِلِّ وَالْحَرَمِ
الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَالْغُرَابُ وروى
وَالْحِدَأَةُ
وروى عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
خَمْسٌ يَقْتُلهُنَّ الْمُحِلُّ وَالْمُحْرِمُ في الْحِلِّ وَالْحَرَمِ
الْحِدَأَةُ وَالْغُرَابُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ
وَرُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها قالت أَمَرَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم بِقَتْلِ خَمْسِ فَوَاسِقَ في الْحِلِّ وَالْحَرَمِ الْحِدَأَةُ
وَالْفَأْرَةُ وَالْغُرَابُ وَالْعَقْرَبُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَعِلَّةُ
الْإِبَاحَةِ فيها هِيَ الِابْتِدَاءُ بِالْأَذَى وَالْعَدْوُ على الناس غَالِبًا
فإن من عَادَةِ الْحِدَأَةِ أَنْ تُغِيرَ على اللَّحْمِ وَالْكَرِشِ وَالْعَقْرَبُ
تَقْصِدُ من تلدعه ( ( ( تلدغه ) ) ) وَتَتْبَعُ حِسَّهُ وَكَذَا الْحَيَّةُ
وَالْغُرَابُ يَقَعُ على دُبُرِ الْبَعِيرِ وَصَاحِبُهُ قَرِيبٌ منه وَالْفَأْرَةُ
تَسْرِقُ أَمْوَالَ الناس وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ من شَأْنِهِ الْعَدْوُ على الناس
وَعَقْرِهِمْ ابْتِدَاءً من حَيْثُ الْغَالِبِ وَلَا يَكَادُ يَهْرَبُ من بَنِي
آدَمَ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ في الْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالْفَهْدِ
وَالنَّمِرِ فَكَانَ وُرُودُ النَّصِّ في تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وُرُودًا في هذه
دَلَالَةً
قال أبو يُوسُفَ الْغُرَابُ الْمَذْكُورُ في الحديث هو الْغُرَابُ الذي يَأْكُلُ
الْجِيَفَ أو يَخْلِطُ مع الْجِيَفِ إذْ هذا النَّوْعُ هو الذي يبتدىء بِالْأَذَى
وَالْعَقْعَقُ ليس في مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ وَلَا يبتدىء
بِالْأَذَى وَأَمَّا الذي لَا يبتدىء بِالْأَذَى غَالِبًا كَالضَّبُعِ
وَالثَّعْلَبِ وَغَيْرِهِمَا فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ إنْ عدى ( ( ( عدا ) ) ) عليه
وَلَا شَيْءَ عليه إذَا قَتَلَهُ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُحَرِّمَ لِلْقَتْلِ قَائِمٌ وهو الْإِحْرَامُ فَلَوْ
سَقَطَتْ الْحُرْمَةُ إنَّمَا تَسْقُطُ بِفِعْلِهِ وَفِعْلُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ
فَبَقِيَ مُحَرِّمُ الْقَتْلِ كما كان كَالْجَمَلِ الصؤل ( ( ( الصئول ) ) ) إذَا
قَتَلَهُ إنْسَانٌ أَنَّهُ يَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا عَدَا عليه وَابْتَدَأَهُ بِالْأَذَى الْتَحَقَ
بِالْمُؤْذِيَاتِ طَبْعًا فَسَقَطَتْ عِصْمَتُهُ وقد رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ
عنه أَنَّهُ ابْتَدَأَ قَتْلَ ضَبُعٍ فَأَدَّى جَزَاءَهَا وقال إنَّا
ابْتَدَأْنَاهَا فَتَعْلِيلُهُ بِابْتِدَائِهِ قَتْلَهُ إشَارَةٌ إلَى أنها لو
ابْتَدَأَتْ لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ وَقَوْلُهُ الْإِحْرَامُ قَائِمٌ مُسَلَّمٌ
لَكِنَّ أَثَرَهُ في أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِلصَّيْدِ لَا في وُجُوبِ تَحَمُّلِ
الْأَذَى بَلْ يَجِبُ عليه دَفْعُ الْأَذَى لِأَنَّهُ من صِيَانَةِ نَفْسِهِ عن
الْهَلَاكِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ فَسَقَطَتْ عِصْمَتُهُ في حَالِ الْأَذَى فلم يَجِبْ
الْجَزَاءُ بِخِلَافِ الْجَمَلِ الصَّائِلِ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ ثَبَتَتْ حَقًّا
لِمَالِكِهِ ولم يُوجَدْ منه ما يُسْقِطُ الْعِصْمَةَ فَيَضْمَنُ الْقَاتِلُ
وَإِنْ لم يَعْدُ عليه لَا يُبَاحُ له أَنْ يَبْتَدِئَهُ بِالْقَتْلِ وَإِنْ قَتَلَهُ
ابْتِدَاءً فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُبَاحُ له
قَتْلُهُ ابْتِدَاءً وَلَا جَزَاءَ عليه إذَا قَتَلَهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَبَاحَ لِلْمُحْرِمِ قَتْلَ
خَمْسٍ من الدَّوَابِّ وَهِيَ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا وَالضَّبُعُ وَالثَّعْلَبُ
ما لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَكَانَ وُرُودُ النَّصِّ هُنَاكَ وُرُودًا هَهُنَا
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا
الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } وَقَوْلُهُ { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ
ما دُمْتُمْ حُرُمًا } وَقَوْلُهُ { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ من الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ
وَرِمَاحُكُمْ } عَامًّا أو مُطْلَقًا من غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنِ الْمَأْكُولِ
وَغَيْرِهِ وَاسْمُ الصَّيْدِ يَقَعُ على الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ
لِوُجُودِ حَدِّ الصَّيْدِ فِيهِمَا جميعا وَالدَّلِيلُ عليه قَوْلُ الشَّاعِرِ
____________________
(2/197)
صَيْدُ
الْمُلُوكِ أَرَانِبُ وَثَعَالِبُ وإذا رَكِبْتُ فَصَيْدِي الْأَبْطَالُ أَطْلَقَ
اسْمَ الصَّيْدِ على الثَّعْلَبِ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ منها الصَّيْدَ الْعَادِيَ
المبتدىء ( ( ( المبتدئ ) ) ) بِالْأَذَى غَالِبًا أو قُيِّدَتْ بِدَلِيلٍ فَمَنْ
ادَّعَى تَخْصِيصَ غَيْرِهِ أو التَّقْيِيدَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ وقد رُوِيَ عن
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ شَاةٌ إذَا
قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ
وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا أَوْجَبَا في قَتْلِ
الْمُحْرِمِ الضَّبُعَ جَزَاءً وَعَنْ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال في
الضَّبُعِ إذَا عَدَا على الْمُحْرِمِ فَلْيَقْتُلْهُ فَإِنْ قَتَلَهُ قبل أَنْ
يَعْدُوَ عليه فَعَلَيْهِ شَاةٌ مُسِنَّةٌ وَلَا حُجَّةَ لِلشَّافِعِيِّ في حديث
الْخَمْسِ الْفَوَاسِقِ لِأَنَّهُ ليس فيه أَنَّ إبَاحَةَ قَتْلِهِنَّ لِأَجْلِ
أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا بَلْ فيه إشَارَةٌ إلَى أَنَّ عِلَّةَ الْإِبَاحَةِ
فيها الِابْتِدَاءُ بِالْأَذَى غَالِبًا وَلَا يُوجَدُ ذلك في الضَّبُعِ
وَالثَّعْلَبِ بَلْ من عَادَتِهِمَا الْهَرَبُ من بَنِي آدَمَ وَلَا يُؤْذِيَانِ
أَحَدًا حتى يَبْتَدِئَهُمَا بِالْأَذَى فلم تُوجَدْ عِلَّةُ الْإِبَاحَةِ
فِيهِمَا فلم تَثْبُتْ الْإِبَاحَةُ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الضَّبُّ وَالْيَرْبُوعُ وَالسَّمُّورُ وَالدُّلَّف
وَالْقِرْدُ وَالْفِيلُ وَالْخِنْزِيرُ لِأَنَّهَا صَيْدٌ لِوُجُودِ مَعْنَى
الصَّيْدِ فيها وهو الِامْتِنَاعُ وَالتَّوَحُّشُ وَلَا تبتدىء ( ( ( تبتدئ ) ) )
بِالْأَذَى غَالِبًا فَتَدْخُلُ تَحْتَ ما تَلَوْنَا من الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ
وقال زُفَرُ في الْخِنْزِيرِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ فيه لِمَا روى عن
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال بُعِثْت بِكَسْرِ الْمَعَازِفِ وَقَتْلِ
الْخَنَازِيرِ نَدَبَنَا صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى قَتْلِهِ وَالنَّدْبُ فَوْقَ
الْإِبَاحَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَزَاءُ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على
غَيْرِ حَالِ الْإِحْرَامِ أو على حَالِ الْعَدْوِ وَالِابْتِدَاءِ بِالْأَذَى
حَمْلًا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ على مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَعَلَى هذا
الِاخْتِلَافِ سِبَاعُ الطَّيْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ ما يَحْرُمُ على الْمُحْرِمِ اصْطِيَادُهُ إذَا
اصْطَادَهُ فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا إن قَتَلَ الصَّيْدَ وَإِمَّا إن
جَرَحَهُ وَإِمَّا إن أَخَذَهُ فلم يَقْتُلْهُ ولم يَجْرَحْهُ فَإِنْ قَتَلَهُ
فَالْقَتْلُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاشَرَةً أو تسببا ( ( ( تسيبا ) )
) فَإِنْ كان مُبَاشَرَةً فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ يُقَوِّمُهُ
ذَوَا عَدْلٍ لَهُمَا بَصَارَةٌ بِقِيمَةِ الصَّيُودِ فَيُقَوِّمَانِهِ في
الْمَكَانِ الذي أَصَابَهُ إنْ كان مَوْضِعًا تُبَاعُ فيه الصَّيُودُ وَإِنْ كان
في مَفَازَةٍ يُقَوِّمَانِهِ في أَقْرَبِ الْأَمَاكِنِ من الْعُمْرَانِ إلَيْهِ
فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ ثَمَنَ هَدْيٍ فَالْقَاتِلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ
أَهْدَى وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ وَإِنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ لم يَبْلُغْ قِيمَتُهُ
ثَمَنَ هَدْيٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بين الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ سَوَاءٌ كان
الصَّيْدُ مِمَّا له نَظِيرٌ أو كان مِمَّا لَا نَظِيرَ له وَهَذَا قَوْلُ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْخِيَارَ لِلْحَكَمَيْنِ إنْ
شَاءَا حَكَمَا عليه هَدْيًا وَإِنْ شَاءَا طَعَامًا وَإِنْ شَاءَا صِيَامًا
فَإِنْ حَكَمَا عليه هَدْيًا نَظَرَ الْقَاتِلُ إلَى نَظِيرِهِ من النَّعَمِ من
حَيْثُ الْخِلْقَةُ وَالصُّورَةُ إنْ كان الصَّيْدُ مِمَّا له نَظِيرٌ سَوَاءٌ كان
قِيمَةُ نَظِيرِهِ مِثْلَ قِيمَتِهِ أو أَقَلَّ أو أَكْثَرَ لَا يُنْظَرُ إلَى
الْقِيمَةِ بَلْ إلَى الصُّورَةِ وَالْهَيْئَةِ فَيَجِبُ في الظَّبْيِ شَاةٌ وفي
الضَّبُعِ شَاةٌ وفي حِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ وفي النَّعَامَةِ بَعِيرٌ وفي
الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ وفي الْيَرْبُوعِ جَفَرَةٌ وَإِنْ لم يَكُنْ له نَظِيرٌ
مِمَّا في ذَبْحِهِ قُرْبَةٌ كَالْحَمَامِ وَالْعُصْفُورِ وَسَائِرِ الطُّيُورِ
تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ كما قال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
وَحَكَى الْكَرْخِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ إنَّ الْخِيَارَ لِلْقَاتِلِ عِنْدَهُ
أَيْضًا غير أَنَّهُ إنْ اخْتَارَ الْهَدْيَ لَا يَجُوزُ له إلَّا إخْرَاجُ
النَّظِيرِ فِيمَا له نَظِيرٌ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ عليه بِقَتْلِ ما له نَظِيرُ النَّظِيرِ ابْتِدَاءً
من غَيْرِ اخْتِيَارِ أَحَدٍ وَلَهُ أَنْ يُطْعِمَ وَيَكُونُ الْإِطْعَامُ بَدَلًا
عن النَّظِيرِ لَا عن الصَّيْدِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ في مُوجِبِ قَتْلِ صَيْدٍ له
نَظِيرٌ في مَوَاضِعَ منها أَنَّهُ يَجِبُ على الْقَاتِلِ قِيمَتُهُ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَلَا يَجِبُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُهُ عز وجل { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ من النَّعَمِ } أَيْ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ مِثْلُ ما
قَتَلَ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى على الْقَاتِلِ جَزَاءً مِثْلَ ما قَتَلَ
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ في الْمُرَادِ من الْمِثْلِ الْمَذْكُورِ في الْآيَةِ
الشَّرِيفَةِ قال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ الْمُرَادُ منه الْمِثْلُ من حَيْثُ
الْمَعْنَى وهو الْقِيمَةُ وقال مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ الْمُرَادُ منه
الْمِثْلُ من حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْهَيْئَةُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ على الْقَاتِلِ جَزَاءً من
النَّعَمِ وهو مِثْلُ ما قَتَلَ من النَّعَمِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمِثْلَ ثُمَّ
فَسَّرَهُ بِالنَّعَمِ بِقَوْلِهِ عز وجل من النَّعَمِ وَمِنْ هَهُنَا لِتَمْيِيزِ
الْجِنْسِ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ
مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ من النَّعَمِ وهو مِثْلُ الْمَقْتُولِ وهو أَنْ يَكُونَ
مثله في الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ
وروى أَنَّ جَمَاعَةً من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ منهم عُمَرُ رضي
اللَّهُ عنه أَوْجَبُوا في النَّعَامَةِ بَدَنَةً وفي الظَّبْيَةِ شَاةً وفي
الْأَرْنَبِ عَنَاقًا وَهُمْ كَانُوا أَعْرَفَ بِمَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وُجُوهٌ من الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ
الْآيَةِ أَوَّلُهَا أَنَّ اللَّهُ عز وجل نهى الْمُحْرِمِينَ عن قَتْلِ الصَّيْدِ
عَامًّا لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الصَّيْدَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ بِقَوْلِهِ
عز وجل { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }
____________________
(2/198)
وَالْأَلِفُ
وَاللَّامُ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ خُصُوصًا عِنْدَ عَدَمِ الْمَعْهُودِ ثُمَّ
قال تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ
} وَالْهَاءُ كِنَايَةٌ رَاجِعَةٌ إلَى الصَّيْدِ الْمُوجَدِ من اللَّفْظِ
الْمُعَرَّفِ بلام التَّعْرِيفِ فَقَدْ أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَتْلِ
الصَّيْدِ مِثْلًا يَعُمُّ ماله نَظِيرٌ وما لَا نَظِيرَ له وَذَلِكَ هو الْمِثْلُ
من حَيْثُ الْمَعْنَى وهو الْقِيمَةُ لَا الْمِثْلُ من حَيْثُ الْخِلْقَةُ
وَالصُّورَةُ لِأَنَّ ذلك لَا يَجِبُ في صَيْدٍ لَا نَظِيرَ له بَلْ الْوَاجِبُ
فيه الْمِثْلُ من حَيْثُ الْمَعْنَى وهو الْقِيمَةُ بِلَا خِلَافٍ فَكَانَ صَرْفُ
الْمِثْلِ الْمَذْكُورِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ على الْعُمُومِ إلَيْهِ تَخْصِيصًا
لِبَعْضِ ما تَنَاوَلَهُ عُمُومُ الْآيَةِ وَالْعَمَلُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ
وَاجِبٌ ما أَمْكَنَ وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ
وَالثَّانِي أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْمِثْلِ يَنْصَرِفُ إلَى ما عُرِفَ مِثْلًا في
أُصُولِ الشَّرْعِ وَالْمِثْلُ الْمُتَعَارَفُ في أُصُولِ الشَّرْعِ هو الْمِثْلُ
من حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْمَعْنَى أو من حَيْثُ الْمَعْنَى وهو الْقِيمَةُ كما في
ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ فإن من أَتْلَفَ على آخَرَ حِنْطَةً يَلْزَمُهُ حِنْطَةٌ
وَمَنْ أَتْلَفَ عليه عَرْضًا تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ فَأَمَّا الْمِثْلُ من حَيْثُ
الصُّورَةُ وَالْهَيْئَةُ فَلَا نَظِيرَ له في أُصُولِ الشَّرْعِ فَعِنْدَ
الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ لَا إلَى غَيْرِهِ
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ الْمِثْلَ مُنَكَّرًا في
مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ فَيَتَنَاوَلُ وَاحِدًا وَأَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَقَعُ
على الْمِثْلِ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَيَقَعُ على الْمِثْلِ من حَيْثُ الصُّورَةُ
فَالْمِثْلُ من حَيْثُ الْمَعْنَى يُرَادُ من الْآيَةِ فِيمَا لَا نَظِيرَ له
فَلَا يَكُونُ الْآخَرُ مُرَادًا إذْ الْمُشْتَرَكُ في مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ لَا
عُمُومَ له
وَالرَّابِعُ إن اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ عَدَالَةَ الْحَكَمَيْنِ وَمَعْلُومٌ
أَنَّ الْعَدَالَةَ إنَّمَا تُشْتَرَطُ فِيمَا يَحْتَاجُ فيه إلَى النَّظَرِ
وَالتَّأَمُّلِ وَذَلِكَ في الْمِثْلِ من حَيْثُ الْمَعْنَى وهو الْقِيمَةُ
لِأَنَّ بها تَتَحَقَّقُ الصِّيَانَةُ عن الْغُلُوِّ والتقصر ( ( ( والتقصير ) ) )
وَتَقْرِيرِ الْأَمْرِ على الْوَسَطِ فَأَمَّا الصُّورَةُ فَمُشَابَهَةٌ لَا
تَفْتَقِرُ إلَى الْعَدَالَةِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى من النَّعَمِ فَلَا
نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى من النَّعَمِ خَرَجَ تَفْسِيرًا لِلْمِثْلِ
وَبَيَانُهُ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ
كَلَامٌ تَامٌّ بِنَفْسِهِ مُفِيدٌ بِذَاتِهِ من غَيْرِ وصلة بِغَيْرِهِ
لِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا وَقَوْلُهُ من النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا
عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ على غَيْرِ
وَجْهِ التَّفْسِيرِ لِلْمِثْلِ لِأَنَّهُ كما يُرْجَعُ إلَى الْحَكَمَيْنِ في
تَقْوِيمِ الصَّيْدِ الْمُتْلَفِ يُرْجَعُ إلَيْهِمَا في تَقْوِيمِ الهدى الذي
يُوجَدُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ من الْقِيمَةِ فَلَا يُجْعَلُ قَوْلُهُ مِثْلُ ما
قَتَلَ مَرْبُوطًا بِقَوْلِهِ عز وجل { من النَّعَمِ } مع اسْتِغْنَاءِ الْكَلَامِ
عنه هذا هو الْأَصْلُ إلَّا إذَا قام دَلِيلٌ زَائِدٌ يُوجِبُ الرَّبْطَ
بِغَيْرِهِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ وَصَلَ قَوْلَهُ { من النَّعَمِ } بِقَوْلِهِ { يَحْكُمُ بِهِ
ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ }
وَقَوْلُهُ عز وجل { أو كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ }
وَقَوْلُهُ عز وجل { أو عَدْلُ ذلك صِيَامًا } جَعَلَ الْجَزَاءَ أَحَدَ
الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ حَرْفَ التَّخْيِيرِ بين الْهَدْيِ
وَالْإِطْعَامِ وَبَيْنَ الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ فَلَوْ كان قَوْلُهُ { من
النَّعَمِ } تَفْسِيرًا لِلْمِثْلِ لَكَانَ الطَّعَامُ وَالصِّيَامُ مِثْلًا
لِدُخُولِ حَرْفِ أو بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ النَّعَمِ إذْ لَا فَرْقَ بين
التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ في الذِّكْرِ بِأَنْ قال تَعَالَى فَجَزَاءٌ مِثْلُ
ما قَتَلَ طَعَامًا أو صِيَامًا أو من النَّعَمِ هَدْيًا لِأَنَّ التَّقْدِيمَ في
التِّلَاوَةِ لَا يُوجِبُ التَّقْدِيمَ في الْمَعْنَى وَلَمَّا لم يَكُنْ
الطَّعَامُ وَالصِّيَامُ مِثْلًا لِلْمَقْتُولِ دَلَّ أَنَّ ذِكْرَ النَّعَمِ لم
يَخْرُجْ مَخْرَجَ التَّفْسِيرِ لِلْمِثْلِ بَلْ هو كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ
مَوْصُولِ الْمُرَادِ بِالْأَوَّلِ
وَقَوْلُ جَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ مَحْمُولٌ على الْإِيجَابِ
من حَيْثُ الْقِيمَةُ تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ مع ما أن الْمَسْأَلَةَ
مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ
مِثْلُ مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِ
الْبَعْضِ على الْبَعْضِ وَعَلَى هذا يَنْبَنِي اعْتِبَارُ مَكَانِ الْإِصَابَةِ
في التَّقْوِيمِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ على الْقَاتِلِ الْقِيمَةُ
وَأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
وَالشَّافِعِيِّ الْوَاجِبُ هو النَّظِيرُ أما بِحُكْمِ الْحَكَمَيْنِ أو
ابْتِدَاءً فَلَا يُعْتَبَرُ فيه الْمَكَانُ
وقال الشَّافِعِيُّ يُقَوَّمُ بِمَكَّةَ أو بِمِنًى وأنه غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ
الْعِبْرَةَ في قِيَمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ في أُصُولِ الشَّرْعِ مَوَاضِعُ
الِاسْتِهْلَاكِ كما في اسْتِهْلَاكِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ
وَمِنْهَا أَنَّ الطَّعَامَ بَدَلٌ عن الصَّيْدِ عِنْدَنَا فَيُقَوِّمُ الصَّيْدَ
بِالدَّرَاهِمِ وَيَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ طَعَامًا وهو مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَجَمَاعَةٍ من التَّابِعِينَ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ الطَّعَامَ بَدَلٌ عن الْهَدْيِ
فَيُقَوِّمُ الْهَدْيَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ يَشْتَرِي بِقِيمَةِ الْهَدْيِ
طَعَامًا وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى جَعَلَ جَمِيعَ ذلك جَزَاءَ الصَّيْدِ بِقَوْلِهِ عز وجل { فَجَزَاءٌ
مِثْلُ ما قَتَلَ من النَّعَمِ } إلَى قَوْلِهِ { أو كَفَّارَةٌ طَعَامُ
مَسَاكِينَ } فلما كان الْهَدْيُ من حَيْثُ كَوْنِهِ جَزَاءً مُعْتَبَرًا
بِالصَّيْدِ أما في قِيمَتِهِ أو نَظِيرِهِ على اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ كان
الطَّعَامُ مثله وَلِأَنَّ فِيمَا لَا مِثْلَ له من النَّعَمِ اعْتِبَارَ
الطَّعَامِ بِقِيمَةِ الصَّيْدِ
____________________
(2/199)
بِلَا
خِلَافٍ فَكَذَا فِيمَا له مِثْلٌ لِأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ مُنْتَظِمَةٌ
لِلْأَمْرَيْنِ جميعا
وَمِنْهَا أَنَّ كَفَّارَةَ جَزَاءِ الصَّيْدِ على التَّخْيِيرِ كَذَا روى عن
ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما وهو مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ من التَّابِعِينَ مِثْلَ
عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وهو قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَعَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ على تَرْتِيبِ الْهَدْيِ ثُمَّ الْإِطْعَامِ
ثُمَّ الصِّيَامِ حتى لو وُجِدَ الْهَدْيُ لَا يَجُوزُ الطَّعَامُ وَلَوْ وُجِدَ
الْهَدْيُ أو الطَّعَامُ لَا يَجُوزُ الصِّيَامُ كما في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ
أنها على التَّرْتِيبِ دُونَ التَّخْيِيرِ
وَاحْتَجَّ من اعْتَبَرَ التَّرْتِيبَ بِمَا روى أَنَّ جَمَاعَةً من الصَّحَابَةِ
رضي اللَّهُ عَنْهُمْ حَكَمُوا في الضَّبُعِ بِشَاةٍ ولم يَذْكُرُوا غَيْرَهُ
فَدَلَّ أَنَّ الْوَاجِبَ على التَّرْتِيبِ
وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ حَرْفَ أو في ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ
وَحَرْفُ أو إذَا ذُكِرَ في ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ يُرَادُ بِهِ التَّخْيِيرُ لَا
التَّرْتِيبُ كما في قَوْلِهِ عز وجل في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ { فَكَفَّارَتُهُ
إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ من أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أو
كِسْوَتُهُمْ أو تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ }
وقَوْله تَعَالَى في كَفَّارَةِ الْحَلْقِ { فَفِدْيَةٌ من صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو
نُسُكٍ } وَغَيْرُ ذلك
هذا هو الْحَقِيقَةُ إلَّا في مَوْضِعٍ قام الدَّلِيلُ بِخِلَافِهَا كما في آيَةِ
الْمُحَارِبِينَ أَنَّهُ ذَكَرَ فيها أو على إرَادَةِ الْوَاوِ
ومن ادَّعَى خِلَافَ الْحَقِيقَةِ هَهُنَا فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ
ثُمَّ إذَا اخْتَارَ الهدى فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَةُ الصَّيْدِ بَدَنَةً نَحَرَهَا
وَإِنْ لم تَبْلُغْ بَدَنَةً وَبَلَغَتْ بَقَرَةً ذَبَحَهَا وَإِنْ لم تَبْلُغْ
بَقَرَةً وَبَلَغَتْ شَاةً ذَبَحَهَا وَإِنْ اشْتَرَى بِقِيمَةِ الصَّيْدِ إذَا
بَلَغَتْ بَدَنَةً أو بَقَرَةً سَبْعَ شياة وَذَبَحَهَا أَجْزَأَهُ فَإِنْ
اخْتَارَ شِرَاءَ الْهَدْيِ وَفَضَلَ من قِيمَةِ الصَّيْدِ فَإِنْ بَلَغَ هَدْيَيْنِ
أو أَكْثَرَ اشْتَرَى وَإِنْ كان لَا يَبْلُغُ هَدْيًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ
شَاءَ صَرَفَ الْفَاضِلَ إلَى الطَّعَامِ وَإِنْ شَاءَ صَامَ كما في صَيْدِ
الصَّغِيرِ الذي لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ هَدْيًا
وقد اُخْتُلِفَ في السِّنِّ الذي يَجُوزُ في جَزَاءِ الصَّيْدِ
قال أبو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ إلَّا ما يَجُوزُ في الْأُضْحِيَّةِ وَهَدْيِ
الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْإِحْصَارِ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ تَجُوزُ الْجَفَرَةُ وَالْعَنَاقُ على قَدْرِ
الصَّيْدِ
وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا في الْيَرْبُوعِ جَفَرَةً وفي الْأَرْنَبِ عَنَاقًا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ إطْلَاقَ الْهَدْيِ يَنْصَرِفُ إلَى ما يَنْصَرِفُ
إلَيْهِ سَائِرُ الْهَدَايَا الْمُطْلَقَةِ في الْقُرْآنِ فَلَا يَجُوزُ دُونَ السِّنِّ
الذي يُجْزِي في سَائِرِ الْهَدَايَا وما رُوِيَ عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ
حِكَايَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ له فَيُحْمَلُ على أَنَّهُ كان على طَرِيقِ
الْقِيمَةِ على أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما يُخَالِفُهُمْ فَلَا
يُقْبَلُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ دَلِيلِ التَّرْجِيحِ
ثُمَّ اسْمُ الْهَدْيِ يَقَعُ على الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ على ما
بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدْيِ إلَّا في الْحَرَمِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } وَلَوْ جَازَ ذَبْحُهُ في
غَيْرِ الْحَرَمِ لم يَكُنْ لِذِكْرِ بُلُوغِهِ الْكَعْبَةَ مَعْنًى وَلَيْسَ
الْمُرَادُ منه بُلُوغَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ بَلْ بُلُوغَ قُرْبِهَا وهو الْحَرَمُ
وَدَلَّتْ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ على أَنَّ من حَلَفَ لَا يَمُرُّ على بَابِ الْكَعْبَةِ
أو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَرَّ بِقُرْبِ بَابِهِ حَنِثَ وهو كَقَوْلِهِ
تَعَالَى { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذا }
وَالْمُرَادُ منه الْحَرَمُ لِأَنَّهُمْ مُنِعُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ
عن دُخُولِ الْحَرَمِ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال الْحَرَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ
وَلِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يهدي إلَى مَكَانِ الْهَدَايَا أَيْ يُنْقَلُ
إلَيْهَا وَمَكَانُ الْهَدَايَا الْحَرَمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ثُمَّ مَحِلُّهَا
إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وَالْمُرَادُ منه الْحَرَمُ
وَرُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ
وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ وَلَوْ ذَبَحَ في الحال ( ( ( الحل ) ) ) لَا
يَسْقُطُ عنه الْجَزَاءُ بِالذَّبْحِ إلَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ على
الْفُقَرَاءِ على كل فَقِيرٍ قِيمَةُ نِصْفِ صَاعٍ من بُرٍّ فَيُجْزِئَهُ على
طَرِيقِ الْبَدَلِ عن الطَّعَامِ وإذا ذَبَحَ الْهَدْيَ في الْحَرَمِ سَقَطَ
الْجَزَاءُ عنه بِنَفْسِ الذَّبْحِ حتى لو هَلَكَ أو سُرِقَ أو ضَاعَ بِوَجْهٍ من
الْوُجُوهِ خَرَجَ عن الْعُهْدَةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هو إرَاقَةُ الدَّمِ وَإِنْ
اخْتَارَ الطَّعَامَ اشْتَرَى بِقِيمَةِ الصَّيْدِ طَعَامًا فَأَطْعَمَ كُلَّ
مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ من بُرٍّ وَلَا يُجْزِيهِ أَقَلُّ من ذلك كما في
كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى وَيَجُوزُ الْإِطْعَامُ في
الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ إلَّا في
الْحَرَمِ كما لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ إلَّا في الْحَرَمِ تَوْسِعَةً على أَهْلِ
الْحَرَمِ
وَلَنَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى { أو كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } مُطْلَقٌ عن
الْمَكَانِ وَقِيَاسُ الطَّعَامِ على الذَّبْحِ بِمَعْنَى التَّوْسِعَةِ على
أَهْلِ الْحَرَمِ قد أَبْطَلْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لم
تُعْقَلْ قُرْبَةً بِنَفْسِهَا وَإِنَّمَا عُرِفَتْ قُرْبَةً بِالشَّرْعِ
وَالشَّرْعُ وَرَدَ بها في مَكَان مَخْصُوصٍ أو زَمَانٍ مَخْصُوصٍ فَيَتْبَعُ
مَوْرِدَ الشَّرْعِ فَيَتَقَيَّدُ كَوْنُهَا قُرْبَةً بِالْمَكَانِ الذي وَرَدَ
الشَّرْعُ بِكَوْنِهَا قربه فيه وهو الْحَرَمُ فإما الْإِطْعَامُ فَيُعْقَلُ
قُرْبَةً بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ من بَابِ الْإِحْسَانِ إلَى الْمُحْتَاجِينَ فَلَا
يَتَقَيَّدُ كَوْنُهُ قربه بِمَكَانٍ كما لَا يَتَقَيَّدُ بِزَمَانٍ وَتَجُوزُ فيه
الْإِبَاحَةُ وَالتَّمْلِيكُ لِمَا نَذْكُرُهُ في كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ وَلَا
____________________
(2/200)
يَجُوزُ
لِلْقَاتِلِ أَنْ يَأْكُلَ شيئا من لَحْمِ الْهَدْيِ وَلَوْ أَكَلَ شيئا منه
فَعَلَيْهِ قِيمَةُ ما أَكَلَ وَلَا يَجُوزُ دَفْعُهُ وَدَفْعُ الطَّعَامِ إلَى
وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلُوا وَلَا إلَى وَالِدِهِ وَوَالِدِ
وَالِدِهِ وَإِنْ عَلَوْا كما لَا تَجُوزُ الزَّكَاةُ وَيَجُوزُ دَفْعُهُ إلَى
أَهْلِ الذِّمَّةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا يَجُوزُ في قَوْلِ
أبي يُوسُفَ كما في صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالصَّدَقَةِ الْمَنْذُورِ بها على ما
ذَكَرْنَا في كِتَابِ الزَّكَاةِ
وَإِنْ اخْتَارَ الصِّيَامَ اشْتَرَى بِقِيمَةِ الصَّيْدِ طَعَامًا وَصَامَ
لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ من بُرٍّ يَوْمًا عِنْدَنَا وهو قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَجَمَاعَةٍ من التَّابِعِينَ مِثْلَ إبْرَاهِيمَ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ
وقال الشَّافِعِيُّ يَصُومُ لِكُلِّ مُدٍّ يَوْمًا وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا
روى عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال يَصُومُ عن كل نِصْفِ صَاعٍ
يَوْمًا وَمِثْلُ هذا لَا يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ فَتَعَيَّنَ السَّمَاعُ من
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَإِنْ فَضَلَ من الطَّعَامِ أَقَلُّ من
نِصْفِ صَاعٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهِ وَإِنْ شَاءَ صَامَ
عنه يَوْمًا لِأَنَّ صَوْمَ بَعْضِ يَوْمٍ لَا يَجُوزُ وَيَجُوزُ الصَّوْمُ في
الْأَيَّامِ كُلِّهَا بِلَا خِلَافٍ وَيَجُوزُ مُتَتَابِعًا وَمُتَفَرِّقًا
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أو عَدْلُ ذلك صِيَامًا } مُطْلَقًا عن الْمَكَانِ وَصِفَةِ
التَّتَابُعِ وَالتَّفَرُّقِ وَسَوَاءٌ كان الصَّيْدُ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أو
مِمَّا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ عِنْدَنَا بَعْدَ أَنْ كان مُحْرِمًا والإصطياد على
الْمُحْرِمِ كَالضَّبُعِ وَالثَّعْلَبِ وَسِبَاعِ الطَّيْرِ وَيُنْظَرُ إلَى
قِيمَتِهِ لو كان مَأْكُولَ اللَّحْمِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ
مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ من النَّعَمِ } غير أَنَّهُ لَا
يُجَاوِزُ بِهِ دَمًا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ دَمًا بَلْ يَنْقُصُ من ذلك بِخِلَافِ
مَأْكُولِ اللَّحْمِ فإنه تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً ما بَلَغَتْ وَإِنْ بَلَغَتْ
قِيمَتُهُ هَدْيَيْنِ أو أَكْثَرَ
وقال زُفَرُ تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً ما بَلَغَتْ كما في مَأْكُولِ اللَّحْمِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا الْمَصِيدَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ وَالْمَضْمُونُ
بِالْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ كَمَالُ قِيمَتِهِ كَالْمَأْكُولِ
وَلَنَا أَنَّ هذا الْمَضْمُونَ إنَّمَا يَجِبُ بِقَتْلِهِ من حَيْثُ أنه صَيْدٌ
وَمِنْ حَيْثُ أنه صَيْدٌ لَا تَزِيدُ قِيمَةُ لَحْمِهِ على لَحْمِ الشَّاةِ
بِحَالٍ بَلْ لَحْمُ الشَّاةِ يَكُونُ خَيْرًا منه بِكَثِيرٍ فَلَا يُجَاوِزُ بِهِ
دَمًا بَلْ يَنْقُصُ منه كما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَلِأَنَّهُ جَزَاءٌ وَجَبَ
بِإِتْلَافِ ما ليس بِمَالٍ فَلَا يُجَاوِزُ بِهِ دَمًا كَحَلْقِ الشَّعْرِ
وَقَصِّ الْأَظْفَارِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ زُفَرُ وَيَسْتَوِي
في وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ المبتدىء ( ( ( المبتدئ ) ) )
وَالْعَائِدُ وهو أَنْ يَقْتُلَ صَيْدًا ثُمَّ يَعُودَ وَيَقْتُلَ آخَرَ وثم
وَثُمَّ أنه يَجِبُ لِكُلِّ صَيْدٍ جَزَاءٌ على حِدَةٍ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ على الْعَائِدِ وهو قَوْلُ الْحَسَنِ
وَشُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ عَادَ
فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ منه } جَعَلَ جَزَاءَ الْعَائِدِ الِانْتِقَامَ في
الْآخِرَةِ فَتَنْتَفِي الْكَفَّارَةُ في الدُّنْيَا
وَلَنَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ
مِثْلُ ما قَتَلَ من النَّعَمِ } يَتَنَاوَلُ الْقَتْلَ في كل مَرَّةٍ فَيَقْتَضِي
وُجُوبَ الْجَزَاءِ في كل مَرَّةٍ كما في قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ
مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى
أَهْلِهِ } وَنَحْوُ ذلك
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ منه } فَفِيهِ إن
اللَّهَ تَعَالَى يَنْتَقِمُ من الْعَائِدِ وَلَيْسَ فيه أَنْ يَنْتَقِمَ منه
بِمَاذَا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَنْتَقِمُ منه بِالْكَفَّارَةِ كَذَا قال بَعْضُ
أَهْلِ التَّأْوِيلِ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ منه بِالْكَفَّارَةِ في الدُّنْيَا أو
بِالْعَذَابِ في الْآخِرَةِ على أَنَّ الْوَعِيدَ في الْآخِرَةِ لَا يَنْفِي
وُجُوبَ الْجَزَاءِ في الدُّنْيَا كما أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ حَدَّ
الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ جَزَاءً لهم في الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ {
إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في
الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا } الْآيَةَ
ثم قال عز وجل في آخِرِهَا { ذلك لهم خِزْيٌ في الدُّنْيَا وَلَهُمْ في الْآخِرَةِ
عَذَابٌ عَظِيمٌ }
وَمِنْهُمْ من صَرَفَ تَأْوِيلَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إلَى اسْتِحْلَالِ
الصَّيْدِ فقال اللَّهُ عز وجل { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } في
الْجَاهِلِيَّةِ من اسْتِحْلَالِهِمْ الصَّيْدَ إذَا تَابَ وَرَجَعَ عَمَّا
اسْتَحَلَّ من قَتْلِ الصَّيْدِ وَمَنْ عَادَ إلَى الِاسْتِحْلَالِ فَيَنْتَقِمُ
اللَّهُ منه بِالنَّارِ في الْآخِرَةِ وَبِهِ نَقُولُ
هذا إذَا لم يَكُنْ قَتْلُ الثَّانِي وَالثَّالِثِ على وَجْهِ الرَّفْضِ
وَالْإِحْلَالِ فَأَمَّا إذَا كان على وَجْهِ الرَّفْضِ وَالْإِحْلَالِ
لِإِحْرَامِهِ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمٌ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ ليس إلَّا نِيَّةَ الرَّفْضِ
وَنِيَّةُ الرَّفْضِ لَا يَتَعَلَّقُ بها حُكْمٌ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ حَلَالًا
بِذَلِكَ فَكَانَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا أَنَّهُمْ
اسْتَحْسَنُوا وَقَالُوا لَا يَجِبُ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْكُلَّ
وَقَعَ على وَجْهٍ وَاحِدٍ فَأَشْبَهَ الْإِيلَاجَاتِ في الْجِمَاعِ وَيَسْتَوِي
فيه الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ وَالذِّكْرُ وَالنِّسْيَانُ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ على الخاطىء
وقال الشَّافِعِيُّ لَا كَفَّارَةَ على الخاطىء وَالنَّاسِي وَالْكَلَامُ في
الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً وَابْتِدَاءً
أَمَّا الباء ( ( ( البناء ) ) ) فما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ
الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ
____________________
(2/201)
بِارْتِكَابِ
مَحْظُورِ الْإِحْرَامِ وَالْجِنَايَةِ عليه ثُمَّ زَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ
فِعْلَ الخاطىء وَالنَّاسِي لَا يُوصَفُ بِالْجِنَايَةِ وَالْحَظْرِ لِأَنَّ
فِعْلَ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ ما ( ( ( مما ) ) ) لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ
عنه فَكَانَ عُذْرًا وَقُلْنَا نَحْنُ إنَّ فِعْلَ الخاطىء وَالنَّاسِي جِنَايَةٌ
وَحَرَامٌ لِأَنَّ فِعْلَهُمَا جَائِزُ الْمُؤَاخَذَةِ عليه عَقْلًا
وَإِنَّمَا رُفِعَتْ الْمُؤَاخَذَةُ عليه شَرْعًا مع بَقَاءِ وَصْفِ الْحَظْرِ
وَالْحُرْمَةِ فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَكَذَا التَّحَرُّزُ
عنهما مُمْكِنٌ في الْجُمْلَةِ إذْ لَا يَقَعُ الْإِنْسَانُ في الْخَطَأِ
وَالسَّهْوِ إلَّا لِنَوْعِ تَقْصِيرٍ منه فلم يَكُنْ عُذْرًا منه وَلِهَذَا لم
يُعْذَرْ النَّاسِي في بَابِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ عُذْرًا في بَابِ
الصَّوْمِ لِأَنَّهُ يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَكَانَ في وُجُوبِ الْقَضَاءِ حَرَجٌ
وَلَا يَغْلِبُ في بَابِ الْحَجِّ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْإِحْرَامِ مُذَّكِّرَةٌ
فَكَانَ النِّسْيَانُ مَعَهَا نَادِرًا على أَنَّ الْعُذْرَ في هذا الْبَابِ لَا
يَمْنَعُ وُجُوبَ الْجَزَاءِ كما في كَفَّارَةِ الْحَلْقِ لِمَرَضٍ أو أَذًى
بِالرَّأْسِ وَكَذَا فَوَاتُ الْحَجِّ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ لِلْعُذْرِ
وَعَدَمِ الْعُذْرِ
وَأَمَّا الإبتداء فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عز وجل { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ
مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ من النَّعَمِ } خَصَّ الْمُتَعَمِّدَ
بِإِيجَابِ الْجَزَاءِ عليه فَلَوْ شَارَكَهُ الخاطىء وَالنَّاسِي في الْوُجُوبِ
لم يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ مَعْنًى
وَلَنَا وُجُوهٌ من الِاسْتِدْلَالِ بِالْعَمْدِ أَحَدُهَا أَنَّ الْكَفَّارَاتِ
وَجَبَتْ رَافِعَةً لِلْجِنَايَةِ وَلِهَذَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى كَفَّارَةً
بِقَوْلِهِ عز وجل { أو كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } وقد وُجِدَتْ
الْجِنَايَةُ على الْإِحْرَامِ في الْخَطَأِ
أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ عز وجل سَمَّى الْكَفَّارَةَ في الْقَتْلِ الْخَطَأِ
تَوْبَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى في آخِرِ الْآيَةِ { تَوْبَةً من اللَّهِ } وَلَا
تَوْبَةَ إلَّا من الْجِنَايَةِ وَالْحَاجَةُ إلَى رَفْعِ الْجِنَايَةِ
مَوْجُودَةٌ وَالْكَفَّارَةُ صَالِحَةٌ لِرَفْعِهَا لِأَنَّهَا تَرْفَعُ أَعْلَى
الْجِنَايَتَيْنِ وَهِيَ الْعَمْدُ وما صَلَحَ رَافِعًا لِأَعْلَى الذَّنْبَيْنِ
يَصْلُحُ رَافِعًا لِأَدْنَاهُمَا بِخِلَافِ قَتْلِ الْآدَمِيِّ عَمْدًا أَنَّهُ
لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَنَا وَالْخَطَأُ يُوجِبُ لِأَنَّ النَّقْصَ
هُنَاكَ وَجَبَ وَرُدَّ بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ في الْخَطَأِ وَذَنْبِ الْخَطَأِ
دُونَ ذَنْبِ الْعَمْدِ وما يَصْلُحُ لِرَفْعِ الْأَدْنَى لَا يَصْلُحُ لِرَفْعِ
الْأَعْلَى فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ من طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ لِانْعِدَامِ
طَرِيقِهِ
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُحْرِمَ بِالْإِحْرَامِ أَمَّنَ الصَّيْدَ عن التَّعَرُّضِ
وَالْتَزَمَ تَرْكَ التَّعَرُّضِ له فَصَارَ الصَّيْدُ كَالْأَمَانَةِ عِنْدَهُ
وَكُلُّ ذِي أَمَانَةٍ إذَا أَتْلَفَ الْأَمَانَةَ يَلْزَمُهُ الْغُرْمُ عَمْدًا
كان أو خَطَأً بِخِلَافِ قَتْلِ النَّفْسِ عَمْدًا لِأَنَّ النَّفْسَ مَحْفُوظَةٌ
بِصَاحِبِهَا وَلَيْسَتْ بِأَمَانَةٍ عِنْدَ الْقَاتِلِ حتى يَسْتَوِيَ حُكْمُ
الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ في التَّعَرُّضِ لها
وَالثَّالِثُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ التَّخْيِيرَ في حَالِ الْعَمْدِ
وَمَوْضُوعَ التَّخْيِيرِ في حَالِ الضَّرُورَةِ لِأَنَّهُ في التَّوَسُّعِ وَذَا
في حَالِ الضَّرُورَةِ كَالتَّخْيِيرِ في الْحَلْقِ لِمَنْ بِهِ مَرَضٌ أو بِهِ
أَذًى من رَأْسِهِ بِقَوْلِهِ { فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو بِهِ أَذًى من
رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ من صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ } وَلَا ضَرُورَةَ في حَالِ
الْعَمْدِ
فَعُلِمَ أَنَّ ذِكْرَ التَّخْيِيرِ فيه لِتَقْدِيرِ الْحُكْمِ بِهِ في حَالِ
الضَّرُورَةِ لَوْلَاهُ لَمَا ذَكَرَ التَّخْيِيرَ فَكَانَ إيجَابُ الْجَزَاءِ في
حَالِ الْعَمْدِ إيجَابًا في حَالِ الْخَطَأِ
وَلِهَذَا كان ذِكْرُ التَّخْيِيرِ الْمَوْضُوعِ لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّوَسُّعِ في
كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بين الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ حَالَةَ الْعَمْدِ ذِكْرًا
في حَالَةِ الْخَطَأِ وَالنَّوْمِ وَالْجُنُونِ دَلَالَةً وَأَمَّا تَخْصِيصُ
الْعَامِدِ فَقَدْ عُرِفَ من أَصْلِنَا أَنَّهُ ليس في ذِكْرِ حُكْمِهِ
وَبَيَانِهِ في حَالِ دَلِيلِ نَفْيِهِ في حَالٍ أُخْرَى فَكَانَ تَمَسُّكًا
بِالْمَسْكُوتِ فَلَا يَصِحُّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُ الْعَامِدِ
لِعِظَمِ ذَنْبِهِ تَنْبِيهًا على الْإِيجَابِ على من قَصَرَ ذَنْبُهُ عنه من الخاطىء
وَالنَّاسِي من طَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَمَّا رَفَعَ أَعْلَى
الذَّنْبَيْنِ فَلَأَنْ يَرْفَعَ الْأَدْنَى أَوْلَى
وَعَلَى هذا كانت الْآيَةُ حُجَّةً عليه وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ويستوى في وُجُوبِ كَمَالِ الْجَزَاءِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ حَالَ الِانْفِرَادِ
وَالِاجْتِمَاعِ عِنْدَنَا
حتى لو اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ من الْمُحْرِمِينَ في قَتْلِ صَيْدٍ يَجِبُ على كل
وَاحِدٍ منهم جَزَاءٌ كَامِلٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ عليهم جَزَاءٌ وَاحِدٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَقْتُولَ وَاحِدٌ فَلَا يُضْمَنُ إلَّا بِجَزَاءٍ
وَاحِدٍ كما إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ رَجُلًا وَاحِدًا خَطَأً أَنَّهُ لَا تَجِبُ
عليهم إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ
وَكَذَا جَمَاعَةٌ من الْمُحَلِّلِينَ إذَا قَتَلُوا صَيْدًا وَاحِدًا في
الْحَرَمِ لَا يَجِبُ عليهم إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ
كَذَا هذا
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ
مِثْلُ ما قَتَلَ من النَّعَمِ } وَكَلِمَةُ { من } تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ من
الْقَاتِلِينَ على حِيَالِهِ كما في قَوْلِهِ عز وجل { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا
مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ }
وقَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا }
وَقَوْلِهِ عز وجل { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وَأَقْرَبُ الْمَوَاضِعِ قَوْلُهُ عز وجل {
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } حتى يَجِبَ على
كل وَاحِدٍ من الْقَاتِلِينَ خَطَأً كَفَّارَةٌ على حِدَةٍ وَلَا تَلْزَمُهُ
الدِّيَةُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليهم إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ ظَاهِرَ
اللَّفْظِ وَعُمُومَهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الدِّيَةِ على كل وَاحِدٍ منهم
وَإِنَّمَا عَرَفْنَا وُجُوبَ دِيَةٍ وَاحِدَةٍ بِالْإِجْمَاعِ وقد تُرِكَ ظَاهِرُ
اللَّفْظِ بِدَلِيلٍ وَالشَّافِعِيُّ نَظَرَ إلَى الْمَحِلِّ فقال الْمَحِلُّ وهو
الْمَقْتُولُ مُتَّحِدٌ فَلَا يَجِبُ إلَّا ضَمَانٌ وَاحِدٌ وَأَصْحَابُنَا
نَظَرُوا إلَى الْفِعْلِ فَقَالُوا الْفِعْلُ مُتَعَدِّدٌ فَيَتَعَدَّدُ
الْجَزَاءُ
وَنَظَرُنَا أَقْوَى لِأَنَّ الْوَاجِبَ جَزَاءُ الْفِعْلِ لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى سَمَّاهُ جَزَاءً بِقَوْلِهِ { فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ من النَّعَمِ
} وَالْجَزَاءُ يُقَابِلُ الْفِعْلَ لَا الْمَحِلَّ
____________________
(2/202)
وَكَذَا سمي الْوَاجِبَ كَفَّارَةً بِقَوْلِهِ عز وجل { أو كَفَّارَةٌ طَعَامُ
مَسَاكِينَ } وَالْكَفَّارَةُ جَزَاءُ الْجِنَايَةِ بِخِلَافِ الدِّيَةِ
فَإِنَّهَا بَدَلُ الْمَحِلِّ فَتَتَّحِدُ بِاتِّحَادِ الْمَحِلِّ وَتَتَعَدَّدُ
بِتَعَدُّدِهِ وهو الْجَوَابُ عن صَيْدِ الْحَرَمِ لِأَنَّ ضَمَانَهُ يُشْبِهُ
ضَمَانَ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِالْجِنَايَةِ على الْحَرَمِ وَالْحَرَمُ
وَاحِدٌ فَلَا تَجِبُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ
وَلَوْ قَتَلَ صَيْدًا مُعَلَّمًا كَالْبَازِي وَالشَّاهِينِ وَالصَّقْرِ
وَالْحَمَامِ الذي يَجِيءُ من مَوَاضِعَ بَعِيدَةٍ وَنَحْوِ ذلك يَجِبُ عليه
قِيمَتَانِ قِيمَتُهُ مُعَلَّمًا لِصَاحِبِهِ بَالِغَةً ما بَلَغَتْ وَقِيمَتُهُ
غير مُعَلَّمٍ حَقًّا لِلَّهِ لِأَنَّهُ جَنَى على حَقَّيْنِ حَقِّ اللَّهِ
تَعَالَى وَحَقِّ الْعَبْدِ وَالتَّعْلِيمُ وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فيه في حَقِّ
الْعِبَادِ لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ عز وجل يَتَعَالَى عن
أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ وَلِأَنَّ الضَّمَانَ الذي هو حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى
يَتَعَلَّقُ بِكَوْنِهِ صَيْدًا وَكَوْنُهُ مُعَلَّمًا وَصْفٌ زَائِدٌ على
كَوْنِهِ صَيْدًا فَلَا يُعْتَبَرُ ذلك في وُجُوبِ الْجَزَاءِ وقد قالوا في
الْحَمَامَةِ الْمُصَوِّتَةِ أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا مُصَوِّتَةً في
رِوَايَةٍ وفي رِوَايَةٍ غير مُصَوِّتَةٍ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ كَوْنَهَا مُصَوِّتَةً من بَابِ الْحُسْنِ
وَالْمَلَاحَةِ وَالصَّيْدُ مَضْمُونٌ بِذَلِكَ كما لو قَتَلَ صَيْدًا حَسَنًا
مَلِيحًا له زِيَادَةُ قِيمَةٍ تَجِبُ قِيمَتُهُ على تِلْكَ الصِّفَةِ وَكَمَا لو
قَتَلَ حَمَامَةً مُطَوَّقَةً أو فَاخِتَةَ مُطَوَّقَةً
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى على ( ( ( وعلى ) ) ) نَحْوِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ
كَوْنَهَا مُصَوِّتَةً لَا يَرْجِعُ إلَى كَوْنِهِ صَيْدًا فَلَا يَلْزَمُ
الْمُحْرِمَ ضَمَانُ ذلك
وَهَذَا يَشْكُلُ بِالْمُطَوَّقَةِ وَالصَّيْدِ الْحَسَنِ الْمَلِيحِ
وَلَوْ أَخَذَ بَيْضَ صَيْدٍ فَشَوَاهُ أو كَسَرَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ
يَتَصَدَّقُ بِهِ لِمَا روى عن الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ
حَكَمُوا في بَيْضِ النَّعَامَةِ بِقِيمَتِهِ وَلِأَنَّهُ أَصْلُ الصَّيْدِ إذْ
الصَّيْدُ يَتَوَلَّدُ منه فيعطي له حُكْمُ الصَّيْدِ احْتِيَاطًا فَإِنْ شَوَى
بَيْضًا أو جَرَادًا فَضَمِنَهُ لَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ وَلَوْ أَكَلَهُ أو
غَيَّرَهُ حَلَالًا كان أو مُحْرِمًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِخِلَافِ الصَّيْدِ
الذي قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَلَوْ أَكَلَ
الْمُحْرِمُ الصَّائِدُ منه بَعْدَ ماأدى جَزَاءَهُ يَلْزَمُهُ قِيمَةُ ما أَكَلَ
في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ هُنَاكَ لِكَوْنِهِ مَيْتَةً
لِعَدَمِ الذَّكَاةِ لِخُرُوجِهِ عن أَهْلِيَّةِ الذَّكَاةِ وَالْحُرْمَةُ هَهُنَا
لَيْسَتْ لِمَكَانِ كَوْنِهِ مَيْتَةً لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الذَّكَاةِ
فَصَارَ كَالْمَجُوسِيِّ إذَا شَوَى بَيْضًا أو جَرَادًا أَنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُهُ
كَذَا هذا
فَإِنْ كَسَرَ الْبَيْضَ فَخَرَجَ منه فَرْخٌ مَيِّتٌ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ حَيًّا
يُؤْخَذُ فيه بِالثِّقَةِ
وقال مَالِكٌ عليه نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ وَاعْتَبَرَهُ بِالْجَنِينِ لِأَنَّ
ضَمَانَهُ ضَمَانُ الْجِنَايَاتِ وفي الْجَنِينِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ كَذَا
فيه
وَلَنَا أَنَّ الْفَرْخَ صَيْدٌ لِأَنَّهُ يُفْرَضُ أَنْ يَصِيرَ صَيْدًا فيعطي له
حُكْمُ الصَّيْدِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِكَسْرِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان
مَيِّتًا قبل ذلك وَضَمَانُ الصَّيْدِ يُؤْخَذُ فيه بِالِاحْتِيَاطِ لِأَنَّهُ
وَجَبَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى يُحْتَاطُ في
إيجَابِهَا
وَكَذَلِكَ إذَا ضَرَبَ بَطْنَ ظَبْيَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا ثُمَّ مَاتَتْ
الظَّبْيَةُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا يُؤْخَذُ في ذلك كُلِّهِ بِالثِّقَةِ أَمَّا
قِيمَةُ الْأُمِّ فَلِأَنَّهُ قَتَلَهَا وَأَمَّا قِيمَةُ الْجَنِينِ فَلِأَنَّهُ
يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان مَيِّتًا
فَيُحْكَمُ بِالضَّمَانِ احْتِيَاطًا فَإِنْ قَتَلَ ظَبْيَةً حَامِلًا فَعَلَيْهِ
قِيمَتُهَا حَامِلًا لِأَنَّ الْحَمْلَ يَجْرِي مَجْرَى صِفَاتِهَا وَحُسْنِهَا
وَمَلَاحَتِهَا وَسِمَنِهَا وَالصَّيْدُ مَضْمُونٌ بِأَوْصَافِهِ
وَلَوْ حَلَبَ صَيْدًا فَعَلَيْهِ ما نَقَصَهُ الْحَلْبُ لِأَنَّ اللَّبَنَ جُزْءٌ
من أَجْزَاءِ الصَّيْدِ فإذا نَقَصَهُ الْحَلْبُ يَضْمَنُ كما لو أَتْلَفَ جزأ من
أَجْزَائِهِ كَالصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ وَأَمَّا إذَا قَتَلَ الصَّيْدَ تَسَبُّبًا
فَإِنْ كان مُتَعَدِّيًا في التَّسَبُّبِ يَضْمَنُ وَإِلَّا فَلَا بَيَانُ ذلك
أَنَّهُ إذَا نَصَبَ شَبَكَةً فتعقل ( ( ( فتعلق ) ) ) بِهِ صَيْدٌ وَمَاتَ أو
حَفَرَ حَفِيرَةً لِلصَّيْدِ فَوَقَعَ فيها فَعَطِبَ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ
في التَّسَبُّبِ
وَلَوْ ضَرَبَ فُسْطَاطًا لِنَفْسِهِ فتعقل ( ( ( فتعلق ) ) ) بِهِ صَيْدٌ فَمَاتَ
أو حَفَرَ حَفِيرَةً لِلْمَاءِ أو لِلْخَبْزِ فَوَقَعَ فيها صَيْدٌ فَمَاتَ لَا
شَيْءَ عليه لِأَنَّ ذلك مُبَاحٌ له فلم يَكُنْ مُتَعَدِّيًا في التَّسَبُّبِ
وَهَذَا كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا على قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ
أو بَهِيمَةٌ مات ( ( ( ومات ) ) ) يَضْمَنُ وَلَوْ كان الْحَفْرُ في دَارِ
نَفْسِهِ فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ في الْأَوَّلِ متعد ( ( (
متعديا ) ) ) بِالتَّسَبُّبِ وفي الثَّانِي لَا كَذَا هذا
وَلَوْ أَعَانَ مُحْرِمًا أو حَلَالًا على صَيْدٍ ضَمِنَ لِأَنَّ الْإِعَانَةَ على
الصَّيْدِ تُسَبِّبُ إلَى قَتْلِهِ وهو مُتَعَدٍّ في هذا التَّسَبُّبِ لِأَنَّهُ
تَعَاوَنَ على الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وقد قال اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا
تَعَاوَنُوا على الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } وَلَوْ دَلَّ عليه أو أَشَارَ إلَيْهِ
فَإِنْ كان الْمَدْلُولُ يَرَى الصَّيْدَ أو يَعْلَمُ بِهِ من غَيْرِ دَلَالَةٍ أو
إشَارَةٍ فَلَا شَيْءَ على الدَّالِّ لِأَنَّهُ إذَا كان يَرَاهُ أو يَعْلَمُ بِهِ
من غَيْرِ دَلَالَتِهِ فَلَا أَثَرَ لِدَلَالَتِهِ في تَفْوِيتِ الْأَمْنِ على
الصَّيْدِ فلم تَقَعْ الدَّلَالَةُ تَسَبُّبًا إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ذلك
فَقَتَلَهُ
____________________
(2/203)
بِدَلَالَتِهِ
لِأَنَّهُ نَوْعُ تَحْرِيضٍ على اصْطِيَادِهِ وَإِنْ رَآهُ الْمَدْلُولُ
بِدَلَالَتِهِ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وقال
الشَّافِعِيُّ لَا جَزَاءَ عليه
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِقَتْلِ الصَّيْدِ ولم
يُوجَدْ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال الدَّالُّ على
الشَّيْءِ كَفَاعِلِهِ
وَرُوِيَ الدَّالُّ على الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ وَالدَّالُّ على الشَّرِّ
كَفَاعِلِهِ فَظَاهِرُ الحديث يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلدَّلَالَةِ حُكْمُ
الْفِعْلِ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ
وروى أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ رضي اللَّهُ عنه شَدَّ على حِمَارِ وَحْشٍ وهو حَلَالٌ
فَقَتَلَهُ وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ فَمِنْهُمْ من أَكَلَ وَمِنْهُمْ من أَبَى
فَسَأَلُوا النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عن ذلك فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم هل
أَشَرْتُمْ هل أَعَنْتُمْ فَقَالُوا لَا فقال كُلُوا إذًا فَلَوْلَا أَنَّ
الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِالْإِعَانَةِ وَالْإِشَارَةِ وَإِلَّا لم يَكُنْ
لِلْفَحْصِ عن ذلك مَعْنًى وَدَلَّ ذلك على حُرْمَةِ الْإِعَانَةِ وَالْإِشَارَةِ
وَذَا يَدُلُّ على وُجُوبِ الْجَزَاءِ وروى أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عُمَرَ رضي
اللَّهُ عنه فقال إنِّي أَشَرْت إلَى ظَبْيَةٍ فَقَتَلَهَا صَاحِبِي فَسَأَلَ
عُمَرُ عَبْدَ الرحمن بن عَوْفٍ رضي اللَّهُ تعالى عنهما فقال ما تَرَى فقال أَرَى
عليه شَاةً فقال عُمَرُ رضي اللَّهُ تعالى عنه وأنا أَرَى مِثْلَ ذلك
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَشَارَ إلَى بَيْضَةِ نَعَامَةٍ فَكَسَرَهَا صَاحِبُهُ
فَسَأَلَ عن ذلك عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما فَحَكَمَا عليه
بِالْقِيمَةِ
وَكَذَا حُكْمُ عُمَرَ وَعَبْدِ الرحمن رضي اللَّهُ عنهما مَحْمُولٌ على
الْقِيمَةِ وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ قد أَمَّنَ الصَّيْدَ بِإِحْرَامِهِ
وَالدَّلَالَةُ تُزِيلُ الْأَمْنَ لِأَنَّ أَمْنَ الصَّيْدِ في حَالِ قُدْرَتِهِ
وَيِقْظَتِهِ يَكُونُ بِتَوَحُّشِهِ عن الناس وفي حَالِ عَجْزِهِ وَنَوْمِهِ
يَكُونُ بِاخْتِفَائِهِ عن الناس وَالدَّلَالَةُ تُزِيلُ الِاخْتِفَاءَ فَيَزُولُ
الْأَمْنُ فَكَانَتْ الدَّلَالَةُ في إزَالَةِ الْأَمْنِ كَالِاصْطِيَادِ
وَلِأَنَّ الْإِعَانَةَ وَالدَّلَالَةَ وَالْإِشَارَةَ تَسَبُّبٌ إلَى الْقَتْلِ
وهو مُتَعَدٍّ في هذا التَّسَبُّبِ لِكَوْنِهِ مُزِيلًا لِلْأَمْنِ وإنه مَحْظُورُ
الْإِحْرَامِ فَأَشْبَهَ نَصْبَ الشَّبَكَةِ وَنَحْوَ ذلك وَلِأَنَّهُ لَمَّا
أَمَّنَ الصَّيْدَ عن التَّعَرُّضِ بِعَقْدِ الْإِحْرَامِ وَالْتَزَمَ ذلك صَارَ
بِهِ الصَّيْدُ كَالْأَمَانَةِ في يَدِهِ فَأَشْبَهَ الْمُودَعَ إذَا دَلَّ
سَارِقًا على سَرِقَةِ الْوَدِيعَةِ
وَلَوْ اسْتَعَارَ مُحْرِمٌ من مُحْرِمٍ سِكِّينًا لِيَذْبَحَ بِهِ صَيْدًا
فَأَعَارَهُ إيَّاهُ فَذَبَحَ بِهِ الصَّيْدَ فَلَا جَزَاءَ على صَاحِبِ
السِّكِّينِ
كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ من الْمَشَايِخِ من فَصَّلَ في ذلك
تَفْصِيلًا فقال إنْ كان الْمُسْتَعِيرُ يَتَوَصَّلُ إلَى قَتْلِ الصَّيْدِ
بِغَيْرِهِ لَا يَضْمَنُ وَإِنْ كان لَا يَتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِذَلِكَ
السِّكِّينِ يَضْمَنُ الْمُعِيرُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالدَّالِ
وَنَظِيرُ هذا ما قالوا لو أَنَّ مُحْرِمًا رَأَى صَيْدًا وَلَهُ قَوْسٌ أو
سِلَاحٌ يَقْتُلُ بِهِ ولم يَعْرِفْ أَنَّ ذلك في أَيِّ مَوْضِعٍ فَدَلَّهُ
مُحْرِمٌ على سِكِّينَتِهِ أو على قَوْسِهِ فَأَخَذَهُ فَقَتَلَهُ بِهِ أَنَّهُ
إنْ كان يَجِدُ غير ما دَلَّهُ عليه مِمَّا يَقْتُلُهُ بِهِ لَا يَضْمَنُ
الدَّالُّ وَإِنْ لم يَجِدْ غَيْرَهُ يَضْمَنُ وَلَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُ
ما ذَبَحَهُ من الصَّيْدِ وَلَا لِغَيْرِهِ من الْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ وهو
بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ لِأَنَّهُ بِالْإِحْرَامِ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ
أَهْلًا لِلذَّكَاةِ فَلَا تُتَصَوَّرُ منه الذَّكَاةُ كَالْمَجُوسِيِّ إذَا
ذَبَحَ وَكَذَا الصَّيْدُ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ مَحِلًّا لِلذَّبْحِ في حَقِّهِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا
} وَالتَّحْرِيمُ الْمُضَافُ إلَى الْأَعْيَانِ يُوجِبُ خُرُوجَهَا عن
مَحَلِّيَّةِ التَّصَرُّفِ شَرْعًا كَتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَتَحْرِيمِ
الْأُمَّهَاتِ وَالتَّصَرُّفِ الصَّادِرِ من غَيْرِ الْأَهْلِ وفي غَيْرِ
مَحِلِّهِ يَكُونُ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَإِنْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ الذَّابِحُ
منه فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ وهو قِيمَتُهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى ليس
عليه إلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ لو أَكَلَهُ
غَيْرُهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَجْهُ قَوْلِهِمْ
أَنَّهُ أَكَلَ مَيْتَةً فَلَا يَلْزَمَنَّهُ إلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ
كما لو أَكَلَهُ غَيْرُهُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ تَنَاوَلَ مَحْظُورَ
إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ وَبَيَانُ ذلك أَنَّ كَوْنَهُ مَيْتَةً
لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ وَعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ
وَالْمَحَلِّيَّةِ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ بِهَذِهِ
الْوَاسِطَةِ مُضَافَةً إلَى الْإِحْرَامِ فإذا أَكَلَهُ فَقَدْ ارْتَكَبَ
مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ بِخِلَافِ ما إذَا أَكَلَهُ
مُحْرِمٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه جَزَاءُ ما أَكَلَ لِأَنَّ ما أَكَلَهُ
ليس مَحْظُورَ إحْرَامِهِ بَلْ مَحْظُورُ إحْرَامِ غَيْرِهِ وَكَمَا لَا يَحِلُّ
له لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ مُحْرِمًا كان أو حَلَالًا عِنْدَنَا وقال
الشَّافِعِيُّ يَحِلُّ لِغَيْرِهِ أَكْلُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْحُرْمَةَ لِمَكَانِ أَنَّهُ صَيْدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا } وهو صَيْدُهُ لَا
صَيْدَ غَيْرِهِ فَيَحْرُمُ عليه لَا على غَيْرِهِ
وَلَنَا أَنَّ حُرْمَتَهُ لِكَوْنِهِ مَيْتَةً لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الذَّكَاةِ
وَمَحَلِّيَّتِهَا فَيَحْرُمُ عليه وَعَلَى غَيْرِهِ كَذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ
هذا إذَا أَدَّى الْجَزَاءَ ثُمَّ أَكَلَ فَأَمَّا إذَا أَكَلَ قبل أَدَاءِ
الْجَزَاءِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ
عليه جَزَاءً وَاحِدًا وَيَدْخُلُ ضَمَانُ ما أَكَلَ في الْجَزَاءِ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ لَا
رِوَايَةَ في هذه الْمَسْأَلَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ آخَرُ
____________________
(2/204)
وَيَجُوزُ
أَنْ يُقَالَ يَتَدَاخَلَانِ وَسَوَاءٌ تَوَلَّى صَيْدَهُ بِنَفْسِهِ أو
بِغَيْرِهِ من الْمُحْرِمِينَ بِأَمْرِهِ أو رَمَى صَيْدًا فَقَتَلَهُ أو أَرْسَلَ
كَلْبَهُ أو بَازِيَهُ الْمُعَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ له لِأَنَّ صَيْدَ
غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ صَيْدُهُ مَعْنًى وَكَذَا صَيْدُ الْبَازِي وَالْكَلْبِ
وَالسَّهْمِ لِأَنَّ فِعْلَ الِاصْطِيَادِ منه وَإِنَّمَا ذلك آلَةُ الِاصْطِيَادِ
وَالْفِعْلُ لِمُسْتَعْمِلِ الْآلَةِ لَا لِلْآلَةِ وَيَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُ
صَيْدٍ اصْطَادَهُ الْحَلَالُ لِنَفْسِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال دَاوُد بن عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيُّ لَا يَحِلُّ وَالْمَسْأَلَةُ
مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ روى عن طَلْحَةَ وَعُبَيْدِ
اللَّهِ وَقَتَادَةَ وَجَابِرٍ وَعُثْمَانَ في رِوَايَةٍ أَنَّهُ يَحِلُّ وَعَنْ
عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُثْمَانَ في رِوَايَةٍ أنه لَا يَحِلُّ
وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ
ما دُمْتُمْ حُرُمًا } أَخْبَرَ أَنَّ صَيْدَ الْبَرِّ مُحَرَّمٌ على الْمُحْرِمِ
مُطْلَقًا من غَيْرِ فَصْلٍ بين أَنْ يَكُونَ صَيْدَ الْمُحْرِمِ أو الْحَلَالِ
وَهَكَذَا قال ابن عَبَّاسٍ أن الْآيَةَ مُبْهَمَةٌ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ
تَصِيدَهُ وَلَا أَنْ تَأْكُلَهُ وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه
أَنَّ الصَّعْبَ بن جَثَّامَةَ أهدي إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
لَحْمَ حِمَارِ وَحْشٍ وهو بِالْأَبْوَاءِ أو بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ فَرَأَى النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم في وَجْهِهِ كَرَاهَةً فقال ليس بِنَا رَدٌّ عَلَيْك
وَلَكِنَّا حُرُمٌ وفي رِوَايَةٍ قال لَوْلَا أَنَّا حُرُمٌ لَقَبِلْنَاهُ مِنْك
وَعَنْ زَيْدِ بن أَرْقَمَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى الْمُحْرِمَ عن
لَحْمِ الصَّيْدِ مُطْلَقًا
وَلَنَا ما رُوِيَ عن أبي قَتَادَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان حَلَالًا
وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ فَشَدَّ على حِمَارِ وَحْشٍ فَقَتَلَهُ فَأَكَلَ منه
بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَأَبَى الْبَعْضُ فَسَأَلُوا عن ذلك رَسُولَ اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ
أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ هل مَعَكُمْ من لَحْمِهِ شَيْءٌ
وَعَنْ جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه قال قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
لَحْمُ صَيْدِ الْبَرِّ حَلَالٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ما لم تَصِيدُوهُ أو
يصاد ( ( ( يصد ) ) ) لَكُمْ وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ وَلَا حُجَّةَ لهم في
الْآيَةِ لِأَنَّ فيها تَحْرِيمَ صَيْدِ الْبَرِّ لَا تَحْرِيمَ لَحْمِ الصَّيْدِ
وَهَذَا لَحْمُ الصَّيْدِ وَلَيْسَ بِصَيْدٍ حَقِيقَةً لِانْعِدَامِ مَعْنَى
الصَّيْدِ وهو الِامْتِنَاعُ وَالتَّوَحُّشُ على أَنَّ الصَّيْدَ في الْحَقِيقَةِ
مَصْدَرٌ وَإِنَّمَا يُطْلَقُ على الْمَصِيدِ مَجَازًا
وَأَمَّا حَدِيثُ الصَّعْبِ بن جَثَّامَةَ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فيه
عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه رُوِيَ في بَعْضِهَا أَنَّهُ أَهْدَى إلَيْهِ
حِمَارًا وَحْشِيًّا كَذَا رَوَى مَالِكٌ وَسَعِيدُ بن جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا عن
ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً
وَحَدِيثُ زَيْدِ بن أَرْقَمَ مَحْمُولٌ على صَيْدٍ صَادَهُ بِنَفْسِهِ أو
غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ أو بِإِعَانَتِهِ أو بِدَلَالَتِهِ أو بِإِشَارَتِهِ عَمَلًا
بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا وَسَوَاءٌ صَادَهُ الْحَلَالُ لِنَفْسِهِ أو لِلْمُحْرِمِ
بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ بِأَمْرِهِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ إذَا صَادَهُ له لَا يَحِلُّ له أَكْلُهُ وَاحْتَجَّ بِمَا روى
عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال صَيْدُ الْبَرِّ حَلَالٌ لَكُمْ
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ما لم تَصِيدُوهُ أو يُصَادَ لَكُمْ وَلَا حُجَّةَ له فيه
لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَصِيدًا له إلَّا بِأَمْرِهِ وَبِهِ نَقُولُ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
وَأَمَّا حُكْمُ الصَّيْدِ إذَا جَرَحَهُ الْمُحْرِمُ فَإِنْ جَرَحَهُ جُرْحًا
يُخْرِجُهُ عن حَدِّ الصَّيْدِ وهو الْمُمْتَنِعُ الْمُتَوَحِّشُ بِأَنْ قَطَعَ
رجل رِجْلَ ظَبْيٍ أو جَنَاحَ طَائِرٍ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ
حَيْثُ أَخْرَجَهُ عن حَدِّ الصَّيْدِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَإِنْ جَرَحَهُ
جُرْحًا لم يُخْرِجْهُ عن حَدِّ الصَّيْدِ يَضْمَنُ ما نَقَصَتْهُ الْجِرَاحَةُ
لِوُجُودِ إتْلَافِ ذلك الْقَدْرِ من الصَّيْدِ فَإِنْ انْدَمَلَتْ الْجِرَاحَةُ
وبريء الصَّيْدُ لَا يَسْقُطُ الْجَزَاءُ لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَجِبُ بِإِتْلَافِ
جُزْءٍ من الصَّيْدِ وَبِالِانْدِمَالِ لَا يُتَبَيَّنُ أَنَّ الْإِتْلَافَ لم
يَكُنْ بِخِلَافِ ما إذَا جَرَحَ آدَمِيًّا فَانْدَمَلَتْ جِرَاحَتُهُ ولم يَبْقَ
لها أَثَرٌ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّ الضَّمَانَ هُنَاكَ إنَّمَا يَجِبُ
لِأَجْلِ الشَّيْنِ وقد ارْتَفَعَ فَإِنْ رَمَى صَيْدًا فَجَرَحَهُ فَكَفَّرَ عنه
ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذلك فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى لِأَنَّهُ
لَمَّا كَفَّرَ الْجِرَاحَةَ ارْتَفَعَ حُكْمُهَا وَجُعِلَتْ كَأَنْ لم تَكُنْ
وَقَتْلُهُ الْآنَ ابْتِدَاءً فَيَجِبُ عليه الضَّمَانُ لَكِنْ ضَمَانُ صَيْدٍ
مَجْرُوحٍ لِأَنَّ تِلْكَ الْجِرَاحَةَ قد أَخْرَجَ ضَمَانَهَا مَرَّةً فَلَا
تَجِبُ مَرَّةً أُخْرَى فَإِنْ جَرَحَهُ ولم يُكَفِّرْ ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذلك
فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَيْسَ عليه في الْجِرَاحَةِ شَيْءٌ
لِأَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ قبل أَنْ يُكَفِّرَ عن الْجِرَاحَةِ صَارَ كَأَنَّهُ
قَتَلَهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً
وَذَكَرَ الْحَاكِمُ في مُخْتَصَرِهِ إلَّا ما نَقَصَتْهُ الْجِرَاحَةُ الْأُولَى
أَيْ يَلْزَمُهُ ضَمَانُ صَيْدٍ مَجْرُوحٍ لِأَنَّ ذلك النُّقْصَانَ قد وَجَبَ
عليه ضَمَانُهُ مَرَّةً فَلَا يَجِبُ مَرَّةً أُخْرَى وَلَوْ جَرَحَ صَيْدًا
فَكَفَّرَ عنه قبل أَنْ يَمُوتَ ثُمَّ مَاتَ أَجْزَأَتْهُ الْكَفَّارَةُ التي
أَدَّاهَا لِأَنَّهُ إنْ أَدَّى الْكَفَّارَةَ قبل وُجُوبِهَا لَكِنْ بَعْدَ
وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ كما لو جَرَحَ إنْسَانًا خَطَأً فَكَفَّرَ
عنه ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَإِنْ نَتَفَ رِيشَ صَيْدٍ أو قَلَعَ سِنَّ ظَبْيٍ فَنَبَتَ وَعَادَ إلَى ما كان
أو ضَرَبَ على عَيْنِ ظَبْيٍ فَابْيَضَّتْ ثُمَّ ارْتَفَعَ بَيَاضُهَا قال أبو
حَنِيفَةَ في سِنِّ الظَّبْيِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عليه إذَا نَبَتَ ولم يُحْكَ عنه
في غَيْرِهِ شَيْءٌ
وقال أبو يُوسُفَ عليه صَدَقَةٌ وَجْهُ قَوْلِهِ إن وُجُوبَ
____________________
(2/205)
الْجَزَاءِ
بِالْجِنَايَةِ على الْإِحْرَامِ وَبِالنَّبَاتِ وَالْعَوْدِ إلَى ما كان لَا
يُتَبَيَّنُ إن الْجِنَايَةَ لم تَكُنْ فَلَا يَسْقُطُ الْجَزَاءُ وَلِأَبِي
حَنِيفَةَ أَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ لِمَكَانِ النُّقْصَانِ وقد زَالَ فَيَزُولُ
الضَّمَانُ كما لو قَلَعَ سِنَّ طبي ( ( ( ظبي ) ) ) لم يُثْغِرْ
وَأَمَّا حُكْمُ أَخْذِ الصَّيْدِ فَالْمُحْرِمُ إذَا أَخَذَ الصَّيْدَ يَجِبُ
عليه إرْسَالُهُ سَوَاءٌ كان في يَدِهِ أو في قَفَصٍ معه أو في بَيْتِهِ لِأَنَّ
الصَّيْدَ اسْتَحَقَّ الْأَمْنَ بِإِحْرَامِهِ وقد فَوَّتَ عليه الْأَمْنَ
بِالْأَخْذِ فَيَجِبُ عليه إعَادَتُهُ إلَى حَالَةِ الْأَمْنِ وَذَلِكَ بِالْإِرْسَالِ
فَإِنْ أَرْسَلَهُ مُحْرِمٌ من يَدِهِ فَلَا شَيْءَ على الْمُرْسِلِ لِأَنَّ
الصَّائِدَ ما مَلَكَ الصَّيْدَ فلم يَصِرْ بِالْإِرْسَالِ مُتْلِفًا مِلْكَهُ
وَإِنَّمَا وَجَبَ عليه الْإِرْسَالُ لِيَعُودَ إلَى حَالَةِ الْأَمْنِ فإذا
أَرْسَلَ فَقَدْ فَعَلَ ما وَجَبَ عليه وَإِنْ قَتَلَهُ فَعَلَى كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا جَزَاءٌ أَمَّا الْقَاتِلُ فَلِأَنَّهُ مُحْرِمٌ قَتَلَ صَيْدًا
وَأَمَّا الْآخِذُ فَلِأَنَّهُ فَوَّتَ الْأَمْنَ على الصَّيْدِ بِالْأَخْذِ
وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ إلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالْإِرْسَالِ
فإذا تَعَذَّرَ الْإِرْسَالُ لم يَسْقُطْ وَلِلْآخِذِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا ضَمِنَ
على الْقَاتِلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ لَا يَرْجِعُ وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْمُحْرِمَ لم يَمْلِكْ الصَّيْدَ
بِالْأَخْذِ فَكَيْفَ يَمْلِكُ بَدَلَهُ عِنْدَ الْإِتْلَافِ
وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ له وَإِنْ لم يَثْبُتْ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ الثُّبُوتِ
في حَقِّهِ وهو الْأَخْذُ قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الصَّيْدُ لِمَنْ
أَخَذَهُ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ جَعْلُهُ سَبَبًا لِمِلْكِ غَيْرِ الصَّيْدِ فَيُجْعَلُ
سَبَبًا لِمِلْكِ بَدَلِهِ فَيَمْلِكُ بَدَلَهُ عِنْدَ الْإِتْلَافِ وَيُجْعَلُ
كَأَنَّ الْأَصْلَ كان مِلْكَهُ كَمَنْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَجَاءَ إنْسَانٌ
وَقَتَلَهُ في يَدِ الْغَاصِبِ أو غَصَبَهُ من يَدِهِ فَضَمَّنِ الْمَالِكُ
الْغَاصِبَ فإن لِلْغَاصِبِ أَنْ يَرْجِعَ بِالضَّمَانِ على الْغَاصِبِ
وَالْقَاتِلِ وَكَذَا هذا في غَصْبِ أُمِّ الْوَلَدِ وَإِنْ لم يَمْلِكْ
الْمُدَبَّرَ وَأُمَّ الْوَلَدِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلَوْ أَصَابَ الْحَلَالُ صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ فَإِنْ كان مُمْسِكًا إيَّاهُ
بيده فَعَلَيْهِ إرْسَالُهُ لِيَعُودَ بِهِ إلَى الْأَمْنِ الذي اسْتَحَقَّهُ
بِالْإِحْرَامِ فَإِنْ لم يُرْسِلْهُ حتى هَلَكَ في يَدِهِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ
وَإِنْ أَرْسَلَهُ إنْسَانٌ من يَدِهِ ضَمِنَ له قِيمَتَهُ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَضْمَنُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن الْإِرْسَالَ كان وَاجِبًا على الْمُحْرِمِ حَقًّا لِلَّهِ
فإذا أَرْسَلَهُ الْأَجْنَبِيُّ فَقَدْ احْتَسَبَ بِالْإِرْسَالِ فَلَا يَضْمَنُ
كما لو أَخَذَهُ وهو مُحْرِمٌ فَأَرْسَلَهُ إنْسَانٌ من يَدِهِ وَلِأَبِي
حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَتْلَفَ صَيْدًا مَمْلُوكًا له فَيَضْمَنُ كما لو أَتْلَفَ قبل
الْإِحْرَامِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الصَّيْدَ مِلْكُهُ أَنَّهُ أَخَذَهُ وهو
حَلَالٌ وَأَخْذُ الصَّيْدِ من الْحَلَالِ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِقَوْلِهِ
الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ وَالْعَارِضُ وهو الْإِحْرَامُ
أَثَرُهُ في حُرْمَةِ التَّعَرُّضِ لَا في زَوَالِ الْمِلْكِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا إنَّ الْمُرْسِلَ احْتَسَبَ بِالْإِرْسَالِ لِأَنَّهُ
وَاجِبٌ فَنَقُولُ الْوَاجِبُ هو الْإِرْسَالُ على وَجْهٍ يُفَوِّتُ يَدَهُ عن
الصَّيْدِ أَصْلًا وَرَأْسًا أو على وَجْهٍ يزول ( ( ( يزيل ) ) ) يَدَهُ الحقيقة
( ( ( الحقيقية ) ) ) عنه أن قَالَا على وَجْهٍ يُفَوِّتُ يَدَهُ أَصْلًا
وَرَأْسًا مَمْنُوعٌ وَإِنْ قَالَا على وَجْهٍ يزول ( ( ( يزيل ) ) ) يَدَهُ
الْحَقِيقِيَّةَ عنه فَمُسَلَّمٌ لَكِنْ ذلك يَحْصُلُ بِالْإِرْسَالِ في بَيْتِهِ
وَإِنْ أَرْسَلَهُ في بَيْتِهِ فَلَا شَيْءَ عليه بِخِلَافِ ما إذَا اصْطَادَهُ
وهو مُحْرِمٌ فَأَرْسَلَهُ غَيْرُهُ من يَدِهِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ على الصَّائِدِ
هُنَاكَ إرْسَالُ الصَّيْدِ على وَجْهٍ يَعُودُ إلَيْهِ بِهِ الْأَمْنُ الذي
اسْتَحَقَّهُ بِإِحْرَامِهِ
وفي الْإِمْسَاكِ في الْقَفَصِ أو في الْبَيْتِ لَا يَعُودُ الْأَمْنُ بِخِلَافِ
الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ الصَّيْدَ هُنَاكَ ما اسْتَحَقَّ الْأَمْنَ وقد
أَخَذَهُ وَصَارَ مِلْكًا له وَإِنَّمَا يَحْرُمُ عليه التَّعَرُّضُ في حَالِ
الْإِحْرَامِ فَيَجِبُ إزَالَةُ التَّعَرُّضِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِزَوَالِ يَدِهِ
الْحَقِيقِيَّةِ فَلَا يَحْرُمُ عليه الْإِرْسَالُ في الْبَيْتِ أو في الْقَفَصِ
وَالدَّلِيلُ على التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لو
أَرْسَلَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ بَعْدَ ما حَلَّ من إحْرَامِهِ في يَدِ آخَرَ له أَنْ
يَسْتَرِدَّهُ منه وفي الْفَصْلِ الثَّانِي ليس له أَنْ يَسْتَرِدَّهُ وَإِنْ كان
الصَّيْدُ في قَفَصٍ معه أو في بَيْتِهِ لَا يَجِبُ إرْسَالُهُ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ حتى أَنَّهُ لو لم يُرْسِلْهُ فَمَاتَ لَا يَضْمَنُ
عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَضْمَنُ وَالْكَلَامُ فيه مَبْنِيٌّ على أَنَّ من أَحْرَمَ
وفي مِلْكِهِ صَيْدٌ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عنه عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَزُولُ
والصحيح ( ( ( الصحيح ) ) ) قَوْلُنَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ كان مِلْكًا له
وَالْعَارِضُ وهو حُرْمَةُ التَّعَرُّضِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ
وَيَسْتَوِي فِيمَا يُوجِبُ الْجَزَاءَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْمُفْرِدُ
وَالْقَارِنُ غير أَنَّ الْقَارِنَ يَلْزَمُهُ جزاآن ( ( ( جزاءان ) ) ) عِنْدَنَا
لِكَوْنِهِ مُحْرِمًا بِإِحْرَامَيْنِ فَيَصِيرُ جَانِيًا عَلَيْهِمَا
فَيَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِكَوْنِهِ
مُحْرِمًا بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ
وَأَمَّا الذي يُوجِبُ فَسَادَ الْحَجِّ فَالْجِمَاعُ لِقَوْلِهِ عز وجل { فَلَا
رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ } عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما
أَنَّهُ الْجِمَاعُ وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ لِمَا نَذْكُرُ في بَيَانِ ما
يُفْسِدُ الْحَجَّ وَبَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هذا
الذي ذَكَرْنَا بَيَانُ ما يَخُصُّ الْمُحْرِمَ من الْمَحْظُورَاتِ وَهِيَ
مَحْظُورَاتُ الْإِحْرَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَيَتَّصِلُ بهذا بَيَانُ ما يَعُمُّ الْمُحْرِمَ وَالْحَلَالَ جميعا وهو
مَحْظُورَاتُ الْحَرَمِ فَنَذْكُرُهَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
مَحْظُورَاتُ الْحَرَمِ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الصَّيْدِ وَنَوْعٌ
يَرْجِعُ إلَى النَّبَاتِ أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الصَّيْدِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا
يَحِلُّ قَتْلُ صَيْدِ الْحَرَمِ لِلْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ جميعا إلَّا
الْمُؤْذِيَاتِ الْمُبْتَدِئَةَ بِالْأَذَى غَالِبًا وقد بَيَّنَّا ذلك في صَيْدِ
الْإِحْرَامِ وَالْأَصْلُ فيه قَوْله تَعَالَى { أو لم يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا
حَرَمًا آمِنًا } وقَوْله تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }
____________________
(2/206)
وقَوْله تَعَالَى { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا }
وَهَذَا يَتَنَاوَلُ صَيْدَ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ جميعا لِأَنَّهُ يُقَالُ
أَحْرَمَ إذَا دخل في الْإِحْرَامِ وَأَحْرَمَ إذَا دخل في الْحَرَمِ كما يُقَالُ
أَنْجَدَ إذَا دخل نَجْدَ وَاتَّهَمَ إذَا دخل تِهَامَةَ وَأَعْرَقَ إذَا دخل
الْعِرَاقَ وَأَحْرَمَ إذَا دخل في الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَمِنْهُ قَوْلُ
الشَّاعِرِ في عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه قُتِلَ ابن عَفَّانَ الْخَلِيفَةُ
مُحْرِمًا وَدَعَا فلم أَرَ مثله مَخْذُولًا الْخَلِيفَةُ مُحْرِمًا أَيْ في
الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَاللَّفْظُ وَإِنْ كان مُشْتَرَكًا لَكِنَّ الْمُشْتَرَكَ
في مَحَلِّ النَّفْيِ يَعُمُّ لِعَدَمِ التَّنَافِي إلَّا أَنَّ الدُّخُولَ في
الشَّهْرِ الْحَرَامِ ليس بِمُرَادٍ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ أَخْذَ الصَّيْدِ في
الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لم يَكُنْ مَحْظُورًا ثُمَّ قد نُسِخَتْ الْأَشْهُرُ
الْحُرُمُ فَبَقِيَ الدُّخُولُ في الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ مُرَادًا
بِالْآيَتَيْنِ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ وَقَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَلَا إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى يوم خَلَقَ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضَ لم تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي
وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لي سَاعَةً من نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ لَا يختلي خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ
صَيْدُهَا وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ من وُجُوهٍ
أَحَدُهَا قَوْلُهُ مَكَّةَ حَرَامٌ
وَالثَّانِي قَوْلُهُ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى
وَالثَّالِثُ قَوْلُهُ وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي
وَالرَّابِعُ قَوْلُهُ ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَالْخَامِسُ قَوْلُهُ لَا يختلي خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا
يُنَفَّرُ صَيْدُهَا فَإِنْ قَتَلَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ
مُحْرِمًا كان الْقَاتِلُ أو حَلَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَهُ
مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ } وَجَزَاؤُهُ ما هو جَزَاءُ
قَاتِلِ صَيْدِ الْإِحْرَامِ وهو أَنْ تَجِبَ عليه قِيمَتُهُ فَإِنْ بَلَغَتْ
هَدْيًا له أَنْ يَشْتَرِيَ بها هَدْيًا أو طَعَامًا إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
الصَّوْمُ هَكَذَا ذُكِرَ في الْأَصْلِ وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ
مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ إن حُكْمَهُ حُكْمَ صَيْدِ الْإِحْرَام إلَّا أَنَّهُ
لَا يَجُوزُ فيه الصَّوْمُ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ إن الْإِطْعَامَ
يجزيء في صَيْدِ الْحَرَمِ وَلَا يجزيء الصَّوْمُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يجزىء وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وفي الهدى
رِوَايَتَانِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ الِاعْتِبَارُ بِصَيْدِ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ
من الضَّمَانَيْنِ يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يجزىء الصَّوْمُ في
أَحَدِهِمَا كَذَا في الْآخَرِ
وَلَنَا الْفَرْقُ بين الصَّيْدَيْنِ وَالضَّمَانَيْنِ وهو أَنَّ ضَمَانَ صَيْدِ
الْإِحْرَامِ وَجَبَ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْفَاعِلِ لِأَنَّهُ وَجَبَ جَزَاءً
على جِنَايَتِهِ على الْإِحْرَامِ فَأَمَّا ضَمَانُ صَيْدِ الْحَرَمِ فَإِنَّمَا
وَجَبَ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَحِلِّ وهو تَفْوِيتُ أَمْنِ الْحَرَمِ رعاية
( ( ( ورعاية ) ) ) لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ سَائِرِ
الْأَمْوَالِ وَضَمَانُ سَائِرِ الْأَمْوَالِ لَا يَدْخُلُ فيه الصَّوْمُ كَذَا هذا
وَأَمَّا الْهَدْيُ فَوَجْهُ رِوَايَةِ عَدَمِ الْجَوَازِ ما ذَكَرْنَا إن هذا
الضَّمَانَ يُشْبِهُ ضَمَانَ سَائِرِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّ وُجُوبَهُ لِمَعْنًى في
الْمَحِلِّ فَلَا يَجُوزُ فيه الْهَدْيُ كما لَا يَجُوزُ في سَائِرِ الْأَمْوَالِ
إلَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ مَذْبُوحًا مِثْلَ قِيمَةِ الصَّيْدِ فيجزىء ( ( (
فيجزئ ) ) ) عن الطَّعَامِ وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَوَازِ أَنَّ ضَمَانَ صَيْدِ
الْحَرَمِ له شَبَهٌ بِأَصْلَيْنِ ضَمَانِ الْأَمْوَالِ وَضَمَانِ الْأَفْعَالِ
أَمَّا شَبَهُهُ بِضَمَانِ الْأَمْوَالِ فَلِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا شَبَهُهُ
بِضَمَانِ الْأَفْعَالِ وهو ضَمَانُ الْإِحْرَامِ فَلِأَنَّهُ يَجِبُ حَقًّا
لِلَّهِ تَعَالَى فَيُعْمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ فَنَقُولُ أنه لَا يَدْخُلُ فيه
الصَّوْمُ اعْتِبَارًا لِشَبَهِ الْأَمْوَالِ وَيَدْخُلُ فيه الْهَدْيُ اعْتِبَارًا
لِشَبَهِ الْأَفْعَالِ وهو الْإِحْرَامُ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِالْقَدْرِ
الْمُمْكِنِ إذْ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالْعَكْسِ وَلِأَنَّ الْهَدْيَ مَالٌ
فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْإِطْعَامِ وَالصَّوْمُ ليس بِمَالٍ وَلَا فيه مَعْنَى
الْمَالِ فَافْتَرَقَا وَلَوْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا في الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ
ما على الْمُحْرِمِ إذَا قَتَلَ صَيْدًا في الْحِلِّ وَلَيْسَ عليه لِأَجْلِ
الْحَرَمِ شَيْءٌ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ كَفَّارَتَانِ لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ على
شَيْئَيْنِ وَهُمَا الْإِحْرَامُ وَالْحَرَمُ فَأَشْبَهَ الْقَارِنَ إلَّا
أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَأَوْجَبُوا كَفَّارَةَ الْإِحْرَامِ لَا غير لِأَنَّ
حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ أَقْوَى من حُرْمَةِ الْحَرَمِ فَاسْتَتْبَعَ الْأَقْوَى
الْأَضْعَفُ وَبَيَانُ أَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ أَقْوَى من وُجُوهٍ أَحَدُهَا
أَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ ظَهَرَ أَثَرُهَا في الْحَرَمِ وَالْحِلِّ جميعا حتى
حَرُمَ على الْمُحْرِمِ الصَّيْدُ في الْحَرَمِ وَالْحِلِّ جميعا وَحُرْمَةُ
الْإِحْرَامِ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهَا إلَّا في الْحَرَمِ حتى يُبَاحَ لِلْحَلَالِ
الِاصْطِيَادُ
____________________
(2/207)
لِصَيْدِ
الْحَرَمِ إذَا خَرَجَ إلَى الْحِلِّ
وَالثَّانِي أَنَّ الْإِحْرَامَ يُحَرِّمُ الصَّيْدَ وَغَيْرَهُ مِمَّا ذَكَرْنَا
من مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمُ لَا يُحَرِّمُ إلَّا الصَّيْدَ وما يَحْتَاجُ
إلَيْهِ الصَّيْدُ من الخلي وَالشَّجَرِ
وَالثَّالِثُ أَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ تُلَازِمُ حُرْمَةَ الْحَرَمِ وُجُودًا
لِأَنَّ الْمُحْرِمَ يَدْخُلُ الْحَرَمَ لَا مَحَالَةَ وَحُرْمَةُ الْحَرَمِ لَا
تُلَازِمُ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ وُجُودًا فَثَبَتَ أَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ
أَقْوَى فَاسْتَتْبَعَتْ الْأَدْنَى بِخِلَافِ الْقَارِنِ لِأَنَّ ثَمَّةَ كُلُّ
وَاحِدَةٍ من الْحُرْمَتَيْنِ
أعني حُرْمَةَ إحْرَامِ الْحَجِّ وَحُرْمَةَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ أَصْلٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُحَرِّمُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ ما يُحَرِّمُهُ إحْرَامُ
الْحَجِّ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَصْلًا بِنَفْسِهَا فَلَا
تَسْتَتْبِعُ إحْدَاهُمَا صَاحِبَتَهَا وَلَوْ اشْتَرَكَ حَلَالَانِ في قَتْلِ
صَيْدٍ في الْحَرَمِ فَعَلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ قِيمَتِهِ فَإِنْ
كَانُوا أَكْثَرَ من ذلك يُقْسَمُ الضَّمَانُ بين عَدَدِهِمْ لِأَنَّ ضَمَانَ
صَيْدِ الْحَرَمِ يَجِبُ لِمَعْنًى في الْمَحِلِّ وهو حُرْمَةُ الْحَرَمِ فَلَا
يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْفَاعِلِ كَضَمَانِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ بِخِلَافِ
ضَمَانِ صَيْدِ الْإِحْرَامِ فَإِنْ اشْتَرَكَ مُحْرِمٌ وَحَلَالٌ فَعَلَى
الْمُحْرِمِ جَمِيعُ الْقِيمَةِ وَعَلَى الْحَلَالِ النِّصْفُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ
على الْمُحْرِمِ ضَمَانُ الْإِحْرَامِ لِمَا بَيَّنَّا وَذَلِكَ لَا يَتَجَزَّأُ
وَالْوَاجِبُ على الْحَلَالِ ضَمَانُ الْمَحِلِّ وَأَنَّهُ متجزىء وَسَوَاءٌ كان
شَرِيكُ الْحَلَالِ مِمَّنْ يَجِبُ عليه الْجَزَاءُ أو لَا يَجِبُ كَالْكَافِرِ
وَالصَّبِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ على الْحَلَالِ بِقَدْرِ ما يَخُصُّهُ من الْقِيمَةِ
لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِفِعْلِهِ ضَمَانُ الْمَحِلِّ فَيَسْتَوِي في حَقِّهِ
الشَّرِيكُ الذي يَكُونُ من أَهْلِ وُجُوبِ الْجَزَاءِ وَمَنْ لَا يَكُونُ من
أَهْلِهِ
فَإِنْ قَتَلَ حَلَالٌ وَقَارَنَ صَيْدًا في الْحَرَمِ فَعَلَى الْحَلَالِ نِصْفُ
الْجَزَاءِ وَعَلَى الْقَارِنِ جزاآن ( ( ( جزاءان ) ) ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ على
الْحَلَالِ ضَمَانُ الْمَحِلِّ وَالْوَاجِبُ على الْمُحْرِمِ جَزَاءُ الْجِنَايَةِ
وَالْقَارِنُ جَنَى على إحْرَامَيْنِ فَيَلْزَمُهُ جزاآن ( ( ( جزاءان ) ) )
وَلَوْ اشْتَرَكَ حَلَالٌ وَمُفْرِدٌ وَقَارِنٌ في قَتْلِ صَيْدٍ فَعَلَى
الْحَلَالِ ثُلُثُ الْجَزَاءِ وَعَلَى الْمُفْرِدِ جَزَاءٌ كَامِلٌ وَعَلَى
الْقَارِنِ جزاآن ( ( ( جزاءان ) ) ) لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ صَادَ حَلَالٌ صَيْدًا في الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ في يَدِهِ حَلَالٌ آخَرُ
فَعَلَى الذي كان في يَدِهِ جَزَاءٌ كَامِلٌ وَعَلَى الْقَاتِلِ جَزَاءٌ كَامِلٌ
أَمَّا الْقَاتِلُ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّهُ أَتْلَفَ صَيْدًا في الْحَرَمِ
حَقِيقَةً وَأَمَّا الصَّائِدُ فَلِأَنَّ الضَّمَانَ قد وَجَبَ عليه
بِاصْطِيَادِهِ وهو أَخْذُهُ لِتَفْوِيتِهِ الْأَمْنَ عليه بِالْأَخْذِ وَأَنَّهُ
سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ إلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالْإِرْسَالِ وقد تَعَذَّرَ
الْإِرْسَالُ بِالْقَتْلِ فَتَقَرَّرَ تَفْوِيتُ الْأَمْنِ فَصَارَ كَأَنَّهُ
مَاتَ في يَدِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَغْصُوبِ إذَا أَتْلَفَهُ إنْسَانٌ في يَدِ
الْغَاصِبِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا ضَمَانٌ وَاحِدٌ يُطَالِبُ الْمَالِكُ
أَيَّهُمَا شَاءَ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ الْمَحِلِّ وَلَيْسَ فيه
مَعْنَى الْجَزَاءِ لِأَنَّهُ يَجِبُ حَقًّا لِلْمَالِكِ وَالْمَحِلُّ الْوَاحِدُ
لَا يُقَابِلُهُ إلَّا ضَمَانٌ وَاحِدٌ وَضَمَانُ صَيْدِ الْحَرَمِ وَإِنْ كان
ضَمَانَ الْمَحِلِّ لَكِنْ فيه مَعْنَى الْجَزَاءِ لِأَنَّهُ يَجِبُ حَقًّا
لِلَّهِ تَعَالَى فَجَازَ أَنْ يَجِبَ على الْقَاتِلِ وَالْآخِذِ وَلِلْآخِذِ أَنْ
يَرْجِعَ على الْقَاتِلِ بِالضَّمَانِ
أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَلَا يُشْكِلُ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ عليه في
صَيْدِ الْإِحْرَامِ عِنْدَهُ فَكَذَا في صَيْدِ الْحَرَمِ وَالْجَامِعُ أَنَّ
الْقَاتِلَ فَوَّتَ على الْآخِذِ ضَمَانًا كان يَقْدِرُ على إسْقَاطِهِ
بِالْإِرْسَالِ وَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بين صَيْدِ
الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ لِأَنَّهُمَا قَالَا في صَيْدِ الْإِحْرَامِ أنه لَا
يَرْجِعُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْوَاجِبَ في صَيْدِ الْحَرَمِ ضَمَانٌ يَجِبُ
لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَحِلِّ وَضَمَانُ الْمَحِلِّ يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ
كما في الْغَصْبِ وَالْوَاجِبُ في صَيْدِ الْإِحْرَامِ جَزَاءُ فِعْلِهِ لَا
بَدَلُ الْمَحِلِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الصَّيْدَ بِالضَّمَانِ وإذا
كان جَزَاءُ فِعْلِهِ لَا يَرْجِعُ بِهِ على غَيْرِهِ وَلَوْ دَلَّ حَلَالٌ
حَلَالًا على صَيْدِ الْحَرَمِ أو دَلَّ مُحْرِمًا فَلَا شَيْءَ على الدَّالِّ في
قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقد أَسَاءَ وَأَثِمَ
وقال زُفَرُ على الدَّالِّ الْجَزَاءُ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ مِثْلُ قَوْلِ
زُفَرَ وَعَلَى هذا الِاخْتِلَافِ الْآمِرُ وَالْمُشِيرُ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ اعْتِبَارُ الْحَرَمِ بِالْإِحْرَامِ وهو اعْتِبَارٌ صَحِيحٌ
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِحُرْمَةِ الِاصْطِيَادِ ثُمَّ
الدَّلَالَةُ في الْإِحْرَامِ تُوجِبُ الْجَزَاءَ كَذَا في الْحَرَمِ
وَلَنَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وهو أَنَّ ضَمَانَ صَيْدِ الْحَرَمِ يَجْرِي
مَجْرَى ضَمَانِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ يَجِبُ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى
الْمَحِلِّ وهو حُرْمَةُ الْحَرَمِ لَا لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْقَاتِلِ
وَالْأَمْوَالُ لَا تُضْمَنُ بِالدَّلَالَةِ من غَيْرِ عَقْدٍ وَإِنَّمَا صَارَ
مُسِيئًا آثِمًا لِكَوْنِ الدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ وَالْأَمْرِ حَرَامًا
لِأَنَّهُ من بَابِ الْمُعَاوَنَةِ على الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وقد قال اللَّهُ
تَعَالَى { وَلَا تَعَاوَنُوا على الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } وَلَوْ أَدْخَلَ
صَيْدًا من الْحِلِّ إلَى الْحَرَمِ وَجَبَ إرْسَالُهُ وَإِنْ ذَبَحَهُ فَعَلَيْهِ
الْجَزَاءُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وقال الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ بَيْعُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الصَّيْدَ كان مِلْكَهُ في الْحِلِّ وَإِدْخَالُهُ في
الْحَرَمِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ فَكَانَ مِلْكُهُ قَائِمًا فَكَانَ
مَحَلًّا لِلْبَيْعِ
وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ الصَّيْدُ في الْحَرَمِ وَجَبَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ
له رِعَايَةً لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ كما لو أَحْرَمَ وَالصَّيْدُ في يَدِهِ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ وقال لَا خَيْرَ فِيمَا
____________________
(2/208)
يَتَرَخَّصُ
بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ من الْحَجَلِ وَالْيَعَاقِيبِ وَلَا يَدْخُلُ شَيْءٌ منه في
الْحَرَمِ حَيًّا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّيْدَ إذَا حَصَلَ في الْحَرَمِ
وَجَبَ إظْهَارُ حُرْمَةِ الْحَرَمِ بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ له بِالْإِرْسَالِ
فَإِنْ قِيلَ إنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَبِيعُونَ الْحَجَلَ وَالْيَعَاقِيبَ وَهِيَ
كُلُّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى من الْقَبَجِ من غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَوْ كان حَرَامًا
لَظَهَرَ النَّكِيرُ عليهم فَالْجَوَابُ أن تَرْكَ النَّكِيرِ عليهم ليس
لِكَوْنِهِ حَلَالًا بَلْ لِكَوْنِهِ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ فإن الْمَسْأَلَةَ
مُخْتَلِفَةٌ بين عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنهما وَالْإِنْكَارُ لَا يَلْزَمُ
في مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ إذَا كان الِاخْتِلَافُ في الْفُرُوعِ
وَأَمَّا وُجُوبُ الْجَزَاءِ بِذَبْحِهِ فَلِأَنَّهُ ذَبَحَ صَيْدًا مُسْتَحِقَّ
الْإِرْسَالِ وَأَمَّا فَسَادُ الْبَيْعِ فَلِأَنَّ إرْسَالَهُ وَاجِبٌ
وَالْبَيْعُ تَرْكُ الْإِرْسَالِ وَلَوْ بَاعَهُ يَجِبُ عليه فَسْخُ الْبَيْعِ
وَاسْتِرْدَادُ الْمَبِيعَ لِأَنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ
مُسْتَحِقُّ الْفَسْخِ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَإِنْ كان لَا يَقْدِرُ على فَسْخِ
الْبَيْعِ وَاسْتِرْدَادِ الْمَبِيعِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِأَنَّهُ وَجَبَ عليه
إرْسَالُهُ فإذا بَاعَهُ وَتَعَذَّرَ عليه فَسْخُ الْبَيْعِ وَاسْتِرْدَادُ
الْمَبِيعِ فَكَأَنَّهُ أَتْلَفَهُ فَيَجِبُ عليه الضَّمَانُ وَكَذَلِكَ إنْ
أَدْخَلَ صَقْرًا أو بَازِيًا فَعَلَيْهِ إرْسَالُهُ لِمَا ذَكَرْنَا في سَائِرِ
الصُّيُودِ فَإِنْ أَرْسَلَهُ فَجَعَلَ يَقْتُلُ حَمَامَ الْحَرَمِ لم يَكُنْ عليه
في ذلك شَيْءٌ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عليه الْإِرْسَالُ وقد أَرْسَلَ فَلَا
يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بَعْدَ ذلك كما لو أَرْسَلَهُ في الْحِلِّ ثُمَّ دخل الْحَرَمَ
فَجَعَلَ يَقْتُلُ صَيْدَ الْحَرَمِ وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا في الْحِلِّ على
صَيْدٍ في الْحِلِّ فأتبعه الْكَلْبُ فَأَخَذَهُ في الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ فَلَا
شَيْءَ على الْمُرْسِلِ وَلَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ
أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْجَزَاءِ فَلِأَنَّ الْعِبْرَةَ في وُجُوبِ الضَّمَانِ
بِحَالَةِ الْإِرْسَالِ إذا الْإِرْسَالُ هو السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ
وَالْإِرْسَالِ وَقَعَ مُبَاحًا لِوُجُودِهِ في الْحِلِّ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ
الضَّمَانُ
وَأَمَّا حُرْمَةُ أَكْلِ الصَّيْدِ فَلِأَنَّ فِعْلَ الْكَلْبِ ذَبْحٌ لِلصَّيْدِ
وَأَنَّهُ حَصَلَ في الْحَرَمِ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ كما لو ذَبَحَهُ آدَمِيٌّ
إذْ فِعْلُ الْكَلْبِ لَا يَكُونُ أَعْلَى من فِعْل الْآدَمِيِّ وَلَوْ رَمَى
صَيْدًا في الْحِلِّ فَنَفَرَ الصَّيْدُ فَوَقَعَ السَّهْمُ بِهِ في الْحَرَمِ
فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ قال مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا أَعْلَمُ وكان الْقِيَاسُ فيه أَنْ لَا يَجِبَ عليه
الْجَزَاءُ كما لَا يَجِبُ عليه في إرْسَالِ الْكَلْبِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مَأْذُونٌ فيه لِحُصُولِهِ في الْحِلِّ وَالْأَخْذُ وَالْإِصَابَةُ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُضَافُ إلَى الْمُرْسِلِ وَالرَّامِي وَخَاصَّةً على
أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فإنه يُعْتَبَرُ حَالَ الرَّمْيِ
في الْمَسَائِلِ حتى قال فِيمَنْ رَمَى إلَى مُسْلِمٍ فَارْتَدَّ الْمَرْمِيُّ
إلَيْهِ ثُمَّ أَصَابَهُ السَّهْمُ مَثَلًا أَنَّهُ تَجِبُ عليه الدِّيَةُ
اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الرَّمْيِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فَأَوْجَبُوا
الْجَزَاءَ في الرَّمْيِ ولم يُوجِبُوا في الْإِرْسَالِ لِأَنَّ الرَّمْيَ هو
الْمُؤَثِّرُ في الْإِصَابَةِ بِمَجْرَى الْعَادَةِ إذَا لم يَتَخَلَّلْ بين الرَّمْيِ
وَالْإِصَابَةِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ يَقْطَعُ نِسْبَةَ الْأَثَرِ إلَيْهِ شَرْعًا
فَبَقِيَتْ الْإِصَابَةُ مُضَافَةً إلَيْهِ شَرْعًا في الْأَحْكَامِ فَصَارَ
كَأَنَّهُ ابْتَدَأَ الرَّمْيَ بعدما حَصَلَ الصَّيْدُ في الْحَرَمِ وَهَهُنَا قد
تَخَلَّلَ بين الْإِرْسَالِ وَالْأَخْذِ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ وهو الْكَلْبُ
فَمَنَعَ إضَافَةَ الْأَخْذِ إلَى الْمُرْسِلِ وَصَارَ كما لو أَرْسَلَ بَازِيًا
في الْحَرَمِ فَأَخَذَ حَمَامَ الْحَرَمِ وَقَتَلَهُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِمَا
قُلْنَا كَذَا هذا
وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا على ذِئْبٍ في الْحَرَمِ أو نَصَبَ له شَرَكًا فَأَصَابَ
الْكَلْبُ صَيْدًا أو وَقَعَ في الشَّرَكِ صَيْدٌ فَلَا جَزَاءَ عليه لِأَنَّ
الْإِرْسَالَ على الذِّئْبِ وَنَصْبُ الشَّبَكَةِ له مُبَاحٌ لِأَنَّ قَتْلَ
الذِّئْبِ مُبَاحٌ في الْحِلِّ وَالْحَرَمِ لِلْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ جميعا
لِكَوْنِهِ من الْمُؤْذِيَاتِ الْمُبْتَدِئَةِ بِالْأَذَى عَادَةً فلم يَكُنْ
مُتَعَدِّيًا في التَّسَبُّبِ فَيَضْمَنُ
وَلَوْ نَصَبَ شَبَكَةً أو حَفَرَ حَفِيرَةً في الْحَرَمِ لِلصَّيْدِ فَأَصَابَ
صَيْدًا فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ في نَصْبِ الشَّبَكَةِ
وَالْحَفْرِ لِصَيْدِ الْحَرَمِ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا في التَّسَبُّبِ فَيَضْمَنُ
وَلَوْ نَصَبَ خَيْمَةً فَتَعَقَّلَ بِهِ صَيْدٌ أو حَفَرَ لِلْمَاءِ فَوَقَعَ فيه
صَيْدُ الْحَرَمِ لَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ في التَّسَبُّبِ
وَقَالُوا فِيمَنْ أَخْرَجَ ظَبْيَةً من الْحَرَمِ فَأَدَّى جَزَاءَهَا ثُمَّ
وَلَدَتْ ثُمَّ مَاتَتْ وَمَاتَ أَوْلَادُهَا لَا شَيْءَ عليه لِأَنَّهُ مَتَى
أَدَّى جَزَاءَهَا مَلَكَهَا فَحَدَثَتْ الْأَوْلَادُ على مِلْكِهِ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ أَخْرَجَ صَيْدًا من الْحَرَمِ إلَى
الْحِلِّ أن ذَبْحَهُ وَالِانْتِفَاعَ بِلَحْمِهِ ليس بِحَرَامٍ سَوَاءٌ كان
أَدَّى جَزَاءَهُ أو لم يُؤَدِّ غير إني أَكْرَهُ هذا الصَّنِيعَ وَأَحَبُّ إلى
أَنْ يَتَنَزَّهَ عن أَكْلِهِ أَمَّا حِلُّ الذَّبْحِ فَلِأَنَّهُ صَيْدٌ حَلَّ في
الْحَالِّ فَلَا يَكُونُ ذَبْحُهُ حَرَامًا
وَأَمَّا كَرَاهَةُ هذا الصَّنِيعِ فَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ يُؤَدِّي إلَى
اسْتِئْصَالِ صَيْدِ الْحَرَمِ لِأَنَّ كُلَّ من احْتَاجَ إلَى شَيْءٍ من ذلك
أَخَذَهُ وَأَخْرَجَهُ من الْحَرَمِ وَذَبَحَهُ وَانْتَفَعَ بِلَحْمِهِ وَأَدَّى
قِيمَتَهُ فَإِنْ انْتَفَعَ بِهِ فَلَا شَيْءَ عليه لِأَنَّ الضَّمَانَ سَبَبٌ
لِمِلْكِ الْمَضْمُونِ على أَصْلِنَا فإذا ضَمِنَ قِيمَتَهُ فَقَدْ مَلَكَهُ فَلَا
يَضْمَنُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ وَإِنْ بَاعَهُ وَاسْتَعَانَ
____________________
(2/209)
بِثَمَنِهِ
في جَزَائِهِ كان له ذلك لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ في حَقِّ الْأَكْلِ خَاصَّةً
وَكَذَا إذَا قَطَعَ شَجَرَ الْحَرَمِ حتى ضَمِنَ قِيمَتَهُ يُكْرَهُ له
الِانْتِفَاعُ بِهِ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ يُؤَدِّي إلَى اسْتِئْصَالِ شَجَرِ
الْحَرَمِ على ما بَيَّنَّا في الصَّيْدِ وَلَوْ اشْتَرَاهُ إنْسَانٌ من
الْقَاطِعِ لَا يُكْرَهُ له الِانْتِفَاعُ بِهِ لِأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ بَعْدَ
انْقِطَاعِ النَّمَاءِ عنه وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى النَّبَاتِ فَكُلُّ ما يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ
مِمَّا لَا يُنْبِتُهُ الناس عَادَةً وهو رَطْبٌ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ
نَبَاتَ الْحَرَمِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُنْبِتُهُ الناس
عَادَةً وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُنْبِتُهُ الناس عَادَةً فَإِنْ كان مِمَّا
لَا يُنْبِتُهُ الناس عَادَةً إذَا نَبَتَ بِنَفْسِهِ وهو رَطْبٌ فَهُوَ مَحْظُورُ
الْقَطْعِ وَالْقَلْعِ على الْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ جميعا نَحْوُ الْحَشِيشِ
الرَّطْبِ وَالشَّجَرِ الرَّطْبِ إلَّا ما فيه ضَرُورَةٌ وهو الأذخر فَإِنْ
قَلَعَهُ إنْسَانٌ أو قَطَعَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ كان
مُحْرِمًا أو حَلَالًا بَعْدَ أَنْ كان مُخَاطَبًا بِالشَّرَائِعِ وَالْأَصْلُ فيه
قَوْله تَعَالَى { أو لم يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا } أَخْبَرَ
اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ الْحَرَمَ آمِنًا مُطْلَقًا فَيَجِبُ الْعَمَلُ
بِإِطْلَاقِهِ إلَّا ما قُيِّدَ بِدَلِيلٍ
وَقَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَلَا إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا
اللَّهُ تَعَالَى إلَى قَوْلِهِ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا
نهى عن اخْتِلَاءِ كل خلي وَعَضُدِ كل شَجَرٍ فيجري على عُمُومِهِ إلَّا ما خُصَّ
بِدَلِيلٍ وهو الْإِذْخِرُ فإنه روى أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا
سَاقَ الحديث إلَى قَوْلِهِ لَا يختلي خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا فقال
الْعَبَّاسُ رضي اللَّهُ عنه إلَّا الْإِذْخِرَ يا رَسُولَ اللَّهِ فإنه مَتَاعٌ
لِأَهْلِ مَكَّةَ لِحَيِّهِمْ وَمَيِّتِهِمْ فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
إلَّا الْإِذْخِرَ وَالْمَعْنَى فيه ما أَشَارَ إلَيْهِ الْعَبَّاسُ رضي اللَّهُ
عنه وهو حَاجَةُ أَهْلِ مَكَّةَ إلَى ذلك في حَيَاتهمْ وَمَمَاتِهِمْ
فَإِنْ قِيلَ إنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن اخْتِلَاءِ خلي مَكَّةَ
عَامًا فَكَيْفَ اسْتَثْنَى الْإِذْخِرَ بِاسْتِثْنَاءِ الْعَبَّاسِ وكان صلى
اللَّهُ عليه وسلم لَا يَنْطِقُ عن الْهَوَى وقد قِيلَ في الْجَوَابِ عنه من
وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا يُحْتَمَلُ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان في
قَلْبِهِ هذا الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا أَنَّ الْعَبَّاسَ رضي اللَّهُ عنه سَبَقَهُ
بِهِ فَأَظْهَرَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِلِسَانِهِ ما كان في قَلْبِهِ
وَالثَّانِي يُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ
بِتَحْرِيمِ كل خلي مَكَّةَ إلَّا ما يَسْتَثْنِيهِ الْعَبَّاسُ وَذَلِكَ غَيْرُ
مَمْنُوعٍ وَيُحْتَمَلُ وَجْهًا ثَالِثًا وهو أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
عَمَّ الْقَضِيَّةَ بِتَحْرِيمِ كل خلي فَسَأَلَهُ الْعَبَّاسُ الرُّخْصَةَ في
الأذخر لِحَاجَةِ أَهْلِ مَكَّةَ تَرْفِيهًا بِهِمْ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عليه
السَّلَامُ بِالرُّخْصَةِ في الأذخر فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَّا
الْإِذْخِرَ
فَإِنْ قِيلَ من شَرْطِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْتِحَاقِهِ بِالْكَلَامِ
الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِهِ ذِكْرًا وَهَذَا مُنْفَصِلٌ لِأَنَّهُ
ذُكِرَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَبَعْدَ سُؤَالِ الْعَبَّاسِ رضي
اللَّهُ عنه الِاسْتِثْنَاءَ بِقَوْلِهِ إلَّا الْإِذْخِرَ وَالِاسْتِثْنَاءُ
الْمُنْفَصِلُ لَا يَصِحُّ وَلَا يَلْحَقُ الْمُسْتَثْنَى منه كالجواب ( ( (
فالجواب ) ) ) إن هذا ليس بِاسْتِثْنَاءٍ حَقِيقَةً وَإِنْ كانت صِيغَتُهُ صِيغَةَ
الِاسْتِثْنَاءِ بَلْ هو إمَّا تَخْصِيصٌ وَالتَّخْصِيصُ الْمُتَرَاخِي عن
الْعَامِّ جَائِزٌ عِنْدَ مَشَايِخِنَا وهو النَّسْخُ وَالنَّسْخُ قبل التَّمَكُّنِ
من الْفِعْلِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ من الِاعْتِقَادِ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَاَللَّهُ
الْمُوَفِّقُ
وَإِنَّمَا يَسْتَوِي فيه الْمُحْرِمُ وَالْحَلَالُ لِأَنَّهُ لَا فَصْلَ في
النُّصُوصِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْأَمْنِ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ التَّعَرُّضِ لِأَجْلِ
الْحَرَمِ فَيَسْتَوِي فيه الْمُحْرِمُ وَالْحَلَالُ وإذا وَجَبَ عليه قِيمَتُهُ
فَسَبِيلُهَا سَبِيلُ جَزَاءِ صَيْدِ الْحَرَمِ أَنَّهُ إنْ شَاءَ اشْتَرَى بها
طَعَامًا يَتَصَدَّقُ بِهِ على الْفُقَرَاءِ على كل فَقِيرٍ نِصْفُ صَاعٍ من بُرٍّ
وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى بها هَدْيًا إنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ هَدْيًا على رِوَايَةِ
الْأَصْلِ وَالطَّحَاوِيِّ فَيَذْبَحُ في الْحَرَمِ وَلَا يَجُوزُ فيه الصَّوْمُ
عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ على ما مَرَّ في صَيْدِ الْحَرَمِ
وإذا أَدَّى قِيمَتَهُ يُكْرَهُ له الِانْتِفَاعُ بالمقلوع ( ( ( بالقلوع ) ) )
وَالْمَقْطُوعِ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ وَلِأَنَّ
الِانْتِفَاعَ بِهِ يُؤَدِّي إلَى اسْتِئْصَالِ نَبَاتِ الْحَرَمِ لِأَنَّهُ إذَا
احْتَاجَ إلَى شَيْءٍ من ذلك يَقْلَعُ وَيَقْطَعُ وَيُؤَدِّي قِيمَتَهُ على ما
ذَكَرْنَا في الصَّيْدِ فَإِنْ بَاعَهُ يَجُوزُ وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ
لِأَنَّهُ ثَمَنُ مَبِيعٍ حَصَلَ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ وَلَا بَأْسَ بِقَلْعِ
الشَّجَرِ الْيَابِسِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ وَكَذَا الْحَشِيشُ الْيَابِسُ
لِأَنَّهُ قد مَاتَ وَخَرَجَ عن حَدِّ النُّمُوِّ وَلَا يَجُوزُ رَعْيُ حَشِيشِ
الْحَرَمِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وقال أبو يُوسُفَ لَا بَأْسَ
بِالرَّعْيِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْهَدَايَا تُحْمَلُ إلَى الْحَرَمِ وَلَا يُمْكِنُ حِفْظُهَا
من الرَّعْيِ فَكَانَ فيه ضَرُورَةٌ وَلَهُمَا أَنَّهُ لَمَّا مُنِعَ من التَّعَرُّضِ
لِحَشِيشِ الْحَرَمِ اسْتَوَى فيه التَّعَرُّضُ بِنَفْسِهِ وَبِإِرْسَالِ
الْبَهِيمَةِ عليه لِأَنَّ فِعْلَ الْبَهِيمَةِ مُضَافٌ إلَيْهِ كما في الصَّيْدِ
فإنه لَمَّا حَرُمَ عليه التَّعَرُّضُ لِصَيْدِهِ اسْتَوَى فيه اصْطِيَادُهُ
بِنَفْسِهِ وَبِإِرْسَالِ الْكَلْبِ كَذَا هذا وَإِنْ كان مِمَّا يُنْبِتُهُ الناس
عَادَةً من الزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ التي يُنْبِتُونَهَا فَلَا بَأْسَ
بِقَطْعِهِ وَقَلْعِهِ لِإِجْمَاعِ
____________________
(2/210)
الْأُمَّةِ
على ذلك فإن الناس من لَدُنْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا
هذا يَزْرَعُونَ في الْحَرَمِ وَيَحْصُدُونَهُ من غَيْرِ نَكِيرٍ من أَحَدٍ
وَكَذَا ما لَا يُنْبِتُهُ الناس عَادَةً إذَا أَنْبَتَهُ أَحَدٌ مِثْلُ شجر ( ( (
شجرة ) ) ) أُمِّ غَيْلَانَ وَشَجَرِ الْأَرَاكِ وَنَحْوُهُمَا فَلَا بَأْسَ
بِقَطْعِهِ وإذا قَطَعَهُ فَلَا ضَمَانَ عليه لِأَجْلِ الْحَرَمِ لِأَنَّهُ
مَلَكَهُ بِالْإِنْبَاتِ فلم يَكُنْ من شَجَرِ الْحَرَمِ فَصَارَ كَاَلَّذِي
يُنْبِتُهُ الناس عَادَةً
شَجَرَةٌ أَصْلُهَا في الْحَرَمِ وَأَغْصَانُهَا في الْحِلِّ فَهِيَ من شَجَرِ
الْحَرَمِ وَإِنْ كان أَصْلُهَا في الْحِلِّ وَأَغْصَانُهَا في الْحَرَمِ فَهِيَ
من شَجَرِ الْحِلِّ يُنْظَرُ في ذلك إلَى الْأَصْلِ لَا إلَى الْأَغْصَانِ لِأَنَّ
الْأَغْصَانَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ فَيُعْتَبَرُ فيه مَوْضِعُ الْأَصْلِ لَا
التَّابِعَ
وَإِنْ كان بَعْضُ أَصْلِهَا في الْحَرَمِ وَالْبَعْضُ في الْحِلِّ فَهِيَ من
شَجَرِ الْحَرَمِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فيه الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ فَيُرَجَّحُ
الْحَاظِرُ احْتِيَاطًا وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّيْدِ فإن الْمُعْتَبَرَ فيه
مَوْضِعُ قَوَائِمِ الطَّيْرِ إذَا كان مُسْتَقِرًّا بِهِ فَإِنْ كان الطَّيْرُ
على غُصْنٍ هو في الْحَرَمِ لَا يَجُوزُ له أَنْ يَرْمِيَهُ وَإِنْ كان أَصْلُ
الشَّجَرِ في الْحِلِّ وَإِنْ كان على غُصْنٍ هو في الْحِلِّ فَلَا بَأْسَ له أَنْ
يَرْمِيَهُ وَإِنْ كان أَصْلُ الشَّجَرِ في الْحَرَمِ يُنْظَرُ إلَى مَكَانِ قَوَائِمِ
الصَّيْدِ لَا إلَى أَصْلِ الشَّجَرِ لِأَنَّ قِوَامَ الصَّيْدِ بِقَوَائِمِهِ حتى
لو رَمَى صَيْدًا قَوَائِمُهُ في الْحَرَمِ وَرَأْسُهُ في الْحِلِّ فَهُوَ من
صَيْدِ الْحَرَمِ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ أَنْ يَقْتُلَهُ
وَلَوْ رَمَى صَيْدًا قَوَائِمُهُ في الْحِلِّ وَرَأْسُهُ في الْحَرَمِ فَهُوَ من
صَيْدِ الْحِلِّ وَلَا بَأْسَ لِلْحَلَالِ أَنْ يَقْتُلَهُ وَكَذَا إذَا كان
بَعْضُ قَوَائِمِهِ في الْحَرَمِ وَبَعْضُهَا في الْحِلِّ فَهُوَ صَيْدُ الْحَرَمِ
تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا هذا إذَا كان قَائِمًا فَأَمَّا
إذَا نَامَ فَجَعَلَ قَوَائِمَهُ في الْحِلِّ وَرَأْسَهُ في الْحَرَمِ فَهُوَ من
صَيْدِ الْحَرَمِ
لِأَنَّ الْقَوَائِمَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ إذَا كان مُسْتَقِرًّا بها وهو غَيْرُ
مُسْتَقِرٍّ بِقَوَائِمِهِ بَلْ هو كالملقي على الْأَرْضِ وإذا بَطَلَ اعْتِبَارُ
الْقَوَائِمِ فَاجْتَمَعَ فيه الْحَاظِرُ وَالْمُبِيحُ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ
الْحَاظِرِ احْتِيَاطًا وَلَا بَأْسَ بِأَخْذِ كَمْأَةَ الْحَرَمِ لِأَنَّ
الْكَمْأَةَ لَيْسَتْ من جِنْسِ النَّبَاتِ بَلْ هِيَ من وَدَائِعِ الْأَرْضِ
وقال أبو حَنِيفَةَ لَا بَأْسَ بِإِخْرَاجِ حِجَارَةِ الْحَرَمِ وَتُرَابِهِ إلَى
الْحِلِّ لِأَنَّ الناس يُخْرِجُونَ الْقُدُورَ من مَكَّةَ من لَدُنْ رسول اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا من غَيْرِ نَكِيرٍ وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ
اسْتِهْلَاكُهُ بِاسْتِعْمَالِهِ في الْحَرَمِ فَيَجُوزُ إخْرَاجُهُ إلَى الْحِلِّ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما كَرَاهَةُ ذلك بِقَوْلِهِ
عز وجل { أو لم يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا } جَعَلَ اللَّهُ
تَعَالَى نَفْسَ الْحَرَمِ آمِنًا وَلِأَنَّ الْحَرَمَ لَمَّا أَفَادَ الْأَمْنَ
لِغَيْرِهِ فَلَأَنْ يُفِيدَ لِنَفْسِهِ أَوْلَى ثُمَّ إنَّمَا يَجِبُ على
الْمُحْرِمِ اجْتِنَابُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ وَتَثْبُتُ
أَحْكَامُهَا إذَا فَعَلَ إذَا كان مُخَاطَبًا بِالشَّرَائِعِ فإما إذَا لم يَكُنْ
مُخَاطَبًا كَالصَّبِيِّ الْعَاقِلِ لَا يَجِبُ وَلَا يَثْبُتُ حتى لو فَعَلَ شيئا
من مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ فَلَا شَيْءَ عليه وَلَا على وَلِيِّهِ
لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمُ يُثْبِتُ حَقًّا لِلَّهِ
تَعَالَى وَالصَّبِيُّ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ
يَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ أَنْ يُجَنِّبَهُ ما يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ تَأَدُّبًا
وَتَعَوُّدًا كما يَأْمُرُهُ بِالصَّلَاةِ
وَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا أَحْرَمَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ فإنه يَجِبُ عليه
الِاجْتِنَابُ لِأَنَّهُ من أَهْلِ الْخِطَابِ فَإِنْ فَعَلَ شيئا من
الْمَحْظُورَاتِ فَإِنْ كان مِمَّا يَجُوزُ فيه الصَّوْمُ يَصُومُ وَإِنْ كان
مِمَّا لَا يَجُوزُ فيه إلَّا الْفِدْيَةُ أو الْإِطْعَامُ لَا يَجِبُ عليه ذلك في
الْحَالِ وَإِنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَوْ فَعَلَ في حَالِ الرِّقِّ لَا
يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ له وَكَذَا لو فَعَلَ عنه مَوْلَاهُ أو غَيْرُهُ
لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ الْمِلْكِ فَلَا يَمْلِكُ وَإِنْ مَلَكَ
وإذا فَرَغْنَا من فُصُولِ الْإِحْرَامِ وما يَتَّصِلُ بِهِ فَلْنَرْجِعْ إلَى ما
كنا فيه وهو بَيَانُ شَرَائِطِ الْأَرْكَانِ وقد ذَكَرْنَا جُمْلَةً منها
فَمِنْهَا الْإِسْلَامُ وَمِنْهَا الْعَقْلُ وَمِنْهَا النِّيَّةُ وَمِنْهَا
الْإِحْرَامُ وقد ذَكَرْنَاهُ بِجَمِيعِ فُصُولِهِ وَعَلَائِقِهِ وما اتَّصَلَ
بِهِ
وَمِنْهَا الْوَقْتُ فَلَا يَجُوزُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ قبل يَوْمِ عَرَفَةَ
وَلَا طَوَافُ الزِّيَارَةِ قبل يَوْمِ النَّحْرِ وَلَا أَدَاءُ شَيْءٍ من
أَفْعَالِ الْحَجِّ قبل وَقْتِهِ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ قال
اللَّهُ تَعَالَى { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } وَالْعِبَادَاتُ الْمُؤَقَّتَةُ
لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا قبل أَوْقَاتِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَكَذَا إذَا
فَاتَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ عن وَقْتِهِ الذي ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ لَا
يَجُوزُ الْوُقُوفُ في يَوْمٍ آخَرَ وَيَفُوتُ الْحَجُّ في تِلْكَ السَّنَةِ إلَّا
لِضَرُورَةِ الِاشْتِبَاهِ اسْتِحْسَانًا بِأَنْ اشْتَبَهَ عليهم هِلَالُ ذِي
الْحِجَّةِ فَوَقَفُوا ثُمَّ تُبُيِّنَ إنهم وَقَفُوا يوم النَّحْرِ على ما
ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَأَمَّا طَوَافُ الزِّيَارَةِ إذَا فَاتَ عن أَيَّامِ النَّحْرِ فإنه يَجُوزُ في
غَيْرِهَا لَكِنْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ بِالتَّأْخِيرِ على
ما مَرَّ وَأَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ من ذِي
الْحِجَّةِ كَذَا رُوِيَ عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ منهم
عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بن عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بن
الزُّبَيْرِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَكَذَا روى عن جَمَاعَةٍ من التَّابِعِينَ
مِثْلُ الشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَيَنْبَنِي أَيْضًا على
مَعْرِفَةِ أَشْهُرِ الْحَجِّ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قبل أَشْهُرِ الْحَجِّ وقد
ذَكَرْنَا
____________________
(2/211)
الِاخْتِلَافَ
فيه فِيمَا تَقَدَّمَ وَمِنْهَا إذَا أَمِنَ عليه بِنَفْسِهِ حَالَ قُدْرَتِهِ على
الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِنَابَةُ غَيْرِهِ مع قُدْرَتِهِ على
الْحَجِّ بِنَفْسِهِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْعِبَادَاتِ في الشَّرْعِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ
مَالِيَّةٌ مَحْضَةٌ كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْعُشُورِ
وَبَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْجِهَادِ وَمُشْتَمِلَةٌ على
الْبَدَنِ وَالْمَالِ كَالْحَجِّ فَالْمَالِيَّةُ الْمَحْضَةُ تَجُوزُ فيها
النِّيَابَةُ على الْإِطْلَاقِ وَسَوَاءٌ كان من عليه قَادِرًا على الْأَدَاءِ
بِنَفْسِهِ أو لَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ فيها إخْرَاجُ الْمَالِ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ
بِفِعْلِ النَّائِبِ وَالْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ لَا تَجُوزُ فيها النِّيَابَةُ
على الْإِطْلَاقِ لِقَوْلِهِ عز وجل { وَأَنْ ليس لِلْإِنْسَانِ إلَّا ما سَعَى }
إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ
وَقَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا يَصُومُ أَحَدٌ عن أَحَدٍ وَلَا
يُصَلِّي أَحَدٌ ن أَحَدٍ أَيْ في حَقِّ الْخُرُوجِ عن الْعُهْدَةِ لَا في حَقِّ
الثَّوَابِ فإن من صَامَ أو صلى أو تَصَدَّقَ وَجَعَلَ ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ من
الْأَمْوَاتِ أو الْأَحْيَاءِ جَازَ وَيَصِلُ ثَوَابُهَا إلَيْهِمْ عِنْدَ أَهْلِ
السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وقد صَحَّ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدُهُمَا عن نَفْسِهِ وَالْآخَرُ عن
أُمَّتِهِ مِمَّنْ آمَنَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِرِسَالَتِهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم
وروى أَنَّ سَعْدَ بن أبي وَقَّاصٍ رضي اللَّهُ عنه سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم فقال يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي كانت تُحِبُّ الصَّدَقَةَ
أَفَأَتَصَدَّقُ عنها فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم تَصَدَّقْ وَعَلَيْهِ
عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ من لَدُنْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى
يَوْمِنَا هذا من زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عليها
وَالتَّكْفِينِ وَالصَّدَقَاتِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَجَعْلِ ثَوَابِهَا
لِلْأَمْوَاتِ وَلَا امْتِنَاعَ في الْعَقْلِ أَيْضًا لِأَنَّ إعْطَاءَ الثَّوَابِ
من اللَّهِ تَعَالَى افضال منه لَا اسْتِحْقَاقٌ عليه فَلَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ على
من عَمِلَ لِأَجْلِهِ بِجَعْلِ الثَّوَابِ له كما له أَنْ يَتَفَضَّلَ بِإِعْطَاءِ
الثَّوَابِ من غَيْرِ عَمَلٍ رَأْسًا
وَأَمَّا الْمُشْتَمِلَةُ على الْبَدَنِ وَالْمَالِ وَهِيَ الْحَجُّ فَلَا يَجُوزُ
فيها النِّيَابَةُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَيَجُوزُ عِنْدَ الْعَجْزِ وَالْكَلَامُ
فيه يَقَعُ في مَوَاضِعَ في جَوَازِ النِّيَابَةِ في الْحَجِّ في الْجُمْلَةِ وفي
بَيَانِ كَيْفِيَّةِ النِّيَابَةِ فيه وفي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ النِّيَابَةِ
وفي بَيَانِ ما يَصِيرُ النَّائِبُ بِهِ مُخَالِفًا وَبَيَانِ حُكْمِهِ إذَا خَالَفَ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ على الْجَوَازِ حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ وهو ما
رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ من بَنِي خَثْعَمَ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم وَقَالَتْ يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أبي
وأنه شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَثْبُتُ على الرَّاحِلَةِ وفي رِوَايَةٍ لَا
يَسْتَمْسِكُ على الرَّاحِلَةِ أَفَيُجْزِينِي أَنْ أَحُجَّ عنه فقال صلى اللَّهُ
عليه وسلم حُجِّي عن أَبِيك وَاعْتَمِرِي
وفي رِوَايَةٍ قال لها أَرَأَيْت لو كان على أَبِيك دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَمَا
كان يُقْبَلُ مِنْك قالت نعم فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَدَيْنُ اللَّهِ
تَعَالَى أَحَقُّ وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تُؤَدَّى بِالْبَدَنِ وَالْمَالِ فَيَجِبُ
اعْتِبَارُهُمَا وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُمَا في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لِتَنَافٍ
بين أَحْكَامِهِمَا فَنَعْتَبِرُهُمَا في حَالَيْنِ فَنَقُولُ لَا تَجُوزُ
النِّيَابَةُ فيه عِنْدَ الْقُدْرَةِ اعْتِبَارًا لِلْبَدَنِ وَتَجُوزُ عِنْدَ
الْعَجْزِ اعْتِبَارًا لِلْمَالِ عَمَلًا بِالْمَعْنَيَيْنِ في الْحَالَيْنِ
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ النِّيَابَةِ فيه فذكر في الْأَصْلِ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ
عن الْمَحْجُوجِ عنه وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ نَفْسَ الْحَجِّ يَقَعُ عن
الْحَاجِّ وَإِنَّمَا لِلْمَحْجُوجِ عنه ثَوَابُ النَّفَقَةِ
وَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ
وَالْبَدَنُ لِلْحَاجِّ وَالْمَالُ لِلْمَحْجُوجِ عنه فما كان من الْبَدَنِ
لِصَاحِبِ الْبَدَنِ وما كان بِسَبَبِ الْمَالِ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْمَالِ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ لو ارْتَكَبَ شيئا من مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ
فَكَفَّارَتُهُ في مَالِهِ لَا في مَالِ الْمَحْجُوجِ عنه وَكَذَا لو أَفْسَدَ
الْحَجَّ يَجِبُ عليه الْقَضَاءُ فَدَلَّ أَنَّ نَفْسَ الْحَجِّ يَقَعُ له إلَّا
أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ ثَوَابَ نَفَقَةِ الْحَجِّ في حَقِّ الْعَاجِزِ عن
الْحَجِّ بِنَفْسِهِ مَقَامَ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ نَظَرًا له وَمَرْحَمَةً عليه
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ ما رَوَيْنَا من حديث الْخَثْعَمِيَّةِ حَيْثُ قال لها
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حُجِّي عن أَبِيك أَمَرَهَا بِالْحَجِّ عن أَبِيهَا
وَلَوْلَا أَنَّ حَجَّهَا يَقَعُ عن أَبِيهَا لَمَا أَمَرَهَا بِالْحَجِّ عنه
وَلِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قَاسَ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِدَيْنِ
الْعِبَادِ بِقَوْلِهِ أَرَأَيْت لو كان على أَبِيك دَيْنٌ وَذَلِكَ تجزىء فيه
النِّيَابَةُ وَيَقُومُ فِعْلُ النَّائِبِ مَقَامَ فِعْلِ الْمَنُوبِ عنه كَذَا
هذا
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الْحَاجَّ يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْمَحْجُوجِ عنه كَذَا
الْإِحْرَامُ وَلَوْ لم يَقَعْ نَفْسُ الْحَجِّ عنه لَكَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَى
نِيَّتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ النِّيَابَةِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ المحجوم ( ( (
المحجوج ) ) ) عنه عَاجِزًا عن أَدَاءِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ وَلَهُ مَالٌ فَإِنْ
كان قَادِرًا على الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ بِأَنْ كان صَحِيحَ الْبَدَنِ وَلَهُ
مَالٌ لَا يَجُوزُ حَجُّ غَيْرِهِ عنه لِأَنَّهُ إذَا كان قَادِرًا على الْأَدَاءِ
بِبَدَنِهِ وَلَهُ مَالٌ فَالْفَرْضُ يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِهِ لَا بِمَالِهِ بَلْ الْمَالُ
يَكُونُ شَرْطًا وإذا تَعَلَّقَ الْفَرْضُ بِبَدَنِهِ لَا تجزىء فيه النِّيَابَةُ
كَالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ وَكَذَا لو كان فَقِيرًا صَحِيحَ
الْبَدَنِ لَا يَجُوزُ حَجُّ
____________________
(2/212)
غَيْرِهِ
عنه لِأَنَّ الْمَالَ من شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فإذا لم يَكُنْ له مَالٌ لَا يَجِبُ
عليه أَصْلًا فَلَا يَنُوبُ عنه غَيْرُهُ في أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَلَا وَاجِبَ
وَمِنْهَا الْعَجْزُ الْمُسْتَدَامُ من وَقْتِ الاحجاج إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ
فَإِنْ زَالَ قبل الْمَوْتِ لم يَجُزْ حَجُّ غَيْرِهِ عنه لِأَنَّ جَوَازَ حَجِّ
الْغَيْرِ عن الْغَيْرِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ الذي
لَا يُرْجَى زَوَالُهُ فَيَتَقَيَّدُ الْجَوَازُ بِهِ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ
الْمَرِيضُ أو الْمَحْبُوسُ إذَا أَحَجَّ عنه أَنَّ جَوَازَهُ مَوْقُوفٌ إنْ مَاتَ
وهو مَرِيضٌ أو مَحْبُوسٌ جَازَ وَإِنْ زَالَ الْمَرَضُ أو الْحَبْسُ قبل
الْمَوْتِ لم يَجُزْ والاحجاج من الزَّمِنِ وَالْأَعْمَى على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ
جَائِزٌ لِأَنَّ الزَّمَانَةَ وَالْعَمَى لَا يُرْجَى زَوَالُهُمَا عَادَةً
فَوُجِدَ الشَّرْطُ وهو الْعَجْزُ الْمُسْتَدَامُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ
وَمِنْهَا الْأَمْرُ بِالْحَجِّ فَلَا يَجُوزُ حَجُّ الْغَيْرِ عنه بِغَيْرِ
أَمْرِهِ لِأَنَّ جَوَازَهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عنه وَالنِّيَابَةُ لَا
تَثْبُتُ إلَّا بِالْأَمْرِ إلَّا الْوَارِثَ يَحُجُّ عن مُوَرِّثِهِ بِغَيْرِ
أَمْرِهِ فإنه يَجُوزُ إنْ شَاءَ أنه تَعَالَى بِالنَّصِّ وَلِوُجُودِ الْأَمْرِ
هُنَاكَ دَلَالَةٌ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا نِيَّةُ الْمَحْجُوجِ عنه عِنْدَ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ النَّائِبَ
يَحُجُّ عنه لَا عن نَفْسِهِ فَلَا بُدَّ من نِيَّتِهِ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقُولَ
بِلِسَانِهِ لَبَّيْكَ عن فُلَانٍ كما إذَا حَجَّ عن نَفْسِهِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ حَجُّ الْمَأْمُورِ بِمَالِ الْمَحْجُوجِ عنه فَإِنْ
تَطَوَّعَ الْحَاجُّ عنه بِمَالِ نَفْسِهِ لم يَجُزْ عنه حتى يَحُجَّ بِمَالِهِ
وَكَذَا إذَا كان أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عنه بِمَالِهِ وَمَاتَ فَتَطَوَّعَ عنه
وَارِثُهُ بِمَالِ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْفَرْضَ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ فإذا لم
يَحُجَّ بِمَالِهِ لم يَسْقُطْ عنه الْفَرْضُ وَلِأَنَّ مَذْهَبَ مُحَمَّدٍ أَنَّ
نَفْسَ الْحَجِّ يَقَعُ لِلْحَاجِّ وَإِنَّمَا لِلْمَحْجُوجِ عنه ثَوَابُ
النَّفَقَةِ فإذا لم يُنْفِقْ من مَالِهِ فَلَا شَيْءَ له رَأْسًا
وَمِنْهَا الْحَجُّ رَاكِبًا حتى لو أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فَحَجَّ مَاشِيًا
يَضْمَنُ النَّفَقَةَ وَيَحُجُّ عنه رَاكِبًا لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ عليه هو الْحَجُّ
رَاكِبًا فَيَنْصَرِفُ مُطْلَقُ الْأَمْرِ بِالْحَجِّ إلَيْهِ فإذا حَجَّ مَاشِيًا
فَقَدْ خَالَفَ فَيَضْمَنُ وَسَوَاءٌ كان الْحَاجُّ قد حَجَّ عن نَفْسِهِ أو كان
صَرُورَةً أَنَّهُ يَجُوزُ في الْحَالَيْنِ جميعا إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ
يَكُونَ قد حَجَّ عن نَفْسِهِ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ حَجُّ الصَّرُورَةِ عن غَيْرِهِ وَيَقَعُ حَجُّهُ
عن نَفْسِهِ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم سمع رَجُلًا
يُلَبِّي عن شُبْرُمَةَ فقال ( ( ( قال ) ) ) له صلى اللَّهُ عليه وسلم وَمَنْ
شُبْرُمَةُ فقال أَخٌ لي أو صَدِيقٌ لي فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم أَحَجَجْت عن
نَفْسِك فقال لَا فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم حُجَّ عن نَفْسِك ثُمَّ عن
شُبْرُمَةَ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَأَلَهُ عن
حَجِّهِ عن نَفْسِهِ وَلَوْلَا أَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ لم يَكُنْ لِسُؤَالِهِ
مَعْنًى
وَالثَّانِي أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْحَجِّ عن نَفْسِهِ أَوَّلًا ثُمَّ عن
شُبْرُمَةَ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحَجُّ عن غَيْرِهِ قبل أَنْ يَحُجَّ عن
نَفْسِهِ وَلِأَنَّ حَجَّهُ عن نَفْسِهِ فَرْضٌ عليه وَحَجُّهُ عن غَيْرِهِ ليس
بِفَرْضٍ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ بِمَا ليس بِفَرْضٍ
وَلَنَا حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال لها
حُجِّي عن أَبِيك ولم يَسْتَفْسِرْ أنها كانت حَجَّتْ عن نَفْسِهَا أو كانت
صَرُورَةً
وَلَوْ كان الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ لَاسْتَفْسَرَ وَلِأَنَّ الْأَدَاءَ عن نَفْسِهِ
لم يَجِبْ في وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَالْوَقْت كما يَصْلُحُ لِحَجِّهِ عن نَفْسِهِ
يَصْلُحُ لِحَجِّهِ عن غَيْرِهِ فإذا عَيَّنَهُ لِحَجِّهِ عن غَيْرِهِ وَقَعَ عنه
وَلِهَذَا قال أَصْحَابُنَا إنَّ الصَّرُورَةَ إذَا حَجَّ بِنِيَّةِ النَّفْلِ
أَنَّهُ يَقَعُ عن النَّفْلِ لِأَنَّ الْوَقْتَ لم يَتَعَيَّنْ لِلْفَرْضِ بَلْ
يَقْبَلُ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ فإذا عَيَّنَهُ لِلنَّفْلِ تَعَيَّنَ له إلَّا
أَنَّ عِنْدَ إطْلَاقِ النِّيَّةِ يَقَعُ عن الْفَرْضِ لِوُجُودِ نِيَّةِ
الْفَرْضِ بِدَلَالَةِ حَالِهِ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ النَّفَلَ
وَعَلَيْهِ الْفَرْضُ فَانْصَرَفَ الْمُطْلَقُ إلَى الْمُقَيَّدِ بِدَلَالَةِ
حَالِهِ لَكِنْ الدَّلَالَةُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ
بِخِلَافِهَا فإذا نَوَى التَّطَوُّعَ فَقَدْ وُجِدَ النَّصُّ بِخِلَافِهَا فَلَا
تُعْتَبَرُ الدَّلَالَةُ إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ قد حَجَّ عن
نَفْسِهِ لِأَنَّهُ بِالْحَجِّ عن غَيْرِهِ يَصِيرُ تَارِكًا إسْقَاطَ الْفَرْضِ
عن نَفْسِهِ فَيَتَمَكَّنُ في هذا الاحجاج ضَرْبُ كَرَاهَةٍ وَلِأَنَّهُ إذَا كان
حَجَّ مَرَّةً كان أَعْرَفَ بِالْمَنَاسِكِ وَكَذَا هو أَبْعَدُ عن مَحَلِّ
الْخِلَافِ فَكَانَ أَفْضَلَ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على الْأَفْضَلِيَّةِ
تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ وَسَوَاءٌ كان رَجُلًا أو امْرَأَةً إلَّا أَنَّهُ
يُكْرَهُ إحْجَاجُ الْمَرْأَةِ لَكِنَّهُ يَجُوزُ
أَمَّا الْجَوَازُ فَلِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ
وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِأَنَّهُ يَدْخُلُ في حَجِّهَا ضَرْبُ نُقْصَانٍ لِأَنَّ
الْمَرْأَةَ لَا تَسْتَوْفِي سُنَنَ الْحَجِّ فَإِنَّهَا لَا تَرْمُلُ في
الطَّوَافِ وفي السَّعْيِ بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلَا تَحْلِقُ وَسَوَاءٌ
كان حُرًّا أو عَبْدًا بِإِذْنِ الْمَوْلَى لَكِنَّهُ يُكْرَهُ حجاج ( ( ( إحجاج )
) ) الْعَبْدِ
أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِالنِّيَابَةِ وما تَجُوزُ فيه
النِّيَابَةُ يَسْتَوِي فيه الْحُرُّ وَالْعَبْدُ كَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا
وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ أَدَاءِ الْفَرْضِ عن نَفْسِهِ
فَيُكْرَهُ أَدَاؤُهُ عن غَيْرِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَصِيرُ بِهِ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ مُخَالِفًا وَبَيَانُ
حُكْمِهِ إذَا خَالَفَ فَنَقُولُ إذَا أَمَرَ بِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ أو بِعُمْرَةٍ
مُفْرَدَةٍ فَقَرَنَ فَهُوَ مُخَالِفٌ ضَامِنٌ في قَوْلِ
____________________
(2/213)
أبي
حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يُجْزِي ذلك عن الْآمِرِ نَسْتَحْسِنُ وَنَدَعُ
الْقِيَاسَ فيه وَلَا يَضْمَنُ فيه دَمَ الْقِرَانِ على الْحَاجِّ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ وزاد خَيْرًا فَكَانَ
مَأْذُونًا في الزِّيَادَةِ دَلَالَةً فلم يَكُنْ مُخَالِفًا كَمَنْ قال لِرَجُلٍ
اشْتَرِ لي هذا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَاهُ بِخَمْسِمِائَةٍ أو قال
بِعْ هذا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ يَجُوزُ
وَيُنَفِّذُ على الْآمِرِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ
لِأَنَّ الْحَاجَّ إذَا قَرَنَ بِإِذْنِ الْمَحْجُوجِ عنه كان الدَّمُ على
الْحَاجِّ لِمَا نَذْكُرُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لم يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ لِأَنَّهُ أُمِرَ
بِسَفَرٍ يَصْرِفُهُ إلَى الْحَجِّ لَا غَيْرُ ولم يَأْتِ بِهِ فَقَدْ خَالَفَ
أَمْرَ الْآمِرِ فَضَمِنَ
وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ عنه فَاعْتَمَرَ ضَمِنَ لِأَنَّهُ خَالَفَ وَلَوْ
اعْتَمَرَ ثُمَّ حَجَّ من مَكَّةَ يَضْمَنُ النَّفَقَةَ في قَوْلِهِمْ جميعا
لِأَمْرِهِ له ( ( ( به ) ) ) بِالْحَجِّ بِسَفَرٍ وقد أتى بِالْحَجِّ من غَيْرِ
سَفَرٍ لِأَنَّهُ صَرَفَ سَفَرَهُ الْأَوَّلَ إلَى الْعُمْرَةِ فَكَانَ مُخَالِفًا
فَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ
وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْحَجِّ عنه بجمع ( ( ( فجمع ) ) ) بين إحْرَامِ الْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ عنه وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ عن نَفْسِهِ
فَحَجَّ عنه وَاعْتَمَرَ عن نَفْسِهِ صَارَ مُخَالِفًا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عن
أبي حَنِيفَةَ وَعَنْ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقْسِمُ النَّفَقَةَ على الْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ وَيَطْرَحُ عن الْحَجِّ ما أَصَابَ الْعُمْرَةَ وَيَجُوزُ ما
أَصَابَ الْحَجَّ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمَأْمُورَ فَعَلَ ما أُمِرَ بِهِ وهو
الْحَجُّ عن الأمر وَزَادَهُ إحْسَانًا حَيْثُ أَسْقَطَ عنه بَعْضَ النَّفَقَةِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِصَرْفِ كل السَّفَرِ إلَى
الْحَجِّ ولم يَأْتِ بِهِ لِأَنَّهُ أَدَّى بِالسَّفَرِ حَجًّا عن الْآمِرِ
وَعُمْرَةً عن نَفْسِهِ فَكَانَ مُخَالِفًا وَبِهِ تُبُيِّنَ أَنَّهُ فَعَلَ ما
أُمِرَ بِهِ
وَقَوْلُهُ أَنَّهُ أَحْسَنَ إلَيْهِ حَيْثُ أَسْقَطَ عنه بَعْضَ النَّفَقَةِ
غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ غَرَضَ الْآمِرِ في الْحَجِّ عن الْغَيْرِ هو ثَوَابُ
النَّفَقَةِ فَإِسْقَاطُهُ لَا يَكُونُ احسانا بَلْ يَكُونُ اساءة
وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَاعْتَمَرَ ثُمَّ
أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ ذلك وَحَجَّ عن نَفْسِهِ لم يَكُنْ مُخَالِفًا
لِأَنَّهُ فَعَلَ ما أُمِرَ بِهِ وهو أَدَاءُ الْعُمْرَةِ بِالسَّفَرِ وَإِنَّمَا
فَعَلَ بَعْدَ ذلك الْحَجَّ فَاشْتِغَالُهُ بِهِ كَاشْتِغَالِهِ بِعَمَلٍ آخَرَ من
التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا إلَّا أَنَّ النَّفَقَةَ مِقْدَارُ مَقَامِهِ لِلْحَجِّ
من مَالِهِ لِأَنَّهُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في الرُّقَيَّاتِ إذَا حَجَّ
عن الْمَيِّتِ وَطَافَ لِحَجِّهِ وَسَعَى ثُمَّ أَضَافَ إلَيْهِ عُمْرَةً عن
نَفْسِهِ لم يَكُنْ مُخَالِفًا لِأَنَّ هذه الْعُمْرَةَ وَاجِبَةُ الرَّفْضِ
لِوُقُوعِهَا على مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ على ما ذَكَرْنَا في فَصْلِ الْقِرَانِ
فَكَانَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ
وَلَوْ كان جَمَعَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَحْرَمَ بِهِمَا ثُمَّ لم يَطُفْ حتى وَقَفَ
بِعَرَفَةَ وَرَفَضَ الْعُمْرَةَ لم يَنْفَعْهُ ذلك وهو مع ذلك مُخَالِفٌ
لِأَنَّهُ لَمَّا أَحْرَمَ بِهِمَا جميعا فَقَدْ صَارَ مُخَالِفًا في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ على ما ذَكَرْنَا فَوَقَعَتْ الْحَجَّةُ عن نَفْسِهِ فَلَا
يُحْتَمَلُ التغير ( ( ( التغيير ) ) ) بعذ ذلك بِرَفْضِ الْعُمْرَةِ
وَلَوْ أَمَرَهُ رَجُلٌ أَنْ يَحُجَّ عنه حَجَّةً وَأَمَرَهُ رَجُلٌ آخَرُ أَنْ
يَحُجَّ عنه فَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ فَهَذَا لَا يَخْلُو عن أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا
أن أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عنهما جميعا وَإِمَّا أن أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عن أَحَدِهِمَا
فَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عنهما جميعا فَهُوَ مُخَالِفٌ وَيَقَعُ الْحَجُّ عنه
وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ لَهُمَا إنْ كان أَنْفَقَ من مَالِهِمَا لِأَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَهُ بِحَجٍّ تَامٍّ ولم يَفْعَلْ فَصَارَ مُخَالِفًا
لِأَمْرِهِمَا فلم يَقَعْ حجة عنهما فَيَضْمَنُ لَهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا لم يَرْضَ بِإِنْفَاقِ مَالِهِ فَيَضْمَنُ وَإِنَّمَا وَقَعَ الْحَجُّ
عن الْحَاجِّ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَقَعَ كُلُّ فِعْلٍ عن فَاعِلِهِ وَإِنَّمَا
يَقَعُ لِغَيْرِهِ بِجَعْلِهِ فإذا خَالَفَ لم يَصِرْ لِغَيْرِهِ فَبَقِيَ
فِعْلُهُ له
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ لِأَحَدِهِمَا لم يَمْلِكْ ذلك بِخِلَافِ الِابْنِ
إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عن أَبَوَيْهِ انه يُجْزِئُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عن
أَحَدِهِمَا لِأَنَّ الِابْنَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِالْحَجِّ عن الْأَبَوَيْنِ فَلَا
تَتَحَقَّقُ مُخَالَفَةُ الْآمِرِ وَإِنَّمَا جَعَلَ ثَوَابَ الْحَجِّ الْوَاقِعِ
عن نَفْسِهِ في الْحَقِيقَةِ لِأَبَوَيْهِ وكان من عَزْمِهِ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ
حَجِّهِ لَهُمَا ثُمَّ نَقَضَ عَزْمَهُ وَجَعَلَهُ لِأَحَدِهِمَا وَهَهُنَا
بِخِلَافِهِ لِأَنَّ الْحَاجَّ مُتَصَرِّفٌ بِحُكْمِ الْآمِرِ وقد خَالَفَ
أَمْرَهُمَا فَلَا يَقَعُ حَجُّهُ لَهُمَا
وَلَا لِأَحَدِهِمَا
وَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عن أَحَدِهِمَا فَإِنْ أَحْرَمَ لِأَحَدِهِمَا عَيْنًا
وَقَعَ الْحَجُّ عن الذي عَيَّنَهُ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِلْآخَرِ وَهَذَا
ظَاهِرٌ
وَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عن أَحَدِهِمَا غير عَيْنٍ فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا عن
أَحَدِهِمَا أَيُّهُمَا شَاءَ ما لم يَتَّصِلْ بها الْأَدَاءُ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ له ذلك وَيَقَعُ الْحَجُّ عن نَفْسِهِ وَيَضْمَنُ
النَّفَقَةَ لَهُمَا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ خَالَفَ الْأَمْرَ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِالْحَجِّ
لِمُعَيَّنٍ وقد حَجَّ لِمُبْهَمٍ وَالْمُبْهَمُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ فَصَارَ
مُخَالِفًا وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ وَيَقَعُ الْحَجُّ عن نَفْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا
بِخِلَافِ ما إذَا أَحْرَمَ الِابْنُ بِالْحَجِّ عن أَحَدِ أَبَوَيْهِ أَنَّهُ
يَصِحُّ وَإِنْ لم يَكُنْ مُعَيَّنًا لِمَا ذكرناأن الِابْنَ في حَجِّهِ
لِأَبَوَيْهِ ليس مُتَصَرِّفًا بِحُكْمِ الْآمِرِ حتى يَصِيرَ مُخَالِفًا للأمر
بَلْ هو يَحُجُّ عن نَفْسِهِ ثُمَّ يَجْعَلُ ثَوَابَ حَجِّهِ لِأَحَدِهِمَا
وَذَلِكَ جَائِزٌ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ قد صَحَّ من أَصْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ
الْإِحْرَامَ ليس
____________________
(2/214)
من
الْأَدَاءِ بَلْ هو شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ فَيَقْتَضِي
تَصَوُّرَ الْأَدَاءِ وَالْأَدَاءُ مُتَصَوَّرٌ بِوَاسِطَةِ التَّعْيِينِ فإذا
جَعَلَهُ عن أَحَدِهِمَا قبل أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ شَيْءٌ من أَفْعَالِ الْحَجِّ
تَعَيَّنَ له فَيَقَعُ عنه فَإِنْ لم يَجْعَلْهَا عن أَحَدِهِمَا حتى طَافَ
شَوْطًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهَا عن أَحَدِهِمَا لم تَجُزْ عن وَاحِدٍ مِنْهُمَا
لِأَنَّهُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْأَدَاءُ تَعَذَّرَ تَعْيِينُ الْقَدْرِ
الْمُؤَدَّى لِأَنَّ الْمُؤَدَّى قد مَضَى وَانْقَضَى فَلَا يُتَصَوَّرُ
تَعْيِينُهُ فَيَقَعُ عن نَفْسِهِ وَصَارَ إحْرَامُهُ وَاقِعًا له لِاتِّصَالِ
الْأَدَاءِ بِهِ
وَإِنْ أَمَرَهُ أَحَدُهُمَا بِحَجَّةٍ وَأَمَرَهُ الْآخَرُ بِعُمْرَةٍ فَإِنْ
أَذِنَا له بِالْجَمْعِ وهو الْقِرَانُ فَجَمَعَ جَازَ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِسَفَرٍ
يَنْصَرِفُ بَعْضُهُ إلَى الْحَجِّ وَبَعْضُهُ إلَى الْعُمْرَةِ وقد فَعَلَ ذلك
فلم يَصِرْ مُخَالِفًا وَإِنْ لم يَأْذَنَا له بِالْجَمْعِ فَجَمَعَ ذَكَرَ
الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ
الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ خَالَفَ
لِأَنَّهُ أُمِرَ بِسَفَرٍ يَنْصَرِفُ كُلُّهُ إلَى الْحَجِّ وقد صَرَفَهُ إلَى
الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَصَارَ مُخَالِفًا وَإِنَّمَا يَصِحُّ هذا على ما رُوِيَ
عن أبي يُوسُفَ أَنَّ من حَجَّ عن غَيْرِهِ وَاعْتَمَرَ عن نَفْسِهِ جَازَ
وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ عنه فَحَجَّ عنه مَاشِيًا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ
خَالَفَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَجِّ يَنْصَرِفُ إلَى الْحَجِّ الْمُتَعَارَفِ في
الشَّرْعِ وهو الْحَجُّ رَاكِبًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِذَلِكَ
فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ فإذا حَجَّ مَاشِيًا فَقَدْ خَالَفَ
فَيَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا
وَلِأَنَّ الذي يَحْصُلُ لِلْآمِرِ من الْأَمْرِ بِالْحَجِّ هو ثَوَابُ
النَّفَقَةِ
وَالنَّفَقَةُ في الرُّكُوبِ أَكْثَرُ فَكَانَ الثَّوَابُ فيه أَوْفَرَ
وَلِهَذَا قال مُحَمَّدٌ إنْ حَجَّ على حِمَارٍ كَرِهْت له ذلك وَالْجَمَلُ
أَفْضَلُ لِأَنَّ النَّفَقَةَ في رُكُوبِ الْجَمَلِ أَكْثَرُ فَكَانَ حُصُولُ
الْمَقْصُودِ فيه أَكْمَلَ فَكَانَ أَوْلَى
وإذا فَعَلَ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ ما يُوجِبُ الدَّمَ أو غَيْرَهُ فَهُوَ عليه
وَلَوْ قَرَنَ عن الْآمِرِ بِأَمْرِهِ فَدَمُ الْقِرَانِ عليه
وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَمِيعَ الدِّمَاءِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِحْرَامِ في مَالِ
الْحَاجِّ إلَّا دَمَ الْإِحْصَارِ خَاصَّةً فإنه في مَالِ الْمَحْجُوجِ عنه كَذَا
ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ دَمُ الاحصار ولم يذكر
الِاخْتِلَافَ
وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ ولم يذكر
الْخِلَافَ
وَذَكَرَ في بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ على الْحَاجِّ عِنْدَ
أبي يُوسُفَ
أَمَّا ما يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ فَلِأَنَّهُ هو الذي جَنَى فَكَانَ عليه
الْجَزَاءُ وَلِأَنَّهُ أُمِرَ بِحَجٍّ خَالٍ عن الْجِنَايَةِ فإذا جَنَى فَقَدْ
خَالَفَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْخِلَافِ
وَأَمَّا دَمُ الْقِرَانِ فَلِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ لِأَنَّهُ يَجِبُ شُكْرًا أو (
( ( وسائر ) ) ) سائر أَفْعَالِ النُّسُكِ على الْحَاجِّ فَكَذَا هذا النُّسُكُ
وَأَمَّا دَمُ الْإِحْصَارِ فَلِأَنَّ الْمَحْجُوجَ عنه هو الذي أَدْخَلَهُ في هذه
الْعُهْدَةِ فَكَانَ من جِنْسِ النَّفَقَةِ وَالْمُؤْنَةِ
وَذَلِكَ عليه كَذَا هذا فَإِنْ جَامَعَ الْحَاجُّ عن غَيْرِهِ قبل الْوُقُوفِ
بِعَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ وَيَمْضِي فيه وَالنَّفَقَةُ في مَالِهِ وَيَضْمَنُ ما
أَنْفَقَ من مَالِ الْمَحْجُوجِ عنه قبل ذلك وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ من مَالِ
نَفْسِهِ
أَمَّا فَسَادُ الْحَجِّ فَلِأَنَّ الْجِمَاعَ قبل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مُفْسِدٌ
لِلْحَجِّ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في مَوْضِعِهِ
وَالْحَجَّةُ الْفَاسِدَةُ يَجِبُ الْمُضِيُّ فيها وَيَضْمَنُ ما أَنْفَقَ من
مَالِ الْمَحْجُوجِ عنه قبل ذلك وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ من مَالِ نَفْسِهِ
وَيَضْمَنُ ما أَنْفَقَ من مَالِ الْآمِرِ قبل ذلك لِأَنَّهُ خَالَفَ لِأَنَّهُ
أَمَرَهُ بِحَجَّةٍ صَحِيحَةٍ وَهِيَ الْخَالِيَةُ عن الْجِمَاعِ ولم يَفْعَلْ ذلك
فَصَارَ مُخَالِفًا فَيَضْمَنُ ما أَنْفَقَ وما بَقِيَ يُنْفِقُ فيه من مَالِهِ
لِأَنَّ الْحَجَّ وَقَعَ له وَيَقْضِي لِأَنَّ من أَفْسَدَ حَجَّهُ يَلْزَمُهُ
قَضَاؤُهُ فَإِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ يَصْنَعُ ما يَصْنَعُ فَائِتُ الْحَجِّ بَعْدَ
شُرُوعِهِ فيه وَسَنَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
وَلَا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِأَنَّهُ فَاتَهُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فلم يُوجَدْ منه
الْخِلَافُ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَعَلَيْهِ عن نَفْسِهِ الْحَجُّ من قَابِلٍ
لِأَنَّ الْحَجَّةَ قد وَجَبَتْ عليه بِالشُّرُوعِ فإذا فَاتَتْ لَزِمَهُ
قَضَاؤُهَا
وَهَذَا على قَوْلِ مُحَمَّدٍ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْحَجَّ عِنْدَهُ يَقَعُ عن
الْحَاجِّ
وَقَالُوا فِيمَنْ حَجَّ عن غَيْرِهِ فَمَرِضَ في الطَّرِيقِ لم يَجُزْ له أَنْ
يَدْفَعَ النَّفَقَةَ إلَى من يَحُجُّ عن الْمَيِّتِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَذِنَ له
في ذلك لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْحَجِّ لَا بِالْإِحْجَاجِ كَأَنْ لم يَبْلُغْ
الْمَالُ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ النَّفَقَةَ فَأَنْفَقَ من مَالِ نَفْسِهِ وَمَالِ
الْآمِرِ يَنْظُرُ فَإِنْ بَلَغَ مَالُ الْآمِرِ الْكِرَاءَ وَعَامَّةَ
النَّفَقَةِ فَالْحَجُّ عن الْمَيِّتِ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا وَإِلَّا فَهُوَ
ضَامِنٌ وَيَكُونُ الْحَجُّ عن نَفْسِهِ وَيَرُدُّ الْمَالَ وَالْأَصْلُ فيه أَنْ
يَعْتَبِرَ الْأَكْثَرَ وَيَجْعَلَ الْأَقَلَّ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ وَقَلِيلَ
الانفاق من مَالِ نَفْسِهِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه من شَرْبَةِ
مَاءٍ أو قَلِيلِ زَادٍ فَلَوْ اعْتَبَرَ الْقَلِيلَ مَانِعًا من وُقُوعِ الْحَجِّ
عن الْآمِرِ يُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الاحجاج فَلَا يُعْتَبَرُ وَيُعْتَبَرُ
الْكَثِيرُ
وَلَوْ أَحَجَّ رَجُلًا يُؤَدِّي الْحَجَّ وَيُقِيمُ بِمَكَّةَ جَازَ لِأَنَّ
فَرْضَ الْحَجِّ صَارَ مئديا ( ( ( مؤديا ) ) ) بِالْفَرَاغِ عن أَفْعَالِهِ
وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَحُجَّ ثُمَّ يَعُودَ إلَيْهِ لِأَنَّ الْحَاصِلَ لِلْآمِرِ
ثَوَابُ النَّفَقَةِ فَمَهْمَا كانت النَّفَقَةُ أَكْثَرَ كان الثَّوَابُ أَكْثَرَ
وَأَوْفَرَ وإذا فَرَغَ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ من الْحَجِّ وَنَوَى الْإِقَامَةَ
خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا أَنْفَقَ من مَالِ نَفْسِهِ
____________________
(2/215)
لِأَنَّ
نِيَّةَ الْإِقَامَةِ قد صَحَّتْ فَصَارَ تَارِكًا لِلسَّفَرِ فلم يَكُنْ
مَأْذُونًا بالانفاق من مَالِ الْآمِرِ وَلَوْ أَنْفَقَ ضَمِنَ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ
مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنْ أَقَامَ بها أَيَّامًا من غَيْرِ نِيَّةِ
الْإِقَامَةِ فَقَدْ قال أَصْحَابُنَا أنه إنْ أَقَامَ إقَامَةً مُعْتَادَةً
فَالنَّفَقَةُ في مَالِ الْمَحْجُوجِ عنه وَإِنْ زَادَ على الْمُعْتَادِ
فَالنَّفَقَةُ من مَالِهِ حتى قالوا إذَا أَقَامَ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْحَجِّ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يُنْفِقُ من مَالِ الْآمِرِ وَإِنْ زَادَ يُنْفِقُ من مَالِ
نَفْسِهِ
وَقَالُوا في الْخُرَاسَانِيِّ إذَا جاء حَاجًّا عن غَيْرِهِ فَدَخَلَ بَغْدَادَ
فَأَقَامَ بها إقَامَةً مُعْتَادَةً مِقْدَارَ ما يُقِيمُ الناس بها عَادَةً
فَالنَّفَقَةُ في مَالِ الْمَحْجُوجِ عنه وَإِنْ أَقَامَ أَكْثَرَ من ذلك
فَالنَّفَقَةُ في مَالِهِ وَهَذَا كان في زَمَانِهِمْ لِأَنَّهُ كان زَمَانَ
أَمْنٍ يَتَمَكَّنُ الْحَاجُّ من الْخُرُوجِ من مَكَّةَ وَحْدَهُ أو مع نَفَرٍ
يَسِيرٍ فَقَدَّرُوا مُدَّةَ الْإِقَامَةِ بها بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْحَجِّ كما
أَذِنَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ
فَأَمَّا في زَمَانِنَا فَلَا يُمْكِنُ الْخُرُوجُ لِلْأَفْرَادِ والأحاد وَلَا
لِجَمَاعَةٍ قَلِيلَةٍ من مَكَّةَ إلَّا مع الْقَافِلَةِ فما دَامَ مُنْتَظِرًا
خُرُوجَ الْقَافِلَةِ فَنَفَقَتُهُ في مَالِ الْمَحْجُوجِ عنه
وَكَذَا هذا في إقَامَتِهِ بِبَغْدَادَ أَنَّهُ ما دَامَ مُنْتَظِرًا لِخُرُوجِ
الْقَافِلَةِ فَالنَّفَقَةُ في مَالِ الْآمِرِ لِتَعَذُّرِ سَبْقِهِ بِالْخُرُوجِ
لِمَا فيه من تَعْرِيضِ الْمَالِ وَالنَّفْسِ لِلْهَلَاكِ فَالتَّعْوِيلُ في
الذَّهَابِ وَالْإِيَابِ على ذَهَابِ الْقَافِلَةِ وَإِيَابِهَا
فَإِنْ نَوَى إقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا حتى سَقَطَتْ
نَفَقَتُهُ من مَالِ الْآمِرِ ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ ذلك هل تَعُودُ نَفَقَتُهُ في
مَالِ الْآمِرِ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ
تَعُودُ ولم يذكر الْخِلَافَ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ على قَوْلِ
مُحَمَّدٍ تَعُودُ وهو ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا تَعُودُ
وَهَذَا إذَا لم يَكُنْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا فَأَمَّا إذَا اتَّخَذَهَا دَارًا
ثُمَّ عَادَ لَا تَعُودُ النَّفَقَةُ في مَالِ الْآمِرِ بِلَا خِلَافٍ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ
يَوْمًا فَصَاعِدًا فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ السَّفَرِ فَلَا تَعُودُ بَعْدَ ذلك
كما لو اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِقَامَةَ تَرْكُ السَّفَرِ لَا قَطْعُهَا
وَالْمَتْرُوكُ يَعُودُ فَأَمَّا اتِّخَاذُ مَكَّةَ دَارًا وَالتَّوَطُّنُ بها
فَهُوَ قَطْعُ السَّفَرِ وَالْمُنْقَطِعُ لَا يَعُودُ وَلَوْ تَعَجَّلَ
الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ لِيَكُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ بِمَكَّةَ فَدَخَلَ مُحْرِمًا
في شَهْرِ رَمَضَانَ أو في ذِي الْقَعْدَةِ فَنَفَقَتُهُ في مَالِ نَفْسِهِ إلَى
عَشْرِ الْأَضْحَى فإذا جاء عَشْرُ الْأَضْحَى أَنْفَقَ من مَالِ الْآمِرِ كَذَا
رَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْمَقَامَ بِمَكَّةَ قبل الْوَقْتِ الذي
يَدْخُلُهَا الناس لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَدَاءِ الْمَنَاسِكِ غَالِبًا فَلَا
تَكُونُ هذه الْإِقَامَةُ مَأْذُونًا فيها كَالْإِقَامَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ من
الْحَجِّ أَكْثَرَ من الْمُعْتَادِ وَلَا يَكُونُ بِمَا عَجَّلَ مُخَالِفًا
لِأَنَّ الْآمِرَ ما عَيَّنَّ له وَقْتًا وَالتِّجَارَةُ وَالْإِجَارَةُ لَا يَمْنَعَانِ
جَوَازَ الْحَجِّ وَيَجُوزُ حَجُّ التَّاجِرِ وَالْأَجِيرِ وَالْمُكَارِي
لِقَوْلِهِ عز وجل { ليس عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا من رَبِّكُمْ
} قِيلَ الْفَضْلُ التِّجَارَةُ وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا
يَتَحَرَّجُونَ من التِّجَارَةِ في عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ فلما كان الْإِسْلَامُ
امْتَنَعَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ عن التِّجَارَةِ خَوْفًا من أَنْ يَضُرَّ ذلك
حَجَّهُمْ فَرَخَّصَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهم طَلَبَ الْفَضْلِ في
الْحَجِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فقال إنَّا قَوْمٌ
نكري وَنَزْعُمُ أَنَّ ليس لنا حَجٌّ فقال أَلَسْتُمْ تُحْرِمُونَ قالوا بَلَى
قال فَأَنْتُمْ حُجَّاجٌ
جاء رَجُلٌ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَمَّا سَأَلْتَنِي عنه
فَقَرَأَ هذه الْآيَةَ { ليس عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا من
رَبِّكُمْ } وَلِأَنَّ التِّجَارَةَ وَالْإِجَارَةَ لَا يَمْنَعَانِ من أَرْكَانِ
الْحَجِّ وَشَرَائِطِهَا فَلَا يَمْنَعَانِ من الْجَوَازِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُفْسِدُ الْحَجَّ وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَاَلَّذِي يُفْسِدُ الْحَجَّ الْجِمَاعُ لَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ
شَرْطِهِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ في بَيَانِ أَنَّ الْجِمَاعَ
يُفْسِدُ الْحَجَّ في الْجُمْلَةِ وفي بَيَانِ شَرْطِ كَوْنِهِ مُفْسِدًا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا فِيمَنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ وَهُمَا
مُحْرِمَانِ مَضَيَا في إحْرَامِهِمَا وَعَلَيْهِمَا هَدْيٌ وَيَقْضِيَانِ من
قَابِلٍ وَيَفْتَرِقَانِ وَلِأَنَّ الْجِمَاعَ في نِهَايَةِ الِارْتِفَاقِ
بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ فَكَانَ في نِهَايَةِ الْجِنَايَةِ على الْإِحْرَامِ
فَكَانَ مُفْسِدًا لِلْإِحْرَامِ
وَأَمَّا شَرْطُ كَوْنِهِ مُفْسِدًا فشيآن ( ( ( فشيئان ) ) ) أَحَدُهُمَا أَنْ
يَكُونَ الْجِمَاعُ في الْفَرْجِ حتى لو جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ أو لَمَسَ
بِشَهْوَةٍ أو عَانَقَ أو قَبَّلَ أو بَاشَرَ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ لِانْعِدَامِ
الِارْتِفَاقِ الْبَالِغِ لَكِنْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ سَوَاءٌ أَنْزَلَ أو لم
يُنْزِلْ لِوُجُودِ اسْتِمْتَاعٍ مَقْصُودٍ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَفَرَّقْنَا بين اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ عن شَهْوَةٍ وَلَوْ وطىء بَهِيمَةً لَا
يَفْسُدُ حَجُّهُ لِمَا قُلْنَا وَلَا كَفَّارَةَ عليه إلَّا إذَا أَنْزَلَ
لِأَنَّهُ ليس بِاسْتِمْتَاعٍ مَقْصُودٍ بِخِلَافِ الْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ
وَأَمَّا الْوَطْءُ في الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ فَأَمَّا على أَصْلِهِمَا
يَفْسُدُ الْحَجُّ لِأَنَّهُ في مَعْنَى الْجِمَاعِ
____________________
(2/216)
في
الْقُبُلِ عِنْدَهُمَا حتى قالوا بِوُجُوبِ الْحَدِّ
وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ فيه رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ يُفْسِدُ لِأَنَّهُ مِثْلُ
الْوَطْءِ في الْقُبُلِ في قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَيُوجِبُ الِاغْتِسَالَ من غَيْرِ
إنْزَالٍ وفي رِوَايَةٍ لَا يُفْسِدُ لِعَدَمِ كَمَالِ الِارْتِفَاقِ لِقُصُورِ
قَضَاءِ الشَّهْوَةِ فيه لِسُوءِ الْمَحَلِّ فَأَشْبَهَ الْجِمَاعَ فِيمَا دُونَ
الْفَرْجِ وَلِهَذَا قال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أنه لَا يَجِبُ الْحَدُّ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ قبل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَإِنْ كان بَعْدَ الْوُقُوفِ
بها لَا يَفْسُدُ الْحَجُّ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هذا ليس بِشَرْطٍ وَيَفْسُدُ الْحَجُّ قبل الْوُقُوفِ
وَبَعْدَهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْجِمَاعَ إنَّمَا عُرِفَ مُفْسِدًا لِلْحَجِّ لِكَوْنِهِ
مُفْسِدًا لِلْإِحْرَامِ وَالْإِحْرَامُ بَعْدَ الْوُقُوفِ بَاقٍ لِبَقَاءِ رُكْنِ
الْحَجِّ وهو طَوَافُ الزِّيَارَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الرُّكْنِ بِدُونِ
الْإِحْرَامِ فَصَارَ الْحَالُّ بَعْدَ الْوُقُوفِ كَالْحَالِّ قَبْلُ
وَلَنَا أَنَّ الرُّكْنَ الْأَصْلِيَّ لِلْحَجِّ هو الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ
لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْحَجُّ عَرَفَةَ أَيْ الْوُقُوفُ
بِعَرَفَةَ فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ أَخْبَرَ عن تَمَامِ
الْحَجِّ بِالْوُقُوفِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ ليس الْمُرَادُ منه التَّمَامَ الذي هو
ضِدُّ النُّقْصَانِ لِأَنَّ ذَا لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْوُقُوفِ فَعُلِمَ أَنَّ
الْمُرَادَ منه خُرُوجُهُ عن احْتِمَالِ الْفَسَادِ وَالْفَوَاتِ وَلِأَنَّ
الْوُقُوفَ رُكْنٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ وُجُودًا وَصِحَّةً لَا يَقِفُ
وُجُودُهُ وَصِحَّتُهُ على الرُّكْنِ الْآخَرِ وما وُجِدَ وَمَضَى على الصِّحَّةِ
لَا يَبْطُلُ إلَّا بِالرِّدَّةِ ولم تُوجَدْ وإذا لم يُفْسِدْ الْمَاضِيَ لَا يُفْسِدُ
الْبَاقِيَ لِأَنَّ فَسَادَهُ بِفَسَادِهِ وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ لِمَا
نَذْكُرُهُ
وَيَسْتَوِي في فَسَادِ الْحَجِّ بِالْجِمَاعِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ
لِاسْتِوَائِهِمَا في الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْفَسَادِ وهو ما بَيَّنَّا وَلِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّ جَمَاعَةً من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَفْتَوْا
بِفَسَادِ حَجِّهِمَا حَيْثُ أَوْجَبُوا الْقَضَاءَ عَلَيْهِمَا وَيَسْتَوِي فيه
الْعَامِدُ والخاطىء ( ( ( والخاطئ ) ) ) وَالذَّاكِرُ وَالنَّاسِي عِنْدَ
أَصْحَابِنَا
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يُفْسِدُهُ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَالْكَلَامُ فيه
بِنَاءً على أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ غير مَرَّةٍ وهو أَنَّ فَسَادَ الْحَجِّ لَا
يَثْبُتُ إلَّا بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ فَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْحَظْرَ لَا
يَثْبُتُ مع الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَقُلْنَا نَحْنُ يَثْبُتُ وَإِنَّمَا
الْمَرْفُوعُ هو الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهِمَا على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَيَسْتَوِي فيه الطَّوْعُ وَالْإِكْرَاهُ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُزِيلُ
الْحَظْرَ وَلَوْ كانت الْمَرْأَةُ مُكْرَهَةً فَإِنَّهَا لَا تَرْجِعُ بِمَا
لَزِمَهَا على الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ لها اسْتِمْتَاعٌ بِالْجِمَاعِ فَلَا
تَرْجِعُ على أَحَدٍ كَالْمَغْرُورِ إذَا وطىء الْجَارِيَةَ وَلَزِمَهُ الْغُرْمُ
أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِهِ على الغار ( ( ( الغارم ) ) ) كَذَا هذا
وَيَسْتَوِي فيه كَوْنُ الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ مُسْتَيْقِظَةً أو نَائِمَةً
حتى يَفْسُدُ حَجُّهَا في الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ كان الْمُجَامِعُ لها مُحْرِمًا أو
حَلَالًا لِأَنَّ النَّائِمَةَ في مَعْنَى النَّاسِيَةِ وَالنِّسْيَانُ لَا
يَمْنَعُ فَسَادَ الْحَجِّ كَذَا النَّوْمُ وَيَسْتَوِي فيه كَوْنُ الْمُجَامِعِ
عَاقِلًا بَالِغًا أو مَجْنُونًا أو صَبِيًّا بَعْدَ أَنْ كانت الْمَرْأَةُ
الْمُحْرِمَةُ عَاقِلَةً بَالِغَةً حتى يَفْسُدَ حَجُّهَا لِأَنَّ التَّمْكِينَ
مَحْظُورٌ عليها
وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ فَفَسَادُ الْحَجِّ يَتَعَلَّقُ بِهِ
أَحْكَامٌ منها وُجُوبُ الشَّاةِ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ وُجُوبُ بَدَنَةٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْجِمَاعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ إنَّمَا أَوْجَبَ الْبَدَنَةَ
لِتَغْلِيظِ الْجِنَايَةِ وَالْجِنَايَةُ قبل الْوُقُوفِ أَغْلَظُ لِوُجُودِهَا
حَالَ قِيَامِ الْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ لِبَقَاءِ رُكْنَيْ الْحَجِّ وَبَعْدَ
الْوُقُوفِ لم يَبْقَ إلَّا أَحَدُهُمَا فلما وَجَبَتْ الْبَدَنَةُ بَعْدَ
الْوُقُوفِ فلان تَجِبَ قَبْلَهُ أَوْلَى
وَلَنَا ما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال الْبَدَنَةَ في
الْحِجِّ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا إذَا طَافَ لِلزِّيَارَةِ جُنُبًا وَرَجَعَ
إلَى أَهْلِهِ ولم يَعُدْ
وَالثَّانِي إذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ
وَرَوَيْنَا عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا
وَعَلَيْهِمَا هدى وَاسْمُ الهدى وَإِنْ كان يَقَعُ على الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ
وَالْبَقَرِ لَكِنَّ الشَّاةَ أَدْنَى وَالْأَدْنَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ فَحَمْلُهُ
على الْغَنَمِ أَوْلَى على أَنَّهُ رَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عن الْهَدْيِ فقال أَدْنَاهُ شَاةٌ ويجزي ( ( ( ويجزئ ) ) )
فيه شَرِكَةٌ في جَزُورٍ أو بَقَرَةٍ لِمَا روى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَشْرَكَ بين أَصْحَابِهِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في الْبُدْنِ عَامَ
الْحُدَيْبِيَةِ فَذَبَحُوا الْبَدَنَةَ عن سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عن سَبْعَةٍ
وَاعْتِبَارُهُ بِمَا قبل الْوُقُوفِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قبل
الْوُقُوفِ أَخَفُّ من الْجِنَايَةِ بَعْدَهُ لِأَنَّ الْجِمَاعَ قبل الْوُقُوفِ
أَوْجَبَ الْقَضَاءَ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ فَسَادَ الْحَجِّ وَالْقَضَاءُ خُلْفٌ عن
الْفَائِتِ فَيُجْبِرُ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فَتَخِفُّ الْجِنَايَةُ فَيُوجِبُ
نُقْصَانَ الْمُوجِبِ وَبَعْدَ الْوُقُوفِ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ عِنْدَنَا لِمَا
ذَكَرْنَا فلم يَجِبْ الْقَضَاءُ فلم يُوجَدْ ما تَجِبُ بِهِ الْجِنَايَةُ
فَبَقِيَتْ مُتَغَلِّظَةً فَتَغَلَّظَ الْمُوجِبُ
وَلَوْ جَامَعَ قبل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ثُمَّ جَامَعَ فَإِنْ كان في مَجْلِسٍ
لَا يَجِبُ عليه إلَّا دَمٌ وَاحِدٌ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ عليه
لِكُلِّ وَاحِدٍ دَمٌ على حِدَةٍ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قد تَكَرَّرَ
فَتَكَرَّرَ الْوَاجِبُ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا
____________________
(2/217)
فما
أَوْجَبُوا إلَّا دَمًا وَاحِدًا لِأَنَّ أَسْبَابَ الْوُجُوبِ اجْتَمَعَتْ في
مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فيكتفي بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ الْوَاحِدَ
يَجْمَعُ الْأَفْعَالَ الْمُتَفَرِّقَةَ كما يَجْمَعُ الْأَقْوَالَ الْمُتَفَرِّقَةَ
كَإِيلَاجَاتٍ في جِمَاعٍ واحد من جنس وَاحِدٍ أنها لَا تُوجِبُ إلَّا كَفَّارَةً
وَاحِدَةً وَإِنْ كان كُلُّ إيلَاجَةٍ لو انْفَرَدَتْ أَوْجَبَتْ الْكَفَّارَةَ
كَذَا هذا
وَإِنْ كان في مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَجِبُ دَمَانِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ يَجِبُ دَمٌ وَاحِدٌ إلَّا إذَا كان كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ كما في
كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ في شَهْرِ رَمَضَانَ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ بِالْجِمَاعِ
الْأَوَّلِ جَزَاءً لِهَتْكِ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ وَالْحُرْمَةُ حُرْمَةٌ
وَاحِدَةٌ إذَا انتهكت ( ( ( انهتكت ) ) ) مَرَّةً لَا يُتَصَوَّرُ انتهاكها ( ( (
انهتاكها ) ) ) ثَانِيًا كما في صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَكَمَا إذَا جَامَعَ
ثُمَّ جَامَعَ في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وإذا كَفَّرَ فَقَدْ جَبَرَ الْهَتْكَ
فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لم يُوجَدْ فلم يَتَحَقَّقْ الْهَتْكُ
ثَانِيًا
وَلَهُمَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِالْجِنَايَةِ على الْإِحْرَامِ وقد
تَعَدَّدَتْ الْجِنَايَةُ فَيَتَعَدَّدُ الْحُكْمُ وهو الْأَصْلُ إلَّا إذَا قام
دَلِيلٌ يُوجِبُ جَعْلَ الْجِنَايَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ حَقِيقَةً مُتَّحِدَةً
حُكْمًا وهو اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا بِخِلَافِ الْكَفَّارَةِ
لِلصَّوْمِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ بِالْجِنَايَةِ على الصَّوْمِ بَلْ جَبْرًا
لِهَتْكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ على ما ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَا يَجِبُ
عليه في الْجِمَاعِ الثَّانِي إلَّا شَاةً وَاحِدَةً لِأَنَّ الْأَوَّلَ لم
يُوجِبْ إلَّا شَاةً وَاحِدَةً فَالثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَادَفَ
إحْرَامًا صَحِيحًا وَالثَّانِي صَادَفَ إحْرَامًا مَجْرُوحًا فلما لم يَجِبْ
لِلْأَوَّلِ إلَّا شَاةٌ وَاحِدَةٌ فَالثَّانِي أَوْلَى
وَلَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ثُمَّ جَامَعَ إنْ كان في مَجْلِسٍ
وَاحِدٍ لَا يَجِبُ عليه إلَّا بَدَنَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ كان في مَجْلِسَيْنِ
يَجِبُ عليه بَدَنَةٌ لِلْأَوَّلِ وَلِلثَّانِي شَاةٌ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنْ كان ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ بَدَنَةً يَجِبُ لِلثَّانِي
شَاةٌ وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ وهو على ما ذَكَرْنَا من الِاخْتِلَافِ فِيمَا قبل
الْوُقُوفِ هذا إذَا لم يُرِدْ بِالْجِمَاعِ بَعْدَ الْجِمَاعِ رَفْضَ
الْإِحْرَامِ فَأَمَّا إذَا أَرَادَ بِهِ رَفْضَ الْإِحْرَامِ وَالْإِحْلَالِ
فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ في قَوْلِهِمْ جميعا سَوَاءٌ كان في مَجْلِسٍ
وَاحِدٍ أو في مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ لِأَنَّ الْكُلَّ مَفْعُولٌ على وَجْهٍ وَاحِدٍ
فَلَا يَجِبُ بها إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَالْإِيلَاجَاتِ في الْجِمَاعِ
الْوَاحِدِ
وَمِنْهَا وُجُوبُ الْمُضِيِّ في الْحَجَّةِ الْفَاسِدَةِ لِقَوْلِ جَمَاعَةٍ من
الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ يَمْضِيَا في إحْرَامِهِمَا وَلِأَنَّ
الْإِحْرَامَ عَقْدٌ لَازِمٌ لَا يَجُوزُ التَّحَلُّلُ عنه إلَّا بِأَدَاءِ
أَفْعَالِ الْحَجِّ أو لِضَرُورَةِ الْإِحْصَارِ ولم يُوجَدْ أَحَدُهُمَا
فَيَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فيه فَيَفْعَلُ جَمِيعَ ما يَفْعَلُهُ في الْحَجَّةِ
الصَّحِيحَةِ وَيَجْتَنِبُ جَمِيعَ ما يَجْتَنِبُهُ في الْحَجَّةِ الصَّحِيحَةِ
وَمِنْهَا وُجُوبُ الْقَضَاءِ لِقَوْلِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
يَقْضِيَانِهِ من قَابِلٍ وَلِأَنَّهُ لم يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ على
الْوَجْهِ الذي أُمِرَ بِهِ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِحَجٍّ خَالٍ عن الْجِمَاعِ ولم
يَأْتِ بِهِ فَبَقِيَ الْوَاجِبُ في ذِمَّتِهِ فَيَلْزَمُهُ تَفْرِيغُ ذِمَّتِهِ
عنه وَلَا يَجِبُ عليه الْعُمْرَةُ لِأَنَّهُ ليس بِفَائِتِ الْحَجِّ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لم تَسْقُطْ عنه أَفْعَالُ الْحَجِّ بِخِلَافِ الْمُحْصَرِ
إذَا حَلَّ من إحْرَامِهِ بِذَبْحِ الْهَدْيِ أَنَّهُ يَجِبُ عليه قَضَاءُ
الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ
أَمَّا قَضَاءُ الْحَجَّةِ فَظَاهِرٌ
وَأَمَّا قَضَاءُ الْعُمْرَةِ فَلِفَوَاتِ الْحَجِّ في ذلك الْعَامِ وَهَلْ
يَلْزَمُهُمَا الِافْتِرَاقُ في الْقَضَاءِ
قال أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ لَا يَلْزَمُهُمَا ذلك لَكِنَّهُمَا إنْ خَافَا
الْمُعَاوَدَةَ يُسْتَحَبُّ لَهُمَا أَنْ يَفْتَرِقَا
وقال زُفَرُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَفْتَرِقَانِ وَاحْتَجُّوا بِمَا
رَوَيْنَا من قَوْلِ جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
يَفْتَرِقَانِ وَلِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فيه خَوْفُ الْوُقُوعِ في الْجِمَاعِ
ثَانِيًا فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عنه بِالِافْتِرَاقِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا في مَكَانِ
الِافْتِرَاقِ
قال مَالِكٌ إذَا خَرَجَا من بَلَدِهِمَا يَفْتَرِقَانِ حَسْمًا لِلْمَادَّةِ
وقال الشَّافِعِيُّ إذَا بَلَغَا الْمَوْضِعَ الذي جَامَعَهَا فيه لِأَنَّهُمَا
يَتَذَكَّرَانِ ذلك فَرُبَّمَا يَقَعَانِ فيه
وقال زُفَرُ يَفْتَرِقَانِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ الْإِحْرَامِ هو الذي
حَظَرَ عليه الْجِمَاعَ فَأَمَّا قبل ذلك فَقَدْ كان مُبَاحًا
وَلَنَا أَنَّهُمَا زَوْجَانِ وَالزَّوْجِيَّةُ عِلَّةُ الِاجْتِمَاعِ لَا
الِافْتِرَاقِ وَأَمَّا ما ذَكَرُوا من خَوْفِ الْوُقُوعِ يَبْطُلُ
بِالِابْتِدَاءِ فإنه لم يَجِبْ الِافْتِرَاقُ في الِابْتِدَاءِ مع خَوْفِ
الْوُقُوعِ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ يَتَذَكَّرَانِ ما فَعَلَا فيه فَاسِدٌ
لِأَنَّهُمَا قد يَتَذَكَّرَانِ وقد لَا يَتَذَكَّرَانِ إذْ ليس كُلُّ من يَفْعَلُ
فِعْلًا في مَكَان يَتَذَكَّرُ ذلك الْفِعْلَ إذَا وَصَلَ إلَيْهِ ثُمَّ إنْ
كَانَا يَتَذَكَّرَانِ ما فَعَلَا فيه يَتَذَكَّرَانِ ما لَزِمَهُمَا من وَبَالِ
فِعْلِهِمَا فيه أَيْضًا فَيَمْنَعُهُمَا ذلك عن الْفِعْلِ
ثُمَّ يَبْطُلُ هذا بِلُبْسِ الْمَخِيطِ وَالتَّطَيُّبِ فإنه إذَا لَبِسَ
الْمِخْيَطَ أو تَطَيَّبَ حتى لَزِمَهُ الدَّمُ يُبَاحُ له إمْسَاكُ الثَّوْبِ
الْمَخِيطِ وَالتَّطَيُّبِ وَإِنْ كان ذلك يُذَكِّرُهُ
____________________
(2/218)
لُبْسَ
الْمَخِيطِ وَالتَّطَيُّبِ فَدَلَّ أَنَّ الِافْتِرَاقَ ليس بِلَازِمٍ لَكِنَّهُ
مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمُسْتَحَبٌّ عِنْدَ خَوْفِ الْوُقُوعِ فِيمَا وَقَعَا فيه
وَعَلَى هذا يُحْمَلُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ يَفْتَرِقَانِ
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
هذا إذَا كان مُفْرِدًا بِالْحَجِّ فَأَمَّا إذَا كان قَارِنًا فَالْقَارِنُ إذَا
جَامَعَ فَإِنْ كان قبل الْوُقُوفِ وَقَبْلَ الطَّوَافِ لِلْعُمْرَةِ أو قبل
الْكَثْرَةِ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ وَحَجَّتُهُ وَعَلَيْهِ دَمَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا شَاةٌ وَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهِمَا وَإِتْمَامُهُمَا على الْفَسَادِ
وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُمَا وَيَسْقُطُ عنه دَمُ الْقِرَانِ
أَمَّا فَسَادُ الْعُمْرَةِ فَلِوُجُودِ الْجِمَاعِ قبل الطَّوَافِ وإنه مُفْسِدٌ
لِلْعُمْرَةِ كما في حَالِ الِانْفِرَادِ وَأَمَّا فَسَادُ الْحَجَّةِ فَلِحُصُولِ
الْجِمَاعِ قبل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ كما في حَالِ
الِانْفِرَادِ وَأَمَّا وُجُوبُ الدَّمَيْنِ فَلِأَنَّ الْقَارِنَ مُحْرِمٌ
بِإِحْرَامَيْنِ عِنْدَنَا فَالْجِمَاعُ حَصَلَ جِنَايَةً على إحْرَامَيْنِ
فَأَوْجَبَ نَقْصًا في الْعِبَادَتَيْنِ فَيُوجِبُ كَفَّارَتَيْنِ كَالْمُقِيمِ
إذَا جَامَعَ في رَمَضَانَ وَأَمَّا لُزُومُ الْمُضِيِّ فِيهِمَا فَلِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ عَقْدٌ لَازِمٌ وَأَمَّا وُجُوبُ
قَضَائِهِمَا فَلِإِفْسَادِهِمَا فَيَقْتَضِي عُمْرَةً مَكَانَ عُمْرَةٍ وَحَجَّةً
مَكَانَ حَجَّةٍ وَأَمَّا سُقُوطُ دَمِ الْقِرَانِ عنه فَلِأَنَّهُ أَفْسَدَهُمَا
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقَارِنَ إذَا أفسد ( ( ( فسد ) ) ) حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ أو
أَفْسَدَ أَحَدَهُمَا يَسْقُطُ عنه دَمُ الْقِرَانِ لِأَنَّ وُجُوبَهُ ثَبَتَ شُكْرًا
لِنِعْمَةِ الْجَمْعِ بين الْقُرْبَتَيْنِ وَبِالْفَسَادِ بَطَلَ مَعْنَى
الْقُرْبَةِ فَسَقَطَ الشُّكْرُ
وَلَوْ جَامَعَ بَعْدَ ما طَافَ لِعُمْرَتِهِ أو طَافَ أَكْثَرَهُ وهو أَرْبَعَةُ
أَشْوَاطٍ أو بَعْدَ ما طَافَ لها وَسَعَى قبل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَتْ
حَجَّتُهُ وَلَا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ
أَمَّا فَسَادُ حَجَّتِهِ فَلِمَا ذَكَرْنَا وهو حُصُولُ الْجِمَاعِ قبل
الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَأَمَّا عَدَمُ فَسَادِ عُمْرَتِهِ فَلِحُصُولِ الْجِمَاعِ
بَعْدَ وُقُوعِ الْفَرَاغِ من رُكْنِهَا فَلَا يُوجِبُ فَسَادَهَا كما في حَالِ
الِانْفِرَادِ وَعَلَيْهِ دَمَانِ أَحَدُهُمَا لِفَسَادِ الْحَجَّةِ بِالْجِمَاعِ
وَالْآخَرُ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ في إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لِأَنَّ إحْرَامَ
الْعُمْرَةِ بَاقٍ عليه وَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهِمَا وَإِتْمَامُهُمَا لِمَا
ذَكَرْنَا وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ دُونَ الْعُمْرَةِ لِأَنَّ الْحَجَّةَ هِيَ
التي فَسَدَتْ دُونَ الْعُمْرَةِ وَيَسْقُطُ عنه دَمُ الْقِرَانِ لِأَنَّهُ فَسَدَ
أَحَدُهُمَا وهو الْحَجُّ
وَلَوْ جَامَعَ بَعْدَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ وَبَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَلَا
يَفْسُدُ حَجُّهُ وَلَا عُمْرَتُهُ أَمَّا عَدَمُ فَسَادِ الْحَجِّ فَلِأَنَّ
الْجِمَاعَ وُجِدَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وأنه لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ
وَأَمَّا عَدَمُ فَسَادِ الْعُمْرَةِ فَلِأَنَّهُ جَامَعَ بَعْدَ الْفَرَاغِ من
رُكْنِ الْعُمْرَةِ وَعَلَيْهِ إتْمَامُهَا لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ إتْمَامُهَا
على الْفَسَادِ فَعَلَى الصِّحَّةِ وَالْجَوَازُ أَوْلَى وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ
وَشَاةٌ الْبَدَنَةُ لِأَجْلِ الْجِمَاعِ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَالشَّاةُ لِأَنَّ
الْإِحْرَامَ لِلْعُمْرَةِ بَاقٍ وَالْجِمَاعُ في إحْرَامِ الْعُمْرَةِ يُوجِبُ
الشَّاةَ وَهَهُنَا لَا يَسْقُطُ عنه دَمُ الْقِرَانِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ
فَسَادُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَلَا فَسَادُ أَحَدِهِمَا فَأَمْكَنَ إيجَابُ
الدَّمِ شُكْرًا فَإِنْ جَامَعَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَهُوَ على ما ذَكَرْنَا
من التَّفْصِيلِ في الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ أَنَّهُ إنْ كان في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ
فَلَا يَجِبُ عليه غَيْرُ ذلك وَإِنْ كان في مَجْلِسٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ دَمَانِ
على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا فَإِنْ جَامَعَ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَعْدَ
الْحَلْقِ قبل الطَّوَافِ لِلزِّيَارَةِ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ وَشَاةٌ لِأَنَّ
الْقَارِنَ يَتَحَلَّلُ من الْإِحْرَامَيْنِ مَعًا ولم يَحِلَّ له النِّسَاءُ
بَعْدَ إحْرَامِ الْحَجَّةِ فَكَذَا في إحْرَامِ الْعُمْرَةِ كما يَقَعُ له
التَّحَلُّلُ من غَيْرِ النِّسَاءِ بِالْحَلْقِ فِيهِمَا جميعا
وَلَوْ جَامَعَ بَعْدَ ما طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ كُلَّهُ أو أَكْثَرَهُ فَلَا
شَيْءَ عليه لِأَنَّهُ قد حَلَّ له النِّسَاءُ فلم يَبْقَ له الْإِحْرَامُ رَأْسًا
إلَّا إذَا طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ قبل الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ فَعَلَيْهِ
شَاتَانِ لِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ لَهُمَا جميعا
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في الرُّقَيَّاتِ فِيمَنْ طَافَ طَوَافَ
الزِّيَارَةِ جُنُبًا أو على غَيْرِ وُضُوءٍ وَطَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ
طَاهِرًا ثُمَّ جَامَعَ النِّسَاءَ قَبْل أَنْ يُعِيدَهُ
قال مُحَمَّدٌ أَمَّا في الْقِيَاسِ فَلَا شَيْءَ وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ
اسْتَحْسَنَ فِيمَا إذَا طَافَ جُنُبًا ثُمَّ جَامَعَ ثُمَّ أَعَادَهُ طَاهِرًا
أَنَّهُ يُوجِبُ عليه دَمًا وَكَذَا قَوْلُ أبي يُوسُفَ
وَقَوْلُنَا وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ قد صَحَّ من مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ
الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الطَّوَافِ وإذا لم تَكُنْ شَرْطًا
فَقَدْ وَقَعَ التَّحَلُّلُ بِطَوَافِهِ وَالْجِمَاعُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ من
الْإِحْرَامِ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إذَا أَعَادَهُ وهو طَاهِرٌ فَقَدْ انْفَسَخَ الطَّوَافُ
الْأَوَّلُ على طَرِيقِ بَعْضِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَصَارَ طَوَافُهُ
الْمُعْتَبَرُ هو الثَّانِي لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تُوجِبُ نُقْصَانًا فَاحِشًا
فَتُبُيِّنَ أَنَّ الْجِمَاعَ كان حَاصِلًا قبل الطَّوَافِ فَيُوجِبُ
الْكَفَّارَةَ بِخِلَافِ ما إذَا طَافَ على غَيْرِ وُضُوءٍ لِأَنَّ النُّقْصَانَ
هُنَاكَ يَسِيرٌ فلم يَنْفَسِخْ الْأَوَّلُ فَبَقِيَ جِمَاعُهُ بَعْدَ
التَّحَلُّلُ فَلَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ
وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في الرُّقَيَّاتِ فِيمَنْ طَافَ أَرْبَعَةَ
أَشْوَاطٍ من طَوَافِ الزِّيَارَةِ في جَوْفِ الْحِجْرِ أو فَعَلَ ذلك في طَوَافِ
الْعُمْرَةِ ثُمَّ جَامَعَ أَنَّهُ تَفْسُدُ الْعُمْرَةُ وَعَلَيْهِ
____________________
(2/219)
عُمْرَةٌ
مَكَانَهَا وَعَلَيْهِ في الْحَجِّ بَدَنَةٌ لِأَنَّ الرُّكْنَ في الطَّوَافِ
أَكْثَرُ الْأَشْوَاطِ وهو أَرْبَعَةٌ فإذا طَافَ في جَوْفِ الْحِجْرِ فلم يَأْتِ
بِأَكْثَرِ الْأَشْوَاطِ فَحَصَلَ الْجِمَاعُ قبل الطَّوَافِ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَجَامَعَ أَنَّهُ
يَمْضِي على إحْرَامِهِ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلْجِمَاعِ وَالْقَضَاءُ لِلْفَوَاتِ
أَمَّا وُجُوبُ الْمُضِيِّ فَلِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ وَأَمَّا وُجُوبُ الدَّمِ
بِالْجِمَاعِ فَلِوُجُودِ الْجِمَاعِ في الْإِحْرَامِ وَلَيْسَ عليه قَضَاءُ
الْعُمْرَةِ لِأَنَّ هذا تَحَلُّلٌ بِمِثْلِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَلَيْسَ
بِعُمْرَةٍ بَلْ هو بَقِيَّةُ أَفْعَالِ حَجٍّ قد وَجَبَ قَضَاؤُهُ بِخِلَافِ
الْعُمْرَةِ الْمُبْتَدَأَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْمُتَمَتِّعُ إذَا جَامَعَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُفْرِدُ بِالْحَجِّ
وَالْمُفْرِدِ بِالْعُمْرَةِ لِأَنَّهُ يُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ أَوَّلًا ثُمَّ
يُحْرِمُ بِحَجَّةٍ وقد ذَكَرْنَا حُكْمَ الْمُفْرِدِ بِالْحَجَّةِ وَسَنَذْكُرُ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَ الْمُفْرِدِ بِالْعُمْرَةِ في مَوْضِعِهِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُفَوِّتُ الْحَجَّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فيه بِفَوَاتِهِ
وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فيه فَالْحَجُّ بَعْدَ
الشُّرُوعِ فيه لَا يَفُوتُ إلَّا بِفَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لِقَوْلِ النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم الْحَجُّ عَرَفَةَ فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ
حَجُّهُ
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَعَلَ الْحَجَّ
الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ فإذا وُجِدَ فَقَدْ وُجِدَ الْحَجُّ وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ
في زَمَانٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا وَفَائِتًا
وَالثَّانِي إنه جَعَلَ تَمَامَ الْحَجِّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَلَيْسَ
الْمُرَادُ منه التَّمَامَ الذي هو ضِدُّ النُّقْصَانِ لِأَنَّ ذلك لَا يَثْبُتُ
بِالْوُقُوفِ وَحْدَهُ فَيَدُلُّ أَنَّ الْمُرَادَ منه خُرُوجُهُ عن احْتِمَالِ
الْفَوَاتِ
وَقَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ
أَدْرَكَ الْحَجَّ وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ
جَعَلَ مُدْرِكَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مُدْرِكًا لِلْحَجِّ وَالْمُدْرَكُ لَا
يَكُونُ فَائِتًا
وَأَمَّا حُكْمُ فَوَاتِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فيه فَيَتَعَلَّقُ بِفَوَاتِهِ
بَعْدَ الشُّرُوعِ فيه أَحْكَامٌ منها أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ من إحْرَامِهِ بِعَمَلِ
الْعُمْرَةِ وهو الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيُ بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
وَالْحَلْقُ أو التَّقْصِيرُ إنْ كان مُفْرِدًا بِالْحَجِّ وَيَجِبُ عليه ذلك
لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ عن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وَعَبْدِ
اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
قال من فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلْيُحِلَّ بِعُمْرَةٍ
من غَيْرِ دَمٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ من قَابِلٍ
وَعَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا فِيمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ يُحِلُّ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ
من غَيْرِ هَدْيٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ من قَابِلٍ
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يَتَحَلَّلُ بِهِ فَائِتُ الْحَجِّ من
الطَّوَافِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذلك بِإِحْرَامِ الْحَجِّ أو بِإِحْرَامِ
الْعُمْرَةِ
قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ وقال أبو يُوسُفَ بِإِحْرَامِ
الْعُمْرَةِ وَيَنْقَلِبُ إحْرَامُهُ إحْرَامَ عُمْرَةٍ
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في حديث الدَّارَقُطْنِيّ
فَلْيُحِلَّ بِعُمْرَةٍ سَمَّاهُ عُمْرَةً وَلَا عُمْرَةَ إلَّا بِإِحْرَامِ
الْعُمْرَةِ فَدَلَّ أَنَّ إحْرَامَهُ يَنْقَلِبُ إحْرَامَ عُمْرَةٍ وَلِأَنَّ
الْمُؤَدَّى أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ فَكَانَتْ عُمْرَةً
وَلَهُمَا قَوْلُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ يُحِلُّ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ
أَضَافَ الْعَمَلَ إلَى الْعُمْرَةِ وَالشَّيْءُ لَا يُضَافُ إلَى نَفْسِهِ هو
الْأَصْلُ وَلِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَا بِالْعُمْرَةِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ
مُفْرِدٌ بِالْحَجِّ وَاعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ أَصْلٌ في الشَّرْعِ فَالْقَوْلُ
بِانْقِلَابِ إحْرَامِ الْحَجِّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ تغييرا ( ( ( تغيير ) ) )
لحقيقة ( ( ( الحقيقة ) ) ) من غَيْرِ دَلِيلٍ مع أَنَّ الْإِحْرَامَ عَقْدٌ
لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ وفي الِانْقِلَابِ انْفِسَاخٌ وَهَذَا لَا
يَجُوزُ
وَالدَّلِيلُ على صِحَّةِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ لو كان من أَهْلِ
مَكَّةَ يَتَحَلَّلُ بِالطَّوَافِ كما يَتَحَلَّلُ أَهْلُ الْآفَاقِ وَلَا
يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ إلَى الْحِلِّ
وَلَوْ انْقَلَبَ إحْرَامُهُ إحْرَامَ عُمْرَةٍ وَصَارَ مُعْتَمِرًا لَلَزِمَهُ
الْخُرُوجُ إلَى الْحِلِّ وهو التَّنْعِيمُ أو غَيْرُهُ
وَكَذَا فَائِتُ الْحَجِّ إذَا جَامَعَ ليس عليه قَضَاءُ الْعُمْرَةِ وَلَوْ كان
عُمْرَةً لَوَجَبَ عليه قَضَاؤُهُ كَالْعُمْرَةِ الْمُبْتَدَأَةِ فَيَثْبُتُ بِمَا
ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ أَنَّ إحْرَامَهُ بِالْحَجِّ لم يَنْقَلِبْ إحْرَامَ
عُمْرَةٍ وَبِهِ تُبُيِّنَ أَنَّ المؤدي ليس أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ بَلْ مِثْلَ
أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ تُؤَدَّى بِإِحْرَامِ الْحَجَّةِ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ
على عَمَلِ الْعُمْرَةِ تَوْفِيقًا بين الدَّلِيلَيْنِ
وَمِنْهَا أَنَّ عليه الْحَجَّ من قَابِلٍ لِمَا رَوَيْنَا من الحديث وَقَوْلِ
الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَلِأَنَّهُ إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ من هذه
السَّنَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فيه بَقِيَ الْوَاجِبُ عليه على حَالِهِ فَيَلْزَمُهُ
الْإِتْيَانُ بِهِ وَلَا دَمَ على فَائِتِ الْحَجِّ عِنْدَنَا
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ عليه دَمٌ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ
وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ قبل وَقْتِ التَّحَلُّلِ
فَيَلْزَمُهُ دَمٌ كَالْمُحْصَرِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ
قالوا فِيمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ يُحِلُّ بِعُمْرَةٍ من غَيْرِ هَدْيٍ وَكَذَا في
حديث الدَّارَقُطْنِيّ جَعَلَ
____________________
(2/220)
النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم التَّحَلُّلَ وَالْحَجَّ من قَابِلٍ كُلَّ الْحُكْمِ في
فَائِتِ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ من فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ
فَاتَهُ الْحَجُّ ولحل ( ( ( وليحل ) ) ) بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ من
قَابِلٍ فَمَنْ ادَّعَى زِيَادَةَ الدَّمِ فَقَدْ جَعَلَ الْكُلَّ بَعْضًا وهو
نَسْخٌ أو تَغْيِيرٌ فَلَا بُدَّ له من دَلِيلٍ
وَقَوْلُهُ تَحَلَّلْ قبل الْوُقُوفِ مُسَلَّمٌ لَكِنْ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ
وهو فَائِتُ الْحَجِّ وَالتَّحَلُّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ من فَائِتِ الْحَجِّ
كَالْهَدْيِ في حَقِّ الْمُحْصَرِ وَلَيْسَ على فَائِتِ الْحَجِّ طَوَافُ
الصَّدْرِ لِأَنَّهُ طَوَافٌ عُرِفَ وُجُوبُهُ في الشَّرْعِ بَعْدَ الْفَرَاغِ من
الْحَجِّ على ما قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من حَجَّ هذا الْبَيْتَ
فَلْيَكُنْ آخِرَ عَهْدِهِ بِهِ الطَّوَافُ وَهَذَا لم يَحُجَّ فَلَا يَجِبُ عليه
وَإِنْ كان فَائِتُ الْحَجِّ قَارِنًا فإنه يَطُوفُ لِلْعُمْرَةِ وَيَسْعَى لها
ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافًا آخَرَ لِفَوَاتِ الْحَجِّ وَيَسْعَى له وَيَحْلِقُ أو
يُقَصِّرُ وقد بَطَلَ عنه دَمُ الْقِرَانِ
أَمَّا الطَّوَافُ لِلْعُمْرَةِ وَالسَّعْيُ لها فَلِأَنَّ الْقَارِنَ مُحْرِمٌ
بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ وَالْعُمْرَةُ لَا تَفُوتُ
لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ وَقْتُهَا فَيَأْتِي بها كما يَأْتِي الْمُدْرِكُ
لِلْحَجِّ
وَأَمَّا الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ لِلْحَجِّ فَلِأَنَّ الْحَجَّةَ قد فَاتَتْهُ في
هذه السَّنَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فيها وَفَائِتُ الْحَجِّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فيه لَا
يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَيَطُوفُ وَيَسْعَى وَيَحْلِقُ أو يُقَصِّرُ
وَأَمَّا سُقُوطُ دَمِ الْقِرَانِ يَجِبُ لِلْجَمْعِ بين الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ
ولم يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا أَخَذَ في الطَّوَافَ
الذي يَتَحَلَّلُ بِهِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ كان مُتَمَتِّعًا
سَاقَ الْهَدْيَ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ وَيَصْنَعُ كما يَصْنَعُ الْقَارِنُ لِأَنَّ
دَمَ الْمُتْعَةِ يَجِبُ لِلْجَمْعِ بين الْعُمْرَةِ وَالْحَجَّةِ ولم يُوجَدْ
الْجَمْعُ لِأَنَّ الْحَجَّةَ فَاتَتْهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ فَوَاتِ الْحَجِّ عن الْعُمْرَةِ فَنَقُولُ من
عليه الْحَجُّ إذَا مَاتَ قبل أَدَائِهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ مَاتَ من غَيْرِ
وَصِيَّةٍ وَإِمَّا إنْ مَاتَ عن وَصِيَّةٍ فَإِنْ مَاتَ من غَيْرِ وَصِيَّةٍ
يَأْثَمُ بِلَا خِلَافٍ
أَمَّا على قَوْلِ من يقول بِالْوُجُوبِ على الْفَوْرِ فَلَا يُشْكِلُ
وَأَمَّا على قَوْلِ من يقول بِالْوُجُوبِ على التَّرَاخِي فَلِأَنَّ الْوُجُوبَ
يَضِيقُ عليه في آخِرِ الْعُمْرِ في وَقْتٍ يَحْتَمِلُ الْحَجَّ وَحَرُمَ عليه
التَّأْخِيرُ فَيَجِبُ عليه أَنْ يَفْعَلَ بِنَفْسِهِ إنْ كان قَادِرًا وَإِنْ كان
عَاجِزًا عن الْفِعْلِ بِنَفْسِهِ عَجْزًا مُقَرَّرًا وَيُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ
بِمَالِهِ بِإِنَابَةِ غَيْرِهِ مَنَابَ نَفْسِهِ بِالْوَصِيَّةِ فَيَجِبُ عليه
أَنْ يُوصِيَ بِهِ فَإِنْ لم يُوصِ بِهِ حتى مَاتَ أَثِمَ بِتَفْوِيتِهِ الْفَرْضَ
عن وَقْتِهِ مع إمْكَانِ الْأَدَاءِ في الْجُمْلَةِ فَيَأْثَمُ لَكِنْ يَسْقُطُ
عنه في حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا حتى لَا يُلْزِمَ الْوَارِثَ
الْحَجَّ عنه من تَرِكَتِهِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَاتُ تَسْقُطُ
بِمَوْتِ من عليه سَوَاءٌ كانت بَدَنِيَّةً أو مَالِيَّةً في حَقِّ أَحْكَامِ
الدُّنْيَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَسْقُطُ وَيُؤْخَذُ من تَرِكَتِهِ قَدْرُ ما يَحُجُّ
بِهِ وَيُعْتَبَرُ ذلك من جَمِيعِ الْمَالِ وَهَذَا على الِاخْتِلَافِ في
الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْعُشْرِ وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِ ذلك
وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ الزَّكَاةِ وَإِنْ أَحَبَّ الْوَارِثُ
أَنْ يَحُجَّ عنه حَجَّ وَأَرْجُو أَنْ يُجْزِيَهُ ذلك إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
كَذَا ذَكَرَ أبو حَنِيفَةَ
أَمَّا الْجَوَازُ فَلِمَا روى أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم وقال يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي مَاتَتْ ولم تَحُجَّ أَفَأَحُجُّ
عنها فقال نعم فَقَدْ أَجَازَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حَجَّ الرَّجُلِ عن
أُمِّهِ ولم يَسْتَفْسِرْ أنها مَاتَتْ عن وَصِيَّةٍ أو لَا عن وَصِيَّةٍ وَلَوْ
كان الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ لَاسْتَفْسَرَ
وَأَمَّا قِرَانُ الِاسْتِثْنَاءِ بالأجزاء فَلِأَنَّ الْحَجَّ كان وَاجِبًا على
الْمَيِّتِ قَطْعًا وَالْوَاجِبُ على الْإِنْسَانِ قَطْعًا لَا يَسْقُطُ إلَّا
بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلسُّقُوطِ قَطْعًا وَالْمُوجِبُ لِسُقُوطِ الْحَجِّ عن
الْمَيِّتِ بِفِعْلِ الْوَارِثِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ من أَخْبَارِ الْآحَادِ
وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ عِلْمَ الْعَمَلِ لَا عِلْمَ الشَّهَادَةِ
لِاحْتِمَالِ عَدَمِ الثُّبُوتِ وَإِنْ كان احْتِمَالًا مَرْجُوحًا لَكِنَّ
الِاحْتِمَالَ الْمَرْجُوحَ يُعْتَبَرُ في عِلْمِ الشَّهَادَةِ وَإِنْ كان لَا
يُعْتَبَرُ في عِلْمِ الْعَمَلِ فَعَلَّقَ الأجزاء وَالسُّقُوطَ بِمَشِيئَةِ
اللَّهِ تَعَالَى احْتِرَازًا عن الشَّهَادَةِ على اللَّهِ تَعَالَى من غَيْرِ
عِلْمٍ قَطْعِيٍّ وَهَذَا من كَمَالِ الْوَرَعِ وَالِاحْتِيَاطِ في دِينِ اللَّهِ
تَعَالَى وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ من حَالِ من عليه الْحَجُّ إذَا عَجَزَ عن
الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ حتى أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ وَلَهُ مَالٌ أَنَّهُ يَأْمُرُ
وَارِثَهُ بِالْحَجِّ عنه تَفْرِيغًا لِذِمَّتِهِ عن عُهْدَةِ الْوَاجِبِ
فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ مَوْجُودَةً دَلَالَةً وَالثَّابِتُ دَلَالَةً
كَالثَّابِتِ نَصًّا لَكِنْ أَلْحَقَ الِاسْتِثْنَاءَ بِهِ لِاحْتِمَالِ الْعَدَمِ
فَإِنْ قِيلَ لو كان الْأَمْرُ على ما ذَكَرْتُمْ هَلَّا أَلْحَقَ الِاسْتِثْنَاءَ
بِكُلِّ ما يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَالْجَوَابُ أَنَّكَ أَبْعَدْت في
الْقِيَاسِ إذْ لَا كُلَّ خَبَرٍ يُرَدُّ بِمِثْلِ هذا الْحُكْمِ وهو سُقُوطُ
الْفَرْضِ وَمَحَلُّ سُقُوطِ الِاسْتِثْنَاءِ هذا فَإِنْ ثَبَتَ الْإِطْلَاقُ منه
في مِثْلِهِ في مَوْضِعٍ من غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَذَلِكَ
لِوُجُودِ النِّيَّةِ منه عليه في الْحَجِّ فَتَقَعُ
____________________
(2/221)
الْغُنْيَةُ
عن الْإِفْصَاحِ بِهِ في كل مَوْضِعٍ وَإِنْ مَاتَ عن وَصِيَّةٍ لَا يَسْقُطُ
الْحَجُّ عنه وَيَجِبُ أَنْ يُحَجَّ عنه لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْحَجِّ قد
صَحَّتْ وإذا حُجَّ عنه يَجُوزُ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ وَهِيَ
نِيَّةُ الْحَجِّ عنه وإن يَكُونَ الْحَجُّ بِمَالِ الْمُوصِي أو بِأَكْثَرِهِ
إلَّا تَطَوُّعًا وَأَنْ يَكُونَ رَاكِبًا لَا مَاشِيًا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَيُحَجُّ عنه من ثُلُثِ مَالِهِ سَوَاءٌ قَيَّدَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ بِأَنْ
يُحَجَّ عنه بِثُلُثِ مَالِهِ أو أَطْلَقَ بِأَنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عنه
أَمَّا إذَا قَيَّدَ فَظَاهِرٌ وَكَذَا إذَا أَطْلَقَ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ
تُنَفَّذُ من الثُّلُثِ وَيُحَجُّ عنه من بَلَدِهِ الذي يَسْكُنُهُ لِأَنَّ
الْحَجَّ مَفْرُوضٌ عليه من بَلَدِهِ فَمُطْلَقُ الْوَصِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ
وَلِهَذَا قال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ رَوَى ابن رُسْتُمَ عنه في
خُرَاسَانِيٍّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ بِمَكَّةَ فَأَوْصَى أَنْ يحج عنه يُحَجَّ عنه
من خُرَاسَانَ
وَرَوَى هِشَامٌ عن أبي يُوسُفَ في مَكِّيٍّ قَدِمَ الرَّيَّ فَحَضَرَهُ الْمَوْتُ
فَأَوْصَى أَنْ يُحَجُّ عنه يحج ( ( ( حج ) ) ) عنه من مَكَّةَ فَإِنْ أَوْصَى
أَنْ يُقْرَنَ عنه قُرِنَ عنه من الرَّيِّ لِأَنَّهُ لَا قِرَانَ لِأَهْلِ مَكَّةَ
فَتُحْمَلُ الْوَصِيَّةُ على ما يَصِحُّ وهو الْقِرَانُ من حَيْثُ مَاتَ هذا إذَا
كان ثُلُثُ الْمَالِ يَبْلُغُ أَنْ يُحَجَّ عنه من بَلَدِهِ حُجَّ عنه فَإِنْ كان
لَا يَبْلُغُ يُحَجُّ من حَيْثُ يَبْلُغُ اسْتِحْسَانًا وَكَذَا إذَا أَوْصَى أَنْ
يُحَجَّ عنه بِمَالٍ سَمَّى مَبْلَغَهُ إنْ كان يَبْلُغُ أَنْ يُحَجَّ عنه من
بَلَدِهِ حُجَّ عنه وَإِلَّا فَيُحَجُّ عنه من حَيْثُ يَبْلُغُ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَنْفِيذُهَا على ما
قَصَدَهُ الْمُوصِي وَهَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ كما إذَا أَوْصَى
بِعِتْقِ نَسَمَةٍ فلم يَبْلُغْ ثُلُثُ الْمَالِ ثَمَنَ النَّسَمَةِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ غَرَضَ الْمُوصِي من الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ
تَفْرِيغُ ذِمَّتِهِ عن عُهْدَةِ الْوَاجِبِ وَذَلِكَ في التَّصْحِيحِ لَا في
الْإِبْطَالِ وَلَوْ حُمِلَ ذلك على الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ من بَلَدِهِ
لَبَطَلَتْ وَلَوْ حُمِلَ على الْوَصِيَّةِ من حَيْثُ يَبْلُغُ لَصَحَّتْ
فَيُحْمَلُ عليه تَصْحِيحًا لها وفي الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ النَّسَمَةِ تَعَذَّرَ
التَّصْحِيحُ أَصْلًا وَرَأْسًا فَبَطَلَتْ فَإِنْ خَرَجَ من بَلَدِهِ إلَى بَلَدٍ
أَقْرَبَ من مَكَّةَ فَإِنْ كان خَرَجَ لِغَيْرِ الْحَجِّ حُجَّ عنه من بَلَدِهِ
في قَوْلِهِمْ جميعا وَإِنْ كان خَرَجَ لِلْحَجِّ فَمَاتَ في بَعْضِ الطَّرِيقِ
وَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عنه فَكَذَلِكَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ يُحَجُّ عنه من حَيْثُ بَلَغَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ قَدْرَ ما قَطَعَ من الْمَسَافَةِ في سَفَرِهِ بِنِيَّةِ
الْحَجِّ مُعْتَدُّ بِهِ من الْحَجِّ لم يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{ وَمَنْ يَخْرُجْ من بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ على اللَّهِ } فَسَقَطَ عنه ذلك
الْقَدْرُ من فَرْضِ الْحَجِّ وَبَقِيَ عليه اتمامه
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَدْرَ الْمَوْجُودَ من السَّفَرِ يُعْتَبَرُ لَكِنْ
في حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وهو الثَّوَابُ لَا في حق أحكام الدنيا إن لم يبطل
به في حق أحكام الآخرة وكلامنا في حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِأَنَّ ذلك
يَتَعَلَّقُ بِأَدَاءِ الْحَجِّ ولم يَتَّصِلْ بِهِ الْأَدَاءُ فَبَطَلَ
بِالْمَوْتِ في حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَلَوْ خَرَجَ لِلْحَجِّ فَأَقَامَ في
بَعْضِ الْبِلَادِ حتى دَارَتْ السَّنَةُ ثُمَّ مَاتَ وقد أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ
عنه يُحَجُّ عنه من بَلَدِهِ بِلَا خِلَافٍ
أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ ذلك السَّفَرَ لم يَتَّصِلْ بِهِ عَمَلُ
الْحَجَّةِ التي سَافَرَ لها فلم يُعْتَدَّ بِهِ عن الْحَجِّ وَإِنْ كان ثُلُثُ
مَالِهِ لَا يَبْلُغُ أَنْ يُحَجَّ بِهِ عنه إلَّا مَاشِيًا
فقال رَجُلٌ أنا أَحُجُّ عنه من بَلَدِهِ مَاشِيًا رَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ وَلَكِنْ يُحَجُّ عنه من حَيْثُ يَبْلُغُ
رَاكِبًا
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ إنْ أَحَجُّوا عنه من بَلَدِهِ مَاشِيًا جَازَ
وَإِنْ أَحَجُّوا من حَيْثُ يَبْلُغُ رَاكِبًا جَازَ وَأَصْلُ هذه الْمَسْأَلَةِ
أَنَّ الْمُوصِي بِالْحَجِّ إذَا اتَّسَعَتْ نَفَقَتُهُ لِلرُّكُوبِ فَأَحَجُّوا
عنه مَاشِيًا لم يَجُزْ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ هو الْحَجُّ رَاكِبًا فَإِطْلَاقُ
الْوَصِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى ذلك كَأَنَّهُ أَوْصَاهُ بِذَلِكَ وقال أَحِجُّوا
عَنِّي رَاكِبًا وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مَاشِيًا كَذَا هذا
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أن فَرْضَ الْحَجِّ له تَعَلُّقٌ بِالرُّكُوبِ وَلَهُ
تَعَلُّقٌ بِبَلَدِهِ وَلَا يُمْكِنُ مُرَاعَاتُهُمَا جميعا وفي كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا كَمَالٌ من وَجْهٍ وَنُقْصَانٌ من وَجْهٍ فَيَجُوزُ أَيُّهُمَا كان
وَإِنْ كان ثُلُثُ مَالِهِ لَا يَبْلُغُ أَنْ يُحَجَّ عنه من بَلَدِهِ فَحُجَّ عنه
من مَوْضِعٍ يَبْلُغُ وَفَضَلَ من الثُّلُثِ وَتُبُيِّنَ أَنَّهُ كان يَبْلُغُ من
مَوْضِعٍ أَبْعَدَ منه يَضْمَنُهُ الْوَصِيُّ وَيُحَجُّ عن الْمَيِّتِ من حَيْثُ
يَبْلُغُ لِأَنَّهُ تُبُيِّنَ أَنَّهُ خَالَفَ إلَّا إذَا كان الْفَاضِلُ شيئا
يَسِيرًا من زَادٍ أو كِسْوَةٍ فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا وَلَا ضَامِنًا وَيَرُدُّ
الْفَضْلَ إلَى الْوَرَثَةِ لِأَنَّ ذلك مِلْكُهُمْ
وَإِنْ كان لِلْمُوصِي وَطَنَانِ فَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عنه من أَقْرَبِ
الْوَطَنَيْنِ لِأَنَّ الْأَقْرَبَ دخل في الْوَصِيَّةِ بِيَقِينٍ وفي دُخُولِ
الْأَبْعَدِ شَكٌّ فَيُؤْخَذُ بِالْيَقِينِ وَفِيمَا ذَكَرْنَا من الْمَسَائِلِ
التي وَجَبَ الْحَجُّ من بَلَدِهِ إذَا أَحَجَّ الْوَصِيُّ من غَيْرِ بَلَدِهِ
يَكُونُ ضَامِنًا وَيَكُونُ الْحَجُّ له وَيَحُجُّ
____________________
(2/222)
عن
الْمَيِّتِ ثَانِيًا لِأَنَّهُ خَالَفَ إلَّا إذَا كان الْمَكَانُ الذي أَحَجَّ
عنه قَرِيبًا إلَى وَطَنِهِ بِحَيْثُ يَبْلُغُ إلَيْهِ وَيَرْجِعُ إلَى الْوَطَنِ
قبل اللَّيْلِ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا وَلَا ضَامِنًا وَيَكُونُ
كَاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ وَلَوْ مَاتَ في مَحَلَّةٍ فَأَحَجُّوا عنه من مَحَلَّةٍ
أُخْرَى جَازَ كَذَا هذا
فَإِنْ قال الْمُوصِي أَحِجُّوا عني بِثُلُثِ مَالِي وَثُلُثُ مَالِهِ يَبْلُغُ
حِجَجًا حُجَّ عنه حِجَجًا كَذَا رَوَى الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ
الْكَرْخِيِّ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى
أَنْ يُحَجَّ عنه بِثُلُثِ مَالِهِ وَثُلُثُ مَالِهِ يَبْلُغُ حِجَجًا يُحَجُّ عنه
حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ من وَطَنِهِ وَهِيَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إلَّا إذَا أَوْصَى أن
يُحَجُّ عنه بِجَمِيعِ الثُّلُثِ فَيُحَجُّ عنه حِجَجًا بِجَمِيعِ الثُّلُثِ وما
ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَثْبَتُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ وَبِجَمِيعِ
الثُّلُثِ وَاحِدٌ لِأَنَّ الثُّلُثَ اسْمٌ لِجَمِيعِ هذا السَّهْمِ ثُمَّ
الْوَصِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَحَجَّ عنه الْحِجَجَ في سَنَةٍ وَاحِدَةٍ
وَإِنْ شَاءَ أَحَجَّ عنه في كل سَنَةٍ وَاحِدَةً
وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ في سَنَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ فيه تَعْجِيلُ تَنْفِيذِ
الْوَصِيَّةِ وَالتَّعْجِيلُ في هذا أَفْضَلُ من التَّأْخِيرِ وَإِنْ أَوْصَى أَنْ
يُحَجَّ عنه من مَوْضِعِ كَذَا من غَيْرِ بَلَدِهِ يُحَجُّ عنه من ثُلُثِ مَالِهِ
من ذلك الْمَوْضِعِ الذي بُيِّنَ قَرُبَ من مَكَّةَ أو بَعُدَ عنها لِأَنَّ
الْإِحْجَاجَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِأَمْرِهِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ أَمْرِهِ وما
فَضَلَ في يَدِ الْحَاجَّ عن الْمَيِّتِ بَعْدَ النَّفَقَةِ في ذَهَابِهِ
وَرُجُوعِهِ فإنه يَرُدُّهُ على الْوَرَثَةِ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَأْخُذَ شيئا
مِمَّا فَضَلَ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَصِيرُ مِلْكًا لِلْحَاجِّ بِالْإِحْجَاجِ
وَإِنَّمَا يُنْفِقُ قَدْرَ ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ في ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ على
حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ لو مَلَكَ إنَّمَا يَمْلِكُ بِالِاسْتِئْجَارِ
وَالِاسْتِئْجَارُ على الطَّاعَاتِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا فَكَانَ الْفَاضِلُ
مِلْكَ الْوَرَثَةِ فَيَجِبُ عليه رَدُّهُ إلَيْهِمْ وَلَوْ قَاسَمَ الْوَرَثَةَ وَعَزَلَ
قَدْرَ نَفَقَةِ الْحَجِّ وَدَفَعَ بَقِيَّةَ التَّرِكَةِ إلَى الْوَرَثَةِ
فَهَلَكَ الْمَعْزُولُ في يَدِ الموصي ( ( ( الوصي ) ) ) أو في يَدِ الْحَاجِّ قبل
الْحَجِّ بَطَلَتْ الْقِسْمَةُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَهَلَكَ ذلك الْقَدْرُ من
الْجُمْلَةِ وَلَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ وَيُحَجُّ له من ثُلُثِ الْمَالِ
الْبَاقِي حتى يَحْصُلَ الْحَجُّ أو يَنْوِيَ الْمَالَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَجَعَلَ أبو حَنِيفَةَ الْحَجَّ بِمَنْزِلَةِ الْمُوصَى له الْغَائِبِ وَقِسْمَةُ
الْوَصِيِّ مع الْوَرَثَةِ على الموصي له الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ حتى لو قَاسَمَ
مع الْوَرَثَةِ وَعَزَلَ نَصِيبَ الموصي له ثُمَّ هَلَكَ في يَدِهِ قبل أَنْ
يَصِلَ إلَى الْمُوصَى له الْغَائِبِ يَهْلِكُ من الْجُمْلَةِ وَيَأْخُذُ الموصي
له ثُلُثَ الْبَاقِي كَذَلِكَ الْحَجُّ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ إنْ بَقِيَ من ثُلُثِ
مَالِهِ شَيْءٌ يُحَجُّ عنه مِمَّا بَقِيَ من ثُلُثِهِ من حَيْثُ يَبْلُغُ
وَأَنَّهُ لم يَبْقَ من ثُلُثِهِ شَيْءٌ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ
وقال مُحَمَّدٌ قِسْمَةُ الْوَصِيَّةِ جَائِزَةٌ وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ
بِهَلَاكِ الْمَعْزُولِ سَوَاءٌ بَقِيَ من الْمَعْزُولِ شَيْءٌ أو لم يَبْقَ
شَيْءٌ فَإِنْ لم يَهْلِكْ ذلك الْمَالُ وَلَكِنْ مَاتَ الْمُجَهَّزُ في بَعْضِ
طَرِيقِ مَكَّةِ فما أَنْفَقَ المجاهز ( ( ( المجهز ) ) ) إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ
نَفَقَةُ مِثْلِهِ فَلَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّهُ لم يُنْفِقْ على الْخِلَافِ بَلْ
على الْوِفَاقِ وما بَقِيَ في يَدِ الْمُجَهَّزِ الْقِيَاسُ أَنْ يُضَمَّ إلَى
مَالِ الْمُوصِي فَيَعْزِلُ ثُلُثَ مَالِهِ وَيَحُجُّ عنه من وَطَنِهِ وهو قَوْلُ
أبي حَنِيفَةَ وفي الِاسْتِحْسَانِ يَحُجُّ بِالْبَاقِي من حَيْثُ تَبْلُغُ وهو
قَوْلُهُمَا
فَصْلٌ ثُمَّ الْحَجُّ كما هو وَاجِبٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً على
من اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْوُجُوبِ وهو حَجَّةُ الْإِسْلَامِ فَقَدْ يَجِبُ
بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ بِنَاؤُهُ على وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ من
الْعَبْدِ وهو النَّذْرُ بِأَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ لِأَنَّ
النَّذْرَ من أَسْبَابِ الْوُجُوبِ في الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ الْمَقْصُودَةِ
قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ
وَكَذَا لو قال عَلَيَّ حَجَّةٌ فَهَذَا وَقَوْلُهُ لِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ
سَوَاءٌ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى وَسَوَاءٌ كان
النَّذْرُ مُطْلَقًا أو مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ بِأَنْ قال إنْ فَعَلْت كَذَا
فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ حتى يَلْزَمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ إذَا وُجِدَ
الشَّرْطُ وَلَا يَخْرُجُ عنه بِالْكَفَّارَةِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عن أبي
حَنِيفَةَ وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ
النَّذْرِ
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ إحْرَامٌ أو قال عَلَيَّ إحْرَامٌ صَحَّ وَعَلَيْهِ
حَجَّةٌ أو عُمْرَةٌ وَالتَّعْيِينُ إلَيْهِ وَكَذَا إذَا ذَكَرَ لَفْظًا يَدُلُّ
على الْتِزَامِ الْإِحْرَامِ بِأَنْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ
اللَّهِ أو إلَى الْكَعْبَةِ أو إلَى مَكَّةَ جَازَ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أو
عُمْرَةٌ
وَلَوْ قال إلَى الْحَرَمِ أو إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لم يَصِحَّ وَلَا
يَلْزَمُهُ شَيْءٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ وَيَلْزَمُهُ
حَجَّةٌ أو عُمْرَةٌ
وَلَوْ قال إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَا يَصِحُّ في قَوْلِهِمْ جميعا وَلَوْ
قال عَلَيَّ الذَّهَابُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أو الْخُرُوجُ أو السَّفَرُ أو
الْإِتْيَانُ لَا يَصِحُّ في قَوْلِهِمْ وَدَلَائِلُ هذه الْمَسَائِلِ تُذْكَرُ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى في كِتَابِ النَّذْرِ فإنه كِتَابٌ مُفْرَدٌ وَإِنَّمَا
نَذْكُرُ هَهُنَا بَعْضَ ما يَخْتَصُّ بِالْحَجِّ فَإِنْ
____________________
(2/223)
قال
لِلَّهِ عَلَيَّ هَدْيٌ أو عَلَيَّ هَدْيٌ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ذَبَحَ
شَاةً وَإِنْ شَاءَ نَحَرَ جَزُورًا وَإِنْ شَاءَ ذَبَحَ بَقَرَةً لِأَنَّ اسْمَ
الْهَدْيِ يَقَعُ على كل وَاحِدٍ من الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ لِقَوْلِهِ { فما
اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ } قِيلَ في التَّفْسِيرِ أن الْمُرَادَ منه الشَّاةُ
وإذا كانت الشَّاةُ ما اسْتَيْسَرَ من الْهَدْيِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ من
الْهَدْيِ ما لَا يَكُونُ مُسْتَيْسَرًا وهو الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ
وقد رَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَمَّا سُئِلَ
عن الْهَدْيِ أَدْنَاهُ شَاةٌ وإذا كانت الشَّاةُ أَدْنَى الْهَدْيِ كان أَعْلَاهُ
الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ ضَرُورَةً وقد رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ
قال الْهَدْيُ من ثَلَاثَةٍ وَالْبَدَنَةُ من اثْنَيْنِ وَلِأَنَّ مَأْخَذَ الِاسْمِ
دَلِيلٌ عليه لِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يهدي أَيْ يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ
وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ في الْغَنَمِ كما يُوجَدُ في الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ
وَيَجُوزُ سُبْعُ الْبَدَنَةِ عن الشَّاةِ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم أَنَّهُ قال الْبَدَنَةُ تجزي عن سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةُ تجزي عن سَبْعَةٍ
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ بَدَنَةٌ فَإِنْ شَاءَ نَحَرَ جَزُورًا وَإِنْ شَاءَ
ذَبَحَ بَقَرَةً عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا الْجَزُورُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْبَدَنَةَ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْجَمَلِ وَالدَّلِيلُ عليه
قَوْله تَعَالَى { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ من شَعَائِرِ اللَّهِ } ثُمَّ
فَسَّرَهَا بِالْإِبِلِ بِقَوْلِهِ عز وجل { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عليها
صَوَافَّ } أَيْ قَائِمَةً مُصْطَفَّةً وَالْإِبِلُ هِيَ التي تُنْحَرُ كَذَلِكَ
فَأَمَّا الْبَقَرُ فَإِنَّهَا تُذْبَحُ مُضْجَعَةً وَرَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال الْبَدَنَةُ تجزي عن سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةُ
تجزىء عن سَبْعَةٍ حتى قال جَابِرٌ نَحَرْنَا على عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم الْبَدَنَةَ عن سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عن سَبْعَةٍ مَيَّزَ بين
الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ فَدَلَّ أَنَّهُمَا غَيْرَانِ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال الْهَدْيُ من
ثَلَاثَةٍ وَالْبَدَنَةُ من اثْنَيْنِ وَهَذَا نَصٌّ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ وقال إنَّ رَجُلًا
صَاحِبًا لنا أَوْجَبَ على نَفْسِهِ بَدَنَةً أَفَتَجْزِيهِ الْبَقَرَةُ فقال له
ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه مِمَّ صَاحِبُكُمْ قال من بَنِي رَبَاحٍ فقال مَتَى
اقْتَنَتْ بَنُو رَبَاحٍ الْبَقَرَ إنَّمَا الْبَقَرُ لِلْأَزْدِ وَإِنَّمَا
وَهِمَ صَاحِبُكُمْ الْإِبِلَ وَلَوْ لم يَقَعْ اسْمُ الْبَدَنَةِ على الْبَقَرِ
لم يَكُنْ لِسُؤَالِهِ مَعْنًى وَلَمَا سَأَلَهُ فَقَدْ أَوْقَعَ الِاسْمَ على
الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ لَكِنْ أَوْجَبَ على النَّاذِرِ الْإِبِلَ لِإِرَادَتِهِ
ذلك ظَاهِرًا وَلِأَنَّ الْبَدَنَةَ مَأْخُوذَةٌ من الْبَدَانَةِ وَهِيَ
الضَّخَامَةُ وَأَنَّهَا تُوجَدُ فِيهِمَا وَلِهَذَا اسْتَوَيَا في الْجَوَازِ عن
سَبْعَةٍ وَلَا حُجَّةَ له في الْآيَةِ لِأَنَّ فيها جَوَازَ إطْلَاقِ اسْمِ
الْبَدَنَةِ على الأبل وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذلك
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّهُ وَقَعَ التَّمْيِيزُ بين الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ في
الحديث فَمَمْنُوعٌ لِأَنَّ ذِكْرَ الْبَقَرَةِ ما خَرَجَ على التَّمْيِيزِ بَلْ
على التَّأْكِيدِ كما في قَوْلِهِ عز وجل { وَإِذْ أَخَذْنَا من النَّبِيِّينَ
مِيثَاقَهُمْ وَمِنْك وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ } وَكَمَا في قَوْلِ الْقَائِلِ جاني ( ( ( جاءني ) ) ) أَهْلُ قَرْيَةِ
كَذَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ
على أَنَّ ظَاهِرَ الْعَطْفِ أن أُوِّلَ على التَّغْيِيرِ وَالتَّسْوِيَةِ
بَيْنَهُمَا في جَوَازِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن سَبْعَةٍ يَدُلُّ على
الِاتِّحَادِ في الْمَعْنَى وَلَا حُجَّةَ مع التَّعَارُضِ
وَلَوْ قال لِلَّهِ عَلَيَّ جَزُورٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ بَعِيرًا لِأَنَّ
اسْمَ الْجَزُورِ لَا يَقَعُ إلَّا على الْإِبِلِ وَيَجُوزُ إيجَابُ الْهَدْيِ
مُطْلَقًا وَمُعَلَّقًا بِشَرْطٍ بِأَنْ يَقُولَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ
عَلَيَّ هَدْيٌ
وَلَوْ قال هذه الشَّاةُ هدى إلَى بَيْتِ اللَّهِ أو إلَى الْكَعْبَةِ أو إلَى
مَكَّةَ أو إلَى الْحَرَمِ أو إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أو إلَى الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ فَالْجَوَابُ فيه كَالْجَوَابِ في قَوْلِهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى
بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أو إلَى كَذَا وَكَذَا على الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ
وَلَوْ أَوْجَبَ على نَفْسِهِ أَنْ يُهْدِيَ مَالًا بِعَيْنِهِ من الثِّيَابِ
وَغَيْرِهَا مِمَّا سِوَى النَّعَمِ جَازَ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ أو
بِقِيمَتِهِ
وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ على فُقَرَاءِ مَكَّةَ وَلَوْ تَصَدَّقَ
بِالْكُوفَةِ جَازَ وَأَمَّا في النَّعَمِ من الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ
فَلَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ إلَّا في الْحَرَمِ فَيَذْبَحُ في الْحَرَمِ وَيَتَصَدَّقُ
بِلَحْمِهِ على فُقَرَاءِ مَكَّةَ هو الْأَفْضَلُ وَلَوْ تَصَدَّقَ على غَيْرِ
فُقَرَاءِ مَكَّةَ جَازَ كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ
لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ في الثِّيَابِ في عَيْنِهَا وهو التَّصَدُّقُ بها
وَالصَّدَقَةُ لَا تَخْتَصُّ بِمَكَانٍ كَسَائِرِ الصَّدَقَاتِ فَأَمَّا مَعْنَى
الْقُرْبَةِ في الْهَدْيِ من النَّعَمِ في الْإِرَاقَةِ شَرْعًا وَالْإِرَاقَةُ لم
تُعْرَفْ قُرْبَةً في الشَّرْعِ إلَّا في مَكَان مَخْصُوصٍ أو زَمَانٍ مَخْصُوصٍ وَالشَّرْعُ
أَوْجَبَ الْإِرَاقَةَ هَهُنَا في الْحَرَمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { هَدْيًا
بَالِغَ الْكَعْبَةِ } حتى إذَا ذَبَحَ الْهَدْيَ جَازَ له أَنْ يَتَصَدَّقَ
بِلَحْمِهِ على فُقَرَاءَ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ لَحْمًا
صَارَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فيه في الصَّدَقَةِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ وَلَوْ
جَعَلَ شَاةً هَدْيًا أَجْزَأَهُ أَنْ يُهْدِيَ قِيمَتَهَا في رِوَايَةِ أبي
سُلَيْمَانَ وفي رِوَايَةِ أبي حَفْصٍ لَا يَجُوزُ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي سُلَيْمَانَ اعْتِبَارُ الْبَدَنَةِ
____________________
(2/224)
بِالْأَمْرِ
ثُمَّ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى من إخْرَاجِ الزَّكَاةِ من الْغَنَمِ
يَجُوزُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ فيه
كَذَا في النُّذُورِ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي حَفْصٍ أَنَّ الْقُرْبَةَ تَعَلَّقَتْ بِشَيْئَيْنِ إرَاقَةِ
الدَّمِ وَالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ وَلَا يُوجَدْ في الْقِيمَةِ إلَّا
أَحَدُهُمَا وهو التَّصَدُّقُ وَيَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدَايَا في أَيِّ مَوْضِعٍ
شَاءَ من الْحَرَمِ وَلَا يَخْتَصُّ بِمِنًى وَمِنْ الناس من قال لَا يَجُوزُ
إلَّا بِمِنًى
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال الْحَرَمُ كُلُّهُ مَنْحَرٌ وقد
ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ من قَوْلِهِ عز وجل { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ } الْحَرَمُ
وَأَمَّا الْبَدَنَةُ إذَا أَوْجَبَهَا بِالنَّذْرِ فإنه يَنْحَرُهَا حَيْثُ شَاءَ
إلَّا إذَا نَوَى أَنْ يَنْحَرَ بِمَكَّةَ فَلَا يَجُوزُ نَحْرُهَا إلَّا
بِمَكَّةَ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وقال أبو يُوسُفَ أَرَى أَنْ يَنْحَرَ الْبُدْنَ بِمَكَّةَ لِقَوْلِهِ عز وجل {
ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } أَيْ الْحَرَمِ
وَلَهُمَا أَنَّهُ ليس في لَفْظِ الْبَدَنَةِ ما يَدُلُّ على امْتِيَازِ
الْمَكَانِ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ من الْبَدَانَةِ وَهِيَ الضَّخَامَةُ يُقَالُ
بَدَنَ الرَّجُلُ أَيْ ضَخُمَ وقد قِيلَ في بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ } أَنَّ
تَعْظِيمَهَا اسْتِسْمَانُهَا وَلَوْ أَوْجَبَ جزأ فَهُوَ من الْإِبِلِ خَاصَّةً
وَيَجُوزُ أَنْ يَنْحَرَ في الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهِ
وَيَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدَايَا قبل أَيَّامِ النَّحْرِ
وَالْجُمْلَةُ فيه أَنَّ دَمَ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ وَهَدْيَ التَّطَوُّعِ
يَجُوزُ قبل أَيَّامِ النَّحْرِ وَلَا يَجُوزُ دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ
وَالْأُضْحِيَّةِ وَيَجُوزُ دَمُ الْإِحْصَارِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ
أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ وَأَدْنَى السِّنِّ الذي يَجُوزُ في
الْهَدَايَا ما يَجُوزُ في الضَّحَايَا وهو الثَّنِيُّ من الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ
وَالْمَعْزِ وَالْجَذَعِ من الضَّأْنِ إذَا كان عَظِيمًا وَبَيَانُ ما يَجُوزُ في
ذلك وما لَا يَجُوزُ من بَيَانِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ مَوْضِعُهُ كِتَابُ
الْأُضْحِيَّةِ وَلَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِظَهْرِهَا وَصُوفِهَا وَلَبَنِهَا
إلَّا في حَالِ الِاضْطِرَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَكُمْ فيها مَنَافِعُ إلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } قِيلَ في بَعْضِ وُجُوهِ
التَّأْوِيلِ لَكُمْ فيها مَنَافِعُ من ظُهُورِهَا وَأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا
إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَيْ إلَى أَنْ تُقَلَّدَ وتهدي ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى
الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أَيْ ثُمَّ مَحِلُّهَا إذَا قُلِّدَتْ واهديت إلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ لِأَنَّهَا ما لم تَبْلُغْ مَحِلَّهَا فَالْقُرْبَةُ في التَّصَدُّقِ
بها فإذا بَلَغَتْ مَحِلَّهَا فَحِينَئِذٍ تَتَعَيَّنُ الْقُرْبَةُ فيها
بِالْإِرَادَةِ
فَإِنْ قِيلَ روى أَنَّ رَجُلًا كان يَسُوقُ بَدَنَةً فقال له النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم ارْكَبْهَا وَيْحَكَ فقال إنَّهَا بَدَنَةٌ يا رَسُولَ اللَّهِ فقال
ارْكَبْهَا وَيْحَكَ
وَقِيلَ وَيْحَكَ كَلِمَةُ تَرَحُّمٍ وَوَيْلَكَ كَلِمَةُ تَهَدُّدٍ فَقَدْ
أَبَاحَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم رُكُوبَ الْهَدْيِ وَالْجَوَابُ
أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الرَّجُلَ كان قد أَجْهَدَهُ السَّيْرُ فَرَخَّصَ له النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم وَعِنْدَنَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بها في مِثْلِ تِلْكَ
الْحَالَةِ بِبَدَلٍ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ في
حَالَةِ الِاضْطِرَارِ بِبَدَلٍ
وَكَذَا في الْهَدَايَا إذَا رَكِبَهَا وَحَمَلَ عليها لِلضَّرُورَةِ يَضُمُّ ما
نَقَصَهَا الْحَمْلُ وَالرُّكُوبُ وَيَنْضَحُ ضَرْعَهَا لِأَنَّهُ إذَا لم يَجُزْ
له الِانْتِفَاعُ بِلَبَنِهَا فَلَبَنُهَا يُؤْذِيهَا فَيُنْضَحُ بِالْمَاءِ حتى
يَتَقَلَّصَ وَيَرْقَى لَبَنُهَا وما حُلِبَ قبل ذلك يَتَصَدَّقُ بِهِ إنْ كان
قَائِمًا وَإِنْ كان مُسْتَهْلَكًا يَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهِ لِأَنَّ اللَّبَنَ
جُزْءٌ من أَجْزَائِهَا فَيَجِبُ صَرْفُهُ إلَى الْقُرْبَةِ كما لو وَلَدَتْ
وَلَدًا أنها تُذْبَحُ وَيُذْبَحُ وَلَدُهَا
كَذَا هذا
فَإِنْ عَطِبَ الْهَدْيُ في الطَّرِيقِ قبل أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ فَإِنْ كان
وَاجِبًا نَحَرَهُ وهو لِصَاحِبِهِ يَصْنَعُ بِهِ ما شَاءَ وَعَلَيْهِ هَدْيٌ
مَكَانَهُ وَإِنْ كان تَطَوُّعًا نَحَرَهُ وَغَمَسَ نَعْلَهُ بِدَمِهِ ثُمَّ
ضَرَبَ صَفْحَةَ سَنَامِهِ وخلي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الناس يَأْكُلُونَهُ وَلَا
يَأْكُلُ هو بِنَفْسِهِ وَلَا يُطْعِمُ أَحَدًا من الْأَغْنِيَاءِ
وَالْفَرْقُ بين الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ أَنَّهُ إذَا كان وَاجِبًا
فَالْمَقْصُودُ منه إسْقَاطُ الْوَاجِبِ فإذا انْصَرَفَ من تِلْكَ الْجِهَةِ كان
له أَنْ يَفْعَلَ بِهِ ما شَاءَ وَعَلَيْهِ هَدْيٌ آخَرُ مَكَانَهُ لِأَنَّ
الْأَوَّلَ لَمَّا لم يَقَعْ عن الْوَاجِبِ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ
الْوَاجِبُ في ذِمَّتِهِ بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ وَلِأَنَّ الْقُرْبَةَ قد
تَعَيَّنَتْ فيه وَلَيْسَ عليه غَيْرُ ذلك وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنَّهُ يَنْحَرُهُ
وَيَفْعَلُ بِهِ ما ذَكَرْنَا لِمَا ذَكَرْنَا وَلِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ بَعَثَ هَدْيًا على يَدِ نَاجِيَةَ بن جُنْدُبٍ
الْأَسْلَمِيِّ فقال يا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَزْحَفَ منها أَيْ قَامَتْ من
الْإِعْيَاءِ وفي رِوَايَةٍ قال ما أَفْعَلُ بِمَا يَقُومُ عَلَيَّ فقال النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم انْحَرْهَا وَاصْبُغْ نَعْلَهَا بِدَمِهَا ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ
صَفْحَةَ سَنَامِهَا وَخَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَلَا تَأْكُلْ منها
أنت وَلَا أَحَدٌ من رُفْقَتِك وَإِنَّمَا لَا يَحِلُّ له أَنْ يَأْكُلَ منها
وَلَهُ أَنْ يُطْعِمَ الْأَغْنِيَاءَ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ كانت في ذَبْحِهِ إذَا
بَلَغَ مَحِلَّهُ فإذا لم يَبْلُغْ كانت الْقُرْبَةُ في التَّصَدُّقِ
____________________
(2/225)
وَلَا
يَجِبُ عليه مَكَانَهُ آخَرُ لِأَنَّهُ لم يَكُنْ وَاجِبًا عليه وَيَتَصَدَّقُ
بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا لِمَا روى عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
لِعَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا وَلَا تُعْطِ
الْجَزَّارَ منها شيئا وَلَا يَجُوزُ له أَنْ يَأْكُلَ من دَمِ النَّذْرِ شيئا
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الدِّمَاءَ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَجُوزُ لِصَاحِبِ
الدَّمِ أَنْ يَأْكُلَ منه وهو دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْأُضْحِيَّةِ
وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ إذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ وَنَوْعٌ لَا يَجُوزُ له أَنْ
يَأْكُلَ منه وهو دَمُ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَاتِ وَهَدْيُ الْإِحْصَارِ وَهَدْيُ
التَّطَوُّعِ إذَا لم يَبْلُغْ مَحِلَّهُ لِأَنَّ الدَّمَ في النَّوْعِ الْأَوَّلِ
دَمُ شُكْرٍ فَكَانَ نُسُكًا فَكَانَ له أَنْ يَأْكُلَ منه وَدَمُ النَّذْرِ دَمُ
صَدَقَةٍ
وَكَذَا دَمُ الْكَفَّارَةِ في مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ وَجَبَ تكفيرا ( ( ( تكفير ) )
) لذنب ( ( ( الذنب ) ) )
وَكَذَا دَمُ الْإِحْصَارِ لِوُجُودِ التَّحَلُّلِ وَالْخُرُوجِ من الْإِحْرَامِ
قبل أَوَانِهِ وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ إذَا لم يَبْلُغْ مَحِلَّهُ بِمَعْنَى
الْقُرْبَةِ في التَّصَدُّقِ بِهِ فَكَانَ دَمُ صَدَقَةٍ وَكُلُّ دَمٍ يَجُوزُ له
أَنْ يَأْكُلَ منه لَا يَجِبُ عليه التَّصَدُّقُ بِلَحْمِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ
لِأَنَّهُ لو وَجَبَ عليه التَّصَدُّقُ بِهِ لَمَا جَازَ أَكْلُهُ لِمَا فيه من
إبْطَالِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ وَكُلُّ ما لَا يَجُوزُ له أَنْ يَأْكُلَ منه يَجِبُ
عليه التَّصَدُّقُ بِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَجُزْ له أَكْلُهُ
وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ يُؤَدِّي إلَى إضَاعَةِ الْمَالِ
وَكَذَا لو هَلَكَ الْمَذْبُوحُ بَعْدَ الذَّبْحِ لَا ضَمَانَ عليه في
النَّوْعَيْنِ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ له في الْهَلَاكِ وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ بَعْدَ
الذَّبْحِ فَإِنْ كان مِمَّا يَجِبُ عليه التَّصَدُّقُ بِهِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ
فَيَتَصَدَّقُ بها لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْفُقَرَاءِ
فَبِالِاسْتِهْلَاكِ تَعَدَّى على حَقِّهِمْ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَيَتَصَدَّقُ
بها لِأَنَّهَا بَدَلُ أَصْلِ مَالٍ وَاجِبِ التَّصَدُّقِ بِهِ وَإِنْ كان مِمَّا
لَا يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ لَا يَضْمَنُ شيئا لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه
التَّعَدِّي بِإِتْلَافِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ
وَلَوْ بَاعَ اللَّحْمَ يَجُوزُ بَيْعُهُ في النَّوْعَيْنِ جميعا لِأَنَّ مِلْكَهُ
قَائِمٌ إلَّا أَنَّ فِيمَا لَا يَجُوزُ له أَكْلُهُ وَيَجِبُ عليه التَّصَدُّقُ
بِهِ يَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ لِأَنَّ ثَمَنَهُ مَبِيعٌ وَاجِبٌ التَّصَدُّقُ بِهِ
لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ بِهِ فَيَتَمَكَّنُ في ثَمَنِهِ حَنِثَ فَكَانَ
سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ بِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فصل وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَالْكَلَامُ فيها يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ صِفَتِهَا
أنها وَاجِبَةٌ أَمْ لَا وفي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِهَا إنْ كانت وَاجِبَةً وفي
بَيَانِ رُكْنِهَا وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ وَاجِبَاتِهَا وفي
بَيَانِ سُنَنِهَا وفي بَيَانِ ما يُفْسِدُهَا وفي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا
فَسَدَتْ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيها قال أَصْحَابُنَا إنَّهَا وَاجِبَةٌ
كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَالْوِتْرِ وَمِنْهُمْ من أَطْلَقَ اسْمَ
السُّنَّةِ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ لَا يُنَافِي الْوَاجِبَ وقال الشَّافِعِيُّ
إنَّهَا فَرِيضَةٌ وقال بَعْضُهُمْ هِيَ تَطَوُّعٌ
وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
الْحَجُّ مَكْتُوبٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ وَهَذَا نَصٌّ
وَعَنْ جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَجُلًا قال يا رَسُولَ اللَّهِ الْعُمْرَةُ
أَهِيَ وَاجِبَةٌ قال لَا وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لك
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وَالْأَمْرُ لِلْفَرْضِيَّةِ
وروى عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال الْعُمْرَةُ هِيَ الْحَجَّةُ
الصُّغْرَى وقد ثَبَتَ فَرْضِيَّةُ الْحَجِّ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ
وَلَنَا على الشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ الْبَيْتِ
من اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } ولم يذكر الْعُمْرَةَ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ
الْحَجِّ لَا يَقَعُ على الْعُمْرَةِ فَمَنْ قال إنَّهَا فَرِيضَةٌ فَقَدْ زَادَ
على النَّصِّ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ
وَكَذَا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الذي جاء إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم وَسَأَلَهُ عن الْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ فَبَيَّنَّ له الْإِيمَانَ
وَبَيَّنَ له الشَّرَائِعَ ولم يذكر فيها الْعُمْرَةَ فقال الْأَعْرَابِيُّ هل
عَلَيَّ شَيْءٌ غَيْرُ هذا فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا إلَّا أَنْ
تَطَوَّعَ فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي انتفاء ( ( ( انتقاء ) ) ) فَرِيضَةِ الْعُمْرَةِ
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَلَا دَلَالَةَ فيها على فَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ
لِأَنَّهَا قُرِئَتْ بِرَفْعِ الْعُمْرَةِ وَالْعُمْرَةُ لِلَّهِ وَأَنَّهُ
كَلَامٌ تَامٌّ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مَعْطُوفٍ على الْأَمْرِ بِالْحَجِّ أَخْبَرَ
اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ رَدًّا لِزَعْمِ الْكَفَرَةِ
لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ الْعُمْرَةَ لِلْأَصْنَامِ على ما كانت
عِبَادَتُهُمْ من الْإِشْرَاكِ
وَأَمَّا على قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ فَلَا حُجَّةَ له فيها أَيْضًا لِأَنَّ فيها
أمرا ( ( ( أمر ) ) ) بِإِتْمَامِ الْعُمْرَةِ وَإِتْمَامُ الشَّيْءِ يَكُونُ
بَعْدَ الشُّرُوعِ فيه وَبِهِ نَقُولُ إنها بِالشُّرُوعِ تَصِيرُ فَرِيضَةً مع ما
أَنَّهُ رُوِيَ عن عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُمَا قَالَا
في تَأْوِيلِ الْآيَةِ إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا من دُوَيْرَةِ أَهْلِك
على أَنَّ هذا إنْ كان أَمْرًا بِإِنْشَاءِ الْعُمْرَةِ فما الدَّلِيلُ على أَنَّ
مُطْلَقَ الْأَمْرِ يُفِيدُ الْفَرْضِيَّةَ بَلْ الْفَرْضِيَّةُ عِنْدَنَا
ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ زَائِدٍ وَرَاءَ نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنَّمَا يُحْمَلُ على
الْوُجُوبِ احْتِيَاطًا وَبِهِ نَقُولُ أن الْعُمْرَةَ وَاجِبَةٌ وَلَكِنَّهَا
لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ وَتَسْمِيَتُهَا حَجَّةً صُغْرَى في الحديث يُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ في حُكْمِ الثَّوَابِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَجَّةٍ حَقِيقَةً
____________________
(2/226)
أَلَا
تَرَى أنها عُطِفَتْ على الْحَجَّةِ في الْآيَةِ وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ على
نَفْسِهِ في الْأَصْلِ وَيُقَالُ حَجَّ فُلَانٌ وما اعْتَمَرَ على أَنَّ وَصْفَهَا
بِالصِّغَرِ دَلِيلُ انْحِطَاطِ رُتْبَتِهَا عن الْحَجِّ فإذا كان الْحَجُّ
فَرْضًا فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ هِيَ وَاجِبَةٌ لِيَظْهَرَ الِانْحِطَاطُ إذْ
الْوَاجِبُ دُونَ الْفَرْضِ وَإِطْلَاقُ اسْمِ التَّطَوُّعِ عليها في الحديث
يُصْلَحُ حُجَّةً على الشَّافِعِيِّ لَا عَلَيْنَا لِأَنَّهُ يقول بِفَرْضِيَّةِ
الْعُمْرَةِ وَالتَّطَوُّعُ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا وَنَحْنُ نَقُولُ
بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَالْوَاجِبُ ما يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا فَكَانَ إطْلَاقُ اسْمِ التَّطَوُّعِ
صَحِيحًا على أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ وَلَيْسَ لِلْفَرْضِ هذا الِاحْتِمَالُ
فَلَا يَصِحُّ الْإِطْلَاقُ وَقَوْلُ السَّائِلِ في الحديث السَّابِقِ أَهِيَ
وَاجِبَةٌ مَحْمُولٌ على الْفَرْضِ إذْ هو الْوَاجِبُ على الْإِطْلَاقِ عَمَلًا
وَاعْتِقَادًا عَيْنًا فَقَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا نَفْيَ له وَبِهِ
نَقُولُ
وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِهَا فَهِيَ شراط ( ( ( شرائط ) ) ) وُجُوبِ الْحَجِّ
لِأَنَّ الْوَاجِبَ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ في حَقِّ الْأَحْكَامِ وقد ذَكَرْنَا ذلك
في فَصْلِ الْحَجِّ
وَأَمَّا رُكْنُهَا فَالطَّوَافُ لِقَوْلِهِ عز وجل { وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وَلِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عليه وَأَمَّا شَرَائِطُ
الرُّكْنِ فما ذَكَرْنَا في الْحَجِّ إلَّا الْوَقْتَ فإن السَّنَةَ كُلَّهَا
وَقْتُ الْعُمْرَةِ وَتَجُوزُ في غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وفي أَشْهُرِ الْحَجِّ
لَكِنَّهُ يُكْرَهُ فِعْلُهَا في يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ
التَّشْرِيقِ أَمَّا الْجَوَازُ في الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } مُطْلَقًا عن الْوَقْتِ
وقد رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت ما اعْتَمَرَ رسول اللَّهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم عُمْرَةً إلَّا شَهِدْتُهَا وما اعْتَمَرَ إلَّا في ذِي الْقَعْدَةِ
وَعَنْ عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم
اعْتَمَرَ مع طَائِفَةٍ من أَهْلِهِ في عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ فَدَلَّ
الْحَدِيثَانِ على أَنَّ جَوَازِهَا في أَشْهُرِ الْحَجِّ وما رُوِيَ عن عُمَرَ
رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان يَنْهَى عنها في أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ مَحْمُولٌ
على نَهْيِ الشَّفَقَةِ على أَهْلِ الْحَرَمِ لِئَلَّا يَكُونَ الْمَوْسِمُ في
وَقْتٍ وَاحِدٍ من السَّنَةِ بَلْ في وَقْتَيْنِ لِتَوَسُّعِ الْمَعِيشَةِ على
أَهْلِ الْحَرَمِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ في الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ عِنْدَنَا في
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ يوم عَرَفَةَ قبل الزَّوَالِ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يُكْرَهُ في هذه الْأَيَّامِ أَيْضًا وَاحْتَجَّ بِمَا
تَلَوْنَا من هذه الْآيَةِ وَبِمَا رَوَيْنَا من الْحَدِيثَيْنِ لِأَنَّهُ دخل
يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ فيها
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّ ما قبل الزَّوَالِ من يَوْمِ عَرَفَةَ ليس
وَقْتَ الْوُقُوفِ فَلَا يَشْغَلُهُ عن الْوُقُوفِ في وَقْتِهِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت وَقْتُ الْعُمْرَةِ
السَّنَةُ كُلُّهَا إلَّا يوم عَرَفَةَ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ
التَّشْرِيقِ وَالظَّاهِرُ أنها قالت سَمَاعًا من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم لِأَنَّهُ بَابٌ لَا يُدْرَكُ بِالِاجْتِهَادِ وَلِأَنَّ هذه الْأَيَّامَ
أَيَّامُ شُغْلِ الْحَاجِّ بِأَدَاءِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةُ فيها تَشْغَلُهُمْ عن
ذلك وَرُبَّمَا يَقَعُ الْخَلَلُ فيه فَيُكْرَهُ وَلَا حُجَّةَ له فِيمَا ذُكِرَ
لِأَنَّ ذلك يَدُلُّ على الْجَوَازِ وَبِهِ نَقُولُ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ في
الْكَرَاهَةِ وَالْجَوَازِ لَا يَنْفِيهَا وقد قام دَلِيلُ الْكَرَاهَةِ وهو ما
ذَكَرْنَا وَكَذَا يَخْتَلِفَانِ في الْمِيقَاتِ في حَقِّ أَهْلِ مَكَّةَ
فَمِيقَاتُهُمْ لِلْحَجِّ من دُوَيْرَةِ أَهْلِهِمْ وَلِلْعُمْرَةِ من الْحِلِّ
التَّنْعِيمِ أو غَيْرِهِ وَمَحْظُورَاتُ الْعُمْرَةِ ما هو مَحْظُورَاتُ الْحَجِّ
وَحُكْمُ ارْتِكَابِهَا في الْعُمْرَةِ ما هو الْحُكْمُ في الْحَجِّ وقد مَضَى
بَيَانُ ذلك كُلِّهِ في الْحَجِّ
وَأَمَّا وَاجِبَاتُهَا فَشَيْئَانِ السَّعْيُ بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
وَالْحَلْقُ أو التَّقْصِيرُ فَأَمَّا طَوَافُ الصَّدْرِ فَلَا يَجِبُ على
الْمُعْتَمِرِ وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ يَجِبُ عليه كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ طَوَافَ الصَّدْرِ طَوَافُ الْوَدَاعِ وَالْمُعْتَمِرُ
يَحْتَاجُ إلَى الْوَدَاعِ كَالْحَاجِّ وَلَنَا أَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ طَوَافَ
الصَّدْرِ بِالْحَجِّ بِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من حَجَّ هذا
الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرَ عَهْدِهِ بِهِ الطَّوَافُ
وَأَمَّا سُنَنُهَا فما ذَكَرْنَا في الْحَجِّ غير أَنَّهُ إذَا اسْتَلَمَ
الْحَجَرَ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ شَوْطٍ من الطَّوَافِ عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ إنْ كان إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ من الْمَدِينَةِ يَقْطَعُ
التَّلْبِيَةَ إذَا دخل الْحَرَمَ وَإِنْ كان إحْرَامُهُ لها من مَكَّةَ يَقْطَعُ
إذَا وَقَعَ بَصَرُهُ على الْبَيْتِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ
عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان
يُلَبِّي في الْعُمْرَةِ حتى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ
وَعَنْ عَمْرِو بن شُعَيْبٍ عن أبيه عن جَدِّهِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم اعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرَ في ذِي الْقَعْدَةِ وكان يُلَبِّي
في ذلك حتى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ وَلِأَنَّ اسْتِلَامَ الْحَجَرِ نُسُكٌ وَدُخُولُ
الْحَرَمِ وَوُقُوعُ الْبَصَرِ على الْبَيْتِ ليس بِنُسُكٍ فَقَطْعُ التَّلْبِيَةِ
عند ( ( ( عندنا ) ) ) ما هو نُسُكٌ أَوْلَى وَلِهَذَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ في
الْحَجِّ عِنْدَ الرَّمْيِ لِأَنَّهُ نُسُكٌ كَذَا هذا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ